مقاربات فنية وحضارية

جمال العتّابي: معرض (تشكيليات عراقيات)

أعمال مفعمة بالرموز والتجارب المتنوعة

حين يتحقق الانسجام في الحركة المتبادلة بين الفكر والاحساس بالأثر الفني، تصبح أحكامنا على الأعمال الفنية قريبة إلى الصواب بمقدار ما تحمل تلك الأحكام من موضوعية في النظر والتقييم. المعرض الأخير الذي أقامته جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين في التاسع من آذار 2024  ترافق مع احتفالات المرأة في عيدها العالمي، شهد مشاركة واسعة لأكثر من 70 فنانة تشكيلية، ضمّ أعمالاً في الرسم والنحت تمثّل في مجموعها الأساليب المتنوعة في التشكيل.351 تشكيليات عراقيات

إن النهج الذي دأبت عليه الجمعية في سلسلة نشاطاتها الفنية، إنما يمثل امتداداً للتقاليد التي تراكمت عبر تاريخها منذ التأسيس ولحد هذه اللحظة، وهي تؤكد عنايتها بالتجارب التشكيلية مهما تنوعت أساليبها، وتعددت أجيالها، وثمة مسعى دائم يعادل في أهميته هذا الدعم، ذلك الذي يتعلق بمعارض الفنانات التشكيليات العراقيات التي تقام سنوياً في قاعة العرض الرئيسة في الجمعية.352 تشكيليات عراقيات

عبّرت الاعمال المعروضة عن فهم جيد لاستجابات الموضوع، في محاولة للخروج بصيغة تجمع بين عناصر ثلاثة : أولها وسيلة التعبير، والأخرى الإحساس، ومن ثم التأثير المطلوب، وهي على العموم تحقق إلى حد كبير نتائج إيجابية على صعيد التجربة اللونيّة كأساس، ولكن ضمن شروط فنية تحفظ للعملية الإبداعية قدراً كافياً من الوعي والالتزام. والفنانات في المحصلة حاولن جميعاً تأكيد المعنى الأخير في أغلب الأعمال المعروضة.353 تشكيليات عراقيات

لعل هذه الإضاءة تمنح القارىء فرصة التأمل في المعنى الجمالي للأعمال، وأول الاستنتاجات التي يتوصل إليها المتلقي أن هناك تحولاً نوعياً قد تحقق، لا على مستوى الفنانة نفسها على مدى مساهماتها السابقة، إنما على صعيد الموضوع نفسه، إذ غابت حالة التردد التي غالباً ما تعيق لحظة الابتكار. ومساهمة المرأة وحضورها في المشهد التشكيلي العراقي ومشاركتها فيه اضحيا أكثر وضوحاً ورسوخاً، ما يحملنا إلى القول ان التراث التشكيلي النسوي الذي ابتدأ منذ أربعينات القرن الماضي يمثل الجذوة التي ما تزال تتبرعم وتنمو وتنضج، من خلال ما أحدثته المرأة من تحولات ضمن رؤية رائدة، واستغلال التقنيات الحديثة والمعاصرة، فاستطاعت الفنانات توظيف المفردات الشكلية واللونية لتحمل أكبر قدر من المجاز التناغمي.354 تشكيليات عراقيات

تضع الفنانة عشتار جميل حمودي خبرتها المتراكمة في لوحاتها وملوناتها شيئاً ينتمي الى المراسم المقدسة، وهي تثابر على تقديمه في كل معارضها، وكثير منه مايشبه تذكارات الماضي التي مرّت بها لماماً، تذهب بأحلامها صوبه، نخلات ونوافذ وتكوينات بغدادية متعانقة، سبيلها الى الوصول إلى أعمق اللحظات التي تسكن فيها.355 تشكيليات عراقيات

في العمل الذي قدّمته سوسن عبد الحميد واجهة فخمة لمسجد على الطراز العثماني، انها تمنح المتلقي شعوراً بالجلال، إذ عمدت على تكثيف الطاقة في الخطوط المستقيمة والقبب الفيروزية اللون في سبيل اكتشاف المنابع الخفية لقدرات فنون العمارة والتشكيل.356 تشكيليات عراقيات

تشترك الفنانات صباح الغراوي وشميران ميشيل واستبرق العزاوي واسيل سالم في أعمال تجريدية تعبر عن امتلاك القدرة في اللون وتوزيع الكتل والايقاع المنسجم مع الذوات حين يواجههن زمناً تسارعياً لابد من تخطيه. الفنانات أولئك أدركن ضرورة إبداع صوتهن الحقيقي فنظرن إلى ما وراء الأفق، واستعرن كثيراً من مفردات الأساليب الفنية المعاصرة، ورغم أن هناك اقتباسات من تجارب مماثلة، إلا أن الصوت الشخصي واضح في الأعمال . تقدمت الغراوي على زميلاتها في ابتكار وسيلتها لنقل الانفعال الداخلي في توافقات وايقاعات لونية مدهشة.357 تشكيليات عراقيات

بينما تختلف صبا شاكر في تأثرها الواضح في أسلوب وخطوط وألوان والدها الفنان شاكر حسن آل سعيد، وإن لم تسرف في الخيال، فهناك ظلال لأمرأة تستغيث، أو صيحة نحو السماء تحمل قدراً من التعبير الفني المشحون بالتحديات الأصيلة، لعل هذا العمل الذي اختارته صبا شاكر نهجاً وهواية ينبع من جدارتها في التأليف والمجانسة، ويحمل في حد ذاته سر اكتشاف أعمال والدها الذي تنسج على منواله أعمالها المبتكرة.358 تشكيليات عراقيات

كما عمدت الفنانة سماح الآلوسي الى البحث دائماً عن مفاجآت بصرية أتاحته لنا خلال متابعاتنا لأعمالها الأخيرة في أغلب المعارض التي شاركت فيها، إذ تعمّق خبرتها الفنية وتدرك بالتالي أهمية الفضاء واللون والضوء في الفن، وربما لشغفها بالموسيقى التي تبدو مبثوثة في كل مكان، في الفراغات الواضحة والخطوط والهندسة المتناغمة، تحرص الآلوسي على صياغة اللوحة بفطنة بعيداً عن الإنفعال.

دينا النعيمي تذكرنا بالآلهة الإغريقية وعرائس الإلهام، إذ استخدم ( أورفيوس) القوة السحرية في الموسيقى لتهدئة الأرواح أو إستدعائها أو في تطهيرها، أو كقوة خارقة لا يمكن مقاومتها تستطيع أن تجعل الأشجار والعناقيد ترقص وهي في مكانها.

بيوت ليست من وهم شيدتها أزهار كاظم، انما بيوت حقيقية من ألوان، تكوينات منظومة تصعد بها الى الأعلى الى الأفق المنظور ليبدو اللون البرتقالي من خلفها استعادات عذبة لكل ما في الماضي من ألغاز محيرة.359 تشكيليات عراقيات

(المرأة)، ركيزة إنسانية هي الأهم في إعمال الفنانين التشكيليين منذ أقدم العصور، المرأة بوصفها رمزاً للخصوبة والنماء والحب، حضور المرأة في هذا المعرض يتجاوز النظرة النمطية التي تركز عليها كرمز للدهشة والإثارة، انما كان حضورها في أغلب الأعمال لدلالات قيمية وانسانية، هذا الحضور يعني للفنان ( الرجل) حضوراً غارقاً في الجمال والألوان والعلامات والأفكار والمجازات السردية التي تحكي الخيال والطبيعة والواقع، ومن وجهة نظره تبدو الحياة كلها عبارة عن لوحة فنية كجمال المرأة، في معرض (تشكيليات) قدمت الفنانات وجوهاً مكثفة بأغراض وشواغل معينة، غالباً ما تأتي على حساب أعضاء الجسم الأخرى لتؤكد حقيقة الوجه بالعيون المفتوحة في الأعمال جميعاً، تبدو المرأة حزينة كئيبة، خائفة كما في عمل غفران طعمة، كذلك تعبر لمياء رافع عن حالة الترقب والارتياب، وشمس السعدي، وسناء المعمار التي قدمت امرأة مستلبة تبحث عن العدالة والسلام، امرأة نصف معالم وجهها ضائعة، بل مغيبة، وأخرى مسافرة، مغادرة لا شيء تحمله سوى تلك الحقيبة التي احتوت طفلتها للفنانة سناء محمد التي أجادت في التعبير عن هذه اللحظة التي يكره فيها المرء على الهجرة بحثاً عن وطن أو ملاذ .360 تشكيليات عراقيات

وجوه لنساء حالمات (إيمان الطائي، أميرة الناجي، ابتسام الناجي، عطاء البغدادي)، في كل عمل من هذه المجموعة مفردات تحمل ألواناً ورموزاً جديدة، وبين محاولة وأخرى، تريد أن تخرج من الأطر التقليدية، النساء يذهبن نحو الماضي وما أن تدخل منطقة الظل حتى تخرج منه مرزومة بالألوان.

أعمال أخرى تفردت بالموضوع، ذهبت نحو الميثولوجيا والتاريخ، والأساطير كما في لوحات ( استبرق شوكت، الزهراء صلاح، ابتهال الخالدي، بسمة البكري، ايمان خزعل، رنا حسين، سرى نذير، ماجدة الموسوي)، وفي بعض الأعمال تقليد واضح لتجارب فنانين رواد، يقترب الى النسخ أحياناً، كما في لوحات : فردوس خضير، رند الربيعي. لبنى الطائي

لوحة الفتاة العازفة على العود كشفت عن قدرة ممتازة للرسامة كميلة حسين في حساسيتها المفرطة للون، فانفردت في عملها الجميل، ونحن إذ نتأمل اللوحة بأذن المنصت نشعر أن نغماً عذباً يأتينا من بين الأنامل المتعاشقة مع أوتار العود.361 تشكيليات عراقيات

تيسير كامل وحوراء أحمد وخيال الشمري، أظهرن إشارات رمزية وجماليات تشكيلية لإيجاد نوع من التوازن القلق بين عناصر اللوحة، عمل تيسير مثير ومقلق، وعمل حنان خالد أكثر إثارة، انه يخفي الكثير، غير ان المعنى يبقى مستتراً يضع المتلقي في عاطفة مستديمة، كل شيء في اللوحة مفروش بذكاء.

وتأخذ رؤى علي بالرأي القائل: ان العمل الذي يستهلك الكثير من الشرح والتفاصيل في صياغته يضيع الكثير من جمالياته الإبداعية إن لم يضيعها كلها، من هنا فإن الملمح الأهم في شغل الفنانة رؤى كان في ( الاختزال)، وريقات من غصن شجرة تبدو يابسة، شاحبة بلون برونزي، لا بريق أو وهج في الحياة، هذه الرسالة التي أرادت أن ترسلها رؤى.

وفي تناقض بين الفرح والبهجة في موكب طفولي لمنى مرعي يقارب في عفويته رسوم الأطفال، وآخر حزين يمثل لحظة الرحيل في عمل هناء محمد مكتنز باللون وقوة التعبير، تبدو وصفة التصميم الإعلاني طاغية في لوحة هناء معلّة، لكن علينا أن نشيد بمهارتها في التلوين والحرص على الانسجام بين مكونات العمل . أعمال للفنانات : لميعة الجواري، شفاء هادي، سهى الأطرقجي، سهام الظاهر، شمس السعدي، فردوس اسماعيل، ورود جعفر، نور قاسم، ريم طه، تقى الحربي،جميعها تشي بحمولات مختلفة، تتجلى في تفاصيلها مذاهب فنية مختلفة، أعمال طالعة من أعماق المشاعر والتخييل الذي يرمي بمختلف النسب الواقعية بعيداً، ومقترباً صوب عفوية لونية عبرت عنها ألوان عاطفية، وحتى خطيّة مشغولة بتعبيرية خاصة. من بين هذه الأعمال، تتميز لوحة نسرين الملا في قوة التعبيرالمفعمة بالخطوط التي لا يشوبها غموض، وبتلك الألوان التي تتجاور متجانسة في لحظة عناق أبدي.

ضم المعرض ست قطع نحتية بمواد مختلفة، وحدها لاتشكل رؤية متكاملة لمشاركة الفنانات في هذا الميدان، لذا اقتصرت القراءة على أعمال الرسم فقط. إلا ان الظاهرة التي تدعو إلى التفاؤل هي سعة المشاركة في معرض متعدد الأبعاد، متنوع التقنيات والأساليب لفنانات واعدات وتجارب.

***

د. جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم