مقاربات فنية وحضارية
مصدق الحبيب: التكعيبية.. فلسفتها وخصائصها
ولدت التكعيبية كفكرة أولية خلال زيارة قام بها الفنان الفرنسي جورج براك (1882-1963) الى ستوديو الفنان الاسباني پابلو پيكاسو (1881-1973) عام 1907، والتي انغمس فيها الاثنان بحديث عن الفن والفنانين واستذكرا الفنان الفرنسي پول سيزان (1839-1906) الذي توفى في السنة الماضية لتلك الزيارة. كان كلاهما معجبا بسيزان واعماله الاخيرة التي اظهرت اختلافا تقنيا اثار فضولهما. بعد تلك الزيارة انهمك الاثنان بمحاولات تقنية تجريبية على انفراد وبالتشاور واطلاع بعضهما على الآخر. اضافة الى اعجاب الفنانين بسيزان وطريقته المبتكرة في الرسم، كان براك آنذاك قد جرب محاولات اخرى وانتج لوحات اقتربت من اسلوب المدرسة الوحشية Fauvism التي كان انتشارها قد بدأ في الاتساع في أورپا، جنبا الى جنب مع شيوع افكار مابعد الانطباعية كانطلاقة فكرية وتقنية أريد لها أن تكون خلفا للانطباعية التي سادت قبل ذلك التاريخ. أما پيكاسو فقد كان مفتونا بالطريقة الافريقية الفطرية لنحت الوجوه البشرية والحيوانية وصناعة الاقنعة من قبل القبائل التي لا تعرف الفن بل تمارس ذلك كحرفة محلية تستلزمها التقاليد الاجتماعية والطقوس الروحية. كان اهتمام پيكاسو بذلك قد بدأ إثر زيارته للمتحف الانثروبولوجي في باريس عام 1906. يضاف الى ذلك اعجاب الفنانين بلوحات پول گوگان (1848-1903) التي عكست جوانبا من ثقافة وتقاليد شعوب جزر تاهيتي والماركيز حیث انجزها خلال اقامته هناك عدة سنوات.
كانت هذه التأثيرات مجتمعة قد بلورت فكرة الملل لدى پيكاسو وبراك من الطرق التقليدية في الرسم الشائعة في الثقافة الغربية آنذاك وانضجت الميل لتجريب الاختلاف والاطلاع على فنون الشعوب الاخرى والاستفادة منها اضافة الى الواعز القوي للتخلص من الالتزام بالقواعد التقليدية الصارمة لانشاء اللوحة وتنفيذها وسط بيئة تكامل فيها الرسم واصبح ينافس الفوتوغراف. ولعل العصر قد تغير تغييرا متسارعا في تلك الفترة. فقد انفجر التطور التكنولوجي بحيث ان الاربعة عقود مابين 1870 و 1910 جلبت للمجتمع البشري عدة اختراعات كبيرة حاسمة أثرت نوعيا على طبيعة الحياة، سواء كانت التكنولوجية منها كالسيارات والطائرات والتلفون، أوالفنية كالفوتوغراف والتسجيل الصوتي والصوري والسينما، والتي بمجملها ثوّرت المواصلات والاتصالات ونمط التفكير. ولم يختلف الحال في الاوساط الفنية عنه في بقية قطاعات المجتمع، خاصة وان هذه الاوساط غالبا ماتكون الاسرع في الاستجابة للتغييرات الفكرية. ولذا فقد وجد بعض الفنانين انفسهم امام واقع جديد لابد من التفاعل معه والاندماج به، قصدا أم تلقائيا. فاللوحة التشكيلية لابد ان تواكب تلك النقلة النوعية في نمط الحياة ولابد ان ينعكس مثل هذا التغيير على الشكل والموضوع على حد سواء. ومن هنا كان التساؤل مشروعا: هل بإمكان التشكيل ان يعكس روح العصر بواسطة الاستمرار على اتباع اساليب وقوانين الرسم التي بلورها وشذبها عصر النهضة والتي كان بعضها سائدا منذ رسوم الكهوف؟ مثل هذا التفكير كان منطقيا عند الفنانين الطليعيين الشباب الذين ينشدون التغيير، خاصة وان فن الفوتوغراف المبتكر حديثا اصبح بإمكانه تصوير كل شئ ونقل الواقع بحذافيره دون عناء! فلماذا يجهد الفنان عقله وجسده من أجل منافسة الكامرة؟
تلك هي الخلفية التي نمت فيها التكعيبية فاصبحت الحركة الفنية الجديدة المثيرة وتطورت لتصبح ثورة حقيقية في عالم الفن ومن اكثر المدارس التشكيلية فتنة واثارة طوال القرن العشرين ومابعده. كانت فلسفتها تنطوي على ابتكار طريقة اخرى مختلفة للنظر الى الاشياء وبالتالي صياغة نمط آخر لتصور العالم الخارجي وفهم مكوناته ومكنوناته. فقام هذان الفنانان الشابان وهم في اواسط العشرينات من اعمارهما بترجمة هذه الطريقة تشكيليا بصورة الخروج من الفضاء الفني ذي البعدين والمنظور من نقطة واحدة الى تحقيق الفضاء ذي الثلاثة ابعاد المنظور من اكثر من نقطة واحدة. ولابد ان يتحقق ذلك من خلال تفكيك موضوع اللوحة التشكيلية واعادة بنائه وفق نظرة مختلفة. تلخصت هذه النظرة بتقطيع الفضاء الفني وتوزيعه على عدة مستويات هندسية تتداخل فيما بينها. اضافة الى تجريد الاشكال قدر الامكان واختزال باليت الالوان من اجل تقليل التشويش الذي يحدثه التلاعب بزوايا النظر وتعدد المستويات. وقد فُسر الاقتصار على لونين أو ثلاثة كابية بضرورة عدم اشغال المشاهد بالالوان الزاهية البراقة وتوجيه تركيزه قدر الامكان الى متابعة حبكة البناء الهندسي لفضاء اللوحة وتأمل تعددية الابعاد والمناظير.
لقد اعتقد التكعيبيون الأوائل ان سبب استهداف المنظور الهندسي الواحد هو المحدودية الكبيرة التي تفرضها طبيعة النظرة الاحادية اذ ان النظر من زاوية واحدة يعيق التصور وينفي أو يحبط رؤية الجوانب الاخرى! فما المانع اذاً ان يتيح الفنان للمتلقي فرصة رؤية الجوانب الأخرى لقاء التلاعب بالمنطق الفيزياوي؟ طالما لازلنا نشتغل على سطح الكانفس فقط! من هنا جاء الافتتان بمحاولات سيزان العفوية في التسطيح واهمال المنظور نوعا ما. وكذلك جاء اعجاب پيكاسو بمحاولات ماتيس في الاشتغال بالالوان الاساسية دون مزجها والاهتمام بالنمطية التسطيحية عن طريق قص ولصق الورق الملون. علما ان سيزان وماتيس فعلا ذلك دون فلسفة ولا تنظير.
كان طبيعيا ان لاتلقى افكار واعمال التكعيبيين قبولا جاهزا من قبل الجمهور بل ان الاعمال المبكرة منها اثارت سخط واشمئزاز الجمهور لما اظهرت من تشويهات لم يكن الجمهور متوقعا لها أومستعدا لقبولها بما في ذلك الوسط الفني نفسه. فلوحة پيكاسو المعنونة "نساء أفينون" Les Demoiselles d’ Avignon التي رسمها عام 1907 وهو بعمر 26 عاما اعتبرت الايقونة الاولى للتكعيبية أو كما وصفها النقاد بـالـ Proto أو البواكير الاولى لهذا الاسلوب لم يجرؤ پيكاسو على عرضها للجمهور في وقتها! بل قام بعرضها . بعد تسع سنوات من انجازها، أي عام 1916. فاضافة الى طريقة رسمها غير المألوفة ابدا، فقد اعتبرت عملا لا اخلاقيا بسبب موضوعها الذي لم يكن مألوفا ايضا ضمن موضوعات الفن التشكيلي آنذاك اذا عرفنا انها صورت خمس مومسات يطلن من بين ستائر احد مواخير شارع أفينون في برشلونة التي كان پيكاسو يرتادها قبل قدومه الى باريس. أما فنيا، فقد أبدى اقرب اصدقائه نفورا من مستواها التقني. من بين اولئك الاصدقاء المقربين كان سيرجي ايفانوفج الذي صرخ "يا خسارة الفن الفرنسي"!. أما صديق بيكاسو الاخرالمقرب ماتيس فقال: " هذا پيكاسو وقد أسفّ وسخّف معنى الحداثة وبدا كأنه يصارع البعد الرابع في اللوحة، لكنني سأجعله نادما على هذه الخدعة السافرة"! وجاء دور حتى براك ليقول : " يبدو ان صديقنا قد شرب البنزين ونفث النار على الكانفس". وطوال القرن العشرين كانت هذه اللوحة مثارا للجدل بين من نعتها بلمسة العبقرية وبين من قال عنها انها عمل تافه. ففي الذكرى المئوية لها عام 2007 كتب أحد صحفي الگارديان يقول: "انه لأعتداء سافر ان توصف هذه اللوحة بانها تحفة فنية" !!
أما براك فإن ايقونته الاولى التي اعتبرت بروتو التكعيبية كانت لوحة لاندسكيب عام 1908 والتي تأملها الناقد الفرنسي لوي فوكسلز Lois Vauxhelles فاطلق بموجبها مصطلح التكعيبية لأول مرة وهو الذي اصبح فيما بعد الاسم الرسمي لهذا الاسلوب. تبع براك ذلك بلوحة ماندورا عام 1909 التي لم تلق استهجانا كبيرا بل انها رسخت الشكل العام للعمل التكعيبي الذي اتبعه پيكاسو فيما بعد وعدد كبير آخر من الفنانين المتفوقين آنذاك الذين استهواهم هذا الاسلوب عموما فبدأوا يمارسونه، كلٌ بطريقته الخاصة فتوالت اعمالهم على هذا المنوال بين 1909 و1912 ليشكلوا الملامح الاساسية للمرحلة الاولى لهذه المدرسة التي سميت فيما بعد المرحلة التحليلية. من اولئك الفنانين هوان گرس وفرناند ليجيه وروبرت وسونيا ديليني وروجر لافرزنيه وألبرت گليزس وجين متزنگر ومارسيل دوشامپ وفرانسس پيكابيا وهنري فوكونيير ودييگو ريفيرا.
انقسمت التكعيبية الى مرحلتين اسلوبيتين:
- التكعيبية التحليلية - Analytical Cubism
التي مثلت البداية من 1907 الى 1912 وتميزت باسلوب التقطيع المتعدد، والتجريد المفرط للاشكال، وكثرة المستويات الهندسية المتداخلة، والفضاء المشوش رغم وحدة الموضوع العامة. كما اقتصرت على الالوان الخافتة المعتمة التي تركزت على التونات المتعددة للأوكر والرمادي مستخدمة في ذلك التناقض بين الظل والنور لكل مستوى هندسي.
- التكعيبية التركيبية - Synthetic Cubism
هي المرحلة الثانية التي امتد زخمها الاولي بين 1912 و 1914 رغم انها استمرت الى يومنا هذا متخذة اشكالا وهويات متعددة ومختلفة. فبينما كانت التحليلية تعكس مايرسمه الفنان على سطح اللوحة مستخدما الوانه المحدودة، تميزت المرحلة التركيبية باضافة مواد اخرى تتداخل مع مايرسمه الفنان في فضاء اللوحة، فكان الكولاج العنصر الجديد الذي استضافته المرحلة التركيبية. عمد هذا الاسلوب الى ازالة التشويش من فضاء اللوحة التحليلية وتبسيط انشائها بل انها ذهبت الى التبسيط المفرط وتقليل ما يرسمه الفنان الى الحد الادنى معوضا بذلك عن طريق ادخال العناصر الاخرى. كما ان الالوان المتعددة عادت الى الظهور ووجد النمط او المنوال الشكلي التراتبي Pattern مكانا له في اللوحة كما تم استقدام عنصر جديد لم يكن مستخدما آنذاك، لا في الاسلوب التحليلي ولا في الرسم عموما، وهو عنصر الملمس المحسوس Texture الذي تحقق باضافة مواد مختلفة الى سطح اللوحة، منها ماهو حاضر وموجود ولا يحتاج الا الى لصقه على الكانفس ومنها ما يعامله الفنان من مواد اولية تضاف الى سطح الكانفس او تخلط مع الالوان. ومن هذا الخليط المتمازج في اللوحة التركيبية جاءت الفرصة المواتية لفتح آفاق جديدة وواسعة في الفن الحديث اجازت للفنانين في كل مكان استخدام اي مادة واي شكل واي ترتيب لتكوين لوحة فنية. ولا شك في ان كل مارأيناه الى الآن من غرائب ابتكارية فنية قد امتدت جذوره الى التكعيبية التركيبية في تلك الانطلاقة الجديدة على الفنانين وعلى المجتمع. تُعتبر لوحة پيكاسو "قنينة وقيثار وصحيفة التي انجزها عام 1913 ايقونة التكعيبية التركيبية الاولى.
يعتقد بعض نقاد ومؤرخي الفن ان التكعيبية التركيبية جاءت نتيجة لاستنفاذ الطاقة الابداعية للمرحلة التحليلية حيث بدت بعد خمس سنوات وكأنها وصلت الى طريق مسدود جراء وقوع اكثر فنانيها في التكرار الملحوظ في الشكل واللون بحيث لم يكن سهلا التمييز بين من يرسمه هذا او ذاك من الفنانين، خاصة بين پيكاسو وبراك. والسبب يعزى الى ان التقطيع الهندسي والتونات اللونية الخافتة اظهرت محدوديتها عمليا اكثر مما اريد لها نظريا. ولهذا فقد لجأ پيكاسو أولا الى الكولاج فأخذ يلصق قطعا من صور فوتوغرافية ومطبوعات صحفية وقماش وخشب ومواد اخرى على سطح الكانفس محاولة منه للتنويع وكسر طوق النمط التكراري من اجل تبرير ما وعدت به هذه المدرسة من جديد وابداعي. ومن المنطقي ان نستنتج بان مثل تلك الحرية المطلقة لتشكيل اللوحة الفنية والتصرف الكامل بمحتواها قد فتح الباب على مصراعيه لجموح امكانيات الفن الحديث وما بعد الحداثة التي شهدناها حاليا وستشهدها الاجيال القادمة. ولابد لنا ان نتذكر بأن فكرة التكعيبية الاولى بدأت أيضا بتصور ان اساليب الفن التي تطورت في أوربا قد استنفذت وقتها واصبحت خارج الزمن وان الآوان قد حان للالتفات الى فنون الثقافات الاخرى حول العالم والاطلاع عليها والاستفادة من تجاربها. وكما يبدو للوهلة الاولى ان ذلك التفكير كان عقلانيا نبيلا ولكن علينا ان لا نتوهم بأن ذلك التصور البرجوازي لم يكن بحكم وضرورة وضع الشعوب الاخرى وفنونها على قدم المساواة والاعتراف بابداعاتها عبر العصور. كما انه لم يكن نابعا من الايمان بالمعنى الاجتماعي والديني والروحي لمعتقدات شعوب ماوراء البحار انما كان بفعل الرغبة فقط في الاستعارة الفنية لبعض المزايا التشكيلية التي تميز بها الفن الافريقي وفنون شعوب جزر المحيط الهادي، والتي لم تستمر استعارتها طويلا ما بعد لوحة نساء أفينون. كان پيكاسو قد اعتقد بأن الاقنعة الافريقية عكست تحويرات شكلية غير اعتيادية نمّت عن تصرف حر وشجاع في تغيير الفورم واللون من قبل صانعيها رغم انها بقيت تشخيصية بالمعنى التقليدي. ومن وحي تلك التصرفات العفوية الحرة في الفن الفطري الافريقي، ادرك پيكاسو أن الوجه مثلا ليس أكثر من عيون وانف وفم! فبإمكان الفنان اعادة ترتيبها بأي شكل يشاء دون الاخلال بحقيقة ان مايظهر له من اعادة الترتيب سوف لن يشير الى شئ آخر غير الوجه، ذلك ان الجوهر يكمن في العناصر وليس في ترتيبها!
خصائص التكعيبية:
بإمكاننا تلخيص الخصائص التشكيلية التي تُميز الاسلوب التكعيبي بما يلي:
- رفض زاوية النظر الواحدة وما يتبع ذلك من الالتزام بالمنظور الهندسي وتوزيع انماط الظل والنور.
- رفض الالتزام بالتشريح البايولوجي والمنطق الفيزياوي
- رفض تقليد الطبيعة ونبذ الانصياع الى محاكاة ألوانها وتغيراتها بموجب النور والظلام
- رفض استخدام الموديل ونمذجة الاشكال والشخوص
- تبسيط الانشاء وعدم الانصياع لمبادئه التشكيلية في التوازن والتوزيع والفضاء
- رفض الموضوعات المعقدة والمشاهد البانورامية، خاصة التأريخية والسردية والمجازية Allegoric and narrative وذلك لعدم تناسبها مع الاسلوب تشكيليا.
- رفض الترميز التعبيري
- رفض الالتزام بمبدأ عمق الميدان والتفريق بين واجهة اللوحة وخلفيتها ومايترتب عليه من تغيير احجام الاشياء التي تراها العين.
- السماح لخط البصر ان يخترق الى ما خلف الاشياء الصلدة وامتداده الى ما بعد حده الفيزياوي.
وختاما يمكن القول ان المسألة المركزية في التكعيبية اصبحت منصّبة على الفورم والتلاعب بابعاده وتمحوراتها. وحتى اللون لم يحظ بمثل اهمية و مركزية ما ناله الفورم وكيفية ظهوره للناظر من عدة محاور. وبهذه الفلسفة كانت التكعيبية رائدة في كسر طوق الفن التقليدي، ليس في الرسم فقط بل اتسعت الى النحت والعمارة فكانت جلية عند عدد غير قليل من النحاتين منهم الكساندر آرشبنكو وجاك لبكتز ومن المعماريين ايضا كالمعمار السويسري لا كوربوزيه. ومن رحم التكعيبية انطلقت مدارس الفن الحديث فتشكلت المستقبلية في ايطاليا والفورتية في إنكلترا والتعبيرية في ألمانيا والبنائية والسوبرماتية في روسيا، وتوالت بعدها السريالية والدادائية والنيوبلاستية والبوهاوس والديستايل والتجريد، واخيرا الانستليشن والملتيميديا والفن المفاهيمي.
مصدق الحبيب