مقاربات فنية وحضارية
حسين صقور: لؤي كيالي والدوافع المستترة

كما اشتعالٌ صامتٌ يسري ذلك الاحتراق البطيء في مسامات شخوصه الأحادية المعذبة ليغمر جسد اللوحة، ثم يغادره ليأسر قلب المتلقي الغارق في قلب الحدث الدرامي.. تتباين ردَّات الفعل، تختنق الصرخة في المقلة وأرتكب حماقة الصدى المرتد عن صوت أكاد أقسم أني سمعته يعتقد من حولي وكأن مساً من جنون أصابني.. أتدارك الأمر.. ثم.. ثم.. أصرخ في وجه ذاك الألم الصامت مطالباً: أصرخ.. أصرخ.. أرجوك.. هناك من لا يستطيع أن يتبصر أو يسمع.. أعلن عن صرختك المخنوقة تلك أيها المحنط في قلب عذاباتك الأبدية.. أيها العازف على أوتار الخريف في ريعان الصبا.. أيها المتكئ فوق ذكريات ربيع لم تعشه البارحة ولن يغافلك اليوم ولن تنتظره غداً.. اصرخ ما شئت.. أيا كنت ومن كنت.. بائعاً.. صياداً.. حباكاً أو سباكاً.. بإمكانك الصراخ حتى وإن كنت ملتصقاً فوق بساط الرغبات و الأحلام والذكريات.. حتى وإن كنت أسير إطارك المربع هذا .. ثم ماذا؟.. بغير إرادتي تذرف دمعة.. تسيل وتسيل.. وتحكي لي عن صرخة صامتة حررتها العين من مقلتها لتسكبها في عنق المستحيل.
تلح الذاكرة لاستعراض حياة الغائب و الحاضر في ذاكرتنا دوماً لؤي كيالي وهو من رواد الحركة التشكيلية في سوريا إذ كانت بداياتها مطلع القرن العشرين أما البدايات الحقيقية والجادة فكانت خلال النصف الثاني منه.. ولد لؤي كيالي مطلع عام 1934 بحلب.. كان الذكر الوحيد وترتيبه الثالث بين شقيقاته.. عاش وتربى مع أخواته في كنف والده وعماته بعد أن افترقوا عن أمهم في المراحل الحسية وخلال طفولتهم المبكرة.. تبدو لي تلك الصورة المشوشة لتفاصيل نشأته وسيرورته المحكومة بخطوط حمراء.. تفسر ذاتها بذاتها.. فالمتبصر لها سوف يدرك كمّ العذابات المنتظرة لفتىً حالم صار الرسم ملاذه في غربته المبكرة بين أقرانه فعاطفة الأم لن تعوضها أية عاطفة أخرى ورعاية عماته ستنحو لأحد احتمالين.
الأول حب وحماية مبالغ فيهما، وسوف تتضاعف تلك المبالغة بكل ما تحمله من إيجابيات وسلبيات، وحين تحكمنا قيم شرقية ومفاهيم وعادات وحين يكون لؤي الذكر الوحيد الحامل لاسم العائلة ولأحلامها.
الاحتمال الآخر إهمال قد يلحق به وبأخواته نتيجة انشغال عماته عنه وهو احتمال مستبعد في ظل عائلة ميسورة كعائلة الكيالي.
في النتيجة يتشابه الاحتمالان في كونهما الدافع والرافع والموجه من جهة سعيه لعمل (الرسم) يبحث فيه ومن خلاله عن ضالته (أمه) وسيبقى أثر ذلك الفقدان عالقاً في عمق تركيبته الشخصية.
تلك النشأة الصعبة كانت الإشارة والمفتاح لصور وتصورات حرضتها مشاعر قهر استسلم لها الفنان فأنعشت مخيلته وخيالاته السابقة لتتأكد كحقيقة ملموسة لنا عبر وقائع لاحقة..
وأنا لا أعني أن لؤي كيالي هنا هو وحده المسؤول عن فاجعته، فبحكم تكوينه كفنان.. هو كتلة متحركة من مشاعر وأحاسيس، والأحداث المحيطة به ليست سوى أسباب ومسببات قد تأخذه لأحد اتجاهين.. إما أن تجرده من إنسانيته لتمر كل الحوادث والأحداث المحيطة دون أي أثر يذكر مرور الكرام.. أو تزيد من حساسيته المفرطة ليتفاعل مع محيطه بموجبها ويتحول لشخصية هشة قابلة للانكسار، فتصير حياته بحد ذاتها عملاً خالداً لا يخلو من مواقف إنسانية وعبر تتعلم منها الأجيال اللاحقة، وهنا سيصير من حقه علينا أن نبرر له ضعفه وأن ندافع عن جنونه.. وهناك احتمال آخر ما بين وبين وهو ذاك الذي يجعله أكثر صلابةً وقدرةً حين يتعلم كيف ومتى يستجدي عقله ،وكيف ومتى يستجدي عاطفته احتمال كهذا قد يرقى به لمصاف الأنبياء والحكماء.. لؤي كيالي اختار أن يكون عظيماً بفنه وإنسانيته، اختار أن يكون إنساناً.
القيم الساطعة والخافية في أعمال لؤي كيالي:
مقاييس العمل الإبداعي مرتبطة بالزمن الذي ولد فيه العمل وتقاس وفق مقاييسه، والحقيقة الظاهرة هي أن لؤي لم ينبش في التيارات الأكثر حداثة خلال فترة حضوره على سطح كوكبنا كجسد وروح.. إذ أن التعبيرية الواقعية كانت السمة الأساسية الأكثر وضوحاً في كافة مراحل تجربته تلك، التي استندت في موضوعها للإنسان كوسيلة وغاية بحد ذاته فذاك الكم من القهر والألم المرسوم فوق سحنات الوجوه وضمن مرايا العيون ما كان له أن يتكشف ويتجلى إبداعاً بتلك الصورة لو لم يعشه الفنان في تفاصيل حياته.. وتلك هي الحقيقة المتخفية خلف خطوطه وأشكاله ودرامية الحركة لشخوصه المكتنزة بالقيم التعبيرية والجمالية.. لتصير اللوحة معها جسر عبور يتحقق من خلاله ذاك التواصل الثلاثي (لوحة فنان متلق) ومن جهة أخرى تواصل مع الذات المشبعة بالقيم وذلك حين نتعاطف حسياً مع أبطال لوحة الفنان.
كنت أتساءل دوماً عن شكل الانقلابات التي كان من الممكن أن تحققها لوحة كيالي لو أنه عاش لفترة أطول.. وحقيقةً أقول: قد تكون الواقعية التعبيرية في زمننا هذا انعكاساً لمرحلةٍ عمريةٍ معينة تمتد خلال فترة الشباب المتحمس لفن يمتلك القدرة على إحداث ثورة على صعيد الحياة الاجتماعية.. وبتعبير أدق أستطيع أن أقول إن لوحته وعبر الحركات والتوضعات الشاعرية لأبطاله وشخوصه تمت في جذورها للمراهقة، وأنا هنا لا أقلل من شأن اللوحة، ففي مرحلة عمرية قريبة شغلت بيكاسو مواضيع كهذه، صورٌ فيها حالاتٌ كثيرةٌ من الفقر والبؤس ضمن جو مفعم بالكآبة بالأسلوب ذاته ما بين المرحلتين الوردية والزرقاء.
أما ما يميز كيالي هنا فهو إصرار اللوحة عليه ليتشبع بها أكثر وليقدم من خلالها وعبر ذلك الأسلوب مجموعاتٍ كثيرةً بمنتهى القوة في تعبيراتها: بائع الجرائد والناي.. الأم.. المرضعة.. ال.. والكثير الكثير من الأعمال التي يشتغل بها على الموديل الحي المتموضع ضمن الجانب الخادم لمشاعر الغربة على رصيف الحياة وتأتي مساحة اللون الأحادي كمتمم للشكل عبر القيمة والدرجة.
تلك هي القيم التي أكسبت أعمال كيالي فرادتها وخصوصيتها فكانت إضافةً غير مسبوقة أغنت الواقعية التعبيرية على الصعيد العالمي.
وإن عدنا للسيرة الذاتية سوف تستدعي ذاكرتنا التشابهات والتقاطعات ما بين حياة كل من لؤي كيالي وسابقه زمنياً فان غوغ وذلك عبر الأحداث والمآسي والجنون وفقاً لاتهامات المحيطين بهم من عشاق أعمالهم المشبعة بالإنسانية إلى المستنكرين لردود أفعالهم ثم إلى المحللين لأسبابها ومسبباتها.
أقول: وبشكل أوضح ضمن الاتجاهات التعبيرية لا يمكن فصل السيرة الذاتية عن تجربة الفنان وذلك كونها تسهم في فهم وتبرير مراحل تجربته من جهة ومن جهة أخرى هي تغذي الحس الانساني في ذات المتلقي بقدر ما تحمله من مواقف وقيم.
***
الفينيق حسين صقور