مقاربات فنية وحضارية
عدنان حسين أحمد: محمد الدعمي.. واقعية مُطعّمة بالرمز واللمسة الانطباعية
لا يأبه الفنان التشكيلي محمد الدعمي بالتيارات والمذاهب الفنية المتعددة لكنّ المتلقي العضوي يجد العديد منها في اللوحة الواحدة، فأعماله الفنية تجمع بين الواقعية والانطباعية والرمزية، وبعضها يذهب بإصرار باتجاه التعبيرية التجريدية أو التجريد الخالص. كما أنه لا يضع حدودًا قسرية فاصلة بين هذه المدارس الفنية ولعله يُحرِّض على عدم تصنيف أعماله الفنية ضمن تيار معين ويتمنى أن تبقى حرة طليقة يستمتع بها المُشاهد كما يشاء مُستعينًا بنصيحة الفنان الألماني بول كلي الذي يدعو المتلقي لأن "يتبع قلبه" في تقبّل العمل الفني وفهمه. فالمتعة البصرية تأتي من مشاعر المتلقي وأحاسيسه الداخلية التي تتماهى مع العمل الفني وتندغم فيه.
اشترك محمد الدعمي بـ 24 عملًا فنيًا في المعرض الجماعي "ترانيم النهرين" الذي أُقيم في المركز الثقافي الهندي حيث نفّذ هذه الأعمال بالزيت والأكرليك والألوان المائية بينما استلهم موضوعاتها من بيئة الأهوار والأرياف العراقية الجنوبية وما تنطوي عليه من طبيعة ساحرة تأخذ الألباب. ورغم أنّ الدعمي قد استجاب لتحقيق فكرة المعرض الواقعي الذي اتفق عليه الفنانون الأربعة وقدّم أعمالًا مخلصة لهذا الاتجاه مثل"بائع متجوِّل"، "بائع الرقّي"، "في مَتجر الطحين"، "فتاة الأهوار"، و"فتاتين في الأهوار" وغيرها من الأعمال الفنية الواقعية، لكنه عرض أعمالًا أخرى انطباعية ورمزية وتجريدية. وكما هو معروف فإنّ المدرسة الواقعية جاءت كردّ فعل على الرومانسية ودعت إلى تمثيل الواقع بصدق وأمانة، وطالبت بالابتعاد عن المثالية في الفن الأكاديمي السابق حيث ركّز الفنانون الواقعيون الفرنسيون على حياة العمّال والفلاحين وأصحاب المهن الحُرة أمثال غوستاف كوربيه وجان فرانسوا ميليه وأنوريه دومييه وغيرهم. كما كان لهم نظراء في روسيا أمثال ريبين وفاسيلي بيروﭪ وإيـفان شيشكين.
وفي المملكة المتحدة يمكن الإشارة إلى فورد مادوكس براون وهوبيرت فون هيركومر ولوك فيلدز وآخرين صوّروا قسوة الحياة وفظاظتها متحدّين الثوابت الأكاديمية فرسم كوربيه لوحات "أصل العالم" و "محطِّموا الحجارة" و "الدفن في أورنان" التي تمثل الواقعية الاجتماعية وترصدها بدقة ومن دون مبالغات تقنية متفردة. ولو دققنا النظر في غالبية اللوحات الواقعية التي أنجزها الفنان محمد الدعمي لوجدناها مستوحاة من الحياة اليومية التي تكتظ بالعمّال والفلاحين والباعة المتجولين الذين يعيشون في الأهوار أو الأرياف الجنوبية. فـ "البائع المتجوّل" هو إنسان بسيط يقود حمارًا محمّلًا بالحاجيات المنزلية مثل الدلاء والأواني المعدنية والبلاستيكية التي يحتاجها الناس في حياتهم اليومية وهو يتجول في أزقة القرى والبلدات الصغيرة من أجل الترويج لبضاعته وكسب الرزق الحلال. وهذا الأمر ينسحب على لوحة "بائع الرّقي" المُغرقة في واقعيتها حيث لا تحتاج إلى تأويل لكنها تسلّط الضوء على صاحب هذه المهنة وتكشف عن المشاعر الداخلية التي تنتابه وهو يجلس إلى جانب بضاعته المعروضة للمواطنين في تلك المضارب النائية التي لا تحتاج إلى الإعلانات الصاخبة التي يمكن أن نجدها في "المولات" والمحلّات الراقية المكتظة بالزبائن المُوسرين الذين يقتنون بضاعتهم وحاجياتهم الضرورية اعتمادًا على الإغراءات التي تقدّمها وسائل الدعاية والإعلانات الترويجية حتى وإن انطوت على الكذب والخديعة والتلفيق.
لا تخرج لوحة "في مَتجر الطحين" عن سابقتيها من حيث بساطة الشكل والمضمون فهي تقدّم لنا شخصيات بسيطة تقف بين البائع وزبائنه الذين ينتمون إلى الشريحة الأوسع في المجتمع العراقي، وخاصة الناس البسطاء الذين يصنعون خبزهم في تنانير منازلهم بخلاف الأثرياء والمرفّهين الذين يشترون خبزهم من أفران المدينة. تُحيلنا لوحتا "فتاة الأهوار"، و "فتاتين في الأهوار" إلى بيئة العراق الجنوبية حيث تغطي الأهوار مساحة واسعة من بلاد الرافدين، وقد اختار الدعمي أكثر من صورة لفتيات الأهوار المنغمسات في العمل وتأدية الواجبات المنزلية أو اللهو وتزجية الوقت في تلك المضارب المكتظة بالسحر والفرادة والجمال. ثمة لوحات أخرى تجمع بين الواقعية والانطباعية مثل لوحتيّ "قارب في نهر" و "قاربين في نهر" و "شجرة الفطر" فهي تُذكِّرنا بالعديد من اللوحات الانطباعية التي أنتجها عمالقة الفن الانطباعي أمثال كلود مونية وأدوارد مانيه وأوغست رينوار وبول سيزان وغيرهم من الفنانين الذين رسموا الطبيعة الصامتة والبورتريهات والمناظر الطبيعية والموضوعات الأخرى المستمدة من الحياة اليومية للناس البسطاء. وثمة أعمال أخرى نحتْ منحى التجريد الكلي كما في لوحة "جذع شجرة" أو التجريد الجزئي كما في لوحة "قاربين في نهر" المُشار إليها سلفًا أو غالبية اللوحات التي اشترك بها في معرضه الشخصي الذي نُظِّم في صالة المركز الثقافي العراقي بلندن سنة 2015م وانضوى تحت عنوان "تراتيل ملونة" حيث مزج الدعمي بين تيارات ومذاهب فنية متعددة أسفرت عن أعمال فنية لم تغادر ذاكرة المتلقّين حتى الآن. يستمد الدعمي غالبية موضوعاته من الأهوار والبيئة الجنوبية بوصفها فضاءً مفتوحًا لا تؤرقه المصدّات الكونكريتية، والعمارات الشاهقة، والحواجز الاصطناعية، ومعظم شخصياته حالمة مسترخية وهي تتأمل المدى الجغرافي المفتوح. كما رسم البيوت والحارات القديمة بما في ذلك الشناشيل التي يمكن أن نجدها في العديد من المدن العراقية وخاصة في الوسط والجنوب. تحتمل لوحة "صراع" الكثير من التفسيرات على صعيد الثيمة ولا يمكن الاقتناع بأن الصراع يجري بين ثورين قويين يتناطحان من أجل أن يفوز الأول ويندحر الثاني والعكس صحيح. ففكرة اللوحة قد تجاوز بُعدها الواقعي إلى "الواقعية النقدية" كما يرى الدعمي لكنها تميل إلى "الرمزية" بينما تذهب خلفية اللوحة إلى الانطباعية والتجريد المموّه الذي يتألق ضمن الفضاء المضبب الذي صنعته الأنامل المرهفة بمؤازرة العين الخبيرة للفنان البرئ الذي عاش ردحًا من الزمن في تلك المضارب النقيّة التي تُحيلنا إلى النبع الأول الذي لم تعبث به يد الإنسان ولم يتلوّث بعد.
لم ينبثق اعتداد الدعمي بنفسه من فراغ فقد تتلمذ في يفاعته وشبابه الأول على نسخ وتقليد لوحات الفنان الهولندي الكبير رمبرانت (1606- 1969) الذي يقترن اسمه بـ "دورية ليلية"، "درس التشريح مع الدكتور نيكولاس تيولب" و "وباثشيبا في حمّامها" وما سواها من أعماله الفنية المعروفة التي تتجلى فيها ثنائية الضوء والظل بأعلى لمساتها ومظاهرها الفنية الدقيقة التي سوف تطوّر لاحقًا تجربة الفنان محمد الدعمي وتُوصِلها إلى هذه المرحلة المتقدمة من الرهافة والدقة والحساسية المفرطة التي تُحيل إلى خصوصية تجربته الفنية التي استمد عُصارتها من أستاذه فائق حسن الذي يشهد له بالفضل غالبية الطلاب الذين تتلمذوا على يده ونهلوا من خبرته البصرية التي لا يمكن تغاضيها أو غضّ الطرف عنها.
جدير ذكره أنّ الفنان محمد الدعمي من مواليد الديوانية سنة 1966. تخرّج في أكاديمية الفنون الجميلة سنة 1991. شارك في العديد من المعارض الشخصية والجماعية منذ أواسط الثمانينات من القرن الماضي وحتى الآن. يقيم ويعمل بلندن منذ سنة 1995 ومنغمس بمشروعه الفني الذي يتعمّق كلّما تقادمت الأعوام.
***
عدنان حسين أحمد (لندن)