بأقلامهم (حول منجزه)

أولا: الغرباوي الإنسان والصديق

هكذا استطيع أن أصفه باختصار، وصفا مكثفا.. (المقاتل بالكلمة). عرفت الغرباوي مقاتلا على جبهتين في الآن نفسه، جبهة المعاناة الشخصية مع الأمراض التي رافقته في عنفوان شبابه، وجبهة الثقافة التقليدية التي استعبدت مجتمعه، وعلى كلا الجبهتين كانت الكلمة سلاحه.

ما ألمّ به في صحته كان كفيلا بأن يهوي بالعملاق ويطوي قامته. لكنه لم يخضع يوما ولم يستسلم، ففي ذروة المعاناة كان عقله يكافح ويبحث عن سبل تنبيه عامة الناس من غفوتهم على سطوة التعاليم المتخلفة، وهيمنة المعارف المستمدة من الأساطير، ومن التاريخ المتخيّل. مترويا، هادئا، مطمئنا، كما تملي سجيته، وكما يتجلى حياؤه ونقاؤه. بعيدا عن الصدامات والمقارعات المباشرة، موقنا بأن الناس، شيئا فشيئا، سوف تستسيغ الهواء النقي، وتنفض غبار الغطاء السميك الذي ألقاه على كواهلها أصحاب النهج التقليدي ودعاة التجهيل وتسطيح الوعي.

نائيا بنفسه عن الأضواء البراقة، والألقاب المخادعة، ليشق طريقه بهدوء وروية، حتى يصبح مضيئا بذاته، بعطائه الذي جمع بين سلاسة الأسلوب وبين سعة الآفاق وعمق الأفكار.

ابتدأت علاقتي المعرفية بالغرباوي حين دعاني الى مكتب مجلة التوحيد، قبل ان يتولى هو رئاسة تحريرها، ثم تعمقت معرفتنا ببعضنا حين ترأس تحرير المجلة، ونشر لي بحثا جريئا يتحدى المعارف السائدة في فهم الطقوس والشعائر الدينية، وتحمل معي سهما وافرا من اللوم على نشره. تلك المعركة كانت سببا جديرا في بناء صداقة واعية بيننا.

لكن ثمة معركة ثانية تشاركنا فيها، واختار الغرباوي الانسحاب من فضائها المباشر. ذاك حين أسسنا (رابطة الكتّاب والمثقفين العراقيين في المهجر)، في سنة 1999، وكان الغرباوي واحدا من خمسة عشر تم انتخابهم لعضوية الأمانة العامة للرابطة، وحيث تم انتخابي من قِبل أعضاء الامانة العامة أمينا عاما للرابطة في دورتها الاولى، آثر الغرباوي الانسحاب من الأمانة العامة مع الإبقاء على عضويته في الرابطة، تحت ضغط ظرف خاص به. لكن هذا الحدث لم يخلق شرخا في علاقتنا بعد معرفتنا بطبيعة الغرباوي وعذره المقبول. لاسيما وأننا كنا نعيش فضاء معرفيا مشتركا، نلتقي في معظم مفاصله. وحين أذكر هذا الفضاء لا يفوتني ذكر بعض الأصدقاء الآخرين من رواده، والذين كانت لي وللغرباوي صداقة مشتركة معهم، في مقدمتهم عبد الجبار الرفاعي، الذي ناطح اسمه السحاب لاحقا، وهو الأقرب الى الغرباوي، كونهما يشتركان ايضا بمسقط الرأس (الناصرية). وطاهر الحمود/ أبو رضوان، وطاهر آل عكلة/ أبو آلاء، مع أنهما كانا أقل حضورا ورغبة في السجال المعرفي، مستمتعان بتوفقهما اللغوي والأدبي، مع أن أبو آلاء كان يمضغ الفلسفة الاسلامية كما يمضغ العلك الطري، وينسجها شعرا وأهازيج لا أدري لم لا يبادر بنشرها، مع مزايا أخرى لا يضاهيه فيها أحد. في مثل هذا الفضاء تكون الصداقة أعمق من أن يخدشها حدث عابر، فالمشتركات كثيرة، والتحديات واحدة. كنا ندرك ببصيرة تامة أن الثقافة الدينية الشعبية والتي يعززها الخطاب الديني السائد، هي ثقافة تراكمية تأسست على تاريخ متخيّل، صار مصدرا لعديد المعتقدات الوليدة، والمقدسات المصطنعة، التي غلّفت المعتقدات والمقدسات الحقيقية وتفوقت عليها في ميادين الاهتمام والاشتغال الشعبي والديني بشكل عام. وكنا في عزلتنا شبه التامة عن هذا الوسط، ندرك أن الكلمة هي سبيلنا الوحيد في السعي الى نشر الوعي وإيقاظ العقول. وتنوعت اهتماماتنا بعد ذلك، فاشتغل الدكتور عبد الجبار الرفاعي على التنوير الديني وفق مناهج البحث والهرمنيوطيقا المعاصرة، وانصرفت أنا من التاريخ الى الفكر التاريخي وفلسفة التاريخ لما لازمني من شعور بعدم الجدوى في محاولات إصلاح وتجديد الخطاب والفكر الدينيين، حيث تنفجر العصبيات الدينية والطائفية بين الحين والآخر، إما أمام ما تراه تحديا، وإما أمام تحديات مفتلعة تقوم هي باختلاقها والنفخ فيها لتصبح قضايا تشغل الرأي العام، عاميا وثقافيا، ووفق أساليبها المعتادة في صناعة الضجيج، وتغليف مواقفها بالفتاوى الجزمية.

ويقفز الزمان، ويقفز معه المكان، فيغترب الغرباوي موغلا في غابات استراليا، لأشاهد بعد حين (صحيفة المثقف العراقي) التي أسسها في سدني، ويشرف عليها ماجد الغرباوي، وهو يعيد نشر مقال قديم لي تحت عنوان (الوحدة الإسلامية والمسار الأحدب). ما حفزني لكتابة مقال أنقد فيه رؤيتي السابقة نقدا قلبها رأسا على عقب، فنال ذاك إعجاب ماجد الغرباوي فكتب مبرزا إعجابه بأن ينقد الكاتب رؤيته السابقة بناء على تطوره الفكري وقناعاته المتجددة.

ويتجدد التواصل بيننا، فأستقبل كتابا مهما من مؤلفاته، لأتولى نشره والتقديم المتواضع له، ضمن إصدارات (معهد الأبحاث والتنمية الحضارية). ثم كتابا آخر من مؤلفاته ضمن إصدارات (المركز العلمي العراقي)، لتمنحني تلك المقالة وهاذان الكتابان أجمل فرص التلاقي الحميم بعد افتراق الزمان والمكان.

لكن ثمة لقاء حقيقي حصل بعد ذلك، في زيارة الغرباوي لبغداد، على وليمة عشاء في منزل الصديق طاهر الحمود/ أبو رضوان، الذي أصبح وكيلا لوزارة الثقافة لنحو عقد من السنين.

ثانيا: الغرباوي الباحث والمفكر

تعمق الغرباوي في دراسة التراث الاسلامي، لا سيما في بعدي العقائد والأحكام الفقهية، واشتغل مفككا وناقدا، متنوع المباحث، غزير الانتاج.

كتب في الفكر السياسي عدة مؤلفات، منها: (الحركات الإسلامية .. قراءة نقدية في تجليات الوعي)، و(الضد النوعي للاستبداد.. استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني)، و (تحديات العنف).

كتب في الحركات الإسلامية المعاصرة، وقد عايشها، واطلع على أدبياتها، وعاصر تجاربها في ممارسة السلطة. أدرك الضعف في منهاجها العام، والتناقض بين مبادئها المعلنة، وبين أساليبها العملية، بين المدّعى وبين الفعل والممارسة.

وكتب في التراث والفكر الديني كتبا منوعة، حتى نهض بمشروع كبير، أصدر منه حتى الآن / آذار 2024، تسعة مؤلفات كبيرة، اختار لمشروعه هذا عنوانا لافتا: (متاهات الحقيقة). وكأنه يرى ان (الحقيقة) دائما مزعومة، مدّعاة، كل يدعيها لنفسه، ما ينتج في النهاية متاهات لا حصر لها. هذه هي قراءتي أنا لهذا العنوان.

في هذا المشروع، وتحت هذا العنوان الرئيسي، أبحر الغرباوي في متاهات عدة، متاهات العقيدة، ومتاهات الفقه، ومتاهات التراث، ومن الصعب ملاحقة كل ذلك في ورقة واحدة او أوراق معدودة، لكني أستأذن الصديق المفكر الغرباوي في اقتناص قضايا متفرقة مثلت نقاطا محورية في فكره.

* فمع الأخلاق مثلا، يأخذ الغرباوي بمذهب كانط القائل بأصالة الأخلاق، فالأخلاق ليست معطى دينيا صرفا، كما انها ليست معطى اجتماعيا يتميز بالنسبية، إنما هي (قيم أصيلة، بها تصدق إنسانية الإنسان). لكن الغرباوي يستشهد على هذا البعد أحيانا بنصوص دينية، كقول الإمام علي لولده الحسن: «أحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تَظلم كما لا تحب أن تُظلم...». مع ان هذا النص هو نص تربوي، إرشادي، وإن جاء بصيغة الأمر والنهي «أحبب، واكره، ولا تَظلم». فهو كسائر النصوص الإرشادية الدينية؛ القرآنية والنبوية، لا يثبت أصالة الأخلاق بقدر ما يؤكد دور الدين في تعزيزها والحث عليها. وليس فيه دلالة على ما أراده الغرباوي مسبقا من أن الأخلاق هي من نتاج العقل العملي. لذا يعود الغرباوي ليؤكد مبدأه، مجادلا في (أن الإنسان يبادر لعمل الخير بدافع ذاتي مجرد، محض، فيأتي بالفعل لذاته لا لغيره). وقد يجد الغرباوي ردا في أن هذا النص العَلَوي ليس نصا دينيا محضا، بل هو نص عقلي مصدره العقل وحده. إذن هو يستعير عليا بصفته الحكمية لا بصفته الدينية. وهذا توجيه مقبول بلا شك. لأن الغرباوي يكمل فيقول: (ان اعتبار الأخلاق قائمة على الشريعة هو اتجاه خطير جدا، يمكن من خلاله توظيف الدين لتعزيز مصالح سياسية أو طائفية، قد تطيح حتى بقيم الدين ذاته).

وبعد معالجة مستوفية لتأثير المقدّس على الأخلاق، يخلص الى (أن المقدس يرتهن صدقية موضوع الفعل الأخلاقي، دون قيمه وأحكامه. الأولى (القيم) قيم إنسانية بعيدا عن المقدسات والأديان. وأحكامها صادرة وفق معايير العقل العملي. وبهذا نحدد سلطة المقدس، ونحول دون استغلاله وتكريسه لمصالح سياسية وطائفية، طالما أضرت بمصداقية المسلمين في خضم صراع مرير على السلطة، وحاجتهم لتوظيف الرموز المقدسة). ليؤكد (أن القداسة رهان خاسر ما لم تكن صفة ذاتية للمقدس).

 * ومع الفقه والفقهاء: يتوقف الغرباوي عند مفاصل غاية في الدقة والاهمية، لعل في مقدمتها قضية التحيزات المسبقة للفقيه، والتي غالبا ما يكون مصدرها عقديا، فالفقيه ليس متجردا من التحيز العقدي، وقد كتبت سابقا: الفقهاء تمذهبوا قبل أن يتفقهوا، والمفسرون تمذهبوا قبل ان يفسروا القرآن، وعلماء الكلام تمذهبوا قبل أن يتكلموا.. وهذه حقيقة يغفلها أكثرنا وهو يقرأ للفقهاء والمفسرين وعلماء الكلام والمؤرخين وأصحاب الحديث، وغيرهم. وهكذا رأى الغرباوي: (أن كل فقيه ينحاز لا شعوريا لقبلياته وقناعاته العقدية، ويدافع عن نسق يقينياته وأحكامه المسبقة كمبنى عقدي ينعكس على فهم النص، فينحاز لنتائجه لا شعوريا، بل ويوجه النص بذات الاتجاه). وعندي أنه ينحاز شعوريا، وليس لا شعوريا، وهذا يتفق مع قول الغرباوي: (بل يوجه النص بذات الاتجاه). وهذه مسألة دقيقة حين ندركها نفهم الكثير من أسباب اختلاف الفقهاء. وبالتالي يقول الغرباوي: (لا يمكن تبرئة الفقيه وإلقاء اللوم على الأدلة الشرعية فقط، مادام الفقيه يمارس عملية استنباط الأحكام الشرعية وفقا لمبانيه، ويستبطن نهجا عقديا يوجه وعيه).

وأيضا يتابع الغرباوي سؤال خضوع الفقيه لسلطة النص ومحدداته، فالفقيه او المفسر او المفكر، لا يفكر بالتحرر من أسر النص، لأن قداسة النص هي التي تتولى هندسة قبلياته وبنيته الفكرية والمعرفية، وتحدد هامش الحرية وفضاء التفكير داخلها. وهي التي تسمح أو لا تسمح له بتجاوز النص. فالحرية لا تعني بالنسبة له التحرر من قيود النص، بل هي عنده حركة مغلقة داخل فضاء النص. فالاجتهاد لديه هو اجتهاد في دائرة النص ومدياته، فهي حرية محدودة، غير منتجة، تطاردها إكراهات النص. وبخلاف ذلك تأتي القراءة المقاصدية التي تحاول تقديم فهم جديد للدين، والبحث عن مقاصد تشريعاته، دون التفريط  بقداسة النص.

وهكذا يسير في ما أسماه (متاهات الحقيقة) ليغطي مساحات واسعة في التعاطي مع التراث الاسلامي في معظم ميادينه.

* لكن ثمة سؤال منهجي يمكن أن يثار:

لماذا جعل الغرباوي كتابه عن المرأة: (المرأة وآفاق النسوية) ضمن سلسلة (متاهات الحقيقة)، ولم يجعله كتابا مفردا، مستقلا في موضوعه؟

لعله رأى أن التشريع الفقهي يوقعنا في متاهة حقيقية في فهم الفهم الفقهي للمرأة، فهل هي إنسان قائم بذاته، له مقوماته الإنسانية الكاملة، وحقوقه وامتيازاته وواجباته كإنسان فرد؟ أم هي كيان تابع ومملوك للرجل؟ فمازال الفقه مترددا في هذه المفارقة، يركب المتناقضات، ويروغ عنها، بين مبادئ قرآنية ونبوية كلية تمنح المرأة مكانتها، وبين أحكام تغتصب شيئا من إنسانيتها لتكون خاضعة لسلطان الرجل.

وأخيرا، وهو يختصر توصيف المعاناة في نضاله الفكري، في مقاربته لتوصيف الوعي الجمعي الديني، يرى الغرباوي رأيا سديدا: (إن مشكلتنا اليوم ليست في عجز الأدلة عن بيان الحقائق، بل مشكلتنا الأساس مع رثاثة الوعي، والجمود، والمصالح الأيديولوجية، ووجود حواضن للغلو تشكل درعا يصعب زعزعته بسهولة. وهي معاناة حقيقية لمن يروم ترشيد الوعي، وفضح تزوير الحقائق لغايات طائفية وسياسية).

لعلي بهذه الكلمات المقتضبة أتيت على بعض أهم المحاور التي يدور حولها فكر الغرباوي، منذ بداياته، وحتى أواخر مؤلفاته في سلسلة (متاهات الحقيقة). عساني كنت موفقا في عرضها، لتكون هدية متواضعة من زميل وصديق يكن له المحبة ويرجو له التوفيق.

***

د. صائب عبد الحميد

 

حاول المفكر العراقي ماجد الغرباوي، مدفوعا من حبّه لوطنه العراق، الحفر في البنى الفكرية والمعرفية لعدوانية المرء تجاه الآخر، أيا كان الآخر داخليا أم خارجيا، فشعور الكاتب بالمسؤولية تطلّب منه قدرا كبيرا من الصراحة والمكاشفة والتعرية الحقيقية للقيم السائدة والمفاهيم الحاكمة، متجنبا الحلول الترقيعية التي تعتمد على التستر والمدارة والخوف من المواجهة فلا تنتهي إلى نتيجة جذرية، فالعراق كدولة يحتاج للنهوض إلى نسق فكري يقبل حالة التعدد التي لابد منها، إذ أنّ المجتمع العراقي متعدد الأديان والمذاهب والقوميات: فهناك المسيحي والصابئي واليزيدي، والشيعي والسني والعربي والكردي والتركماني بالإضافة إلى اختلاف الثقافات والأفكار والاتجاهات السياسية..

وسواء أكان الإنسانُ عدوانيًا بطبعه كما يرى هوبز، أو مدنيا بطبعه كما يرى غيرُه، فلا يُمكنه أنْ يعيشَ بعيدا عن تكوين اجتماعي يعترف أفراده بحقوق متبادلة، لا يمنّ فيها طرف على آخر، فلا يُوجد استحقاقية لدى الأكثرية تتفوق بها على الأقليات في الحقوق الأساسية.. غير أن المجتمع يُدير حركته، ويُحدد اتجاهاته، نسقٌ قيمي وأخلاقي يرتكز على مجموعة من القيم السلبية الموروثة من عصبية ورفض وإقصاء للآخر، وتُشرّع للعنف، ولا بديل لمواجتها إلا بنسق قيمي وأخلافي يرتكز على إحلال "التسامح" في ثقافة وعقل وسلوك المجتمع وتجفيف منابع اللا تسامح من التعصب والعنف والولاء المحدود للجماعة والقبيلة على حساب المجتمع والدولة، لا بديل عن اجتثاث القمع والتّطرف من أجل بناء مجتمع يُمكنه استيعاب التّناقضات والتّقاطعات الحادّة بين الأديان والمذاهب والقوميات..

وعندما نتحدث عن التّسامح فنحن أمام مدلولين: مدلول لغوي اجترّ عبر تاريخنا مشتق من السماحة بمعني الجُود، وفي "الجُود" يُوجد طرفان: يدٌ عليا واهبة، ويدٌ سفلى متلقية، فالتسامح بالمدلول اللغوي يُشير إلى وجود فارق اجتماعي بين متسامِح (بالكسر) ومتسامَح معه (بالفتح)، فليس هناك مساواة بين الطرفين، فالتسامح لا ينفك عن المنّة والكرم في المدلول اللغوي، ولم نُطوّر مفهوما ثانيا للتسامح؛ لأننا نستدعي تُراثا تراكميا يُعبر عن فكر واحد نتوحد معه، ولا نتنقل بين أنماط متنوعة من التراث على نحو يُمكنه أن يُطوّر من أفكارنا..

في المقابل طوّر الدّرس الفلسفيّ مدلولا ثانيا للتسامح تقوم عليه المجتمعات المدنية المعاصرة، فلم يعد التّسامح مقصورا على مدلوله اللغوي في العربية أو الإنجليزية "Toleration"، فليس موقفا فرديا اختياريا يتنازلُ فيه شخص عن حقٍّ من حقوقه تكرما ومِنّة على الآخرين، وإنما أصبح واجبا تفرضه الحرية الشخصية التي يُراد لها أن تكون متساوية بين الجميع، فالتسامح الذي نُريد له أن يسود في مجتمعاتنا العربية هو موقف إيجابي متفهم لتعدد وتنوع الأفكار والعقائد والمذاهب والثقافات، فيسمح بالتعايش مع المختلف بعيدا عن العنف الإقصاء..

التسامح بهذا المفهوم أحد قيم المجتمع المدني، فلا يُمكننا أن نتصوّر مجتمعا مدنيا دون تسامح، ولا تسامح دون مجتمع مدني كصيغة استيعابية للتنوع الديني والمذهبي والعِرقي للمجتمع في الدولة المعاصرة، وكصيغة يُمكنها تحقيق طموحات الجميع في حقوق متساوية، ونزع فتيل التوتر والصراع.

فدوما مقابل "الذات" أو "الأنا" الدينية، أو العِرقية أو العُرفية، أو الثقافية، يأتي الآخر، فإذا كانت "ذات الشيء دلالته على نفسه وعلى عينه، والذاتيّ لكل شيء ما يخصّه، وما يُميّزه عن جميع ما عداه".(1) ففي الجانب المُقابل يُوجَد دوما "الآخَر" بما يحمله من غيرية مختلفة عمّا عليه الذات/الأنا، ولا يُمكننا تجلية الأنا/الذات، والتعرف عليها إلا بوجود آخر مختلف ومغاير لها؛ لذا قيل على لسان أحدهم: "حدد ذاتك يتحدد الآخر".

فالقيم التي تحمي الآخر، وفي مقدمتها التسامح نحتاجها جميعا بما أنّه كل منا هو الآخر لغيره، فكلّ منّا يُمثل الأنا والآخر في الوقت نفسه، فهو بالنسبة لذاته "الأنا"، وبالنسبة لغيره "الآخر"، ويمكننا القول إنّ الآخر يتعدد، ويتنوع بتعدد، وتنوع دوائر مستويات الأنا والذات، فينجم عن ذلك وجود آخر ديني، ومذهبي، وقومي وعُرفي، وجغرافي، واجتماعي، وسياسي، فيختلف الآخر من دائرة إلى أخرى، فالموقع الذي يحدده الفرد أو المجتمع لنفسه هو بدوره الذي يحدد الآخر القريب أو البعيد،(2) فلا بديل عن قبول التعددية على مختلف المستويات..

وإذا كان لا يُمكن  لنباتٍ أن يعيش منفصلا معلقا في الهواء بلا جذور، فكذلك التسامح لا يُتصور أن يُوجد في ثقافتنا منفصلا عن شجرة أخلاقية وقيمية، فالتسامح حتّى يعيش يحتاج إلى نسق أخلاقي وفكري واجتماعي، "فالتسامح ليس مجرد مفهوم يُراد استنباته ضمن النسق القيمي للمجتمع، وإنما هو نسق ثقافي وفكري وعقيدي مغاير، له آليته في العمل وأسلوبه في التأثير، ومنهجه في التفكير، وطريقته في الاشتغال. فلا يمكن سيادة قيم التسامح ما لم تكتمل جميع مقدماته أي أن التسامح يقوم على سلسلة عمليات فكرية وثقافية يخضع لها الفرد والمجتمع كي يعمل بشكل صحيح ومؤثر".(3)

التسامح لا ينفصل عن نسق كلي من مفاهيم التعددية وحقوق الإنسان والمواطنة والحرية الدينية والفكرية.. والتسامح هنا ليس هو التسامح الديني فحسب رغم مركزيته، وإنما التسامح بمفهومه العام الذي يشمل التسامح السياسي والاجتماعي والديني.

ويؤكد الغرباوي أنه لا يتعارض النسق الأخلاقي القيمي الذي يضم التسامح مع الدين، وإنما يتعارض مع قراءات للدين، فالإشكالية ليست في المقدس لكن في فكر ديني ادّعى أنّه المقدس، فعلى الرغم من أن التسامح مفهوم إسلامي غني في دلالاته غير أن القراءات المبتسرة للدين ونصوص الذكر الحكيم صوّرت التسامح مخلوقا لا إسلاميا، أو مفهوما مستوردا للإطاحة بقيم الدين الحنيف، وهي  قراءات تشبث بها دعاة العنف والاحتراب، ممن اختزلوا القرآن في بضع آيات نزلت في ظلّ ظرف خاص، بينما أهملوا مصفوفات قرآنية كثيرة تدعو إلى المحبة والوئام، ونبذ العنف والدعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة..

التسامح والتعددية ليست غريبة في روحها عن الدين، فالذي يحول دون التسامح ليس الدين وإنما قراءات أحادية تستدعي موروث ثقافي وتاريخي واجتهادات شخصية أُدمجت في بنية المقدس، فتوارث جيل بعد جيل تقاليد وأعراف لم ينجحوا في التخلص منها؛ لتسللها تحت جلد المقدس، ولسلطان التقليد المسيطر على العقل الجمعي الذي لا يُميز بين التقليد الديني والتقليد الدخيل على الدين، وهذا يتطلب منّا أن نُعيد هذا الدخيل إلى سياقاته كنتاج إنساني حول النصوص المقدسة، من خلال عملية معرفية انتقالية نستفيد فيها من المناهج العلمية في الاجتماع واللغة والنفس وسائر الدراسات الإنسانية، حينها سنجد أنفسنا أمام آفاق رحبة لتقبّل القيم الإنسانية.

وفي محاولة منه لتفكيك النسق الفكري المسيطر على العقل العربي للكشف عن منابع العنف والتعصب في ثقافتنا التي تجعل التسامح غير فاعل ولا مُؤثر في مجتمعاتنا العربية نُلخص أبرز العقبات والتحديات فيما يلي:

أولها: منطق الغلبة والاستحواذ التي عرفتها تجمعات الإنسان الأول، فحيث تندر الموارد يكثر السطو والنهب والسلب والغدر والاعتداء، فالارتداد للبدائية مرتهن بالاحتكام إلى منطق العنف، وعلى النقيض يعكس التسامح تمدن وتحضر المجتمعات القائم على الاحتكام للقانون.. فلا يُِمكن أن يصير المجتمع متحضرا يحترم القانون ويعترف بالآخر بينما العنف متفشٍ فيه.

ثانيها: تجميل التاريخ، وتقديمه في صورة مثالية، والتوحد معه والاحتماء به، وجعل العنف الذي انطوى عليه ليس مجالا للدراسة النقدية التي من شأنها أن تُساعدنا في اتخاذ مواقف أكثر نضجا في الحاضر..

ثالثها: الاستبداد السياسي، فكما تُعاني مجتمعاتنا من دعاة امتلاك الصوابية الدينية التي تكفر المخالف فإن مجتمعاتنا تُعاني كذلك من ساسة يدعون امتلاك الصوابية السياسية التي تُخوّن المعارض، فالاستبداد السياسي الرافض للآخر خصم حقيقي للتسامح، الذي يعتبر الاعتراف بحقوق الآخر جوهر التسامح الديني والسياسي والاجتماعي، وهذا النّبذ للمغاير ليس قاصرا على الآخر السياسي، لكن له وجود داخل الأسرة والعائلة والحي، داخل قاعة الدّرس، يظهر الرفض في احتكار المختلف وإرهابه وعزله وتهميشه انتهاء بقهره وسحقه.

رابعها: الاحتكار المزعوم للحقيقة وطرق الوصول إليها يُوسس للمواقف العدائية والخصومات الطائفية.. فمن المقاربات التي تدفع نحو التسامح إعادة النظر في علاقتنا بالحقيقة، والأقرب للتجربة الإيمانية القائمة على اليقين ألا ننظر لها من زاوية تحويل المطلق إلى نسبي محتمل في جميع الأطراف، وإنما القول بأنّ الحقيقة المطلقة واحدة وتجارب الإنسان في السعي إليها متعددة، فتتعدد التجارب الدينية الساعية للوصول إلى الحقيقة المطلقة، "فالحق في ذاته واحد، ولكن القدرة البشرية على بُلوغه متنوعة، وبالتالي مقاربة الحق متنوعة، مما يعني تعددية الرؤى والمذاهب ضمن الدين نفسه" فمثل هذا الطرح يسلب جميع الأطراف احتكارهم للحقيقة، الذي على أساسه تتشكل المواقف العدائية والخصومات الطائفية.

خامسها: الولاء للجماعة الدينية أو العِرقية، وما يصحبها من حِدّة المشاعر، وتطرفها حبا وكرها، فبدافع من الانحياز عاطفي يُشيطن المخالف، ويُرفع المماثل إلى مستوى الملائكة، فيصعب من مجتمع يغلب عليه هذا النوع من المشاعر الحادة أن يكون مجتمعا متسامحا، يعترف بالخطأ، ويُعيد ترتيب أفكاره من جديد، يتقبل التنوع والاختلاف بلا قلق ولا هجوم، فالعاطفة متوهجة من الحب أو الكراهية تحول دون العقلانية، فالتسامح ألّا نقمع الآراء التي لا نُوافق عليها، ونحن في الوقت نفسه لا نُحب أو نُؤيد أو نُشجع هذا الآراء..

سادسها: منظومة القيم السائدة التي تتقاسمها العشيرة والدين والموروثات الشعبية، ولا يستند بعضها إلى مبدأ عقلي أو شرعي أو قانوني، فأكثر القيم الاجتماعية وليدة تراكمات اجتماعية واقتصادية وسياسية، تجذرت بسبب التخلف وبدائية الوعي، فالاجتماع صنع القيم السائدة ثم تناسى أنّه من صنعها، فصيّر الإنسان أسيرا لها لا يستطيع التّحرر منها.

فعندما ترتكز قيم المجتمع على العنف في تسوية الخلافات وانتزاع الحقوق، فإن الاحتكام إلى العقل والتسامح من قبل بعض الأفراد يصبح جبنا وعارا، وعندما يسود حالة من التمييز بين الرجل والمرأة يكون من المقبول اجتماعيا أن تسود نظرة دونية مثقلة بالشكوك وعدم الثقة تجاه المرأة؛ لذا يُفترض تفكيك أنساق المنظومة القيمية القديمة السائدة بشكل يجعلها تستجيب لنسق قيمي جديد يقوم على التسامح.

فليس العنف فعلا خارجيا فحسب، وإنما عقل وخطاب وثقافة، فالتحول إلى اللاعنف يحتاج إلى تحول في مفاهيم القيم بحيث يرتكز الشعب على العقل والتفكير بدلا من اللجوء إلى العنف والقوة، فالتفكير في مقابل التكفير، والتسامح في مقابل التعصب، وقبول الآخر دون رفضه، وتحلّ التضحية بدلا من الأنانية، وهنا تترسخ تترسّخ قيمة الإنسان بوصفها أهم القيم الاجتماعية، فالفرد قيمته مستمدة من كونه إنسانا، وليس من انتمائه لقبيلة، أو جماعة، فمناط التّكريم أنّه إنسان قبل كل شيء "ولقد كرّمنا بني آدم"، وعلى حد تعبير كارل روجرز: "لا يُوجد وحش في الإنسان، الإنسان به إنسان" إطلاقه سيُقود بالضرورة إلى النسق التسامحي مستفيدا من تراكم خبرته بالصراعات والحروب وما تُخلّفه من ويلات.

سابعها: التعصب فهو تارة نتيجة عن العنف وتارة سبب في العنف إذ يُغْرِي الإنسان بممارسة العنف في فرض آرائه، وإذا كان التعصب حاضرا في تكويننا الاجتماعي لامحالة فنحن في حاجة إلى تفريغه من الشحنات السلبية؛ ليُصبح حاملا لقيم جديدة يتعصب فيها الفرد لصالح القانون واحترام النظام وتبني قيم التسامح والمحبة والوئام.

ثامنها: التطرف الديني "أحد أخطر منابع اللاتسامح، لتلبسه ببعد شرعي، وتوظيفه للنص الديني، وسرعة تصديقه من قبل الناس، وقدرته على التخفي والتستر تحت غطاء الشريعة والواجب والجهاد والعمل الصالح والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.. فالوعي الديني يُعاني من التباس الإلهي بالبشري عبر فتاوى وأحكام اجتهادية نسبية تسوّق على أنها تشريعات إلهية، تسلب الفرد حريته وإرادته عندما تفرض عليه قبليات المجتهد، سواء كانت عقدية أم أخلاقية، وتفرض عليه مواقف يلتزم بها بدوافع دينية، مهما تعارضت مع قيمه الإنسانية. ولعل الموقف من الآخر المختلف، بما فيه المختلف الداخلي أوضح المصاديق. يعيش معها الفرد حالة اغتراب عن طبيعته الإنسانية، فيحسب تصرفه تكليفا شرعيا قربة لله لتفادي تأنيب الضمير وقمع شكوك الحقيقة، وهي تُدوي في أرجائه. فنقد آليات وأدوات ومرجعيات ومباني الفقيه، مهمة أخلاقية لاستعادة الوعي، كخطوة أولى للنهوض الحضاري. والاجتهاد أحد المصطلحات الفقهية الخطيرة ارتفع به الخطاب الديني حد الاصطفاء الإلهي بعيدا عن حقيقته وأساليبه في تزوير الوعي بل وتشويه القيم الدينية الأصيلة عندما يُقحم الناس في صراعات عقدية وسياسية تحت عناوين طائفية وأيديولوجية، ويعتبر فتاواه وأحكامه ملزمة لأتباعه، ومبرئة للذمة".(4)

أخيرا، إذا لم تَسُدْ قيم التسامح وتُصبح فاعلة على المستوى الفردي والاجتماعي، ستبقى أسباب الانفجار كامنة، تتحين الفرص لتطفو على شكل موجات عنف متلاحقة تُطيح بكل ما هو جميل في الحياة، وليس الحلّ في المواجهات الأمنية فحسب التي ينتج عنها اختفاء العنف كفعل خارجي لكنه يبقى يُمارس سُلطته على الصعيدين الفكري والثقافي ويتجلى سلوكا وأخلاقا ومنهجا، وهو أشد خطورة رغم تستره.. الحلّ في ثقافة نقدية قادرة على النفوذ إلى أعماق اللاوعي لتفكيك البنى المعرفية القديمة وتأهيلها لاستقبال نمط فكري وثقافي جديد يعمل في إطار قيم التسامح.. كي نُواجه خطابا متطرفا منحازا لذاته، لا يرى إلا نفسه، يتعين علينا أن نُعزّز من سُبل التعريف بالآخر في برامجنا التعليمية والثقافية، فمن المؤسف أن الثقافة الإسلامية المعاصرة تعرّضت لاختطاف من جماعات التمايز بالإسلام عن المسلمين، فأمسينا في حاجة إلى التأكيد على المسلمات، وترديدها؛ حتّى يتمّ إدماجها في الوعي الجمعي مرة أخرى، ومنها: مقومات التسامح من حقوق المواطنة وسيادة القانون وإطلاق الحريات العامة وحمايتها أهمية التعرّف على الآخر، وقبوله، والاعتراف به.. فلسنا أمام اختيار، بل ضرورة لا غنى عنها لمنع التباعد، والاحتراب، وتحقيق التنمية المستدامة التي يحلم بها الجميع، وهذا يتطلب تذليل العقبات التي تعترض طريق التعايش، واستمزاج الآراء؛ لتكوين تصوّر عام يساعد على التقارب وتجسير الفجوة بين أصحاب.

***

أ. د. عبد الباسط سلامه هيكل

أستاذ علوم العربية والإسلامية جامعة الأزهر بالقاهرة

....................

(1) التعريفات، ص٥٧.

(2) ينظر: محمد محفوظ، الآخر وحقوق المواطنة، الرياض، مركز الراية للتنمية الفكرية، يناير ٢٠٠٦م، ص١٥.

(3) ماجد الغرباوي، التسامح ومنابع اللاتسامح، ص١٦.

(4) ماجد الغرباوي، التسامح ومنابع اللاتسامح، ص٧٦.

 

إنّ المنجزات الفكرية لعدد كبير من المفكرين والمجددين لم تنل الاهتمام والرعاية الكافية عبر تاريخ الفكر العربي والإسلامي إلا القليل، لتصنيف تلك المنجزات ضمن الآراء المحرّمة، التي تشكل تهديدا بعيد المدى للموروث الثقافي، المكبِّل للإبداع والتجديد والتنوير. لا ريب أن دراسة منجزات ومشاريع المبدعين في قضايا التجديد والتنوير والإصلاح مثلت ظاهرة استراتيجية في حياة الشعوب والأمم، ففي أوروبا وتحديدا ألمانيا هناك مؤسسات ثقافية غير حكومية لا تزال تركز على دراسة آراء جوته ونيتشه وكانط وهيغل ومارتن لوثر وهايدغر وغيرهم من الفلاسفة والمصلحين والشعراء، وكذلك  في الولايات المتحدة الأمريكية اتسع نطاق الفعل الثقافي الخاص بالشخصيات الفكرية الإصلاحية والتنويرية المؤثرة في الثقافة الأمريكية الحديثة والمعاصرة  وتوسعت مؤسساته الفاعلة عبر العالم، لقد برزت تيارات فكرية اتخذت من الاستنارة بأفكار المفكرين والفلاسفة والفنانين ميداناً لاشتغالها خصوصا بجامعات بريطانيا وكندا وروسيا والهند واليابان، حيث يتم دراسة المنجزات الفكرية، وحركة تطورها ومدى حضورها في مقررات الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية، خاصة منها  تلك التي تم تجاهلها وتمّ تجديد النظر والفحص والنقد لها، ويعتبر هذا الحدث حركة متجددة في مجال المعرفة التاريخية للأفكار والمفكرين وعلاقتها بالتحديات الراهنة، كون  مكانة المثقفين في المجتمعات المعاصرة ذات سلطة ومصداقية، ناهيك عن انخراط المثقف في الحياة العامة وتأثيراته الجوهرية في التصورات والمواقف والآفاق، ليس مثقف العصر وإنما كل المثقف كشاهد على أسس ومقتضيات ورهانات التنمية والتجديد والإصلاح والتغيير...

بينما نحن في العالم العربي، لانزال نحاول أن نقترب من المشاريع الإصلاحية والتجديدية في الفكر والثقافة والاجتماع والدين التي عرفها تاريخنا العربي والإسلامي سواء الحديث والمعاصر منه، فمنذ الموجة الأولى للإصلاح والتجديد نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ولغاية الموجة الثالثة التي كانت ما بعد الاستعمار الجديد نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين، كان التصور العام للمشاريع يتراوح بين اليسار واليمين وأحيانا  استغراق في الجدالات التاريخية بين الثنائيات والقطبيات وتكريس للعشوائيات الثقافية، لكن  رغم كل المؤاخذات حول التصور والرؤية والمنظورات لهذه التجارب الفكرية والمشاريع التجديدية وما أنتجته من تعدد لوجهات النظر حول القضايا والمسائل التي يجب تكثيف النظر إليها  في منجزات المفكرين التنويريين والتجديديين، أصبح النقاش والمقاربة لمنجزات المفكرين والمجددين ضرورة ملحة في هندسة الوعي ورسم معالم الإصلاح الثقافي وما هنالك من آفاق نهضوية..

ضمن هذا السياق، تسنى لي منذ سنة 2019م ولغاية يونيو 2024، أن أعيش فترات هامة ترتبط برعاية  وتعريف واستكشاف منجز فكري معاصر، ألخصه في علاقة الإبداع الفكري بالالتزام الإنساني، حيث يختزل الأمر بمفكر عربي بارز هو الأستاذ ماجد الغرباوي؛ وتلك العلاقة عاينت أهميتها الكبرى في نقاش العديد من المفكرين والأدباء والباحثين والأكاديميين من أغلب دول المشرق والمغرب العربيين وبلاد المهجر، خلال إعدادي لكتاب تكريمه في سبعينيته.

في هذه السطور وددت بداية أن أستعرض بشكل عام منجز فكري وأدبي  سيكون له دوره في إثارة ورفد الوعي بشتى صوره الفكري والثقافي والاجتماعي والديني، حيث تزينت به المكتبة العربية مؤخرا كإصدار تكريمي خاص تحت عنوان: "ماجد الغرباوي: أنسنة التراث وعقلنة النص الديني (عن دار العارف في بيروت سنة 2024م، في مجلدين (1250) صفحة)، والذي ضم 130 مشاركة من مقالات وشهادات ودراسات، وقام بالتقديم له قامتان في الفكر والفلسفة والتربية والاجتماع في  جغرافية الثقافة العربية المعاصرة، الدكتور عبد الجبار الرفاعي والبروفسور علي أسعد وطفة.

هاذان المجلدان هما ثمرة إتصال ونقاش وتشاور وحوار مع العديد من المفكرين العرب من طنجة إلى مسقط، ومن سيدني إلى أوتاوا، إنه منجز  يختصر منجزات شاهدة على مدى الأثر الذي خلفه ماجد الغرباوي في المشهد الفكري والثقافي التجديدي العربي والإسلامي، إذ كان الشخص الذي سلك بالعديد من رواد الفكر والتجديد والتنوير في الوطن العربي إلى التجربة النقدية وإثارة الوعي من خلال جهوده التي بذلها لإحياء الوعي الفكري عموما والديني خصوصا، حيث التأثير الكبير الذي أحدثه الغرباوي يبرز  من خلال موهبته النقدية التي  تفتقت في مرحلة مبكرة ( كما عبر عنها بــــ(ص 11 المجلد1 من الكتاب)، واستمر المخاض والنقاش والتفكر  إلى غاية مطلع القرن الراهن، حيث برز  ماجد الغرباوي المثقف المستنير بصورة كبيرة خلال السنوات العشرة الأخيرة التي قضاها في صياغة الرؤية وتحديد المنظورات، فكانت نموذجية  الغرباوي في هذا الكتاب ترتبط بقوة أفكاره الفلسفية، والموضوعات الجديدة التي اشتغل عليها وهي: الوعي والتسامح والأنسنة، والمنهج، والمستقبل، والنهضة والأخلاق.. فمضامين المجلدين من هذا الكتاب تتناول ماجد الغرباوي من خلال أفكاره المبثوثة في مؤلفاته ومن خلال قراءاته النقدية ورؤاه التجديدية المتطورة بحسب المقتضيات ويبدو البحث في منجزه هو أعمق لأنه تفاعل فكري حول القضايا والإشكاليات التي يطرحها ويناقشها، بل إنه فهم للبنية الثقافية والفلسفية للمفكر الغرباوي؛ كونها  كتاباته تسلط الضوء على بعض الجوانب الخفية من حياته، حيث حاولت الدراسات طرح تقييم نقدي لأفكاره، والمقالات كانت مصابيح على طول خريطة فكره ومؤلفاته ومطارحاته، والشهادات جاءت لتعكس مكانة المفكر ماجد الغرباوي الفكرية والأدبية وتعدد مجالات اهتمامه واشتغاله، حيث استهلت بشهادة وتقديم الدكتور عبد الجبار الرفاعي التي يعبر فيها بالقول: ماجد الغرباوي صديق صدوق نادر، انا محظوظ بهذه الأخوة الإيمانية والأخلاقية والمعرفية الأصيلة بيننا، لا شك أن هذه الأخوة استثناء من الصداقات الشائعة، أنا وماجد أصدقاء عمر، يقترب عمر صداقتنا من عمرنا الزمني، صداقة تناهز الستين عاماُ، إلتقينا بتوفيق إلهي في متوسطة قلعة سكر سنة 1968م، ولم ينقطع حبل المودة بيننا. (ص20 المجلد 1 من الكتاب)، ومونولوج الأستاذة بشرى البستاني والشجاعة والمثابرة الفكرية  عند الدكتور سامي عبد العال والدكتور صائب عبد الحميد والدكتور عبد الجبار العبيدي، والدكتور صالح الطائي والدكتور صلاح حزام، ناهيك عن الأسئلة التي خاض غمارها الأستاذ الغرباوي كسؤال الدين والأخلاق كما تناولها في شهادته الدكتور نابي بوعلي وقراءات لمشروعه لدى  الدكتور عدنان عويد وثامر عباس واياد الزهيري، وشهادات حول الفكر والرسالة والهدف والتنوير وسحر ذلك كله، حيث قاربت لب المنجز  كما حررها    الدكتور صادق السامرائي و الدكتور علي محمد اليوسف وطاهر أبو ألاء ودكتور سعد ياسين يوسف والدكتور جودت العاني والدكتورة شهرزاد حمدي والأستاذ أحمد راضي الشمري والدكتور قصي الشيخ عسكر والأستاذ شاكر عبد موسى، وعن شمولية الوعي كما وصفها الدكتور عبد الأمير المؤمن، وأثر المتاهات كما سلط الضوء عليها الدكتور صالح الزروق والأستاذ حسين علاوي،  دون أن نغفل تلك المقاربات حول شخصيته الفكرية والأخلاقية كما صاغها الأستاذ زيد الحلي والاستاذة صفاء الهندي، وقراءات للمفاهيم من قبيل رؤى الأستاذ عبد الستار نورعلي والأستاذ عقيل عبود.. والعديد من الشهادات التي عكست جمال شخصية الأستاذ الغرباوي وأناقتها وسماحتها.. ثم جاءت المقالات لتخوض غمار النقاش والنقد وتثير ما يرفع الستار على قصة الابداع وإثارة الوعي وفتق النباهة من خلال معاينة الدكتور علي المرهج لآفاق الفكرة عند الغرباوي والأستاذ علاء هاشم الحكيم والأستاذة آية محي الدين ويستنطق الدكتور عبد الباسط سلامة هيكل والدكتور حسنين جابر الحلو والدكتورة عفاف المحضي والأستاذة خولة خمري والأستاذ عباس أعموري والدكتورة رانيا عاطف والأستاذ سهام الجزار والأستاذ عاشور البدري والأستاذ شوقي مسلماني والأستاذ قيس العذاري والأستاذ نادر المتروك والأستاذة هيام الفرشيشي والأستاذ صباح محسن كاظم والأستاذ جمعة عبد الله والأستاذ محمد هروان، أسئلة التسامح واللاعنف، كما يفتح أسئلة نقد الذات والحقيقة والمنهج والمعرفة والتجديد والحوار وفلسفته وقضايا التراث والاعتقاد والنهضة، كل من الأستاذ بدر العبري والدكتور رائد جبار كاظم والأستاذ سلام كاظم فرج والدكتور أسعد عبد الرزاق الأسدي والدكتور محمد يونس محمد والدكتور محمد سعيد الأمجد والأستاذ إبراهيم جلال القصاب والأستاذة علجية عيش والدكتورة بثينة بوقرة والدكتور حفيظ أسليماني والأستاذة خيرة مباركي والدكتور عصمت نصار والأستاذ حسين بوخرطة...

هذه المقالات النقدية اتسمت أغلبها بقراءات لمؤلفات المفكر ماجد الغرباوي وكانت مواضيع الوعي وخاصة الديني منه والتسامح وتحديات العنف والتجديد أكثر حضورا واشتغالا ورعاية نقدية وتوصيفية وتحليلية بينما المجلد الثاني الذي قدم له البروفسور علي أسعد وطفة، المفكر العربي السوري الذي يصف المفكر ماجد الغرباوي بالقول :" وإذا كان لي أن أصف الغرباوي فإنني أراه اليوم وهو يكافح ويناضل أشبه ما يكون ببروميثيوس الذي نزع الشعلة من أيدي الآلهة ليضيء بها أرجاء الأرض فلا يترك منها ركنا خافيا في عتمة الظلام، وها هو يومض بقبس من النور ليبدد ظلام التخلف الثقافي والفكري في عالمنا العربي.". ( ص13 المجلد الثاني من الكتاب)، هذا المجلد الثاني نال القسط الوافر من التعريف بمنجز المفكر ماجد الغرباوي حيث تضمن دراسات وبحوث حفرت أعماق هذا المنجز الكبير وكشفت عن أغواره وقربته أكثر من القراء الكرام رافدة بذلك ما لم تتوسع فيه المقالات والقراءات، حيث رسم الدكتور قادة جليد المعالم العامة والعميقة لموقعية فكر الأستاذ ماجد الغرباوي في خريطة الفكر العربي المعاصر، و تناول الأستاذ عبد العزيز قريش بالتوصيف و التحليل، البعد النقدي في فكر الأستاذ ماجد الغرباوي، كما كشف ملامح الحوار النقدي العقدي الدكتور مجدي إبراهيم عند المفكر الغرباوي، في حين ركزت دراسات الدكتور عدنان عويد والدكتور محمود محمد علي على قضايا التجديد والآفاق النهضوية في فكر الأستاذ الغرباوي، وجاءت دراسة الدكتورة ابتسام مشقق مساءلة ومقارنة لفكر ماجد الغرباوي مع فكر نصر حامد أبوزيد ونال نصيبه سؤال التسامح من الدراسة والبحث في دراسة كل من الدكتورة إيمان عامر والدكتورة دنيا مسعود مخلوف،  بينما البعد الأدبي في منجز الأستاذ الغرباوي نال حظه في المقالات النقدية عبر ملاحقة تجليات نصوصه وتحديدا منها القصصية ومقاربة المدى الصوفي في البعض منها، وملاحقة لمديات الجمال فمذ تسمر الضوء وانشق القمر تمرّد المفكر ورفع القلم ورسم لوحات تملأ القلب ولعا وتحرق ذكريات الجهالة في عقل قد استبصر وسار على حطام المسافات مع هاتف الفجر على حافات القلق، ليقطف من عناقيد العشق ويعلن عن قراره الارتجالي بين مديات الحلم والكذبة المتوهجة، شظايا فكر وأدب وفلسفة وثقافة ...

كانت هذه سياحة خاطفة بين ثنايا فصول أربعة توجت كتابا بعد خمس سنين من التواصل والتشاور وعبر دعوات للعديد من أهل الفكر والثقافة والفلسفة والأدب والتربية والاجتماع والاقتصاد، هذا الكتاب في مجلدين كان في البدء فكرة احتضنتها كل الأسماء المشاركة في الكتاب وتفاعلت معها لا لشيء إلا كونها تحترم هذا المثقف المستنير الذي لا يعرفه نزيه إلا انشد إليه، هذا الإنسان الذي يعيش إنسانية الإسلام في تفاصيل يومياته مع أقرب المقربين إليه إلى أبعد أصدقائه ومعارفه، شخصيا لو كتبت عن ماجد الغرباوي فقلمي لا يتوقف ككل الذين حدثوني عنه وأكدوا لي ذلك كله، ليس عن شخصه فحسب ولكن عما أعرفه جيدا في هذا الشخص الفريد والثمين في زماننا، سواء في فكره وأسلوب حياته وسمو أخلاقه...

لقد كتبت هذه السطور لأتقدم بجزيل الشكر والتقدير والعرفان إلى كل الذين ساهموا وشاركوا في هذا المشروع التكريمي لمفكر نوعي وخاص ومميز وكذلك أشكر أولئك الذين اعتذروا لأسباب صحية قاهرة نسأل الله لهم الشفاء العاجل ولا أنسى هنا التنويه والتبجيل لفرقة الإعداد التي اتسعت مع الوقت لتضم أسرة  مؤسسة المثقف وأكاديميين من مصر والعراق وسوريا وتونس والجزائر والمغرب وبلاد الغرب وكذا المشاركات والمشاركين الذين وعدوا فأوفوا وإلتزموا بوعدهم بالمشاركة منذ كان المشروع فكرة مسطورة في دعوة، إنها كانت تجربة ثرية حيث إلتقت عقول وقلوب وأفكار ورؤى في رحاب حديقة غناء من الوعي والأخلاق والإنسانية والتسامح والحوار والمعرفة، وصدقت الحكمة التي تقول: من شاور الرجال شاركهم في عقولهم، يبقى العمل بكل التوصيات الهامة التي وردت بالمقالات والشهادات والبحوث والدراسات، لأن المفكر الغرباوي الكريم والمكرم بين أحبابه يأبى النكوص الفكري بل إنه دوما يدعو للتجديد والابداع والتطوير والتنمية والمنطق العملي، أملي أن يكون هذا الكتاب قد وفى ولو جزءا يسيرا من دّين المفكر الغرباوي علينا، حيث يكون مرجعا ببليوجرافيا للباحثين والأكاديميين والمهتمين بمشاريع التجديد والإصلاح والتنوير وإشكاليات الوعي والعنف وماهنالك من مسائل حيوية في مجال التنمية والنهضة في الأمة العربية والإسلامية..

أما بعد:

نحن في حاجة على الدوام إلى التكريم اللائق لمبدعينا ومفكرينا. لأنه استنارة مستمرة بمعالم الوعي في مشوار النهضة، مع ضرورة فتح مجالات النقاش والنقد العلميين لبناء عقلنة رصينة قادرة على التجديد والتنوير...  

وكل عام والمفكر الحر ماجد الغرباوي بألف صحة وسلامة وتألق وإبداع ...

***

ا. مراد غريبي

مُعد كتاب تكريم ماجد الغرباوي بعنوان: ماجد الغرباوي أنسنة التراث وعقلنة النص الديني

https://almothaqaf.org/k2/976967

اعتمد المجتمع الأبوي على فكرة الحتمية البيولوجية لتعزيز فكرة توزيع الأدوار بين الرجال والنساء اعتماداً على أن الفروق الطبيعية في البنية الجسدية هي السبب الرئيس والجوهري لتفوق الرجال على النساء عقليًا وسياسيًا واقتصاديًا وبالتالي يقتصر دور النساء على تقديم الرعاية المنزلية للزوج والأبناء.

لذلك ستحاول هذه الورقة البحثية أن تطرح أهم قضايا الحركات النسوية إثارة للجدل في المجتمع الشرقي والغربي على السواء وهي "قضية الحتمية البيولوجية" أو فلسفة الفارق البيولوجي والتمايز بين الجنسين لبيان موقف الأستاذ ماجد الغرباوي وذلك من خلال اولًا-تعريف الحتمية البيولوجية، ثانيا-الاتجاهات المترتبة على الحتمية البيولوجية من وجهة نظر الأستاذ الغرباوي، ثالثًا- المرأة ودور الأمومة في فكر الغرباوي.

أولًا- تعريف الحتمية البيولوجية:

تشير الحتمية البيولوجية إلى الاعتقاد بأن الدوافع البيولوجية أو الغريزية تمثل أساس العلاقات بين الرجال والنساء والعمليات الاجتماعية والثقافية على نطاق أوسع ([2]) ، هدفه تبرير الوضع الراهن القائم على تقسيم الأدوار بين الجنسين وترسيخه ([3]). ووفقًا لذلك تصبح الاختلافات البيولوجية بين الرجل والمرأة، السبب وراء وجود الاختلافات الجندرية/ النوعية. فيعتبر بعض المفكرين أن مجالات البيولوجيا الطبيعية التي تتراوح ما بين الهرمونات والكروموسومات إلى حجم الدماغ والجينات مسؤولة عن وجود فروق سلوكية بين المرأة والرجل، وبالتالي هذه تؤدي إلى عدم المساواة بين الجنسين، وهذه الصفة غالبة في كل المجتمعات تقريبا، رغم عدم وجود دليل علمي يدعم هذه الآراء خصوصا([4]).

وبناءً على ذلك، كان يُنظر في الماضي إلى مصطلح الجنس Sex على أنه السبب في ظهور كلمة النوع الاجتماعى Gander، أي أن البيولوجيا تؤدى إلى تشكيل الاختلاف في التصورات الثقافية([5]). وعلى ذلك أصبحت الفروق البيولوجية سبب لتوزيع الأدوار بين الجنسين.

وعليه فطبيعة العلاقة بين الرجال والنساء في ظل المجتمعات الأبوية قائمة على التسيد والاضطهاد وهذا ما يؤكده "جورج طرابيشي" في كتابة "شروق وغروب" حيث قال: "نظرًا إلى علاقات الرجال بالنساء في ظل الحضارة الأبوية –التي هي حضارتنا- كانت منذ ألوف السنين ولا تزال علاقات اضطهاد وسيطرة.. فالحرب رجولة، والسلم أنوثة، القوة رجولة والضعف أنوثة والسجن للرجال والبيت للنساء. وحتى ألعاب الأطفال: فالصبيان تستهويهم المسدسات والبنادق البلاستيكية، والبنات تستهويهم يملن إلى الدمى والعرائس وأشغال الإبرة. حتى المجلات المصورة: فالمراهقون يقبلون على قصص المغامرات والبطولات والمطاردات السوبرمانية، والمراهقات يتهافتن على قصص الحب والعاطفيات والجينات([6]) .

وبذلك تم التمييز بين المجالين العام والخاص، فالمجال العام حيث السياسة والتعليم والمهن والفن والأدب مساحة محجوزة للرجال. وفرض على النساء البقاء داخل المجال الخاص حيث الأسرة ورعاية وتربية الأطفال والعمل المنزلي([7]).

من أجل ذلك اعترضت النسوية بشدة على التصور القائل بأن الوضع الطبيعي هو أن يكون الرجل رب الأسرة وأن يعد السلوك الذكوري التقليدي سلوكا غريزيًا، لأن النسوية ترى أن الرجال والنساء تحركهم الدوافع الاجتماعية منذ المولد لقبول هذه الأدوار والأشكال السلوكية بحسبانها طبيعية. وتؤكد النسوية على كيفية تشكيل الهوية القائمة على النوع من خلال إيثار الأيديولوجية الأبوية للرجل وقمع المرأة. ويلاحظ أن الفكرة القائلة بأن الخواص التشريحية للمرأة هي قدرها تكمن في صلب مبدأ الحتمية البيولوجية، ومن ثم تتعارض مع الحتمية الثقافية، ولذلك تمثل هاتان الفكرتان معًا أساس الجدل حول الطبيعة / التنشئة([8]). وبذلك تم الاعتراض على هذا الرأي إذ بدأ ينتج عنه تفسير حتمي للهوية بما لا يسمح بإحداث اختلاف تغيير في مفاهيم أو أساليب تفكير كل من الرجال والنساء([9]).

ولكنني ألاحظ أن التركيز على الاختلافات القائمة على أساس الفوارق البيولوجية والطبيعية بين المرأة والرجل والتي نتج عنها التمييز بين الجنسين في الوظائف والأدوار الاجتماعية أخفق -فيما أرى- لأن الفروق البيولوجية ليست العقبة والعائق أمام توزيع الأعمال والسلطة بين الرجال والنساء، كما أن هذا التمايز يغفل الفروق الفردية لأبناء الجنس الواحد، ودور التنشئة الاجتماعية في تشكيل سلوك الفرد وممارسة أدواره الاجتماعية.

وعلى أي حال أن الإيمان بالحتمية البيولوجيا سيدعونا للبحث عن النتائج المترتبة على هذا الاتجاه فيما يرى الأستاذ الغرباوي على النحو الآتي:

أوضح الأستاذ "الغرباوي" أن فلسفة الفارق البيولوجي بين الجنسين ترتب عليه ظهور اتجاهين كليهما يهدر حقوق المرأة أحدهما يوصل إلى دونية المرأة، والثاني يبرر تمركزها حول الأنثى([10])، وسنستعرض لكليهما .

ثانيا- الاتجاهات المترتبة على الحتمية البيولوجية وفقًا لرؤية الغرباوي:

1- الاتجاه الأول دونية المرأة بسبب العامل البيولوجي:

وباد ذي بدء يوضح الباحث أن فلسفة الفارق البيولوجي التي تدعو للتمايز بين الجنسين موجودة منذ الفجر التاريخ الإنساني حيث ذكر " بسبب الاختلافات البيولوجية تعامل الرجل مع المرأة خلال فترة الولادة والحيض، بعزلها أيام دورتها الشهرية، بل يجب مقاطعتها، خوفا من غضب الأرواح والآلهة، كما هو معروف عن سلوك القبائل البدائية في أستراليا وغيرها ([11]).

بل يؤكد الباحث أن جذور هذا الاتجاه واضح في تاريخ الفكر الفلسفي فقد واجهت المرأة عبر تاريخ الفلسفة محنة الوعي الفلسفي، متمثلا بأفلاطون وأرسطو، ومن جاء بعدهما، الذي كان يؤسس لتبعية المرأة للرجل وعدم الاعتراف بوجودها الأنطولوجي، ففي نظر أفلاطون، أنها خلقت من نفس الرجل، وليس لها وجود مستقل([12]). بل إنه صنف النساء دائمًا في أحاديثه مع العبيد، والأطفال والأشرار والمخبولين من الرجال، أو مع الحيوانات والقطيع([13]).

كما ستتضح فكرة الفصل بين المجالين العام والخاص في آراء "أفلاطون" في قوله: "إننا نوكل على النساء الهيمنة على المخزون، والإشراف على عمليات الغزل، وما يتعلق بصناعة الصوف بوجه عام، ولكن لا يشاركن بشيء في أعمال الحرب، إذا فرضت الظروف على النساء أن يحاربن من أجل مدينتهن وأطفالهن، فأنهن سيكشفن عن عدم لياقتهن التامة للقيام بدور ماهر وبارع في استعمال القوس، مثل المحاربين، أو استعمال أي سلاح آخر من أسلحة القذائف"([14]). فالبيولوجيا سبب لاستبعاد النساء من أعمال الحرب والقتال والاقتصار على الأعمال المنزلية.

ومن ثم تجسدت الأحكام السلبية التي ألصقها الرجل بالمرأة -فيما يري الأستاذ الغرباوي- بسبب الفارق البيولوجي أو الجنسي. سواء في أصل وجودها أو اختلاف وظائفها وطبيعتها وضحًا جليًا لدى أرسطو حيث قال: علينا أن نعتبر خصائص النساء عيبا خلقيا!!. وأرسطو فيلسوف، تنسب له جميع العلوم، فكيف بالإنسان العادي؟([15]). من أجل ذلك كان يطالب بوضع المرأة تحت وصاية الرجل، لتدارك عدم عقلانيتها، وضعف الإرادة والتدبير([16]). حيث رأى أن جنس الذكر أصلح للرئاسة من جنس الأنثى، ومن ثُم فتسلط الذكور على الإناث مسألة طبيعية جدًا. وقد أرجع "أرسطو" Aristotle ( 384-322ق.م) أسباب هذا التسلط إلى الفرق في القدرة العقلية بين الذكر والأنثى، ومنها سيطرة الجانب العاقل من النفس على الجانب غير العاقل عند الذكر، ومنها ما يعتمد على جوانب بيولوجية كسلبية الأنثى باعتبارها الهيولي، وإيجابية الرجل بوصفه الصورة([17]).

وبناءً على ذلك، أشار الأستاذ "الغرباوي" إلى وجود جذور فكرة الحتمية البيولوجية في الفلسفة اليونانية والتي امتد إلى الفلسفة الحديثة حيث يلاحظ الموقف القاسي من المرأة في فلسفة "نيتشه" Nietzsche (1844-1900) ومختلف كتاباته، حتى وصفها بنصف البشرية الضعيف ومخلص الموقف الفلسفي من المرأة، هي رؤية سوداوية، متعسفة، تسلبها إنسانيتها، وتحملّها مسؤولية جميع موبقات الرجل([18]). حيث قال: ينبغي أن يربي الرجال للحرب، والنساء لاستراحة المحاربين. وكذلك رأى أن يكن حب المرأة هو الشرف الخاص بها... ومن أقواله: إذا ذهبت إلى النساء، فلا تنس السوط ([19]).

ويستطرد الباحث حديثة عن دونية وضع المرأة في سلبها قدسيتها في ظل الأديان قائلًا: إن ضعف الوعي وسذاجة العلوم آنئذٍ، لم يسمحا بتقصي جوهر الاختلاف بين الجنسين، وحقيقة الفوارق الجسدية والبيولوجية، خاصة ما قبل الأديان التي نسبت فيما بعد كل شيء لله تعالى. فكان من الطبيعي تعليلها في ضوء بيئته وقبلياته الثقافية. وكان الإنجاب أول ما أدهش الرجل، حتى رفعها لمقام الإلوهية، باعتبارها إلهة النسل والإنجاب، أو تكريما لأمومتها غير أن تطور الحياة، ووسائل الانتاج، ودخول الفكر الديني على الخط، سلب المرأة قدسيتها، وهبط بها إلى دونية مقيتة، حتى كان اليهودي يحمد الله الذي لم يخلقه امرأة، وهي تردد الحمد لله الذي خلقني كما أنا!!([20]). ويبدو لنا تأثر اليهودية بالموروث اليوناني فيما ذكره سقراط Socrates (470-399 ق.م) "أنَّ المرأة شرٌ لابدّ منه، فهو يحمد الله على ثلاثة أمور: إنَّه خُلق يونانيًّا وليس بربريًّا، حرًّا وليس عبدًا، رجلًا وليس امرأة"([21]).

لقد اعتبرت الديانة اليهودية المرأة مصدرا للإثم، وحملتها التوراة غواية آدم وإخراجه من الجنة، وجعلته يتملص من المسئولية([22]). وفي هذا الإطار ذكر الباحث في كتابه "المرأة وآفاق النسوية" ما ورد في «العهد القديم/ التوراة»: «وكَانَتِ الحَيَّةُ أَحْيَلَ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ البَرِّيَّةِ الَّتِي عَمِلَهَا الرَّبُّ الإِلهُ، فَقَالَتْ لِلْمَرْأَةِ: «أَحَقًّا قَالَ اللهُ لا تَأْكُلا مِنْ كُلِّ شَجَرِ الْجَنَّةِ؟» فَقَالَتِ المَرْأَةُ لِلْحَيَّةِ: «مِنْ ثَمَرِ شَجَرِ الجَنَّةِ نَأْكُلُ، وأَمَّا ثَمَرُ الشَّجَرَةِ الَّتِي في وَسَطِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ اللهُ: لا تَأْكُلا مِنْهُ ولا تَمَسَّاهُ لِئَلَّا تَمُوتَا». فَقَالَتِ الْحَيَّةُ لِلْمَرْأَةِ: «لَنْ تَمُوتَا! بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلانِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وتَكُونَانِ كاللهِ عَارِفَيْنِ الخَيْرَ وَالشَّرَّ». فَرَأَتِ المَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وأَكَلَتْ، وأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضًا مَعَهَا فَأَكَلَ. فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ. فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ وصَنَعَا لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ. وسَمِعَا صَوْتَ الرَّبِّ الإِلهِ مَاشِيًا في الجَنَّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ النَّهَارِ، فَاخْتَبَأَ آدَمُ وامْرَأَتُهُ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ الإِلهِ في وَسَطِ شَجَرِ الجَنَّةِ. فَنَادَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَقَالَ لَهُ: «أَيْنَ أَنْتَ؟!». فَقَالَ: «سَمِعْتُ صَوْتَكَ في الجَنَّةِ فَخَشِيتُ، لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ». فَقَالَ: «مَنْ أَعْلَمَكَ أَنَّكَ عُرْيَانٌ؟ هَلْ أَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ أَنْ لا تَأْكُلَ مِنْهَا؟» فَقَالَ آدَمُ: «المَرْأَةُ الَّتِي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أَعْطَتْنِي مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ». فَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ لِلْمَرْأَةِ: «مَا هذَا الَّذِي فَعَلْتِ؟» فَقَالَتِ المَرْأَةُ: «الحَيَّةُ غَرَّتْنِي فَأَكَلْتُ». فَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ لِلْحَيَّةِ: «لأَنَّكِ فَعَلْتِ هذَا، مَلْعُونَةٌ أَنْتِ مِنْ جَمِيعِ البَهَائِمِ ومِنْ جَمِيعِ وُحُوشِ البَرِّيَّةِ. عَلَى بَطْنِكِ تَسْعَيْنَ وتُرَابًا تَأْكُلِينَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكِ. وأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وبَيْنَ المَرْأَةِ، وبَيْنَ نَسْلِكِ ونَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ». وقَالَ لِلْمَرْأَةِ: «تَكْثِيرًا أُكَثِّرُ أَتْعَابَ حَبَلِكِ، بِالْوَجَعِ تَلِدِينَ أَوْلاَدًا. وإِلَى رَجُلِكِ يَكُونُ اشْتِيَاقُكِ وهُوَ يَسُودُ عَلَيْكِ»([23]) . أعتقد أن الأستاذ "الغرباوي" في رؤيته عن الوضع المتدني للمرأة في الديانة اليهودية مستمده من موروث فلاسفة اليونان الذين يقللون من شأن المرأة وينظرون لها على أنها مجرد سلعة، واعتبارها أصل الخطيئة والشرور، وكذلك كونها مخلوقًا ثانويًا خلق من أجل امتاع الرجال.

ويستمر الأستاذ "الغرباوي" في التطرق لمكانة المرأة في الديانة المسيحية حيث يقول: إن الشكّ في إنسانيّة المرأة، والموقف العنصري منها في النصرانيّة، على سبيل الشاهد، إنما جاء مستندًا إلى مواقف الكنيسة من المرأة. مواقف كانت تذهب، تارةً، ووفقًا للكتاب المقدس، إلى أن شهادة مئة امرأة بشهادة رجلٍ واحد، حسب العهد القديم. أمّا حسب العهد الجديد، فإن عليها أن تَخْرَس في الكنيسة، وأن تكون خاضعةً، خادمةً، لزوجها. وأن خير ما تتعلَّمه المرأة «السكوت والخضوع للرجل»! وأنْ ليس الرجل من المرأة، بل المرأة من الرجل، وهو تاج رأسها. وتكفيها جريرةً أنها أغوته للخروج من الفردوس، فقد اقترفت إثمًا أبديًّا مبينًا وخطيئة لا تُغتفر! وأن على المرأة إمَّا أن تغطِّي شَعرها أو أن تحلقه نهائيًّا. استنادًا إلى ما ورد في (الإنجيل): «فأُريد... كذلك أَنَّ النِّسَاءَ يُزَيِّنَّ ذَوَاتهنَّ بِلِبَاسِ الحِشْمَةِ، مَعَ وَرَعٍ وتَعَقُّل، لا بضَفَائِرَ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ لآلِئَ أَوْ مَلاَبِسَ كَثِيرَةِ الثَّمَنِ، بَلْ كَمَا يَلِيقُ بِنِسَاءٍ مُتَعَاهِدَاتٍ بِتَقْوَى اللهِ بِأَعْمَال صَالِحَةٍ. لِتَتَعَلَّمِ المَرْأَةُ بِسُكُوتٍ في كُلِّ خُضُوعٍ. ولكِنْ لَسْتُ آذَنُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُعَلِّمَ ولا تَتَسَلَّطَ عَلَى الرَّجُلِ، بَلْ تَكُونُ فِي سُكُوتٍ، لأَنَّ آدَمَ جُبِلَ أَوَّلًا ثُمَّ حَوَّاءُ، وآدَمُ لَمْ يُغْوَ، لكِنَّ المَرْأَةَ أُغْوِيَتْ فَحَصَلَتْ في التَّعَدِّي. ولكِنَّها سَتَخْلُصُ بِوِلاَدَةِ الأَوْلاَدِ، إِنْ ثَبَتْنَ في الإِيمَانِ والمَحَبَّةِ والقَدَاسَةِ مَعَ التَّعَقُّلِ.» «وأُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا أَنَّ رَأْسَ كُلِّ رَجُل هُوَ الْمَسِيحُ، وأَمَّا رَأْسُ المَرْأَةِ فَهُوَ الرَّجُلُ، ورَأْسُ المَسِيحِ هُوَ اللهُ. كُلُّ رَجُل يُصَلِّي أَوْ يَتَنَبَّأُ ولَهُ عَلَى رَأْسِهِ شَيْءٌ، يَشِينُ رَأْسَهُ. وأَمَّا كُلُّ امْرَأَةٍ تُصَلِّي أَوْ تَتَنَبَّأُ ورَأْسُهَا غَيْرُ مُغُطَّى، فَتَشِينُ رَأْسَهَا، لأَنَّهَا والمَحْلُوقَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ بِعَيْنِهِ. إِذِ المَرْأَةُ، إِنْ كَانَتْ لا تَتَغَطَّى، فَلْيُقَصَّ شَعَرُها. وإِنْ كَانَ قَبِيحًا بِالمَرْأَةِ أَنْ تُقَصَّ أَوْ تُحْلَقَ،//// فَلْتَتَغَطَّ. فَإِنَّ الرَّجُلَ لا يَنْبَغِي أَنْ يُغَطِّيَ رَأْسَهُ لِكَوْنِهِ صُورَةَ اللهِ ومَجْدَهُ. وأَمَّا المَرْأَةُ فَهِيَ مَجْدُ الرَّجُلِ. لأَنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ مِنَ المَرْأَةِ، بَلِ المَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلِ. ولأَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يُخْلَقْ مِنْ أَجْلِ المَرْأَةِ، بَلِ المَرْأَةُ مِنْ أَجْلِ الرَّجُلِ. لِهذَا يَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ أَنْ يَكُونَ لَهَا سُلْطَانٌ عَلَى رَأْسِهَا، مِنْ أَجْلِ المَلاَئِكَةِ...».([24]) . ويؤكد الباحث أن الثقافة الإنجيلية ظلت تتساءل ردحا طويلًا من الزمن: هل المرأة بشر أم حيوان أو شيطان, وكان مؤتمر ماكون حسم الجدل حول حقيقتها([25]).

وألاحظ من خلال عرض آراء الأستاذ "الغرباوي" عن قهر المرأة في الثقافة الإنجيلية تأكيده متوار على الفارق بين رؤية المسيحية من مكانة المرأة كما جاء بها المسيح -عليه السلام-، وبين رؤية آباء الكنسية للمرأة والتي جسدت الموروث اليوناني واليهودي. لذلك سأعرض بشكل وجيز عن وضع المرأة في كلا الاتجاهين:

الاتجاه الأول:

الذي يمثل رؤية المسيح -عليه السلام- للمرأة، فلقد كانت علاقة المسيح بالنساء ممتازة، فقد آمن به، واتخذهن صحابیات وتلميذات وتابعات، وقد أقر المسيح بحسب الأناجيل: الكثير من التصورات والقوانين التي تعتبر في صالح النساء، فمنع المسيح من النظر إلى المرأة واعتبره نوعًا من زنى القلب والتحرش، ولم يقصر الزنى على الممارسة الكاملة وكذلك يحرم الطلاق، وكذلك شفى نساء مريضات([26]). لقد أراد المسيح للمرأة أن تكون حرة في أن تعيش حياتها كامرأة، وأن يقبلها المجتمع كما هي، وأنه لا يوجد تمايزًا بين الجنسين في أي من المجالات الحياتية مدنية كانت أم إنسانية، باعتبار النساء كائنات بشرية كاملة([27]).

الاتجاه الثاني:

يتمثل في رؤية آباء الكنسية للمرأة والذي عُرف بعصر الآباء قد امتد من القرن الأول حتى وصل إلى قمته في القرن الرابع عند القديس "أوغسطين" ST Augustine (354-430م) الذي يختم عصر الآباء([28]).

لابد من توضيح أن التراث القديم الذي كان سائدًا قبل ظهور المسيحية –وهو التراث (اليوناني-الروماني) من ناحية، واليهودية من ناحية أخرى – يحجب أفكار السيد المسيح الجديدة عن المرأة، حتى أن بولس اليهودي الذي عاش في بيئة يونانية –رومانية يأتي ليدعم التراث القديم، ويثبت أفكاره، ويضع حجر الأساس في بناء النظرية المسيحية عن المرأة التي سادت عصر الآباء الفلاسفة، كما رددها فلاسفة العصر الوسيط أيضًا([29]).

وبالتالي أن نظرة اللاهوتيين والفلاسفة المسيحيين –كعادة رجال الدين دائمًا- تركز على الجنس؛ فالمرأة لا هي إنسانة، ولا صديقة، ولا زميلة ...إلخ، ولكنها مجرد "وعاء للتناسل"([30]). سنجدها تتجسد في آراء "توما الأكويني" Thomas Aquinas (1225- 1274م)-على سبيل المثال-، حيث ذكر في كتابة الخلاصة اللاهوتية "إن المرأة صنعت عونًا للرجل. وهي لم تصنع عونًا له إلا التوليد الذي يحصل بالجماع وإلا فالرجل أفضل إعانة للرجل من المرأة على بقية الأعمال....ويرى أن المرأة خاضعة طبعًا للرجل لأنه أحكم طبعًا منها([31]) وأوضح سبب ذلك بأن الرجل ليس من المرأة بل المرأة من الرجل. ولم يخُلق الرجل لأجل المرأة بل المرأة لأجل الرجل([32]). إن القديس "الأكويني" جرد المرأة من جميع حقوقها الطبيعية كإنسان، وأصبحت المرأة بالنسبة له كالوعاء يُملأ ثم يُفرغ مرة أخرى في إطار شرعي رسمه الرب وليس للمرأة أهمية إلا للتناسل والإنجاب فقط وهي رؤية متدنية إلى أبعد الحدود، وما كان ينبغي أن تصدر عن قديس كبير مثل "توما الأكويني"([33]).

ومن خلال العرض السابق، نستخلص من موقف الأستاذ "الغرباوي الآتي:

- توضيحه للفارق الجلي بين دور الدين المسيحي في مساواته بين الرجل والمرأة بوصفهما كائنات بشرية لهما نفس الحقوق الإنسانية والمدنية، وبين وضع المرأة في عصر آباء الكنيسة فهي رمز للخطيئة وأداء الإنجاب والتناسل فحسب.

- يلاحظ إقرار الباحث أن موقف الديانة اليهودية والمسيحية من المرأة باعتبارها رمز للخطيئة وأصل الشرور؛ إنما ناتج عن تأويل رجال الدين للنصوص الدينية بما يخدم العادات والتقاليد السائدة داخل المجتمع آنذاك، ووفقًا لقناعات الباحث -فيما أرى- من المستحيل أن يحتوي الكتاب المقدس على ذلك الأمر. ولكن ماذا عن وضع المرأة في العصور الوسطى الإسلامية فيما يرى الغرباوي؟

يصف لنا الأستاذ "الغرباوي" البيئة العربية قبل الإسلام حيث كيف كان وضع المرأة المتدني في الجاهلية، وازدرائها قبل بعثة "الرسول -صلى الله عليه وسلم- قائلًا: " لقد كانت معظم آلهتهم العتيقة مؤنَّثة، وتصوَّروا ملائكة الرحمن إناثًا. ولكن يا لمفارقات المجتمعات البشريّة وما بينها من تضادّ القِيَم، وتحوّلات الاتجاهات، حتى في الأُمّة الواحدة. فجاء فيهم وأد المرأة، لأسباب اقتصاديّة واجتماعيّة، وتوارثوا سبي النساء في الحروب واضطهادهن. ورسّخ الشِّعر العربي صورة المرأة العورة، المرأة التي لا تستحقّ الحياة، وهي عِبء على الرجل وعلى الحياة، مثلما جاء في شِعر (البحتري) و(أبي تمّام) و(المعرّي)([34]) .

ومن ثم ضلت ثقافة الاستنكاف من المرأة -فكرة الحتمية البيولوجية- يعود لأسباب بيولوجية، فهي فتنة، تغري الذكر، وتجلب العار حينما تنزلق بالخطيئة: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)([35]). وبذلك يوضح لنا الباحث اختلاف نظر الرجل للمرأة في القرون الماضية في العصر الأمومي عن اليوم؛ فالأمس قدست المرأة ووضعت في مرتبة الآلهة عند بعض القبائل، أما اليوم ينظر إليها نظرة دونية؛ بسبب فلسفة الفارق البيولوجي بين الرجال والنساء السائدة في المجتمعات الأبوية للإقرار بهيمنة الرجل عليها.

ولكن يؤكد الأستاذ "الغرباوي" على أن الدين الإسلامي أول من نبذ فكرة التمايز بين الجنسين بسبب الأسباب البيولوجية حينما دعا إلى وحدة الطبيعة البشرية، في تفسير آية: (... اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة). ومجّد الاختلافات الوظيفية، حينما شرع أحكاما لحمايتها، وفهمها فهما إنسانيا: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ أشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)([36]). وبالتالي، فالإسلام انتشل المرأة من سطوة الرجل، الذي كان يلغي وجودها. فالرجل هو بالأساس صاحب السيادة والقيادة، وليس الإسلام هو الذي سيّده على المرأة([37]). فبناء على ذلك، يتضح لنا أن الدين الإسلامي نظر إلى المرأة بوصفها كائنًا إنسانيًا مستقل بذاته.

ولكن على أرض الواقع على الرغم من أن الدين الإسلامي دعا لنبذ فكرة التمايز بين الرجال والنساء إلا أن النظرة الذكورية الكلاسيكية ظلت ممتدة إلى المجتمع العربي لتطبيق فكرة اللامساواة بين الجنسين باسم الدين الإسلامي. من أجل ذلك طرح د. "محمود على" (1966) سؤال على الأستاذ الغرباوي قائلًا: "رغم التحولات في الشخصية العربية بعد البعثة النبوية، لكن التحول الراديكالي، لم يمس قيم المجتمع الأبوي، مع أن القرآن رسالة إنسانية وعالمية طموحة حسب الفرض، فلماذا لم يعالج منظومة قيم العبودية بشكل أكثر جذرية، بل ويظهر من بعض نصوصه انحيازه للذكورة على حساب الأنوثة، كما يفهم ذلك المنطق الفقهي الذكوري؟"([38]).

يقول الباحث: لا شك أن القرآن أنصف المرأة قياسا بما قبل البعثة، وأعاد لها إنسانيتها المهدورة، تحت وطأة قيم العبودية والاستبداد الذكوري، عندما وضعها على قدم المساواة في التكاليف الشرعية، وما يترتب عليها من ثواب وعقاب. وأنصفها حقوقيا قياسا بما سبق أيضا، في مسألة الإرث، ووجوب النفقة على الزوج، وحقها في الرضاعة([39]).

والدليل على أن القرآن قد أعاد للمرأة إنسانيتها؛ فلا تصدق من المرأة استجابة لدعوة الله وعقدًا لعقيدة الإيمان إلا إذا كانت أصيلة مستقلة، فالدخول في دين الله عمل عيني لا تصح فيه الوكالة ولا يؤخذ بالإضافة إلى أب أو زوج أو قريب. هكذا كانت بيعة الإسلام بين يدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- تأخذها المرأة لنفسها كما يأخذها الرجل، قال تعالي: {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله غفور رحيم} (سورة الممتحنة 12)([40]) .

ففي عهد الرسول والصحابة لها حرية التعبير العام عن رأيها، وكانت السيدة عائشة رضى الله عنها تتصدى للفتوى، وكان النساء يجادلن برأيهن بين يدى النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين يدي خلفائه. وروى ابن الجوزي في مناقب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن عمر نهى الناس عن زيادة المهور وخطب فيهم قائلًا: لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال، ثم نزل، فقامت امرأة من صف النساء كويلة في أنفسها فطس فقالت: ما ذلك لكِ، قال: ولم؟ قالت: لأن الله تعالى يقول: واتيتم إحداهن قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا أتاخذونه بهتانا وإثمًا مبينا (النساء 20 ) فقال عمر: إمرأة اصابت ورجل أخطأ كل الناس أفقه من عمر.... بل كان للمرأة أن تشارك في تنصيب القائمين بأمر المجتمع إنتخابًا ونصحًا كما ورد في قصة الشورى بعد عمر وإشراك النساء فيها قال ابن كثير: ثم نهض عبد الرحمن بن عوف -رضى الله عنه- يستشير الناس فيهما – عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب – ويجمع رأى المسلمين برأي رؤوس الناس وأقيادهم جميعًا وأشتاتًا مثني وفرادى ومجتمعين، سرًا وجهرًا حتى خلص إلى النساء مخدرات في حجابهن([41]).

وبذلك يشهد التاريخ بعدد من الوقائع التي تذكر تفوق ونشاط المرأة العربية القديمة. فكانت تشارك في الغزوات وتعمل في التجارة ولها الحرية بأن تعتنق الدين الذي يناسبها دون أن تتبع إرادة زوجها سلبيا. وإن قارنا دور المرأة في تاريخ العرب القديم ودور المرأة الآن في المجتمع الإسلامي، يمكننا أن نقول مع رينان لأن المرأة العربية في زمن محمد لا تشبه مطلقا هذا الكائن الغبي الذي يسكن قصور الحريم في عهد العثمانيين ... كانت المرأة العربية القديمة جميلة لأن دورها كان فعالًا([42]). وعلى الرغم من مشاركات المرأة في المجال العام ودورها الفعال والريادي في الحياة الاجتماعية والدينية إلا أن الوضع اختلاف بشكل كبير عقب وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهنا يسعى الباحث لتوضيح الأسباب الرئيسية وراء دنو مكانة المرأة على النحو الاتي:

1- القيم والثقافة الراسخة:

فهي تحتاج إلى وقت طويل إلى حين استبدال تلك المقولات، الموجهة لوعي الفرد داخل المجتمع القبلي، وهذا غير العقيدة، ومع ذلك عانى الإسلام إلى حين تقبل العرب عقيدة التوحيد، وقد تواصلت دعوته 23 عاما كما تعلمين. وبالتالي، ليس هناك صدارة للرجل على حساب المرأة، وليس في ذلك موافقة على (تصدّره، وسحقه للمرأة)، كما تتصورين([43]) .

2- لم يلتزم الرجل دينيا:

وسرعان ما عاد بعد وفاة الرسول بدويا، وعاد إلى عنجهيته، ثم بلا شك أن سلطة الرجل وسطوته عرقلت تقدم وتطور المرأة وقتلت قابلياتها، حتى طال أمد صراعها معه، ولم تنتزع حقوقها منه إلا بعد قرون متطاولة. في الغرب ايضا كانت المرأة ملغاة ممتهنة، ليس لها وجود حقيقي، حتى تفجرت الثورات، وتحقق التحول المفاهيمي إلى واقع، بهذا الوضع فقط استطاعت المرأة بعد كفاح مرير ان تنتزع حقوقها. فطبيعة الرجل واحدة، لا تختلف بين المسلمين وغيرهم ([44]).

3- ضرورة التفريق بين المبادئ والتشريعات:

فعلى الصعيد الإنساني كما تقدم المرأة توأم الرجل في المنطوق الديني، ولا فرق بينهما وجودا وتكوينا .. المرأة إنسان كامل، هذا ما قرره القرآن ورتب عليه أحكامه. فمن حيث المبادئ الإنسانية نالت المرأة حقوقها كاملة، منذ فجر الرسالة وستبقى. فالمرأة في نظر الإسلام إنسان كامل يتمتع بكافة الحقوق البشرية([45]).

أما بالنسبة للتشريعات، فلا ننسى أن تشريعات الدين يحدها الزمان المكان، وعلى الفقيه أن يعي مقاصد الشريعة وغاياتها، ويدرك حقوق المرأة في ظل زمان ومكان مختلف عما قبل 1500 سنة. لذا؛ بعض الاصوليين يعتبر معرفة الزمان والمكان ومقاصد الشريعة شرطا في ثبوت الاجتهاد. يعني ما لم يكن الفقيه خبيرا بمقاصد الشريعة وحاجات زمانه ومكانه لم يصدق عليه مجتهدا ([46]). فالأمر مرتبط بالفقيه وقابلياته في فهم النص وفقا لظروفه. فيكون التشريع خالدا عندما يراعي الظروف الزما - مكانية، في ضوء مقاصد الشريعة وغاياتها. لذا عندما يجمد الفقيه على الفهم السائد (الذي هو تقليد حرفي لمن سبقه من الفقهاء)، يظهر جليا تخلف التشريع مع الأسف الشديد، قياسا بلوائح حقوق الإنسان. لكن عندما يعي الفقيه ظرفه وحاجات الإنسان، لا تبقى ثغرة للطعن في تشريعات الإسلام([47]).

4- وعي رجل الدين:

قدرت رجل الدين على فقه النص. فعليه أن يفهم المراحل التاريخية، والضرورات الحياتية. وإن المرأة المعاصرة، غير المرأة قبل 1500 عام. وحقوقها الآن تقاس وفقا لدورها الحالي، أسوة بالرجل. ولا تقاس على دورها ما قبل الرسالة، حيث كان زمام الامور مطلقا بيده، وليس على المرأة أي مسؤوليات اجتماعية إلا ما يخص العائلة وشؤونها. المرأة اليوم حاضرة في كل مناحي الحياة العملية والسياسية والفنية و .. و .. و([48]).

وبناءً على ذلك، للبيئة الاجتماعية التي يعيش فيها الإنسان تأثير بالغ على تصوراته وقيمه، وهي التي تشكل أفكاره واهتماماته، وتصنع في الغالب الأعم همومه وأطروحاته، وتشكل لديه تفاعلا تجاه أحداثها إيجابا أو سلبا، قبولا أو رفضا. ويثبت علماء النفس أن الإنسان يتأثر بما يحيط به من عوامل بيئية، تشكل شخصيته النامية، إذ تنشأ في جوهرها من تفاعل الفرد مع البيئة الاجتماعية والثقافية التي يعيش فيها([49]) وبالتالي تأثر بعض رجال الدين بالبيئة الاجتماعية بما فيها من عادات وتقاليد يغلب عليها طابع الهيمنة الذكورية في تفسيراتهم للنص الديني.

وهنا يسعى الأستاذ "الغرباوي" ليبين اختلاف الفقهاء حول تفسير النص الديني من خلال التعرض لمفهوم القوامة(¨) وموقف الفقهاء منه حيث يقول حتى في آية "الرجال قوامون على النساء". ليس هناك تسييد، وإنما قوامة اقتصادية نسبية، تنتفي بانتفائها، فليس هناك تفضيل بهذا المعنى؛ لأن التفضيل قرآنيا دائما على أساس التقوى، ذكرا وأنثى (ان أكرمكم عند الله أتقاكم) ([50]) .

وحري بنا التطرق إلى تفسير "ابن كثير" - لقوله تعالى: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْ والِهِمْ﴾ (النساء: 34) قال ابن كثير: "الرجل قيم على المرأة أي: هو رئيسها وكبيرها وحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت، (بما فضل الله) أي: لأن الرجال أفضل من النساء، والرجل خير من المرأة، ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال وكذلك الملك الأعظم، لقوله صلى الله وعليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"([51]).

استدل ابن كثير بهذه الآية على أن الرجال أفضل من النساء، والمفسرين لهم توجيه لهذه الآية يخالف ابن كثير فيما ذهب إليه، قال "الرازي": "اعلم إنه تعالى لما قال: ﴿ وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ (النساء: 32 )، إن سبب نزول هذه الآية أن النساء تكلمن في تفضيل الله الرجال عليهن في الميراث، فذكر تعالى في هذه الآية أنه إنما فضل الرجال على النساء بالميراث، لأن الرجال قوامون على النساء، والقوام اسم لمن يكون مبالغا في القيام بالأمر يقال: هذا قيم المرأة وقوامها للذي يقوم بأمرها ويهتم بحفظها" ([52]).

وخلاصة القول: فالتفسير الذكوري كما يقول الأستاذ الغرباوي، كرّس سلطته وفوقيته واستبداده، ومنحها بعدا شرعيا، سلب المرأة قدرة التحرر الذاتي، التي هي شرط أساس لتطور الحركة النسوية، خاصة المسلمة. فثمة أسيجة مقدسة، منح الرجل نفسه حق صيانتها والدفاع عنها، باعتبارها دفاعا عن الذات، وقد تولى الفقيه تعزيزها بفتاوى تستمد شرعيتها من ذكوريته، وليس أمام المرأة المسلمة سوى التمرّد على فتاوى النسوية، والعودة لآيات الكتاب، وفقه المرأة في ضوء مبادئ حقوق الإنسان، وما هو ثابت ومحكم من آيات الكتاب. بعد تمزيق ثقافة التهميش، وأدواتها من عادات وتقاليد وأعرف، كبلت إرادة المرأة([53]).وهذا يذكرنا بقول "ليفي برول"(*) Lucien Lévy-Brel ( 1857-1939م) "إن العادات المتأصلة في أفكارنا وعواطفنا، وآلاف الروابط غير المحسوسة التي تربطنا بماض يعتقد أنه انتهى، هذه العادات شئنا أم أبينا تجعلنا دائما نصب النبيذ الجديد في الأقداح القديمة ونضع الأفكار الجديدة في البراويز القديمة "([54]).

ألاحظ من طرح الغرباوي لمكانه المرأة في الإسلام الآتي:

-ابتعاد المسلمين عن نهج الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته حيث سيطرة العادات والتقاليد والأعراف الجاهلية التي كانت تمنح السيادة والقيادة للرجال على النساء بوصفها قوانين تمنع المرأة من تقلد المناصب العامة أو العلمية أو الدينية على الرغم مما قدمته في مجال الفقه والوعظ والإرشاد والأدب والشعر.

-يوضح لنا الغرباوي أن الدين الإسلامي يتشكل من عاملين الأول عامل ثابت متمثل في النصوص التشريعية المقدسة القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة التي يصح رؤيتها للرسول -صلى الله عليه وسلم-. الثاني عامل متغير متمثل في اجتهاد علماء الدين والفقهاء والتي ترتبط بظروف البيئية والمجتمع.

-يناقش الباحث التأثير السلبي للنظام الأبوي على تراث الدين الإسلامي وحياة المرأة، ويدعو إلى رفض الأسس الفقهية المغلوطة التي تعلن تفوق الرجل على المرأة بل ومعاداتها لكونها رمز الخطيئة.

ونتيجة للاعتماد على الحتمية البيولوجية أو فلسفة الفارق البيولوجي ترسيخ فكرة أفضلية جنس الرجال على النساء وتفوقهم في السياسة والاقتصاد والفنون والمعارف ظهر الاتجاه الثاني الذي يدعوة إلى التمركز حول الاثني لإقصاء الذكور فترى ما طبيعة هذا الاتجاه ؟ وما النتائج المترتبة عليه؟ وموقف الأستاذ الغرباوي منه؟.

2- الاتجاه الثاني التمركز حول الأنثى:

من أكثر التيارات النسوية إثارة للجدل في موجتها الثانية والثالثة تيار النسوية الراديكالية المتطرفة حيث استند على فلسفة الفارق البيولوجي لإقصاء الذكور؛ فقد رأى أن الفوارق البيولوجية التي هي فوارق طبيعية، مبررا للتمركز حول الأنثى، والدعوة لإقصاء الذكورة، وإحلال الأنوثة محلها([55]).

وقد نتج عن هذه الدعوة التي أطلقتها النسويات الراديكاليات المتطرفة في الولايات المتحدة - في أواخر ستينيات من القرن الماضي- توجيه انتقادات شديدة للأسرة: (الأسرة البيولوجية) ورأت أن "الطبقة الجنسية" السبب الرئيس لاضطهاد المرأة، ويجب إلغاؤها([56]). حيث ذكرت "هيلدا ليندمان نيلسون" أن الحركة النسوية وجدت أن معظم أشكال الأسر السائدة في التاريخ وفي الوقت الحاضر مدمرة لفكرة مساواة المرأة داخل المنزل وفي جميع مجالات الحياة الأخرى، وأحيانًا لرفاهيتها الأساسية؛ بسبب قضايا الأسرة، تربية الأطفال والأعمال المنزلية، وكذلك إدارة شئون الأسرة أمرًا حتميًا وجب على المرأة القيام به دون اعتباره عملًا على الإطلاق. وقد استخدم دور المرأة الطبيعي المزعوم داخل الأسرة لعدة قرون لتبرير استبعادها عن الحقوق المدنية والسياسية، وعديد من المهن على أرض الواقع، فأصبحت غير متواجدة بشكل واضح، إلى جانب أن تبعية المرأة الاقتصادية ومكانتها الثانوية داخل الأسرة جعلتها عرضة لأشكال مختلفة من الإساءة الجسدية والجنسية والنفسية([57]). ويبدو لي أنه بسبب المغالاة في تمجيد القيم الذكورية سعت النسوية الراديكالية المتطرفة لفرض ثقافة بديلة تتمثل في القيم الأنثوية.

ولكن التساؤل ما حقيقة موقف الأستاذ الغرباوي من اتجاه التمركز حول الأنثى؟

يؤكد الأستاذ "الغرباوي" فى كتاباته رفضه لذلك التيار قائلًا: لا أدعو لإحلال الأنوثة محل الذكورة، ورأي أن العلاقة قائمة على التشارك الإنساني، فثمة فرق حينما يتفهم كل منهما وظيفته على أسس إنسانية، وبين أن يتعامل معها بمنطق القيمومه والإقصاء، باعتباره قدرها، وقصور عقلها وإرادتها. في الحالة الأولى يمكن لهما التعاون في الحياة في شتى المناحي، باستثناء ما اختصتهم به الطبيعة البشرية. لكن في الحالة الثانية، تكون التبعية والانقياد قدر المرأة، من وحي أنوثتها والفوارق التي ابتلت بها. وأي تقصير لأي سبب كان، عليها تحمّل تبعاته، كالضرب في الفراش، والتحكم بحريتها، وتقييد إرادتها([58]).

وأوضح خطورة دعوة النسوية الراديكالية المتطرفة للفصل بين الجنسين وإحلال الأنوثة محل الذكورة على الأسرة النمطية حيث ذكر:

أن دعوة الراديكالية المتطرفة إلى ضرورة فصل النساء عن مجتمع "الذكور" بشكل تام وتقيم مجتمعًا خاصًا، باعتبار أن المرأة في حالة عداء دائم مع الرجل..... على أن جذر عبودية المرأة يكمن في الجانب بيولوجي تمثل خصوصية المرأة، وتجعلها أرقى منه بتفردها بالإنجاب!!. وبهذا الاتجاه راحت تؤسس لمنحى جديد في مفهوم النسوية، يرتكز لثنائية صلبة، حتى دعت "شولاميت فايرستون" إلى التحرر من الحمل والإنجاب بالاستفادة من تقنيات الإنجاب الحديثة، وأطفال الأنابيب، وإستئجار الرحم، لتتحرر من عبودية الإنجاب، ومن ثم التحرر من عبودية المجتمع الأبوي، وإحلال مركزية المرأة بديلًا عن مركزية الرجل([59]). حيث كتبت "ستيلا ساندفورد" على لسان "فايرستون": "إن التكاثر الاصطناعي ضروري للسيطرة على خصوبة الإنسان والإطاحة بطغيان الأسرة النووية، حيث يتطلب القضاء على الطبقات الجنسية وتمرد الطبقة الدنيا (النساء) والسيطرة على عملية الإنجاب: ليس فقط استعادة المرأة لجسدها بشكل كامل، ولكن أيضًا السيطرة والتحكم في خصوبة الإنسان، وسيتم استبدال تكاثر النوعين من قبل جنس واحد لصالح كليهما (على أقل خيار)، فمن خلال التكاثر الاصطناعي: سيولد الأطفال لكلا الجنسين على قدم المساواة، أو بشكل مستقل عن أي منهما، وبذلك سيتم تحطيم طغيان الأسرة البيولوجية"([60]).

وأوضح الأستاذ "الغرباوي" أن أطروحة النسوية الراديكالية تعد مغالطة واضحة للعيان، فلا إنجاب بمعزل عن الإخصاب الذكرى. حتى لمن تتمرد عليه، تحتاجه([61]).. وبالتالي لا أتعاطف مع النسوية الراديكالية المتطرفة، التي تنطلق من عقدة متأصلة من الرجل، لا شك أن لها أسبابها الوجيهة، غير أن الحلول جاءت متطرفة. فانتشال المرأة من تخلفها، واستعادة حقوقها، في الحرية والمساواة، لا يتحقق بالسحاق والإباحية والشذوذ الجنسي. ولا بهدر الأسرة، وإسقاط الذكر أو الاستغناء عنه، وربما الحالات الشاذة تخلق عاهات نفسية واجتماعية جديدة، وتترك فراغا لا شعوريا، ينعكس على المجتمع وعلاقاته العامة. ولا دليل أن الاتجاه الراديكالي المتطرف ساعد على تطور المرأة. فالدعوة النسوية الراديكالية المتطرفة، تهدد على المدى البعيد بانقراض النوع الإنساني([62]).

واتفق مع ما يراه الباحث في أن دعوة النسوية الراديكالية المتطرفة سيترتب عليها إلغاء الاسترقاق البيولوجي والجنسي للمرأة إلى ظهور دعوات ثورية للقضاء على فئات الجنس ويتردد صدى الفلسفة الجنسية، الآن لصالح نظرية الكوير وما بعد الحداثة النسوية([63]).

وبعد تفنيد الباحث للاتجاهات السابقة الناتجة من مبدأ الحتمية البيولوجية سنطرح تساؤلًا ما حقيقة موقف الغرباوي من قضية الحتمية البيولوجية وحصر المرأة في دور ممارسة الأمومة؟

ثالثًا- موقف الغرباوي من حصر المرأة في دور الأمومة بسبب الحتمية البيولوجية:

يشير الباحث إلى أن كفاح المرأة عبر التاريخ لتأكيد ذاتها، ونضال مستمر للتحرر من هيمنة الرجل ووصاياه الذكورية، ولم تترك المرأة فرصة إلا واستثمرتها لتأكيد الذات، مما يؤكد أصالة البعد الإنساني، على الضد من الخطاب الميثولوجي والخرافي، الذي ينسبها لضلع الرجل، وأنها سيئة من سيئاته. يشهد لذلك تصدي المرأة لمسؤولياتها، متى توفرت الأجواء المناسبة، ويشهد الكتاب الكريم لملكة سبأ، الذين حكمتهم بأداء سياسي متوازن. وغيرها أمثلة كثيرة، من التاريخ والواقع، حيث قوة حضورها ([64]).

ولا يخفى حجم ما تحدثت عنه الأساطير القديمة عن المرأة الإله، سواء في سلوكها الإيجابي أو السلبي، الذي كان يتمثل في تهورها بالقوة، والاستهتار بالجنس وبالحياة، لكن بالتالي كل هذا يؤكد قوة حضورها، فعلاقة المرأة بالأساطير نالت مساحة واسعة من رمزيتها، ودونت لنا تاريخ المرأة عبر المقدس والمدنس، وعبّرت عن مكامن رغباتها في الخير والشر، والأهم أجد في بعض الأساطير نضالا دؤوبا لتأكيد الذات، واستعادة إنسانيتها. فهي حينما ترغب بالانفصال عن الرجل، تريد تأكيد ذاتها، وإنسانيتها ([65]). ألاحظ من خلال طرح الباحث نموذح نسائي رائد في زمام القيادة والحكم ذكر في القران الكريم ألا وهى ملكة سبأ التي تتصف بالحكم الرشيد والقدرة على مواجهة المستجدات يريد أن يؤكد لنا قدرة النساء أن تتصدر بجدارة المجال العامة وأن تتقلد المناصب العامة، لم يكتف بذلك أكد على حضور المرأة منذ القدم لتأكيد ذاتها .

ولكن على الرغم من محاولات المرأة تأكيد ذاتها منذ فجر التاريخ الإنساني إلا أن الأمومة تمثل في الموروث الشعبي صورة نموذجية للمرأة، دون خصائصها ومميزاتها الأخرى. وكأن المرأة لا وجود لها دونها: كيف يفسر لنا الباحث حقيقة ذلك الأمر؟ وما الأسباب التي أدت إلى ترسيخ الأمومة كموروث شعبي يمثل الصورة النموذجية للمرأة؟

يفسر لنا الأستاذ الغرباوي أن قدسية الأمومة قاسم مشترك بين الشعوب، نابع عن تعاطف إنساني مع قلقها، وحجم تضحياتها، وقد عززته الشرائع والأديان والأعراف (فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا). فالأمومة زينة المرأة وسرّ قدسيتها. وهذا لا يلغي خصالها الأخرى، ولا يجعل من الأمومة مقياسا وحيدا لشخصيتها. المرأة بما تتمتع به من خصائص وإيجابيات وقوة حضور داخل المجتمع. فالمقياس المتوارث لقيمة الأمومة، يستمد شرعيته من تعاطف الأبناء مع الأمهات، ومن تعهد المجتمع بحفظ قدسية الأمومة. وهي مشاعر متوارثة بفعل العاملين الثقافي والنفسي. فالأبناء يشعرون بمعاناة الأم وحجم ما تقدمه، ويقدرون قلقها وأرقها، فيتأثرون لا شعوريا بمواقفها، خاصة "قلق الأمومة". ولا فرق في ذلك بين الأم الشرقية والأم الغربية من حيث المشاعر، فكلاهما أم، غير أن نظرة المجتمع لا تقتصر على موضوع الأمومة في تقييم المرأة، وتنظر إلى حجم حضورها. فزاوية النظر تختلف بين الثقافتين([66]).

وبناء على ما سبق، يتضح أن مشاعر الأمومة لدى الأستاذ "الغرباوي" تنتاب أي امرأة سواء شرقية أو غربية نظرًا لكونها غريزة فطرية إنسانية تخص كل أنثى، ولكن الاختلاف بين المجتمع الشرقي والغربي في النظر للمرأة فبينهما تقليص دور المرأة في المجتمعات الشرقية على الدور الرعائي وتمجيد الحياة المنزلية واستبعادها عن المجال العام والتقليل من حجم تقلد المناصب العامة والقيادية، في حين نجد للدولة في المجتمع الغربي دورًا في دعم المرأة للمشاركة بالمجال العام . ويدلل على ذلك بقوله: "إن المرأة في المجتمعات المتطورة تمارس حياتها بثقة كاملة، وتفرض نفسها من خلال قوة حضورها. لا فرق بينها وبين الرجل من هذه الناحية بالذات. مما يؤكد دور الدولة في تحرر المرأة من سطوة الرجل والمجتمع. فثمة قوانين تحميها وتمنحها حقوقها كاملة، فتغدو العلاقة بينهما علاقة إنسانية لا سلطوية، يمكنها الاستغناء عنه، والتمرّد على فوقيته، دون التأثر بتبعات الانفصال. فقوانين المجتمع المدني تؤهل المرأة وعيا وسلوكا ومسؤولية، بعيدا عن سلطة الرجل، حداً يمكنها وعي الذات مستقلة تماما، وهي تمارس حياتها وفقا لهذه الرؤية. وهذا المستوى من الوعي ساعدت عليه إضافة للقوانين البيئة الثقافية المترشحة عن مبادئ حقوق الإنسان. تلك المبادئ التي حيّدت سلطة الكنيسة وموقفها من المرأة. وقدمت فهما مغايرا للدين، يستبعد سلطة الكاهن، ويمكن للفرد أن يعيش تجربته الدينية، كممارسة عبادية، بينه وبين خالقه"([67]). مما سبق يتضح، إنه على الرغم من تأثير الأديان والثقافة والعادات في تعزيز دور الأمومة في حياة المرأة إلا أنها ليست عقبة في مشاركتها في عملية الإبداع وصنع الحضارة.

ثم ينتقل الأستاذ "الغرباوي" إلى سبب آخر للنظر الكلاسيكية للمرأة بوصفها أمًا قائلًا: الأم لا تفكر بمنطق الربح والخسارة تجاه أبنائها، مهما كان حجم التضحيات، لذا عقوق الأبناء جرح في أعماق الأم. هكذا هي طبيعة العلاقة، خاصة في مجتمعاتنا الشرقية. والأمومة قضية فطرية ونزعة إنسانية، لا تتجرد عنها المرأة، حتى وهي تنفتح على حياة الدراسة والعمل. قد تحد من رعايتها لهم لسبب وآخر، لكن هذا لا يؤثر سلبا على مشاعرها، بل يزيد من قلقها. الأم لا تستقر ما لم تجد أبناءها تحت ناظريها. وبالتالي فالمنطق المادي هنا غير وارد([68]). ولعل حديث الباحث عن حجم التضحيات التي تقدمها الأمهات للأبناء يذكرني بحديث "جون ستيورات مل" حول الأسرة وموقفه من المرأة، حيث قال: "إن أفضلية النساء على الرجال لكونهن ينكرون ذواتهن الفردية ويضحين بها لصالح أسرهن، ولكني لا أعول كثيرًا على تلك الأفضلية لأنهن يولدن وينشأن في كل مكان من أجل التضحية بأنفسهن، وأعتقد أن المساواة في الحقوق سوف تخفف من المبالغة في إنكار الذات الذي يعد بمثابة المثل الأعلى المصطنع، في الوقت الحاضر لشخصية الأنثى، بحيث لا تكون المرأة الفاضلة أكثر تضحية بنفسها من الرجل الفاضل ([69]). هنا يؤكد الباحث على حجم التضحيات التي تقدمها الأمهات من أجل سعادة أبنائهن ورعايتهن والسعي إلى استقرار الأسرة. فلقد اتفقا على اتصاف الأم بالتضحية، ولكن أرجعها الباحث لكونها فطرة غريزية في حين ردها "مل" إلى التنشئة الاجتماعية المصطنعة.

ويتحدث الأستاذ الغرباوي عن تذمر الأم أحيانا، وأوضح أن ذلك يعود إلى عدة أسباب بعيدة عن الأمومة كمشاعر إنسانية فطرية وغريزية. فتارة قساوة الحياة لا تطاق، بسبب العوز المادي أو رداءة الظروف الاجتماعية والصحية. وأخرى يلعب العامل النفسي ورثاثة الوعي والتمرد دورا سلبيا، يخلق حالة من التذمّر، حد التخلي عن مسؤوليات الأمومة. فقد تعتقد المرأة أن الأبناء عبء، يجب التخلص منهم، لتواصل حياتها. كما في المجتمعات الغربية، لكنها ليست ظاهرة. وفي هذه الحالة المسؤولية تقع على الدولة والمؤسسات النسوية التي ينبغي لها توجيه وعي المرأة، وتقدم ما يساعدها على تخطي محنتها. وهذا بالفعل ما تقوم به الحكومات الغربية، حيث دور رعاية الأطفال، ورياض الأطفال، وتوفير حواضن للمرأة التي تحتاجها. فهذا النوع من النساء لا تنفع معهم النصائح، بل الإجراءات العملية التي تساعدهم على تسوية مشكلاتهم الحياتية. وهذا ما نعيشه في ظل الأنظمة الغربية، حيث تجد المرأة في مؤسسات الدولة خير معين، يمكنها حتى الاستغناء عن الرجل وعجرفته. فثمة قوانين لحماية المرأة والأمومة والطفل، وهناك ضمان صحي واجتماعي يبدد قلقها، ويفتح آفاقا واسعة نحو مستقبل مضمون. بينما تعاني المرأة في المجتمعات المتخلفة سياسيا([70]).

وبناءً على ما سبق يتضح، الآتي:

- اتفق مع الأستاذ "الغرباوي" في النظر إلى الأمومة بوصفها زينة المرأة وسرّ قدسيتها. مع تأكيده على عدم جعلها المعيار الوحيد لشخصيتها؛ لأن في حالة النظر إلى المرأة على أنها أمًا فحسب، فقد حدد وظيفتها طِبْقًا لغريزتها الفطرية والبيولوجية، وبذلك ستحصر النساء في دور الرعاية لأبنائهم واستبعادهن من الحياة العملية والوظيفية في المجال السياسي والثقافي والاقتصادي والفني...إلخ، وكذلك –فيما اعتقد- ستظلم شرائح من النساء كالعاقر والعزباء من كونها امرأة لها دورٌ مهمٌّ داخل الأسرة والمجتمع، فهل يجوز أن يتم النظر للرجل باعتبار الأبوة المعيار الوحيد لشخصيته وحصره عن المجالات الاخرى في الحياة.

-يرى الأستاذ "الغرباوي" بأن المرأة العاملة تحتاج إلى حلول عملية تساندها في تحقيق التوافق بين رعايتها للأبناء وعملها بالخارج مؤكده على دور الدولة ومؤسساتها على توفير دور الرعاية للأطفال اثناء عمل المرأة في المجتمعات الغربية الأمر الذي يستوقفني أن المرأة في مجتمعاتنا الشرقية تحتاج إلى دعم الدولة ومؤسسات المجتمع المدني والمجلس القومي للمرأة لأجراء بعض التعديل في القوانين لصالح الأم العاملة إلى جانب توفير دور حضانة بكل مؤسسة ......إلخ. إلى جانب ضرورة توعية الأزواج بتحمل المسئولية المشتركة في الحياة الأسرية والتأكيد على أهمية دور الآباء في تربية الأبناء جنبًا إلى جنب مع الأمهات.

- من أخطر القضايا الدائر بين النسويات الجدل حول الأمومة هو بوصفها أمر طبيعي وفطري وغريزي أم أنها مكتسبة اجتماعيًا، ألاحظ أن الأستاذ "الغرباوي" يرى أن الأمومة فطرة غريزية في حياة كل أنثي.

ويلخص الباحث الأسباب الجوهرية حول حصر المرأة في دور الرعاية المنزلية حيث رأى الآتي:

1- حتمية المنطق الذكوري الذي كرس حياة المرأة لخدمته ، وإقصائها عن ساحة وجوده:

واخذ الأستاذ الغرباوي يوضح حقيقة الرجل قائلا: أن الرجل لا يقبل بندية رجل مثله، فكيف يقنع بندية المرأة التي تحدت نرجسيته، وجرحت كبرياءه، حينما عجز عن الاستغناء عنها، فكانت شرطا لوجوده بمعنى التجلي والتحقق خارجا. وأصلا لوجوده أنطلوجيا ([71]).

2- الحتمية البيولوجية لفرض أدوار حياتية محددة للمرأة:

يؤكد الأستاذ "الغرباوي" على ضرورة عدم اتخاذ العامل البيولوجي ذريعة لفرض أدوار حياتية محددة للمرأة، حتى وهي تكرّس جهدها أسريا. فهناك فرق بين من يعتقد أن الأنوثة حتمية بيولوجية، وقدرا وجوديا، وقد خلقت لتكون أنثى، تمارس دورها الأمومي داخل أسرتها. وبين من يرفض الحتمية البيولوجية، ويركّز على الجانب الوظيفي، فرعاية الأسرة ليس قدرا للمرأة، وإنما وظيفتها عندما تفرض الظروف الحياتية ذلك، وقد تتغير تلك المسؤوليات، باستثناء خصائصها البيولوجية في الإنجاب. لذلك يشير إلى أهمية الوعي الإنساني للمرأة، أقصد به – والكلام للغرباوي - وعي الذات مجردة عن أية مؤثرات خارجية، بما في ذلك المؤثرات البيولوجية، لتعي أنها إنسانة لها حقوق وجودية باعتبارها كذلك. وعندما ينمو هذا اللون من الوعي، سوف لا تستنكف المرأة من عملها الأسري، وتعتبره وظيفة إنسانية لديمومة الحياة بمعية الرجل. وستختلف نظرتها لذاتها والآخر، إذا تأثرت بالعامل البيولوجي وإيحاءاته. فتجد في قيمومة الرجل مقوما لوجودها، وأن وظيفتها الأنثوية قدرها في الحياة الدنيا([72]). وهنا يفرق الأستاذ الغرباوي بين النظر إلى الأمومة بحكم خصائص المرأة البيولوجية في الإنجاب وبين فرض أدوار حياتية على المرأة من قبل الوعي الجمعي للمجتمع.

وهنا ألمح أن رؤية الباحث حول علاقة البيولوجيا بالأمومة تتمثل في بعدين الأول كونها أمرًا حتميا فيما يخص الطبيعية الإنجابية والتكاثرية لجنس النساء كما لجنس الرجال؛ فالمرأة تحمل وترضع وتلد. أما الثاني النظر لممارسة دور الأمومة فهي تعد مسئوليات تتغير طبقًا لتغيير الظروف الحياتية كمساندة بعض الأزواج لزوجاتهن في تربية الأطفال أو اختلاف المستوى الاقتصادي والطبقة الاجتماعية للزوجين والذي يتيح لهما الاستعانة بمربية منزل لتتفرغ الزوجة لعملها أو العمل جزء من الوقت والاستعانة بدور حضانة....إلخ، ولكن للأسف النظام الأبوي اعتمادًا على مبدأ الحتمية البيولوجية من خلال الوعى الجمعي لحصر المرأة في دور الأمومة واستبعادها من الأدوار الإنسانية.

وهنا تتشابه آراء الباحث مع ما رأته "أدريان ريتش" §)Adrienne Rich) (1929-2012م) في كتابها الكلاسيكي تحت عنوان "المرأة المولودة": حينما قامت بتعريف الأمومة كخبرة وكمؤسسة، تجادل بأن للأمومة معنيين "أحدهما يتداخل على الآخر: الأمومة كخبرة هي العلاقة المحتملة لأي امرأة من حيث قدرتها على الإنجاب ورعاية الأطفال، والأمومة كمؤسسة والتي تهدف إلى ضمان بقاء هذه الإمكانات وجميع النساء تحت سيطرة الذكور([73]).

3- تتسم الأعمال في المجتمعات الأبوية بالقوة والغلبة:

يستطرد الباحث في بيان أسباب حصر دور المرأة في المجال الخاص رعاية الزوج والأبناء حيث ذكر أنه "ما كان للمرأة أن تنافس الرجل، في أعماله الشاقة كالحروب، الوظيفة الأساسية للمجتمعات الأبوية القائمة على القوة والغلبة، فتكون إدارة الأسرة وظيفة طبيعية لها، لا بسبب خصائصها البيولوجية فقط، كما هو الموقف الأبوي منها، ولكن لندرة فرص التنافس، ولأنها عرفاً تابعة للرجل، وحكم التبعية والانقياد أن يختص الذكر بتدبيرها ورسم أدوارها. وهذا النوع من الأدوار فرضتها الظروف الحياتية والأسرية، وليس العوامل البيولوجية، وهو أمر طبيعي لتقاسم مسؤوليات الحياة، رغم ما فيه من ظلم وجور([74]).

ويلاحظ أن المجتمعات الأبوية تقصر أدوار المرأة في مسئولية رعاية الأسرة؛ لأن بنتيها الجسدية لن تتحمل الأعمال التي تتسم بالقوة والغلبة في حين نجد المرأة قد مارست أعمالَّا شاقة صعبة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يمنعها من ذلك؛ بل كانت مباشرتها لهذه الأعمال بإذن النبي وأمره ورضاه. وذلك أن مناسبة العمل لطبيعة المرأة أمر نسبي، يختلف من امرأة لآخري، ومن زمان لزمان، ومن بيئة لبيئة([75]).

ومن أمثلة الِعمال الشاقة التي مارستها المرأة على عهد النبي صل الله عليه وسلم:

مشاركة النساء في أعمال البناء

إن أعمال البناء فيها نوع مشقة لا تتوافق مع طبيعة المرأة ورقتها وأنوثتها، ومع ذلك شاركت المرأة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، ومِّمَّا نُقِّلَ فِّي ذلك: عَنْ عَبْدِّ اللَّه بْنِّ أَبِّي أَوْفَى -رضي الله عنه- لما توفيت امرأته جعل يقول: "احْمِّلُوهَا وَارْغَبُوا فِّي: حَمْلِّهَا، فَإِّنَّهَا كَانَتْ تَحْمِّلُ وَمَوَالِّيهَا بِّاللَّيْلِّ حِّجَارَةَ الْمَسْجِّدِّ الَّذِّي أُسسَ عَلَى التَّقْوَى، وكنا نَحْمِّلُ بالنهار حَجَرَيْنِّ حَجَرَيْنّ([76]).

وكذلك عمل المرأة في الزراعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم:

عَمِّلَت بَعضُ الصحابِّيَّات الفاضلات في ال زرَاعَة بإذْنِّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن ذلك: عن جَابِّر بْنِّ عَبْدِّ اللهِّ -رضي الله عنه- قال: طُلِّقَتْ خَالَتِّي، فَأَرَادَتْ أَنْ تَجُدَّ نَخْلَهَا، فَزَجَرَهَا رَجُلٌ أَنْ تَخْرُجَ، فَأتَتِّ النَّبِّيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: بَلَى فَجُ دي نَخْلَكِ، فَإِنَّكِ عَسَى أَنْ تَصَدَّقِي، أَوْ تَفْعَلِي مَعْرُوفًا. وجه الدلالة: في هذا الحديثِّ إذْنُ النبي -صلى الله عليه وسلم- لِّهذه الصحابية أنْ تَخْرُجَ لِّمُبَاشَرَةِّ زَرْعِّها بِّنَفْسِّها، وكانت مُطَلَّقَةً وفي عِّدَّتِّهَا، لِجل ذلك نَهَاهَا بعض الصحابة ظنًّا منه أنَّ خروج المعتدة من بيتها غير جائز، فبَيَّنَ النَّبِّيُّ صلى الله عليه وسلم لها أن ذلك جائز لها، فهو إذن لغير الْمُعْتَدَّةِّ أَجْوَزُ([77]). وبذلك يتضح أنه يوجد من النساء لديه القدرة على القيام بالأعمال الشاقة التي تتسم بالقوة والغلبة إلا أن السلطة الذكورية تقصي النساء من المجال العام خاصة المناصب القيادية.

لذلك يؤكد الأستاذ "الغرباوي" على أن المرأة عانت اضطهاد الرجل، وعاشت محنة الأنوثة، التي جعلتها مرتهنة للذكر وإرادته، حتى غدت الأمومة قدرا في وعي العقل الجمعي، يتفق عليه الجميع، لذا؛ واجهت المرأة رفضا من قبل المجتمع في أول ظهور لها خارج أسرتها. ثم بشكل تدريجي فرضت نفسها، بعد نجاحات متواصلة نافست الرجل إبداعاته([78]).

ولكن هل يدعو الباحث المرأة للثورة على غريزة الأمومة وهجر الحياة الزوجية؟

هنا يتوقف الباحث حول جعل الأمومة قدرًا على المرأة مفروض عليه من قبل حتمية المنطق الذكوري في المجتمع وهذا لا يعنى أن الباحث يدعو المرأة للتخلي عن دورها في بناء الأسرة حيث قال: إذا كانت المرأة شريكا في بناء الأسرة، فديمومتها رهن بوجودها، فضلا عما تتمتع به من خصائص إنسانية راقية، كالحنان والإخلاص والعاطفة والحب والدفء الروحي والأمومة والشعور بالمسؤولية([79]).

ومما سبق أعتقد أن الأستاذ "الغرباوي" ينظر إلى الأمومة بوصفها رمزًا للحب والعطاء بلا حدود في رعاية أبنائها وأجد أنه في حديثة عن ما تتمتع به المرأة من خصائص إنسانية يشير إلى الأخلاق النسوية "فهي تقوم أساسا على أن للنساء ما يميزهن عن الرجال؛ فالطبيعة النسوية تفوق التكوين الذكوري بمميزات أكثر وضوحا لدى النساء كالحس والعاطفة الجياشة والرعاية والعطاء والقدرة على التكيف وتكوين علاقات لما تحمل من قيم الرعاية واحلب والصداقة والثقة هذه المشاعر والعواطف توجد بنسبة كبيرة لدى النساء مقارنة بالرجال، إضافة إلى أن الأدوار التي تقوم بها المرأة في المجتمع، كزوجة وكأم وكمعلمة ومربية جعلت منها تملك قوة وقدرة على إسعاد الآخرين، وقد تكون في كثير من الأحيان تعاني من مشاكل نفسية أو غير نفسية، إلا أن إحساسها بالمسئولية تجاه الآخرين يجعلها تتغلب على مشاكلها لتنتصر لدورها كأم أو كزوجة ... إلخ، بالإضافة إلى امتلاك النساء قدرة خاصة لا يملكها الرجال إلا هي القدرة على الإنجاب، وهذه تعتبر نقطة قوة تضاف للمرأة([80]).

ولكنني أريد أن أوضح أن دعمه للصورة النمطية للمرأة بوصفها أمًا لا يعنى تهميشها عن الحياة العملية حيث يؤكد على خصائص الأنثى من رقة وصفات إنسانية ألا إن ذلك لا يبرر اضطهادها وقهرها ومحاصرتها بين جدران أربعة، بشكل تصبح مسؤولة عن كل شيء، وتتحمل تداعيات أي خطأ أو تهاون ولو لم يكن مقصودا. وأخذ يوضح أن الأسرة تتطلب تعاونا من قبل جميع أفرادها. وما تقوم به المرأة داخل أسرته له قيمة مادية، تتنازل عنها طوعا وحبا، لذا؛ لم يفرض الإسلام على المرأة أي عمل، باستثناء حقوق الزوجية، ولها حق المطالبة بكل جهودها، بما فيها رضاعة أطفالها. غير أن العرفَ عرفٌ استبدادي، أبوي، يخضع لإرادة ذكورية صارمة وظالمة، فصادر كل حقوقها، وقمعها في داخلها، وأعاد تشكيل وعيها، بشكل تجد دونيتها جزءا مقوما لوجودها([81]).

وحول طرح الأستاذ "الغرباوي" موفق الإسلام من إشكالية عدم فرض خدمة الزوجة لزوجها الأمر يستدعي عرض موقف الفقهاء على النحو الآتي:

قد جاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية"(19/44): " لا خلاف بين الفقهاء في أن الزوجة يجوز لها أن تخدم زوجها في البيت، سواء أكانت ممن تخدم نفسها أو ممن لا تخدم نفسها، إلا أنهم اختلفوا في وجوب هذه الخدمة([82]):

سنجد تأكيد أكثر فقهاء المذاهب المعروفة أن حق الرجل على المرأة أن لا تمنعه من نفسها بغير عذر شرعي، وحقها عليه النفقة والسكنى إلخ وقالو ألا يلزمها عجنًا ولا خبزًا ولا طبخًا ولا غير ذلك من مصالح بيته أو ماله وملكه([83]). فذهب الجمهور (الشافعية والحنابلة وبعض المالكية) إلى أن خدمة الزوج لا تجب عليها لكن الأولى لها فعل ما جرت العادة به([84]).

ومن أنصار هذا الرأي الإمام "بن حزم" في باب حقوق الزوجين حيث يقول: (وَلَا يَلْزَمُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَخْدِمَ زَوْجَهَا فِي شَيْءٍ أَصْلًا، لَا فِي عَجْنٍ، وَلَا طَبْخٍ، وَلَا فَرْشٍ، وَلَا كَنْسٍ، وَلَا غَزْلٍ، وَلَا نَسْجٍ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ أَصْلًا - وَلَوْ أَنَّهَا فَعَلَتْ لَكَانَ أَفْضَلَ لَهَا وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَأْتِيَهَا بِكِسْوَتِهَا مَخِيطَةً تَامَّةً، وَبِالطَّعَامِ مَطْبُوخًا تَامًّا وَإِنَّمَا عَلَيْهَا أَنْ تُحْسِنَ عِشْرَتَهُ، وَلَا تَصُومَ تَطَوُّعًا وَهُوَ حَاضِرٌ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تُدْخِلُ بَيْتَهُ مَنْ يَكْرَهُ، وَأَنْ لَا تَمْنَعَهُ نَفْسَهَا مَتَى أَرَادَ، وَأَنْ تَحْفَظَ مَا جَعَلَ عِنْدَهَا مِنْ مَالِهِ)([85]).

في حين ذهب الحنفية إلى وجوب خدمة المرأة لزوجها ديانةً لا قضاءً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قَسَّم الأعمال بين علي وفاطمة رضي الله عنهما، فجعل عمل الداخل على فاطمة، وعمل الخارج على علي ، ولهذا فلا يجوز للزوجة - عندهم - أن تأخذ من زوجها أجرا من أجل خدمتها له ([86]).

وقال "أبو بكر بن أبي شيبة" و"الجوزجاني" عليها ذلك واحتجا بقضية علي وفاطمة رضي الله عنهما فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى على ابنته بخدمة البيت، وعلى علي ما كان خارجا من البيت من عمل وما قضى به النبي -صلى الله عليه وسلم- بين بنته وصهره عليهما السلام هو ما يقضي به فطرة الله تعالى، وهو توزيع الأعمال بين الزوجين على المرأة تدبير المنزل والقيام بالأعمال فيه، وعلى الرجل السعي والكسب خارجه. وهذا هو المماثلة بين الزوجين في الجملة، وهو لا ينافي استعانة كل منهما بالخدم والإجراء عند الحاجة إلى ذلك مع القدرة علية ، ولا مساعدة كل منهما للآخر في عمله أحيانًا إذا كانت هناك ضرورة، وإنما ذلك هو الأصل والتقسيم الفطري الذي تقوم به مصلحة الناس وهم لا يستغنون في ذلك ولا في غيره عن التعاون (2: 286) لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها -وتعانوا على البر والتقوى ولا تعانوا على الإثم والعدوان واتقوا الله([87]).

ونستخلص مما سبق، تباين الآراء بين الفقهاء حول إشكالية وجوب خدمة الزوجة لزوجها، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجب على الزوجة خدمة زوجها، وذهب بعض الفقهاء إلى الوجوب. ولكنني أريد أن أؤكد على أن خدمة الزوجة لزوجها وأبنائها ورعاية شئون بيتها سنة حسنة مارستها المرأة عبر العصور التاريخية، ولكن تحتاج النساء إلى الشعور بتقدير أزواجهن وأبنائهن. كما أنه في عصرنا الحالي أصبحت المرأة تشارك الرجل الحياة العملية والوظيفية أما لتحقيق ذاتها وكيانها أو بسبب صعوبة الأوضاع الاقتصادية في مجتمعاتنا الشرقية؛ فيحتاج الزوجين لتحمل النفقة على الأبناء وفي كلا الحالتين تحتاج المرأة لكى تحقق التوفيق والنجاح بين حياتها الوظيفية والعائلية إلى تطبيق مبدأ المسئولية المشتركة بين الزوجين وتحمل الأعباء المنزلية معًا.

وهذا ما يؤكد الباحث أن نجاح المرأة خارج أسوار الأسرة لتقلد المناصب العامة يتطلب أن يتعاون شريكي الحياة مع بعضهم البعض عندما خرجت المرأة، ونافست الرجل، فأيضا يمكن توزيع الأدوار، وتقاسم أعباء الأسرة، فيكون الأصل هو التعاون، وليس الحتمية البيولوجية. للأسف طالما نسمع الرجل وهو يرد على المرأة حينما تعترض أو تتمرد: "هذه وظيفتك في الحياة"!!. إن محنة المرأة أنها مخلوق ذكوري. بمعنى أن الذكر قد تولى تشكيل وعيها، وتحديد وظيفتها، وفرض عليها سلطته وقيمومته، وبيّن هامش حريتها، وحقوقها وواجباتها([88]).

وخلاصة القول، يسعى الأستاذ الغرباوي إلى تفنيد فكرة الفروق البيولوجية باعتبارها سبب لتفوق الرجال على النساء حيث أوضح أن المجتمع الأبوي يعتمد على فكرة الحتمية البيولوجية. لجعل الأمومة دورًا أساسيًا للمرأة، دون احترام قدرات وحقوق النساء الأخرى، لذلك دعا إلى ضرورة دعم المرأة في تحقيق طموحاتها المهنية من خلال تقاسم الأعباء الأسرية بينها وبين شريك الحياة وكذلك دعم الدولة لها.

- تعقيب:

من خلال العرض السابق من إشكالية الحتمية البيولوجية يتبين لنا الآتي:

أولًا- أن الأستاذ "الغرباوي" يمثل الاتجاه الداعي إلى ضرورة الانفتاح والتواصل الحضاري مع الحضارات الأخرى بحيث نأخذ منهم ما ينتاسب مع ثقافتنا وقيمنا وعاداتنا وأخلاقيتنا دون إحلال ثقافة الغير محل ثقافتنا. ويتضح ذلك جليًا من موقف الأستاذ "الغرباوي" من اتجاه مركزية الأنثى إلى رفض الأفكار الراديكالية المتطرفة التي تدعو إلى الإجهاض، العلاقات المفتوحة، دعم المثلية. في الوقت ذاته يشجع على دعم النسوية الراديكالية الثقافية.

ثانيًا-رفض الباحث فكرة الحتمية البيولوجية كمبدأ لتوزيع الأدوار بين الجنسين والذي سيترتب ظهور اتجاهين هما: الأول دنو مكانة المرأة وإقصائها من المجال العام (السياسة –الثقافة-الفن- الإبداع-الحضارة) وحصرها في المجال الخاص (الرعاية المنزلية). الثاني مركزية المرأة والسعي لإقصاء الرجال من خلال الدعوة إلى هدم مؤسسة الأسرة ودعم السحاق....إلخ. كما يؤكد الأستاذ "الغرباوي" على ضرورة تفهم واحترام الطموحات الفردية للنساء. مؤكدًا أن الاختلافات البيولوجية لا يجب أن تكون مبررًا لتفوق الرجل على المرأة في المجالات العقلية والسياسية والاقتصادية.

ثالثًا-تأكيده على وإنصاف الأديان السماوية للمرأة والإعلاء من شأنها ولكنه أوضح لنا:

1- تأثير آباء الكنيسة على النظرة الاجتماعية للمرأة؛ فهي المسؤولة عن شقاء الجنس البشري ومصدر الخطيئة في العالم، كما أنها نجسة في نفسها مُنَجِّسة لغيرها. تلك النظرة تخالف تعاليم سيدنا عيسي عليه السلام.

2- يفرق الباحث بين رؤية القرآن الكريم وبين رؤية الفقهاء والتراث من المرأة. فيقر أن القرآن الكريم أعلى من شأن المرأة بوصفها موجودًا إنسانيًا مستقلًا حيث شاركت في المعارك والشعر والأعمال الشاقة...إلخ ولكن الأمر اختلف عقب وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فحصرت في دور الأمومة.

وبالتالي استمرت الصورة النمطية للمرأة عقب ظهور الأديان السماوية نظرًا لهيمنة الموروث اليوناني والروماني على فكر رجال الدين المسيحي وكذلك تأثير النزعة الذكورية على الموروثات الثقافية وتفسيرات رجال الدين للنص الديني بما يفرض تسيد الرجال على النساء والحط من شأنهن.

3- يؤكد الأستاذ "الغرباوي" على ضرورة بحث ونقد آراء الفقهاء من قضية المرأة مؤكدًا عدم القداسة لأي منجز بشري.

رابعًا- يرى الباحث أن الأمومة غريزة فطرية عند كل الفتاة فعندما تتزوج ترغب بأن تصبح أُمًّا رغم علمها المسبق بصعوبة فترة الحمل والولادة وتحمل مسئولية الطفل. لكنه يرفض الاعتماد على الخصائص البيولوجية كسبب لتوزيع الأدوار بين الجنسين وحصر النساء في أدوار حياتية محددة.

***

بقلم: د. آمال طرزان مصطفى

دكتوراه فلسفة – تخصص النسوية

***

أولًا- المصادر والمراجع العربية:

1- المصادر:

ماجد الغرباوي: متاهات الحقيقة (6) المرأة وآفاق النسوية، ط1، دار أمل الجديدة، دمشق،2021م.

ماجدة غصبان وماجد الغرباوي: المرأة والقرآن حوار في إشكاليات التشريع، ط1، العارف مطبوعات، لبنان،2015م.

محمود محمد على: الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري، ط1، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، 2020م.

2 - المراجع العربية:

أفلاطون: القوانين، ترجمة من اليونانية إلى الإنجليزية د.تيلور، نقله إلى العربية محمد حسن ظاظا، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٨٦م.

إمام عبد الفتاح إمام: المرأة في الفلسفة "أرسطو والمرأة"، ط1، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1996م.

إمام عبد الفتاح إمام: المرأة في الفلسفة "أفلاطون والمرأة"، ط2، مكتبة مدبولي، القاهرة، ١٩٩٦م.

إمام عبد الفتاح إمام: المرأة في الفلسفة "جون لوك والمرأة"، ط1، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 2009م.

أندرو هيود: مدخل إلى الأيديولوجيات السياسية، ط1، ترجمة محمد صفار، المركز القومي للترجمة، العدد 1830، القاهرة، 2012م.

إيفون يازعيم حداد وجون إسبوزيتو: بنات إبراهيم الفكر النسوي في اليهودية والمسيحية والإسلام، ط1، ترجمة عمرو بسيوني وهشام سمير، ابن النديم للنشر والتوزيع، الجزائر، ٢٠١٨م.

توما الأكويني: الخلاصة اللاهوتية، مج2، ط1، ترجمة من اللاتينية إلى العربية الخوري بولس عواد، المطبعة الأدبية، بيروت، 1819م.

جورج طرابيشي: شروق وغروب رجولة وانوثة، ط4، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت،1997 م.

جون سيتورات مل: "استعباد النساء "الفيلسوف والمرأة"، ترجمة إمام عبدالفتاح إمام، ط1، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2009م.

حسن عبد الترابي، المرأة بين الأصول و التقاليد، مركز دراسة المرأة، السودان، 2000م.

سارة جامبل: النسوية وما بعد النسوية (دراسات ومعجم نقدي)،ج2، ط1، ترجمة أحمد الشامي، مراجعة هدى الصدة، المجلس الأعلى للثقافة، عدد 483، القاهرة، 2002م.

السيد محمد رشدى رضا: تفسير القران الحكيم للشيخ محمد عبده، ج2، ط2، مطبعة المنارة، مصر.

عصمت محمد حوسو: الجندر الأبعاد الاجتماعية والثقافية، ط1، دار الشروق، الأردن، 2009م.

فريدريش نيتشه: هكذا تكلم زرادشت، ط1، ترجمة على مصباح، منشورات الجمل، ألمانيا، 2007م.

فهمي منصور: أحوال المرأة في الاسلام ،ترجمة رفيدة مقدادي ، ط1 ، منشورات الجمل ، المانيا ، 1997م.

مها فاخوري: حقوق المرأة في المسيحية، ط1، منشورات النور، بيروت، ١٩٩٨م.

3- المجلات:

أخلاق النسوية ضرورة أخلاقية معاصرة (أخلاق العناية)،عدد 1، مجلد 1، مجلة تدفقات فلسفية.

عبد الله محمد عبد اللطيف عبد العزيز: عَمَلُ المَرْأَةِ، دِرَاسَةٌ للتطبيق العملي في العهد النبوي، ضمن أبحاث المؤتمر الدولى الرابع لكلية الآداب – جامعة المنوفية ،2022م.

عماد سليمان عواد الحيصة: البيئة الاجتماعية واثرها على شخصية المفسر، دراسات علوم الشريعة والقانون، المجلّد 45، عدد 4،2018م.

مصطفي عبد الرؤف: الرغبة الجنسية بين الاتجاه المحافظ والاتجاه التحرري "نماذج منتقاه من الفلسفة الغربية" ، مجلة كلية الآداب، ج1، العدد41، جامعة سوهاج،2016م.

ثانيا -المراجع الاجنبية:

Adrienne Rich: Of Woman Born Motherhood as Experience and Institution 1995-W. W. Norton Company, Norton Company, New York,1995.

Betty Friedan, Brigid O'Farrell: Beyond Gender The New Politics of Work and Family by Betty Friedan The Feminine Mystique, The University of Chicago Press, Book Reviews, Vol. 26, No. 1, 2000. http://www.jstor.org/stable/3175408

Jump up to:a b Lewontin, Richard, Steven Rose, and Leon Kamin. Not in Our Genes: Biology, Ideology and Human Nature. New York: Pantheon Books, 1984. "The Determined Patriarchy", Chapter 6.

Sarah Franklin: Revisiting Reprotech: Firestone and the Question of Technology, In: Further Adventures of the Dialectic of Sex Critical Essays on Shulamith Firestone, Palgrave Macmillan, New York, 2010.

Susan Moller Okin: Families and Feminist Theory Some Past and Present Issues, In: "Feminism and Families", Ed by: Hilde Lindemann Nelson Routledge, New York, 2016.

Ted Honderich: The Oxford Companion to Philosophy, Oxford New York, Oxford University Press, 1995.

ثالثًا-مواقع الإنترنت:

https://www.hindawi.org/contributors/97916307/ In: 11/5/2024 2: 10 AM.

https://ar.wikipedia.org/wiki ,In 11/5/2024 , AM 2: 19.

https://www.nytimes.com/2012/03/29/books/adrienne-rich-feminist-poet-and-author-dies-at-82.html, In: 24/7/2022, 1:58 AM.

https://islamqa.info/ar/answers/119740/ , In: 5/9/2024 , 10:54 pm.

https://al-maktaba.org/book/31621/8343#p3 ,In 5/5/2024 , 10:26 pm.

هوامش

[2]) سارة جامبل: النسوية وما بعد النسوية (دراسات ومعجم نقدي)،ج2، ط1، ترجمة أحمد الشامي، مراجعة هدى الصدة، المجلس الأعلى للثقافة، عدد 483، القاهرة، 2002م، ص 279.

[3]) Jump up to:a b Lewontin, Richard, Steven Rose, and Leon Kamin. Not in Our Genes: Biology, Ideology and Human Nature. New York: Pantheon Books, 1984. "The Determined Patriarchy", Chapter 6, p136.

[4]) عصمت محمد حوسو: الجندر الأبعاد الاجتماعية والثقافية، ط1، دار الشروق، الأردن، 2009م، ص81.

[5])Ted Honderich: The Oxford Companion to Philosophy, Oxford New York, Oxford University Press, 1995, p.274.

[6]) جورج طرابيشي: شروق وغروب رجولة وانوثة، ط4، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت،1997م ص6-7.

[7]) أندرو هيود: مدخل إلى الأيديولوجيات السياسية، ط1، ترجمة محمد صفار، المركز القومي للترجمة، العدد 1830، القاهرة، 2012م، ص284.

[8]) سارة جامبل: النسوية وما بعد النسوية (دراسات ومعجم نقدي)،ج2، مرجع سابق ص 279.

[9])Ted Honderich: The Oxford Companion to Philosophy, op.cit, p.274.

[10]) محمود محمد على: الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري، ط1، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، 2020 م، ص 194.

[11]) محمود محمد على: مصدر سابق، ص 165-166.

[12]) ماجد الغرباوي: متاهات الحقيقة (6) المرأة وآفاق النسوية، ط1، دار أمل الجديدة، دمشق، 2021م، ص 175.

[13]) إمام عبد الفتاح إمام: المرأة في الفلسفة "أفلاطون والمرأة"، ط2، مكتبة مدبولي، القاهرة، ١٩٩٦م، ص63.

[14]) أفلاطون: القوانين، ترجمة من اليونانية إلى الإنجليزية د.تيلور، نقله إلى العربية محمد حسن ظاظا، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٨٦م، ص344.

[15]) محمود محمد على: مصدر سابق، ص 165.

[16]) ماجد الغرباوي: مصدر سابق، ص 175.

[17]) إمام عبد الفتاح إمام: المرأة في الفلسفة "أرسطو والمرأة"، ط1، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1996م، ص81 -82.

[18]) ماجد الغرباوي: مصدر سابق، ص 175.

[19]) فريدريش نيتشه: هكذا تكلم زرادشت، ط1، ترجمة على مصباح، منشورات الجمل، ألمانيا، 2007م، ص131-133 .

[20]) محمود محمد على: مصدر سابق، ص 163-164.

[21]) إمام عبد الفتاح إمام: المرأة في الفلسفة "جون لوك والمرأة"، ط1، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 2009م، ص10.

[22]) إيفون يازعيم حداد وجون إسبوزيتو: بنات إبراهيم الفكر النسوي في اليهودية والمسيحية والإسلام، ط1، ترجمة عمرو بسيوني وهشام سمير، ابن النديم للنشر والتوزيع، الجزائر، ٢٠١٨م، ص10.

[23]) ماجد الغرباوي: مصدر سابق، ص26.

[24]) مصدر سابق، ص25-26.

[25]) محمود محمد على: مصدر سابق، ص165.

[26]) إيفون يازعيم حداد وجون إسبوزيتو: مرجع سابق، ص١٢.

[27]) مها فاخوري: حقوق المرأة في المسيحية، ط1، منشورات النور، بيروت، ١٩٩٨م، ص48.

[28]) إمام عبد الفتاح إمام: الفيلسوف والمرأة (الفيلسوف المسيحي والمرأة)، مرجع سابق، ص64.

[29]) مرجع سابق: ص10.

[30]) مرجع سابق: ص10.

[31]) توما الأكويني: الخلاصة اللاهوتية، مج2، ط1، ترجمة من اللاتينية إلى العربية الخوري بولس عواد، المطبعة الأدبية، بيروت، 1819م، ص495-496.

[32]) مرجع سابق: ص510.

[33]) مصطفي عبد الرؤف: الرغبة الجنسية بين الاتجاه المحافظ والاتجاه التحرري "نماذج منتقاه من الفلسفة الغربية" ، مجلة كلية الآداب، ج1، العدد41، جامعة سوهاج،2016م، ص343-344.

[34]) ماجد الغرباوي: مصدر سابق، ص 27.

[35]) محمود محمد على: مصدر سابق، ص 166.

[36]) مصدر سابق، ص 164.

[37]) ماجد الغرباوي: مصدر سابق، ص 27.

[38]) محمود محمد على: مصدر سابق، ص 168.

[39]) نفس المصدر، ص 170.

[40]) حسن عبد الترابي، المرأة بين الأصول و التقاليد، مركز دراسة المرأة، السودان، 2000 م، ص3-4.

[41]) مرجع سابق، ص9-10.

[42]) فهمي منصور: أحوال المرأة في الاسلام ،ترجمة رفيدة مقدادي ، ط1 ، منشورات الجمل ، المانيا ، 1997م، ص12.

[43]) ماجد الغرباوي: مصدر سابق، ص 28.

[44]) ماجدة غصبان وماجد الغرباوي: المرأة والقرآن حوار في إشكاليات التشريع، ط1، العارف مطبوعات، لبنان،2015م، ص 31- 34.

[45]) ماجد الغرباوي: مصدر سابق، ص 29.

[46]) ماجدة غصبان وماجد الغرباوي: مصدر سابق، ص35-36.

[47]) ماجد الغرباوي: مصدر سابق ، ص 29-30.

[48]) ماجد الغرباوي: مصدر سابق، ص30.

[49]) عماد سليمان عواد الحيصة: البيئة الاجتماعية واثرها على شخصية المفسر، دراسات علوم الشريعة والقانون، المجلّد 45، عدد 4،2018م، ص287.

(ومعنى القوامة لغة ذكره ابن منظور فقال: "وقيم المرأة: زوجها في بعض اللغات يقوم بأمرها وما تحتاج إليه والقيام بمعنى المحافظة والإصلاح. = انظر: المرجع السابق ، ص 290.

[50]) ماجدة غصبان وماجد الغرباوي: مصدر سابق، ص 30-31.

[51]) عماد سليمان عواد الحيصة: مرجع سابق ، ص 290.

[52]) مرجع سابق ، ص290.

[53]) محمود محمد على: مصدر سابق، ص 171-172.

*) لوسيان ليفي-بريل ‏، فيلسوف وعالم اجتماع، وأثنولوجي فرنسي. له بحوث في العقلية البدائية. كان أستاذاً بجامعة السوربون منذ 1899، أهم كتبه «الوظائف العقلية في المجتمعات البدائية» 1910م.

See: https://ar.wikipedia.org/wiki ,In 11/5/2024 , AM 2: 19.

([54] فهمي منصور، مرجع سابق، ص10.

[55]) محمود محمد على: مصدر سابق، ص 194.

[56]) Susan Moller Okin: Families and Feminist Theory Some Past and Present Issues, In: "Feminism and Families", Ed by: Hilde Lindemann Nelson Routledge, New York, 2016, p.16.

[57]) Ibid, p.14.

[58]) محمود محمد على: مصدر سابق، ص 169.

[59]) ماجد الغرباوي: مصدر سابق، ص185- 281.

[60]) Sarah Franklin: Revisiting Reprotech: Firestone and the Question of Technology, In: Further Adventures of the Dialectic of Sex Critical Essays on Shulamith Firestone, Palgrave Macmillan, New York, 2010, p.29.

[61]) ماجد الغرباوي: مصدر سابق، ص 281.

[62]) ماجد الغرباوي: مصدر سابق، ص 281.

[63]) Betty Friedan, Brigid O'Farrell: Beyond Gender The New Politics of Work and Family by Betty Friedan The Feminine Mystique, The University of Chicago Press, Book Reviews, Vol. 26, No. 1, 2000. http://www.jstor.org/stable/3175408, pp.331-332.

[64]) ماجد الغرباوي: مصدر سابق، ص 175.

[65]) محمود محمد على: مصدر سابق، ص24.

[66]) ماجد الغرباوي: مصدر سابق، ص 336.

[67]) مصدر سابق، ص 326.

[68]) مصدر سابق، ص 336-337.

([69] جون سيتورات مل: "استعباد النساء "الفيلسوف والمرأة"، ترجمة إمام عبدالفتاح إمام، ط1، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2009م ، ص105-108.

[70]) ماجد الغرباوي: مصدر سابق، ص 337.

[71]) محمود محمد على: مصدر سابق، ص 194.

[72]) مصدر سابق، ص195- 196.

) شاعرة ذو سمعة عالية، تميز عملها برؤية تقدمية حيث كتبت عن اضطهاد النساء والمثلية في مقدمة الخطاب الشعري. هي من الكتاب الأكثر تأثيرًا في الحركة النسوية وواحدة من أشهر المفكرين الأمريكيين. كتبت عشرين مجلدا من الشعر وأكثر من ستة أجزاء من النثر. ظهرت بشكل فعال كمثلية في عام 1976م، مع نشر" إحدى وعشرين قصيدة حب، التي كان موضوعها الحب الجنسي بين النساء.

See:https://www.nytimes.com/2012/03/29/books/adrienne-rich-feminist-poet-and-author-dies-at-82.html, In: 24/7/2022, 1:58 AM.

[73]) Adrienne Rich: Of Woman Born Motherhood as Experience and Institution 1995-W. W. Norton Company, Norton Company, New York,1995, p.13.

[74]) محمود محمد على: مصدر سابق، ص 196.

[75]) عبد الله محمد عبد اللطيف عبد العزيز: عَمَلُ المَرْأَةِ، دِرَاسَةٌ للتطبيق العملي في العهد النبوي، ضمن أبحاث المؤتمر الدولي الرابع لكلية الآداب – جامعة المنوفية ،2022م، ص17.

[76]) مرجع سابق، ص17-18.

[77]) مرجع سابق، ص11.

[78]) محمود محمد على: مصدر سابق، ص 195.

[79]) مصدر سابق، ص 194.

[80]) أخلاق النسوية ضرورة أخلاقية معاصرة (أخلاق العناية)،عدد 1، مجلد 1، مجلة تدفقات فلسفية، ص 68-69.

[81]) محمود محمد على: مصدر سابق، ص 194-195.

[82]) https://islamqa.info/ar/answers/119740/, In: 5/9/2024 , 10:54 pm.

[83]) السيد محمد رشدى رضا: تفسير القران الحكيم للشيخ محمد عبده، ج2، ط2، مطبعة المنارة، مصر، ص 378.

[84]) https://islamqa.info/ar/answers/119740/, In: 5/9/2024 , 10:54 pm.

[85]) https://al-maktaba.org/book/31621/8343#p3 ,In 5/5/2024 , 10:26 pm.

[86]) https://islamqa.info/ar/answers/119740/, In: 5/9/2024 , 10:54 pm.

[87]) السيد محمد رشدى رضا: مرجع سابق، ص 378- 379.

[88]) محمود محمد على: مصدر سابق، ص 196.

........................

* مشاركة (67) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

نحو منهج جديد في تشريع الأحكام

مدخل: يعد مجال علم الفقه والتشريع من المجالات التي شهدت تطورا في البنية والمنهج في المرحلة الاسلامية، فلم يتطور علم من العلوم الدينية وينضج كما في علم الفقه وأصوله، فضلا عن كونه المؤثر الأكبر في المجتمع والتاريخ من بين العلوم الدينية الأخرى، وهو بهذه المكانة أصبح يُنظر إليه من ناحيتين، فمن ناحية التفكير المنهجي المنضبط وما أسهم فيه من تهيأة منظومة من الأحكام التي تلبي متطلبات الايمان الديني وتشكيل الهوية الدينية، كان دوره فاعلا على مدى التاريخ الاسلامي.

ومن ناحية توظيفه في تكريس بعض الميول والاتجاهات العقدية التي أدت بنحو وبآخر إلى خلق بعض الأزمات، كان ذلك من نتائجه السلبية، وهي بحدود تتبعي تعود إلى مناهج الفهم البشري وكيفية التعامل مع النصوص التشريعية من قبل بعض البيئات والتوجهات الفكرية.

  دأب الفقهاء المسلمون على قراءة النص التشريعي واستقاء الاحكام الشرعية لتوجيه الجانب العملي من الدين، عبر علوم الشريعة والاستنباط وبالأخص علم أصول الفقه الذي يعد من أفضل ما انتجته المعرفة الدينية الاسلامية بنحو عام، بما أسهم فيه ذلك العلم من ارساء لقواعد منهجية منضبطة في تحليل النص التشريعي، بحيث نجح علم أصول الفقه في توظيف العلوم الآلية الأخرى (المنطق والنحو وعلوم اللغة..) في خدمة النص الديني، وهو مما لا يمكن تغافله برغم بعض الإخفاقات التي شابت بعض التوجهات في مناحي الاستدلال الفقهي في مختلف المذاهب الاسلامية.

لذا كانت دراسات الفقه وتشريع الأحكام موضعا لإثارة الجدل والاختلاف بسبب تداخل العلوم والمناهج في عملية استنباط الأحكام، التي تعد من أعقد وظائف علماء الدين، لأن هذا المجال على صلة وثيقة بواقع السلوك والعمل للفرد والمجتمع وبناء النظم ومسارات العيش.

إن قراءة ومراجعة كتاب (مقتضيات الحكمة في التشريع، نحو منهج جديد في تشريع الأحكام- لمؤلفه المفكر العراقي القدير ماجد الغرباوي) تأتي في سياق متابعة المنجز المعرفي في عموم المعرفة الدينية الراهنة التي تتابع أثر الدين في الحياة، ومن هنا تبرز أهمية الكتاب ومراجعته على حد سواء.

وعبر اعتماد منهج تحليلي لا يخلو من النقد التزاما بالحياد والموضوعية برغم العلاقة الطيبة التي تجمعني بالمؤلف، وبرغم التوافق الفكري والمعرفي الذي يجمعني به، لكن ذلك لم يؤثر إلى حد ما على طبيعة القراءة والمراجعة الدقيقة للمنجز المميز الذي قدمه الغرباوي في هذا الكتاب.  

المطلب الأول: قراءة في التساؤلات والفرضيات التي بني عليها الكتاب:

بعد تتبع مقدمة الكتاب يمكن تحديدة جملة من المنطلقات التي شرع منها المؤلف في كتابة مشروعه:

يمكن ملاحظة أن الكاتب مدرك جيد لرهانات التجديد وضرورته في مجال الفقه تشريع الأحكام، بعد أن ألمح إلى حجم التطورات التي سادت المشهد الحياتي في العصر الراهن، ومدرك أيضا لحجم الفجوات وخطورتها في البناء المعرفي لعلم الفقه وما تؤول إليه من نتائج على مستوى الأحكام المستنبطة والتي وصلت حد الفتاوى التي من شأنها أن تؤثر في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي.[2]

- لاحظ الكاتب بدقة بدايات التكوين لعلوم الفقه والاستنباط من خلال ما عرض له في مدونة الشافعي التي تعد مساحة تأسيسية أولى على المستوى الاسلامي، وما تمخضت عنها من قواعد وأسس آلت بالنتيجة إلى ما هو عليه الفقه الاسلامي اليوم من نسق معرفي[3].

- يقع الكتاب ضمن سلسلة متاهات الحقيقة وهو ما يشير إلى هم كلي حول منظومة الفكر الديني، عبر الاهتمام بمسائل الفكر الديني بنحو عام من قبيل القيم والاخلاق وأثر العقائد في بناء الوعي الديني وما تتضمنه تلك المجالات من مشكلات حقيقية تمثل هم المثقف الديني في المشهد الراهن، لذا اكتسب مشروع الكتاب طابعا نقديا حادا إلى حد ما.

- يفترض الكتاب بنحو أساس وقوع التعارض بين الشريعة والأخلاق وأن هذا التعارض يهدر القيمة الأخلاقية، ويفرع على هذا الافتراض تساؤلات جدلية أبرزها: ماهو التعارض؟ وما هو سببه؟ وهل يمكن تسويته؟ أم أنه تعارض مستقر؟ وهل يمكن رفعه؟

ويمكن الملاحظة على الافتراض الاساس من عدة وجوه:

1 – ان افتراض وقوع التعارض بين الشريعة والاخلاق يبتني على مقولة التعارض التي تعد مسألة جزئية لها قواعدها في الأحكام الجزئية المتعارضة، بينما نحن بصدد التفكير في التنافي بين الشريعة والأخلاق بنحو كلي ولو بملاحظة بعض الجزئيات لكن التعارض كمصطلح (أصولي/ في أصول الفقه والاستنباط) أخذ فيه تعارض الأحكام بين حكم واجب وآخر مباح أو محرم، مع تساوي الموضوع ودليل الحكم، بينما التنافي بين الشريعة والأخلاق يعد تنافي من حيث روح الحكم لا من حيث تساويهما في قوة الدليل واختلاف سنخ الحكم من جواز أو منع.

2- ان اطلاق (المستقر) على التعارض وافتراضه، لم يدعيه أحد، والكتاب في أطروحته مع كونه ينقد التنافي بين بعض أحكام الشريعة ومبادئ الأخلاق فهو لم ولن يسلم بالتعارض المستقر لأنه اقترح منهجا بديلا من شأنه أن يحل مشكلة التنافي بين بعض أحكام الشريعة من جهة، ومبادئ الأخلاق من جهة أخرى.

3- إن طرح الاشكالية بمصطلحات من داخل علوم التشريع (الفقه وأصوله) يمنح المشروع رصانة علمية من جهة، ويقوي منطلق  البعد النقدي في المشروع، إذ يمثل النقد من داخل منظومة التفكير المنهجي الفقهي حالة جديرة بالاهتمام من قبل المختصين الذين تقع على عاتقهم مسؤولية المراجعة والتصحيح فيما بعد إنضاج مشروع الكتاب.

والتركيز أيضا على الحلول بمصطلحات من داخل المنضومة كـ( اسباب التعارض ورفعه) تعد محاولة ناجحة في إكساب المشروع قابلية لإقناع المشتغلين في علوم الشريعة (الفقه وأصوله)، برغم ملاحظتنا على استعمال مصطلح (التعارض) في أصل الفرضية والاشكاليات.

إذن ركز الكتاب في فصله الأول على اشكالية التعارض بين الشريعة والأخلاق، وهذا التساؤل المفصلي أصبح الموجه الأول في مشروع الكتاب، من خلال ما يعرض إليه من مشكلات سادت المنجز المعرفي الفقهي في تعامله مع مشكلات الواقع، ومدى مراعاة الجانب الأخلاقي والقيمي الذي أصبح هاجز الثقافات المعاصرة اليوم.  41 majed algharbawi

المطلب الثاني: فرضية الكتاب وإشكالاته:

الارضية التي ينطلق منها الكاتب ليؤسس مشروعه تتضمن فرضية ومجموعة من المشكلات التي تمت ملاحظتها من قبله، وأولى تلك المشكلات هي التعارض بين الشريعة والأخلاق، وفي ظني أن المحور الأساس في اشكلات الكتاب هو ثنائية الفقه والأخلاق، ومدى الانسجام المنهجي، لأن الانسجام البنوي بينهما يكاد يكون محسوما، وهو ما أكده الكاتب من كون التعارض ليس مستقرا وليس في عالم الثبوت، بل في عالم الإثبات والاستدلال، وهو بهذا المعنى يكون منهجيا بالمعنى الأعم لمفردة المنهج..

أولا: اشكالية التعارض بين الشريعة والاخلاق (النقد من داخل المجال المعرفي):

ان تناول هذه الاشكالية من الأهمية بمكان، إذا ما لوحظت بمستوها الكلي والجزئي، ونحن نسلم مع الكاتب أن تناول الكليات ومناقشة الأصول التي يبنى عليها التشريع مما يكتسب أهمية نظرية بالغة الضرورة، وثمة اهتمام ولو نسبي من قبل علماء المسلمين حول هذه المسألة، كما في تناولهم مقاصد الشرع وملازمة الشرع للعقل في بناء الأحكام وتشريعها، وهومما لا يمكن إغفاله بأي حال، لكن الحديث في المآلات والجزئيات يكتسب قيمة وأهمية أكثر من الجانب الكلي.

فعند متابعة أولويات الاهتمام الفقهي على مستوى مراعاة القيم والمبادئ الكلية سوف نجد تفاوت بسيط، بخلاف واقع التطبيق الجزئي لتلك المبادئ ومصاديقها على الواقع، رغم أنه أكد عدم تبنيه للتعارض المستقر بين الشريعة والاخلاق[4]، وهو ما يدعو إلى صياغة عنوان الاشكالية بنحو أدق ليصبح التنافي والمفارقة بين الفقه كمنجز بشري والأخلاق على اعتبار أن الشريعة هي ما انبثق عن عالم الثبوت والواقع من قبل الوحي.

وقد ركز الكتاب في مشروع الكتاب على أهمية مراعاة تلك المبادئ (العدل، الحرية، المساواة، الاخلاق..) وحاول تحديد مواضع الخلل في بعض المسائل كما في مسألة قتل المرتد[5]، وهي المسألة التي تعبر عن الجانب الجزئي من الاشكالية، ولا تقل أهمية عن بقية المسائل التي أشار إليها الكاتب.

ومع متابعة منطلقات البحث عند الكاتب، نلحظ ان النقد يقوم من داخل المجال المعرفي للفقه، ففي البدء ينفي التعارض الجوهري بين الدين والأخلاق على مستوى الواقع التشريعي (عالم الثبوت)، ويقصر الأمر على مستوى فهم الخطاب التشريعي، مع ملاحظة بشرية ذلك الفهم وعدم معصوميته من الخطأ، كما أنه يقف موقفا تجاه تخصيص السنة للكتاب، فيذهب إلى عدم إمكان تخصيص العام القرآني بخبر الواحد الظني، كما ينقل هذا الرأي عن بعض الحنفية[6]، لكنه يشير إلى إمكانية ذلك إذا كان على نحو التفصيل والبيان[7]، ومشهور فقهاء الإمامية مع جواز التخصيص، وهنا تكمن الجرأة في مخالفة المشهور، على أن كثر من العلماء الإمامية يرجحون أن تخصيص خبر الواحد للعام القرآني يأتي في سياق التبيين والتفصيل، ويفترضون أن العام ظني الدلالة، ويقدم الخبر اذا كان قطعي الدلالة، مع التحقيق في مسألة صدور الخبر[8].

كما يؤكد على الاهتمام في فلسفة الأحكام الشرعية وتتبع غايات الأحكام وما تحققه من مصالح وما تدرءه من مفاسد، ويكرس على متابعة ما ينتجه العقل العملي من قيم أخلاقية أصيلة، تكون جديرة بالوعي لها ومراعاتها في ضمن عملية فهم النصوص الشرعية.

ثانيا: فرضية مقتضيات الحكمة في التشريع (التأسيس من داخل المجال المعرفي):

ينطلق الكاتب من ملاحظة مرحلة الجعل، وهو ما يشير إلى محاولة التأسيس من داخل المجال المعرفي لعلم الفقه وأصوله، فيطرح مصطلح (مقاصد الجعل) ويشير إلى أنها غير (مقاصد الشرع)[9]، والمراد من مقاصد الجعل عنده هو ما تقتضيه حكمة وفلسفة التشريع في ضوء مجموعة من آيات القرآن الكريم، انطلاقا من عقلنة التشريع التي تتضمن الكشف عن آليات عملية التشريع بعد تحديد مبادئها في ضوء مقتضيات الحكمة والقيم الأخلاقية، منطلقا من قوله تعالى: (يؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ  وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)[10]، مستفيدا إمكانية إيتاء الحكمة لأي شخص يسعى إلى بلوغها، من أولي الألباب والعقل، وأهم ما يلفت النظر في أطروحة الكاتب هو (ليست الأحكام في الشرائع السماوية معطى نهائيا، بل أن تشريعها يجري وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع في أفق الواقع وتطورتها)[11]، وخلاصتها أن التشريع يستند إلى قيم أخلاقية يمكن للعقل أن يدركها، ويوظفها لملئ الفراغ التشريعي، وهنا لنا وقفة مع هذا الطرح من عدة وجوه:

على النحو الكلي لا يوجد خلاف على أصل استناد التشريع على القيم الأخلاقية.

جريان التشريع وفق مقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع على النحو الكلي واضح، لكن على النحو التفصيلي يحتاج إلى بناء قواعد تفصيلية جديدة.

ان العقل يمكنه إدراك بعض الكليات من القيم والمبادئ الأخلاقية، لكن تحديد المصاديق موضع خلاف بين البشر في أغلب الموارد والحالات.

إن الإشارة إلى منطقة الفراغ وتوظيف مقتضيات الحكمة لملئها سوف يحدد من فرضية الكاتب في مشروعه، إذ أن التنافي أو التعارض بين بعض الأحكام والقيم الأخلاقية لم يكن في مجال الفراغ التشريعي فحسب بل هناك أحكام دلت عليها أدلة معتبرة (مملوءة شرعا) وتعاني من إشكالية التنافي مع القيم الأخلاقية بحسب فرضية الكتاب.

نقطة القوة في التأسيس:

من الملفت للنظر وما يمثل نقطة القوة في طرح (المنهج الجديد)، هو ما تناوله الكاتب حول توقف فعلية الاحكام على فعلية موضوعاتها، فالاستطاعة مثلا  شرط في وجوب الحج، وحكم الحج (الوجوب) متوقف على فعلية موضوعه (فعل الحج) والذي بدوره متوقف على شرط الموضوع (الاستطاعة)، من هذه الصورة التحليلية للحكم الشرعي التي قدمتها المدونة الفقهية والأصولية، انطلق الكاتب في صياغة منهج مقتضيات الحكمة في التشريع، ليجعلها على الأقل أحد أركان تحقق موضوع الحكم، مع تبنيه عدم كفاية تحقق موضوع الحكم من ناحية الفعل وبعض شروطه كما في الاستطاعة، بل يدعو وبنحو واضح إلى فحص موضوعات الأحكام (كأفعال للمكلف) من حيث مدى انسجامها مع الحكمة في التشريع والقيم الأخلاقية، وهو ما يدعو بنحو حثيث إلى الاهتمام بحكمة التشريع في أثناء فهم الدليل واستنباط الحكم واصدار الفتوى، فلابد أن يكون الحكم ناظر للواقع ومحكوما بالمبادئ التي تحفظ مصالح الإنسان، وليس الحكم مجرد التزام بمقتضى العبودية ومنطق التعبد فحسب، بل هو التزام بمنطق القيم الأخلاقية التي تحفظ وجود الإنسان، ومقاصد الشرع بنحو عام.

ولم يغفل الكاتب أيضا، ما لهذه العملية من جانب معقد كما أشار إلى ذلك[12]، وإن قراءة النصوص الشرعية في مقام الاستنباط لن تكفي في ادراك الملاك والمصلحة مطلقا، مالم تتم الإحاطة ولونسبيا بما يصرح به القرآن الكريم من مبادئ وقيم وقواعد عليا، تحكم الفهم الفقهي للنصوص الشرعية وتوجه عملية الاستنباط بما يوافق مقتضيات الحكمة في التشريع.

كذلك أسس إلى معالم جديدة حول مفهوم التشريع والقرآن الكريم، عبر التأكيد على وحيانية النص القرآني، من جهة، وفهم مغاير لقداسة النص القرآني من جهة أخرى، إذ تعتمد رؤيته حول القداسة على ملاحظة خصوبة النص وثرائه وعمقه وإمكانية كبيرة لتأويله والبحث في أعماقه، بخلاف التعبد المحض الذي يلغي الإرادة والواعية للإنسان المتدبر[13].

وللواقع أهمية بالغة في رؤيته حول النص التشريعي في القرآن، ولما كان القرآن الكريم يشير بنحو واضح إلى واقعية الأحكام كما في قوله تعالى: (ويسألونك.. ويستفتونك)، فإن هذا الشاهد يؤكد على أن القرآن الكريم في بعض مسائله جاء استجابة إلى واقع محدد، ومنه يمكن إدراك أن الأحكام الشرعية منها ما هو زمني محدود، ومنها ما هو مطلق لكل زمان ومكان.

ومن المسائل التي أسس إلى نقدها وإعادة قراءتها هو ما اشتهر عند الأصوليين: (المورد لا يخصص الوارد)، لكن الكاتب يشير إلى أن فعلية الحكم ترتهن لفعلية موضوعه، والمورد أحد طرق تشخيص شروط فعلية الموضوع وهي نتيجة هامة بنظره، وتوافقا مع ما يؤكد عليه السيد محمد باقر الصدر من ارتهان فعلية وعدم فعلية الحكم لفعلية وعدم فعلية الموضوع[14].

ويرتبط هذا الجانب بمبحث هام يتعلق بالقضايا الحقيقية والخارجية والتمييز بينها في موضوعات الأحكام، ويعد هذا المطلب من المطالب الأصولية المتداخلة مع الفلسفة كما بحثها مفصلا السيد الطباطبائي في كتابه الفلسفة والمنهج الواقعي، والتمييز بين نوعي تلك القضايا يساعد كثيرا على إعادة النظر في موضوعات الأحكام التي يتم عبر تنقيحها التمييز بين الأحكام المطلقة والأحكام المحدودة بزمان دون زمان.

ربط التشريع بالأصول والمبادئ:

لم يعهد الواقع الاستنباطي أن يتم الربط بين المبادئ من جهة، وإجرائيات الاستدلال من جهة أخرى، بحيث يتم استحضار المبدأ الكلي في أثناء عملية استخراج المعنى الجزئي من النص، وربما تضمن هذه العملية في سياق قبليات الفقيه والمؤثرات التي تحكم فهمه، فيكون تحصيل حاصل، لكن ليس بالنحو الذي يدعو إليه الكاتب، إذ استدعى مقاصد الجعل كحلقة بديلة عن عدم إمكان إدراك الملاك والمصلحة، كما يذكره مفصلا في كتاب آخر[15]، فيفترض وجود مبادئ وقيم تحدد تلك الملاكات التي تعد متعسرة الإدراك على العقل الفقهي، وتلك المبادئ والقيم تمثل مرجعيات كلية تدخل شرطا أساسا في تشكل لائحة الاستدلال على الحكم الجزئي، وتتصل تلك الأصولوالمبادئ بالمجال العقدي والرؤية الكونية، بحيث تزول الفجوات بين الفقه من جهة، وعلم العقيدة من جهة أخرى، عبر علاقة تتضمن رؤية فلسفية وكونية عن الإنسان ووضعه تحت نظر التشريع كمنظومة كلية شاملة.

ويوضح الكاتب أن تلك المقدمات والمبادئ يتم إدراكها بالتأمل الطويل ومن قبل نخبة مستوعبة للتشريع بنحو كلي وعلى قدر عال من الوعي بمتطلبات الواقع الانساني.

والملاحظ  أن الكاتب في الغالب يحيل إلى كتابه (الفقيه والعقل التراثي) الذي يتضمن تفصيلات معمقة عن ضرورة اتصال الفقه بفلسفة القيم والأخلاق من جهة، وبفلسفة الإنسان وواقعه من جهة أخرى، محاولا الخروج من النسق التقليدي الذي يكتفي بالقواعد المحددة والتي تكون صارمة منهجيا، إلى مساحة أوسع تتضمن وعي القيم،  ووعي الإنسان، ووعي الواقع، بمنهج عقلي/عقلاني، يتوخى استحضار الكلي في مقام استنباط الجزئي.

‏وتحت عنوان (مبادئ التشريع) تناول الكاتب فرضية مقتضيات الحكمة وما تقتضيه من أن الأحكام تشرع وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع على وفق الواقع وضروراته، ويقصد بمبادئ التشريع تلك القيم والتصورات الكلية التي بموجبها يحدد مستوى الالتزام بالحكم الشرعي[16] ويتساءل حول ما إذا كانت مبادئ التشريع مبادئ إنسانية أخلاقيه كونية ثابتة في عرف العقلاء حتى تكون صالحة كمرجعية معرفية لملئ الفراغ، وفي النهاية يجيب عن ذلك بالإيجاب ويستحضر الأدلة التي تدعم هذه الفرضية، من خلال مبادئ عدة تمثل مرجعيات جزئية، والجديد هنا أتنه يؤسس إلى الإطار المرجعي الموحد بين مختلف المجالات المعرفية، مؤكدا أن المرجعية للفقه لا للفقيه، ملتفتا إلى قيمة التراكم المعرفي في المجال الفقهي الذي يسوغ الرجوع إليه من باب العرف التشريعي، كما يشير إليه الكاتب صراحة.[17]

ويتناول في المبدأ الأول مركزية العدل وعدم الظلم ويعتمد نصوص القرآن الكريم مثل قوله تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان..) فإذا كان العدل قد أمر به القرآن الكريم مراراً فمن الأولى الالتزام به شرعياً، ومن ثم يحلل مفهوم العدل والعدالة في ضوء النص القرآني وينطلق إلى المبدأ الثاني السعة والرحمة، وهو مبدأ أساس في تشريع الأحكام قرآنية وتؤكده بعض النصوص القرآنية مثل قوله تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم..) والآية في نظر الكاتب تصرح بقصدية الانتقال من العسر إلى اليسر وتحرير الناس من معاناة التشريعات السابقة وهنا ينتقل إلى فكرة ضرورة أن تراعي الشرائع الواقع وضروراته، والإسلام يختم تلك الشرائع بتخفيف ما كان يعانيه الناس من الشرائع السابقة وهو ما يؤكده قوله تعالى: (يريد الله أن يخفف عنكم..)، والمبدأ الثالث المساواة، والمساواة عند الكاتب هي شرط صدقية عدالة الأحكام، وإنما تسري على الجميع، والمبدأ الرابع هومراعاة الواقع، وهو ما يجب مراعاته لتوقف فعلية موضوع الحكم على فعلية جميع ما يرتبط به، فالواقع هو موضوع الحكم، ويشير الكاتب إلى التحولات التي تلاحق الواقع وهي ملاحظة بالوجدان ‏كما يشير الكاتب أيضا إلى فكرة جوهرية في طرحه تتمثل بوحده المبادئ التشريعية إذ يذكر مجموعة أدلة وشواهد تؤكد وحدة مبادئ التشريع بين الأحكام السماوية والوضعية بما يتيح ملء منطقة الفراغ بعيدًا عن وصاية الفقيه سوى خبرة الفقيه الفقهية والقانونية، ووحدة المبادئ هذه تكرس حالة العقلانيه في الفقه الإسلامي وتؤكد ضرورة الاحتكام إلى الخبرة المتراكمة والمعارف البشرية في إطار وفي مجال القوانين والأحكام والتشريعات.

‏ويخلص في آخر بحثه إلى ضرورة تفعيل ولاية الشريعة بدل ولاية الفقيه ويعني بولاية الشريعة وهي أن تحكم الشريعة بالأدوات المجملة واستحضار العرف التشريعي والسيرة العقلاء، كل ذلك يقدم معرفة إجمالية من شأنها أن تقدم مساحة خاصة من المعارف التي تعين على استنباط الأحكام الشرعية وفق متطلبات الواقع.

‏أن هذا الطرح يساوي ما تطلق إليه بعض الفقهاء والباحثين من مصطلح روح الشريعة ومذاق الشرع ويمكن أن نفيد من طرح الكاتب أن المسألة في جلها تتعلق باستلهام القواعد والأحكام من خلال المعاني الإجمالية والكلية في التشريع التي يستفاد منها الفقيه في عملية قراءة واستنباط الأحكام الشرعية.

 خلاصة

جاءت هذه القراءة بنحو موجز ومختصر، بعد متابعة الفصلين الأولين، اللذين تضمنا نسبة من التأسيس، وبقية الفصول كانت على موضوعات لا تقل أهمية عن الأول والثاني، فالفصل الثالث تناول مسألة الفراغ التشريعي بدءا من تكونها لدى الشهيد السيد محمد باقر الصدر، وانتهاءا بما يعرض إليه الكتاب من منهج جديد، تكتمل ملامحه من خلال بقية الفصول، إذ يعرض الفصل الرابع إلى الأسس الأخلاقية للتشريع، وعلى غرار بقية الفصول البالغة اثني عشر فصل.

ومن الجدير بالملاحظة أن المشروع قائم على ملاحظة ونقد الفقه بنحو عام، وبمختلف اتجاته ومذاهبه، ولم يقتصر على الفقه الامامي، لأن كثيرا من التطبيقات التي ساقها الكاتب كانت نماذج لطروحات سلفية متشددة لا تمثل الرؤية الفقهية الإسلامية العامة، بسبب انفرادها بمنهج خاص في قراءة النصوص التشريعية، وهو ما يدل على سعة اهتمام وأفق الكاتب.

إن المشروع في هذا الكتاب لايمكن استيعابه من دون الاطلاع على بقية المنجز المعرفي للمفكر الاستاذ ماجد الغرباوي، فضلا عن كونه سلسلة مترابطة من البحوث التي تبعت كتب ومؤلفات أخرى في سياق تجديد المعرفة الفقهية.

إن ما يميز المساحة الفكرية التي يتحرك فيها المفكر ماجد الغرباوي، هي المجال العملي الواقعي الذي يوفره علم الفقه وما يختص به من قرب وصلة بالواقع، وهو ما يفتقد إليه عقل النخبة، إذ يغلب التعمق في المفاهيم والتنظير من دون الإحاطة بتفاصيل الواقع التي يتناولها مجال الفقه والأحكام بنحو تفصيلي، وهو ما تمكن منه الغرباوي بنحو دقيق أضفى طابعا شموليا على طروحاته، وبالأخص الكتاب الذي بين ايدينا، وسوف تكون هناك تتمة لهذه القراءة الموجزة للكتاب لتنتهي منها لاحقا بنحو مفصل بعون الله تعالى، والحمد لله رب العالمين. 

***

بقلم: ا. م. د أسعد عبد الرزاق الاسدي 

كلية الفقه/جامعة الكوفة

.....................................

[2]- ظ: مقتضيات الحكمة في التشريع، نحو منهج جديد في تشريع الأحكام-  ماجد الغرباوي،ص: 5-6

[3]- المصدر نفسه، ص: 7-8

[4]- المصدر نفسه، ص 22.

[5]- المصدر نفسه، ص: 25

[6]- ظ: نهاية السول للإسنوي (2/ 459)

[7]- ظ: مقتضيات الحكمة في التشريع، مصدر سابق، ص: 17

[8]- ظ: محمد جواد مغنية، علم اصول الفقه في ثوبه الجديد: 190

[9]- مقتضيات الحكمة في التشريع، مصدر سابق، ص:31.

[10]- البقرة: 269

[11]- مقتضيات الحكمة في التشريع، مصدر سابق، ص: 33.

[12]- المصدر نفسه، ص: 35.

[13]- المصدر نفسه، ص: 52.

[14]- الصدر، محمد باقر، دروس في علم الأصول: 126

[15]- مقتضيات الحكمة في التشريع، مصدر سابق، ص: 120.

[16]-المصدر نفسه، ص: 85

[17]- المصدر نفسه، ص: 106

.........................................

* مشاركة (66) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

محاولة في قراءة تشريحيّة لكتاباته الأدبيّة

في البدء: أشير إلى أنّه ليس بالهيّن ان نقف على تجربة إبداعيّة في مجال الكتابة الأدبية لمفكّر صاحب أنساق نظرية.. ذلك أنّ شخصيّة المفكّر تظلّ تُلقي بظلالها على خطابه الأدبي ولو بدرجات متفاوتة من شخص إلى آخر حتى وإن حاول التّنصّل منها ومهما أخلص للأدب يظلّ لرواسخ المعرفة الفكرية حضورُها الشّفيف من وراء الكلمات والجمل فيحدّ ذلك من مشروعيّة التعامل الأدبي الصّرف مع نصّه بواسطة آليات النقد خاصّة إذا كنّا مفتقرين إلى منهج مناسب يضع بحوزتنا وسائل التّحليل الابستيمولوجي إلى جانب وسائل التحليل النّقدي حتى نستطيع الوقوف ولو نسبيّا وإجرائيّا على درجة أدبيّة ذاك النصّ بالقياس إلى درجة تأثّره بالشخصيّة الفكريّة لمبدعه.. هذا ما اعتراني وانا اقرأ كتابات الأستاذ ماجد الغرباوي الأدبية بعد أن قرأت عدّة مقالات حول كتبه (المرأة وآفاق النّسويّة - مقتضيات الحكمة في التّشريع: نحو منهج جديد لتشريع الأحكام - تراجيديا العقل التّراثي - المقدّس ورهان الأخلاق...) وخاصّة حول مشروعه الفكريّ التّنويريّ الذي يقوم على (إعادة النظر في طرق التّعامل مع النّصّ الدّيني وأحكامه وفقهه بطريقة عقلانيّة حداثيّة مجارية لحركة الزّمنِ) وعلى الدّعوة إلى تحفيز الوعي نحو ضرورة (إقامة مجتمع يأخذ بأسباب العلم والمعرفة ويعزّز قِيَم الدّين والفضيلة باعتبارهما قِيَما إنسانيّة أصيلة تُكافح الظلم والعنف وتعضد روح التّسامح والسّلم الأهليّ وتُقوّض مشاريع الهيمنة والسّيطرة وخطط إذلال الشّعوب ونهب ثرواتها وتساهم في التّحرّر من سطوة المنظومات الدّينيّة ذات الأفكار المتطرّفة والهدّامة) فاتضح لي من خلال ذلك أنّني إزاء شخصيّة تنطبق عليها صفة المثقّف العضوي الذي يُحمّل كتاباته مهما كان نوعها همّنا الجماعيّ ورسالةَ مقاوَمةٍ (إن لم أقل ثوزيّة) في منتهى الجرأة والشجاعة إذ تواجه واقع العراق وما حلّ به منذ كارثة 2004 وما بعدها بقراءة جديدة للفكر الديني مغايرة تماما لتلك التي أفرزت التّناحر الطائفي والإرهاب السّلفي.. وواقع البلدان العربية الإسلامية عموما وما حلّ بها خاصة بعد أحداث 2011 تلك التي كانت نتيجة محتّمة لوعينا المبتور بخطورة بداية تنفيذ السياسة الامبريالية العالمية لمشروعها الجديد في الشرق انطلاقا من حرب العراق وحرب السّودان .. هي ذات الجرأة والشجاعة التي شفّت عنها لي كتاباته الأدبية ذات الطّابع الخاصّ والخطّ الموحّد في تعدّدها وتنوّعها أجناسيّا فجاءت متجاوزة لممكنات التصنيف المعتادة.. أو من خلال هذا البحث المعمّق عن الذات أو الكينونة الفعلية للانسان المفروض إنسان هذه المرحلة من تاريخنا المأزوم والمهزوم (أو "الإنسان القاعدي" الذي بحث عنه طويلا وحاول نحت ملامحه عالم الاجتماع التونسي المرحوم "المنصف ونّاس") أداته في ذلك توظيفات جمالية للّغة ناجحة في الإثارة بالإبداع والاستدراج نحو الفكر ..

الخطاب بين الفنّ والموقف

من خلال مصافحتي لكتابات الأستاذ الغرباوي التي بحوزتي على الأقل وهي تعدّ حوالي عشرين نصّا على أكثر من شكل وفي أكثر من موضوع حتى أنّني ألفيت نفسي إزاء خطاب لا يخضع بسهولة إلى التّصنيف أجناسيّا منها ما كتب باسترسال النّثر بمنسوب عال من الشّاعريّة ومنها ما كتب بنظام الأسطر الشعريّة بمنسوب عال من نثريّة السّرد والخاطرة وبين هذا وذاك تتدفّق اللغة بمعجمها وتركيباتها مدّا وجزرا او كثافة وشفافيّة مراوغة المجازات تنأى عن كشف حجبها للقارئ بيسر محقّقة أدبيّة الإيماء الفاتح لتعدّد ممكنات القراءة والفهم والمُشرّع للتّاويلات المُغنية لمرمى الكتابة ..

ذلك أن الغرباوي يعوّل كثيرا على الفكر بأنساقه التأملية والمعرفية العميقة في تشكيل النّصّ بمختلف بُناه ورؤاه له طريقته الخاصّة التي تحفر كلّ مرّة قالبها المختلف كما يحفر ماء الجدول مجراه فنجده مثلا وهو يجسّد انبلاج فجر الكتابة في أحواله المختلفة يتناول المسألة في نصّين بقالبين مختلفين هما: "هاتف الفجر" الذي جاء في شكل أسطر شعرية منها:

(تبتكرني الريح شظايا..

مديات حلم

حطام المسافات

و انشقّ القمر...)

ونص" هاتف الفجر" الذي جاء في قالب نثريّ مسترسل منه:

(تحرّكت أناملي تتلمّس موضع السّهم في قلبي ومسّني طائف من الجنّ لم استعذ منه إلّا به) فإذا هيكل النّصّ خاضع لمُقتضى الفكرة وليس العكس وإذا الكتابة بمثابة أفق مفتوع على أحوال الكاتب الإنسان وأعماقه الضّاجّة بالمشاعر والتّأمّلات وعلى شتّى الأنماط والتلوينات الإبداعية تبعا لذلك ليدبّج خطابا أدبيّا مُحمّلا بموقف فكريّ حداثيّا يوظّف لغة الأدب حسب حركة الحياة والتّاريخ ينطلق من عمق الذّات بفكرها ووجدانها فيتبدّى متخفّيا من خلال الجمل النّاقلة تصويرا أو تسريدا للأحداث والشّخصيات والمشاهد والبيانات نقلا رمزيّا مدهشا بلاعبيّة ملوّحة بتحرّك في خضمّ اللغة والنصوص يلاعب الفكر أدبيّا ويلاعب الأدب فكريّا في بحث قلق عن نهج متحرّك مساير لحركة التّاريخ هو نفسه نهج الغرباوي في مؤلّفاته الفكريٍة وهو يستنطق النصّ الدّينيّ وأحكامه وتشريعاته ويدعو الى التّعامل معه قياسا إلى موضوعيّة العقل لا إلى انطباعيّة النقل.. وهنا يمكن أن أورد هذا المقطع الشّعري المسرود في مشهديّة مُتخيّلة موغلة في التّرميز إلى حيرة الإنسان في زمننا المعقّد بين الحقّ والباطل وقد كثر فيه النفاق والمغالطة إلى درجة الالتباس وصعوبة التمييز بينهما وهو مقطع من نص: "تسمّر الضّوء"

(يالدهشة السّؤال..

آلهة المعابد الرّخاميّة

تركوا الباب مواربا

فتسمّر الضّوء يعانق أوهام الحقيقة

و نبوءة المرمى الأخير

تمزّق أكفانه البالية..)

وسيلة مفكّرنا الأديب في ذلك طريقة خاصّة منبعها تشبّعه بالفكر الفلسفي مكّنته من التّغلغل في جسد اللغة ليستقي من طرق المجاورة بين مفرداتها والمجاوزة لمعتاد استعمالاتها ما يجعلها أكثر قابلية للتعبير عن رؤاه المتداخلة دون تعقيد فكري أو تبسيط انطباعيّ.. وليستقي من ثراء معجم العربية الزّاخر ممكنات لا حدّ لها من المجازات والاستعارات والتشبيهات رمزا وانزياحا بما يحقّق ما يلزم النّص من جمالية الادهاش باللغة حتى يحقّق ادبيّته.. لننظر هنا مثلا في نصّ: "يتهادى حلما" كيف تمّ توظيف المعجم الشّعري العريق (عيون المها) مع المعجم الطقوسي (محراب .. يتبتّل.. آياته..) في تشبيك بلاغيّ بين الاستعارة والمجاز العقليّ (التّشخيص) لتشكيل وضعيّة عاطفية برومنسية مثيرة ومؤثّرة في آن:

(ضاحكةً عيونُ المَها

تُلامسُ شغافَ قلبٍ

يَسهو في مِحرابهِ

يتبتلُ ساعةً وأخرى

يَعكفُ ..

يُرتّلُ آياتٍ ..

مرَ بِها طيفُكِ ساعةَ سحرٍ)

فاللغة في هذه النصوص لا تقول وجود صاحبها بتمظهراته المتعدّدة الفكرية والوجدانية والاجتماعية فقط إنما تقول أساسا وجودها الأدبيّ الفنّيّ حتى وهي تعبّر عن المواقف الفكرية سواء في نثرية شعرها ضمن نصوص قد نتعسّف عليها حين نصنّفها قياسا إلى قصيدة النّثر.. أو في شعريّة نثرها ضمن نصوص قد نتعسّف عليها حين نصنّفها قياسا إلى الخاطرة أو القصّة القصيرة.. ألا ينضح بالشّاعريّة الفائقة مثلا نصّ " تمرّد" ذو المنحى الفكري التّأملي الوارد في شكل خاطرة؟ وذلك بما تضّمنه من رمزيّة السّرد وطرافة التّشويق المخاتل والنهاية المدهشة الصّادمة لتوقّعات القارئ.. وهذه مقتطفات منه:

(أتصفح عوادي الأيام حتى عثرت على أشلاءٍ موشّاة بحمرةٍ، أو بقايا بقع دمويةٍ)، (حاولت ألمس تلك الأشلاء، تناثرت رمادا بين أناملي الذابلة)، (فقت قليلا، أو كدت)، (ثم تذكرت فصرخت في عمق الليل.. إنها أشلائي!!!).

ونفس الشيء نجده في نص " كذبة متوهّجة " ذي المنحى السّياسي المندرج ضمن فكرة أخلقة السياسة.. وهذه مقتطفات منه:

(ثم يتذكر رفاق دربه، ويتصورهم كيف يتسلقون الجبال، ينامون بين الصخور، ويتوقعون الموت في كل لحظة، لكن إرادتهم لا تلين، وعزمهم كالحديد، يستأنسون بالموت، ويتوقعونه في كل لحظة)، (من أجل أهلنا ووطننا)، (كيف استطعت الصّمود كل هذه الفترة سال رعد بإعجاب.. كيف استطعت الصمود كل هذهِ الفترة؟ سأله رعد ببراءة واعجاب. فاجاب نوري جواد بهدوء:

لا يا رعد انا عادة أأتي من الطرف الاخر بواسطة سيارة، ولا اكابد اي مشقة في الطريق). فلم تتعارض صرامة الموقف اللّاذع مع شاعرية النصّ السّارد لوقائع ذات بعد رمزيّ..

هكذا ظلّ خطاب الغرباوي وهو يخوض غمار التجربة الإبداعية منجذبا إلى آفاق الفكر والفلسفة مؤمنا بأنه لا حدْ لنمط او لنوع أو صنف من الأشياء وأن هناك وجود كلّيّ للموجودات يختبر كينونتها الفعلية على محكّه عساها تدرك مرتبة أقرب إلى الكمال الذي يتوق اليه الجميع على مدى حركة التاريخ ولا يدركه لذلك تتشابك أنماط الكتابة وتتقاطع على قاعدة الوحدة والتّنوع او المُشاكَلة والمُمايَزة في ذات الآن في كتاباته فتفتح القصيدة على ذاتية الخاطرة وجماعية القصّة وتنجذب لغة الشّعر فيها إلى الغة الفلسفة والحكمة لتتناغم في ذاك النفس الشاعري المؤثّر والنزعة الدرامية المشوّقة والفكرية المستفزّة المثيرة للتساؤل.. لذلك فإن التعامل مع هذه النّصوص في إطار الأجناسية الأدبية ليس بالمُيسّر هذا ما يقتضي منّا الوقوف على خصائص الكتابة كرسالة جمالية التّأمّل منطلقها والفكرة أو الموقف غايتها وغوايتها..

الرّسالة الجمالية والفكريّة

كان للشّعر في الفكر الإغريقي دور أساسيّ في أداء فنّ الخطابة الذي عبّر به الفلاسفة آنذاك عن نظريّاتهم ودروسهم في الحياة والسياسة وتنظيم المجتمع وكان هذا الفكر يتّخذ من اللغة الجذّابة وسيلة للتّأثير والاستقطاب حتّى أنّ " هوميروس" كتب نظريّته الفلسفيّة شعرا.. فمنذ القديم كانت الصّلة بين الإبداع الأدبيّ والفلسفة قائمة الذّات وتجلّى ذلك خاصّة في الفكر العربي القديم الذي تفنّن رواده وقد كان عدد كبير منهم أدباء (مثل الجاحظ والفارابي وابن رشيق...) في صياغة فكرهم صياغة أدبيّة فائقة الجودة.. ثمّ ظهرت في فترة متقدّمة كتابات الرّومنسيين العرب في الشّعر والنّثر محمّلة بالفكر الوجودي وقضايا الفلسفة وقيم الإنسان المُريد ومنزلته في الوجود.. فالتّكامل بين الأدبيّ والفكريّ يحتمل التكامل أكثر ممّا يحتمل التّعارض لذلك جاءت نصوص الغرباوي على تنوّع مواضيعها محلّقة في التّجريد وقد وردت عوالمها الأدبيّة مفلسفة لرؤى صاحبها ومواقفه تجاه ذاته في تقلّب أحوالها بين العشق والإستياء والتّفاؤل والحيرة وغير ذلك... فها هو في نصّ" عناقيد عشق " يوحّد بين فاعليّة الغرام والكتابة وإرادة الحياة في صورة غزليّة أدبيّة حبلى بالمعاني الرومنسيّة دبّجتها عبارات قرآنيّة المصدر فكان أن أدّت رسالة جماليّة مفادها انّ لغة القرآن بإمكانها التّعبير عن كلّ المعاني والمقاصد والأفكار وأنّ الحبّ لا يكون إلّا وهو في أوْج صوفيّته وأنّ الحياة أمل وبحث مستمرّ في تحقيق الأفضل مع تجدد كلّ يوم.. ومنه هذا المقتطف:

(أسبح باسمك

حين طلوع الحب

فتستلقي هواجسي

تستريح على شطآن

حلمنا الموعود

في انتظار فجر

صادق)

فجاء الشعر محبّرا للفكر مجاورا له في تأدية الرسالة..

ويتّسع مجال هذه المجاورة لتصبح محاورة خاصّة في النّصوص ذات المنزع العقلي المتأمّل لرسالة الكتابة والتي نجدها احتلّت مساحة كمّيّة هامّة لتثير إشكال المكابدة أثناء الكتابة إن كانت انفعالية أو ذهنية أو منزلة بين المنزلتين؟

فنجده مثلا يسرد في نص "ذهول":

(حتى إذا هبط الليل أو يكاد، رأيت مذهولاً يسابق الناس، كمجنون يستفزهم بهذيانه. استهوتني متابعته، فرحت أعدو خلفه، كان يباعد بين خطواته، يتلفّت مرعوباً)، (هو في ذهوله، وأنا أتلظّى غضباً او ندماً، مع كل مشهد)، (عاد مهرولا كأنّه وجد ضالّته)، (فقت صباحا تذكرت ما جرى، عاودني الحزن، وفغرت فمي عندما عرفت: أن المرمّل كان: قلبي..)

و نجده في نفس السياق وبطريقة مختلفة توحّد بين الكتابة والفداء تضحية ونضالا يكتب في نصّ " تبتكرني الرّيح ":

(وانا المسجى بين حرفين

تبتكرُني الريحُ شراعاً

يُراقصُ ضوءَ أقبيتي)

*

(مذهولاً أستردُ أنفاساً

تراودُ كلكامش في حُلمهِ

فيغمرَني الحنينُ

ينسابُ بين أصابعي

وتنسلُّ رايةٌ

تُصارعُ المدى

وذاك المُراقُ بين لهاثِ الدروبِ

دمي.....)

فتكون الكتابة في فلسفة الغرباوي بهذا المعنى عناء وعطاء حتى السّفوح يعقبه انبعاث وولادة متجدّدة لذلك هي لا تقبل القيود ولا الجمود تساير حركة الرّيح وحرّيتها وهكذا لا يكون الأديب إلّا قادرا على ملاحقة تلك الحركة الدّؤوب .. كتب في نصّ " مديّات حلم ":

(في مدياتك القصية حلمٌ

شاسعان جناحاك

حلقْ .. فلن تجدَ سوى الريح موطئا...)

إلى جانب الكتابة طرح الغرباوي وبذات المنطلقات الفلسفية قضية مأساة الانسان في الوجود وحيرته بين المقدّر والمخيّر بطريقة باعثة على التفكير وإعمال العقل ومحفّزة على البحث في كوامن الذّات استجلاءً لامكانياتها ونواقصها .. كتب في نص "هاتف الفجر":

(أيمّم وجهي صوب ناصية القدر الأزليّة.. أرى الحياة مشهد بؤس او حطام ألم لا يفقه لغتها سوى حكيم اعتزلها أو عاشق هام في أرجائها... الحياة عتمة حين ينطفئ نور القلب...)

و لتأمّل أحوال المجتمع وأخلاقياته نصيب هامّ في نصوص أديبنا المفكّر الذي وضع قلمه على مواضع الداء بشجاعة المؤمن برسالة المثقّف في ترشيد العقول وتوعيتها من أجل تغيير الوعي والتحفيز على التفكير في العمل على تغيير الواقع نحو الأفضل قدما.. فأرهف بصيرته لينتقد ويشرّح دون أن يجرّح وليرشد نحو سبل الخلاص دون أن يقود أو يصرّح فأجاد وصل الموقف الفكري بالرّسالة الأدبية في تسليط الضوء على الواقع العربي المرير الذي يتخبّط فيه الإنسان والأوطان.. فكتب في نصّ " وانشقّ القمر":

(كانت حيرة فهمه للسؤال أصعب عليه من الاجابة)..

(كيف يقترب بنصف جسد خائر القوى؟. كيف يقطع المسافه بينه وبين نصفه الثاني؟)... (كيف يقترب بنصف جسد خائر القوى؟. كيف يقطع المسافه بينه وبين نصفه الثاني؟)... (انها بضع خطوات... لا .. لا .. لا .. ليست بضع خطوات، إنه القدر حينما يطاردني).

محيلا في هذا الموضع على قعود نصف المجتمع العربي (من المقصّرين أو النساء اللواتي اقصتهنّ العقلية الذكوريّة السّائدة) عن الفعل والإنجاز المحققين للحياة في معناها الحقيقي..

ومستاءً في موضع آخر إزاء كرب الوطن من نصّ " يتهادى حلما":

(فما عادَ لنا فرحٌ

والموتُ يَنشرُ راياتَهُ السود

فوقَ سحابات بلدٍ خانتْ به

نفوسٌ أدمنتْ الغدر)...

و هو مع ذلك لا يُغفل التفكير في العوامل والأسباب التي يسهل تجاوزها بالمراجعة والتّصحيح والحرص على التغيير وتحقيق الخلاص وهنا يمكن أن استشهد بهذا الجزء من نصّ "حافات قلقة":

(لكن هل بمقدورنا ان نصنع انسانا كما نريد؟؟) .. (ما علينا الا ان نصّدق اوهامنا، ونجد من يدافع عنها، حينئذٍ ستكون هي الحقيقة في أعين الناس .. أليس أصدق الحقائق أكذبها)...  (وماذا عن جوقة المطبلين؟ .. هكذا اجابت بثقة عالية.. ولما حان وقت التحدي، ارادت ان تحمله، لكن ...  صعقها خواء حلمها).

تلك بعض إضاءات حول ما حملته نصوص الغرباوي الأدبيّة من رسائل فكريّة عبّرت عن موقفه المنتصر لمقاييس العقل المتشبّع بالمعرفة في عيار الكتابة والحب والإنسان والمجتمع والأخلاق والحُكم.. هي ذات المقاييس التي تعامل بها في كتاباته الفكرية مع إحكام الدين الإسلامي ونصوص الفقهاء في تفسير القرآن والسّنّة ومراجعة ما ورد فيها من أحكام وتشريعات..

في المنتهى

لقد تميزت تجربة الغرباوي الأدبية بحداثة متعدّدة المظاهر.. منها هذا التّشبيك الأجناسي بين عدة أنماط من الكتابة حقّقت جمالية خاصّة في توظيف الأساليب التّقريرية والإنشائيّة والبلاغيّة والسّردية.. فضلا عن التّشبيك بين لغة الشّعر القديم ولغة القرآن ولغة الشعر الرومنسي المعاصر ولغة المتصوّفين والحكماء التي أجِيد توظيفها بشكل موغل في التّجريد الفلسفي.. ممّا جعل الكتابة تسع بكلّ سلاسة ويسر المواقف الفكرية لتؤسس لممكنات متجدّدة قادرة على تخطّي عتمة الرّواكد وكسر تجلمد القوالب.. وهذا يقود إلي الإقرار بأنّ النصّ الأدبي لدي هذا المفكّر لم يضيّع أدبيته في خضمّ تجريد الرّؤى وعقلنة المواقف بقدر ما أكتسب ثراء الأفكار وعمق الرّسالة الأدبية وفتح للكتابة أبواب التّجديد المستمرّ على مصاريعها .. وبأن شخصيّة المفكّر وإن طغت على شخصيّة الأديب لم تتعسّف عليها في لعبة المجاورة والمحاورة..

***

بقلم: الأستاذة كوثر بلعابي - أديبة تونسية

..........................

* مشاركة (65) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

 

يعتبر المفكر العربي العراقي الكبير ماجد الغرباوي (ت م 1954) من بين المفكرين العرب التجديديين والتنويريين الذين انخرطوا في سؤال النهضة العربية المستأنف منذ القرن التاسع عشر ذلك أن الفكر العربي المعاصر على اختلاف مرجعياته ومشاربه ومناهجه ومفاهيمه، هو ذلك الفكر الذي ظل مؤطرا بسؤال النهضة (كيف ننهض؟) أي أنه ذلك الفكر الذي ظل يحلم بالنهضة التي لم تتحقق بعد وهذا عندما نقرأ واقعنا وواقع غيرنا، فنحن معاصرون للغرب في القرن الواحد والعشرين ولكننا على مستوى الفكر لازلنا نفكر داخل المقولات والمنظومات الفكرية للقرن الوسطى كما يرى ماجد الغرباوي مؤكدا أطروحة محمد أركون في هذا السياق الثقافي المغلق المتسم باحتكار الحقيقة والرأسمال الرمزي وممارسة العنف وشرعتنه للدفاع عن هذه الحقائق المقدسة. ومن هنا كان التساؤل المشروع: هل عوائق النهضة العربية تعود إلى عوامل ذاتية وداخلية، إلى طبيعة الثقافة العربية ومكونتها وبنيتها الظاهرة الخفية كما هو واضح وجلي في مشروع المفكر المغربي محمد عابد الجابري "نقد العقل العربي" أم أنها تعود لأسباب وتحديات خارجية كالإستعمار وثقافة الآخر المهيمنة فكريا وسياسيا وإقتصاديا وعسكريا وحضاريا بصفة عامة، أم أنها تعود لكليهما، أي أسباب داخلية وخارجية كما يرى المفكر ماجد الغرباوي لأنه يزاوج في مشروعه الفكري بين معرفة الأنا ومعرفة الأخر من خلال تبني قيم إنسانية وكونية بعيدا عن الهيمنة والإستعلاء والاستكبار، ومما تجدر الإشارة إليه أن ماجد الغرباوي يتميز عن المفكرين العرب أنه يمارس وظيفتين ثقافيتين في نفس الوقت، فهو مثقف نقدي يبحث عن المعنى وهو من أجل ذلك يستخدم ويستعمل أحدث المناهج في العلوم الإنسانية والإجتماعية من تفكيكية وبنيوية وألسنية وأركيولوجية وصينيالوجية وإبستمولوجية...إلخ.

هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فهو مثقف عضوي ملتزم بقضايا المجتمع الذي يعيش فيه سواء في وطنه الصغير العراق أو وطنه الكبير العالم العربي والإسلامي، فهو مثقف مهموم بالواقع المعاش الذي لا يبشر بخير، فهو منذ الوهلة الأولى راهن على أهمية الفكر والفكر النقدي تحديدا في عملية التغيير الإجتماعي والتاريخي، فهو بالإضافة إلى مشروعه الفكري الذي يتابعه القارئ العربي وغير العربي على إمتداد العالم العربي والإسلامي وحتى في العالم الغربي، فهو يعمل أيضا وهذا شيء مهم على إشاعة الفكر النقدي والحر من أجل تشكيل كتلة ثقافية تاريخية عربية متنورة مدركة لذاتها ومنفتحة على الأخر، كتلة تؤمن بالحوار ومشروعية التساؤل ونسبية الحقيقية وتارخيتها وفي سبيل ذلك أنشأ "مؤسسة المثقف العربي" التي تنشر أبحاثا وكتبا قيمة من حيث البعد الفكري والإنساني والرصانة العلمية، هذه المؤسسة أيضا التي تصدر عنها "صحيفة المثقف " التي تشارك فيها أقلام فكرية مهمة وواعدة من العالم العربي والإسلامي كافة ومن المثقفين العرب المتواجدين في المهجر وفي كل أنحاء العالم، هذه الأقلام تعبر عن كل الإتجاهات الفكرية والثقافية في العالم العربي لأن التعدد الثقافي بالنسبة للغرباوي وهو قيمة فلسفية يعد بعدا جوهريا من أبعاد الإنسان.

إن هذا كله إن دل على شيء فإنما يدل على الهم الحضاري الذي يشعر به ويحمله بين جنباته ويكابده في نفس الوقت المفكر ماجد الغرباوي كالتزام فكري وأخلاقي صادق وخيار منهجي استراتيجي وانخراط واع في بعث وإصلاح الثقافة العربية من داخلها على مبادئ علمية صحيحة وأسس فكرية تخضع لشرطية العقل والواقع والتاريخ وهذا كله من أجل فتح أفاق رحبة تسمح بالحرية والإبداع وتحقق إنسانية الإنسان بعيدا عن القمع والإقصاء والتهميش والتكفير والتزمت والعنف والتقوقع والانغلاق.

إن ماجد الغرباوي لا يرفض التراث في المطلق كما سوف نأتي على ذكره لاحقا في هذه الورقة البحثية ولكنه يدعو إلى إعادة الانتظام فيه من خلال لا أقول قراءة ولكن قراءات متجددة بإستمرار تسمح لنا بأن نتحول من كائنات تراثية إلى كائنات لها تراث بلغة محمد عابد الجابري، بربط جسور عقلانية ونقدية بين الماضي والحاضر، بين الأنا والأخر، والإنفتاح على ثقافة الآخر ليس من أجل الذوبان فيها والإندماج معها ولكن كمكتسبات فكرية وعلمية يمكننا الإستفادة منها حتى نستطيع أن نجيب على السؤال الذي طرحه المفكر المصري حسن حنفي، وهو سؤال راهني بإمتياز " في أي مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟".

إن ماجد الغرباوي ليس فقط مفكرا منتجا للمعرفة ولكنه مؤسسة فكرية متكاملة يؤمن بالعمل الجماعي والروح الجماعية وإشاعة الفكر النقدي وممارسة قيم جديدة منفتحة لزحزحة الفكر المغلق، لأنه لا يكفي أن ندعو إلى القيم الجديدة في الميدان، بل يجب ممارستها أيضا والأكيد أن الأثمان باهظة وهذا ما يفعله الغرباوي على خلاف المفكرين والأخرين.

إن ماجد الغرباوي من خلال إبداعه الذاتي كمفكر حر أو من خلال "مؤسسة المثقف العربي" أو "صحيفة المثقف" يذكرنا بآباء النهضة العربية الحديثة من أولي العزم كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده اللذان أسسا "مجلة العروة الوثقى" والشيخ محمد رشيد رضا الذي أسس "مجلة المنار "والمفكر التنويري سلامة موسى الذي أسس "المجلة الجديدة" إن الإعلام الثقافي له دور كبير في نشر الثقافة والتعرف على الذات وعلى الأخر كما يساهم في تشكيل وعي ثقافي جديد ونخب ثقافية تضطلع مستقبلا بعملية الإصلاح والتغيير الإجتماعي، لأن الإنسان لا يمكنه أن يتكيف مع حاضره وعصره ويتطلع إلى مستقبله بدون ثقافة، أي بدون أن تكون له رؤية إلى نفسه وإلى الأخر وإلى العالم والتاريخ.وقبل أن نتطرق إلى المشروع الفكري لماجد الغرباوي ونحلل أسسه المنهجية والفكرية في إطار إشكالية النهضة التي ينتظم فيها الفكر العربي المعاصر منذ عصر اليقظة الفكرية العربية وإلى اليوم، علينا أن نتساءل وهذا موضوعنا الأساسي الذي نرافع من أجله: ما هو الموقع الذي يحتله الغرباوي في الفكر العربي المعاصر، وما هو الجيل الذي ينتمي إليه؟

يبدو لي، أن الفكر العربي المعاصر يتشكل من جيلين ونحن اليوم في مرحلة الجيل الثالث، أو بالأحرى العمل على التأسيس المعرفي لهذه المرحلة الجديدة، أي تقييم هذه المشاريع الفكرية والتيارات الفكرية في الفكر العربي المعاصر محاولين الإجابة على الأسئلة التالية:

1- لماذا لم تتحول النهضة الفكرية العربية إلى نهضة عملية في الواقع؟

2- لماذا لم تحدث هذه المشاريع الفكرية العربية والتيارات الثقافية المختلفة النهضة المأمولة؟

3- هل المشكلة في هذه المشاريع الفكرية أم في عوامل أخرى؟

4- هل مرور قرنين من الزمن على النهضة العربية كاف لتحققها أم أنها تحتاج إلى وقت وإلى متى؟

5- هل إستطاع المجتمع العربي أن يفرز الطبقة الإجتماعية الجديدة التي تحمل الفكر الجديد لإحداث التغيير الاجتماعي والتحول الحضاري؟

6- وأخيرا وليس آخرا: لماذا لم يتحول الحلم العربي إلى واقع عربي؟

إن المفكر العربي ماجد الغرباوي ينتمي إلى الجيل الثاني من الناحية الكرنولوجية والاستشكالات المنهجية والفلسفية. أما الجيل الأول في نظرنا فيبدأ مع الرواد، أي مع بداية اليقظة العربية وهذا الجيل نسميه جيل الصدمة الحضارية، الجيل الذي اكتشف الهوة والفارق الحضاري الكبير بينه وبين الغرب، ولعل أبرز من عبَّر عن هذا الهم الحضاري الأول والتطلع إلى قيم الحداثة والتحديث هو رفاعة الطهطاوي (1801-1873) الذي كتب كتابه الشهير" تخليص الإبريز في تخليص باريز" وهذا في عهد محمد علي باشا، صاحب مشروع النهضة العلمية في عصره وصاحب البعثات العلمية إلى الدول الأوروبية ولعل عنوان الكتاب يدل على أبعاده ومكنونه ومضمونه وهواجسه ودوافعه وأماله وطموحاته، ويمكننا توثيق أسماء هذا الجيل، أي الجيل الأول حسب الأهمية والأثر والتأثير وكذلك حسب الترتيب الكرونولوجي الذي يعتمد على تاريخ ميلاد الكاتب والمفكر وهم كالتالي: رفاعة الطهطاوي (1801-1873) جمال الدين الأفغاني (1838-1897)، محمد عبده (1849-1905)، شيلي شميل (1850-1917) محمد رشيد رضا (1865-1935)، شكيب أرسلان (1869-1935)، فرح أنطون (1874-1922)، أحمد أمين (1886-1954)، سلامة موسى (1887-1958)، عبد الحميد بن باديس (1889-1940) البشير الإبراهيمي (1965-1898)، زكي الأرسوزي (1899-1968)، أنطون سعادة (1904-1949).

إن هذا الجيل الأول وهو الجيل المؤسس لليقظة العربية هو جيل متأثر بالصدمة الحضارية كما أسلفت سابقا، ومهما كانت طبيعة الجواب على سؤال الصدمة وما يمثله الآخر، أي الغرب الأوروبي سواء كقوة ثقافية وعلمية وحضارية يحتذى بها أو كقوة استعمارية مهيمنة ومسيطرة وجبت مقاومتها والتحرر منها فإن الحلم الإيديولوجي في التغيير كان هو الهاجس الذي يؤطر هذا الجيل على إختلاف مرجعياتهم ومشاربهم الفكرية والإيديولوجية.

نلاحظ إذا على هذا الجيل الأول، الجيل المؤسس للفكر العربي الحديث والمعاصر هو حضور السؤال الإيديولوجي وغياب السؤال العلمي، أي السؤال الذي يهدف إلى تحليل الواقع وتفكيكه تفكيكا علميا من أجل الوصول إلى مقولاته ومفاهيمه والقوانين العامة التي تحكمه، ثم بعد ذلك العمل على تغيير هذا الواقع وفق قوانين الفكر والمجتمع والتاريخ، إن هذا لا يعني أننا بهذه الملاحظة نحاكم هؤلاء الرواد أو نقلل من شأنهم، فهم الذين بدأوا المسيرة ونحن اليوم نعيش في دربها لأن المرحلة التي عاشوا فيها لم تمسح لهم أن يروا أكثر من ذلك، وهذا حسب عصرهم والشروط والإمكانيات العلمية المتاحة في زمانهم، لذلك يجب تقييم هذا الجيل بمعطيات عصره ومنطق ذلك العصر لا بمعطيات عصرنا، لأن في ذلك ظلم لهم. وللتعبير عن هذه المرحلة التاريخية الأولى من الفكر العربي الحديث، أي عن مرحلة الجيل الأول المؤسس، جيل الحلم الإديولوجي، يقول ماجد الغرباوي:" منذ الصدمة الحضارية ومازالت أسئلة اليقظة تفرض نفسها بقوة (لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟" لماذا توقف المد الحضاري بعد أربعة قرون من العطاء؟ أسئلة مشروعة فرضتها حالة التخلف والانحطاط، فراحت أقلام الباحثين والمفكرين ترفد الوعي بكل جديد، من أجل نهضة حضارية تعيد للمسلمين مجدهم وتنهي حالة النكوص والتراجع"[2] هذا عن الجيل الأول فماذا عن الجيل الثاني؟

يبدو لي من الناحية المنهجية والفكرية والتاريخية وفي سياق تاريخ الفكر أن الجيل الثاني في الفكر العربي المعاصر يبدأ منهجيا مع طه حسين (1889-1973) ولكن لماذا طه حسين؟

لأني أرى أن الثقافة العربية بصفة عامة والعقل العربي بصفة خاصة انفتح على الثقافة المنهجية في الفكر الغربي والثقافة الفرنسية بصفة خاصة كما تجلت في قواعد المنهج الجديدة عند الفيلسوف الفرنسي رونيه ديكارت (Rene Descartes) (1596-1650) وكذلك وهذا هو الأهم في فلسفة ديكارت الجديدة اعتبار أن الذات هي مصدرا للمعرفة ومنطلقا لها وليس لقوة خارجة عنها من خلال الكوجيتو الديكارتي "أنا أفكر إذن أنا موجود" (je pense donc je suis) كما يمكن الإشارة أيضا في هذا السياق إلى الفيلسوف وعالم الإجتماع أوجست كونت (auguste comte) (1798-1857) صاحب كتاب " دروس في الفلسفة الوضعية" (cours de philosophie positive) والذي اعتبر فيه أن العقل البشري قد وصل إلى مرحلة الحالة العلمية من خلال عملية التطور التاريخي بعدما تجاوز المرحلة اللاهوتيه والمرحلة الدينية من خلال قانون الأحوال الثلاث (les lois des trois etats) وهذا دون أن ننسى مؤسس علم الإجتماع في الغرب إميل دوركايم (Emile Durheim) (1858-1917) الذي أسس رسميا الانضباط الأكاديمي لعلم الإجتماع ووضع له نظرية صارمة تقوم على النظرية والتجريب بعيدا عن الأفكار الذاتية والمتوارثة التي لا تصمد أمام العقل والتجربة وقوانين الإجتماع.

يبدو لي أن هذه المصادر الفلسفية والمنهجية المهمة بالإضافة إلى مصادر أخرى فلسفية وأدبية وتاريخية واجتماعية وعلمية هي التي وجهت التفكير الجديد عند طه حسين وتحت تأثير هذه المصادر نلاحظ أنه عندما رجع إلى التراث العربي الإسلامي عاد إلى ابن خلدون في القرن الخامس عشر (1332-1406) الذي يعتبر المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع (علم العمران) في الثقافة العربية الإسلامية وصاحب التجديد المنهجي والمؤسس للكثير من العلوم على أساس عقلي وتجريبي كعلم التاريخ وفلسفة التاريخ.... إلخ.

لذلك يمكننا أن نفهم وهذا شيء مهم، أن طه حسين قد اختار ابن خلدون ليكون موضوعا لأطروحته في الدكتوراه التي ناقشها بكلية الآداب جامعة باريس سنة 1917 بعنوان "الفلسفة الاجتماعية عن ابن خلدون" (philosophie sociale D’IBNKHALDOUN).

إن هذا التأثير المنهجي والصرامة العلمية الجديدة سواء من الفلسفة الغربية الفرنسية أو من التراث العربي الإسلامي والتراث العقلاني تحديدا مع ابن خلدون، نلاحظ أن كل هذا التراث المتشابك والمعقد سوف ينعكس على كتابات وفكر طه حسين الجديد ولعل أول كتاب أحدث ضجة وصدمة تحت تأثير هذه الثقافة المنهجية الجديدة هو كتاب "في الشعر الجاهلي" الذي أصدره سنة 1926 والذي يشكك فيه في الكثير من الروايات والأخبار التي كانت تعتبر في عصره حقائق مطلقة، مقدسة وخالدة، ونفس الشيء يقال كذلك عن كتابه المهم "مستقبل الثقافة في مصر" الذي أصدره سنة 1938 والذي يدعو فيه إلى الانفتاح على الآخر والخروج من الانغلاق وربط جسور جديدة بين الثقافة المصرية وثقافة دول البحر الأبيض المتوسط وما تمثله من حضارة قائمة، وهذا هو الانتماء الطبيعي لمصر في نظره، إن هذا الكتاب أيضا جلب له الكثير لا أقول من النقد ولكن من النقض والخصومات مثل الكتاب الأول "في الشعر الجاهلي".

إذن، نستخلص ونستنتج من هذا كله، ومن كل هذه المعطيات التي ذكرتها، وهذا من وجهة نظري الخاصة بالاستناد إلى تاريخ الأفكار والتحليل الإبستمولوجي أن الجيل الثاني يبدأ مع طه حسين وفي نفس إشكالية الجيل الأول وهي إشكالية النهضة والتقدم، ولكن الجيل الثاني في إجابته على هذه الإشكالية تسلح بمناهج حداثية جديدة لمقاربة هذه الإشكالية أو كان تحت تأثيرها، وهذا بصفة خاصة بعد الثورة المنهجية التي عرفتها العلوم الإنسانية والاجتماعية في الخمسينات والستينات وظهور فلسفات وتيارات فلسفية جديدة تعنى بالمناهج وهذا مالم يكن متاحا للجيل الأول.

ويمكننا توثيق أسماء هذا الجيل حسب التأثير والأثر وتاريخ الميلاد كالتالي مع عدم ذكر الأحياء لأسباب منهجية لأن تجربتهم الفكرية لازالت متواصلة إلى اليوم.

طه حسين (1889-1973)، مالك بن نبي (1905- 1973)، زكي نجيب محمود (1905-1993)، حسين مروة (1910-1987)، قسطيطين زريق (1909-2000)، علي الوردي (1913-1995)، عبد الرحمن بدوي (1917-2002)، مرتضى مطهري (1919-1979)، محمد عزيز الباري (1922-1993)، محمود أمين العالم (1922-2009)، أنور عبد الملك (1924-2012)، هشام شرابي (1927-2010)، محمد أركون (1929-2010)، مطاع صفد (1929-2016)، سمير أمين (1931-2018)، محمد عمارة (1931-2020)، السيد ياسين (1933-2017)، عبد الله العروي (1933-2021)، صادق جلال العظم (1934-2016)، طيب تيزيني (1934-2019)، علي شريعتي (1935-1977)، محمد باقر الصدر (1935-1980)، إدوارد سعيد (1935-2003)، محمد عابد الجابري (1935-2010)، حسن حنفي (1935-2021)، مهدي عامل (1936-1987)، عبد الوهاب المسيري (1938-2008)، عبد الكريم الخطيبي (1938-2009)، جورج طرابيشي (1939-2016)، محمد سبيلا (1942-2921)، نص حامد أبوزيد (1943-2010)، فرج فودة (1945-1992)، بختي عودة (1961-1995).

إذن هذا الجيل عموما، أي الجيل الثاني، هو الجيل الذي اتصل بالثقافة الغربية أو كان تحت تأثيرها كما أسلفت سابقا كذلك هو جيل متأثر بالثورة المنهجية والتجديد المنهجي في العلوم الإنسانية والاجتماعية، كما ظهرت في أوربا والغرب عموما، وأغلب هؤلاء المفكرين من هذا الجيل درسوا في جامعات غربية وجاءت كتاباتهم ومشاريعهم الفكرية على اختلاف مرجعياتها ومناهجها وجهازها المفاهيمي متأثرة بهذه الثقافة الجديدة، كما أن هذا الفكر الجديد في الفكر العربي المعاصر الذي خرج عن قواعد المألوف والمتوارث لم يلق الترحيب في المجتمعات العربية والإسلامية خاصة حراس المعبد وكهنة الحقيقة من كل الاتجاهات وبدون استثناء والذين كعادتهم وهذه سنة تاريخية يعادون كل فكر جديد لأنه يهدد مصالحهم ومواقعهم الطبقية والاجتماعية والسياسية والإيديولوجية.

إن الوعي الجديد الذي اكتسبه هذا الجيل جعله يفتح منافذ جديدة في كل الاتجاهات ويطرح أسئلة جديدة ومستأنفة، بحيث يتحول فيها كل جواب إلى سؤال جديد، إنها أسئلة الناقوس أو الخطر، أسئلة الوجود والمصير، الأسئلة التي يجب علينا فعلا أن نطرحها مهما كان الثمن ومهما كانت التضحيات حتى ندخل مجددا إلى حلبة التاريخ ونؤكد هويتنا البشرية والإنسانية وحتى نتحرر مما هو متخشب أو ميت في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي، وهذا الجيل من الباحثين، جيل الوعي عبر عنه ماجد الغرباوي بقوله:"الإنسان الواعي لا يتهيب الممنوع وإنما يتوغل في الشك حتى يفهم الواقع، لا تضلله الشعارات ولا يستغل، هو إنسان مرهف الحس، قلق، مستوعب، يصغي ليدرك، ويناقش ليفهم، ولا يتحرك إلا عن قناعة ورؤية واضحة، لذا هو عقبة كأداة بوجه المشاريع الطامعة التي لا تحقق أي نجاح إلا باستغلال الأخرين. وتزوير الحقائق، والتلاعب بالألفاظ، والتستر بعباءة الدين والوطنية وغيرهما من المفاهيم التي تخطف أضوائها أبصار ذوي النوايا الطيبة والمشاعر الصادقة "[3]. إن هذا الوعي الجديد المتسائل والشكاك وهو الذي رافق هذا الجيل من المفكرين جعل هذا الجيل يصطدم مباشرة مع القوى الرجعية والظلامية والقوى المهيمنة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا التي تحارب الفكر والتنوير، وهذا ما جعل هؤلاء المفكرين عموما في حالة مضايقة ومطاردة ومنهم من قدم حياته ثمنا لأفكاره الجديدة وارتقى شهيدا في سبيل الفكرة والموقف، مثل علي شريعتي ومرتضى مطهري ومحمد باقر الصدر وحسين مروة ومهدي عامل وفرج فودة وبختي بن عودة والقائمة مفتوحة إلى اليوم ولا أظن أنها ستغلق قريبا.

ماجد الغرباوي ومشروعه الفكري - ملاحظات أولية

1- جدلية الإتصال والإنفصال (متصل من أجل منفصل):

يعتبر الغرباوي من مفكري الجيل الثاني والذي تأسس معرفيا وتاريخيا في نظرنا مع المفكر والأديب طه حسين والغرباوي من مواليد 1954 بالعراق ولايزال إلى اليوم يقوم بوظيفته التنويرية والثقافية وهذا من خلال مايكتبه أو ما يكتب عنه ومن خلال مؤسسته الثقافية "مؤسسة المثقف العربي" لسان حال الثقافة العربية المعاصرة.وهناك مفكرون من هذا الجيل، أي الجيل الثاني من هم على قيد الحياة أطال الله في أعمارهم جميعا ونذكر منهم حسب قاعدة التأثير والأثر، أودنيس (ت م 1930)، فهمي جدعان (ت م 1939) علي حرب (ت م 1941)، طه عبد الرحمن (ت م 1944)، فتحي التريكي (ت م 1947) أبو يعرب المرزوقي (ت م 1947)، عبد الجبار الرفاعي (ت م 1954)، عبد الإله بلقزيز (لم نعثر له على تاريخ ميلاد).وهنا، لابد أن أشير إلى شيئ مهم ولافت للنظر وهو تناقص عدد المفكرين والفلاسفة العرب وأصحاب المشاريع الفكرية في الساحة الثقافية العربية، إن هذا في حد ذاته مدعاة للقلق والتفكير والتأمل بالنظر إلى تقدمهم في السن جميعا وعدم بروز جيل حقيقي من الشباب لإكمال المسيرة.

إن هذا يدعونا اليوم إلى النظر وإعادة النظر في كل ما تحقق من مشاريع فكرية ومن إسهامات نظرية وفلسفية للإجابة على السؤال المركزي للفكر العربي الحديث والمعاصر وهو سؤال النهضة والتقدم وتحقيق مالم يتحقق بعد، لذلك أنا أدعو شخصيا في هذه المرحلة التاريخية الفارقة والمرحلة المشوشة والضبابية التي يمر بها العالم العربي اليوم إلى التأسيس المعرفي لمرحلة الجيل الثالث التي لم تأت بعد، وهي مرحلة تقييم المشاريع الفكرية العربية وتحيينها وفق أسثلة الواقع ومقتضياته والأسئلة المستحدثة والمستنبتة من عمق هذا الواقع وإفرازاته وتشابكاته مع الأخر، وهذا كله وفق رؤية إستراتيجية شاملة تراعي المتطبات الجديدة، النظرية والعلمية والعملية المرتبطة بأفاق النهضة العربية المنشودة في ظل التحولات الدولية والعالمية والتطور الفكري والعلمي المتسارع في كل مجالات الحياة المختلفة.

ولقد أشار محمد عابد الجابري إلى هذه الإشكالية، أي مراجعة المشاريع الفكرية العربية على ضوء تحديات الواقع الجديد بقوله:" يمر العرب اليوم إذن بمرحلة انتقالية دقيقة تجعل مراجعة مشروعهم النهضوي، مراجعة نقدية أمرا مبررا بل ضروريا، لقد عاش العرب طوال هذا القرن على ثلاث قضايا رئيسية:مقاومة هيمنة الغرب، تحقيق نوع من الوحدة بين أقطارهم، تحرير فلسطين وهاهم اليوم يقفون أمام هيمنة الغرب بلا أمل في التحرر منها في المستقبل المنظور وهاهي دولهم القطرية تفرض نفسها كواقع يعاند أي تفكير في الوحدة معاندة تامة، وأخيرا وليس أخرا هاهي إسرائيل قد انتزعت اعترافاتهم بينما يواجه الفلسطينيون مصيرا مجهولا"[4].

إن هذا الوضع القاتم والملتبس في العالم العربي والإسلامي اليوم، لايعني الاستسلام أو التشاؤم ولكن يعني استئناف النظر واستئناف النظر، لا يكون إلا بأسئلة جديدة في فضاء متسامح. يقول الجابري:"إنها تحولات لا ينبغي لنا أن نرى فيها نهاية التاريخ ولا أن نجعل منها مقبرة الأمل.إن المراجعة النقدية ضرورة ملحة على استعادة الأمل واستئناف المسيرة مع التاريخ للمشاركة في صنعه والتأثير في مجراه"[5]. إن المراجعة النقدية للمشاريع الفكرية العربية بكل اتجاهاتها هي ضرورة معرفية وتاريخية ولابد من إشاعة النقاش العام وتعميمه حولها حتى تخرج من نطاق التفكير الشخصي والفردي إلى التفكير الجماعي.

وبودي وأنا أتقدم بهذه الملاحظة أن أتقدم بملاحظة أخرى، وهي أنني في هذه الورقة البحثية لست بصدد عرض وتحليل ومناقشة المشروع الفكري بكامله للغرباوي، بكل إشكالياته وعناصره وأجزائه، فهذا الموضوع له مجال أخر في كتب متخصصة ستصدر لاحقا لأن مشروع الغرباوي مشروع رحب وواسع وكل إشكالية فيه تحتاج إلى كتاب أو عدة كتب.ولكنني في هذه الورقة البحثية أردت أن أقترب من فكر الغرباوي لكي أقدم رؤية منهجية ومعرفية حول مشروعه لكي نربطه بمن سبقوه من الجيل الثاني سواء الأحياء منهم أو الأموات وكذلك لمعرفة الأسئلة الافتتاحية الغرباوية إن صح التعبير بما يخدم إشكالية بحثنا وهي: ماجد الغرباوي وموقعه في الفكر العربي المعاصر.

ومن هنا نطرح السؤال التالي: ماهي الأبعاد المنهجية والفلسفية والتجديدية لهذا المشروع وماهو طموحه المعرفي وأفاقه الإنسانية؟ كيف تعامل وتفاعل ماجد الغرباوي مع سابقيه من المفكرين وكيف انفصل عنهم منهجيا ومعرفيا؟

يتميز ماجد الغرباوي عن غيره من المفكرين العرب بميزة خاصة تميزه عنهم وهو أنه لا ينكر جهود من سبقه ويثني على أعمالهم ومنجزاتهم، لا من أجل استنساخها وتكرارها ولكن من أجل الإستفادة من مناهجهم وأسئلتهم التي فتحت منافذ جديدة في جسم الثقافة العربية المترهل والمغلق والمتقوقع والمتراكم والمسجون داخل رؤية ماضوية تلبست بطابع القداسة واحتكار الحقيقة.وهذه فضيلة أخلاقية وعلمية تحسب لماجد الغرباوي.يقول مفكرنا متحدثا عن زملائه:" لا مراء حول قيمة الجهود المكرسة لنقد مرجعيات الفكر الديني وإشكالية العقل التراثي سواء اتفقنا أو اختلفنا معها. فهي جهود مهمة اتسمت بثرائها الفكري والفلسفي واستأثرت باهتمام الباحثين والدارسين وتكمن أهميتها بحيوية مناهجها وقدرتها على طرح الأسئلة واختراق الممنوع واللامفكر، فيه فجميعها تراكم معرفي لمقاربة الحقيقة وترشيد الوعي ضمن مشاريع حضارية هادفة فاعلة "[6]. لأن من طبيعة المفكرين العرب المعاصرين أنهم لا يشيرون إلى بعضهم البعض، لا في المتن ولا في الهامش.

إن هذا لايعني أن ماجد الغرباوي يندمج ويذوب كليا داخل هذه المشاريع الفكرية، وإنما يعتمد عليها كمرتكز معرفي وابستمولوجي، أي البحث في الأسس التي تقوم عليها المعرفة وطريقة اشتغال الفكر. فهو يتفاعل مع مناهجها لامع قناعاتها الايديولوجية سواء الظاهرة أو المضمرة، الصريحة أو غير الصريحة، إنه يتعامل مع أسئلتها المتجددة لامع أجوبتها الراكدة، فهو اتصال وانفصال في نفس الوقت، اتصال على مستوى الإشكالية (إشكالية النهضة) وانفصال على مستوى المنهج، فهو متصل من أجل منفصل، يتصل بالرؤى السابقة من أجل نقدها وتجاوزها بعد الاستفادة منها طبعا، وفق رؤية أشمل وأغنى وأعمق، إن هذه المشاريع الفكرية بالنسبة للغرباوي مهما تبدو لنا متناسقة بنيويا وقوية فكريا، قد تكون متهافتة من حيث الأساس المعرفي الذي تقوم عليه، لذلك فهو يدعو إلى التحليل الإبستمولوجي للمعرفة لا إلى الطرح الإيديولوجي، من خلال التفكير في الأسس وللمقولات المضمرة والخفية التي تقوم عليها. يقول الغرباوي:" وهذا لا يعني عدم وجود ملاحظات وتحفظات أساسية حو مرتكزاتها التي انقلبت بدورها إلى بديهيات فرضت نفسها على الباحث كانحياز محمد عابد الجابري للعقل المغربي ضد العقل المشرقي في مشروعه "نقد العقل العربي" حتى اضطر جورج طرابيشي لتأليف كتاب مهم بعنوان "نقد نقد العقل العربي" أو رهان مشاريع أنسنة المقدس على إقصاء، مطلق الدين كشرط أساسي للنهضة في مجتمع يستأثر التراث بمعظم مرجعياته العقيدية والفكرية والثقافية، بل وحتى السياسة فهي رهانات خاسرة"[7].

وهنا لابد أن أشير إلى مسألة أساسية انطلاقا من هذا النص ونصوص أخرى للغرباوي التي تؤطر مشروعه الفكري وهو أنه لا يدعو إلى رفض التراث في المطلق والدين جزء ومكون أساسي لهذا التراث ولكنه يدعو إلى إعادة قراءته من جديد وترتيب العلاقة معه من داخله وليس من خارجه واستئناف النظر في معطياته في أفق العقلانية والتاريخية والنزعة الإنسانية، وهذا حتى نعيد للتراث حيويته الإبداعية وروحه الخلاقة وأبعاده الإنسانية والكونية وهو في هذه الرؤية المعرفية، يختلف مع بعض المفكرين العرب المنبهرين بالغرب والذين يدعون إلى القطيعة الكلية مع التراث باعتباره تراث تجاوزه العقل العلمي الجديد ولأنه من نتاج الماضي وجزء من ثقافة القرون الوسطى مثل عبد الله العروي داعية الماركسية التاريخانية في الفكر العربي المعاصر ولكنه يتفق ضمن هذه الرؤية مع صاحب مشروع "نقد العقل العربي" محمد عابد الجابري في موقفهما المبدئ من التراث.يقول الجابري:" من الناحية المبدئية لا يمكن تبني التراث ككل لأنه ينتمي إلى الماضي ولأن العناصر المقومة للماضي لا توجد كلها في الحاضر، وليس من الضروري أن يكون حضورها في المستقبل هو نفس حضورها في الحاضر وبالمثل لا يمكن رفض التراث ككل للسبب نفسه، فهو شئنا أم كرهنا، مقوم أساسي من مقومات الحاضر وتغيير الحاضر لا يعني البداية من الصفر.وهل هناك بداية من الصفر في أي مجال من المجالات "[8].

وإذا كان الغرباوي يتفق مع الجابري في بعض المرتكزات النظرية والمعرفية فهذا لا يعني أنه يتفق معه في التحليل أو بعض الاستنتاجات والمنطلقات الفكرية مثل إقراره بوجود عقل مغربي برهاني في مقابل عقل مشرقي عرفاني وظلامي وكذلك انطلاقه في تأسيس المعرفة من عصر التدوين في العصر العباسي بين القرن الثاني والثالث الهجري والذي بلغ أوج ازدهاه مع الخليفة العباسي المأمون (170- 218 ه).وهذا العصر، أي عصر التدوين يتخذ منه الجابري محطة ومرحلة تاريخية لتشكل وتكوين العقل العربي وليس إلى مرحلة نزول الوحي كما يرى مفكرون أخرون باعتبار أن الحادثة القرآنية والخطاب القرآني هو الخطاب الذي شكل الوعي العربي الإسلامي منذ بداية تأسيس المجتمع الإسلامي الجديد ومنذ العصر الإسلامي الأول. وهو النص المؤسس للثقافة العربية الإسلامية كما وصلت إلينا اليوم. وهذا هو الموقف المعرفي والرؤية الفكرية التي يتبناها الغرباوي في مشروعه مع زميله محمد أركون بصفة خاصة في إطار "نقد نقد العقل الإسلامي" وليس نقد العقل العربي"كما فعل الجابري الذي لم يتعرض لنقد الفكر الديني رغم مركزيته.

وهنا يجب التفريق انطلاقا من فكر الغرباوي وأركون، بين الظاهرة القرآنية (الوحي) والظاهرة الإسلامية وهي التاريخ الإسلامي السياسي والثقافي والديني والأنثروبولوجي وأنواع العلوم المختلفة من أصول وفقه وتفسير وحديث وأدب وسير وتاريخ...إلخ

بالإضافة إلى الممارسات الإجتماعية والدينية والطقوس والعادات والتقاليد...إلخ

وإذا اعتبرنا منهجيا أن النص الأول هو القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة والفكر الديني هو النص الثاني والذي يمثل الفهم البشري الإنساني النسبي، فإن الغرباوي مشكلته المعرفية والإبستمولوجية مع النص الثاني وليس مع النص الأول وفي مجال نقده للنص الثاني أي الفكر الديني يستثمر الغرباوي منجزات الدرس الإبستمولوجي المعاصر في تحليله ونقده للثقافة بصفة عامة والفكر بصفة خاصة وخاصة الدرس الباشلاري فقد انكب الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار (1926- 1884-gaston Bachelard)، وخاصة في كتابيه:تكوين العقل العالمي (la formation de l’esprit scientifique)

وفلسفة الرفض (la philosophie dU Non) على بلورة رؤية علمية تقوم على التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية من أجل تجاوز العوائق الإبستمولوجية أو العقبات الإبستمولوجية (les obstacles epistemologiques) من أجل تجاوزها واحلال فهم جديد يسمح بتحرر المعرفة من هذه العوائق من خلال القطيعة الإبستمولوجية (la rupture epistemologique). إن العوائق والعقبات الإبستمولوجية تمثل في فلسفة باشلار العلمية المعرفة السابقة والعامية والمتوارثة والتحيز الإيديولوجي والمواقف العقائدية والقناعات الشخصية المضمرة والخفية والرأي والمعرفة اليقينية المطلقة إلى غير ذلك من هذه العقبات التي تعيق تطور المعرفة. فالدرس الإبستمولوجي يجعل العقل في حالة يقظة مستمرة عندما يرتد على نفسه ويراجع مقولاته ومفاهيمه وأدواته، يقول ماجد الغرباوي مستشكلا ومستفهما عن المشاريع الفكرية المطروحة في الساحة الثقافية العربية وكأنك تقرأ نصا لغاستون باشلار:" فمشكلة المشاريع عدم تجاوزها ليقينيات مضمرة، يتأثر بها الباحث لا شعوريا وهي على نوعين:الأول يقع ضمن فرضيات البحث والثانية تتولد من خلاله، فتنشأ تراكمات يقينية لاشعورية جديدة وهو أمر خارج عن إرادته أحيانا بفعل النظام المعرفي القائم على ثقافة الفرد، فكل قراءة تخضع لإكراهات المنهج وتستمد وجودها من ذات القبليات وهذا لايبرر التراخي والتحيز المطلق ويتطلب يقظة دائمة لتفادي الإنزلاقات الإيديولوجية "[9].

نلاحظ من خلال هذا النص، أن ماجد الغرباوي يمارس التحليل الإبستمولوجي العميق على الخطابات الفكرية والثقافية من أجل تجاوز العقبات والعوائق الإبستمولوجية وهو في ذلك يتفق مع الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار الذي يرى أن العلم والمعرفة عموما لا يقوم على التراكم المتدرج والمطرد، ولكن عبر سلسلة من الإنفصالات تحدث في بنية العلم والمعرفة ذاتها من خلال تجاوز العقبات الإبستمولوجية، "فالعقبة الإبستمولوجية حسب جورج كانغيلام 1904-1995 georges conguilhem)) تتجلى في هذا السلوك الغريزي الذي يفضل راحة العقل على نشاطه ويختار الإجابة بدلا من طرح الأسئلة"[10].

إن طرح الأسئلة واستئناف النظر في المعطيات الثقافية السابقة ويقظة الفكر وارتداده على نفسه باستمرار لمراجعة ونقد مقولاته ومفاهيمه وأدواته وأبنيته المعرفية هي الفاعلية المعرفية الأساسية لتجاوز مايعيق المعرفة من عقبات ويحررها لكي تنطلق في جو رحب أكثر حرية واتساعا وهذا ما يدعو إله الغرباوي ويمارسه باقتدار من خلال انشغاله على نصوص تناولت مواضيع متعددة وتصدت قراءته لإشكاليات راهنية ومصيرية.

2- مفكر بمنهجية متعددة الاختصاصات:

لقد أصبحت العلوم الإنسانية والاجتماعية اليوم من خلال ماعرفته من ثورات منهجية وتجديدية مترابطة ومتداخلة مع بعضها البعض، فلا يمكن اليوم انطلاقا من هذا الواقع الجديد مقاربة موضوع بحثي وفكري دون الإستعانة بمناهج متعددة من أجل الكشف والتحليل لأن الظاهرة الإنسانية والاجتماعية ظاهرة معقدة، وهذا الأمر لايزال غائبا في ثقافتنا العربية المعاصرة فلازلنا نطبق مناهج قديمة أو نؤمن بالمنهج الواحد الذي يفسر كل شيئ وإذا كان المنهج حداثيا تحول أثناء تطبيقه إلى عقيدة فلسفية لذلك لا زالت قراءتنا لثقافتنا إلى اليوم قراءات مختلفة ومتعددة للمنهج المطبق وليس قراءات من أجل تطبيق المنهج والفرق المنهجي واضح بينهما.إن هذا الواقع الجديد الذي فرضته العلوم الإنسانية والإجتماعية وهو ضرورة تسلح الباحث بمنهجية متعددة الاختصاصات هو قناعة معرفية منهجية عند ماجد الغرباوي، فكل منهج عنده ضروري وممكن مادام قادرا على الكشف ويساعدنا في الحفر في طبقات الوعي وعلى تجاوز العقبات الإبستمولوجية. وعليه فكل مناهج ضرورية عند الغرباوي لأنها تكشف عن زوايا دفينة وخفية قد تكون في دائرة اللا مفكر فيه أو الممنوع التفكير فيه. والمنهج يختبر عند الإستعمال والممارسة وليس قبل ذلك، بمعنى أن المنهج لابد أن يطبق بروح إبداعية خلاقة وليس لمجرد ترديد واستنساخ مصطلحات ومفاهيم لأن الكثير من الباحثين المعاصرين يبشرون بمناهج حداثية ولكنهم عند التطبيق إما يستعملونها بطريقة خاطئة أو بطريقة إيديولوجية تعسفية، بمعنى أنهم يريدون إثبات صحة المنهج وليس من أجل الكشف الحقيقي عن موضوع البحث.

يقول ماجد الغرباوي معبرا عن هذه الثورة المنهجية الجديدة في العلوم الإنسانية والاجتماعية وتجربته في ميدان البحث من خلال الاعتماد على المنهجية المتعددة الاختصاصات:" تلقيت مختلف الأسئلة عبر حوارات طويلة، بحكم دائرة مشاغلي الفكرية وتخصصي في علوم الشريعة والعلوم الإسلامية وصاحب رأي اجتهادي في المسائل الخلافية تطرقت فيها لمختلف القضايا الفكرية والفلسفية والثقافية واعتمدت حزمة مناهج وفقا لمقتضيات البحث والموضوع كالمنهج التحليلي المقارن، الوصفي، التأمل الفلسفي التاريخي واستعنت بالتفكيك والتأويل والهرمينوطيقا والتحليل والحفر المعرفي والأركيولوجي وتقديم العقل على النقل والأية على الرواية ولي منهج في تأويل الأحاديث والروايات الدينية والتاريخية وأسعى لعقلنة الظواهر الإجتماعية والدينية والتركيز على الحاضر دون الماضي وعلى الإنسان بمركزيته والأخذ بالواقع وضروراته فكان نتاج هذه الحوارات مجموعة كتب مطبوعة وأخرى تنتظر الصدور"[11].

إن هذا النص صريح وقوي وواضح بما فيه الكفاية لكي يعبر عن منهجية ورؤية الغرباوي للفكر والتاريخ، فهو يسعى لاستثمار كل المناهج الممكنة والمتاحة لمباحثة موضوعاته والتحاور معها، كل هذا من أجل كشف الحقيقة أو الفهم البشري الإنساني الملتبس بالأسطرة والقداسة وكل أشكال اللامعقول. وما دام أن هذه الحقيقة تاريخية ومن صنع الإنسان فهي إذن نسبية وليست مطلقة، ومن هنا، فهي خاضعة للنقد المستمر واستئناف النظر فيها، ويبدو في نظرنا تركيز الغرباوي على العقل والنزعة العقلية يمكن فهمه في إطار استدعاء واستعادة الموقف العقلاني التساؤلي عند المعتزلة الذين يقولون بأن القرآن مخلوق وليس قديما ويؤمنون بمركزية العقل في فهم الدين والتشريع باعتباره أساس التكليف الشرعي وكذلك في تركيزه على مركزية الإنسان فيه إحالة إلى النزعة الإنسية التي عرفتها الثقافة العربية الإسلامية والتي بلغت قمة تطورها مع أبي حيان التوحيدي (923م- 1023م).أما الانطلاق من الحاضر والإقرار بمقتضيات الواقع فهو الذي يجعلنا ندرك ماضينا بشكل إيجابي ونتطلع إلى مستقبلنا بروح عقلانية وإنسانية منفتحة ومتسامحة تجمع بين العناصر الإيجابية للماضي والعناصر الإيجابية في الحاضر.

إن العقلانية النقدية الجديدة في فكرنا العربي المعاصر وفق النظرية الغرباوية لا يمكن أن تتحقق إلا في إطار الانفتاح والتفاعل مع الثقافة الإنسانية التي نرى لها جذورا في الثقافة العربية الإسلامية كالعقلانية عند المعتزلة والنزعة الإنسانية عند التوحيدي والنزعة النقدية والكونية عند ابن رشد والنزعة التاريخية عند ابن خلدون...إلخ.

إن تحديث التفكير وبناء عقل علمي عربي جديد معاصر لنفسه وللأخر، متصالح ومتسامح مع ماضيه وحاضره ومستقبله لا يكون إلا بالإنفتاح على المناهج الجديدة وممارستها بطريقة علمية وإحترافية وبروح علمية، وهذا مايدعو إليه الغرباوي ويعمل عليه في مشروعه الفكري الحداثي الجديد، ولاشك أن هذه المناهج تتطور باستمرار لأنها تخضع للمساءلة والنقد الدائم، محدثة ثورة منهجية هائلة على مستوى المواضيع والمصطلحات والمفاهيم والمنهجيات المطبقة وبالتالي لا يمكن لباحث واحد أن يلاحق كل ما هو جديد فيها من فتوحات علمية ومعرفية.لذلك نجد أن محمد أركون زميل الغرباوي في مشروع "نقد العقل الإسلامي"يدعو إلى ضرورة العمل الجماعي وتقسيم العمل بين الباحثين، يقول محمد أركون: " إلا أن تجربتي في هذا الميدان أقنعتني بأن أحسن الطرق وأكثرها فائدة هي تقسيم العمل بين الباحثين المشتغلين بهضم وتمثل الأجهزة والأدوات الفكرية الطارئة المتجددة في العلوم الإنسانية والإجتماعية ثم إيجاد المناهج السليمة لتطبيقها فكرا على الدراسات الإسلامية دون تكسير الأطر المفهومية الأصلية الخاصة بالتفكير الإسلامي، بل لتحريك هذا التفكير وإحداث ما يحتاج إليه اليوم من تجديد وتحول وإطلاع على أفاق بديعة من المعرفة لم يخطر وجودها أو إمكان اكتشافها ببال المفكريين المسلمين القدماء"[12].

إن هذه الأطروحة المركزية في فكر محمد أركون والتي يشتغل عليها فكرا وممارسة هي نفسها الأطروحة المركزية عند ماجد الغرباوي، أي ضرورة التجديد الفكري من خلال الإنفتاح على ثقافة العصر وهضم المناهج المعاصرة وهذا الهم المعرفي تناوله الغرباوي بصفة خاصة في كتابه الذي يدل عليه "إشكاليات التجديد" وهو يسري في كل مشروعه الفكري كنقاط مضيئة وكاشفة لماضينا وحاضرنا ومستقبلنا.

3- القطيعة المعرفية مع الفهم التراثي للتراث:

يعتبر ماجد الغرباوي من أبرز المفكرين العرب المعاصرين الذين تطرقوا إلى مسألة التراث بحثا واستكشافا ومساءلة وتجديد الموقف المعرفي منه، ويمكننا أن نشير إلى مفكرين أخرين مثل: محمد أركون وحسن حنفي ومحمد عابد الجابري، ولعل بعض العناوين لكتبه تبرز هذا الهم التراثي مثل: "تراجيديا العقل التراثي"، " الفقيه والعقل التراثي "، "مضمرات العقل الفقهي"، " تحرير الوعي الديني"، وغيرها من الكتب الأخرى، ولكن السؤال الذي يطرح هو: لماذا التراث؟.

لأن الإنسان العربي اليوم مثقل بتراثه والتراث يستأثر بكل همومه واهتماماته وأصبحنا نعود إليه بطريقة لاعقلانية ولا تاريخية، بمعنى أننا نعود للتراث لا كمستفهمين ومتسائلين ومستكشفين ولكن من أجل البحث عن أجوبة جاهزة وكاملة عن أسئلة الحاضر والمستقبل، والأخطر من ذلك عند الغرباوي هو أن التراث لا يزال إلى اليوم يشكل بنيتنا النفسية والعقلية والذهنية، هذه البنية المتوارثة التي لم تتعرض للنقد والمراجعة والتغيير منذ القرون الوسطى.وهذا ما يعطي للتراث طابعه الإشكالي ويصبح هذا الطابع الإشكالي مضاعفا عندما نقترب من التراث من أجل إعادة قراءته وفهمه بأدوات منهجية معرفية جديدة فالمشكلة عند الغرباوي ليست في العودة إلى التراث، ولكن في الطريقة وأسلوب التعامل معه وأدوات النظر فيه، فالتراث هو نتاج تجربة إنسانية تاريخية يتميز بالنسبية، فهو ليس كاملا ولا مقدسا متعاليا على التاريخ، لذلك يمكننا استئناف النظر فيه واستئناف النظر فيه معناه طرح أسئلة جديدة ومساءلة التراث نفسه وكشف نسبيته وتاريخنيته والتمييز فيه بين ماهو مقدس وماهو مدنس، بين ماهو إلهي وماهو بشري.

يقول ماجد الغرباوي: " المقصود بالتجديد: تحديث أدوات التفكير عبر مناهج ونظريات حديثة، لإعادة النظر بجميع اليقينيات والمقولات الأساسية، من أجل فهم جديد للدين ومقاصده وغاياته ومبادئه ومعارفه في ضوء تطور وعي الإنسان وقدراته العلمية والمادية، استجابة لتطورات العصر ومقتضياته، ومعرفة حدود الدين، والمائز بينه وبين الفكر الديني والتفريق بين الإلهي والبشري، أو بين المقدس والمدنس"[13].

إن ماجد الغرباوي لا يدعو إلى رفض التراث في المطلق أو الدين في المطلق لأن التراث أو الدين يحيل إلى الهوية الحضارية للأمة هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن كل أمة تفكر بتراثها وليس بتراث غيرها ولكنه يدعو إلى القطيعة الإبستمولوجية مع الفهم التراثي للتراث، أي الفهم البشري للدين والمتوارث منذ القرون الوسطى والذي أخذ طابع القذاسة والتنزيه والتعالي رغم أنه فهم بشري وفكر إنساني محكوم بشرطيته التاريخية، فالدين كنصوص مقدسة قضية نهائية لا تناقش ومجالها الإيمان والتسليم، أما التراث أو الفكر الديني، أي تفسير النصوص المقدسة وما يرتبط بها ويحيط بها من معارف وعلوم وممارسات وطقوس وشعائر مسألة تاريخية مشروطة بمنطق عصرها وتخضع في تقييمها للإمكانيات العلمية المتاحة للعلماء في ذلك العصر والذي تبعدنا عنه اليوم مسافة علمية رهيبة جدا، لذلك يرى الغرباوي وهذا موقف عقلاني أنه من حقنا ونحن في القرن الواحد والعشرون أن نستعمل إمكانياتنا العلمية المتاحة من مناهج متطورة ومعارف جديدة في إعادة قراءتنا لتراثنا بصفة عامة والفكر الديني بصفة خاصة لجعله معاصرا لنفسه على مستوى الفهم والمعقولية ومعاصرا لنا من أجل إعادة بنائه في وعينا من جديد واستثماره في عملية النهضة والبناء الحضاري.

فهناك فرق كبير إذن بالنسبة للغرباوي بين أن يتملكنا التراث أو نقوم نحن بتملكه وهذا عندما نعي زمانيته وتاريخيته فنخضعه لعملية القراءة المستمرة بواسطة الأسئلة. يقول الغرباوي:" من هذا المنطلق نحن بحاجة ماسة لمراجعة ثوابتنا ومقولاتنا وتراثنا وفكرنا وثقافتنا، بحثا عن مصادر قوتها وتشخيص نقاط ضعفها ومطالبون بتجديد رؤيتنا للحياة والموت والأخرة، وعلاقة الإنسان بما حوله، والعودة إلى مصادر وعينا وتفكيرنا، في ضوء الواقع، وتحكيم العقل في قراءة التراث ومصادره"[14].

إن إشكالية التراث والفكر الديني عند الغرباوي هي قضية منهجية ومعرفية بحتة مرتبطة بسؤال النهضة العربية المأمولة وليست قضية إيديولوجية، فالغرباوي ليس منخرطا مع جهة ضد جهة أخرى من أجل تصفية حسابات سياسية شخصية أو طائفية أو مذهبية، إن أسئلته هي أسئلة معرفية محضة حتى ولو كانت قاسية في نظر البعض، إنه مفكر عربي مستنير يسعى ليقظة هذه الأمة، يسعى لخيرها وخير هذا العالم. وفي إطار هذه الرؤية الغرباوية يمكننا أن نقول إن مقولة: " الإسلام صالح لكل زمان ومكان" تعني في نظرنا أن كل جيل يأتي بطرح أسئلته المستجدة والمستحدثة على النص، فلكل جيل أسئلته ولكل جيل أجوبته، هذه الأجوبة تبقى بدورها مفتوحة وليس مغلقة. لأن هناك تدافع بين الأجيال ولكل جيل همومه الخاصة.

إن هذا الفهم الجديد للتراث وللفكر الديني بصفة عامة وللإسلام (عقيدة وشريعة) هو الذي يسعى من خلاله ماجد الغرباوي إلى تكوين عقل عربي إسلامي جديد معاصر في مقابل العقل الكلاسكي الموروث منذ العصور الوسطى والذي نقوم باجترار واستنساخ مفاهيمه ومقولاته وأحكامه في الحاضر. ولكن بعض المؤسسات الرسمية، أفرادا وجماعات وحتى أنظمة سياسة قائمة والمستفيدة من الفهم التراثي للتراث ترى أن الفهم الجديد خطر على مصالحها وعلى وجودها ونفوذها داخل المجتمع فهم يعيشون بوعيهم في الماضي ويربطون أتباعهم به وهم بتعبير الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891- 1937) (عقول أُعدت للماضي)، لأن هناك فرق بين الحداثة والمعاصرة كما يرى محمد أركون فالمعاصرة تشير إلى الزمن الحاضر الذي نعيش فيه أما الحداثة فهي موقف فكري أو توتر للفكر أمام مشكلات المعرفة، فهذه الكائنات التراثية رغم معاصرتها لنا في الحاضر إلا أنها تعيش بعقلية القرون الوسطى وهذا هو قمة الإغتراب في نظري الذي تعيشه عموما الثقافة العربية الإسلامية وشعوبها في الحاضر.

4- من المقدس إلى المدنس: كيف نخرج من السياج الدوغماتي المغلق؟

إن استراتيجية ماجد الغرباوي الفلسفية قائمة على تتبع وكشف دروب متاهات الحقيقة من خلال الحفر في طبقات الوعي الديني والأنظمة المعرفية السائدة بعيدا عن التهويمات الذاتية وهو في ذلك يستثمر المنهج الأركيولوجي للفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو (Michel Foucault) (1926-1980). والذي تقوم فلسفته على نقد وفضح الذات العارفة والعالمة في كل عملية تأسيس للمعرفة واعتماد رؤية فلسفية جديدة جعلت من الذات مجرد عامل متغير ضمن ظاهرة عامة هي عملية التعرف وهذه العملية مرتبطة بمفاهيم جديدة مترابطة مثل البنية والنظام والنسق، لأن الذات العارفة تعمل على إعادة إنتاج ما هو سائد وما هو سائد ليس بالضرورة أنه يعبر عن الحقيقة، فعبر كل تاريخ مكتوب هناك تاريخ غير مكتوب وحقائق مغيبة، فمهمة المنهج الأركيولوجي هو إخراج المعرفة من دائرة الإيدولوجيا (الذات) إلى دائرة العلم (النسق والنظام المعرفي)، هذه المعرفة الجديدة يقول عنها فوكو " أنها تلك المعرفة التي تجعل منك شخصا آخر لم تكن عليه من قبل"، وفي اطار هذه الرؤية يطرح الغرباوي أسئلة الناقوس (الخطر) والتي تهدم كل الأجوبة المتوقعة، ما هي الحقيقة وكيف تشكلت تاريخيا في ثقافتنا العربية الإسلامية، وكيف التبس الفكر الديني بالدين، وهل يمكن تملكها بإسم جهة أو جماعة، وهل هي مطلقة أم نسبية، وهل يمكن احتكار مفهوم الحقيقة باسم الدين أو باسم أي سلطة أخرى، وأخيرا وليس آخرا، وبلغة ميشال فوكو: ما هي الحقائق المغيبة والعناصر والأطراف التي تم إقصاؤها وإهمالها في عملية إنتاج مفهوم الحقيقة والفكر الديني في ثقافتنا المتوارثة؟.

إنها أسئلة مركزية وضرورية ومصيرية في نفس الوقت يطرحها الغرباوي بجرأته الفلسفية المعهودة ويحاول أن يجيب عليها بالعودة إلى التاريخ، أي إلى مرحلة تشكل العقائد الدينية التي ساهمت في تشكيلها عوامل تاريخية ونفسية وإيديولوجية، ولكن رغم طابعها الانساني والبشري تحولت إلى مدونات رسمية مقدسة ومغلقة مُشكلة لسياج دوغوماتي من الصعب أو الخطر اختراقه أو مجرد مساءلته.

إن المدونات الرسمية المغلقة les corpus officiels clos) (و هو مفهوم فلسفي يوظفه زميله محمد أركون في دراسة الفكر الإسلامي والذي يعني أن هذه المدونات تحمل في ذاتها حقيقة نهائية كاملة ومجالها التسليم فهي ذات طابع ايماني غير قابلة للنقاش أو النقد رغم طابعها الإنساني والتاريخي، والمشكلة الخطيرة أن هذه المدونات الرسمية المغلقة أصبحت مقدمة على النص الأول (القرآن) فالكثير من المؤمنين مثلا يقدمون مدونة البخاري على القرآن الكريم في استنباط الأحكام والقضايا المصيرية للمسلمين.

لقد تم تاريخيا دمج الدين مع الفكر الديني، البشري مع الإلهي والنسبي مع المطلق وهذه في حد ذاتها مشكلة معرفية، وتاريخية خطيرة لازلنا نعاني منها إلى اليوم وهذا ما يمثل حجر الزاوية من وجهة نظرنا في مشروع الغرباوي النقدي والتجديدي.

يقول ماجد الغرباوي معبرا ومبرزا لهذه الإشكالية المعرفية والتاريخية المتشابكة والملتبسة والخطيرة في نفس الوقت: " يشهد تاريخ الفرق والمذاهب الكلامية أن العقائد تنشأ بسيطة ثم تنمو وتتطور بعضها يقاوم وبعضها يضمحل، والإعتقاد بأي عقيدة لا يدل على حقيقتها ومطابقتها للواقع دائما ولا ينفي دور الوهم والعوامل النفسية والخارجية في تشكيلها وهذا مبرر موضوعي يسمح بنقدها ومراجعتها للكشف عن تاريخيتها وزيفها وحجم الوهم والمؤثرات الايديولوجية والطائفية في صياغتها فيخطئ من يؤمن بثبات العقيدة أو ينفي تطورها وتاريخيتها. من هنا استهدف الحوار عقائد المسلمين عامة وعقائد الشيعة خاصة، نقدا أو تقويما وفق منهج علمي موضوعي[15]. وهذه العملية كما أسلفت تتطلب منهجية متعددة الاختصاصات أي تفكيك البنى والمقولات الذهنية المتوارثة والمغلقة.

ومن هنا ينتقل الغرباوي إلى توظيف المنهج التفكيكي الذي ينسب فلسفيا للفيلسوف الفرنسي المعاصر جاك دريدا Jacque Derrida 2004-1930. إن المنهج التفكيكي يسعى في خطواته المنهجية إلى زحزحة أو تحويل فهم سابق من أجل إحلال فهم لاحق جديد.

إن عملية الزحزحة أو التحويل تعني إخراج موضوع البحث من نسق مغلق إلى نسق مفتوح عبر عملية اختراق وهدم (Trangression et Deconstruction) للنظام المعرفي الذي تقوم عليه هذه المقولات الفكرية والثابتة والمتكلسة، ومن ثم إبراز تهافتها المنطقي والعقلي وطابعها اللاتاريخي لتأتي بعد ذلك مرحلة التجاوز (le Déplacement) أي مرحلة إحلال البدائل المنهجية والمعرفية الجديدة والبدائل التاريخية المنفتحة على تطور الزمن والتاريخ، يقول الغرباوي: " وما يبرز النقد أيضا أن العقيدة منظومة مبادئ ومقولات توجه وعي الفرد يتأتى الإيمان بها عبر تراكمات لا شعورية نفسية ثقافية، هي سر تفاوته من شخص لآخر فتؤثر في تكوينه جميع المؤثرات النفسية والسلوكية والاجتماعية والسياسية والعلمية والثقافية والتربوية ومنها ذات العقيدة وقوة رمزيتها وايحاءاتها وحجم تأثر العقل الجمعي بها، لذا يكتسب النقد صفة الضرورة ليحد من تمادي العقيدة على حساب المبادئ الأصلية"[16].

إن نقد هذه المقولات المتوارثة عبر التاريخ والأكثر رسوخا وقداسة من أجل إحلال البدائل التاريخية مكانها، ليست مهمة سهلة على الاطلاق، لأنها ستلقى مقاومة شرسة من المؤمنين بها والمنتفعين منها، كما أنها على المستوى المعرفي تتطلب إحلال جهاز مفاهيمي جديد محلها أكثر اتساعا ورحابة وتسامحا وحرية.

فالمنهج التفكيكي ليس منهجا عدميا، أي أن وظيفته ليست هي الهدم فقط، لكنه منهج من أجل البناء، لأنه لكي نبني شيئا جديدا لابد أن نهدم شيئا قديما، نهدم وعيا سلبيا ونبني مكانه وعيا إيجابيا، وعيا أكثر اتساعا وتسامحا وتصالحا مع العصر.

والغرباوي في هذه المهمة سيجد نفسه مباشرة في مواجهة العقل الأرثوذكسي (La raison orthodoxe).و هو العقل الذي يؤمن إيمانا مطلقا بما يعتقده من أفكار ثابتة وغير قابلة للتعديل أو التغيير ويعتبرها صحيحة ونهائية، وفي نفس الوقت يلغي أفكار الآخرين ومعتقداتهم ويرى أنها لاغية ومنحرفة عن الخط المستقيم، فالعقل الأرثوذكسي لا يؤمن بالتطور ولا يُخضع معتقداته وأفكاره للمراجعة المستمرة رغم التطور التاريخي وتقدم المعرفة، فهو يعيش خارج الزمن وخارج التاريخ في نفس الوقت. ذلك أن " العقلية الدوغماتية ترتبط بشدة وبصرامة بمجموعة من المبادئ العقائدية وترفض بنفس الشدة والصرامة مجموعة أخرى وتعتبرها لاغية لا معنى لها، لذلك فهي تدخل في دائرة الممنوع التفكير فيه أو المستحيل التفكير فيه وتتراكم بمرور الزمن والأجيال على هيئة لا مفكر فيه"[17].

إن احتكار مفهوم الحقيقة والرأسمال الرمزي " الفكر الديني " (Le Monopole du capital synbolique (خاصة التراث الديني يؤدي إلى تقديس الحقيقة المزعومة وعلى ضوئها يتم إنتاج إيدولوجيا الكفاح والنضال من أجل حراستها وإعلائها والدفاع عنها ضد الآخرين، ويكون ذلك باستعمال العنف بكل أشكاله ضدهم، العنف الرمزي والمادي، المباشر وغير المباشر، وهذا ما يسميه محمد أركون بالمثلث الأثروبولوجي الخطير (الحقيقة، المقدس، العنف) وهذا من طبيعة العقل الأرثوذكسي أو العقلية الدوغماتية المغلقة، التي لا تقبل الحوار وغير مستعدة لمراجعة قواعد تفكيرها أو إعادة قراءة وترتيب الأشياء من جديد، وتعتبر أن استعمال العنف ضد الآخرين واجب إيماني وعقائدي من أجل الحفاظ والدفاع عن حقائقها المقدسة.

إن هذا المثلث الأثروبولوجي هو الشاغل الأساسي لمشروع الغرباوي الفكري ولعل مجرد عناوين كتبه تحيل الى هذه الإشكالية المستعصية ويمكن أن نذكر بعضها على سبيل المثال الحصر: (النص وسؤال الحقيقة، تحديات العنف، الضد النوعي للاستبداد، التسامح ومنابع اللاتسامح، جدلية السياسة والوعي....إلخ). وتحت تأثير هذه الإشكالية المركزية في فكر ماجد الغرباوي أصدر الباحث والمفكر الدكتور صالح الرزوق كتابه بعنوان: (جدلية العنف والتسامح: قراءة في المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي)[18].

إن هذا المثلث الأثروبولوجي الخطير (جدلية الحقيقة والمقدس والعنف) هو جوهر وماهية العقل الأرثوذكسي الذي يعني: " عدم قدرة الشخص على تغيير جهازه الفكري أو العقلي عندما تتطلب الشروط الموضوعية ذلك وعدم القدرة على إعادة ترتيب أو تركيب حقل ما تتواجد فيه عدة حلول لمشكلة واحدة وذلك بهدف حل هذه المشكلة بفاعلية أكبر"[19].

ويبدو من وجهة نظري وبعد إطلاعي المتواصل والمستمر للمشاريع الفكرية العربية أن الغرباوي يشترك مع زميله محمد أركون في دراسة وتفكيك هذا المثلث الأثروبولوجي الخطير في مقاربة التراث بصفة عامة والتراث الديني بصفة خاصة.

إن تفكيك هذا المثلث الخطير في نظر الغرباوي هو الذي يسمح لنا بتجاوز السياج الدوغماتي والانغلاقات الدوغماتية (les clôtures dogmatiques (ويفتح أمامنا مجالا جديدا لما يسميه محمد أركون انبثاق وبروز "العقل الانبثاقي " (La raison émergente) في مقابل العقل الأرثوذكسي والعقل الانبثاقي الجديد هو العقل القائم على التساؤل والمنفتح على المعرفة الجديدة والأسئلة الجديدة، ومن هنا طابعه العلمي والإنساني والكوني.

إن هذا العقل الانبثاقي الجديد الذي يدعو إليه الغرباوي في مشروعه الفكري هو من طبيعة الفلسفة كما نتعلمه من تاريخ الفلسفة ذاته، لأن الموقف التساؤلي مرتبط بلحظة التفلسف الأولى وهي الدهشة الفلسفية "L’étonnement philosophique" والتي تعتبر أصل الفلسفة لأنها قائمة على السؤال والتساؤل.

يقول ماجد الغرباوي: " لم تكن دهشة الانسان الذي وجد نفسه وحيدا يواجه أهوال الطبيعة وتحديات الأمن والاستقرار، مجرد علامة استفهام ساذجة ارتسمت على وجهه في أول بادرة وعي بشري، بل كانت سؤالا فلسفيا يتحرى الحقيقة والبحث عن معنى لوجوده ومصيره وفهم ما يحيط به من ظواهر وألغاز"[20].

إن السؤال الفلسفي عند ماجد الغرباوي مرتبط بعدة أسئلة وكل سؤال جديد يستنبت سؤالا آخر، لأنه كما يقول نصر حامد أبو زيد:" أي قراءة لا تبدأ من فراغ: بل هي قراءة تبدأ من طرح أسئلة تبحث لها عن إجابات وسواء كانت هذه الأسئلة التي تتضمنها عملية القراءة صريحة أو مضمرة، فالحصيلة في الحالين واحدة وهي أن طبيعة الأسئلة تحدد للقراءة آلياتها"[21].

إن السؤال الفلسفي الكبير عند ماجد الغرباوي والذي يقوم عليه مشروعه الفكري والتجديدي هو: ما هو الأساس المعرفي الذي تقوم عليه معارفنا وأفكارنا ومعتقداتنا الموروثة؟

وهو سؤال ابستمولوجي بامتياز قد طرحه الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو حول الثقافة الغربية. أما السؤال الثاني هو: ما هو السبيل لتفكيك المقولات والبنى الفكرية المتكلسة والملتبسة والمتلبسة بالأساطير والأوهام والخرافات؟، كيف نحرر العقل الإسلامي القديم والحديث والمعاصر من القيود والأغلال ونجعله يتنفس حرية لينطلق في عالم جديد رحب متغير باستمرار؟ ما هي البدائل التاريخية التي من خلالها وبواسطتها يمكننا أن ننفتح على أنفسنا وعلى الآخر؟ كيف ننتقل من الفكر الأحادي إلى الفكر المختلف والمتنوع؟ كيف ننتقل من الطائفة والقبيلة والجهة إلى الدولة والمجتمع المدني؟ وكيف ننتقل من الحاكمية الإلهية (لا حكم إلا الله) الى الحاكمية البشرية (حكم الشعب)؟. كيف نجعل من المرأة العربية إنسانا كاملا كي تطير المجتمعات العربية والإسلامية بجناحين لا بجناح واحد؟ كيف نستأصل العنف من ثقافتنا وطريقة تفكيرنا ومن فكرنا السياسي والاجتماعي والديني؟ كيف نجعل من الاخر (غير العربي وغير المسلم) بعدا ضروريا من أبعاد كينونتنا ووجودنا وفق قاعدة التعارف القرآنية" وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا"؟.

إنها أسئلة كثيرة وخطيرة ومفتوحة في نفس الوقت تؤطر المشروع الفكري عند الغرباوي وقد أجاب عليها بطريقته الفلسفية المنفتحة والمتسامحة. لقد أضاء الغرباوي شموعا على دروب وطرق مظلمة وملتويه ووضع أصابعه على الجراح المؤلمة ونفض الغبار عن مرايا مقعرة ومهشمة. ولا شك أن أجيالا من الباحثين المتنورين في الحاضر والمستقبل سوف تستأنف المسيرة مع إضاءة شموع جديدة قبل طلوع شمس الحضارة العربية الإسلامية الجديدة بوجه جديد ورسالة جديدة ولعلها تشرق قريبا.

إنه حلم جميل ومشروع لأن كل المنجزات العظيمة اليوم كانت في الماضي مجرد أحلام في ذهن أصحابها. وهذا ما يجعلنا نتمسك بالأمل ليس الأمل الرومانسي المريح بكل تأكيد، ولكنه الأمل الذي يرافقه فعل ويسبقه عمل، إنه مشروع كبير ويستحق منا كل جهد وهذا ما يقوم به أستاذنا الفاضل والمفكر والفيلسوف ماجد الغرباوي قولا وفعلا، فكرا وممارسة.

أطال الله في عمر أستاذنا وجعله دائما منارة مضيئة للتائهين والحياري والمتسائلين عن الحقيقة. ويبقى سؤال الحقيقة عند الغرباوي أولا وأخيرا وآخرا.

***

بقلم: ا. د. قادة جليد

 أستاذ فلسفة - جامعة وهران / الجزائر

.........................

[2] - ماجد الغرباوي: إشكاليات التجديد، مؤسسة المثقف العربي، سيدني استراليا، ط 3، 2017، ص 5.

[3] - ماجد الغرباوي: اإشكاليات التجديد نفس المرجع، ص: 35-36.

[4] - د.محمد عابد الجابري: المشروع النهضوي العربي، مراجعة نقدية، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 2، 2000، ص: 15.

[5] - د.محمد عابد الجابري: المشروع النهضوي العربي، مراجعة نقدية، نفس المرجع، ص 15.

[6] - ماجد الغرباوي: النص وسؤال الحقيقة، مؤسسة المثقف العربي سيدني، أستراليا، ط 1، 2018، ص 7.

[7] - ماجد الغرباوي: النص وسؤال الحقيقة، نفس المرجع، ص: 7.

[8] - د.محمد عابد الجابري: التراث والحداثة، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 5، 2015 ص: 37.

[9] - ماجد الغرباوي: النص وسؤال الحقيقة، مرجع سابق ص: 7-8.

[10] - د.حسن عبد الحميد: نظرية المعرفة العلمية (الابستمولوجيا) لروبير بلانشيه، تر: حسن عبد الحميد، تقديم د. محمود فهمي زيدان، مطبوعات الجامعة، الكويت، 1986، ص: 26.

[11] - ماجد الغرباوي: الهوية والفعل الحضاري، مؤسسة المثقف العربي، سيدني، أستراليا، ط 1، 2019، ص: 10.

[12] - محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، تر: هاشم صالح المركز الثقافي العربي، ط 2، 1998، ص: 7.

[13] - ماجد الغرباوي: إشكاليات التجديد، مرجع سابق، ص: 24.

[14] - ماجد الغرباوي، إشكالية التجديد، نفس المرجع، ص: 24.

[15] - ماجد الغرباوي: تراجيديا العقل التراثي مؤسسة المثقف العربي، سيدني، أستراليا، ط 1، 2021، ص:6.

[16] - ماجد الغرباوي: تراجيديا العقل التراثي، نفس المرجع، ص: 6.

[17] - محمد أركون الفكر الإسلامي قراءة علمية، تر: هاشم صالح المركز الثقافي العربي، ط 1، 1996، ص: 6.

[18] - صدر الكتاب سنة 2016م، عن دار نينوى، دمشق، سوريا.

[19] - محمد أركون: محمد أركون: الفكر الاسلامي قراءة علمية، نفس المرجع، ص: 6.

[20] - ماجد الغرباوي: الهوية والفعل الحضاري، مرجع سابق، ص 8.

[21] - نصر حامد أبو زيد: إشكالية القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي العربي، ط 1، 2014، ص: 6.

...........................

* مشاركة (64) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

 

كتابات ماجد الغرباوي حلقة جديدة من حلقات التفكير الحرّ، يمكن اعتبارها مرحلة جديدة من مشروع نهضوي عام يندرج ضمن حركة إصلاحيّة واعية ببرنامجها ومراميها الفكريّة، لما قدّمته من أفكار ورؤى استطاع عبرها أن يخطّ أهدافه التنويريّة، منطلقاً من جملة من التحدّيات التي واجهها الفكر العربي قديمه وحديثه في رواسب المعتقدات والعقليات التي طغت في المجتمعات العربيّة، ممّا هيّأ لخطاب نهضويّ، جادٍ واعٍ بخصوصيّة الوضع الرّاهن وما يحمله من توجّس ممّا عسى أن يتسرّب من أفكار ومعتقدات يمكن أن تعصف بالمجتمع وتلقي به في هاوية التخلّف والرجعيّة، وهذه الراهنيّة تتجاوز الزمن والفضاء الذي تولد فيه فكرة النهضة إلى تعميمها في كلّ زمان ومكان لأن ما تقوم عليه من مبادئ قادر على مواجهة كل خطر خارجيّ أو داخليّ على السواء، وهذا ما جعلها متجدّدة بتجدّد طرحها ومجادلتها. على هذا الأساس يمكن اعتبار فكر ماجد الغرباوي، من خلال ما قدمه من كتابات، مواصلة لمشروع تحديثيّ استوجب الوقوف عند محطات عديدة وفي مجالات مختلفة، ولئن مثّل الخطاب الدينيّ الأسّ الذي شيّد عليه الباحث بنيانه، فإنّ العقل وسيلته في الاحاطة بمشروعه الفكريّ وذلك بالنظر والمجادلة بالحجّة العقليّة حرصاً على الإقناع والتغيير. فما يبدو لمتلقّي هذه الآثار الفكريّة خطاباً إنسانياًّ وعقلياًّ يعزّز الشعور بالانتماء ويُنبئ بجوانب من الواقع (الديني، الاجتماعي، السياسي...) فإنّ التوغّل في أعماق هذا الخطاب يكشف حقيقته الإبداعيّة والتجديديّة، بما هو إعلان عن ولادة نزعة عقليّة تتركّز على فكر موضوعيّ لا ينظر إلى الأشياء في تكوّنها بل في ما يمكن أن تفرزه من مؤثّرات، تشكّل قاعدة ثابتة يمكن، من خلالها إعادة النظر في المسلّمات ونقدها، وصولاً إلى أهداف تنويريّة هي مقصد فكره الليبراليّ، يعرضها بوعي عميق واستراتيجيا ذكيّة تعود إلى التراث لتبني المعاصر. وهذا من شأنه أن يدعم علاقة الفكري بالتاريخيّ. حيث يمثل الأول منطلقا لتكوين العقل التاريخي، وذلك من خلال "فهم دوافع الفكر التاريخيّ ونمط تكوّنه وسيرورته، ومن معاينة ما ظهر، وملاحظة ما بان من عوائق تطوّره وتطوّر الوعي التاريخيّ معه"[1]. والدين جزء من هذا التاريخ، يمكن أن يمثّل ركيزة الفكر الاجتماعي في أي لحظة تاريخيّة كانت، تركّزت حوله فلسفة الغرباوي في مؤلّفاته وحواراته ومن ثمّ مشروعه الفكريّ التنويريّ.

قد تكون تلك رؤية الغرباوي وقد يكون توجّهه الفكري في الكشف عن حقيقة التاريخ الديني وعن حقيقة فهم النصّ الديني. لكن هل أنّ هذا التوجّه هو أقصى غايات ماجد الغرباوي المفكّر التنويري، ونحن نراه يعرض مسائل على قدر من الأهمّيّة والخطورة ، فهو يعمّق النظر في مسألة التوحيد ويدرس السيرة بكلّ مراحلها ويتقصّى خفاياها. ويتناول مسائل التسامح والاختلاف وغيرهما من المسائل الجادّة والفارقة في الفهم الديني والسلوكي الحضاريّ؟ هل يمكن أن نكتفي بظاهر ما قدّمه الباحث من أفكار وحقائق، ومن عمل فكريّ وعقليّ في تناول كلّ ذلك؟ ما الذي يجعل مفكّر مثل ماجد الغرباوي يعيش الغربة لأجل الكتابة وهو ما أقرّه في بعض حواراته مع بشرى البستاني؟ هو مفكّر عقلاني ذو توجّه ليبراليّ وهو ما تنبئ به كتاباته وتوجّهاته الفكريّة. لذلك لا يمكن أن نتناول مثل هذه المؤلّفات بسطحيّة ونكتفي بما ظهر وبان فيها. فما قدمته العديد من الدراسات حول هذا المفكر التنويري منطلق لدراسات أخرى تبحث في المضمر من هذا الخطاب والمسكوت عنه فيه. فعندما نتعمّق في فكر ماجد الغرباوي تنبثق أمامنا جملة من الإشكاليات التي تقدح في الذّهن وتدفع إلى التساؤل والحيرة، ويمكن أن نستشفّها في خطابه، وليس صعباً أن نتلقّى جملة من الإشارات المتفجّرة ممّا يعرضه من أفكار. بمعنى أنّ اهتمامه بتاريخ الإسلام وما انطوى عليه من أحكام شرعيّة إنّما هو ضرب من الإشهاد على الحكم الشرعيّ، ومنه يكون الدرس والعبرة. فهو، ولئن ركز على الفكر الديني لما له من أهميّة بالغة فإنّه يطرح بطريقة غير مباشرة رؤيته الليبراليّة ودوافعه التنويريّة التي يسعى من خلالها إلى النهوض بالوطن وما علق به من مؤثّرات الجدل العقائديّ، عمّق الصراع بين المذاهب وشتّتت أواصر المجتمع فيه، لأنّ المسألة ليست مجرّد درس للتراث الديني بقدر ما هي فكر وتصوّر وعقيدة ترتسم من خلاله صورة مجتمع كامل بعقائده ومعتقداته وتصوّراته، وكذلك بمستوى تطوّره. وهنا ينتظم حديثنا عن أعمال ماجد الغرباوي داخل إشكاليّة ما يطرحه من قضايا انطلاقا من محاولة تشخيص الأعراض التي يعاني منها العالم العربي الإسلامي عامة والواقع العراقي على وجه الخصوص. ثمّ محاولة استنباط حلول وسبل الخلاص منها. وصولاً إلى النتائج التي ترتّبت عن ذلك.

قد يكون هذا النّهج الفكري مضمّناً في خطاب الغرباوي الديني لكنّه يحتاج إلى رؤية ثاقبة ودرس عميق يمكّن من الوقوف، لا على حقيقة هذا الخطاب في ظاهره، بل ما يستبطنه من دلالات وما يكشف عنه من فلسفة تنويريّة، لأنّ ما يكتبه ليس من فراغ وإنّما هو نتاج وعي عميق بخصوصيّة المرحلة وخطورتها على الوضع الحضاري والاجتماعي، وكذلك التاريخيّ. فالفكر العربيّ المعاصر كما يقول كمال عبد اللطيف "يشكّل الأفق الأيديولوجيّ المعبّر عن بنيات التاريخ العربيّ المعاصر، إنّه يعكس كلّ أشكال الصراع التي عرفها هذا الواقع، كما يعكس مختلف التحدّيات والضغوط التي تمتلئ بها الحياة العربيّة". وهذا ما يجعلنا نقرّ جازمين بعدم انفصال البنيات الأيديولوجيّة عن فضائها التاريخيّ. لهذا لا يمكننا أن نفصل بين ما كُتب وما قيل من رؤى فكريّة ليبراليّة في أبعادها ومقوّماتها النظريّة، وبين ما أشير إليها باعتبارها شكلاً من أشكال المسكوت عنه الذي يلمّح ولا يصرّح. ولا سبيل إلى فهم ما يحمله هذا الفكر من دلالات تاريخيّة وحضاريّة إلاّ بما يفصح عنه الخطاب في ارتباطه بالواقع التاريخيّ والحضاريّ. ويحلّل أبعاده الاجتماعيّة والثقافيّة وكذلك النفسيّة، ونعني بهذا طبيعة الواقع الذي أثمر مثل هذه القراءة، من جهة، ورؤيته للدّين باعتباره المحدّد لطبيعة التعامل مع الواقع. على هذا الأساس نضمن مشروعيّة التعامل مع تجلّيات الفكر اللّيبراليّ ومقوّماته في مشروع ماجد الغرباوي الدينيّ، إيماناً منّا وعلى حدّ تعبير غراميشي "أنّ الممارسة النظريّة لا تكون مجانيّة ومحايدة وفوقيّة بقدر ما هي ممارسة تضرب بجذورها في التاريخ".

لقد حاول الغرباوي أن يؤصّل رؤية جديدة للواقع من خلال العودة إلى منابع الفكر العربي بما في ذلك الدين والمخيال الجمعي والفلسفة، ليبحث في حقيقة ذلك التفكير. فأمكن له الحفر بوسائل معرفيّة متنوّعة تجمع التاريخيّ بالأنتربولوجيّ والديني بالإنساني والاجتماعي بالذاتيّ والنفسيّ، في حقيقة الواقع وما يحيط به من توجّهات فكريّة وإيديوجيّة حكمت اللحظة التاريخيّة الراهنة. المنطلق تاريخيّ كما هو بيّن ولن ننكر الأبعاد التاريخيّة في بعض السياقات، فما عرضه من حديث عن الفتوحات وجوانب من سيرة الرسول، وأخبار غزواته في بعض المؤلّفات إنّما هو من قبيل الشاهد والمبرّر لما يوحي به في خطابه. بذلك فللعرض التاريخي "دور فعّال في نشر وتثبيت العقيدة (الأيديولوجيا) التي ستسمّى بحقّ عقيدة أهل السنّة والجماعة"[2]. بهذا فهدف الغرباوي واضح للعيان.  وهو مع ذلك يحافظ على البعد الإيمانيّ، خوفا على خصوصيّة الإسلام من ذوبانه في العقائد السائدة، وكذلك خوفاً على نفسه من اتهامه بعكس ما يرمي إليه وتكفيره، وهذا البعد الإيمانيّ باعتباره مؤشّرا على حفاظ الدرس الليبراليّ التّنويري على خصوصيّة التناول المعرفي واحترام مبادئ الإسلام والعقيدة. ونستجلي هنا رؤية الباحث في مشروعه بما هو بديل عن رصيد معرفي لا يمكن إنكاره، ولكن في ذات الوقت لا يمكن التقيّد به لما لحقه من شوائب، قد تخلّ بحقيقة المقاصد الأخلاقيّة والتشريعيّة، وكذلك الإنسانيّة في مجمل أعماله. وكأنّنا بالغرباوي ينشئ مشروعه على المعطى الموروث مسبقاً ليعيد تنظيمه وفق رؤية مختلفة ومميّزة تحفظ توازنه الداخليّ وتقوّيه، فهذه الرؤية، ولئن تجاوزت فضاءات التقديس والتبجيل وقطعت مع الفكر النقلي التسليمي، فإنّها بقيت متمسّكة بمنابعها الأولى منطلقاً للتقدّم والارتقاء.

وقد تناول العديد من المسائل الدينيّة ومنها مسألة التطرّف الدينيّ، تناولا مستفيضاً. ممّا يؤكّد صحّة ما ذهبنا إليه وهو أن له مشروعاً تنويرياًّ، يجعل مثل هذه القضايا التي يثيرها بمثابة الحجج التي يدعم بها صحّة ما يرسمه في كتاباته من خطط، يبدو وعيه بها قائما مسبقاً. فمعضلة التطرّف سببها الأساسيّ الغلوّ العقائدي والفكري والتعصّب لأفكار مبنيّة على أسس واهية، من تفسيرات محتكمة إلى الهوى والمصالح الذاتيّة الضيّقة، وكذلك الولاءات العقديّة المغرضة في التعامل مع النصّ الدينيّ. على هذا الأساس يمكن أن نتمثّل فاعليّة هذا التوجّه المنهجي في مشروع ماجد الغرباوي. فمثل هذه القراءات الخاطئة يمكن أن تنتج فكراً خاطئاً. وهذا بدوره قد يزيد من أزمة المجتمع ويعمّق الصراع الداخليّ فيه. ولن يتقدّم مجتمع والطائفيّة تنخر كيانه. على هذا الأساس بدا الغرباوي رافضاً لمثل هذه القراءات، بل وحذّر من خطورتها، لأن غاية توجّهاته توعية المجتمع والنهوض به. ولكن قوى الرجعيّة تغلغلت في أعماقه. وقد أشار إلى ذلك  صراحة، في قوله: "نحن شعب نكره الجدّ والمثابرة، ونتمنّى الأشياء بلا تعب وبلا معاناة، خلافاً لسنن الحياة. وننتظر حلول وتسويات الغيب لمشاكلنا بالدعاء، فانتهى بنا الأمر مستعمرين لدول الغرب اقتصادياًّ وصناعياًّ وتكنولوجياًّ. الغرب يتقدّم على مختلف أصعدة الحياة ويقيم أفضل الأنظمة السياسيّة في ظلّ مجتمعات مدنيّة، ونحن ننتظر المهدي وتحقّق دولة العدل الإلهيّ الموعودة"[3].

بهذا يمكن أن ندرك حقيقة  خطاب ماجد الغرباوي، فهو يحمل استراتيجيّة فكريّة تقطع مع الفكر الدغمائيّ وتلغي التصورات الرجعيّة ليعوّل على أسس التفكير العقلي للنصّ الدينيّ باعتباره المرجع الأساسيّ في تشكيل العقل العربيّ من جهة، واعتبار أنّ طرق فهمه واختلافها هو أساس الخلاف وسبب التناحر والصراع. في هذا الإطار يمكن أن نكتنه فكر الرجل، فهو يحاول أن يقف، ولو ضمنياًّ، على الأسباب الحقيقيّة التي ساهمت في تراجع المجتمع العربي عامّة والعراقي بصفة خاصّة. وكأنّه يعلن من وراء هذا الصوت الديني تمثّله لخارطة ترتسم عبرها صورة جديدة للمجتمع العربي. وهو في ذلك ينزع نزعة عقليّة صارمة في عرض أفكاره عن حقيقة الواقع الذي احتضن مثل هذا الفكر وهيّأ لنشوئه، فأبرز ما تميّز به قيامه على الصّراع الإيديولوجي والمذهبيّ، وهذا من شأنه أن يعيد المجتمع إلى عصور الظّلام الأولى، حيث التّطرّف والجهل والتمسّك بفكر تسليميّ وثوقي، يتراجع فيه صوت العقل والمنطق. ولعلّنا أمام رؤية ليبراليّة لا تهتمّ بالأبعاد النظريّة قدر اهتمامها بالرؤية الفاعلة المنجِزة لتلك الأسس(النّظريّة)، لتنفتح على فكر حرٍّ يتيح لصاحبه الوقوف على حقيقة الواقع والتعامل معه دون قيد أو شرط. ممّا ينمّي في داخله الرغبة في التغيير والنهوض به، ليكون قادراً على تجاوز العراقيل والصّعوبات. وماجد الغرباوي شأنه شأن بقيّة اللّيبراليّين لم يتجاوز الجماعة المتمثّلة في المجتمع العربي عامّة والعراقي على وجه الخصوص، وما يشهده من تشظٍّ وانقسام بسبب الصراعات المذهبيّة، لأنّ الشعب قيمة عليا تُستمدّ من علاقته بالفرد أو علاقة الفرد به، فلا مناص من كسب ودّه بالعقل والتفكير. وهو أساس مشروع الغرباوي، إذ ينطلق خطابه الليبراليّ من حاجيات المجتمع لبناء نهضته، ممّا يستوجب تطويراً في بنيته الفكرية ومراتب الوعي لديه، ليستوي هذا البنيان. وهو ما يميّزه ويبعده عن أن يكون مجرّد نسخة لمجتمع آخر وممايراً لفكر آخر، في هذا المستوى النقدي يدرك الباحث أنّ هنة الفكر العربيّ أنّه "فكر اتباع ومحايثة لأطراف أخرى تحدّده وتجعله مجال قيد واحتذاء". وهذا لا يمكن أن يترتّب عنه الإبداع والحريّة بل يجعله تحت جناحه لا يكاد ينفصل عنه أو يتحرّر من سلطته. هو إذن فكر قاصر لأنّه خطاب مشروط بغيره يتلمّس تلابيبه، كيف والأمر متعلّق بالدين؟ فالعربي يخشى أن يبحر في هذا المجال حتّى لا ينعت بالزندقة والكفر، لذلك تجده يردّد أقوال السلف فلا نكاد نقف إزاء فرق بين مصنَّف وآخر.

وما يثيرنا في تناول الغرباوي لمسألة الدين وما تعلّق بها من مسائل فرعيّة، سؤال حضرني وأنا أقرأ محاورته مع بشرى البستاني: هل سيكتب الغرباوي بمثل هذا التحرّر والانفتاح في ظلّ واقع سيطرت عليه الطائفيّة وما مرّ به من فواجع وانكسارات؟ إنّه يواجه التعصّب بالسفر. وهو ليس هروبا بقدر ما هو اختيار وقرار لتطوير الذات والمجتمع من موقع يمكن أن يمرّر عبره أفكاره وتوجّهاته الإصلاحيّة دون عقبات ومواجهة، يمكن أن تعيق مشروعه النقدي. لذلك فالسفر فرصة لتطوير الذات والكتابة معاً بعيدة عن قهر المجتمع ومنابت الرجعيّة والتهافت الطائفيّ. فليس من سلطة غير سلطة القلم وموجّهات العقل. لذلك تبدو علاقة العقل بالدين في فكر الغرباوي علاقة انسجام وتكامل، ذلك أنّ أحدهما يتحصّن بالآخر من مغبّة السقوط في ما يعيق الفكر والانزلاق في متاهات عميقة، تمنع تحقّق المقصد من وراء تناول المسألة الدينيّة. وهو أساساً النهوض بالمجتمع وتطويره بما يختزنه التراث الديني من أفكار وعقائد هي منبع الوعي والتطوّر العقليّ. يقول الغرباوي: "نحن بحاجة إلى وعي يمزّق جدار الصّمت، يفضح الكذب والتزوير، ويقول الحقيقة بصوت مرتفع".

بهذا فمحاولة تناول الفكر الدينيّ تناولاً عقلانياًّ مزيّتان أولاهما النأي عن سلطة النقل والدغمائيّة العميقة للتفكير التقليديّ في ما اعتمده من مناهج ورؤى ضيّقة. ومعضلة الفكر العربيّ تكمن أساساً في اجترار المصنّفات القديمة. لم يبخس الغرباوي قيمة هذه المصنّفات. ولكنّه يدعو ضمنياًّ إلى ضرورة مضاعفة اهتمام المفكّرين والدارسين بالفكر الحديث والأكثر معاصرة من حيث التوجّه العقلانيّ الحرّ والتخلّص من التبعيّة لتطوير العقل العربيّ ومحاولة إخراجه من بوتقة الموروث الجديد والقوالب المعلّبة بسلطة السلف يناقش الغرباوي ضمنياّ صورة الفكر الديني في علاقته بالقيم العقائديّة عند الشيعة والسنّة على السواء. يفصل في ذلك بين المستوى الذاتي الضيّق والمستوى الفكري المجرّد في صورته الكليّة البعيدة عن كلّ تعقيد وذاتيّة. ويعتبر ذلك من ضروب التخلّف والتراجع العقلي في مستوى التعامل مع الظواهر. فالدين فكر وتصور وعقيدة قبل أن يكون مجرد طقوس بعيدة عن النظر العقلي. وهذا يعتبر من أبرز مزايا فكر ماجد الغرباوي. فهو (الدين) قائم على العمل أساساً. وما يحصل في التناول العربي لهذه المسألة هو التعويل على النقل والتقوقع في مجال عقائدي ضيّق اعتبره مدار الاختلاف بين الفكر الغربي والفكر العربي، ويؤكّد على ذلك بقوله: "إنّ الغرب يختلف عنّا في علاقته بالدّين وبالغيب، فمنذ إقصاء الكنيسة عن الحياة عامّة والسياسة خاصّة، انطلقت الشعوب الأوروبيّة نحو العلم والمعرفة وتطوّر الحياة، فأخضعت كلّ شيء للتجربة والعقل وراحت تبحث عن الأسباب الكامنة في الكون بعيداً عن التفسيرات الغيبيّة، فأصابت الهدف وحقّقت نتائج مبهرة في الحياة، بعدما اكتشفت القوانين المنظّمة للكون، وكيفيّة ترابطها، وصار العالم برمّته مديناً لاكتشافاتهم"[5]. ويؤكّد في هذا السياق على أهميّة النظر العقلي والوعي بفاعليّة العلم والتجربة في تطوّر الشعوب. فالطفرة التي شهدها الغرب أساسها تجاوز القصور المعرفي الناتج عن التفسيرات الغيبيّة والركون إلى الميتافيزيقا نحو النظر العقليّ والانطلاق صوب العلم والمعرفة لتحلّ التجربة محلّ الحدس وتنطلق نحو البحث عن الأسباب الكامنة في الكون بعيداً عن الدغمائيّة والتعصّب النقلي. وفي نقد الباحث للوضع العقائدي يبدي رفضاً وتبرّماً من الواقع الفكري والحضاري للمجتمع العراقيّ ومن ورائه المجتمع العربيّ، مشيراً إلى خطورة الوضع الإنساني. مثال من بين أمثلة كثيرة قدّمها الكاتب وأبدى عبرها حساسيّة فائقة لحقيقة ما يترتّب عنها من خطورة قادرة على هدم بنيان المجتمع. حين يتأثّر أفراده بما يعرضه الفكر الظلامي من أفكار تعصف بأمن المجتمع وتقدّمه لأنّ "الإيمان يتأثّر بمناشئه وصدقيّة العقيدة ترتهن لأدلّتها وبراهينها، وبينهما بون كبير، فربّما مناشئه مجرّد أوهام الحقيقة أو مصفوفة خرافات لا دليل عليها سوى الوهم بتأثيره النفسيّ، وهذا مبرّر موضوعيّ يسمح بنقدها ومراجعتها للكشف عن تاريخيّتها وزيفها وحجم الوهم والمؤثّرات الأيديولوجيّة والطائفيّة في صياغتها، فيخطئ من يؤمن بثبات العقيدة، أو ينفي تطوّرها وتاريخيّتها"[6]. في هذا الإطار تبرز مراجعات الباحث النقديّة للتراث، ويتّصل ذلك بسؤال الحقيقة بعيداً عن سطوة الخرافة واللاّمعقول وهو ما يحقّق مزيّة فهم النص من أجل فهم متجدّد للدّين شرطاً أساسياًّ للنهوض الحضاريّ. وقد ربط ذلك في سياقات عديدة بالبعد السياسيّ، وذلك من خلال ما تناوله في نصوصه من تبرير للسلوك السّياسي عبر احقاب إنّما هو الحقيقة التي ظلّت غائمة، وظلّ الفكر العربي بكلّ مراحله يواري سوءاته بقراءات أقرب إلى التبعيّة في كلّ مظاهرها وحالاتها وكذلك توجّهاتها.

وقد ساعد على استجلاء المسكوت عنه في الخطاب  فكر عميق تناول المسائل بالتحليل والتقييم، من خلال طرح نقديّ يقوم على تتبّع الأسباب للوصول إلى النتائج، وكذلك في ما انتهجه من نهج معرفيّ راعى فيه التوجّه المنطقي والصبغة الحجاجيّة. يعوّل على طرح الأسئلة، وهي شهادة في حقّه، فما التزم به الغرباوي من مبادئ عقلانيّة تصطفيه باحثاً جاداًّ ألم يقل المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون (Maxime Rodinson): "من النادر أن ترى عالماً يهتمّ فقط بجمع مواد بحثه، بل يطرح الأسئلة على نفسه، ويجيب عليها بصورة علميّة، يضاف إلى ذلك أمانة علميّة شديدة تصدر عن فكر لا حيلة له أمام الحقيقة". هذه المهارة وهذا البحث عمّا هو أصيل ميّز كتاباته وارتقى بها إلى مصاف الكتابة الرّصينة. وهو ما يشدّنا دائماً في كتابات ماجد الغرباوي، حيث النزوع العقلي في توخّي الموضوعيّة فيؤصّل القول في إطار علميّ ينهج نهجا واضحاً، إذ ليس للذات الباحثة حيثيّات ولا أغراض ذاتيّة ولا رؤى مشدودة إلى أيّ طرف أيديولوجي إلاّ ما يقدح الفكرة في ذهن المتلقّي، ويدرك ما وراء النص النقدي. وقد أشار إلى المنهج في مناسبات عديدة وهو التعامل مع الواقع تعاملا نقدياّ والنظر إلى مشاكله برؤية ناقدة ومتفحّصة للوقوف على معضلات المجتمع والعصر والسعي نحو بناء يعيد للوطن هيبته، ويسهم في اعماره والتصدّي للعدوان الخارجي. وهذا ما جعل كتاباته ترتقي إلى مستوى التناول الموضوعي والنموذج الذي يُحتذى به في دراسات الفكريّة والحضاريّة بما فيها من إنسانيات وتشريعات وغيرها. هذا فضلاً عن استعماله لغة سلسة بسيطة خالية من كلّ تعقيد، وأفكار بعيدة عن دغمائيّة الفكر العربي في توجّهاته الضيقة كل ذلك يجعله مثالاً لفكر إصلاحي ونهضوي ينهض بفكر عربيّ ظلّ قرين نموذج رجعيّ في أغلب مراحل تشكّله، أو فكر غربيّ يسير على نهجه سيراً أعمى غير مدرك لخصوصيّة التربة التي ينشئه فيها. وكلاهما سبب لتأخّر النهضة العربيّة، ويقدّم أمثلة دقيقة تبدو في الظاهر قضيّة من القضايا التي يثيرها وتؤرق ذهنه، ولكنّها في الحقيقة عماد من أعمدة مشروعه التنويريّ في كل مجالات الحياة (الاجتماعيّة والسياسيّة والفكريّة والعقائديّة...). وهذا ما يجعل فكر الرجل مكسباً حضارياًّ وإنسانياًّ يبني المجتمع الإنساني الحديث بما يمتلكه من موضوعيّة وحياد وبعد عن التطرّف بشقّيه. فهو فكر معتدل يراعي أصول الدين ويدافع عن الحقيقة في إطار أخلاقي قيمي.

والكتابة النسويّة ليست بعيدة عن هذا التوجّه في الاعمار والبناء. فهو جزء مهم في مشروعه الحداثي، عبّر عن رؤى المرأة وحلمها في كتابة متحرّرة من سلطة الفحولة والذكوريّة من جهة. ومن جهة أخرى يفتح باب حريّة التعبير واحترام خبراتها في صنع القرار باعتبارها نصف المجتمع وجزءا من كيانه وهو ما يهيّء لمجتمع مشرق قادر على مواجهة عقوق الفكر الظلامي. هذا التناول لقضايا الفلسفة والفكر والعقيدة في مشروع ماجد الغرباوي الفكري، تعبير عن مشاغله ورؤيته الفكريّة للمستقبل الحضاريّ، وأوّل خطوة في مخطّطته، تحرير العقل ممّا علق به من تداعيات الخرافة والأسطورة ومؤثّرات العقل التقليدي، ومنه إعادة فهم الدين على أسس منطقيّة وعقلانيّة تنبني على متانة العلاقة بين الإنسان والوجود ومركزيّته فيه. وتحرير العقل يرتبط أساساً بضرورة ترشيد الوعي والارتقاء بالخطاب الديني إلى مجال النظر العقليّ الذي يرتهن إلى نظام معرفي صارم يبحث في مضمرات النصّ ومراوغاته التركيبيّة والبلاغيّة والدلاليّة. كلّ ذلك وفق نزعة عقليّة معرفيّة تتركّز على الدليل والبرهان. وهي أسس لتجاوز الفكر التقليديّ والسعي نحو تأصيل نهضة فكريّة من شأنها أن تحقّق نهضة حضاريّة قادرة على الارتقاء بالإنسان إلى مصاف التفكير الرصين والجادّ، "يستنشق عبرها رحيق الحريّة بعيداً عن سطوة التراث وأسطرة الرموز الدينيّة"[7]. لهذا فكلّ نقد لا يستند إلى أسس منطقيّة وعلميّة في التناول، يبقى مجرّد قراءة لا يمكن أن تحمل في أعطافها بوادر الإصلاح والنهوض بالواقع. قد يكون عملنا شهادة على فكر المفكر والباحث ماجد الغرباوي، ولكن الأهم من ذلك أنه مجال لطرح أسئلة جديدة، وفقنا في الإجابة على بعضها ولكنّ أغلبها مدار جدل وتفكير، وهذا بعد غايتنا. فلئن انتهى هذا العمل درساً فإنّه لم ينته مشغلا. وأعمال الرجل المترامية بين حوارات ودراسات نقديّة وأعمال إبداعيّة أكبر من أن نحيط بها ونتدبّر مفاتيح الولوج إلى ما تختزنه من فكر ومنهج وأسلوب.

***

بقلم: الأستاذة خيرة مباركي

طالبة دكتوراه، باحثة وناقدة - تونس

..............................

[1] - فتحي التريكي، العقل والنقد في فلسفة التاريخ عند العرب، مجلّة الفكر العربي المعاصر، العددان 88-89، ماي/ جوان 1991، ص27.

[2]- عبد الله العروي، العرب والفكر والتاريخ، ط2، المغرب، د.ت، ص82.

[3] - ماجد الغرباوي، مدارات عقائديّة ساخنة، حوار طارق الكناني مع ماجد الغرباوي، مؤسّسة المثقف، سيدني، أستراليا وأمل الجديدة، دمشق، سوريا، 2024، ص29.

[4] - المصدر نفسه، ص28.

[5] - المصدر نفسه، ص309.

[6] - المصدر نفسه، ص9.

 ........................

* مشاركة (63) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

تتجلى فلسفة الحوار النقدي في مدارات الغرباوي العقائدية في إبراز فكرة التقدم من حيث نقد القيم السلبية التي تعيشها المجمعات الشرقية عموماً، والمجتمع العربي بصفة خاصّة، اتكالاً على الغيب المجهول؛ ولا يمكن أن يكون هنالك تقدّم لأمة من أمم الشرق وهي عالة على منجزات الأمم الغربية المتقدّمة : في العلوم والصناعات والاقتصاد والتكنولوجيا، بل وفي الثقافة والفن والأدب أيضاً.

واقعنا العربي الراهن عالة على منجزات العقل الغربي، لديه خشية ملفوفة بالجُبن الكريه من مواجهة التحديات. والأمة العربية تعيش اليوم بغير وجود وبغير خصائص تفرضها إنْ شاءت على الآخرين، كما يفرض الآخرون خصائصهم عليها وهى قانعة راضية مستسلمة : تستلذ حلاوة الاستهلاك وتستكره مرارة الإنتاج والصبر عليه في كل حين : الاستهلاك في الفكر، وفي العلم، وفي الثقافة، وفي الفن، وفي مطالب العقول والأرواح؛ بل وفي المأكل والملبس والمشرب، وفي مطالب الأبدان على وجه الإجمال؛ تستهلك أكثر ممّا تنتج ولا تطيق الصبر على الإنتاج. والأمة المستهلكة لإنتاج الآخرين من فكر، وعلم، وثقافة، وفن، دون أن تنتج هى من العلوم والأفكار والثقافات والفنون ما من شأنه أن يؤهلها للوقوف أمام الأمم المتقدمة وجهاً لوجه هى أمة تتقلبُ في أعراض الضعف والخنوع، مهيأة لعوامل الغربة الروحيّة والفكرية؛ فإذا بذاتها شاعرة على التحقيق بالاغتراب في مواجهة الذوات الأخرى، لا لشيء إلا لأنها – من قبلُ ومن بعدُ – مسلوبة “الثوابت” التي ترتكز عليها أشراط الهوية العصماء.

على أن زعماء الإصلاح في العالم العربي قاطبة أفاضوا الحديث عن فكرة التقدّم كونها مرتهنة بالإصلاح، ولم يكن الغرباوي هو أول من يطرق هذا الباب، ولكن سبقته جهود وفيرة عالجت مسائل الأوضاع المتردية في العالم العربي؛ فاقت الحصر وألزمت الناظرين إليها روح التشاؤم والقنوط. غير أنه تميز بتجربة يقيمها على أسس فلسفة الحوار النقدي هو الذي وقف عليها وعالج زاوية تخلف الفكر الديني وقصور مستواه عن مسايرة واقع المسلمين الراهن، وهي نفسها الفكرة التي أشرنا في السابق من حيث تلازم التجربة مع الفكر؛ فإنّ التأمل في هذا “الإصلاح” الذي يقترن بفكرة “التقدم”، كان أمامنا واضحاً وضوح الشمس في ضحاها، خلال حركة التنوير العربية التي بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي برفاعة رافع الطهطاوي (1801 – 1873م)، ومن خلال ما تلاه من رموز الفكر الإصلاحي الذين قدموا لأمتهم العربية أصوب الآراء وأدق القضايا وأشدها خطراً على المستويين : الداخلي والخارجي.

فليس بالإمكان مطلقاً غَضّ النظر عنها ونحن نتكلم في الإصلاح وفي التقدم ونتولّاهما بالرعاية والاهتمام. وإذا أردنا أن نغض الطرف بعيداً عن آراء المفكرين والمصلحين وأهل الرأي ودعاة التهذيب وحاملي لواء التغيير في شتى مناحي الحياة : في الفكر، والثقافة، والاجتماع، والسياسة؛ فعلينا إذن أن نطلب من متخلفي الأمة ليقوموا بعمليات الإصلاح والتغيير، وننحي جانباً أولئك العقلاء المفكرين؛ لأن أقوالهم – فيما تبدو لنا – ترفٌ عقلي أو نظرٌ فكرى؛ إنْ هى إلا تزجية للفراغ العاطل. فمن أسف أننا حين نتحدث عن الإصلاح وعن التقدم، نتحدث عنهما ونحن في عزلة عن أولئك الذين خبروهما واستوعبوا دلالاتهما وحفيت أقلامهم في الدعوة إليهما، ليتم تطبيق خطواتهما في مجالات الحياة بالجملة فضلاً عن التفصيل.

ولن يقوم الإصلاح قياماً ذاتياً من تلقاء نفسه؛ لأنه رهن بالتقدم، ولا هو ينغرس فيما فسد من أرض الواقع غرساً عشوائياً بغير دراسة واعية، ولكنه على كافة مستوياته (الدينية، والفكرية، والثقافية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والحياتية على وجه الإجمال) يحتاج إلى مصلحين درسوا وتعبوا في البحث والدراسة حتى تمخضت أذهانهم عن وجوه الرأي المختلفة، وتشكلت لديهم “رؤية” فيما هم يقومون بمعرفته، فكانوا بذلك رموزاً في العمل الإصلاحي : محاوره ومجالاته.

وماذا نقول فيما كان قدّمه جمال الدين الأفغاني (1839- 1897م)، وعبد الرحمن الكواكبي (ت 1902م)، في الربط بين الفكر والسياسة، وفي مجال الإصلاح السياسي على وجه الخصوص. وهل نرى غضاضة إذا نحن أخذنا اليوم على عاتقنا معرفة مجمل الآراء الإصلاحية التي قدمها الشيخ محمد عبده (1849- 1905م)، أو قاسم أمين (1863- 1908م)، أو محمد إقبال (1873 – 1938م)، أو الشيخ مصطفى عبد الرازق (1885- 1947م)، أو أحمد أمين (1886 – 1954م)، أو المفكر المصلح الجزائري عبد الحميد بن باديس (1889 – 1940م)، أو الأستاذ عباس محمود العقاد (1889 – 1964)، أو طه حسين (1889 – 1973م)، أو غيرهم من كبار المفكرين والمصلحين الذين يعلمون عن الإصلاح ومداخله الكثير والكثير، ولا يعزلونه مطلقاً عن فكرة التقدّم حيث لا تقدّم بلا إصلاح؟!

هذه سنة الحياة وسنة التطور فيها على التحقيق. فهؤلاء المصلحون هم في الواقع كانوا خيرة عقول الأمة، ولازالت آراؤهم تنير لنا الطريق، فلا يطلب – مرة ثانية – من متخلفي الأمة أن يقوموا بعمليات الإصلاح والتغيير؛ فعلى الفئة المفكرة العاقلة أن تشرّع، وعلينا نحن أن ننظر فيما شرّعوه؛ لنرى ما يوافقنا منه فتأخذه تنفيذاً مقبولاً غير ساخطين.

إنّ العقول التي عشقت هذا التراب العربي لهى العقول التي عرفت معنى الولاء للضمير فارتفعت به؛ ليكون رمزاً علوياً للإنسان أنيَّ كان؛ فإذا انصلح ضميره، انصلحت تباعاً جميع قواه التي تميزه عن سائر الكائنات الحية. ولك فيما لو شئت أن تجرد من الإنسان عقله، وفكره، وضميره، وأخلاقه، وقيمه، أو تجرِّده من قدراته الروحيّة والفكرية والثقافية والمعنوية على وجه العموم؛ فماذا تراه يكون غير كونه حيواناً أو أشبه بالحيوان؟!

لقد حفيت أقلام مفكرينا الكبار من أجل وضوح الرؤية حول عملية الإصلاح؛ الخاصة بالفرد قبل المجتمع، وكُتِبِتْ كتابات مستفيضة حول هذا الهمِّ الأيديولوجي والتطبيقي على السواء، كانت فكرتها الأساسية تدور حول التغيير والتحديث والتطوير والتجديد تمهيداً لتجلية فكرة التقدم؛ وجميعها اصطلاحات تلف لف تغيير العقلية العربية ونقلها من مراحل الجمود على القديم والانغلاق عليه، إلى مراحل المشاركة في الإنجازات العالمية؛ بل هناك كتب متخصصة كاملة تناولت فكرة التقدم والإصلاح بمستوياته المختلفة وأقسامه المتباينة وأولوياته، فيمن ساهموا بوضوح الرؤية فيه؛ مثلما كتب “أحمد أمين” كتابه “زعماء الإصلاح في العصر الحديث”، ومثلما كتب الدكتور “زكي نجيب محمود” في “تحديث الثقافة العربية”، “وتجديد الفكر العربي”، ومحمد إقبال في “تجديد الفكر الديني”، ناهيك عن فلاسفة المغرب في القديم والحديث والمعاصر، وفي مقدمتهم محمد عابد الجابري في “نحن والتراث”؛ “ونقد العقل العربي” بأجزائه الثلاثة؛ “والتراث والحداثة”؛ وغير هذه وتلك من المصنفات التي كان كتابها مجددين، يدعون إلى الأفكار الإصلاحية الكبرى مقرونة مع فكرة التقدّم، ويهدفون إلى الإصلاح بكافة مستوياته لتتقدم أممهم وتشارك في النهضة العامة. فهل استفادت الجهات المسئولة التي يعنيها الشعب جملة لا الفرد بصفة خاصة، بمثل هذه الجهود المبدعة الخلاقة لإصلاح حال الأمة والتفتيش عن مقومات وحدتها؟ وهل أعطت هذه الجهات المسئولة في أمتنا العربية قاطبة مساحةً حرة في أجهزتها الإعلامية لتعزيز تلك الأفكار الإصلاحية والجهود المستنيرة ودعمها؟!

بادي الرأي عندي : أن الإجابة قطعاً بالنفي، فالعكس هو الصحيح. هناك بعض الدول العربية شجعت الفكر المتطرف، ونمت روح التعصب، واقتدرت بنفوذها المادي على تمويل الأفكار الرجعية، وفتحت الساحة العربية للسقوط في المستنقع الآسن والحمأة الوبيئة : الإرهاب، والتسّلط ومحاربة الأفكار الإنسانية العامة، وقتل التفكير العقلي؛ الأمر الذي ساعد على حل روابط التضامن والاتحاد والاعتصام من الفرقة، تفككت خلالها العروة الوثقى.

في إطار هذا كله؛ وفي ضوء منهجية نقدية تجلّيها فلسفة الحوار، وبتجربة يقترن فيها الفكر مع مسالكه العملية؛ يطرح الغرباوي مسألة تخلف القيم الدينية في واقعنا العربي سواء على مستوى عقائد أهل السنة أو على مستوى عقائد الشيعة، والقيم الدينية يمثلها أشخاص، وتحيا بهم في الواقع الفعلي، فهي في ذاتها لا تمثل شئياً، ولكن يستدل منها على أشخاص يجسدونها، ترتفع بهم إذا ارتفعت فيهم، وتنتكس وتتردى بانتكاسهم وترديهم. وليس ينبغي أن يكون الدين دافعاً للعجز والاسترخاء، يتقدّمه تفكير مغلوط مشوب بالغفلة والاستنامة.

القيم الدينية في بلادنا سادها الاستخفاف بالعمل، وأصبح الناس مجرد عبيد لعقائد الانتظار، ولكل ما هو سلبي يضر ولا ينفع، ويؤخر ولا يقدّم، ويطعن في الجهد والسعي والكفاح والعمل. وعند الغرباوي : أن الغرب يختلف عنا في علاقته بالدين وبالغيب؛ فمنذ إقصاء الكنيسة عن الحياة عامة والسياسة خاصة؛ انطلقت الشعوب الأوروبية نحو العلم والمعرفة وتطور الحياة؛ فأخضعت كل شيء للتجربة والعقل، وراحت تبحث عن الأسباب الكامنة في الكون بعيداً عن التفسيرات الغيبية، فأصابت الهدف وحققت نتائج مبهرة في الحياة، بعدما اكتشفت القوانين المنظمة للكون، وكيفية ترابطها، وصار العالم برمته مديناً لاكتشافاتهم. (مدارات عقائدية ساخنة : ص 28).

هذه حقيقة ظاهرة عند الغرباوي، تراها الأعين وتمسها الحواس ويؤكدها الواقع الفعلي، ولا يستطيع أحد أن ينكرها. أمّا شعوبنا فمسكونة بالغيب، بعد أن وجدت فيه حلاً سحريّاً لكل مشاكل الحياة، ووجدوا فيه تبريراً لعجزهم ولكسلهم وتقاعسهم فراحوا ينتظرون معونة الغيب ليحل لهم مشاكلهم أو يجزيهم يوم القيامة جنات عدن بدلاً من معاناتهم. وهنا يبدو نقد العقائد الرّخوة الهينة الميتة، وليتهم يعتقدون اعتقاداً إيجابياً في الغيب؛ بل عقائدهم الدافعة للعمل سلبية بامتياز؛ لأن الإيمان بالغيب لا يدفع إلى الكسل والخمول، بل يدفع إلى العمل والحيوية والنشاط لملاقاة المصير. فليس العيب في الاعتقاد في الغيب؛ بل العيب في سوء الاعتقاد فيه.

غير أن هذه الفكرة مع وجاهتها لدى “الغرباوي” تجدر مناقشتها في ضوء صراع المعارك الفكرية التي كانت بين الإسلام وخصومه، وكانت مقصورة في الأغلب الأعم على الكتب المتخصصة والدراسات العلمية، خاصة دراسات المستشرقين التي بدأت مع بعثات التبشير فيما قبل القرن الثامن عشر وتطورت دراسات الباحثين الأوروبيين للإسلام في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وكان يعمُّ الإنصاف تطورها أحياناً، كما كان فيها بعض الإجحاف الفاسد والظلم البيِّن أحياناً كثيرة.

وفي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين ظهرت النزعة العلمية منهجاً وطريقاً لتمايز البحوث والدراسات بالمزايا العلمية خالصة لوجه العلم والتاريخ؛ فكان أنْ تَوَخَّى الباحثون أمانة العرض والموضوعية، وإخلاص النزاهة لوجه الحق والعدل، والتجرُّد عن الأهواء والأغراض، والبعد عن التعصب والعنصرية : صفات مَنْ يتخذ من المنهج العلمي طريقاً له في بحوثه ودراساته، وفيما يصل إليه من نتائج عن طبيعة موضوعه المبحوث.

فلما أن تشبث الغربيون بهذه النزعة العلمية؛ أفرطوا فيها، فأخضعوا القيم الروحية والإسلامية للمقاييس المادية، وللاعتبارات التي تُقاس بغير مقياسها الصحيح؛ فخرجوا بذلك عن منهج العلم حين سلكوا مسلكاً هو في حد ذاته خطراً على العلم نفسه، وتناسوا في غفلة الإعجاب بالإفراط : إنه من الخطأ المنهجي الذي يفرضه المنهج العلمي الإنساني ذاته، أن نعلق الحقائق النهائية الإسلامية بحقائق غير نهائية هى في الأصل كل ما يصل إليه العلم البشري، وأن نلحق “الثابت”، وهو القرآن والقيمُ  الإيمانية، “بالمتغير” الذي لا ثبات فيه، وهو كشوفات العلم وإبداعات العقل البشري، وتجاهلوا أنّ موضوع الإسلام الذي جاء ليعليه ويحييه في الهياكل الآدمية هو “الإنسان” : الإنسانُ في عقائده وأعماله، والإنسان في شعوره وتصوراته، والإنسان في سلوكه وروابطه وعلاقاته، والإنسان في ضميره الذي يدفعه بمقتضى القيم الإيمانية فيه إلى تحصيل العلم وتزكية التحصيل بالإبداع والتقدم، وبالبحث الدائم في أسرار الكون كشفاً للمجهول.

كان المحايدُ المنصف بين المستشرقين والباحثين الأوروبيين، مثلما كان من بينهم الجائر المجحف، وقد لاقت آراء المجحفين ردوداً قويّة من كبار العقول العربية والإسلامية كما لاقت آراء المنصفين منهم ما يناظرها من الإشادة والتقدير؛ فلمَّا أن دخلت السياسة اليوم في الحكم على الإسلام هاجت الدنيا وماجت، وظن البعض أن الهجوم على الإسلام وليد الأمس القريب. وبعضُنا يعلم تلك الطعنات الجائرة التي صوَّبها المستشرق الفرنسي “أرنست رينان” (1823- 1892) في كتابه “الإسلام والعلم” للعرب والإسلام؛ فكانت مثالاً للإجحاف الظالم والبعد عن النزاهة العلمية والانحراف الأعوج عن موضوعية العلم والتفكير؛ الأمر الذي دفع السيد جمال الدين الأفغاني، وتلاميذه من بعده، إلى الرد عليه بما أفحمه وألزمه حجة الاعتراف بضعف كثير من المصادر التي أستقي منها معلوماته عن الإسلام : مبادؤه وأخلاقه وتعاليمه وقيمه.

وجاءت على النقيض من هذا؛ آراء صحيحة مستقيمة لطائفة من المستشرقين كتبوا عن الإسلام ونبيه عليه السلام؛ فإذا بالإسلام يبدو في دراساتهم، وبحوثهم ديناً دولياً عاماً؛ وإذا بنبيِّه – صلوات ربي وسلامه عليه – هو الأسوة الحسنة التي يلتقي فيها شعور المساواة والإخاء والحب الكامل بين أبناء العالمين جميعاً بغير استثناء.

وللأستاذ ” كارا دي فو”  كتابُ عن “المحمدية” جاء فيه قوله :” إنّ محمداً كان هو النبي، والمُلهم، والمؤسس، ولم يستطع أحد أن ينازعه المكانة العليا .. ومع ذلك لم ينظر إلى نفسه كرجل من عنصر آخر، أو من طبقة أخرى غير طبقات بقية المسلمين. إنّ شعور المساواة والإخاء الذي أسَّسه بين أعضاء الجمعية الإسلامية، كان يطبق تطبيقاً عملياً حتى على النبي نفسه” .. وإنه؛ صلوات الله وسلامه عليه :” أتمَّ طفولته في الهدوء، ولما بلغ سن الشباب أشتهر باسم الشاب الذكي الوديع المحبوب ..”، وقد عاش هادئاً في سلام حتى بلغ الأربعين من عمره، وكان بشوشاً تقياً لطيف المعاشرة “.

وقال المستشرق الفرنسي “ليبون” عن القرآن الكريم :” حسْبُ هذا الكتاب جلالاً ومجداً أن الأربعة عشر قرناً التي مرَّت عليه لم تستطع أن تجفِّف – ولو بعض الشيء – من أسلوبه الذي لا يزال غضاً كأن عهده بالوجود أمس”. وهناك آراء توصَّل إليها كبار الباحثين الأوروبيين حول الإسلام وكتابه المقدس (القرآن) لا يكادُ المرء لقوتها وعمقها أن يظفر بها في بحوث الباحثين العرب، منها ما نبَّه أحدهم عليه، وهو أنه : لابدَّ لقارئ القرآن إذا أراد أن يفهم رسالة القرآن أن يذكر أنه كتاب فرائض وكتاب إقناع وكتاب هداية، وأن الإعجاز فيه لا يرجع إلى فصاحة اللفظ وحدها ولا إلى نسق البيان وحده، ولكنه يرجع إلى “إيحاء” اللفظ و”إيحاء” البيان بما يعجز كل كلام (غير إلهي) عن الإيحاء بمثله”.

إضافة إلى تلك النغمة النقديّة الساخرة التي اصطنعها الغرباوي فيما تقدم يقطع جازماً ليقول : نحن شعب نكره الجد والمثابرة، ونتمنى الأشياء بلا تعب وبلا معاناة؛ خلافاً لسنن الحياة، وننظر حلول وتسويات الغيب لمشاكلنا بالدعاء، فانتهى بنا الأمر مستعمرين لدول الغرب اقتصادياً وصناعياً وتكنولوجياً. الغرب يتقدّم على مختلف أصعدة الحياة ويقيم أفضل الأنظمة السياسية في ظل مجتمعات مدنية، ونحن ننتظر المهدي وتحقيق دولة العدل الإلهي الموعودة ! (يراجع : مدارات عقائدية :  2017 م، ص 29). 

نحن مجتمع قطيع ترنو عيناه لرعاته ومن يقود مسيرته، لا أدري لما ننتظر مُخَلّصاً والعالم الغربي حقق كل شيء بما فيها العدالة التي يبكي عليها الشرق؟ هل حققوا هذا بواسطة مخلص ومهدي أم بجهودهم وسعيهم وتفهمهم وكفاحهم المرير، وكانت النتيجة الآن أنهم يعيشون عيشة كريمة. فما نحتاجه راهناً إعادة النظر بوعينا وثقافتنا كي نتخلص من روح التبعية والانقياد بثقة عالية.

يعتقد الغرباوي في ضوء نقد جرثومة تخلف اعتقادات الشعوب العربية : أنّ العدالة رهن من يسعي لتحقيقها، بعيداً عن عقائد الانتظار لينعم بها ويسود العدل مفاصل الحياة في بلاده. ومن له حقوق انتزعها بنفسه فلا أحد يعيدها له.

***

بقلم : د. مجدي إبراهيم                   

..................

* مشاركة (62) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

كان ذلك قبل عقدين من الزمن، أكثر أو أقل لا أذكر، ما أعرفه أن الأمر لم يعد الآن مهما فهو يعرف أن مثل هذه الأمور لا تعنيني، أقول له ذلك فيبتسم عن بعدٍ قائلا، وأنا كذلك الا في التوثيق. أسأله وهل في حياتنا من توثيق على الإطلاق. ولكي ينهي مثل هذا الحوار يقول: أحيانا. ونصمت.

 اليوم تفصل ما بيننا ظلال بعيدة لم يخطر ببالي أنها امتدت كل هذه السنين، فقد مرت بنا خلالها مصائب وفواجع وانكسارات، كان خلالها يعلمنا ألا نعيشها دفعة واحدة بل نبتلعها على وجبات أو جرعات أو ان استطعنا لقيمات..

من يعرف الأستاذ ماجد الغرباوي مدير مؤسسة المثقف العربي يدرك بأمانة أيَّ مثقف عراقي واسع الأفق صادق السلوك في التدين وفي التعامل مع الكتاب والمثقفين في عمله بإدارة مؤسسة المثقف، نزيه العلاقات في تعامله مع الجميع متواضع، وصبورحليم بسعة محبته وتأنيه وقدرته على خلق أجمل العلاقات مع كل مثقفي وكتاب المؤسسة، ومن فضائله التي يتسم بها على الدوام الصبر الجميل على المرض، على الشدائد، على الفقدان، والعودة لزملاء العمل بكل هدوء ورصانة وأمل بثواب الله.

في البداية كنت أخاف التعصب، التعصب الذي أضر بديننا الحنيف كثيرا، ولذا كنت أتعامل معه بحذر يهدف إلى الكشف عما وراء هذا الهدوء الرصين، وحالفتني الصدفة بحلول (يوم القدس) واحتفالنا بذلك اليوم على المستوى الإعلامي والوطني فأرسلت له فيروز4208 ماجد الغرباوي وبشرى البستاني

 تغني (ياقدس ..) توجست خيفة أن تزعجه حرمة الأغاني لكنه أجابني بما كنت أنتظر، ولماذا لا نسمع الأغاني الرصينة، الله سبحانه خلق لنا العيون لنتأمل الجمال وخلق الأذن لنسمع الجمال وهكذا اللمس والشم والتذوق وخلق لنا نعما لا تعد ولا تحصى، وعلينا أن نمارسها لنشكره، ونحسن عبادته.

 الآن أدرك أن ما أكده هيدجر حقيقة نعيشها، إيجابيات الماضي حاضرة في ثنايا حياتنا وهي التي تشكل رؤانا لمستقبل نتوخاه ولإيقاعات جديدة، مستقبل نتطلع لتحقيقه بآليات وتشكيلات عصرية وليس بالتشكيل الذي تحدده الطائفة أو العشيرة أو المذهب، فالإنسانية فوق الجميع وقيمها المشرعة على الخير والجمال هي المنتصرة في النهاية وهكذا كان..

عام 2008 أرسل لي عميد كلية الآداب في جامعة جرش بعمان وكنا نلتقي في المربد ببغداد يخبرني أنه أرسل لنا دعوة للتدريس في كلية الآداب بعمان حتى انتهاء الأزمة الطائفية في العراق وعودة الأخوة العراقيين جميعا لحضن الوطن، وحينها سارع رئيس جامعة الموصل مشكورا للموافقة وتزويدي بالكتاب الرسمي قائلا هذه محنة وستزول وتعودون لجامعتكم.

في حينها كتب لي الأستاذ الغرباوي، تعرفين يا بشرى أن تطوير الذات والمجتمع يبدأ من الإرادة وها نحن نعيش هذه المرحلة أو المحنة بصبر وإرادة، وسيكون السفر فرصة للاطلاع وتطوير الذات والكتابة معا فالأدب صراع الذات الفردية المغتالة بقهر المجتمع وسلبيات العصر وأدوات رعبه القاسية، وأمام هذه المرحلة القاسية سيكتب الأديب مخلصا لإبداعه، مجددا لأساليبه وطرائق أدائه بتوجيه من العقل وحساسية الأداء.

أسأله لكن الأدب يمكن أن يكون رعبا حينما تظل الورقة بيضاء أمام عينيه لا يزخرفها السواد، ويقول تلك قضية أخرى، فقد تنهض التجربة بذاتها ويواصل القلم زخرفة الصفحة البيضاء وقد تكبو التجربة فيدرك المبدع أن هذه التجربة قد ذوت وتوقفت وغابت معالمها. يقول يحدث هذا عندكم في الأدب مرات حين يكون النص إبداعا، أما نحن فبعد التخطيط المنهجي وجمع المصادر وتأمل الأسباب والحلول فحالة النكوص أقل مما لديكم.

قلت له في كل ثقافات الدنيا لا يكون الدين إلا جانبا روحيا وسلوكيا مهما في الثقافة الكلية وممارسات العقيدة للأمة إلا عندنا فإن الدين هو الذي يشكل الثقافة كلها ويشكل القيم كلها، والسلوكيات الظاهرة للعيان فهو الماضي والحاضر والمستقبل هو الثقافة وهو العلم والطب والفلك وهو الاقتصاد والزراعة والصحة والأدوية ولذلك ظل مجتمعنا مقيداً بأطر حُشر فيها الدين قسرا فلا مجال في دينا للنقد الحر ولا أفق لطرح الآراء ولا محل لثقافة الاختلاف إنما الفضاء كله لذوي العمائم الذين غامت ألوانُ عمائمهم من عبور زمن قديم عليها متناسين أن لكل زمن مشاكله وظروفه وحقوقه ولكل زمن دولة ورجال وأحكام وقوانين صالحة لمعالجة إشكاليات ذلك الزمن وأهله وان الحلول الجمعية لا يمكنها أن تصلح إشكاليات فردية أو تعمم عليها في وطن يموج بإشكاليات شتى وبمختلف الكوارث والمصائب والمصاعب والتناقضات والاحتلالات مما يحتاج لاستجابة الحلول لأنواع المشاكل حيث لا يجدي توحيد الحلول أمام اختلاف الإشكاليات ولا تجدي حلول القرون الوسطى لعلاج إشكاليات عصر مابعد الحداثة، فنحن شئنا أم أبينا إنما نعيش زمننا عصراً نكابد إشكالياته ونحتاج لحلول قادرة على معالجة معضلاته، نعم سنضحك يوما ما أو ربما ستضحك أجيالنا القادمة على ذلك التهافت الطائفي المشين الذي قتل من أجله بعضنا بعضا على قضايا مضت من أربعة عشر قرناً والقرآن الكريم يقول وكأنه يخاطبنا نحن ((تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون)) البقرة 134، بمعنى أن ما جرى أمره لله، هو الذي يحكم فيه، لأنه انتهى ومضت أحداثه وانتهت نتائجه والعجب أننا اليوم غارقون بإشكاليات شتى نتركها ونقتتل لأحداث الماضي معتمدين على المرويات في التاريخ والتاريخ مؤدلج يكتبه ذوو المصالح والأدلجات الذين قُتل اخوتنا وأهلنا وجيراننا بسببها وقد مرت قرون على حدوث معظمها لأسباب زمنية لاعلاقة لنا بها ولم يساهم أحد منا بأي حدث أو سبب فيها، فلماذا الاقتتال عليها، أليس الأجدى الن نلتفت لمشاكل واقعنا ومعضلات شعبنا وعصرنا وإعمار وطننا بثرواتنا الوفيرة ومعالجة العدوانات الذي تحيق بنا من كل جانب، ونسعى لدراسة أسبابها والعمل على وضع الحلول الناجعة لها، وفي ذلك اليوم سندرك أننا كنا نقتل بعضنا بدل أن نلقي القبض على من أشاعوا الفتنة بيننا وحرقوا بيوتنا ومزقوا نسيج شعبنا الواحد ونستعيد منهم ماسرقوا من خيرات وطننا ونحاكم خطاياهم وما ارتكبوا فينا من جرم وآثام.

يقول بهدوئه المعتاد، كل ذلك كلام سليم لكنه التاريخ يستعيد بعض أحداثه أحيانا، والمغرضون الطغاة المنتفعون موجودون دوما، وعلى استعداد لإشعال الفتنة التي تخدم مصالحهم.

يوم قرأت كتابه الحواري عن قضايا المرأة في الإسلام، قلت له وهو الحواري المتفهم، أظننا كنا بحاجة لشجاعة أمضى في معالجة القضايا المطروحة، وما أظن أن القرآن الكريم طرح مصطلح التأويل أكثر من مرة إلا لحاجتنا إليه في جانب مهم من حياتنا ودراسة الآيات والأحكام عبر العصور التي امتلك رجال الدين تفسيرها وترسيم مراميها دون طرحها أمام إشكاليات عصرنا المستجدة، ليكون القرآن كما أكدت نصوصه الكريمة كتاب حياة وفعل وتطوير دائم للإنسانية المعذبة.

ويجيب بثقة وتفهم، سيكون ذلك وسترين لكنه لن يكون إلا بثمن، والثمن لا يدفعه أحد غيرنا؛ لأننا وشعبنا أولى بحل إشكاليات وطننا.هكذا هو المفكر المتواضع الثري بالثقافة الاسلامية والفكرالانساني والوعي النقدي، والانسان العصامي ، الصلب ، المحارب بالكلمة والقلم، والثورة الحقة لديه فصل حب كوني إنساني شمولي وقادر على حلّ مجمل الإشكاليات الخاصة بحياة الفرد والجماعة. 

ماجد الغرباوي المفكر المتمرس في التراث الاسلامي، والذي يمتلك الأسس الفكرية المنفتحة بالنسبة لرجال الدين في زماننا والأدوات الفنية الجادة التي يعتمدها اسلوبه الكتابي النقدي ومقارباته االثقافية، التي تعد اهم ركائز واوليات ومتطلبات المثقف صاحب الفكر المتأني الحاضر لقبول الاختلاف الذي لا يلحق ضررا بالعقيدة والذي يحارب الجهل والتزمت ..

الغرباوي والكتابة النسوية

 حول الكتابة النسوية كنا على وفاق في أنه لا يمكن الجزم بوجود كتابة نسوية أو ذكورية خالصة؛ لأن الكتابة نتاج حركة المجتمع أجمع، وحركة المجتمع في كل بيت وأسرة شئنا أم أبينا، الكتابة لها جلالها وهيبتها عند المرأة والرجل معا، إلا أنها عند المرأة لها ممارسة ذات طقوس تسكب فيها معاناتها منذ أمسكت بالقلم، وهذه المعاناة لها بعدها الكوني الذي يلامس جذور النفس البشرية، فروح الكتابة عند المرأة تشكل لغزا وصراعا وتعبيرا عن وجع نفسي ومجتمعي يختلف عن مشاكل الرجل الجسدية والمجتمعية، فهي التي تدفع ضريبة الإنجاب والأمومة غالية من أوجاع شتى في مجتمعات العالم الثالث التي لم تلتفت لاحتياجاتها في الحمل والولادة والإرضاع والتربية المبكرة، ولذلك فهي تكشف في تعبيرها عن عالم ضبابي معقد يخيم على عصرها، بعيدا عنها وعن إشكالياتها، فضلا عن عملها إن كانت عاملة. عصر الذرة والحروب النووية والاقتتال حول كيفية نهب ثروات الشعوب المستضعفة، كما أن الحرف الأنثوي يجسد موقفاً جمالياً وفلسفيا تطفح فيه مشاعر الحب، والأمومة، فالحرف الأنثوي موقف إنساني له دلالاته الخاصة. إذ إنها تسكب في كتاباتها الخوف الكوني من الفقر وسوء السكن وضيق العيش وأرض الله تزخر بالخيرات.فضلاً عن الحروب التي اشتدت عواصفها ونيرانها في عصرنا الحاضر ؛لأنها ليست حروبا من أجل تحقيق العدالة على الأرض، وليست حروبا من أجل نصرة الضعفاء، بل هي اقتتال شرس قائم على الظلم وابتزاز حلم الإنسان وموارد عيشه ليس في الحياة حسب، بل حتى بعد موته فها هي إنعام كججي الروائية العراقية المغتربة نلمس منذ اللحظة الأولى في روايتها "طشاري" عنوانا يجذبنا إلى المعنى المأساوي للتغرب عن الأوطان والعذاب الذي لحق الإنسان في نفيه القسري عن بيته ووطنه وماله من أبعاد ثقيلة ترهق النفس ، فالفعل طشَر يأخذنا إلى معناه اللغوي أي بعثر بعنف وفرّق ورمى بلا قانون أو نظام، فتجلت الرواية بمضامين مثقلة بهموم الإنسان العراقي الذي بددته الحروب وجعلته في بحث دائم عن هويته وحضارته وتراثه الذي نثرته أمريكا ومَن معها هباء بوابل قنابلها وصواريخها، بعيدا عن كل معاني الإنسانية ، -تؤكد إنعام كاججي- أن الإنسان بدأ يراوده القلق الكامن في داخله أين سيكون قبره وهل ستكون المقابر مكانا يلتقي فيه الأهل والأحبة يلملمون شتاتهم وعذاباتهم وجراحات وطنهم، فهي تلامس بحروفها شفافية مشاعر المنفيين وآلام الانسان المغترب ومكابدته في كل بقاع الأرض.

 أما الكاتبة المصرية رضوى عاشور ففد دونت في " ثلاثية غرناطة " التي تتكون من ثلاث روايات وهي: غرناطة، مريمة، الرحيل، حين تأخذنا أحداثها إلى تاريخ عميق تمتد جذوره إلى عام م1491 وقد تعمق العذاب العربي في الرحيل عن غرناطة، وما زال هذا الانكسار مستمرا إلى يومنا هذا بتتابع الاستعمار على أراضينا حتى اليوم والشعور الممزوج بالغربة على أرضنا.

أما الشاعرتان العراقيتان آمال الزهاوي وبشرى البستاني فقد علا صوتهما في المشهد الشعري النسوي في العراق بعد الرائدة نازك الملائكة بقصائدهما ذات العواطف الوطنية الملتاعة على ما جرى والسحر الأنثوي والوطني الذي يرفض مبادئ النسوية وأهدافها لما فيها من مخاطر على الدين والأسرة والانسان والحكم عليهما بالتفكك. ذلك الشعر الذي تغنى بجمال العراق وحدائقه الفكرية والجمالية وبكى أحزانه ونزيف جروحه، فضلا عن القضايا الإنسانية والوجودية الأخرى، وعن العذابات الداخلية التي حفرت بعيدا في روح المرأة.

إن حلم المرأة الكاتبة هو التحرر من السجن الداخلي، وهوحلم يميل إلى بلورة مجتمع مشرق يمنحها أبسط الحقوق في الحياة، وفي طليعتها حرية التعبير واحترام خبراتها وإرادتها وحق صنع القرار الذي تجد فيه حياتها.

عام 2014 بلغت بصدور قرار مؤسسة المثقف التي يديرها المدير العام الأستاذ ماجد الغرباوي بتكريمي وأنا في عمان لكني واصلت تواصلي مع (المثقف) من هناك، وعلمت أن التكريم باقتراحه على اللجنة الاستشارية وكان حدثا مهما إذ لم يكن المعتاد تكريم امرأة عراقية منفية خارج العراق، حينها قلت له، لا أريد ولن أفرح بأي تكريم يلقي مسؤولية على مؤسسة المثقف ومسؤوليها، يومها قال لي بثقة ومسؤولية: هذا قرار لا يستطيع نقضه أحد حتى لو كانت بشرى البستاني. لأنه حقّك الذي يلمسه الجميع في مختلف أجناس الأدب.

بودي لو تحدثنا قبل النهاية عن مجمل موقف القرآن الكريم من المرأة وقضاياها وتباين آراء المفسرين في مواقفهم من هذه المخلوقة أمّ الرجال، وإلى أي مدى سيكون التأويل مفيدا في تكييف الأحكام دون مساس بالعقيدة في كتب الغرباوي، ولكن القضية تحتاج لمواقف جديدة وشجاعة قد لا نمتلكها الآن ومعنا الكثير من المفسرين المحدثين، بل ويرفضها الكثير من رجال الدين التقليديين الذين يهيمنون على عقول الشباب ليكونوا في طليعة التصدي لكل فكر جديد ومتنور..

ماجد الغرباوي تصدى لمعظم هذه الأمور في حواراته، لكننا نعلم أن الآراء تحتاج لنقلها الى قوانين وتطبيقات حقيقية لتكون نافعة.

تحية لأستاذنا في عمره المتجدد الرصين، ومجداً لكل المخلصين في نواياهم وفعلهم من أجل قضية الإنسان وتطوير حياته وتأمين عيشه.

***

بقلم: أ. د. بشرى البستاني

شاعرة وناقدة وأكاديمية وصوت نسوي معروف

 

في سياق حديثنا المُركز والمطول أيضاً عن نقد عقيدة المهدي المنتظر، يمكن القول: إذا كان "محمد عبده" ومعه أشهر رواد مدرسته، قد وقفوا موقف الناقد في الإصلاح - الجامع بين صحيح المنقول وصريح المعقول - والمُنتصر للمقصد الإلهي من جهة، والراغب في تخليص كُتب جُماع الحديث الشريف من الدَسّ والانتحال والكذب على رسول الله من جهة أخرى، فمن الطبيعي أن نجدهم على رأس المُعارضين الناقدين لهذه العقيدة الشيعيّة كما أشرنا فيما تقدّم، أملاً في الوصول إلى موقعها من الفكر الإسلامي، فانتهت معظم دراستهم إلى ثلاث نتائج:   

أولها: أنّ كتابات الشيعة الإثنى عشريّة المُروّجة لهذه العقيدة لا يُمكن درجِها ضمن أصول العقيدة، ولا الواجب من العبادات، ولا الأصيل من المُعتقدات، وذلك لافتقارها إلى ما يؤيّدها من صحيح الدين والمُتفق عليه من الواجب تصديقه والعمل به من الأخبار.              

وثانيها: أنها تحوي العديد من الأفكار والتصورات التي تتناقض مع المُسَلم بصحته من صُلب العقيدة الإسلاميّة، وعلى رأسها إلصاق صفة العِصمة بأشخاص غيّر الأنبيّاء، وادعاء أن (المهديّ المُنتظر) مُنَصب من قِبل الباري، ومن ثَم لا مجال للحديث عن شخصه أو سلوكه أو أوامره القدريّة سوى السمع والطاعة، أي أنه حاكم (ثيوقراطي).

أمّا النتيجة الثالثة: قد أجتهد العلاّمة "الطاهر بن عاشور" في شرحها والتأكيد على مضمونها ألا وهي مُخالفة هذه العقيدة للمقصد الإلهي، أو إن شئت قُلت: إنها من آليّات الإضلال والتشويش التي تَدفع العقل إلى إنكار النسقيّة التي تمتاز بها الخِطابات الإلهيّة إلى البشر، كما أنها تجعل المشهد الأخير من حياة الإنسان على الأرض مشهداً درامياً مأساويّاً (إمام مُحتجب شريف النسب، مؤيّداً بسُلطة إلهيّة، عاد من غيّبته ليُسفِك الدماء، ويُنكل بخصومه، حامل سيّف العدالة الجائر، فظً غليظ القلب، مُسيّطر لا يعرف الرحمة وغايّته توحيد الجنس البشريّ على عبادة قد نهى الخالق عن الإكراه فيها).

لذا سوف نناقش في السطور التاليّة، أهم مُبررات الشيعة الإثنى عشريّة لهذه العقيدة وكذا الدوافع التي أحتج بها بعض مُفكري أهل السُنة، والأسباب التي دفعتهم لقبولها رغم درايّتهم بهشاشة أصولها وانعدام نفعها.

فإذا تناولنا الاتجاه الثاني الذي يُمثل التيّار المُحافظ الرجعي من الكُتاب المُعاصرين، سوف نجد في مُقدمته: أعلام الفكر الديني لفِرقة الإثنى عشريّة، وهم ينقسمون إلى ثلاثة دروب:

الأول: يُغَلِب مصلحة الكيّان المِلي والوجود السياسي على غيره من الرؤى النقديّة أو التناول العقلاني لتلك العقيدة الموروثة، ويُعد الحرس الثوريّ الإيراني وقاداته والمُنظرين لسياسته والتابعين من العوام وسَدنّة التراث من الشيوخ في العراق وسوريا ولبنان يُمثلون الجانب الأعظم من هذا الاتجاه. أمّا المُتفلسفين من الكُتاب الرافضين للتقليد والراغبين في تحرير العقول من سجون الخرافة وقيود الجهالة وديكتاتوريّة التعصُب فيمثلون الدرب الثاني، وقد رغِبوا عن التصريح ولجأوا إلى الرمز والتلميح، مخافة سطوة الرأي العام القائد والمُتمثل في الحرس الثوري والميليشيّات المُسلحة في العراق وسوريا ولبنان، والجمهور المُتعصب الذي لا يتردد في اللجوء للعنف للإطاحة بمعارضيه.

وأخيراً: عُصبة المُفكرين الأحرار - الذين يُمثلون الدرب الثالث - فرغم انتمائهم للفكر الشيعي الإثنى عشري إلا إننا نجدهم يرفضون عقيدة ذلك (المهدي المُنتظر) الذي سوف يعود من غربته لإنقاذ الأمة، قانعين بأن ذلك الموعود لن يأتِ إلا عقب حركة إصلاح شاملة تبدأ بالتربيّة والتعليم وتوعيّة المُجتمع وإصلاح المُؤسسات السياسيّة والاقتصادية والعسكريّة، ومن بين القائمين على هذه النهضة الشاملة سوف يظهر المُنقذ المُجدد لقيادة خيّر أمة أُخرجت للناس، وسوف نتناول في السطور التاليّة واحداً من أهم أعلام الدروب الثلاث.

وحسبي أن أشير في هذا السيّاق إلى مُجدد مُعاصر يُمثل الدرب الثالث من هذا الاتجاه الشيعي، أحسبه من الثائرين المُستنيرين العقلييّن الذين عزفوا عن الانتماء المِليّ والعِرقي وارتضوا الانضواء تحت رايّة العقل والتجديد والإصلاح دون تجديف أو جحود أو تشكيك في بنيّة العقيدة الإسلاميّة وثوابتها الشرعيّة ومقاصدها المُجمع على صِحتها، وهو الناقد المُفكر العراقي "ماجد الغرباوي" الذي اجتهد في غربلة الفكر الشيعي الأمامي الذي اختلطت بنيّته بمؤثرات شتى، أبرزها التعصُب العرقي والاعتقادي والسياسي والاجتماعي، مُبيناً تهافت أصول العقيدة الشيعيّة الإماميّة واجتراء أئمتها على انتحال العديد من التصورات المثيولوجيّة والمذاهب الفكريّة المُنغلقة والآراء السياسيّة الراديكاليّة التي لا تستقيم مع الادعاءات التي يروج لها فقائهم ومُتفلسفيهم (حيث الوعي والاستنارة والعقلانيّة والتأليف بين المذاهب الإسلاميّة).                            

ولا يسع المقام سوى الحديث عن موقف "الغرباويّ" من عقيدة (المهديّ المُنتظر) التي لم يقوىَ دونه من أمراء المنابر (المُنتمين لفرقة الإثنى عشريّة) على فضح هشاشة رِكامها المُنتحل، فقد أكد في غيّر موضع من كتاباته أن جراثيم الكذب ساكنة في جذورها النصيّة، بداية من التأويلات الشاطحة والأخبار المُلفقة ومروراً بالآراء الزائفة المُتلاعبة بالعقول المُغيّبة والمُتعلقة بالأوهام الخرافيّة المصنوعة، وانتهاءً بالأساطير المُحرفة التي أخرجها كهنة المعابد من جيّف الديّانات المجوسيّة واليهوديّة وألصقوها بالإسلام و"بالإمام عليّ وبنيه"، بداية من حكاية ميلاد (المهديّ) المزعوم واحتجابه وغيّبته الأولى والثانيّة وسفرائه ورسائله ووصاياه التي تنضح إفكاً وبُهتاناً، وانتهاء بقصة عودته والانقلاب المأسويّ الذي يسبقها والأحداث المُشينة التي يتمنى المُخرفون وقوعها قبل قيام الساعة دون أن يَخطُر في بال أحد عقلائهم موت الإمام المزعوم أو زيّف البِدعة برمتها.

ومن أقواله في ذلك: (لذلك كله شَكّل طول غيّبته تهديداً خطيراً للعقيدة الشيعيّة، فراح مُتكلموهم يربطون ظهوره بمشيئة الله، وأن المسألة غيبيّة يتعذر على الإنسان معرفة أسبابها، فكان الغيّب وما يزال عِلة سحريّة؛ لتبرير ما يعجز العقل على تبريره، خاصة مع وجود روايات تؤيّده. إنه أسلوب مراوغ لكنه ناجح جداً مع سذاجة الوعيّ وغيّاب العقل ... إنّ المهديّ قضيّة وهميّة، فرضتها ظروف الطائفة الشيعيّة وعقيدتها بعدد الأئمة، فهي سالبة بانتفاء الموضوع كما يُعبر المنطقيون، فعدم إمكان رؤيته تحصيل حاصل وكان التوقيع صادقاً جداً ولازمه كذب من يدعي رؤيّة المهدي أو يدعي السفارة عنه، فالسفارة وفقاً لهذا الاحتمال كانت خطوة لتدارك انهيّار الوضع الشيعي، ومرحلة انتقاليّة بين الحضور والغيّاب المُطلق لامتصاص صدمة الفراغ القيّادي لعدم وجود من يتولى الإمامة من أبناء "الحسن العسكري" وقد اقتصر دور السفراء على قضايا إداريّة وتنظيميّة ترتبط بالحقوق الشرعيّة وأحالوا الشيعة على الفقهاء لمعرفة الأحكام الشرعيّة فانتفت الحاجة الفعليّة؛ ليكون الإمام ظاهراً وتكفي غيّبته المُبررة سياسيّاً وأمنيّاً لطمائنة نفوسهم وترسيخ إيمانهم بالإمامة، فاكتمل عدد الأئمة بإمام غائب، وهذا مطلب أساس وفقاً للمنظومة العقائديّة الشيعيّة).              

وأعتقد أن الحوار الذي أجراه "ماجد الغرباوي" مع "طارق الكناني" المُتضمّن في كتابه (مدارات عقائديّة ساخنة ٢٠١٧م) كان يُوحي بتصريحات أخطر يُمكن استنباطها من الإشارات الإحاليّة والتوجيهات المرجعيّة والإيماءات الرمزيّة التي ولج أبوابها المُتناظران، منها أن أصابع الساسة هي التي ما برحت تضغط على جهاز الكذب الاصطناعي؛ لإنتاج الحُجج الوهميّة والأحداث العدوانيّة التخديريّة التي تَبتدِعها العصابات الصهيّوأمريكيّة.

وليس أدل على ما ندعيه من أهميّة قراءة موقف "الغرباوي" من عقيدة (المهديّ المُنتظر) - مُفككين بنائها ومُحللين بنيّتها ومُراجعين سيّاقتها والأطوار التي تراءت عليها في مُختلف المجالات - تكشف المُخبئ وتُزيل الستائر عن الغوامض من الأفكار الثوريّة التي تحملها، ويترأى لي أن هذا المُنطلق يُمثل بؤرة تفلسُفه وأكبر عُمد تجديده، فمقصد مُفكرنا المُضمر والمُستتر وراء كلماته، هو ضرورة الانتقال من عبث الإصلاح السياسي إلى غربلة الموروث الديني الشيعي؛ وذلك إذا ما أراد كُتاب هذا الاتجاه الانتقال من طَوّر العبث واللعب على المسرح السياسي إلى اعتلاء منابر الإصلاح وتجديد الفكر الديني.

***

د. عصمت نصار - أستاذ الفلسفة – مصر.

 .................................. 

* مشاركة (61) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

تبيّن لنا فيما سبقت إليه الإشارة كيف أن الحوار النقدي يقيم فلسفة تحدّدت عند فيلسوف كبير كأفلاطون؛ فكشفت، بنظرية المعرفة، عن حرية العقل والتفكير كما ارتبطت بها في مجالات عدّة أهمها الأخلاق. وفي إطار وضوح (فلسفة الحوار النقدي في مدارات الغرباوي العقائدية) تلك المدارات الساخنة التي أجراها حواراً فلسفياً معه طارق الكناني (2017) حول منحنيات الأسطرة واللامعقول الديني، توقفنا في اللقاء السابق أيضاً عند اختياره لهذا النوع من الحوارات ذات الطابع العقلي، بحيث يجعل مسؤوليته كمثقف تنصب على انتشال الوعي من مغبّة الجمود ورثاثة الخمول، والعودة به إلى صفائه الأول، إلى أفق العقلانية والتعامل مع الأشياء بواقعية ومنطق مقبول يتجاوز ضيق المساحات القابلة للتفكير السطحي؛ والذي يخلّف ورائه تسلل الخرافة أو تسرّب فعل الأسطرة في ظل عقول ربما استكانت لقبول اللامعقول في حياتنا الفكريّة، فضلاً عن انعكاسات صورها في الواقع الفعلي بكل أضراره وسوءاته، ناهيك عن أثرها المباشر في تخلف المسلمين، إذا هي تحولت إلى حياة تعاش وممارسة تكاد تكون يوميّة؛ الأمر الذي يقوض دعائم العلم والمعرفة والثقافة والحضارة على التعميم.

ــ  فلسفة الحوار النقدي من المنهج إلى الموضوع:

تضمّنت بنية الحوار منهجية نقدية قاعدتها التأسيسية فلسفة العقل؛ لتجعل من العقل غايتها، بالإضافة إلى النقل (النص الديني المقدَّس)، فكل سؤال يحتاج إلى إجابة، ويبرز عن السؤال المركزي أسئلة فرعية تتضمن تفاصيل القضية المطروحة، بحيث تجيء الإجابة عن السؤال المركزي والأسئلة الفرعية المنبثقة عنه لم تجافي الحقيقة ولم تخالف منطق العقل. ويبقى الرهان قائماً في مفهوم الغرباوي على الوعي ويقظته في استيعاب ما جاء في الحوار من أفكار.

بمثل هذه المنهجية عالج الحوار الفلسفي قضايا عقائدية شتى هي ما كان طرحه الكتاب في محاوره العشرة بسؤالها المركزي، وبتفاصيلها الفرعيّة؛ فمن المحور الأول الذي يبدأ : بالمُخلِّص .. المفهوم والمصداق، يجري السياق في تناول جذور الفكرة وتداعيات الانتظار، ومعنى الخلاص ومعنوياته، إلى المحور الثاني الذي يتناول الشفاعة دينياً وما عساه ينعكس عليها اجتماعياً. وبمنهجية تحليلية ناقدة يشرح مفهوم الشافعة ويقدّمها برؤية مختلفة مستنبطة من الدليل العقلي، ومن الضوابط القرآنية خاصّة. ويتناول بنفس المنهجية الناقدة في المحور الثالث : قضية المهدي المنتظر في العقيدة الشيعية، ويجعل في المحور الرابع لّلّامعقول الديني فلسفة تتناسب مع الغياب الأسطوري.

ويقدّم في المحور الخامس دراسة نقدية حول الفقيه الوليّ وتطور مفهوم الاجتهاد، وربما وجدنا تكراراً في بعض المضامين الفكرية الخاصة بهذا المحور بما سبقها من محاور شدد القلم عليها كتطلعات الانتظار ومعالجة النواحي المقدّسة، غير أنه تكرار الذي يرسّخ فكرة يريدها لا تكرار الفكرة بما يجرى بها القلم جريانه في محيط تناوله.

أمّا المحور السادس، فموضوعه المهدي والخمس الشيعي يعالج فيه الخمس والغيبة، والمهدي والخمس، نكبة الإنفاق، المرجعية المؤسسة؛ ليجيء المحور السابع، فيتناول الولاية التكوينية واللامعقول الشيعي، بدايةً من تحليل مفهوم الولاية التكوينية وانتهاءً بالموقف من المعجزات، ويركز على اللامعقول الديني؛ لتتناول فلسفة الحوار النقدي في المحور الثامن مفهوم الرجعة ودراستها في الديانات الأخرى ويقدمها كضرورة شيعية من حيث تقليب وجوه النظر المعتبرة في أبعادها ومعطياتها. ويخصص الحوار الفلسفي النقدي محوره التاسع لمشكلة الإمامة كمفهوم سياسي.

إمّا المحور العاشر والأخير؛ فيتضمن التشيع وتناسل الطقوس مع نقود مستفيضة يكاد الحوار نظريّاً أن يقضي منها على الغلو؛ ليقرر في نهاية المطاف بحثاً حول محنة التشيع.

تلك كانت موضوعات الكتاب، تسبقها منهجية نقديّة، جعلت من الجوار الفلسفي غايتها المرجوة واتّخذت منه مادة تقيم الإصلاح الديني في طريقه المعقول، لتزعزع يقينياته الدجماطيقية الثابتة. ولعل هذا هو شرط نجاح الحوارات الفلسفية كونها تزعزع يقينيات كانت وما زالت راسخة في ممارسات باقية تنحو نحو اللاعقلانية ناهيك عن تجافيها للواقع الفعلي.

وتبقى من بعدُ مهمّة الحوار قائمة تشعل فتيل الوعي وتدريب العقول على منهجية المراجعات النقديّة، لتنير أماها الحقائق على قناعة وقبول. ولا بدّ – من بعدُ – من خلاف إنْ لم يكن (استنكاراً) من هؤلاء الذين رسخت لديهم حول العقائد من طريق التقليد قيماً ساقطة مثل ما ترسخ القيم وهى تنمو كنباتٍ شيطاني على الجمود والركود. غير أنها سرعان ما تتزعزع مع إيثار العمل العقلي والصبر عليه والقدرة على ممارسته يومياً والتحلي بقيوده ضوابطه.

حدّد الغرباوي مثل هذا الخلاف الذي سكون من بعض القراء، ووضع إطاره منذ البداية، مستنداً على وضوح المنهج وتقرير العمل به على الدوام بغير انقطاع : فالخلاف سيكون في المبنى وفي المنهج، خاصّة وإن منهج الحوار جعل القرآن الكريم والعقل صنوان لا يفترقان، مرجعته الأولى، فتكون علاقة الروايات بهما علاقة طويلة، مع التأكيد على تاريخية العقائد وحكم استجابتها المتواصلة لوعي الفرد والعقل الجمعي، ومتطلبات المرحلة : أيديولوجياً وطائفياً). (يُراجع : مدارات عقائدية ساخنة : حوار في منحنيات الأسطرة واللامعقول الديني، دار أمل الجديدة، دمشق، الطبعة الأولى 2017 م، ص 16).

وبتطبيق قواعد المنهج العلمي الموضوعي يرتكز الغرباوي على مرجعية القرآن كما تقدّم، وعلى العقل، وعلى الصحيح من السيرة، بعيداً عن التحيزات الطائفية، ثلاثة محاور رئيسية يتأسس عليها منهجه، مع الوضع في الاعتبار شرط الاحترام الكامل لإيمان الناس بعقائدهم، والاستفادة من معطيات العلم وتراكم التجربة البشرية؛ الأمر الذي دعاه، وفق تطبيق هذا المنهج، إلى إعادة النظر في فعلية الأحكام الشرعية، ومدى صلاحيتها بعد انتقاء موضوعاتها، وتحري الدقة الواصبة في إجراء النظر عليها.

ولاريب في أن الجزء الأصيل من أركان المنهجية لتطهير العقائد من لوثة الفهم المغلوط، يكمن في التركيز على النص الديني (القرآن الكريم) فهمه وحضوره وإيحاءاته ومراميه. (وما خالف القرآن فهو زخرف. وما خالف القرآن فأضربوا به عرض الجدار)، ويبقى القرآن بوصلتنا لحسم النزعات العقيدية، فكل عقيدة لم يصرح بها القرآن الكريم ليست بحجة علينا، وليست ملزمة مهما كانت أدلتها (مدارات : ص50)، ولكي نرفع غشاوة الجهل عن أعيننا، يجب عدم الوثوق مطلقاً بالتراث، وبما يقوله رجل الدين في هذا المضمار، والعودة للقرآن لمعرفة الحقيقة؛ فالله أعلم بحقائق الأمور، وهو عالم الغيب والشهادة (مدارات : ص 53).

يأخذ الغرباوي بالعقل الحداثي في مقابل العقل التراثي، وبمنهجية نقدية تقيمها فلسفة الحوار يُقارن بين مطالب كل منهما في ظل قبول ما يقبله أحدهما ورفض ما يرفضه الآخر، واضعاً في الاعتبار مسيرة الحياة الفكرية وفق قانون التطور، فما كان يفكر فيه العقل التراثي يستحيل أن يكون هو هو كل ما يفكر فيه العقل الحداثي، وإلا ألقينا سنن التطور خارج نطاق الوعي وخارج نطاق التاريخ. ولم يكن إذْ ذَاك معنى للتفكير من أساسه، ولا معنى للنقد، ولا معنى للحوار أصلاً، ولتوقفت معنا المعارف العلميّة وتوقفت سُنة التطور العلمي والمعرفي؛ لتجدنا آخر الأمر نعيش حياة غير حياتنا، وواقعاً مفصوماً عن العقلانية والتنور، معزولاً عن قيم جديدة ينبغي الأخذ بها في محيط تقدّمه، ولبطلت فكرة التقدُّم والدعوة إليها من قريب.

ويرتكز على التجديد في مناهضة التقليد، ويحرر الخطاب الديني من سطوات تبعية التراث وتداعيات الجمود العقلي والمعرفي، وتلك بلا شك معالم نهضة حضارية وثقافية تحرر العقل من الخرافة، وتعيد بناء التفكير على أسس علمية ومنهجية، قوامها العقل النقدي والقراء المتجددة للنص الديني تقوم على قواعد النقد والمراجعة المستمرة كشرط أساسي لنهوض حضاري؛ يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف التنابذ والاحتراب.

وللحديث بقية مع مناقشة فكرة التقدم

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم - أستاذ فلسفة / مصر

 

أكثر من ثلاثين عملا بلغت إصدارت ماجد الغرباوي منذ ثلاثين عامًا تقريبًا، تُعد من المكونات الأساسية للتنوير الإسلامي المعاصر في جغرافية العالم العربي. "التجديد، التسامح، الوعي الديني، العقلانية، نقد التراث"، وفقًا للاسم الذي أعطى المفكر عمله، يتجاوز الإطار الصارم للدراسة الأكاديمية: كتبه تتعلق بالفكر الديني الإسلامي والفعل الحضاري لـ(الإنسان /المجتمع)المسلم. ومع ذلك، فإن كلمة مفكر، بالنسبة لديه ككاتب ومثقف هي: أن تكون منفتحا على الله، العقل، الإنسان، الحياة والمستقبل، إلى آخر لحظة من وجودك... هكذا يبدو أبو حيدر في كلية مطارحاته وجزئيات مقارباته للتجديد والاصلاح والنهضة...

على مدار عشرين عامًا الماضية، أدت كتبه إلى ظهور حقل ثقافي فرض على المفكر العربي والمسلم اقتحام مجال تفكيك التحديات. مثل أعماله التي فتحت في بعض الأحيان تحدي العقل التراثي، وأحيانًا تحدي التاريخ، أو حتى تحدي الهوية. كيف يمكن استدراك أمواج هذه التحديات؟

ماجد الغرباوي. بالضرورة وبشكل منهجي. كانت نصوصه، محايدة من الناحية السياسية -في حين كانت تحيزاته إلى اليسار الإسلامي معروفة، فلهذا كانت الثقافة والمثقف والإجتماع الثقافي دائمًا شغله الشاغل في مقاربة الدين على ضفاف الفلسفة، لا يمكنك أن تتعرف على أنساقه، أو تكتشف ما يريد التفكير فيه داخل المدارات الدينية المهيمنة. إلا إذا تشكل لديك اهتمام كبير لما يجري في معبد العقل التراثي.

ومع ذلك، يجب فتح كلمة فقه للنقاش ضمن مناهج التفكيك والتأويلية والظاهراتية التي بدأت تترسخ لدى الرأي العام الثقافي العربي والإسلامي. حتى يكون القارئ لنصوص ماجد الغرباوي قادرًا على توضيح فهمه لمفهوم التجديد الثقافي للوعي الديني عبر تحريره من أسر العقل التراثي.

منذ تسعينيات القرن الماضي، استهل ماجد الغرباوي، مشروعه التجديدي عبر رصد جميع أنواع الكتب والخطب والنقاشات، للتفكير في ما يمكن أن يكون عليه العقل التراثي، مع مراعاة تحديات العولمة، والمفاهيم الجديدة للثقافة وعلاقتها بالمجتمع. مسألة إعادة التفكير والتحليل والفهم لهيمنة العقل الفقهي، والضمور النقدي والمتناقض في حقول المعرفة الإسلامية المعاصرة...

لقد رسم ماجد الغرباوي بصمته على لوحة التفكير النقدي الإسلامي المعاصر. مفكر التجديد، الذي يقرأ له الكثيرون من طنجة إلى جاكرتا، ومن سيدني إلى ليما، محاطًا بالقراء المتحمسين وكذلك المنتقدين الأكاديميين..

في سيدني وبينما نحتفل عبر العالم بعيد ميلاده السبعين المبارك بالعديد من المقالات والنصوص والمؤلفات والحوارات والفعاليات دون أن ننسى المنبر الثقافي العربي العالمي "المثقف"، نتساءل: كيف نتصور دور المفكر ماجد الغرباوي في النقاش العام للعرب والمسلمين، فضلاً عن مفرداته الخاصة حول التراث والفقه والعقلانية والتسامح والمقدس والحضارة والتجديد والإصلاح والاختلاف الذي يجسده في تفاصيل آثاره الثقافية النقدية والتنويرية فيما يتعلق بالإقلاع الحضاري للمسلمين في ظل التحديات العالمية التي تشكك في كل شيء وتربك كل التوازنات وتنسف كل المعتقدات بإسم الحداثة والعولمة..؟

ولعلّ "ماجد الغرباوي" واحد من أبرز المفكرين والفلاسفة العرب المعاصرين، الذّين تناولوا بعمق وجد واجتهاد مشكلات الوعي الديني والعنف وجذور الأزمة في العقل التراثي. وهذه الأخيرة ستكون محور هذا النص، وتجدر الإشارة أنّ هذه القراءة قد تكون قراءة نقدية في بعض محطاتها من باب توسيع النقاش، أو إبراز بعض الأبعاد المهمة التيّ نأمل أن يتطرق إليها الأستاذ ماجد الغرباوي في قابل نتاجه الفكري، بينما عموما هذه قراءة توصيفية وشبه تحليلية لفكره، وبالتحديد مسألة النهضة وشروطها. ووقوفا عند كتبه: " الهوية والفعل الحضاري" و' تحرير الوعي الديني" "المقدس ورهان الأخلاق" " مقتضيات الحكمة في التشريع" وهو آخر مؤلفاته ضمن سلسلة متاهات الحقيقة، التي أعتبرها الباب المفتوح لكل مشروع يؤسس لوعي حضاري متكامل.

أساسيات ومضامين مشروع ماجد الغرباوي

حقيقة إن مشروع ماجد الغرباوي قد بدأ رحلته في العقد الأخير من القرن العشرين، وبرز بالتحديد مع صدور كتابه الشهير "إشكاليات التجديد "، واتضحت ملامح المشروع سنة 2008م مع كتاب "التسامح ومنابع اللاتسامح" وبعد ذلك توالت الأعمال في الصدور لتكتمل ملامح مشروع ماجد الغرباوي الفكري والفلسفي في أعمال قيمة أهمها: تحديات العنف، مدارات عقائدية ساخنة، سلسلة متاهات الحقيقة (نذكر منها كتب: الهوية والفعل الحضاري (2019م) وتحرير الوعي الديني (2021م) المقدس ورهان الأخلاق (2022م).

إنّ المتصفح لكتابات ماجد الغرباوي يلاحظ بأنه اهتم كثيرا بأدق مشكلات العالم العربي الإسلامي، وأهم القضايا المرتبطة بالمسألة الحضارية في بعدها الإنساني (الفكري الثقافي، الروحي والنفسي، الأخلاقي التربوي) لذلك اتسم مشروعه بالنزعة الإنسانية.

ولا شك أن هذا الاهتمام يرجع إلى بنائه الثقافي ومن الظروف التيّ عاشها، لذلك الإنسان كان ذا حضور كبير في كتاباته الأولى واستمر في فتح آفاق النظر والتوجيه والارشاد إلى معالم النزعة الإنسانية في الدين الإسلامي.

1- المثقف المستنير:

هذه النقطة الأساسية التيّ إنطلق منها المفكر الغرباوي في رسم أسس منظومته الفكرية هي عين تلك الرابطة الشديدة ما بين الثقافة الإنسانية والمجتمع الحضاري، فميلاد المجتمع الحضاري وتطوّره لديه، مرتبط بالموقف الثقافي المتمثل في المثقف المستنير " الفعل الثقافي الذي يؤكد مصداقية المثقف، فيشمل: النقد والمراجعة والتثقيف وترشيد الوعي، وبيان الخطأ وكشف الحقائق، وفضح التزوير والخداع باسم الحقيقة مهما كان مصدرها، عبر جميع الوسائل المتاحة. فالمثقف المستنير ملتزم بمبادئه وقيمه، ومواقفه، وفق عقلانية شاملة، لا تنحدر به إلى منطق الأيديولوجيا، فيكون مسددا بفعل النقد المستنير، الذي هو مران متجدد، متواصل، يستمد حيويته من مرجعياته المعرفية، ومبادئه الإنسانية، العامة، والشاملة، المتماهية مع قيم السماء وجميع الأديان. فهي مقياس حقيقي لنقد الذات والآخر، وركيزة أساسية لفهم الظواهر الاجتماعية. وملهمة لتبني هموم الناس وقضاياهم المصيرية"[2]. بمعنى أنهّ خلاص المجتمع فعل ثقافي نهضوي وتحرره من تحرر المثقف-الإنسان، يرى الغرباوي" أنّ المثقف شخص مستنير في معرفته ووعيه ومواقفه"[3]. ويؤكد بالقول: " فلا شك أن القيم الإنسانية هي مقياس المثقف المستنير في نقده للواقع ومحاكمته للأنساق الثقافية والواقع الاجتماعي والسياسي، وما لم يتمثل القيم الإنسانية لا يمكنه الدفاع عنها، أو مطالبة أحد بها، فمشاعر الحب الإنساني شرط في صدق مفهوم المثقف المستنير"[4].

وإعتبر المثقف المستنير الحجر الأساسي في عملية البناء الحضاري:" المثقف الرسالي المستنير، الأمين على مبادئه، يبقى الرهان عليه في تحقيق طموحات المجتمع في التحرر والرقي. لذا يتناسب تطور المجتمع طرديا مع حضور المثقف المستنير، ولا يمكن لمجتمع يروم التطور ما لم يمارس المثقف دوره في ترشيد الوعي، وكشف الحقيقة . فوراء التقدم في أوروبا كان هناك تيار ثقافي يقوده مثقف بمعرفته ووعيه ومواقفه"[5].

انطلق ماجد الغرباوي من فكرة محورية هي أن نهضة أي مجتمع تتم في نفس الظروف التي تشهد حضور المثقف المستنير في الواقع لترشيد الوعي ورفع الستار عن الحقيقة، وعلى هذا فإن إعادة بناء المجتمع المسلم المعاصر لا بد أن تنطلق من ثقافة التنوير كأساس لأي إصلاح وتجديد اجتماعي.

نلاحظ أنّ فكر الغرباوي يتأسس وفق محددين المثقف والمجتمع ضمن معادلة ترشيد الوعي، فمشروعه يتأرجح بين الواقع والتاريخ (التراث)، والنهضة (المستقبل) وهذا ما حدده في أساسيات التجديد ومأزق العقل التراثي. كما أن فكر ومشروع ماجد الغرباوي يتحدد في الجانب الثقافي والإجتماعي للمجتمعات العربية في النظر للغرب والمتمثل في الحضارة الغربية، "صورة الغرب في الوعي العربي قائمة على نموذجية الغرب، رغم عجرفته وتعاليه، بل لا ينسى العربي دور الاستعمار الغربي في تحطيم بنيته المعرفية، واستعماره، وسلب خيراته، لكنه رغم ذلك بات الغرب في وعي العرب هو النموذج والتحدي. هو نموذج إنساني في ثقافته وتقدمه وحياة الاستقرار السياسي والأمني التي ينعم بها، ويطمح كل عربي باللجوء لدول الغرب الديمقراطي الآمن، بينما تعيش الدول العربية في دوامة الصراع على السلطة، وبؤس ثقافي[6]، لكنه يؤشر في سياق حديثه عن أسباب الركود و التخلف إلى أن " المشكلة الأساس بالدرجة الأولى ثقافية، تتعلق ببنية العقل، والنظام المعرفي لشعوب المنطقة، لأنها القاعدة التي ترتكز إليها النهضة، أية نهضة كانت، فالحافز للتطور التكنولوجي عند الغرب(مثلا) مركوز في ثقافتهم، ونابع من وعيهم لأهمية التطور وضروراته، (كان الغرب يقتات على منجز الحضارة الاسلامية أيام ازدهارها، و كان يعيش فقرا فكريا وعلميا مقرفا، ويسوده استبداد ديني سياسي تقع الكنيسة على رأسه. تستهلكه حروب ومعارك طاحنة، لكنه انتفض على يد نخبة من الفلاسفة والعلماء والمفكرين، وحطم أغلال العبودية الفكرية والثقافية والسياسية والدينية، وتخطى حاجز الخوف حتى حقق فتوحاته المعرفية والعلمية، وحقق على مدى ثلاث قرون ما لم تحققه البشرية جمعاء. وعندما نريد النهوض علينا مراجعة ثقافتنا وتحليل مكوناتها، كي تنبثق نهضتنا من داخل بيئتنا وتنسجم مع ما نحققه من تطور علمي وتكنولوجي، بهذه الحالة فقط يتحقق الانسجام الأخلاقي، بين المنجز العلمي وقيم المجتمع..)[7].

ومن أهم مضامين مشروع ماجد الغرباوي الفكري والفلسفي أنه اهتم بأسئلة استراتيجية بالنسبة لبناء وعي متكامل وبناء لمستقبل العالم العربي الإسلامي (الحرية والأخلاق والعدل والتسامح ضمن رؤية متكاملة حول النهضة العلمية والحكمة التشريعية في الإسلام)، ومشكلات الثقافة والتراث والعنف وتحدياتها، كلّ هذه العوامل والمضامين حاول تفعليها داخل النقاش الثقافي العام عبر المثقف المستنير، سنركز على حيثياتها في السطور التالية، مستهدفين تقريب الرؤية والاستنارة بمطارحاته حولها.

1- سؤال الحرية:

لم يفشل الغرباوي في الإشارة إلى أن مشروعه لا يتكون من التشكيك في الرغبة في صياغة خروج صارم بين الحجة العقلية والقناعات الدينية، لأنه قد وصل بالفعل إلى هذا التوازن في وقت آخر . ولا أبالغ إذا قلت أن مشروعه بشكل أساسي هو العودة إلى أصل هذه الرغبة في شرح ضرورة تجديد الوعي وترشيده. وهكذا، لكنني أتساءل ضمن عمله الفلسفي على سؤال التفكير الديني، هل قام ماجد الغرباوي بصياغة علمنة تدريجية لقناعاته الدينية، بحكم العلمنة المعرفية أي "مواجهة الأسطرة بلا حدود"؟ التي قد تبدو في مقالاته الأخيرة كمسلم ناقد للتراث الإسلامي التاريخي والمعاصر.

إذا كانت عملية العلمنة بمعناها الأكاديمي قد برزت في آخر نصوص مشروع الغرباوي يبدو لي بلا شك تظل الحقيقة أن العلمنة الفلسفية قد مكنت الغرباوي من تحييد الأصل المعترف به لبعض الموضوعات- من بين "الله" و"المقدس" و"الوحي" و" الأخلاق" و"الإيمان"، التي أصبحت في أطروحته "تجديد" و"ترشيد"- مع دمجها في انعكاس فلسفي للأهمية الموجهة نحو فقهاء الحرية المسلوبة.

يجب تجديد الحرية، وأن الفقه هو ما يجعل مثل هذا التجديد ممكنًا، أكيد هذا ليس واضحًا، لا من وجهة نظر فلسفية ولا من وجهة نظر التراث الفقهي الإسلامي. عند تحقق ذلك، يفصح الغرباوي عن مقاربة غير مسبوقة تتكون بالفعل من محاولة ما يسميه لاحقًا (رهان المقدس والأخلاق: إنها مسألة البحث عن "فلسفة تجديد "الفهم الديني بطريقة تضع الفقه أقرب ما يمكن إلى الاعتراف بنسبيته وبشريته، منه إلى أن يكون الناطق الأوحد حتى نتجاوز القول بأنه "مقدس" في قبال المقدس الأساسي "القرآن الكريم".

ينطلق الأستاذ الغرباوي من فكرة مهمة جدا: "من أدمن العبودية لا يستوعب الحرية بسهولة، فهو بحاجة إلى تأهيل اجتماعي ونفسي، وكان بحاجة إلى ثقافة جديدة وبيئة جديدة كي يتحرر من ربقة العبودية والشعور بالدونية."[8] وبالتالي لا يمكن التخلص من هيمنة الاستبداد في أي مجتمع دون تجديد الثقافة في هذا المجتمع، وهذا ما يؤكده في موضع آخر قائلا:" إذا لم تكن الحرية من ذاتيات الإنسان فهي من لوازمه الوجودية...فهي – أي الحرية- صفة إرادية- في استخدامها لا في أصل وجودها: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا). فالشكر والكفر متفرعان عن حرية وإرادة الإنسان، وما إبداعات البشرية خلال تاريخها إلا دليل على حريته التي هي ركيزة قدراته في مختلف مجالات الحياة ... فتكون الأصالة لحريته دائما . ومقتضى هذه الأصالة عدم قدرة أي جهة سلبها إياه.."[9] فالحرية عند الغرباوي: (غاية إنسانية نبيلة تطمح لها النفوس المعذبة في جحيم الاستغلال والتبعية، لذا استنهض القرآن الكريم المسلمين لانتشال الإنسان (رجل/ امرأة / شاب أو شابة) المستضعف.. الحرية هي المناخ المناسب كي يعبر الإنسان عن قناعاته وآرائه..)[10].

و الحرية لديه: جوهر إنسانية الإنسان، بها يحقق شرط وجوده خارجا، وعلى أساسها يتحمل أعباء قراراته.[11]

2- سؤال الأخلاق:

الأخلاق لدى الأستاذ ماجد الغرباوي: "سجية وطبع، يشعر معه الفرد بالبراءة والإرتياح عندما يتماهى مع قيمه الإنسانية في سلوكه الإنساني، وعلى العكس يغمره الندم، وتأنيب الضمير واللوم عندما يقترف فعلا لاأخلاقياً"[12]. ووظيفة الأخلاق لا تقتصر على حاكمية الأخلاق، بل تمتد صلاحياتها لتشمل جميع مناحي الحياة، فتكون بهذا الشكل سلطة معرفية، توازن بين الحاجات الروحية والنزعات المادية لدى الإنسان. تمنع تمادي النزوع الأيديولوجي على حساب المبادئ والقيم الأخلاقية، التي هي مبادئ إنسانية عامة، وقيم دينية تتبناها رسالات السماء جميعا.[13]

ينطلق الأستاذ الغرباوي في تناول سؤال الأخلاق من واقع الأخلاق وعلاقتها بالدين والشريعة ومحورية الضمير ودور الإيمان في سلامته ورقابته، حيث يشير إلى ذلك عبر كشف حقيقة تهميش الأخلاق في واقعنا بقوله: دأب المنهج الفقهي التقليدي على تهميش الأخلاق، بمعنى عدم أخذها بالإعتبار في عملية استنباط الأحكام الشرعية، وفاء لمقدماته الكلامية والأصولية، التي في مقدمتها: "أن الحسن والقبح شرعيان ولا عقليان"، وأن الحسن ما أمرت به الشريعة، والقبيح ما نهت عنه"، وليسا مستقلين بذاتهما، كي تكون الأخلاق حاكمة على الأدلة الأولية للأحكام الشرعية، بعد توسعة مفهوم الشريعة ليرادف مفهوم الرأي الفقهي، رغم بشريته. وهذه القاعدة كانت وراء تراجع الأخلاق، وصدور جملة أحكام وتشريعات تتعارض مع القيم الأخلاقية، وقد استشهدت في حينه بمجموعة أمثلة، كإباحة المال العام، وهدر كرامة المرأة والإنسان، والحيل الشرعية."[14] بل أكثر من ذلك فصل الأستاذ الغرباوي في تفكيك مأزق تهميش الأخلاق بتسليطه الضوء على أبعاد مهمة وخطيرة تتعلق بالتقعيد الفقهي وما هنالك من مسائل ترتبط بالأدلة الشرعية والعقلية بلحاظ الأدلة الاولية، حيث فتح باب النقاش والمقاربة لما عبر عنه بالدليل الأخلاقي وحاكمية الأخلاق وأدلة هذه الحاكمية، كل هذه المطارحات التي تناولها الأستاذ الغرباوي فتحت نهجا جديدا في هندسة وعي الأخلاق في وعينا للشريعة والواقع، فتعمقه في الجذر الأخلاقي في التشريع وكشف معالم القانون الأخلاقي وماهية القداسة كلها فتحت باب النباهة والوعي الأخلاقيين للتشريع والواقع وإنسانية الإنسان في هذا كله ويضيف أيضا: الفعل الأخلاقي يضفي معنى أخلاقيا على الواقع، ويطبعه بطابعه الإنساني، قصده أو لم يقصده.. معنى يساهم في ترسيخ قيم الفضيلة وو الخير والعقلانية وسمو النويا البشرية، خاصة العلاقات الاجتماعية وعلاقة الـ أنا بالآخر، ويحول دون اتخاذ الإنسان وسيلة لتحقيق أهدافه، بغض النظر عن خصوصيتها. الإنسان يبقى إنسانا تحت أي ظرف كان. وبشكل أدق أن الاستجابة للفعل الأخلاقي كواب إنساني، يترك أثرا ينعكس على الواقع وروابطه الاجتماعية، وبذلك يكتسب المجتمع طبيعة أخلاقية تسودها العدالة، ويعم الخير، مادامت الأخلاق ممارسة سلوكية"[15] . كما يؤكد أن "الفعل الأخلاقي فعل سلوكي، يواجه بإستمرار تحديات تختبر صموده، وقد يخفق الضمير تجاهها، فيأتي دور الإيمان ليعزز دولاه الرقابي، ويحول دون تراخيه أو نكوصه، فدائرة إشتغال الدين "هي ديمومة يقظة الضمير الذي يرتهن له الفعل الأخلاقي في تحفيزه ورقابته". والضمير مشترك إنساني، يرتهن له الفعل الأخلاقي في إخلاصه ونقائه الإنساني، كما للدين دور كبير في صمود الفرد أمام النفس ومغرياتها، وأمام الواقع وتحدياته، مهما كانت قاهرة."[16]

لينتهي الأستاذ ماجد الغرباوي إلى فكرة جدا مهمة بل استراتيجية في مستقبل الوعي الديني: الأخلاق جوهر الدين، وحجر الزاوية في تشريعاته وتعاليمه، وتهميشها لأي عذر، يفقد المجتهد مصداقيته، ما دامت مقصودة في الخطاب ضمن مضمراته، وقد تحدثت عن هذه النقطة بالذات، فإن القيم الأخلاقية تشكل قبليات المتلقي، فتكون مأخوذة في عين الاعتبار، وعلى أساسها يتم فهم النص، وهنا لاأتكلم عن الأخلاق كمنهج مواز لمنهج الفقيه، بل لأن مبادئ التشريع مبادئ أخلاقية. قد يقال: الفقيه غير معني بعملية التشريع ومبادئه قدر عنايته بصيغة الحكم ودلالات الخطاب. أقول: مادام الفقيه متصد لإستنباط الحكم الشرعي فهو ملزم بفقه النص، الذي يعني إدراك ما وراء النص، ومقاصد التشريع، وحينما يتحرى مقاصد التشريع يلزمه تحري ملاكات الأحكام، ومبادئ التشريع، كمقدمة لفهم مقاصده . لذلك أجد من الضروري وضع شروط جديدة للإجتهاد، تستدعي معرفة الفقيه بمعطيات العلوم الإنسانية التي تمكنه من فقه النص، ودراسة تاريخ صدوره، وأسباب نزول الآيات، وكل ما يخصه، سيما مضمرات الخطاب."[17]

3- سؤال العدل:

تناول الأستاذ الغرباوي مسألة العدل، بكل رحابة ودقة وموضوعية على ضوء الآيات القرآنية والمقاربات المهمة لعدة نماذج وركز في رسم معالمها عبر مناقشة مسألة الظلم والجور والاستبداد في العديد من مؤلفاته، ونبه أن إقامة العدل لا تتوقف على أحد حتى الأنبياء، وقد أشاد النبي الكريم بعدل النجاشي ملك الحبشة...المقياس أن يصدر القسط والعدل من الناس جميعاً، عندما يتحول إلى ملكة دائمة في سلوكهم، لذا تجد المجتمعات الراقية حضاريا تلتزم القسط والعدل من خلال التزامها بقيمه وقيم القوانين الراعية له[18]. وفي سياق إثارة مسألة وعي العدل يعمل الاستاذ الغرباوي على تفكيك العبودية قائلا: ليست العبودية مجرد ثقافة وجهاز مفاهيمي ومنظومة أخلاقية، بل تستبطن رؤية لفهم الواقع والكون والحياة. وفلسفة تقوم على ثنائية السيد/ العبد، الشيخ/ الفرد، الأب / الولد، هي جوهر النظام العبودي، وركيزة وجوده.بشكل ينقلب الظلم والجور والاستبداد في إطار التفاوت الطبقي إلى شرط لوجود الكيان وديمومته الاجتماعية. فالمركز يبقى مركزا، وتبقى الأطراف تستمد منه وجودها وانتمائها وتحققها.[19]

4. سؤال الرحمة والتسامح:

يذكر الأستاذ الغرباوي عند مقاربته للتسامح والرحمة في الاسلام أنه هناك أكثر من ستين آية تخص التسامح غيبها النسخ، فقالوا أن آية السيف نسخت كل هذه الآيات !! فهل يعقل أن كل آيات الرحمة والمودة تنسخها آية نزلت في ظرف خاص؟ هذا غير ممكن مع وجود آيات محكمات تعد مرجعية نهائية في فهم النص وفقا للمنهج القرآني.إضافة إلى عدم وجود دليل قرآني على ما يقولون إنما هي رغبة السلطات الحاكمة كي تستبيح دماء معاريضها[20].

على هذا الأساس كانت رؤية الغرباوي واضحة بخصوص إنسانية الإنسان وماهية التسامح في تفاصيل حركته الوجودية " التسامح ليس ردة فعل إنما موقف من الحياة والعالم[21]. التسامح اصطلاحا: اعتراف بالآخر، شريكاً بالحقيقة، مهما كانت نسبتها. فهو تسامح حقيقي ونسق قيمي معرفي يصدر عنه موقف إيجابي متفهم من حرية العقيدة والفكر والرأي، يسمح بتعايش مختلف الرؤى والاتجاهات بعيدا عن الاحتراب والاقصاء، على أساس شرعية الآخر دينيا وسياسيا وضمان حريته في التعبير عن آرائه ومعتقداته. فالتسامح الحقيقي ينفي احتكار الحقيقة والاستئثار بالنجاة لطرف دون آخر. على الضد من المذاهب والفرق الكلامية التي تحتكر الحقيقة، وتحكم بردة الآخر وكفره وحرمانه من النجاة، لكنها تتسامح معه شكليا لضرورات أخلاقية واجتماعية وأمنية بل وحتى دينيا. لذا يتوقف قيام المجتمع المدني واستتباب الأمن الأهلي على التسامح الحقيقي. ولا يراهن على تسامح شكلي يرفض مقوماته، كالمواطنة والتعددية وحرية الاعتقاد والرأي. فهو تسامح قلق، ينهار في أول احتكاك ديني أو مذهبي أو طائفي. فالتسامح الشكلي يكرس منطق الفرقة الناجية، ويسمح بإقصاء ونبذ وإلغاء الآخر، مادام قائما على المنّة والتكرّم، وكل من يتسامح أخلاقيا أو دينيا، يضمر احتكاره للحقيقة والنجاة، وينفي الآخر في أعماقه... التسامح الحقيقي نسق قيمي أخلاقي يراد إحلاله محل النسق الذي مازال يدير حركة المجتمع ويحدد اتجاهاته، وهو نسق وليد منظومة قيم موروثة تشكلت عبر ماض سحيق، ظل الشعب يتوارثها ويتعهدها ويلتزم بها ويحافظ عليها. قيم تنابذية تتقاطع مع قيم التسامح، وتكرس العصبية والرفض والاقصاء. فلا يكون التسامح فاعلا مؤثرا في مجتمع مازال يتعهد تلك القيم الموروثة ويلتزم بها. أي مازال يتمثلها قيما أخلاقية يستمد منها وجوده ومكانته داخل الوسط الذي يعيش فيه. ولا يمكنه التخلي عنها أو التنكر لها. لأن في ذلك – كما يعتقد- مصادرة لموقعه وقيمته ورمزيته التي هي رأس ماله الاجتماعي، وعلى أساسها يقيم علاقاته ويتخذ مواقفه من جميع القضايا، بل يعتقد أنها أساس وجوده وهويته... بكلمة مكثفة: التسامح الحقيقي، مفهوم يعمل ضمن منظومة فكرية متكاملة، يرتبط بعضها بالآخر، يمكن توظيف بعده المعرفي المطلق خارج إطار بيئته، لتفتيت عقيدة الفرقة الناجية. وتتوقف فعلية تجلياته السلوكية على كامل شروطها. فالتسامح الحقيقي قادر على تفكيك بنية العقل الطائفي وإعادة تشكيل وعيه للحقيقة وطرق الوصول إليها، لكنه لا يتجلى ثقافة وسلوكا إلا ضمن بيئته ومنظومته المفاهيمية . فالتسامح وفق لما تقدم، ينقسم إلى قسمين:

الأول: تسامح حقيقي

يشتمل على بعدين:

1- بعد معرفي: يرتكز إلى نسبية الحقيقة، ونسبية المعرفة الدينية، و التلازم الضروري بينه وبين الحرية الشخصية، فيتجرد تلقائيا من مشاعر الكراهية والتنابذ، ليكون مطلقا لا يخصص، ولا يصدق إلا بصدق قيمه المعرفية التي هي أساس حقيقته.

2- بعد سلوكي: تتوقف فعليته على فعلية منظومة قيم المجتمع المدني، فهو نسبي تتوقف مصداقيته على مستوى فعلية ما يرتبط به من قيم حضارية، ولا يصدق حقيقة إلا بفعليتها واقعا.

الثاني: تسامح شكلي

تسامح أخلاقي قائم على المنّة والتكرّم، يكرس قيم التفاضل على أسس دينية أو طائفية أو مذهبية أو عنصرية، يكرس لاشعوريا مشاعر الكراهية والتنابذ. ويخلق شخصية منافقة، تستبطن غير ما تظهر، فهو تسامح قلق، لا يساعد على قيام مجتمع متسامح حقيقة. بل ويهدد سلامة المجتمع في الأزمات السياسية والاجتماعية والدينية والمذهبية.[22]

بهذا كان الغرباوي سباقا في وضع النقاط على حروف ماهية التسامح حقيقة، فلقد وجه نقاشه لواقع التسامح ومواصفاته وتجاوز الشكلية التي غالبا ما تسقط الحقيقة ضمن سياق المجاملات والمراوغات كالتي عرفتها مؤتمرات الوحدة والحوار والتعايش، لقد استطاع الاستاذ ماجد الغرباوي من خلال مشروعه الضخم والرصين والاستراتيجي أن يجيب على عدة أسئلة ملحة ومصيرية بالنسبة لمطلب الوعي، حاولت قدر المستطاع من خلال هذه السطور أن أقف على أربعة منها وتبقى الكثير يحتاج إلى استحضاره وتناوله بالمدارسة والتباحث لأن عصارة 70 عاما من إنسانية إنسان مؤمن ومثقف وصاحب ضمير حي ووعي متقد، تحتاج إلى جهود كبيرة ودراسات ومؤلفات ومحاضرات للوقوف على مباحثها وإشكالياتها ومقتضياتها ورهاناتها وخريطتها الثقافية كي تستطيع العقول الواعية والقلوب الشغوفة بالتجديد والتنوير والإصلاح، أن تنتقل بها نحو آفاق حضارية جادة وذات قوة وأفق في المعنى.

أختم بالشكر والعرفان والتبجيل لهذه القامة الفكرية الثقافية والأيقونة النقدية الخلاقة للوعي والفاضحة لكل الزيف والتزوير والتهميش والتحوير، فماجد الغرباوي المفكر والمثقف والأديب والناقد هو ذاته الإنسان الذي يتمثل القيم حقيقة بلا تلاعب ولا مجاملة هذه للأمانة أذكرها لأنني عايشتها في هذا الشخص المؤمن المؤدب الخلوق المنفتح على الله والإنسان والحياة والحقيقة كلها بتواضع واجتهاد وإحسان، متمنيا له طول العمر والصحة والسلامة ودوام العطاء المعرفي والثقافي، فنعم الأستاذ والصديق والمثقف، خير ما أعبر به عنه أنه: إنسان صدوق وصديق وفي ومفكر يستحق التبجيل العظيم والتقدير الأجمل...

***

بقلم: ا. مراد غريبي – كاتب وباحث

[2]- الغرباوي، ماجد، الهوية والفعل الحضاري، الكتاب الأول من موسوعة متاهات الحقيقة، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة، دمشق - سوريا، ط1، 2019م، ص210.

[3]- المصدر نفسه ، ص 211.

[4]- المصدر نفسه، ص215.

[5]- المصدر نفسه ، ص215.

[6] - المصدر نفسه، ص235.

[7] - الغرباوي، ماجد، تحرير الوعي الديني، الكتاب الخامس ضمن موسوعة متاهات الحقيقة، مؤسسة المثف، سيني – أستراليا، ودار أمل الجديدة، دمشق - سوريا، 2021م، ص394

[8] - الغرباوي، ماجد، مضمرات العقل الفقهي، الكتاب الرابع ضمن موسوعة متاهات الحقيقة، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة، دمشق – سوريا،2020م، ص 230.

[9]- الغرباوي، ماجد، الفقيه والعقل التراثي، الكتاب الثالث ضمن موسوعة متاهات الحقيقة، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة، دمشق – سوريا،2020م، ص 20 و21.

[10] - الغرباوي، ماجد، تحديات العنف، الحضارية، بغداد – العراق، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2009م، ص 80-81

[11] الغرباوي، ماجد، مقتضيات الحكمة في التشريع، الكتاب التاسع ضمن موسوعة متاهات الحقيقة، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة، دمشق – سوريا،2024م، ص 230.ص 206.

[12] الغرباوي، ماجد، المقدس ورهان الأخلاق، الكتاب الثامن ضمن موسوعة متاهات الحقيقة، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة، دمشق – سوريا،2022م، ص 66.

[13] كتاب مقتضيات الحكمة في التشريع، مصدر سابق، ص 212

[14] المصدر نفسه، ص 174

[15] المقدس ورهان الأخلاق، مصدر سابق، ص 36.

[16] - المصدر نفسه، ص 49

[17] - مقتضيات الحكمة في التشريع، مصدر سابق، ص 211.

[18] - الفقيه والعقل التراثي، مصدر سابق، ص 75-76

[19] - المصدر نفسه، ص 389

[20] - الهوية والفعل الحضاري، مصدر سابق، ص 71.

2- الغرباوي، ماجد، التسامح ومنابع اللاتسامح.. فرص التعايش بين الأديان والثقافات، الحاضرية، بغداد – العراق، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2008م، ص20.

[22] الهوية والفعل الحضاري، مصدر سابق، ص 239-243

...................

* مشاركة (60) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

قلما يفلح البعض من الباحثين في إيفاء المواضيع المتعلقة بالمواريث الدينية حقها من مستحقات البحث العلمي والتدقيق الموضوعي، نظرا "لكونها موضوعات إشكالية بامتياز تلابس فيها التاريخي بالأسطوري، والواقعي بالمتخيل، والمعرفي بالإيديولوجي، بحيث نادرا "ما كانت محط إجماع أو اتفاق أصحاب الشأن من علماء ومفكرين ورجال دين، فما بالك حين يغامر أحدهم بإضافة صعوبات أخرى جمة الى تلك الإشكاليات السابقة عن طريق الانخراط في تحليل السرد التاريخي وتأويل مضامينه سعيا "وراء الحقائق المغيّبة والوقائع المطموسة . ولعل المفكر (ماجد الغرباوي) كان من رواد أولئك الذين أظهروا مقدرة فريدة ليس فقط للخوض في غمار مثل هكذا مواضيع حساسة وإشكالية فلسفيا "واجتماعيا" فحسب، بل وكذلك الخروج بتأويلات ومقاربات واستنتاجات كانت حصيلتها أنسنة موروثنا الديني وعقلنة سردنا التاريخي .

وهنا ربما يطرح سؤال نفسه؛ لماذا نجح (الغرباوي) في عمليات حصاده الفكري من هذا الحقل الواسع والمتشعب، في حين أظهر آخرين عجزهم وإخفاقهم عن بلوغ مثل هذا المأرب الحضاري رغم تمتعهم بحسن النوايا وسلامة الطوايا؟! . فمن وجهة نظرنا المتواضعة يمكننا عزو هذا التفرد والتميز الى ثلاث عوامل أساسية رغم كونها تمتح من مصادر مختلفة ومراجع متباينة، إلاّ أنها تترابط فيما بينها على نحو (بنيوي) على صعيد ماهية الظاهرة / الحالة، و(عضوي) على صعيد وظيفة الفاعل الاجتماعي / الثقافي، و(جدلي) على صعيد تطور الوعي / الإدراك:

العامل الأول: يتعلق بطبيعة التكوين الذاتي (الذهني والنفسي) لشخصية الباحث المعني، من حيث كثافة وتنوع المجهودات الفكرية والثقافية التي بذلها خلال مراحل تقدمه العمري ونضوجه العقلي، حيث الاشتغال المتواصل على كينونة الذات لجهة بلورة ملكاتها وصقل مواهبها وتنقية تصوراتها . ولعل هذا الأمر يعكس حجم التنوع في الاهتمامات العلمية والمعرفية التي انخرط في أتونها الأستاذ (الغرباوي) طيلة مسيرته الحافلة بالعطاء، كما جاء في مسرد سيرته الفائضة بالاهتمامات الإنسانية، والثرية بالانجازات الفكرية، والمهجوسة بالتطلعات الحضارية .

والعامل الثاني: يتعلق بكم ونوع المصادر والمراجع التي نهل من معينها (الغرباوي)؛ أسطورية وتاريخية وتراثية ودينية وفقهية وفلسفية، عبر محطات بناء مدماكه الفكري المتناضد الأساسات والمتعدد المنطلقات والمتنوع المسارات. إذ يمكننا بمراجعة خاطفة لسيرة هذا الباحث المتميز اكتشاف ان الحصيلة العلمية والمعرفية التي يتوفر عليها لم تأتِ من فراغ أو تنبثق من العدم، بقدر ما كانت نتاج دراسات واسعة وحفريات عميقة في مجالين هما من أخطر المجالات الفلسفية والمعرفية (الدين والتاريخ) . بحيث ان هذا العامل مكنه من الحراك السهل والانتقال السلس ما بين حقول تلك المجالات، دون أن يتيه في المسارات المتعرجة للأبحاث التي ينجزها، أو أن يفقد بوصلة الاتجاهات المتقاطعة للأفكار التي يصوغها .    

العامل الثالث: يمكننا اعتبار ان هذا العامل هو حصيلة تضافر العاملين الآخرين (الأول والثاني) من جهة، وتفاعل العوامل الثلاثة مع بعضها مجتمعة في مجال دراسة الظواهر الاجتماعية من جهة أخرى . ففي إطار تكوين عقلية الأستاذ (الغرباوي) وما تنطوي عليه من خصال تتمثل؛ بالمرونة الفكرية، والرصانة المعرفية، والموضوعية العلمية، والمعيارية الأخلاقية . لم يترك لوعيه الانسياق خلف حالات الرضا بحصيلته العلمية والاقتناع برصيده المعرفي والاكتفاء بمخزونه الثقافي، بحيث يركن الى التقوقع داخل شرانق تصوراته الذاتية والتمترس خلف سواتر انطباعاته الشخصية، وإنما شرع بالنهل من معين كل ما أنتجه الفكر الإنساني من علوم ومعارف حداثية وما بعد حداثية، والتسلح بكل ما أبدعه هذا الفكر من منهجيات تحليلية وتفكيكية وتأويلية، لسبر أغوار اللاوعي والكشف عما يضمره في قعر المسكوت عنه والممنوع القول فيه من جانب، وإماطة اللثام عما تخفيه السيكولوجيا في أعماق المحرم دينيا" والمؤثم اجتماعيا"من جانب ثان .

وإذا ما وضعنا هذه المعطيات وتلك المؤشرات في إطار ما يعانيه الواقع الاجتماعي من تخلف في البنى الفكرية والأنساق الثقافية والأطر الحضارية، حينذاك سنكتشف أي نمط من أنماط المشاريع التنويرية التي عقد الأستاذ (الغرباوي) العزم على وضع أسسه وإقامة أركانه وإشادة معماره، بحيث لا يكون فقط مختلف نوعيا"عن جمهرة المشاريع الفكرية القائمة هنا أو هناك تحت مختلف العناوين والمسميات فحسب، وإنما يمتاز بفضائل الجرأة في طرح التساؤلات، والجذرية في نقد المسلمات، والإبتكارية في صياغة الطروحات أيضا". وهو الأمر الذي جنبه الوقوع في مصائد الاختزالية في معالجة الإشكاليات، والتقليدية في تصور العلاقات، والاستاتيكية في تأمل السيرورات، لاسيما وان متاهات حقول الموروث الديني المؤسطر والسرد التاريخي المؤمثل في المجتمعات المتشظية الى ملل ونحل، والمتذررة الى طوائف ومذاهب، والمبعثرة الى قبائل وعشائر من التشابك والتعقيد، بحيث تحتاج الى باحث يمتلك قدرات فكرية هائلة وامتيازات منهجية متعددة . تتيح له ليس فقط إمكانية الولوج الى فضاءات تلك الحقول الملغومة بالصعوبات والمفاجئات فحسب، بل وكذلك اجتثاث كل ما علق فيها من زؤان الأساطير والخرافات . ليس بالاعتماد على أساليب الاختلاق والتلفيق التي غالبا"ما يعمد الى ممارستها أولئك المهوسيين بالأصول المندرسة والمفتونين بالأرومات البائدة، وإنما عبر محاولات أنسنة (الوعي الديني) من جهة، وعقلنة (الوعي التاريخي) من جهة أخرى .

وتلك مهمة – كما تبين لنا - لا يستطيع الخوض في أتونها والنهوض بأعبائها سوى تلك الثلة من المفكرين المبدعين، الذين أوتوا نصيبا "من فضائل العلم والحكمة ما مكنهن من أن يستحيوا الى نجوما" لامعة في سماء الثقافة والمعرفة الإنسانية، وهو ما أصبح عليه المفكر (الغرباوي) عبر مشروعة التنويري – النهضوي الذي لم يبرح يطرح ثماره اليانعة في أكثر من مجال وعلى أكثر من صعيد .  

***

ثامر عباس – كاتب وباحث عراقي    

.............................

* مشاركة (59) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

فلسفة الحوار النقدى ظاهرة فى مدارات الأستاذ ماجد الغرباوي، المفكر العراقى ورئيس تحرير صحيفة المثقف، سدنى أستراليا، والباحث المتخصص فى الدراسات الإسلامية، تدور أغلبها حول تنقية العقائد ممّا لحقها من جوانب الأسطرة واللامعقول الديني.

يصدق على الغرباوى ما عساه يصدق على كل مفكر مجدد مصلح يؤمن بقيمة الإنسان من حيث هو إنسان. وقيمته هى الإيمان بالعقل كونه مرجعية تقوم عليها حياة التفكير.

والتفكير فريضة إسلامية كما كان العقاد طيّب الله ثراه يقول. وتجربة المفكر عموماً على طريق الحياة هى تجربته على طريق الفكر كما يقول الفيلسوف الألمانى هيدجر.

فليس من فصلٍ بين الفكر والحياة. وليس المفكر بمعزول عن شئون الحياة : إصلاحها وترقيها ونقد كل ما من شأنه أن يسلبها عن الإنسان أو يسلب الإنسانيّة عنها بوجه من الوجوه.

يلزم عن فريضة التفكير نقد كل السلبيات التى تعوق الإنسان فى طريق تقدّمه الحضارى بما فيها عقائده الملوثة بالخرافة والتعطيل، أو المنحرفة عن جادة الاستقامة.

وليس بالإمكان أن تستقيم تجربة الفكر والحياة بغير النقد، والنقد مؤسس للتفكير العقلاني، بغيره لا يستقيم فكر ولا فلسفة ولا يتميز إنتاج معرفى عن إنتاج آخر، وهو الابن الشرعى للعقل المُفكر، ونتيجته المباشرة هى الإصلاح، معرفيّاً وحياتياً، ومقاومة التخلف الفكرى والتلوث المعرفى الذى يلحق العقائد كما يسلب الضمائر حيوتها واستقامتها.

وممّا قرأته من كتابات الغرباوى فى مجالات الدين والعقيدة والإصلاح والأخلاق والتفكير النقدى والتوجّه العقلاني، يجعلنى أشهد بتأسيس فكره على الإخلاص، حتى إذا تأسس التفكير على الإخلاص أسفر عن روابط حيوية تعكس العلاقة الوثيقة بين الفكر والحياة : باحث مختص بالدراسات الإسلامية، عميق النظرة الفاحصة المتأنية فى أغوارها الدفينة، معنيٌ بالتراث الدينى والعقدى والفقهي، يرصد تداعيات العقائد، نشأةً وتطوراً، وما تتركه من آثار  سلبية على سلوك الإنسان ومشاعر الفرد والمجتمع، وهو مع ذلك يؤمن بأن الناس أحرار فيما يعتقدون، وهو يحترم عقائدهم، وحين يكون الإيمان بالعقل أمراً من أوامر الخالق يمتنع على المخلوق أن يقلد مخلوقاً مثله أو يسلِّم له تفكيره بغير تمحيص، كائناً من كان هذا المخلوق، فليس من حق أحد أن يفرض عقيدته على أحد إذا كان من حق الباحث عن الحقيقة، الشاعر بالمسئولية تجاه دينه وشعبه ووطنه أن يكون ميزان الاعتدال عقلاُ مفكراً قائماً على الوعى والتفكير من جهة ثم على حجية النصوص الدينية من جهة ثانية، قطعية الثبوت قطعية الدلالة.

تلك كانت مرجعية الغرباوى الذى جعل مسئوليته كمثقف هى انتشال الوعى من الرثاثة والخمول والعودة به إلى أفق العقلانية والتعامل مع الأشياء بواقعية ومنطق سليم.

وبما أن طرح السؤال الفلسفى أبلغ من محاولة الإجابة عنه، وجدنا الغرباوي، كما يقول هو عن نفسه، كائناً مسكوناً بالأسئلة منذ أن وعى مسؤوليته ودوره فى الحياة.

يبلغ الحوار الفلسفى الذى اصطنعه أفلاطون فى محاوراته قمته بمنهج الجدل، إذ كانت فلسفة الحوار هى لب لباب علم الجدل، وهو نقل اللفظ من معنى المناقشة المموهة كما جاءت على يد السوفسطائيين إلى معنى المناقشة المخلصة التى تولد العلم.

فالجدل على هذا علم. والحوار الفلسفى وسيلة لبلوغه. ولم تكن المناقشة التى أستنها الحوار الفلسفى الذى ابتدعه أفلاطون سوى مناقشة بين اثنين أو أكثر أو مناقشة النفس لنفسها. وقد عرّف الجدل (الحوار الفلسفي) بأنه المنهج الذى به يرتفع العقل من المحسوس إلى المعقول دون أن يستخدم شيئاً حسيّاً، بل بالانتقال من معانٍ إلى معانٍ بواسطة معان، وحدَّ الجدل بأنه العلم الكلى بالمبادئ والأمور الدائمة يصل إليه العقل بعد العلوم الجزئية ثم ينزل منه إلى هذه العلوم يربطها بمبادئها، وإلى المحسوسات يفسّرها، فالجدل منهج وعلم فى نفس الوقت، يجتاز جميع مراتب الوجود من أسفل إلى أعلى وبالعكس.

ومن حيث هو علم فهو يقابل ما نسميه الآن نظرية المعرفة بمعنى أوسع يشمل المنطق والميتافيزيقا جميعاً.

وإنما ذكرنا الجدل لأنه منهج وعلم لدى أفلاطون. وهو على نوعين: جدل صاعد يصعد بالمعرفة من المحسوس إلى المعقول. وجدل نازل ينزل بالمعرفة من المعقول إلى المحسوس؛ وهما منهج أفلاطون فى نظرية المعرفة. غير أن هناك علاقة وطيدة بين الجدل الصاعد والأخلاق. فقد سلك أفلاطون طريق الجدل لإقامة الأخلاق ولمحاربة جهل السوفسطائيين؛ فإنّ للإرادة وهى قوام الأخلاق جدلها كما أن للعقل جدله. طريقان متوازيان يقطعان نفس المراحل؛ ويتقابلان عند نفس الغاية فى اللانهاية.

غاية تتلاشى دونها الغايات وتسقط الاعتراضات، وتستقر عندها النفس فى غبطة ليس بعدها غبطة.   

وليس بعجيب أن يختار الغرباوى فى مداراته العقائديّة فلسفة الحوار النقدي، ويحذر بهذا المنهج من تزييف الوعي، ومكائد سلطة رجال الدين وتوظيف الدين لمكاسب سياسية وأخرى شخصية أو أيديولوجية؛ غير أنه يدعو إلى إعادة فهم الدين وفقاً لضرورات الزمان والمكان ومتطلبات العصر والمجتمع والإنسان.

(وللحديث بقيّة)

***

د. مجدي إبراهيم - أستاذ فلسفة

 

لمؤلفه المفكر العربي المُعاصر: ماجد الغرباوي.

لا أحد يستطيع إنكار حجم تعاطف الجماهير المسلمة مع ظهور بعض الحركات الإسلامية في الآونة الأخيرة خاصة بعد ثورات الربيع العربي، ووصولها للسطلة بديلًا عن الأنظمة السابقة، أملًا في تحقيق العدالة والحرية والمساواة. ولا ريب أن الحديث عن محاولة نقد تلك الحركات الإسلامية في المُجتمعات العربية، ومحاولة الكشف عن غياب الوعي لديها، يُعد من أهم الموضوعات الجريئة والشائكة التي لن تنال قبولًا لدى العديد من الجماهير، خاصة ونحن نعيش في مُجتمعات عربية مُتدينة بطبعها، لا تزال غير مُعتادة على ممارسة النقد بعد.

هذا ما تحدث عنه المُفكر العراقي التنويري ماجد الغرباوي (1954م – 1374هـ) في كتابه "الحركات الإسلامية: قراءة نقدية في تجليات الوعي"، الذي صدرت طبعته الأولى عن مُؤسسة المُثقف العربي، عام (2015م_ 1436هـ)، هو من أهم الكتب في الفكر العربي المُعاصر التي تناولت بالبحث والتحليل نقد الحركات الإسلامية. خاصة الحركات المُتطرفة التي لجأت للعنف والإرهاب. وتقديم قراءة نقدية لتجليات وعي تلك الحركات الإسلامية. فالنقد ضرورة لفهم: حقيقتهم، طرق تفكيرهم، استراتيجياتهم، رؤيتهم للآخر، مصداقيتهم، موقفهم من العنف والإرهاب، هدفهم من السُّلطة، وأسئلة أخرى كثيرة.3978 الحركات الاسلامية ماجد الغرباوي

لذا يؤكد ماجد الغرباوي على أهمية النقد وضرورة استمرارية ممارسته، فلا مُقدّس ومُتعالٍ على النقد مادام فكرًا بشريًا واجتهادات شخصية، قابلة للمُراجعة والنقد، فنجده يقول:" وما الهالة القدسية سوى أوهامنا، وأوهام التبجيل، أوهام الانحياز المُطلق بالضد من الآخر وإن كان داخليًا. لقد كلفتنا القداسة مُستقبلنا، حيث حرمنا أنفسنا من النقد، فتراكمت أخطاؤنا، وآن الأوان لمراجعة حقيقية من أجل بناء قاعدة فكرية – عقيدية خالية من الأوهام والتطرف والأكاذيب(2)".

هكذا يتخذ ماجد الغرباوي النقد الإيجابي البناء _ وليس النقد السلبي الإقصائي_ هدفًا لتقييم وتقويم سلوك الحركات الإسلامية، فهو لم يرفض الحركات الإسلامية ولم يعترض عليها أو يدعو لإقصائها من المجتمع والقضاء عليها. بل يعترف بوجودها وبدورها الإيجابي في إيقاظ الوعي، قبل دخولها المرحلة السياسية، مُؤكدًا على أنها قد لعبت دورًا كبيرًا في إيقاظ الوعي، ونبهت إلى مخاطر التخلف، وممالأة الظالمين من الحكام والمُستبدين، كما كان لها دور فاعل في مواجهة الاستعمار والاستبدادين الديني والسياسي، والتحريض ضد الحكومات الجائرة، انطلاقًا من مسؤولياتها الدينية(3).

وكأن ماجد الغرباوي يُقدم لنا موقفًا رائعًا لفكرة الحوار والتسامح مع الآخر، حتى وإن كانت لديه أفكار مُخالفة لك أو مُتطرفة، فلم يدعونا نحو التعصب ورفض الحركات الإسلامية المُتطرفة أو إقصائهم من الحياة السياسية لإخفاقهم وغياب الوعي لديهم. بل على العكس من ذلك يقوم بنقدهم نقدًا علميًا موضوعيًا بعيدًا عن الأهواء والأيديلوجيات، لكي يتجاوزوا أخطاءهم ويعودوا للحياة السياسية من جديد، بعقل جديد، وبمنهج جديد، وسلوك جديد، وبناء جديد، وأفكار ومُعتقدات جديدة تعمل على خدمة المُجتمع والأمة الإسلامية. بروح تسودها قيم التسامح وقبول الآخر، بدلًا من دعوة بعض الحركات الإسلامية المُتطرفة للتناحر والصراع والتنابذ والإقصاء والتعصب.

يدعو ماجد الغرباوي نحو وضع استراتيجية نقدية لتقويم منظومتهم الفكرية وسلوكهم وأدائهم، خاصة وهم يمارسون السُّلطة باسم الدين والإسلام، ويوظفون شعاراتهم لمصالحهم الشخصية والحزبية، فانعكس ذلك سلبًا على جميع الإسلاميين بل على الإسلام ذاته. إضافة إلى صراعهم على السُّلطة، وتنابذهم، وتمزقهم، حد الاقتتال(4).

لذلك أصبح النقد هنا لدى ماجد الغرباوي ضرورة مُلحة لانتشال الوعي، وتصحيح مساراته، للفصل بين قيم السماء وسلوك هؤلاء الإسلاميين، لعلنا نساهم في الحد من تداعيات السلوك السلبي، وتوعية الناس بحقيقة ما يجري، سواء من قبل إسلاميي السُّلطة، أو من قبل الجهاديين ممن يمارس العنف والإرهاب. خاصة والثاني بات يُشكل خطرًا كبيرًا على الإسلام، وتحديًا واسعًا للسلم بقدرته على استقطاب الشباب، رغم حجم ما ترتكبه الجماعات الإسلامية المُتطرفة من جرائم وأهوال(5).

يتكون كتاب "الحركات الإسلامية: قراءة نقدية في تجليات الوعي" من (160صفحة)، مقسمة إلى أربعة فصول تسبقها توطئة:

 في الفصل الأول المعنون بـــ:" إشكالية الوعي الحركي"، يحاول ماجد الغرباوي الكشف عن أهم أخطاء الحركات الإسلامية والتي من أهمها: أنها أحاطت منظومتها الفكرية والعقيدية والتنظيمية بسور قدسي حرّم النّقد والمراجعة، بل أن بعض الحركات لم ينشر شيئًا من أفكارها ونظرياتها، وآثرت السرية حتى في مجال العمل الفكري والتثقيفي، مخافة أن يطالهما النقّد أو يقظة الوعي. لذا تراجع الوعي، وأصابته تشوهات عمّقت التخلف، وولدت حالات جديدة من الإرباك والانطواء على الذات، بعد معاداة الآخر ورفض أجندته، والانكفاء إلى الماضي وتقديس قيمه(6).

لذلك يأتي التساؤل إلى ماذا تحتاج الحركات الإسلامية من وجهة نظر ماجد الغرباوي؟، فنجده يؤكد على أنها بحاجة إلى تجديد خطابها الفكري والسياسي، وإعادة النظر في متبنياتها الأيديولوجية، وطموحاتها السياسية، إضافة إلى منهج جديد في قراءة الدين والتراث والعصر، ووضع استراتيجية مُعلنة تكون أساسًا لتعاملاتها مع الأطراف الأخرى. استراتيجية خالية من العنف والتعصب، وترتكز إلى التسامح والعفو والرحمة. ويجب عليها ممارسة النّقد بصورة شاملة، وإجراء مُراجعة عنيفة ومُستمرة لمُتبنياتها الفكرية والعقيدية(7).

وفي الفصل الثاني والمعنون بــــــ:"شرعية النقد"، يؤكد ماجد الغرباوي في هذا الفصل على ضرورة ممارسة النقد، وإن مسؤولية نقد الحركات الإسلامية مسؤولية جميع الأمة الإسلامية لتشكيل أجواء ضغط تحاصر مكامن الوعي وتعيد تشكيله حتى لا تتحوّل تلك الحركات إلى عبء ثقيل على الإسلام والمسلمين(8).

وفي الفصل الثالث والمعنون بـــــ:"مواقف وسلوك"، يُبدع المفكر التنويري ماجد الغرباوي في الحديث عن موقف الحركات الإسلامية تجاه المرأة، فمازالت تلك الحركات الإسلامية تراهن على النظرية الإسلامية في تأمين حقوق المرأة وحمايتها من مخالب الحضارة العاتية. وتبشر بعهد جديد في ظل الحكومات الدينية. ولم تتوانَ الجهود الفكرية والثقافية المكرّسة لبيان حقوقها، في توظيف النص الديني لدعم نظرياتها حول المرأة، إثباتًا أو نفيًا(9).

وأما الفصل الرابع والمعنون بـــــــ:" الحركات الإسلامية العراقية"، يوضح ماجد الغرباوي أن ثمة أخطاء قاتلة ينبغي للحركة الإسلامية العراقية وهي تخوض مرحلة السُّلطة الانتباه لها، وإلا فالوضع ينذر بإخفاقها، وفقدان مصداقيتها. ومن أهم تلك الأخطاء أن أفراد الحركة الإسلامية في العراق مازالوا يمارسون السياسة بعقل مرحلة التأسيس، أو بدايات مرحلة الدعوة، حينما يحلق العاملون إبان جلسات التنظيم السرية في عالم مثالي، مجرد من إسقاطات الواقع. مُؤكدًا على أن لكل مرحلة ضروراتها، ومفاهيمها، ومصاديقها، ورجالها، وحساباتها، وما يصلح للمرحلة السرية لا يصلح للمرحلة العلنية. ومن لا يعي الواقع لا يستطيع الإنسجام معه، ومن لا ينسجم معه يتحول إلى عثرة في طريق الآخرين(10).

إذن فالمطلوب من الحركات الإسلامية العراقية، من وجهة نظر ماجد الغرباوي، تطوير أدواتها في العمل الحزبي، بعد تحديث نظريتها السياسية ومتبنياتها الفكرية، لترقى إلى مستوى السُّلطة بمفهومها الجديد. فلم تعد المنظومة الفكرية والمفاهيمية السابقة لتلك الحركات ملائمة لمرحلة السُّلطة والمشاركة في الحكم. لأنها نظريات ومفاهيم نصية تُراثية، لم تلامس الواقع ولم تجرب أحكامه، حتى اتصفت بمثالية وطوباوية مفرطة، وتشبعت بأحلام ايديولوجية واسعة(11).

الخلاصة: وهكذا يتضح لنا هدف وغاية المفكر العربي ماجد الغرباوي من محاولته نقد الحركات الإسلامية وهو الكشف عن غياب الوعي لديها، سعيًا نحو إعادة تقييم سلوكها ورفض المعتقدات التي تدعو للعنف وللعمليات الإرهابية الإنتحارية باسم الدين والجهاد، ومحاولة إنقاذ الشباب وإيقاظ وعيهم وعدم إستقطابهم لتحقيق مصالح أفراد شخصية ليس لها علاقة بالدين، والدين بريء منهم.

كما لجأ مفكرنا العقلاني التنويري ماجد الغرباوي نحو الحل السلمي في محاولة القضاء على ظاهرة الجهاديين أو ظاهرة الإرهاب، والتي تُمثل خطرًا كبيرًا يُهدد المجتمعات العربية في الآونة الأخيرة. فقدم حلًا للقضاء على تلك الظاهرة من خلال محاولة تقديم نقد لمعتقدات الحركات الإسلامية المُتطرفة، والكشف عن غياب الوعي لديها، وبيان حقيقة خطابها الفكري العقائدي القائم على أساس الطاعة العمياء "منهج السمع والطاعة·"* وعدم المناقشة أو النقد. إلا أن هذا الحل ينقصه حلًا آخر يساعده في التخلص من تلك الظاهرة وهو الدور المؤسسي الرقابي. لا شك أن الحل الذي دعا له ماجد الغرباوي للقضاء على ظاهرة الإرهاب، وتأكيده على أن نقد الحركات الإسلامية المُتطرفة مسئولية الجميع وخاصة المثقفين والكّتاب أي مسئولية جميع الأمة، هو حلًا مناسبًا. إلا إننا هنا نُشير إلى دور آخر وهو دور الدولة الرقابي، فيُعُّد دور الدولة كمؤسسة رقابية دورًا هامًا في التقليل من ظاهرة "التطرف الديني".

كما أن كاتبة هذه السطور تُشيد بموقف ماجد الغرباوي نحو ضرورة التسامح مع المُتعصبين أو الدوجماطيقيين أو حتى المُتطرفين في الرأي أو الفكر أو الدين. ولا ينبغي لنا إقصاؤهم من المجتمع، بل ينبغي التسامح معهم ومحاولة فتح قنوات حوار بيننا وبينهم، ومُحاولة إحتواءهم، فهم ليسوا منبوذين من قبل المُجتمع. وفي حالة قيامهم بأي أعمال عنف أو قتل أو تعدي على الأفراد أو على المُجتمع ومُؤسسساته فلابد من وجود قانون رادع للدولة بإتخاذ كافة الإجراءات القانونية ضد مرتكبي أي أعمال عنف قد تُهدد الدولة وأفرادها. فلابد من قبولهم بإعتبارهم مُواطنين داخل الدولة، حتى وإن كانوا مُخالفين لنا في الرأي، وعدم رفضهم أو معاداتهم أو إقصائهم.

وفي النهاية ومن خلال هذا العرض الموجز لكتاب "الحركات الإسلامية: قراءة نقدية في تجليات الوعي"، والذي يُعد من أهم الكتب والموضوعات التي يجب طرحها على ساحة الفكر العربي المُعاصر في الآونة الأخيرة، لما يتناوله من موضوع غاية في الأهمية، وهو نقد الحركات الإسلامية لإيقاظ الوعي بأهمية وضرورة ممارسة النقد. كما تتمنى كاتبة هذه السطور أن يُمثل هذا الكتاب خطوة أولى نحو مشروع نقد الحركات الإسلامية وإعادة تشكيل قيمها من جديد، وإيقاظ العقول المتحجرة الجامدة فكريًا. لذلك نتمنى ألا يكون هذا الكتاب هو الكتاب الأخير في مكتبتنا العربية المُعاصرة الذي يتناول هذا الطرح الهام، أي نقد تلك الحركات الإسلامية والمطالبة بضرورة إعادة تشكيل مُعتقداتها والنظر فيها من جديد، بشكل يساعدها على تجنب أخطائها السابقة، ومحاولة مُعالجتها بعيدًا عن مفاهيم العنف والتعصب والإرهاب. بل ندعو العديد من الباحثين والمفكرين والمثقفين للعمل على نقد تلك الحركات الإسلامية وإعادة تشكيلها من جديد بشكل يساعد على نهضة المجتمع وتقدمه ونشر قيم التسامح والحوار بدلًا من قيم التناحر والعنف والإقصاء.

***

بقلم: د. زينب عبد الرحمن عبد الله حسن

مُدرس الفلسفة بكلية الآداب جامعة الفيوم. - جمهورية مصر العربية.

.............................

(2) ماجد الغرباوي:" الحركات الإسلامية: قراءة نقدية في تجليات الوعي"، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا والعارف للمطبوعات، بيروت - لبنان، ط1، 2015م، ص12، 13.

(3) المصدر السابق، ص8.

(4) المصدر السابق، ص10، 11.

(5) المصدر نفسه ص11.

(6) المصدر نفسه، ص16.

(7) المصدر نفسه، ص17، 18.

(8) المصدر السابق، ص51.

(9) المصدر السابق، ص105.

(10) المصدر السابق، ص141.

(11) المصدر السابق، ص142.

* لقد كان لمنهج "السمع والطاعة" أكبر الأثر السيء على عقول العديد من الشباب وتطرفهم وأكبر دليل على ذلك حادثة إغتيال فرج فوده، لمجرد أن أحد الشباب سمع في إحدى التجمعات الديِنية بأن فرج فوده يدعو إلى التكفير، فقام على الفور بقتله وإغتياله دون أن يقرأ حتى أيًا من مؤلفاته.

....................

* مشاركة (58) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

لا شك أن التسامح يعد مبدًأ أخلاقيًا أساسيًا وقيمة إنسانية سامية، وهو أحد أهم مبادئ تعزيز العلاقات بين أبناء المجتمع الواحد أو بين المجتمعات وبعضها البعض، كما أنه يعد أساسًا لكثير من القيم الأخلاقية مثل قبول الاختلاف، احترام الإنسان لكونه إنسانًا يجب أن يحترم لذاته، احترام حرية التعبير عن الرأي أيًا كان هذا الرأي، وإدراك أهمية تطبيق مبدأ العدالة في المجتمع، ومن هنا يأتي السؤال: بأي معنى يجب أن يتحقق التسامح؟ وهل يمكن أن يكون صفة ذاتية قاصرة على شخص بعينه؟ أم هو صفة اجتماعية يمكن أن تتجسد في مجتمع بأكمله؟ حاولت الباحثة الإجابة عن هذا السؤال في ضوء كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح (فرص التعايش بين الأديان والثقافات) هذا الكتاب الذي تم نشر الطبعة الأولى منه عام 1429ه – 2008م للمفكر القدير الأستاذ ماجد الغرباوي وذلك لما لهذا الكتاب من أهمية كبرى حيث جاء ليوضح كيف يمكن أن يتحقق التسامح، كما أبرز كذلك منابع اللاتسامح التي تعد –من وجهة نظر كاتبة هذه الأسطر- الخطر الأكبر الذي يهدد أي مجتمع متى ينتشر فيه، وهنا يأتي السؤال: ما أهمية تناول قيمة التسامح الآن؟ بمعنى أكثر دقة لماذا تم اختيار كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح كموضوع لهذه الورقة على وجه التحديد؟

عند الإجابة عن هذا السؤال نجد أنه رغم مرور سنوات طوال على نشر الطبعة الأولى من هذا الكتاب شهد عالمنا خلالها أحداثًا كثيرة من تقدم علمي وتكنولوجي، وحروب، ونزاعات، وثورات، وصراعات مختلفة، وغير ذلك من الأحداث التي تساهم بلا شك في تشكيل فكر الإنسان إلا أنه مازال يعاني من غياب ثقافة الحوار وعدم قبول الآخر المختلف وانتشار الكراهية والموت وازدراء الإنسان في كثير من الأحيان وذلك تحت مسميات دينية ومذهبية وقومية.

لا مجال لخلاف على أن الإنسان بطبعه كائن اجتماعي يسعى دائمًا لمشاركة غيره والتعايش معه وقد ظهر ذلك واضحًا منذ قيام أول مجتمع بشري على الأرض، لقد أدرك الإنسان أنه لا يستطيع أن يعيش بمفرده أو بمعزل عن غيره فلابد له من الاحتكاك بأبناء مجتمعه والتعامل معهم، ومع إدراك الإنسان أهمية ذلك الاحتكاك بغيره والتعامل مع أبناء مجتمعه أدرك أهمية تطبيق تلك القيم التي تنظم حياة أبناء المجتمع، وتحفظ لهم حقوقهم، وتضمن لهم حياة إنسانية هادئة دون ظلم أحد أفراد هذا المجتمع، ومن بين هذه القيم الأخلاقية التي تضمن للإنسان تضامنه مع غيره وتقبله للآخر سواء اتفق معه أو لم يتفق، وكذلك تضمن تكامل المجتمع وتحقيق أهدافه "قيمة التسامح" حيث أدرك الإنسان أهمية التسامح، وكونه ضرورة حياتية تبقى الحاجة لها قائمة مادامت الحياة مستمرة، وطالما أن هناك إنسانًا يمارس العنف ضد الآخر وإقصائه وتكفيره، وبرفض التعايش السلمي مع غيره المختلف معه سواء كان هذا الاختلاف فكريًا أو دينيًا أو سياسيًا أو ثقافيًا[1] كما جاء ذلك في مقدمة كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح، من هنا جاءت أهمية السؤال الذي تم طرحه في بداية هذه الورقة وهو: بأي معنى يجب أن يكون التسامح؟

لا شك أن هناك الكثير من الدراسات والمؤلفات التي أفاضت في تناول مفهوم التسامح لغة واصطلاحًا، وكذلك الحديث عن أهميته كقيمة أخلاقية عليا إذ لا سبيل لمجتمع أراد أن يعيش بسلام أن يتخلى عنه إلا أن هذا الكتاب الذي نحن بصدد الحديث عنه الآن نجده قد اتخذ طريقًا يختلف إلى حد كبير عن الطريق الذي اتخذته معظم الدراسات التي تناولت قيمة التسامح؛ وذلك لأنه حاول بيان الأسس التي يجب أن يرتكز عليها مفهوم التسامح  لتوطيد العلاقة بين الطوائف والقوميات المختلفة، أي تكريس مفهوم التسامح وفق الحاجة الاجتماعية له من حيث كونه حقًا للجميع قائم على أساس الاعتراف بالآخر واحترامه لأنه إنسان يجب أن يحترم لذاته سواء اتفق مع غيره أو اختلف مع ضمان حريته في التعبير عن رأيه وممارسة حقوقه كاملة، وعندما أدرك الإنسان خطر الحرب وانتشار التعصب والعنف والتطرف والإقصاء ونبذ الآخر المختلف في بعض المجتمعات لم يجد أمامه وسيلة للحد من هذا الدمار الذي لا محالة سينال المجتمع نتيجة غياب قيمة التسامح والعيش بسلام سوى التمسك بقيمة التسامح، إذ تعد تلك القيمة وسيلة النجاة لأي إنسان أدرك المعنى الحقيقي للإنسانية وما تتضمنه من حقوق وواجبات يجب احترامها والحرص على أدائها كما يجب أن تكون، هذا بالنسبة لأي إنسان، فماذا عن الإنسان المسلم الذي وجد التسامح جوهر دينه الإسلامي الوسطي الذي يدعو إلى احترام الإنسان لذاته واحترام إرادته وتحريم الاعتداء على كرامته، وكفل له حرية التعبير عن رأيه فما كان أمامه غير التمسك بالتسامح وبغيره من قيم العفو الرحمة والسلام كوسيلة للحد من خطر الموت والنزاع والعداء والإقصاء المنتشر في المجتمع كما أوضح لنا الأستاذ الغرباوي من خلال هذا الكتاب الذي نحن بصدد الحديث عنه الآن حيث يقول مفكرنا: "لم يبق أمام الشعوب الإسلامية خيار للحد من ثقافة الموت والاحتراب والعداء والإقصاء المتفشية في كل مكان، سوى تبني قيم التسامح والعفو والمغفرة والرحمة والأخوة والسلام لنزع فتيل التوتر وتحويل نقاط الخلاف إلى مساحة للحوار والتفاهم بدل الاقتتال والتناحر..."[2] ولكن كيف يمكن ترسيخ التسامح في المجتمع لكي يحقق أهدافه ويؤتي ثماره؟ يمكننا القول بأنه للابد للإنسان إذا أراد التمسك بقيمة التسامح أن يدرك أولًا أنه إنسان، أي أن طبيعته الإنسانية تجعله يخطئ ويصيب، وطالما أنه ليس على صواب دائم فلابد له من احترام طبيعته وكذلك احترام طبيعة الآخرين؛ ويظهر ذلك من خلال قبوله آرائهم وفي بعض الأحيان -قبوله أخطائهم- وتسامحه معهم إن لم يمتد خطر تلك الأخطاء لإيذاء إنسان آخر أو التعدي على حق من حقوقه، ومن ثم يكون علم الإنسان بكونه ليس معصومًا من الخطأ في سلوكه وأقواله يقتضي بلا شك تسامحه مع نفسه أولًا، أي قبوله لذاته وطبيعته وقبوله لغيره على ما هو عليه ومع قبوله لذاته وقبوله لغيره يسعى للتغيير للأفضل، وهذا من وجهة نظر الباحثة يمكن عده ممارسة التسامح بأسمى معانيه تطبيقيًا على أرض الواقع سواء كان ذلك على المستوى الديني أو الثقافي أو الاجتماعي أو حتى على المستوى السياسي، وهذا هو جوهر الدين الإسلامي كما أوضح لنا الكتاب، وبنظرة أكثر شمولية نجد أنه لا مجال لحياة إنسانية هادئة مطمئنة بعيدًا عما نعانيه ويعانيه عالمنا الآن من حروب وصراعات ونزاعات وإبادات جماعية لشعوب بأكملها إلا بالتسامح، إذ ليس من الإنسانية في شيء أن يحصل شعب بعينه على حقوقه كاملة، ويعيش حياة مطمئنة على حساب شعوب تفتقد أقل حقوقها وهى أن تعيش بسلام دون تهديد أو عنف أو فقد أو إقصاء أو معاناة، وبالمثل لا يمكن تحقيق التسامح إلا من خلال تضافر الخطاب الإعلامي مع الخطاب الديني والسياسي والتربوي، وذلك يتطلب تعاون الفرد مع المجتمع والشعب مع القانون والدولة مع الدستور.[3]3902 كتاب التسامح ماجد الغرباوي

أجاب الكتاب عن مجموعة من التساؤلات مثل ما معنى التسامح؟ ما المطلوب من المتسامح سواء كان فردًا أو مؤسسة أو دولة؟ وما هى الأشياء التي يمكن التسامح فيها؟ وغيرها من الأسئلة المهمة التي تفرض نفسها عند دراسة قيمة التسامح إلا أن الباحثة هنا سوف تركز اهتمامها على نقطة جوهرية ارتأت أنها في غاية الأهمية وعرضها الكتاب عرضًا وافيًا وهى كيف يمكن أن يكون الفهم الخاطئ لمفهوم التسامح سببًا لغياب قيمة التسامح؟ أي كيف يكون سوء فهم التسامح منبع اللاتسامح؟ وبأي معنى يمكن أن يكون التسامح حقيقيًا؟

يرى الأستاذ الغرباوي: أن التسامح في نظر الأوساط المتصارعة لا يعدو كونه قيمة أخلاقية تتحكم به مؤثرات اجتماعية وسياسية، وهو في رأيها منّـة وتفضل مشروط، قد ينقلب الى ضده إذا فقد رصيده الأخلاقي، وما نحتاجه فعلًا لتوطيد العلاقة بين الطوائف والقوميات مفهومًا يرتكز الى أسس متينة، تتفادى الاحتكاك على خطوط التماس، إلا أن المراد بالتسامح أنه موقف إيجابي متفهم من العقائد والأفكار، يسمح بتعايش الرؤى والاتجاهات المختلفة بعيدًا عن الاحتراب والإقصاء[4].

بهذا المعنى ارتأت الباحثة ضرورة تكريس مفهوم التسامح وفق حاجات الإنسان الاجتماعية بعيدًا عن المنـّة والتفضل والكرم، بحيث يكون التسامح حقًا لجميع الأفراد على أساس الاعتراف بالآخر وحقه في الاختلاف كيفما يشاء بشرط عدم الإضرار بغيره، وهذا يؤكد لنا أنه ثمة اختلاف جوهري بين تسامح شكلي، تفرضه دوافع السلم الأهلي أو الاجتماعي يقوم على المنّة والتفضّل، ويحمل في داخله نواة انهياره، في مقابل تسامح حقيقي، يعي صاحبه مفهوم الآخر، ويعترف به شريكًا بالحقيقة مهما كانت نسبتها، أي تسامح يسمح بتعايش مختلف الرؤى والاتجاهات بعيدًا عن الصراع والاقصاء، على أساس شرعية وجود الآخر دينيًا وسياسيًا وضمان حريته في التعبير عن آرائه ومعتقداته[5]، بهذا المعنى يكون التسامح الحقيقي ضد احتكار الحقيقة والاستئثار بالنجاة لطرف دون آخر بعيدًا عن إصدار أحكام برفض الآخر أو تكفيره لمجرد اختلافه مع من يتوهم أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، كذلك يكون التسامح وسيلة للقضاء على منابع اللاتسامح التي تتعدد تبعًا لطبيعة المجتمع ثقافيًا وفكريًا وعقيديًا، وأيضًا تبعًا لمستوى حضور الدين ومدى تمسك المجتمع بالقيم الدينية والاجتماعية، ولكن ثمة منابع تعد –في نظر مفكرنا- أكثر أهمية مما سبق وتتفق معه الباحثة في هذا الرأي من بينها المنابع التي تفضي إلى التعصب الديني والقبلي والسياسي، وما ينتج عنها وما يعمق وجودها ويركز فاعليتها من مفاهيم وقيم[6].

ومما سبق يمكننا القول بأن التسامح الذي يحتاجه عالمنا الآن وبالمعنى الذي يجب أن يكون هو التسامح الحقيقي لا الشكلي، التسامح الذي يقبل المختلف قبولًا حقيقيًا ويعترف بحقه في الاختلاف، وليس مجرد التظاهر بالتسامح الذي ينكشف زيفه وكذبه مع أول اختبار له بخلاف بين متبنيه والطرف الآخر المختلف معهم، ما نحتاجه هو تسامح تكون غايته أن يعيش العالم في سلام ووئام دون نظرة تعالي من طرف على غيره، نحتاج التسامح كصفة ذاتية وصفة اجتماعية في الآن نفسه، حيث يتبلور تسامح الإنسان كصفة ذاتية في قبوله لذاته من حيث كونها ذاتًا بشرية مهما تسامت لا يمكن أن تصل لمراتب الكمال المطلق أبدًا، ومن ثم يعد فهم الإنسان لذاته وطبيعته واعترافه بأخطائه وعثراته – لأنه إنسان يصيب ويخطئ- الخطوة الأولى لتطبيق التسامح الحقيقي مع الذات، ومحاسبتها بما يتوافق مع طبيعتها البشرية، وكذلك يكون التسامح أيضًا خطوة مهمة نحو قبول الآخر المختلف والتعامل معه تعاملًا سلميًا، إذ لا مكان ولا مجال لعنف أو تعصب بين أناس عرفوا معنى التسامح وأدركوا قيمته وطبقوه في علاقاتهم، ومن ثم يكون التسامح أيضًا المبدأ الأساسي لقبول التعدد والتنوع والاختلاف سواء بين أبناء المجتمع الواحد أو بين المجتمعات المختلفة، كما يتبلور مفهوم التسامح الحقيقي أيضًا من حيث كونه صفة اجتماعية في احترام أبناء مجتمع ما ثقافة وهوية المجتمعات الأخرى، إذ أن لكل مجتمع هوية تميزه وثقافة يرتضيها أبناؤه يجب أن تحترم.

فليس الهدف أن نتفق جميعًا على ثقافة ما أو سلوك بعينه؛ لأن هذا الاتفاق ربما يكون محالًا، وإنما يجب أن يكون الهدف هو أن نتعلم كيف نختلف، فللاختلاف أخلاقيات يأتي في مقدمتها الإيمان بأن هذا الاختلاف هو سنة كونية يجب قبولها، مما يتطلب تنمية روح التسامح واحترام التعددية بشتى صورها وترك التعصب والتشبث بالرأي الواحد جانبًا إذا ما أردنا النهوض بالمجتمع وتحقيق تقدم حقيقي، فليكن مبدأنا: لا مانع من أن نختلف كما شئنا ولكن يظل احترامنا لبعضنا البعض مرجعنا، ويظل تسامحنا متجسدًا في علاقاتنا مع بعضنا البعض، وليكن تسامحنا بالمعنى المطلوب باحترامنا لذواتنا دون رفض طبيعتها التي ربما تؤرقنا في بعض الأحيان واحترامنا لغيرنا مهما اختلف معنا، فليكن تسامحنا رحمة فيما بيننا، وليكن تسامحنا أيضًا رفضًا لكل عنف يمكن أن ينال الإنسان أيًا كان هذا الإنسان، وليتمثل تسامحنا في حب الخير لغيرنا حتى إن لم يحقق نفعًا لنا، فليكن تسامحنا في تحقيق تقدمنا دون إلحاق الضرر بغيرنا، فليتجسد تسامحنا في إيماننا بأنه لا خير في مجتمع لا يراعي القيم الإنسانية، وليكن تسامحنا تطبيقًا لا تنظيرًا فحسب.

ومن خلال هذا العرض الموجز لما تناوله كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح من تساؤلات ونقاط تعدها الباحثة في غاية الأهمية لكونها متجددة بتجدد مستجدات العصر تنصح الباحثة بقراءته وتناوله كموضوع لمزيد من الدراسات حول قيمة التسامح لكونها أساسًا لكثير من القيم التي يحتاجها عالمنا اليوم ووسيلة لحل كثير من مشكلاته.

***

بقلم: الأستاذة رانيا عاطف

باحثة دكتوراة فلسفة بكلية الآداب، جامعة المنيا، مصر

................................

[1] ماجد الغرباوي، التسامح ومنابع اللاتسامح (فرص التعايش بين الأديان والثقافات)، الحضارية للطباعة والنشر، العراق- بغداد، الطبعة الأولى: 1429ه – 2008م، ص: 11.

[2] المصدر نفسه، ص: 15.

[3] المصدر نفسه، ص: 15.

[4] المصدر نفسه، ص: 20.

[5] ماجد الغرباوي، التسامح ومنابع اللاتسامح (فرص التعايش بين الأديان والثقافات)، الحضارية للطباعة والنشر، العراق- بغداد، الطبعة الأولى: 1429ه – 2008م، ص: 23.

[6] المصدر نفسه، ص: 26.

.....................

* مشاركة (57) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

يشخص مؤشر الدراسات العلمية جملة من الظواهر في تحليل ثقافتنا وتراثنا، وقد كتبت دراسات عن عناصر الضعف في أدوات التفكير ومنهجياته، ولعل أبرزها الضعف المنهجي في التحليل لدى شريحة كبيرة من المثقفين المسلمين، أو عدم تقيدهم بالصرامة العلمية، وانغلاقهم العقلي مع إفراطهم في النزعة الذاتية واللغة التبجيلية والتشريفية، وعدم اتخاذهم لمسافة معتبرة بين الذاتي (بكل تعبئته) وبين دراستهم لموضوعات التراث الدينيّ، أو تمظهرات الظاهرة الدينيّة المعاصرة. وقد وفر بعضهم ضفيرة من الأعذار لهذا الضعف المنهجي تارة بالضغط الذي تشكله مجتمعاتهم المضطربة والخائفة والمطحونة بالحروب والمجاعات وو، وانعكاس ذلك عليهم، وتارة أخرى بخشيتهم من الوقوع ضحايا الأيديولوجيات وثقافتها التلقينية والتمثيلية التي لا تتورع عن البطش، فيبقى المثقف خائفًا على نفسه، ومصدر رزقه، ومنصبه ومكانته من التشويه. فمن اليسير- بهذه الظروف- اتهام المثقف والمفكر المسلم بأنه:" مثقف أيديولوجي لا يحترم حقوق المعرفة".

تقف في قبال كل هذه المؤشرات دراسات علمية جادة وصارمة لم تغادر التراث بالتمام وإنما نقدته وفككت طبقاته الداخلية، وأنساقه المضمرة، وفتشت في دهاليزه ومناطقه المهجورة.

وقد كانت بدايات تلك الدراسات في نهاية القرن التاسع عشر، ولا تزال مستمرة مع كل ما تعرضت له من إخفاق (بسبب أدواتها التي لم تكتمل أو بعنف الخارج) إلَّا أنها في النهاية خرجت على التاريخ وزحزحته، وهزت التوازن النفسي "لمديري شؤون التقديس"، فخرجت على المعابد وطقوسها وتوثينها، بل انبثقت من موت التراث وأسمائه وقوانينه ومحدداته، ففجرته من الداخل بحدوسات معرفية ساطعة، لم تنحنِ أمام الإغراءات أو الجري وراء الأضواء.117 majed algharbawi600

فقدمت الساحة الدينية رموزًا للتنوير، استحال ترويضها، وكان من نصيب العراق جملة من العلماء المغامرين (ممن امتلك تكوينًا حديثًا وجادًا وخصبًا) انخرطوا في تقويض القراءة المتشنجة والمتكلسة للنصوص الدينية، وما تفضي إليه من أوهام وتشوهات في رؤية الحياة، وكان على رأسهم الدكتور علي الوردي بوصفه أول مثقف ديني نقدي حلل الحياة الاجتماعية وآثار التدين ومنابعه فيها، إلا أنه وبعد هيمنة حزب البعث على السلطة وبطشه وإفقاره للحياة بكل وجودها، اضطرت نخبة من أبناء البلد للخروج في المنفى والغياب لسنوات غير قليلة، فأتاح لهم المهجر (بما قدمه من ضمان في التعليم والحريات والتعبير والكتابة) الاطلاع على آخر المنجزات العلمية ومناهج المعرفة، فأنجزوا دراسات عميقة فتحت ملفات وأضابير مغلقة من دون التخلي عن الذاكرة الملهمة والنافعة من تراثها الديني، ولعل أبرزهم في المعرفة الدينية: طه جابر العلواني، وهادي العلوي، ويحيى محمد، وعبد الجبار الرفاعي، وفالح عبد الجبار، ورشيد خيون، وصائب عبد الحميد، وغالب الشابندر، وغيرهم الكثير، ومنهم المفكر العراقي المرموق ماجد الغرباوي.

وقد كان بودي منذ أكثر من سنتين أن أقف بدراسة مستقلة على اشتغالاته وأدواته في الحفر والتنقيب والتحقيق للتراث الديني، وتأملاته ونقده وتجديده، فهو جدير بالاستقصاء وجدير بالتأمل وجدير بالنقد أيضًا إِلَّا أن بعض الظروف حالات دون ذلك.

في هذه المقالة- بوصفها ومضات- أحاول تلمس بعض اشتغالاته، وهي جملة من التساؤلات الحرجة والمزحزحة لعقل لا يقبل الانفصال عما تلقاه من مدارس ومذاهب وقراءات لبت طموحات عصرها، وأضحت تصطدم مع الواقع اضطرادًا لعجزها عن استيعاب مفارقات اليوم، مع ادعائها النرجسي في القدرة على المجاراة من دون برهان.

ولو أردنا تلمس مشروع المفكر ماجد الغرباوي المعرفي وإسهاماته، ووصف أعماله وتقييمها وموقعها من تضاريس التجديد الديني لا بد لنا من تحديد مجاله الخاص وقدرته العقلية على الاكتشاف ومحدداتها. ولا بأس من الاستعانة بمستويات التفكير والتأصيل في عملية الإنتاج العلمي، التي أشار إليها محمد أركون، وهذه المستويات مرتبطة بالوضع اللغوي والمدني والاجتماعي الذي ينشأ فيه الإنسان ويتقيد به العقل في جميع نشاطاته وممارساته، وهذه المستويات هي1:

المستوى الأول: مستوى ما يمكن التفكير فيه:

وهو مستوى متعلق بتمكّن المفكر الديني من اللغة التي يستعملها، وبالإمكانيات الخاصة بكل لغة من اللغات البشرية التي اختارها المفكر. كما أنه متعلق أيضًا بما يسمح به الفكر والتصورات والعقائد والنظم الخاصة بالجماعة التي ينتمي إليها أو يخاطبها، وبالفترة التاريخية من فترات تطور تلك الجماعة. ثم إنه يتعلق كذلك بما تسمح به السلطة القائمة في المجتمع أو الأمة اللذين يتضامن معهما المفكر.

وهذا المستوى متاح للجميع تقريبًا من دون محذور أو تكلفة قد يدفعها نتيجة الخروج عليه.

المستوى الثاني: ما لا يمكن التفكير:

فيه بسبب مانع يعود إلى محدودية العقل ذاته أو انغلاقه في طور معين من أطوار المعرفة. ومثال ذلك، هو عدم إمكانية أي فيلسوف أو فقيه أو مفسر طيلة العصور الوسطى وحتى فجر الحداثة أن يفكر في المواطنية بالمعنى الذي نعرفه حاليًا كفضاء يتساوى فيه جميع المواطنين بغض النظر عن قناعاتهم ومللهم.

وهذا المستوى يعود أيضًا إلى ما تمنعه السلطة الدينيّة أو السياسية أو الرأي العام، إذا ما أجمع على عقائد وقيم قدَّسها وجعلها أساسًا مؤسَّسسًا لكينونته ومصيره وأصالته.

المستوى الثالث: المستحيل التفكير فيه:

إذا استمر الفكر زمنًا طويلًا وهو يكتفي بترديد ما تسمح اللغة والنصوص العقائدية والرامزات الثقافية وإجماع الأمة ومصالح الدولة بالتفكير فيه، فإنه يتضخم ويثقل ويتراكم.

"وكثيرة هي الأفكار التي أنتجتها عقول بشرية، ولكنها تحولت بفضل التكرار والترديد، الذي من شأنه أن يخفي غيرها من الأفكار، ولو بالتشويه، إلى "عقائد" لا يمكن المساس بها2".

هنا يرد التساؤل إلى أي مستوى ينتمي ماجد الغرباوي في تحليله الاكتشافي وحفره المستنطق لتجربة الإسلام الدينية وتاريخها ومقولاتها وإلهاماتها وحتى إكراهاتها وصراعاتها؟

بكل وضوح ستجد الغرباوي مفكرًا تتسع رؤيته لعبور التراث، وإعادة قراءة مضامين الأدلة فيه من دون توقف أمام ركام القراءات والتفاسير وهيبتها وأسمائها، مع إيمانه بضرورة الحفاظ على الشحنات الإيمانية للإنسان ودراستها والعناية بها بوصفها مخيالًا له أدواره الحاسمة، وحتى لاهوت المحبة أو الشفقة، وقيمه الجمالية يحظى بالدعوة لاستعادته، لأنه البديل الملهم والمغذي للتنوع في قبال ضيق المجتمعات بعقائدها وطقوسها.

يدور مشروع ماجد الغرباوي حول النص، محاولًا وضعه في سياقه الأصلي من جديد، مبتعدًا كل البعد عن الدغمائية أو الازدراء، فيستخدم ما تيسر له من الأدوات الانثربولوجيا والتاريخية والاجتماعية وحتى الألسُنية. مع ولعه في الاشتغال على التأليف والكتابة في الشحيح والنادر والمسكوت عنه من المعارف والفنون في التراث الديني، وهذا ما تلمح إليه كتاباته، التي يتصدرها عنوان موسوعته" متاهات الحقيقة" وهي عبارة تكشف لك عن مسار التفكير وعمقه وكثافته ومحاذيره.

وللباحث أن يلاحظ ذلك بدراسة الغرباوي المتقدمة في آخر كتاباته" مقتضيات الحكمة في التشريع، نحو منهج جديد لتشريع الأحكام"، الصادر في هذا العام (2024م)، إذ يهدف فيه في الأصل إلى إعادة تصميم الهندسة الفقهية من جديد، من خلال رفضه للرقابة والوصاية غير المبرهن عليها، سواء كانت وصاية النص، أو التراث، أو بداهات العقل التعبدي. كاشفًا لثغرات وعيوب ليست بالقليلة في عملية الاستنباط، ولعل أهمها تجاهل النظام التشريعي الذي تمت صياغته بأيدي السلف، وتحييد القيم الأخلاقية والإنسانية، إذ تمت بلورة العديد من الأحكام الشرعية من قبل الفقهاء، وهي تصطدم مع الأخلاق وتفرّط في رمزيتها وحضورها، والأغرب في نظر الغرباوي أن الفقهاء رسموا الحياة من خلال مدوناتهم التي تجاهلت مرجعيات أخرى لفهم الدين التي يمكن الإفادة منها، وهي دعوة تفتح النص على مفاهيم أوسع وأعمق مما تصوره علماء السلف، ليشمل مجالات الحياة كافة بتجاربها ومضامينها. ليقترب بذلك من دعوة حسن حنفي في الانتقال من (السماء إلى الأرض، أو من الله إلى الإنسان، ومن الآخرة إلى الدنيا) مع ابتعاده عن أدلجة الدين التي تختزله في تفسير ضيق. ليعتمد الغرباوي هنا على معنى جديد لمفهوم قداسة النص بمجالات تُعيد رسم خارطة تأثيره في الحياة الأخلاقية والجمالية والروحية للإنسان، ويتطلب هذا العدول بهيكل التشريع من "الفقه إلى الأخلاق، ومن التعبد إلى التعقل، والانتقال من ضيق الفقه وسجون النص إلى رحاب القيم الأخلاقية، وفق مقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع (العدل، وعدم الظلم، والسعة، والرحمة، والمساواة)"3.

إن هذا الكتاب يناقش سلسلة الدلالات المنتجة للتشريع- توسعةً أو تضييقًا- ويعيد اختبار قدرتها على الوفاء بوعودها وعهودها في المعالجة والتدبير، فينفتح على الدلالة الحرفية للنص، ويرصد عوامل التوسع والانكماش أو التعارض مع العقل هنا أو هناك. وقد سجل ملاحظاته النقدية الصارمة على غياب الواقع ودلالاته عند الجميع- تقريبًا- فالفقهاء لاعتبارات مختلفة لا يثقون بقرينة الواقع في تقييد الإطلاق وظهوره الذي يعتمد على "قرينة الحكمة"، إذ يرى أن الاندماج وتركيز التفكير في النصوص وجزئياتها تولدت منه حالة من القطيعة مع الواقع ومعطياته، وعن العقل وما يقدمه من نتائج مهمة في تصويب الأفكار وإنضاجها، وتفسير مختلف الظواهر، والبرهنة عليها.

إن دراسات المفكر العراقي ماجد الغرباوي في المعرفة الدينية جديرة بالتتبع للباحثين، ولا سيَّما طلبة الماجستير والدكتوراه، لتحليلها بشكل توصيفي يلاحق أدوات التفكير لديه ومقوماتها وخلفياتها وأهميتها، ومعرفة بواعث القبول لبعضها والرفض للبعض الآخر، فلا تقل في أهميتها عن دراسات محمد أركون أو عبد الله العروي، مع أن لكل منها مجاله، ولكني أتكلم هنا من حيث دراساته وقدرتها في تقديم الجديد من الثراء، واعتمادها العقل النقدي الشغوف بالحقيقة والفهم المتجديد.

***

أ. م. د. حيدر شوكان سعيد

رئيس قسم الفقه وأصوله/ كلية العلوم الإسلامية- جامعة بابل.

.......................

1- ينظر: الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ترجمة: هاشم صالح، الناشر: دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى- 1999م، 9- 10.

2- نصر حامد أبو زيد، الخطاب والتأويل، الناشر: مؤسسة مؤمنون بلا حدود، الرباط، الطبعة الأولى- 2017م، 19.

3- ماجد الغرباوي، مقتضيات الحكمة في التشريع، إصدار مؤسسة المثقف العربي- سيدني- استراليا، الطبعة الأولى- 2024م، 8/ 9.

............................... 

* مشاركة (56) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

ضمن حفريات واجتهادات المفكر والباحث الاستاذ ماجد الغرباوي صدر كتاب (مقتضيات الحكمة في التشريع.. نحو منهج جديد لتشريع الاحكام).. عن مؤسسة المثقف - دار امل الجديدة / سوريا.2024م.. وهي ضمن بحوثه الحرة اسماها " متاهات الحقيقة" ينقب في ركائز الثوابت في التفكير والمعتقدات.

وقد نوه الباحث الى ان مشاريع التجديد تهدف الى رقي الفقه نحو مستوى الواقع، ويسعى لارتقاء الاسئلة الفقهية الى مستوى التطورالحضاري والمعرفي.. كلما تطور المجتمع علميا كلما كان بحاجة الى اجابة تتناسب مع حجم هذا التطور لمسايرة تعاملاته اليومية، خاصة المادية منها التي ارتقى التطور بها الى الحد الذي وجب ايجاد وسائل تعامل جديدة باتت تشكل تداولا يوميا ونمطا مسايرا لوجود الانسان، فلا بد من وجود " منهجا جديدا لملء الفراغ التشريعي" خاصة مايتعلق بالتعاملات المالية في البنوك والمصارف وزراعة الاعضاء البشرية او التبرع بها او الذكاء الصناعي وتطور الجينات وغيرها.

كما هو معلوم ان الفقه ظهر لسد الفراغ الموجود بعد الرسول الكريم، بظهور المذاهب الفقهية التي اعتمدت الخلاف في التفسير منهجا مستقلا لكل معتقد، وهو سد فراغ لتجدد حالات بتجدد الظروف الاجتماعية والعلمية التي تستوجب تاسيس ميزان فقهي لكفتي الحلال والحرام.. التطور متسارع والموقف الاخلاقي والعقائدي يبحث عن الطمأنينة في التطبيق، لابد من ارتقاء الفكر الفقهي الى مستوى هذا التطور؛ وهو شغل الباحث الغرباوي في هذا الكتاب.. الذي شغله  اختلاف الفقهاء هو " قيمة العقل وما هي حدوده وهل هو مصدر من مصادر التشريع ام لا ؟" الغرباوي يبحث عن العقل الحر غير المكبل باطرافكار رجال الدين الجاهزة التي لا تواكب التطورات التي اشرنا اليها..يقول الباحث" ينبغي اعادة النظر بالفقه ودوره التشريعي،فليست ثمة قداسة لاي منجز بشري،وليس سوى (منهج مقتضيات الحكمة في التشريع) الذي نقترحه،منهجا صالحا لملء الفراغ التشريعي". هو باتجاه التوسع في الاستنباط او القياس مجاراة للتطور. وهي من تطبيقات الكتاب او السنة.117 majed algharbawi600

ان التفقه ليس حصرا على احد، ولم تمنح الخصوصية الى علماء او اشخاص بعينهم، وهو ليس ترفا او استخفافا،انه علم من علوم الحديث والكلام والمعتقد يهدف الى التطبيق الصحيح للكتاب والسنة المطهرة، ومثلما كان مجتمعا منغلقا محددا متشابها لاخلاف في التطبيقات انذاك لوضوح الافعال والاسباب...فان التطور المذهل بشريا وعلميا ينبغي ان يسايره بذات القوة فقه يرتقي بالمألوف الى مستوى المستجد.وهذا الكتاب هو امتداد فكري لما سبقه من اصدارات متعددة للباحث في حرية الفكر والمعتقد وتحريك الثابت منها لمسايرة العصر ومنجزاته.

تناول في الفصل الاول منه " اشكاليات التعارض بين الشريعة والاخلاق " وهذا من الفصول المهمة لما تحدثه الاحكام المتطرفة في خلق فقه عدواني يهدف الى تدمير الانسان وتحطيمه خاصة احكام الجهاد والرق والمراة والحدود والقصاص وغيرها من المنظومات الاخلاقية  والسلوكية والعملية التي لها صلة بمنهج استنباط الاحكام الشرعية.

وحسب مااشار اليه الباحث ان البحث يهدف الى " تحري حقيقة التعارض بين الشريعة والاخلاق" وكذلك  الى نقد مرجعيات التفكير الديني. والى تحري الوعي من تراكمات التراث والعقل التراثي في فهم النص. وكذلك يهدف الى تاسيس منهج جديد لملء الفراغ التشريعي.

وتناول في الفصل الثاني " فرضية مقتضيات الحكمة في التشريع" او ما أسماها بـ "عقلنة التشريع " يتحرى فيه " صدقية التعارض بين الاحكام والاخلاق" الذي ياخذ بنظر الاعتبار "محورية الانسان ومصالحه".

وهو يطرح فرضية مفادها " ليست الاحكام في الشرائع السماوية معطى نهائيا،بل ان تشريعها يجري وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع في افق الواقع وضروراته "

ومنطلقات فرضية الحكمة في راي الباحث هي: "انتفاء البعد الميتافيزيقي للاحكام..وكذلك لاتحول قداسة النص /الحكم الشرعي دون مقاربته وفهمه،مادام مفهوم القداسة يتعدد بتعدد زوايا النظر.وكذلك تفاوت مستوى الالزام في الاحكام الشرعية بين الوجوب والاستحباب او بين الحرمة والكراهية مثلا ليست مسالة تعبدية،بل محكومة لمبادئ وقيم تحدد مستواه."

وفي الفصل الثالث تناول" الفراغ التشريعي ومتطلبات الواقع" والذي يقصد به" كل حكم لم يرد فيه نص صريح في مقامه،او تلك المساحة التشريعية التي ترك الاسلام ملأها للدولة او أولي الأمر في اطار اهداف الشريعة".

بينما في الفصل الرابع تناول "الاسس الاخلاقية للتشريع" التي تبحث في مركزية العدل وعدم الظلم باعتبارهما قيمة اخلاقية.والسعة والرحمة..وهي الانتقال من العسر الى اليسروالتحرر من التشريعات السابقةوكذلك المساواة في الاوامر العبادية والتشريع الا ما يتعارض مع القيم الاخلاقية.. وكذلك مراعاة الواقع باعتباره منهجا من مناهج الحكمة وهو موضوع الحكم. اي حين يتغير الواقع يتغير الحكم..يقول الباحث: " لذلك يفشل كل فقيه لايراعي شروط الواقع وحاجات الانسان، وهذا احد اسباب فتاوى العنف والارهاب والكراهية ".

وفي الفصل الخامس تناول المؤلف "التشريع وفق مقتضيات الحكمة" يقول الباحث" التشريع اذن متاح للخبراء والمتخصصين وفقا لمقتضيات الحكمة، يتقدمهم الانبياء،وهم اولى ولاريب بترتب الاثار المعنوية والمادية وهي تتصدى لتنظيم مناحي الحياة ".

وفي الفصل السادس تناول" الفقيه وسلطة النص" قائلا " ليس من السهل تعطيل او تعليق اي حكم شرعي في مجتمع مرتهن لقداسة الدين، اضافة لرمزيته التي تبعث الرهبة والوجل في نفس الفقيه قبل غيره فتجده يتشبث بالاحتياط ولو على حساب الانسان والمجتمع"

وتناول في الفصل السابع " حاكمية الدليل الاخلاقي" يقول" ان استنباط الحكم الشرعي ليست بريئة ولا حيادية، وتتاثر بمرجعيات الفقيه وقبلياته وثقافته وعقيدته، وبأدلته ومقدماته ومنهجيته في استنباط الحكم واصدار الفتوى ".

وقد اشار الى وجود اسباب عديدة عجز الفقه عن مواكبة التطورات الحضارية في مجال حقوق الانسان والقضاء وغيرها منها : ارتكاز الفقيه الى قيم العبودية في فهم الدين وتهميش الاخلاق.

وتطرق الى العديد من الرؤى ووجهات النظر الفقهية في بقية الفصول التي شارفت على الفصل الثاني عشر، حيث اوصلنا الى يقين عبر صفحات الكتاب المتكون من 422 صفحة، انه لم يكن الفكر التنويري الذي نهجه الباحث ماجد الغرباوي وليد اليوم..انه مرتكز على اصرار وتحدي لتحرير العقل من عبودية التبعية وظهرت نتائجه البحثية عبر العديد من الكتب التي حركت الساكن والراكد من خلال تحريكه عتبات يظن الاخرون انها مقدسة....انه يسعى باتجاه تنوير العقل العربي، كما فعله الفلاسفة والكتاب العرب والغربيين من خلال تحديهم للفكرالمتخلف التبعي السائد انذاك، حتى انهم لاقوا التسقيط او التصفية او المحاربة انه ينقل العقل العربي من تقديس لاواعي الى تحرير بما بتناسب مع التطور البشري والعلمي والاجتماعي من خلال مناقشة التراث والتراكم المعرفي الممتد عبر قرون الذي لم يجرأ انذاك على المساس به او تحريك عجلته بعصا التغيير، فهو يعتمد ومن خلال هذا الكتاب المهم الى مناقشة الفقه الديني مستندا الى الكتاب والسنة والفكر الحر وتراكم الثقافة والمعرفة، ليرتقي بالفكر الديني بموازاة التغيرات المجتمعية والسلوكية التي طرات على الانسان والمجتمع، وهو يسعى الى ان يعيش الانسان بطمأنينة وعدالة ورقي عبر اشباع حاجاته اليومية المتغيرة مع التطور بعيدا عن التسقيط او التهديد او الاعتقاد بغضب الله وعقابه.

***

د. حسن البصام

في وطننا العربيّ قامات لها رؤيتها النّقديّة، وتجربتها العمليّة، لم يعطوا حقّهم من الاهتمام والالتفاتة، أو لم يتح لهم ذلك لأسباب متعدّدة، لست هنا في مجال تفصيلها، ومن هؤلاء في نظري النّاقد والمفكر العراقيّ ماجد الغرباويّ، فقد ولد في بيئة دينيّة شيعيّة في العراق عام 1954م، وعايش في تلك المرحلة منذ بدايات نمو الإسلام الحركيّ بشكل عام، والّذي سيلبس لاحقا لباس الحركات اليساريّة، ومن الإسلام الحركيّ كانت بدايات حزب الدّعوة، الاتّجاه الشّيعيّ المقابل لحزب الإخوان المسلمين السّنيّ، وهذا الحزب تشكل في العراق، "وقيل أول خليّة للحزب تشكلت عام 1957م، بينما يؤكد آخرون أنّ تأسيس الحزب الفعليّ تمّ بعد أشهر قليلة من قيام ثورة 14 تمّوز 1958م ... إلّا أنّه أخذ شكله النّهائيّ، ومارس نشاطه التّنظيميّ السّريّ بشكل واسع بعد ثورة 14 تمّوز 1985م حين فسحت حكومة عبد الكريم قاسم المجال أمام العمل الحزبيّ والسّياسيّ"[1]، وقد "حدّد حزب الدّعوة الإسلاميّة أهدافه في السّيطرة على مقاليد الحكم، وإعلام الحكومة الإسلاميّة، وتغيير واقع المجتمع البشريّ إلى واقع إسلاميّ، وإحلال الشّريعة الإسلاميّة محلّ القوانين الوضعيّة"[2]، وقد انتسب الغرباويّ إلى حزب الدّعوة مبكرا.

كما أنّه تأثر مبكرا بالجانب الحركيّ المتمثل في أدبيات محمّد باقر الصّدر (ت 1980م)، وحول نظريّة شورى الفقهاء، كما عايش بدايات فلسفة الخمينيّ (ت 1989م) وتطوّر نظريّة ولاية الفقيه، والّتي سيكون لها تأثير بعد نجاح الثّورة الإيرانيّة عام 1979م، وهناك العديد من النّظريّات السّياسيّة والّتي طرحت في الأجواء الشّيعيّة كنظريّة ولاية الأمّة على نفسها عند محمّد مهدي شمس الدّين (ت 2001م)، ودولة الإنسان عند محمّد حسين فضل الله (ت 2010م)، كما للسّيّد محمّد مهدي الشّيرازيّ (ت 2001م) تأثيره الحركيّ في أوساط الشّباب الشّيعة خصوصا، بيد أنّ أجواء المرجعيّة الدّينيّة الشّيعيّة حينها لم تكن ثوريّة، "فنظام المرجعيّة وطبيعة خياراته الثّقافيّة والسّياسيّة يحدّدان إلى حدّ بعيد طبيعة المجتمع الشّيعيّ في خياراته الرّاهنة، فإذا كانت المرجعيّة ثوريّة فإنّ هذا الخيار سينعكس عبر وسائل وآليّات على المجتمع وخياراته المتعدّدة، أمّا إذا كانت المرجعيّة تقليديّة وبعيدة عن التّصدي المباشر للشّأن العام فإنّ تأثير هذا الخيار سينعكس بدوره على طبيعة تعاطي نخب المجتمع مع شؤونه العامّة"[3].

الأجواء الّتي عاشها ماجد الغرباويّ في الابتداء أقرب إلى الإسلام الشّيعيّ الأصوليّ الحركيّ، ابتداء من وجوده في العراق ثمّ إيران، وبما أنّه عاش منذ بدايات طفولته متسائلا ناقدا؛ خلص بتجربة نقديّة للذّات، وفي نظري المشتغل بنقد الذّات أكثر صدقا وعمقا من غيره، فكانت كتبه تتمحور في النّقد والتّجديد والوعي والتّسامح ومحاربة الاستبداد والعنف والكراهيّة، كما كتب عنه العديد من الباحثين، وأجريت معه أيضا عشرات الحوارات، حيث استفاد من وجوده في استراليا، وقراءة التّجربة الغربيّة عن قرب، وهذا ظاهر في مقارناته ومقالاته وحواراته.

ولعلّ حواراته والّتي أجراها معه طارق الكنانيّ في كتابيه "رهانات السّلطة في العراق: حوار في أيديولوجيا التّوظيف السّياسيّ"، والّذي طبع في مؤسّسة المثقف العربيّ، استراليا – سيدني، 2017م؛ وكتابه "مدارات عقائديّة ساخنة: حوار في منحيات الأسطرة واللّامعقول الدّينيّ"، والّذي طبع أيضا  في مؤسّسة المثقف العربيّ، استراليا – سيدني، 2017م، هذه الحوارات تلخص لنا خلاصة تجربة ماجد الغرباويّ، ورؤيته حول العديد من المفاهيم والمراجعات الذّاتيّة، وفي هذا المقالة نذكر شيئا من رؤيته النّقديّة من خلال كتابه "مدارات عقائديّة ساخنة".3837 مدارات عقائدية

والعقائد في أصلها عند الغرباوي تجمع بين البساطة، والعقلانيّة العلميّة، وقابلية الشّك والبرهان، فالعقائد كالعادات والطّقوس، يصيبها ظرفيّة التّضخم، ولو كانت بسيطة في بدايتها، لكنّها "تنمو وتتطوّر، بعضها يقاوم وبعضها يضمحل، فالاعتقاد بأيّ عقيدة لا يدلّ على حقيقتها ومطابقتها للواقع تماما، ولا ينفي دور الوهم والعوامل النّفسيّة والخارجيّة في تشكيلها، وهذا مبرر موضوعي يسمح بنقدها ومراجعتها للكشف عن تاريخيّتها وزيفها، وحجم الوهم والمؤثرات الأيدلوجيّة والطّائفيّة في صياغتها، فيخطئ من يؤمن بثبات العقيدة، أو ينفي تطوّرها وتاريخيّتها"[4].

فتاريخيّة العقائد لا يختلف عن تاريخيّة الأحكام، وإذا كان في الإسلام خصوصيّة العرض على القرآن، بيد هذا لا ينفي إعمال العقل وربطه بالشّك المنهجيّ، فيرى أنّ "السّؤال والشّك بات ضرورة لمعرفة الحقيقة، وليس كالنّقد والمراجعة أداة لبيانها واكتشافها؛ لأنّ كثيرا من العقائد والبديهيات اليقينيّة لدي المسلمين تقوم على مقدّمات وهميّة، وافتراضات فلسفيّه تراكمت بمرور الزّمن، فينبغي نقضها وإعادة تشكيلها وفق معطيات العلوم الحديثة، بهذا فقط يمكن التّخلص من تبعات ترسبات الأفكار والعقائد كخطوة أولى باتّجاه فهم دينيّ وعقيديّ صحيح يقوم على مبادئ حقوق الإنسان، ورؤية كونيّة تستمد ركائزها من العقل والكتاب"[5]، كما أنّ الشّك في نظره "دليل الوعي، وعلامة يقظة العقل، والسّؤال حقّ طبيعيّ تقبله القرآن برحابة، وأجاب على أسئلتهم وشكوكهم بكلّ صراحة ووضوح، فالشّك والسّؤال والاستفسار ليس كفرا، ولا محرّما، ولا يؤاخذ الإنسان عليهما، بل تدل على ذكائه ووعيه وحبّه وإخلاصه وشعوره بالمسؤوليّة، وشغفه بمعرفة الحقيقة لضمان إيمان نقي"[6].

ولا يرى أنّ الشّك محصور عند طائفة معينة، فمن حقّ أيّ إنسان أن يشك ويبحث وينظر ويتدبر، كان صغيرا أم كبيرا، ذكرا أم أنثى، متخصّصا في العلوم الشّرعيّة أم غير متخصّص، "ولكي ينبغي للمسلمين من أجل نهضة حقيقيّة فسح المجال أمام جميع الشّكوك وعلامات الاستفهام، وعليهم التّسلح بثقة عالية، والتّراجع عن أيّ معلومة دينيّة يثبت خطأها"، "فلا تكفّوا عن الشّك والسّؤال والنّقد لتفادي تداعيات العقل الجمعيّ الّذي يسوّق النّاس بمكر باتّجاه الخرافة، ويستدرجهم عاطفيّا على حساب يقظة العقل وتوقد الوعي"[7].

بيد أنّ سنن الاجتماع البشريّ جرت أنّ النّاس تدين بما استقرت عليه ظرفيّا نتيجة الولادة في بيئة ما، فيكتسبون من هذه البيئة دينهم ومذهبهم، ويطمئنون بذلك، لهذا يرى الغرباوي أنّ هؤلاء "نواياهم ... صادقة مخلصة .... لكنّهم غير معذورين دائما، فقد منحهم الله عقلا يحتجّ به عليهم يوم القيامة، كان عليهم العودة للقرآن ليعرفوا حقيقة الأشياء"[8]، "ومشكلة الإنسان في ضعفه وجبنه، يريد التّخلّص من المسؤوليّة بلا عناء، فيتشبث برجل الدّين لتطمئنّ نفسه، لهذا يستميتون دفاعا عن عقائدهم"[9].

ويرى الغرباوي أنّ أكبر عائق بين الإنسان وإعمال العقل هو رجل الدّين المستفيد من جمود الإنسان وتبعيّته، أي "رجل الدّين المعتاش على جهود الآخرين"، والأصل أن تكون هناك "مسافة بينهم وبين رجل الدّين، بل وبينهم وبين التّراث المثقل بالأكاذيب والافتراءات على الله ورسوله وأهل بيته"، "فرجل الدّين المغالي لا يتورع ولا يخاف الله، ومن يخاف منهم ربّ الأنام تجده بسيطا ساذجا يتسلّق أعواد الخطابة، ويملي على النّاس من تراث لا يمكن إطلاقا الرّكون إليه، بمعزل عن القرآن والعقل والصّحيح من السّنّة النّبويّة"[10].

وهؤلاء المغالون في نظره "يزوّرون الحقيقة، ويستغلّون بساطة الإنسان وحبّه لأهل البيت، وهم يعلمون جيّدا: أنّ مصير الإنسان مرتهن بعمله يوم القيامة، ولا ينفعه شيء آخر، {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعى}، لكنّهم يستغلّون سعة مفهوم العمل الصّالح، فيقحمون فيه طقوسا ومفاهيم بعيدة كلّ البعد عن سلوك وأخلاق ووعي أهل البيت"[11]، ومن ذلك الاستفادة من الجانب الماديّ، فغيّب العقل الجمعيّ عن الإنفاق في المشاريع المهمّة كالجامعات العلميّة والمصحات إلى الإنفاق فيما يستفيد منه رجال الدّين، "والمرء لا يجد معنى لنفقته على المشاريع الاجتماعيّة، بينما يأمل بثواب الآخرة عندما ينفق على الطّقوس والشّعائر الحسينيّة". كما يقدّم رؤية نقديّة لمسألة الخمس في الفقه الشّيعيّ الجعفريّ، وعلاقتها بالمرجعيّات الدّينيّة.

وكما أنّ هناك استفادة ماديّة، هناك استفادة سياسيّة، ووجاهة اجتماعيّة، يكتسبها رجل الدّين من خلال اغتراب العقل الجمعيّ، ويرى الغرباوي أنّ هناك رابطا بين استغفال النّاس في عقيدة المخلّص، والّتي يؤمن بها غالب الشّيعة من خلال وجود المهديّ أي محمّد بن الحسن العسكريّ، الإمام الثّاني عشر الغائب عن الإنظار، وبين نيابة الفقيه أو رجل الدّين عنه وقت غيبته، وفي نظره "الأخطر في عقيدة المخلّص ليس الإيمان البسيط لدى النّاس الطّيبين، بل ما يترتب على هذه العقيدة من استحقاقات والتزامات، يستميت رجل الدّين في إثباتها، أهمّها بالنّسبة للشّيعة نيابة الفقيه للمهدي الغائب في جميع صلاحيّاته خاصّة القضايا الماليّة، والولاية، وولاية الفقيه المطلقة أخطر حينما تستلب الفرد وتختزله إلى مجرد رقم في المعادلات السّياسيّة وغير السّياسيّة للوليّ الفقيه، وتمنحه صلاحيّة مطلقة للاستئثار بالمال والسّلطة تحت هذا العنوان"[12]، فهي "سلطة مقدّسة بلا أعداء ومناهضين، يدفع له النّاس أموالهم طواعية بكلّ محبّة وإخلاص، ويطيعون فتاواه وأوامره بكلّ صدق واندفاع، فأيّ سلطة تداني سلطته؟ كلّ هذا بفضل نيابته للإمام المعصوم".

فينتقد بهذا النّيابة في السّلطة المطلقة، أو ولاية الفقيه، حيث "الحكم وفقا لنظريّة ولاية الفقيه حكم ثيوقراطيّ، يعتبر فيه الفقيه نائبا عن الإمام المعصوم في صلاحيّاته الإلهيّة الواسعة، وحكم دكتاتوري يمنح الحاكم (الوليّ الفقيه) سلطة مطلقة"، لهذا أصبح اليوم "رجل الدّين بشكل عام، والفقيه بشكل خاصّ يؤثر في جميع المعادلات السّياسيّة، ويلجأ له السّياسيون لحمايتهم ودعمهم، وبات النّاس يتمردون على القانون والدّستور بانتظار كلمة مرجعهم الدّينيّ، وقراره النّهائيّ في كلّ مفردات السّياسية، فكيف نأمل في قيام مجتمع مدنيّ والشّعب موزّع الولاء بين عدد من رجال الدّين من جميع الدّيانات والمذاهب"[13].

ويرى أنّ استغفال رجل الدّين لعامّة النّاس سياسيّا باسم الدّين لا يختلف عند الشّيعة عن غيرهم من الأديان والمذاهب الإسلاميّة الأخرى، وما ولاية الفقيه إلّا مخرجا للنّيابة العامّة للإمام الغائب كما أسلفنا، وإلّا رجل الدّين عموما، ليس عند الشّيعة فحسب، "أنّه [سياسيّا] مستبد، يرفض خصومه، ولا يعتقد بشرعيّة أي حاكم خارج دائرته، مهما تظاهر بخلاف ذلك"، لهذا "الإسلاميّون يصرّون على وجود علاقة بين الدّين والسّياسة، وبالتّالي يسعون لاحتكار السّلطة باعتبارهم الممثل الوحيد للإله على الأرض، فحشدوا طاقاتهم من أجل السّلطة"[14]، ومن أجل الوصول إليها، وأغلب طريق لهم في ذلك هو استغفال العقل الجمعيّ، فالفقيه أو رجل الدّين "يعتبر النّاس "عواما"، رغم خشونة الكلمة، وفيهم علماء ومفكرون ومثقفون ومبدعون وأخصائيون، فيقول: يجب على العوام تقليد الفقيه في الأحكام الشّرعيّة"، بما فيها المتعلّقة بالجوانب السّياسيّة.

والأصل في نظره أنّ دور الوصايا الدّينيّة انتهت "بختم النّبوة ليرتكز الإنسان لعقله وتجربته الحياتيّة، ويستظلّ بالدّين وقيمه ومبادئة في مسيرته الطّويلة، فما عاد الإنسان بحاجة لأحضان الدّين سوى روحه الهلعة، كي تستقر وتطمئن وتسمو إلى الله من خلال معرفته والانفتاح عليه بقلب سليم، وتعيش تجربتها الدّينيّة مع الخالق جلّ وعلا، العقل الآن يتحدّى ويشقّ طريقه بثبات، وقدّم لنا حضارة راقية فما علينا سوى العودة لعقولنا ووعينا"[15]، وهذا ما حدث في أوروبا "منذ إقصاء الكنيسة عن الحياة عامّة، والسّياسة خاصّة؛ انطلقت الشّعوب الأوروبيّة نحو العلم والمعرفة وتطوير الحياة، فأخضعت كلّ شيء للتّجربة والعقل، وراحت تبحث عن الأسباب الكامنة وراء الظّواهر الكونيّة، بعيدا عن التّفسيرات الغيبيّة، فأصابت الهدف، وحقّقت نتائج مبهرة في الحياة، وصار العالم برمته مدينا لاكتشافاتهم، أمّا شعوبنا فمسكونة بالغيب، ووجدوا فيه تبريرا لكسلهم وتقاعسهم"، فأصبحوا يبحثون عن رمزيّات خلاصيّة في الماضي والحاضر، بدلا من إعمال العقل في النّظر والكشف والعيش في الواقع بسننه وسنن الوجود.

وعليه في نظره أنّ الغرب قطع "شوطا كبيرا على مسار الرّقيّ الإنسانيّ، بينما ثمّة من ينتظر رجلا يخرج من أعماق الغيب والتّأريخ يصنع كلّ ما صنعه الإنسان"، فأصبح العقل الجمعيّ مسكونا برمزيّات ماضويّة لا بسنن الواقع، بينما المتأمل في واقعهم يجد "أحيانا تحطّ المعاصرة من قيمة الرّمز وقدسيّته، بينما تزدهر في غيابه حدّاً تلهب رمزيّته الخيال الميثيولوجيّ، فيجرّده من بشريّته ويحلّق به في مدارات الأسطرة واللّامعقول، ليعيد إنتاجه باستمرار في إطار ضروراته العقيديّة والأيديولوجيّة"[16]، كما أنّ "انتظار الإنسان لمن يخلّصه تعبير آخر عن عجزه وضعفه ... فوجوده من هذه الزّاوية ضرورة لا تقبل النّقاش، لتفادي الانهيارات النّفسيّة، وتبرير تقاعسهم عن مسؤوليات الحياة، ومستقبل أبنائهم، فالأمل معقود عليه في حياة ناعمة تعويضا عن شقائهم وحرمانهم، وهذا بعد سلبيّ مخدّر، لا يساهم في بناء شخصيّة متوازنة".

وكما أنّ العقل الجمعيّ مسكون برمزيّات خلاصيّة ماضويّة؛ هو مسكون أيضا بمصاديق عمليّة يجد فيها شفاء واطمئنانا لخلاصه، ولو قامت هذه المصاديق على أوهام وأساطير وظنون، حيث أنّ الإنسان في نظره أنّه "بطبيعته مسكون باليأس بسبب قساوة الحياة، فيبحث عن الخلاص سيّما في ظلّ خطاب ديني مرعب، يبالغ في قساوة الإله، فهو جبّار عتيد، يتربص بالإنسان لينتقم منه من لأدنى خطأ، فكيف والإنسان خلق ليخطأ، ويتعلّم من خطئه"[17]، فيتوسع في الشّفاعات؛ لأنّه "يعتقد بوجود فداء وشفاعة مفتوحة لا يبالي ماذا يرتكب، فيمكنه الاغتسال من الذّنوب أنّى شاء"، كما ربط الشّفاعة بالأضرحة والشّخوص أكثر من الخالق نفسه، فأصبح لا يشك "الإنسان البسيط بشفاعة صاحب القبر، فنصوص زيارة الأضرحة تنسب له صفات الخالقية، وتصوّره حيّا جالسا لاستقبال زوّاره وقضاء حوائجهم، فكيف يشك بشفاعته وخطيب المسجد يتلاعب بمشاعرهم، ويروي له حكايات وقصصا عن كرامات صاحب الضّريح، وما حصل من معاجز ببركته، بل وحضوره شخصيّا لبعض المناسبات، ليتدارك من يستغيث به من أتباعه ومحبّيه، وترى النّاس تصغي وتبكي شوقا وحبّا وتوسلا"[18]، هذه الخطابات جعلت العقل الجمعيّ يتصوّر لا شعوريّا أنّ "صاحب القبر إلها يحيي ويميت ويرزق، ويتولى قضاء حوائج النّاس، وبيده حسابهم إلى آخره ... لا شك أنّ بعض النّاس يعي حينما يتوسل بأهل البيت، فهو يتقرّب بهم إلى الله تعالى في قضاء حوائجه، لكن للسّواد الأعظم فهما آخر، فيتعاملون معهم كأرباب مفوضين من قبل الله في قضاء حاجاتهم، واستجابة دعائهم، وهنا مكمن الخطر، حينما يسكت رجل الدّين، ويتخلّى عن مسؤوليّته في بيان الحقيقة".

كما أنّ النّظرة الخلاصيّة جعلته مسكونا عقليّا بأنّ رجل الدّين أو الفقيه بيده الخلاص في القضايا السّياسيّة، وتحقّق العدل في المجتمعات البشريّة، مع أنّه لو تأمل قليلا لأدرك أنّ "تصوّر قضية واحدة [سياسيّة أي الخلافة] استغرقت قرابة 1500عاما، استهلك بسببها المسلمون جهودا جبّارة، وأراقوا دماء زكيّة بريئة، وما زالت تتفاعل دون حسم نهائي، قضيّة لا تؤثر على عمل الإنسان، وليس لها مدخليّة في قبول الأعمال أو ردّها ، ولا يسأل الله تعالى النّاس عنها ، تلك أمّة خلت"، "وما الماضي سوى تجربة بشريّة في مسار طويل لها ظروفها الّتي لا تستطيع معرفة ملابساتها لبعد المسافة، وعدم قدرتنا على توثيق أحداثها من خلال كتب التّاريخ والتّراث"[19].

ومن هذه الظّرفيّة التّأريخيّة حضور العرق الهاشميّ أو القرشيّ عموما في قضيّة الإمامة أو الخلافة، وهي قضيّة ظرفيّة وليست مطلقة، ومع ذلك رويت حولها روايات، وأولت نصوص قرآنية، لأنّ "رائحة السّياسة تفوح من هذه الأحاديث الّتي تشبث بها الخلفاء لتكريس خلافة قريش، وهي نزعة جاهليّة لا تمّت للدّين بصلة، فليس هناك تفاضل على أساس عرقيّ أو قوميّ، وإنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، هذا هو المنطق القرآنيّ، فالتّفاضل دائما على أساس التّقوى، بينما يسند الحديث الخلافة لقريش لمجرد أنّهم قريش ممّا يتعارض مع منطق القرآن، ويدفعنا للشّك في صدوره عن النّبيّ الكريم"[20].

فالخلافة وتطوّر السّلطة قضيّة ظرفيّة تأريخيّة بحتة، حيث "للسّلطة اليوم مفهوم آخر لها أدواتها وآلياتها، أليس طرق الوصول للحكم باتت واضحة لا علاقة لها بما مضى؟ لقد باتت الشّعوب تطالب حكّامها بمستقبل آخر وفقا لتطوّر الحضارات، ولا تريد العودة للماضي"، "وقيام دولة مدنيّة لا يؤثّر على دور الدّين، بل العلمانيّة احترمت الأديان عندما عزلتها عن السّياسية، وحافظت عليها كحق شخصي لكلّ فرد"، وبهذا يصبح العقل الإنسانيّ عموما مسكونا بواقعه لا بماضيه.

وإذا كان للعقل والشّك أهميّة كبرى في مراجعة العقائد والأحكام عموما؛ بيد أنّه في المدار الإسلاميّ ضرورة أيضا إعطاء القرآن محوريّته في مراجعة التّراث والرّوايات كما يرى الغرباوي، حيث يرى "ما خالف القرآن فهو زخرف، وما خالف القرآن فاضربوا به عرض الجدار، وهذا منطق أئمة أهل البيت الّذي طالما أكدّوا عليه في أحاديثهم ورواياتهم المروية بأسانيد معتبرة، وكتب موثوقة، فالتّراث الشّيعيّ فيه الغثّ والسّمين، وليس كلّ ما يروى صحيحا، حجّة، يجب الأخذ به"[21].

ومع محوريّة القرآن إلّا أنّه في نظره أيضا يجب "التّعامل مع المفاهيم بما فيها المفاهيم القرآنيّة بحذر وحيطة ومسؤوليّة، فهناك موازين وثوابت قرآنيّة في ضوئها يجب فهم العقائد، وتحديد مداليلها، كي لا تسقط العقيدة المشروع القرآنيّ في خلافة الإنسان ووحدانية الباري تعالى، كما يجب أن تكون مرجعيّة القرآن حاكمة على كلّ شيء، فالرّوايــات كـمـا جـاء عـن النّبيّ الكريم وأهل بيته تعرض على القرآن والعقل، والتّأكد من عدم معارضتها له، فضلا عن تقاطعها مع ثوابته ومحدّداته، وإلّا ستكون فوضى عارمة، وستأخذ العقائد مساحات واسعة، تضطر لتأكيدها وترسيخها الفرق والمذاهب من خلال تأويلات بعيدة لآيات الكتاب الحكيم، أو التّوغل في اللّامعقول لسدّ الطّريق على الوعي والشّك، وهذا أخطر ما في الدّين"[22].

ومحوريّة القرآن لا يعني الاغتراب عن الظّرفيّة التّأريخيّة، والتّقدّم العلميّ والإنسانيّ، فالقرآن ذاته كما يرى الغرباوي "ليس كتابا علميّا، وليس من اختصاصه بيان معارف العلوم الحديثة، ومن يصبو للاعتماد على الكتاب الكريم فيها لا يحقّق أيّ شيء؛ لأنّه اختار الطّريق الخطأ، فينبغي الفصل بين ما هو دينيّ، وما هو علميّ، فكلا من المجالين له دائرته، ومصادر معرفته، والتّداخل يفسدهما معا"[23]، وكما أنّ الرّوايات والتّراث إسقاطات ظرفيّة وتأريخيّة قد يكون لها مفاهيم قرآنيّة كبرى، إلّا أنّه لا يصح الاغتراب في ماضويّتها الظّرفيّة، وعليه "لا يمكن للمسلمين النّهوض ما لم تتحرّر عقولهم من سلطة النّصوص والتّراث، ويفهمون الدّين ومقاصده وأهدافه وغاياته بعيدا عن الرّوايات الّتي تعكس فهما آخر، يمثل زمن الرّواية بأبعادها المختلفة، فهي روايات محترمة إلّا أنّها تعبّر عن ظروف وبيئة وثقافة مختلفة، فالرّواية ظروفها ولنا ظروفنا"[24].

ولأجل وجود قاعدة واضحة من المراجعات داخل المذاهب الإسلاميّة، ولتحقيق قدر أوسع من التّعايش بينها؛ يفرق الغرباويّ "بين الضّرورتين الدّينيّة والمذهبيّة، الضّرورات الدّينيّة أو ضرورات الإسلام منصوص عليها قرآنيّا، نصّا صريحا واضحا بيّنا، لا لبس فيه، كالشّهادتين (لا إله إلا الله .. محمّد رسول الله)، والإيمان بالغيب، وإقامة الصّلاة والصّوم ... وأمّا ما دلّ عليها دليل خاصّ وفقا للعقيدة الشّيعيّة ومصادرها فتعتبر ضرورات مذهبيّة، خاصّة بالتّشيع وأتباعه، فليس هي شرط في إسلام الشّخص ولا في إيمانه، ولا يتوقف عليها أيّ عمل عبادي، وهي ليست شرطا لقبول الإعمال، ولا يترتب عليها أيّ شيء .... وما التّكفير على أساس الضّرورات المذهبيّة سوى تعصب واستفزاز واندفاع عاطفيّ لا علاقة له بالإسلام والقرآن إطلاقا"[25]، وهذا لا يقتصر بطبيعة الحال عند الخصوصيّات الشّيعيّة، فهناك خصوصيّات في المذاهب الإسلاميّة أيضا، فتبقى خصوصيّات أو ضرورات مذهبيّة لا يكفر أو يفسّق من يرى غيرها. كما أنّ للتّعايش الإسلامي في نظر الغرباوي لا يتحقّق إلّا بالمراجعات والتّفريق بين الضّرورات الدّينيّة والمذهبيّة؛ كذلك لا يتحقّق إلّا بالبعد عن التّبشير المذهبيّ، وجعل النّاس يدركون روح الدّين وجماليّته فيما يسعهم فيه، "فما الّذي يحصل ويتغيّر عندما ينتقل شخص من مذهب إلى آخر سوى بعض الأحكام الشّرعيّة" لا أكثر.

هذه الرّؤية النّقديّة الّتي أسلفنا إلى شيء بسيط منها في هذه المقالة القصيرة؛ وإلّا الحديث عن المفكر والنّاقد الإسلاميّ ماجد الغرباويّ حديث يطول به المقام، وهو لأكثر من نصف قرن من الزّمن كانت له رؤيته التّنويريّة والنّقديّة، كما أنّ فكره ورؤيته قد مرّت بمراحل، وتطوّرت في الوقت ذاته، وقد عايش الشّرق والغرب، معايشة وقراءة وتأملا ونقدا، لهذا تعتبر تجربته من التّجارب الغنيّة الّتي ينبغي أن يلتفت إليها، وأن تعاد قراءتها تفكيكا ونقدا، وهذا قدر أدنى لأجل ردّ فضله، وما قدّمه للعقل العربيّ والإسلاميّ والإنسانيّ عموما نقدا وتنويرا وإصلاحا.

***

بدر العبريّ

باحث وكاتب عمانيّ

.......................

1- الطّائيّ: هاشم عبد الرّزاق صالح، التّيار الإسلاميّ في الخليج العربيّ: دراسة تأريخيّة؛ ط مؤسّسة الانتشار العربيّ، لبنان – بيروت، الطّبعة الأولى، 2010م، ص: 71.

2- نفسه، ص: 73.

3- محفوظ: محمّد، نظام الفتوى عند الشّيعة الإماميّة في الخليج؛ مطبوع ضمن كتاب الفتوى في الخليج (2): الشّيعة – الثّورات – التّأثير، ط مركز المسبار للدّراسات والبحوث، الطّبعة الأولى، 2013م.

[1] - الطّائيّ: هاشم عبد الرّزاق صالح، التّيار الإسلاميّ في الخليج العربيّ: دراسة تأريخيّة؛ ط مؤسّسة الانتشار العربيّ، لبنان – بيروت، الطّبعة الأولى، 2010م، ص: 71.

[2] - نفسه، ص: 73.

[3] - محفوظ: محمّد، نظام الفتوى عند الشّيعة الإماميّة في الخليج؛ مطبوع ضمن كتاب الفتوى في الخليج (2): الشّيعة – الثّورات – التّأثير، ط مركز المسبار للدّراسات والبحوث، الطّبعة الأولى، 2013م.

[4] - مدارات عقائدية ساخنة.. حوار في منحنيات الأدلجة واللامعقول الديني، حوار طارق الكناني مع ماجد الغرباوي، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا وأمل الجديدة، دمشق – سوريا، ط2، 2019م، ص 21.

[5] - المصدر نفسه، ص 50.

[6] - المصدر نفسه، ص 71.

[7] - المصدر نفسه، ص 49.

[8] - المصدر نفسه، ص 45.

[9] - المصدر نفسه.

[10] - المصدر نفسه، ص 54.

[11] - المصدر نفسه.

[12] - المصدر نفسه، ص 71.

[13] - المصدر نفسه، ص 227.

[14] - المصدر نفسه، ص 202م.

[15] - المصدر نفسه، ص 74.

[16] - المصدر نفسه، ص 166.

[17] - المصدر نفسه، ص 44.

[18] - المصدر نفسه، ص 69.

[19] - المصدر نفسه، ص 74.

[20] - المصدر نفسه، ص 396.

[21] - المصدر نفسه، ص 423 م.

[22] - المصدر نفسه، ص 48.

[23] - المصدر نفسه، ص 49.

[24] - المصدر نفسه، ص 151.

[25] - المصدر نفسه، ص 389.

.....................

* مشاركة (55) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

قليلون أولئك الذين يعمدون بفكرهم النير إلى حلحلة الجمود القار في منظومة القيم وبعض الثوابت التي تحتاج إلى الكثير من المراجعة والتمحيص بل والفهم وفق حركية الحياة والتاريخ وجعل واقعنا المعاش ممكن ودون تقاطعات حادة تقودنا إلى إلغاء الآخر وما ينجم عن ذلك من عنف وعدم استقرار يضعف بل وينهك المجتمع.

وعلى مدى التاريخ البشري الحافل بالمنعطفات الفكرية برز من استطاع أن يُعلي صوت العقل والحكمة ورؤية الأوجه المتعددة لتلك الثوابت وتطويعها لإنتاج فكر خلاق يتلائم مع تطور العقل البشري على الرغم من أن هذه الشريحة تشكل قلة قياسا بعامة المجتمعات وبمن تعايش مع ما هو سائد وتقبله كما هو بكل مسلماته ومشاكله.

وعلى مدى القرون الماضية ظهر العديد من رجال الفكر التنويريين في المجتمعات الغربية وهم يواجهون سلطة الكنيسة وكذلك في مجتمعنا العربي في مواجهة المغالاة في تطبيق الشريعة الإسلامية.

ولعل ما طرحه المفكر العراقي ماجد الغرباوي من فكر متنور يأتي من منطلق الجرأة في الطرح والانفتاح في تناول مواضيع مهمة وبما ينسجم ورؤيته كمفكر وباحث ديني يسعى من خلال مشروعه إلى تحرير العقل من بنيته الأسطورية وإعادة فهم الدين على أساس مركزية الإنسان في الحياة وترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي ومن خلال قراءة متجددة للنص تقوم على النقد والمراجعة المستمرة من أجل فهم متجدد للدين كشرط أساس لأي نهوض حضاري يساهم في ترسيخ قيم الحرية  والتسامح والعدالة في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب .

وقد تجسد ذلك فيما أنتجه من مؤلفاته التي بلغت أكثر من (35) مؤلفاً تأليفاً وتحقيقاً وحوارا في الفكر الإسلامي والشريعة والفلسفة و المرأة والنسوية  وسبل تحرير الوعي الديني والفقهي ومرجعيات الفكر الديني والعنف والتسامح ونقد الحركات الإسلامية وفرص  التعايش في الإسلام .

وإذا كان الكتاب الصادر عن  المفكر الغرباوي قد أخذ مكانه في المكتبات العربية ومراكز الدراسات والبحوث مثلما تناوله بالبحث العديد من الباحثين الأكاديميين كفكر أصيل فإن ما ابتكره الغرباوي في تأسيسه لموقع المثقف الإلكتروني قد خلق ديمومة التواصل مع النخب العراقية والعربية المفكرة التي وجدت في سماحة واتساع ورحابة الفكر التنويري في هذا الموقع ملاذاً مهما في طرح الرأي و الرأي الآخر في مجالات الفكر والثقافة والفن والفلسفة والذي أصبح هو الآخر مرجعية مهمة للباحثين وطلبة الدراسات العليا ينهلون ويقتبسون منه ما يتعلق برسائلهم وأطاريحهم العلمية .

إنَّ قراءة متبصرة لمضامين صحيفة المثقف العربي وتحليل لمضامين خطابها الفكري والثقافي نجدها قد وضعت لنفسها جملة من المبادئ والثوابت التي تؤطر بها سعيها نحو إشاعة الابداع وترصينه وفق رؤية إنسانية وقيمية تحترم الإنسان وتسمو به إلى العطاء واحترام وجوده كصانع للحضارات وسببا من أسباب استقرار الأمن والسلام في هذه المعمورة، وهي ذاتها قيم ومبادئ المؤسسة ككل باعتبار أنَّ الصحيفة شكل أساس من أشكال الإعلام الإلكتروني للمؤسسة التي تؤمن بالتعددية والرأي الآخر والدعوة للتعايش بين الأديان والثقافات وتبني قيم التسامح، والحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان ومحاربة العنف والتحريض والتكفير ورفض الخطاب الطائفي والأيديولوجي المحرض والمساهمة في تعميق لغة الحوار والتفاهم وفق الثوابت الأساسية المستمدة من تعاليم السماء وقوانين الأرض ..

ولهذا فلا غرابة في أن نجد اهتماما بالغاً في تناول فكر الغرباوي شرحاً وتفصيلاً ودراسةً وترجمة من قبل المفكرين العراقيين والعرب مسلطين الضوء على جوانب مهمة من فكره التنويري في وقت أخذ التشدّد مأخذه من عظمة وإنسانية الفكر الإسلامي مع انتشار التطرف ممثلا بتنظيم بداعش وما شاكله والذي انعكس على الضفة الأخرى بتشدّد مقابل وفق نظرية الفعل وردّ الفعل فبرزت ظاهرة (الإسلام فوبيا) عند الغربيين وما رافقتها من مشاكل وأحداث مؤلمة لا تمت للديانات السماوية بصلة معيدة بذلك عقارب الزمن والفكر الإنساني إلى الوراء وصولا إلى ظلال الحروب الصليبية.

إنَّ ما طرحه الغرباوي من قيم ومبادئ في فهم روح الإسلام بشكل معاصر يتطلب الدراسة والتأمل ليس على صعيد محلي فحسب بل على صُعد متعددة وبشكل خاص في الجامعات ومراكز الأبحاث الأكاديمية التي تسعى إلى تجديد الفكر وإطلاق حريته.

إنَّها دعوة صادقة لدراسة هذا الفكر دراسة أكاديمية لتعضيد مسارات الفكر العربي الإسلامي بما يكتنزه من سماحة ومنحه دفقاً تجديديا يليق بأهدافه النبيلة التي نشرت السلام والتسامح والحب في أرجاء المعمورة.

***

د. سعد ياسين يوسف - باحث أكاديمي

......................

* مشاركة (54) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

أحببت ان أدلي بدلوي بشأن منبع الانسان الرفيع الشأن مصلحنا الغالي الصديق العزيز والمفكر المصلح استاذنا ماجد الغرباوي أبي حيدر وأقول له مهنئا بعيده السبعين ومتمنيا له مديد العمر ووفير العافية والمثابرة في جهده الاصلاحي الذي يشغل كل اهتماماته ومساعيه الحثيثة من اجل رقيّ وسطنا الاجتماعي المليء بالكثير من الغثاثة والسوءات الفكرية الضارة بقيمنا واخلاقنا وتعاملنا

كل ذلك من اجل ان ترتيب اوضاعنا الفكرية والسلوكية نحو الاحسن والافضل لنكون بمصاف المجتمعات الناهضة التي ترقى وتحافظ على قيمها النبيلة وخصائصها ونزع الملوثات التي علقت بها ومتمنيا لصحيفة المثقف ورعاتها وكتّابها وقرّائها الثبات على مواقفها النبيلة التي عهدناها في مضامينها

لا اريد ان أطيل اكثر فما كتبه الزملاء والاصدقاء بشأن مفكرنا ماجد الغرباوي وخططه الاصلاحية المدروسة بعناية عقله الراجح وهدفه النبيل السامي يفي بالغرض، اقبل مني تلويحة محبة واعتزاز من بغدادك التي تحبها مع اني اعرف مدى حزنك على ما آلت اليه اوضاعنا المزرية يا ابا حيدر وعهدي بك ان مشروعك الاصلاحي سينهض حتما ولو طال الزمن  يا صديقي الاحبّ

***

جواد غلوم

.....................

* مشاركة (53) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

قراءة في فكر الأستاذ ماجد الغرباوي

ماجد الغرباوي، كما هو مثبت في سيرته في صحيفة المثقف وويكيبيديا: باحث بالفكر الديني. يسعى من خلال مشروعه الى: تحرير العقل من بنيته الأسطورية وإعادة فهم الدين على أساس مركزية الإنسان في الحياة. وترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، ومن خلال قراءة متجددة للنص تقوم على النقد والمراجعة المستمرة، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب. في ضوء هذا التعريف سأتناول رؤيته بقضايا المرأة المسلمة. أي المرأة التي تستمد من الدين رؤيتها، ومن الشريعة الإسلامية أحكامها.

الفلسفة النسوية

اهتمت الفلسفة النسوية بمبدأين، أولهما نقد التحيّز الذكوري حيثما وجد. والثاني تطوير أخلاق غير متحيزة ذكوريًا. علما أن الإشكاليات التي واجهت ذلك التطوير أغلبها مرتبط بمسألة الدين والشريعة. وهذا يتطلب العودة الى جذرها الديني والأخلاقي أولا لمعرفة حقيقة تلك لاشكاليات في ضوء النصوص المقدسة، وليس التراث الذي هو رأي بشري غير مقدس. وهذا ما فعله المفكر التنويري ماج الغرباوي في كتابَي: "الفلسفة النسوية[1]" وكتاب "المرأة والقرآن[2]". حيث تصدى لزعزعة تلك الإشكاليات بعد نقده للفهم المتداول لقضايا المرأة عامة والنسوية خاص، عندما سلط الضوء على منظومة القيم التي تحكمها، ومدى مطابقتها للقيم الإنسانية والدينية، لتحاشي الاتجاهات الرادكالية المتطرفة التي انجرفت بعيدا عن الأخلاق والقيم الأخلاقية فضلا عن القيم الدينية.

إن أهم محاور كتابَي "الفلسفة النسوية" و"المرأة والقرآن"، هي: الأسطورة ومحددات الوعي. سطوة الفقه، علاقة المرأة بالدين، فهم النص الديني وأثره في النظرة المتداولة حول المرأة وحقوقها ودائرة حريتها وغيرها من قضايا تمس انسانيتها وحقوقها ومكانتها، كموضوع: النسوية ما بعد الكولونيالية، قهر المرأة، الوعي النسوي، النظام الأبوي، العلاقة بين الجنسين، أشكال التحيز والتمييز، قاضيا المرأة في ضوء الشريعة، كالتعدد والحجاب والنشوزر. وغير ذلك كثير ومفصل.

وقد تناول الباحث الغرباوي قضايا المرأة تارة في ضوء النص المقدس، خصوص القرآن الكريم. وتارة في ضوء التراث الذي هو فهم بشري للنص الديني، تتحكم به ايديولوجية القارئ وثقافته وآرائه الفلسفية والفكرية وعقيدته وعلاقته بالسياسية وأشياء غيرها. وهذه قضية مهمة يجب الانتباه لها، فليس كل ما يقوله التراث عن المرأة يمثل رأي الدين بالضرورة، مهما كان مصدره لانه رأي بشري قد يصيب وقد يخطئ، وعلينا الرجوع للقرآن المصدر التشريعي الاول لمعرفة الحقيقية والأخذ بها: (فالقياس - كما يقول الغرباوي - هو القرآن وليس قول المفسر او الفقيه، ومتى ما انتابنا الشك في اقوالهم نعود للقرآن نستنطقه كي نتعرّف على الحقيقة)[3].

يعتقد الباحث أن قضية المرأة قضية عالمية، بمختلف اشكالياتها، وإن كانت بنسب متفاوتة لكن القضايا الرئيسيية واحدة[4]: اضطهاد المرأة، الذكورية، ضياع الحقوق، قمع الحريات، تهميش المرأة، كمال عقلها، قدراتها الادارية، وغير ذلك. فالمفاهيم واحدة مهما تعددت بيئاتها الثقافية والاجتماعية. لكن هناك إشكاليات مرتبطة بالأديان عام والدين الاسلامي خاصة، تولّدت عن آراء فقهية ووجهات نظر اجتهادية تتأثر لا محال بقبليات الفقيه، فجعل الرأي الفقهي من المرأة (جاريةً أو أمَةً)، مسلوبة الحقوق والإرادة، وسلط عليها الذكر كما يمليه عليه فهمه لقضايا المرأة ودورها في المجتمع، فسلبها انسانيتها ذلك الحق الإلهي الذي منحه لها، وجعل منها شريكة لخليفة السماء في الأرض أي الإنسان الذكر، فعهد الله الخلافة لهما وليس للذكر خاصة دونها، لكن رغم ذلك كله حط رجل الدين من قيمتها الانسانية. يقول الباحث: (الرؤية الفقهية المتداولة تستمد شرعيتها من آيات يبدو ظاهرها مع تكريس عبودية الإنسان عامة، وانتقاص المرأة خاصة. أي نظرية العبودية تبرر النظرة الذكورية، والنظرة الدونية للمرأة، ولديها ما تستدل به من أحكام الشريعة. بينما تنقلب النتيجة مع منطق الخلافة، وأن الإنسان أساس الخلق. وما الأحكام إلا لترشيده مرحليا، وفق ملاكات الأحكام، وليست لاستعباده تحت أي مسمى كان)[5]. لقد تعرضت المرأة الى ظلم عظيم في حياتها، ولقد كان ظلم المجتمع للمرأة أهون من ظلم الفقهاء والفلاسفة. بل أن الكثير من الفلاسفة كان أكثر قساوة في أحكامهم على المرأة من الفقهاء[6].

المنطق العبودي

في التفاتة جعلت المفكر الغرباوي يحذو حذو التنويري محمد شحرور فيما سماه: المنطق العبودي حين وصف علاقة الناس بخالقهم، بأنهم: عباد لا عبيد. فهم عباد الله، كما تصرح الآيات بذلك. علاقة الانسان العابد بخالقه علاقة واعية تنطلق من عقلية حرة مميزة. بينما يُقاد العبيد بسلاسل مكتوبة، متوارثة من كتب التراث الإسلامي، الذي دفع المجتمعات الإسلامية والعربية بشكل خاص إلى التمرد التام، ولا سيما المرأة التي ثارت على تلك المقدسات البشرية التي سجنتها عقودا طويلة. كتب موروثة عن التراث اليهودي والمسيحي، طالما عاشت أوربا والغرب في ظلها بظلام كبير، انعكس على وعي المرأة ونظرتها لذاتها وللآخر.

سعى المفكر الغرباوي الى حل إشكالية "عبودية المرأة" من خلال وعيها. وعيها لذاتها وللآخر الزوج / الابن / الاب، باعتبار الوعي لدى الباحث قضية مركزية يعول عليه لتسوية إشكاليات المرأة، وعنده (أن مشكلة التخلف مشكلة وعي قبل كل شيء. والعلاقات غير المتوازنة بين الرجل والمرأة، سببها رثاثة الوعي المشرعن)[7]. أولها اسطورية البنية المعرفية لها، التي احتلت فيها الخرافة واللامعقول مساحة واسعة، وجعلتها تنظر لنفسها نظرة دونية. لا شك، كما يؤكد الباحث أن علاقة المرأة بالأساطير والفلسفة القديمة، محكومة بنظرية العبودية، التي تكرّس عبودية الإله / السيد / الملك / الطاغية. وتسلب الفرد إنسانيته، بعد تكرّيس "تشيئته"، ليكون مستلبا، تابعا. فقيمة الشخص، ذكر أو أنثى، قيمة اعتبارية تسبغها عليه الإلهة / الملوك / السادة / الطغاة. وليس لهم وجود مستقل[8]. هذا ما يفعله المنطق العبودي والذي يحذر منه الاتجاه التنويري دائما، ويؤكد عليه كثيرا الباحث الغرباوي في كتابَي: الفلسفة النسوية وكتاب المرأة والقرآن. كما أنه يرفض تحميل المرأة خطيئة البشرية، تلك الاسطورة التي تتناقلها الاساطير القديمة والكتب التراثية. المرأة تعرضت لمختلف أنواع الاضطهاد، أحدها شيطنتها وتحميلها مسؤولية الخطئية الاولى، فالرجل بطبيعته معصوم لولا غواية المرأة التي أوقعته في الخطئية!!!.

لا شك أن علاقة الرجل بالمرأة أو الذكر بالأنثى مرة بمراحل مختلفة خلال تاريخهما المشترك، ففي العصر الأمومي كانت المرأة تتمتع بمكانة رفيعة حتى صارت آلهة تعبد، وصارت الأنوثة رمزا للخصب والحياة في الأساطير القديمة[9]. ثم خضعت الى سلطة الذكر، وراح يتحكم بها وبمقدراتها. الى درجة بات وعي المرأة مرتهنا لوعي الرجل، ضمن أطر البيئة الثقافية، والنظم الأخلاقية التي قامت على مركزية الذكر ذلك ماذكره الأستاذ الغرباوي وهو يناقش الوضع تاريخيا[10].

وقد سعى في كتاب النسوية الى تصحيح المفاهيم فان معنى كون المرأة آلهة، يقول: (فكونها - أي المرأة في العصر الأمومي - مصدرا للحياة كان سببا لعبادتها، وقدسيتها. كما هو الحال بالنسبة لعبادة البقر باعتبارها مصدرا للخير والعطاء. فألوهية المرأة تكمن في عطائها لا في إنسانيتها، وقدراتها العقلية، وعبادتها لا تعني الاعتراف بإنسانيتها بل لأنها مصدر للحياة، مثلها مثل البقرة. يتضح هذا جليلا من خلال الملاحم والرموز الأسطورية)[11]. ويضيف: (بل أن إنسانية المرأة غير مطروح أساسا، وتبعيتها للذكر أمر مفروغ منه، ضمن ثقافة العبودية، التي كانت سائدة آنذاك، والتي كانت تعيد انتاجها باستمرار، وهي ثقافة لا إنسانية تصادر المرء حريته واستقلاليته، وتجعل منه عبدا مملوكا لسيده)[12].

التأويلات الخاطئة للنصوص الدينية

تكلم الباحث الغرباوي في كتاب المرأة والقرآن[13] عن  التأويلات الخاطئة لنصوص القرآن الكريم الخاصة بالمرأة، وكيف أنها عكست صورة سلبية عنها، من وحي تلك التأويلات. فعندما نعود للكتاب الكريم نجده يتحدث عن المرأة الإنسانة، على خلاف ما هو متداول في مجتمعاتنا. فهي انسان اولا وقبل كل شيء. يجب التعامل معها على هذا الأساس. هي شريك الرجل، ورديفه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)[14]، فهما على مسافة واحدة بالنسبة للآية الكريمة، خاطبهما معا مادام أحدهما يكمّل الآخر. وقد ذكر الكتاب أمثلة عديدة عن مكانة المرأة في الإسلام. منها: (خاطب القرآن المرأة كانسان في: جميع الآيات التي خاطبت الانسان بما هو انسان فتشمل باطلاقها الرجل والمرأة، ولا تخصيص له دونها، وهي الآيات التي تتحدث عن الانسان بما هو انسان. وكذلك الآيات التي تخاطب الناس، وليس الناس سوى الرجال والنساء، بدليل الآية المتقدمة، انا جعلناكم شعوبا وقبائل. وكل الآيات التي تنص عليها كمؤمنة)[15].  فاستصغار شأنها ونزع إنسانيتها ليس مصدره النصوص القرآنية وإنما رؤية بشرية تتحكم بها عادات وتقاليد بعيدة عن روح الانسانية. مصدرها الرجل وإن كان مفسرا. رجل ينطلق من رؤية ذكورية للمرأة في تحديد حقوقها ومسؤولياتها.

كما لفت الكتاب نظر القارئ إلى وحدة الخطاب القرآني للرجل والمرأة بشكل متساوٍ في النصوصه. جميعها يتحدث عن إنسانيتهما ودورهما في بناء المجتمع[16]. وأرجع أسباب النظرة الدونية ونقصان عقل المرأة في المجتمع إلى التراث الذي نسب للنبي والصحابة روايات تنقص من إنسانيتها. غير أني أرى أن نسبتها للنبي والصحابة ليست صحيحه. لأن ما يخالف النصوص القرآنية لا يؤخذ به. القرآن أعاد للمرأة حياتها وحرم الوأد. وفرض لها نسبة من الميراث. ومنحها حق اختيار الزوج، وغير ذلك من حقوق حصلت عليها بعد نزول الرسالة المحمدية.

المرأة والوعي

ما زالت المرأة العربية بحاجة إلى ثورة تخرجها من سلطة الرجل والفقهاء ومقدساتهم. وأن تعي ذاتها وإنسانيتها قبل أن يعي المجتمع أهميتها. فهي بحاجة مستمرة الى ثقافة تنويرية تستعيد بها وعيها ودوها الانساني الذي خًلقت من أجله. فالوعي بالنسبة لفسلفة ماجد الغرباوي أمر مركزي، يعوّل عليه كثيرا، حتى ضمنه في مفهوم الفلسفة النسوية. ففلسفته قائمة على الوعي أولاً، لذا يقول في تعريفه لمفهوم النسوية والمهام التي تقوم بها: (تعريفي لمفهوم النسوية - Feminism، وفقا لمفهوم الفلسفة المعاصرة، القائمة على النقد والعقلانية، هو: أنها فلسفة تهذف إلى (تحرير وعي المرأة وإعادة تشكيله وفق رؤية إنسانية عادلة). ليكون موضوعها: (نقد مكونات الوعي وارتهانات تشكيله)[17].

ان مسألة وعي المرأة بذاتها كما يرها هي الركيزة الأهم في تصحيح النظرة إليها ووضعها في مكانها الصحيح ومكانتها كإنسان كامل، لا يعاني من نقص العقل الذكوري، فهي الإنسان الواعي الذي يسعى لبناء مجتمع إنساني سليم التفكير لا يستطيع الفقهاء والحكام التسلط عليه وغبن حقه. ولا نغالي إذ قلنا أن ثورة تشرين عام 2019 كانت صورة واضحة لوعي المرأة العراقية لمكانتها، وخروجها من سجون الفقهاء كان نتاج ذلك الفكر التنويري الذي يملكه وينشره التنويري السيد ماجد الغرباوي. لكن للأسف رأينا كيف عاد العراق إلى النظام الديني المتطرف الذي أعاد المرأة العراقية إلى الهاوية بعد أن كانت قد حازت الصفوف المتقدمة في الفكر والريادة في المحافل الدولية العلمية والسياسية.

هذا التراجع سببه العودة إلى (النظام الأبوي) الذي تتبناه الحركات الدينية. والتي تجعل من المرأة كائن يثري البشرية بالنوع الإنساني فقط من خلال وظيفتها الإنجاب مما يجعلها بحاجة إلى قوامة الرجل أو التسلط عليها بحسب المفهوم الخاطئ للنصوص الدينية التي جعلتها إنسان شأنها شأن الرجل (وفضل بعضهم على بعض) كل باجتهاده.

يختم الأستاذ ماجد كتابه من خلال تساؤل المحاور عن رأيه في حجاب المرأة، كانت التفاتة جميلة أنه وصف الزي والملبس بقوله (يشكّل الزي مائزا يفترق به الإنسان بمعية العقل والإدراك عن الحيوان)[18].  إذ لم يشأ آدم وحواء أن يكونا عراة كالحيوانات وذلك كما يرى بداية الإدراك العقلي للبشر بعد خروجهم من الجنة، ففي سورة طه: (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)[19]. ثم يعود إلى غطاء الرأس ليبين أنه يمثل هوية لمن ترتديه. على اعتبار أن الأزياء تمثل هوية الإنسان كفرد إذ أن الأزياء عند الشعوب لا تتشابه بل يتمايز الناس في أزيائهم، وكون الحجاب زي يمثل المرأة المتدينة سواء أكانت يهودية أو مسيحية أو مسلمة، فتعاليم الدين تدعو إلى حجاب المرأة. فانتقل في الإسلام من مجرد كونه يدعو إلى الاحتشام إلى شعيرة دينية غالبا يفرضها رجال الدين والقبيلة بالقوة مما يجعلها تشعر بالتكبيل والقيود والنفور منه، اذ نقل الفقهاء قضية الحجاب من مجرد زي إلى علامة انتماء سياسي أو ديني أو مناطقي، وتبقى مسألة التمسك بالحجاب من عدمه يعود إلى وعي المرأة بالزي الذي ترتديه.

رأيت في فكر التنويري الغرباوي في كتابه المرأة والقرآن نظرة، دبلوماسية، نحو تعدد الزوجات الذي رفضه الكثير من التنويريين، فإن صلاح المجتمع ونظافته من الفساد أكثر صلاحا حين يسمح بتعدد الزوجات . إلا أنه أطلق حكما قاسيا جدا على الرجال ومن يسمح بتزويج المرأة غصبا فاعتبره من الزنا، وأنا أرى أن ذلك صحيح جدا ونحن نرى الآن كيف انتشر تزويج القاصرات غصبا لأسباب اقتصادية والمتاجرة بجسد القاصرة لا يمكن أن يعد إلا من باب الزنا.

الإسلام ثورة، هذا التوصيف أطلقه الكثير من المفكرين من أطلق عليهم صفة علماني أو تنويري، إلا أنني لا أرى أن الإسلام ثورة كون الثورات تتآكل نتائجها بانتهاء رجالها وأثارها لتأتي بعدها ثورات أخرى تصحح المسار، بينما لا يكون ذلك في الدين الإسلامي لأسباب عدة ربما يكون لي شرف مناقشتها مع الأستاذ الغرباوي.

لقد لفت المفكر الغرباوي الأنظار الى مسألة قدسية النصوص القرآنية، وما يترتب على من يؤمن أو لا يؤمن بقدسيته، وكيف تتبدل زاوية النظر: (ثمة من يعتقد بمرجعية وقداسة القرآن مطلقا، في قبال من ينفي عنه ذلك. وبالتالي فزاوية النظر تؤثر في فهم النص بين التأويل والنقد. لكن الجميع يعتقد ان القرآن نص متعال في نسقه الكلي، بلاغيا او في بنائه النصي، او من خلال وسطيته وعقلائيته، او اخباراته التاريخية والعلمية، غرائبيته وتشريعاته، وأشياء اخرى كثيرة. وهذا ليس رأيا شخصيا. وعليه نحن نتعامل مع النص بما هو نص تاريخي، دون انحياز لأي من زاويتي النظر، سواء كان وحيا او تأليفا .. فهذا لا يهمنا حاليا، الا في سياق الأسئلة)[20].

يبقى هدف المرأة الواعية أن تعيش إنسانة حرة، لايقمع أحد شعورها الإنساني ولا يعيدها إلى مفهوم (العبودية)  وإنما هي (خليفة الله في أرضه) شأنها شأن الرجل.

إن قضية التنوير التي يتبناها الأستاذ الغرباوي لا تعني عداءه للدين أو رفضه التام لما ورد فيه، بحسب مايظنه المتشددون أو( الراديكاليون المتطرفون) من أن التنوير يدفع نحو إنكار ما جاءت به الأديان. وأهم ماحث عليه أن التنويري عندما يتصدى لقضية نقد القضايا التي تمس مقدسات الناس لابد وأن يكون ملما إلماما تامة بما يقرأ ولديه كل وسائل النقد وآلياته.

***

د. تماضر آل جعفر

بغداد 18/رمضان/ 1445هـ

 .........................

[1] - محمد علي، د. محمود، الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، ودار الوفاء، الاسندرية – مصر، 2021م

[2] - المرأة والقرآن.. حوار في اشكاليات التشريع، حوار د. ماجدة غضبان مع ماجد الغرباوي، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، والعارف للمطبوعات، بيروت لبنان، 2015.

[3] - المصدر نفسه، ص 16.

[4] - الفلسفة النسوية، مصدر سابق، ص 15.

[5] - المصدر نفسه، ص 16.

[6] - المصدر نفسه، ص 152.

[7] - المصدر نفسه، ص 27.

[8] - المصدر نفسه، ص 17.

[9] - المصدر نفسه، ص 20.

[10] - المصدر نفسه، ص 21.

[11] - المصدر نفسه.

[12] - المصدر نفسه.

[13] - المرأة والقرآن.. حوار في إشكاليات التشريع، حوار د. ماجدة غضبان مع ماجد الغرباوي، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2015م.

[14] - سورة الحجرات، الآية: 13.

[15] - المرأة والقرآن، مصدر سابق، ص 13.

[16] - المصدر نفسه، ص 12 – 13.

[17] - الفلسفة النسوية، مصدر سابق، ص 9.

[18] - المصدر نفسه، ص 206.

[19] - سورة طه، الآية: 121.

[20] - المرأة والقرآن، مصدر سابق، ص 9.

....................

* مشاركة (52) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

ما قدَّمهُ المفكّر المستنير الأستاذ ماجد الغرباوي للثقافة العربيَّة الفاعلة من إضاءات ، وللمثقفين الحقيقيين من رعاية عجزت عنه مؤسسات حكوميَّة كبرى، فقد جعل من صحيفة المثقَّف التي يرأس تحريرها منبراً للوعي الفكري، وللثقافة الإنسانية المحصَّنة، سواء أكان ذلك في الشعر، أم النقد، أم في التشكيل الفنّي، أم في السرد الباهر، أم في غير ذلك.

وفضلاً عمَّا كتب من أسفار مهمّة في الفقه، والعقائد، وما إليهما من مقاصد إسلاميّة، فقد اضطلع بإعداد كتبٍ تكريميّة تناولت حيوات، وأثار العديد من المبدعين العراقيين ممّن كانت لهم بصماتهم في الحراك الثقافي الموضوعي .

ولأنني في وضع صحّي مُتعِبٍ جدّاً، فأرجو عفوه، وعفو القراء الكرام عن تقصيري في هذه  الأسطر عن ردِّ بعض جميله، فقد رعاني خير رعاية، واحتضن مقالاتي النقديّة، بأن نشرها بإخراجٍ جميل، وحروف ملوَّنة، فإليه أحني هامتي عرفاناً، وتقديراً، ومحبَّةً .

***

د. عيد الرضـا عليّ

كاردِف – بريطانيا

.....................

* مشاركة (51) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

مقدمة: من نافل القول ان نعرّف الأستاذ ماجد الغرباوي لقارئ المقال، فهو غني عن التعريف لمن قرأ له كتابا من كتبه العديدة، سواء المطبوعة أو المتاحة على الإنترنيت. ولكن للضرورة التي يقتضيها موضوع المقال أبحنا لأنفسنا ذلك.

الأستاذ ماجد الغرباوي؛ باحث مثابر دأب الحفر في طبقات التراث الإسلامي، التي ران عليها التحجر والجمود، في عملية شاقة، بحثا عن حقيقتها ومدى صدقيتها، وفق منطق العقل والعقلانية، وهي عملية نقدية تتطلب خبرة في التراث وطرق تناوله. لهذا يقول وهو يستعرض صعوبة تحدي التراث الفقهي باعتباره جزءا من التراث بشكل عام، لقوة رسوخه وتداخله مع إشكاليات أخرى: "... التراث الفقهي جزء من إشكالية أوسع، تخص الموقف من التراث بشكل عام، وهي أشكالية ملتبسة جداً، وقد دار حولها جدل واسع، واختلف الموقف منها. فالتراث يمثل جزءاً اساسيا من هوية الامة، لا يمكنها التخلي عنه، بل ولا إتخاذ موقف محايد منه، لأننا أمة تراثية، لا تعيش خارج التراث"[1]. وهو هنا يقصد التراث الفقهي على وجه خاص، وليس عمومه. ولا شك أنه جهد كبير، فالتراث الفقهي تراث واسع ومتشعب يحتاج الى كفاءة لنقده وتمحيصه. التراث له أدواته القوية التي يستخدمها، لكبح حركة المجتمع وتعطيل طاقته وقدرته وشلّ وعيه، فيتطلب نقده أدوات أقوى وأقدر على بيان حقيقته. لهذا يخلص للقول بجرأة وشجاعة، خالية من التحدي الكبير، بل كما عرفناه باحثا عقلانيا في رؤيته للواقع، يقول "فنحن بحاجة إذاً إلى إعادة تنظيم علاقتنا بالتراث واتخاذ موقف واضح منه، يحررنا من سلطته واستبداده وسطوته، ويحفظ له مكانته التاريخية"[2].

يثير هذا الطرح سؤالين، الأول: هل هناك تداخل بين التراثين، الفقهي، والثقافي والإجتماعي، بحيث من الصعب الفصل بينهما؟ أم هناك ما يميز كل واحد من هذه الأقسام؟.

والسؤال الثاني: كيف يمكننا الحد من استبداد التراث مع الحفاظ على مكانته التاريخية في آن واحد؟ (سواء كان التراث الفقهي أو الثقافي الإجتماعي)؟. وأسئلة كثيرة تفترع على هذين السؤالين.

يذكرني وضعنا في هذه الإشكالية، بكهف إفلاطون، حيث يختبئ أناس في ظلام الكهف، وعندما يرون الشمس خارج الكهف، يحسبونها ناراً متقدة تحرقهم، إذا حاولوا الخروج والإقتراب. ولذلك قلنا ان الأستاذ الغرباوي باحث في التراث بوعي معاصر، تدور كتاباته حول الوعي، يؤكد ويراهن عليه دائما.

ظهرت كلمة الوعي في تعريفها البسيط عند جون لوك: "بأنه الإحساس بما يمر بعقل الإنسان". وأما الوعي في نظر ماجد الغرباوي الذي يعول عليه في آرائه التنويرية فهو يعني: (إدراك الحقيقة، وتشخيص الواقع، وتحديد الأولويات، وتمييز الالتباس واكتشاف التزوير. فالشعوب الواعية شعوب يقظة متبصرة.. والإنسان الواعي لا يتهيب الممنوع، وإنما يتوغل في الشك حتى يفهم الواقع ولا تضلله الشعارات، ولا يستغل، وإنما هو إنسان مرهف الحس، قلق، متوثب، يصغي ليدرك ويناقش ليفهم، ولايتحرك إلا عن قناعة ورؤية واضحة[3]. ويقول في موضع آخر: (والوعي يعني إدراك الواقع وفقه ملابساته وتشخيص أخطائه بعد تفكيك مكوناته ومحاكمة أنساقه. والشخص الواعي مرهف الحس، شديد الحساسية أزاء التزوير والمغالطات، فلا يتكيف مع الواقع المزوّر، بل يعيش في حالة من الغليان والثورة الداخلية ضد القيم المصطنعة، ويتطلع باستمرار إلى التجديد والإصلاح. أو يعيش حالة إغتراب داخلي، تعيق حركته)[4]. بل أنه يرتهن النهضة بالوعي، حينما يقول: (عندما ننقب في ماضي الحضارات المتطورة بحثا عن عومل نهوضها سيتمثل أمامنا الوعي في صناعة نهضتها، كما سيتضح أن التطور الحضاري يبدأ دائما من أول بوادر الوعي، بل إن صدقية التطور على أرض الواقع، إنما يتحقق إذا أتيح للوعي أن يسود المفاصل الحياتية في المجتمع)[5].

من جانب آخر، ينظر الفلاسفة، وعلماء النفس، وعلماء الأحياء، أو علماء الإجتماع الى الوعي بطرائق متمايزة، وكذلك تفعل العامة الذين يسمعون ليلاً ونهاراً أن بعض المسائل فشلت أو أنها تفشل في دخول "وعيهم"، ولابد من أنهم يتساءلون فيما إذا كان الوعي هي التسمية النخوبة المثقفة، التي تدل على حالة "اليقضة " أو الإنتباه أو ببساطة على وجود عقل"[6].

إخفاقات الوعي

في كتاب (إخفاق الوعي الديني، حوار تداعيات النكوص الحضاري)[7]، الذي هو كتاب حواري، يتكلم عن الوعي ودوره في النهضة المرتقبة، وينسب للوعي تقدم ونكوص الأمة بالدرجة الأولى ثم تأتي العوامل الأخرى. بدءا هناك ملاحظة هامة جدا، وأنا أتناول في هذه الفقرة طريقته في الحوار، حيث يسمي أسئلة المناقشة الحوارية بـ (بَوصلة المتحدث) وهذا التعريف العلمي يحسب له. فأسئلة المحاور تعتبر بوصلة تكشف عن مستواه العلمي والثقافي، وقدرته على الحوار وطرح الأسئلة. يقول وهو يرد على أحد الأسئلة: (تبقى الأسئلة بوصلة المتحدث)[8]. فالغرباوي بامكانه اكتشاف محاوره من خلال اسئلته التي تكشف عن مدى وعيه للسؤال.

في القسم الأول من كتاب إخفاقات الوعي الديني، طرح الأستاذ سلام البهية السماوي، اسئلة في غاية الأهمية، غطت جوانب فكرية متنوعة، مثل: التفاعل الحضاري، الفلسفة الأسلامية، العلاقة مع الغرب (صراع أم حوار)، التطرف الديني، القرآن والتطور الحضاري، التخلف الحضاري واسبابه، النهوض الحضاري، إشكالية الفكر التكفيري، اليقين السلبي، التجديد ضرورة حضارية، من أين يبدأ التجديد، وغير ذلك. ومن كل سؤال تفرعت اسئلة، ذات صلة به لإغناء الحوار. وهنا استشهد ببعض الأسئلة، ورد الغرباوي عليها، لعلاقتها بموضوع الوعي، عنوان هذا المقال:

- لنأخذ موضوع الفوارق الحضارية بين الغرب والعالم الإسلامي: يسأل السائل: في رأيك، هل تعتبر الحضارة الإسلامية نداً للحضارة الغربية، ولو في بعض جوانبها؟ ولماذا؟. فجاء جواب الغرباوي واقعيا وموضوعيا، حينما قال: (النديّة تحتاج إلى تكافؤ بين الطرفين. أو يكون الفارق الحضاري من الضآلة ما يسمح بالتناد بينهما. فهل تعتقد أن واقع المسلمين الآن يصلح أن يكون ندا للحضارة الغربية؟)[9]. والجواب يكفي شاهدا على وعي المتحدث للفارق الحضاري بيننا وبين الغرب، ويدرك جيدا هناك شروط للتكافؤ غير متوفرا حاليا في حضارتنا، لذا يقول: (لا أحد يرى ذلك حتى المسلمين أنفسهم)[10].

- وللنتقل الى سؤال آخر، يطلب السائل فيه تعريف مفهوم (اليقين السلبي)، الذي طرحه الباحث الغرباوي في كتابه إشكاليات التجديد وأشار له في هذا الكتاب. نرى الغرباوي يبدأ أولا بتعريف مفردة اليقين فيقول هو نوع من الإيمان، ثم يتوسع في الجواب، ويضرب أمثلة لتوضيحه، فيقول في تعريفه: (اليقين السلبي، هو حزمة جزميات وقناعات راسخة ؛ توجه وعي الإنسان وتضبط سلوكه وحركاته ومشاعره)[11]. ويضرب أمثلة على ذلك كايمان الفرد بقوى خارقة، يستعين بها لتحقيق مآربه، دون سلوك الطرق العلمية والطبيعية، كتسخير الجن وتحضير الأرواح[12]. فتكون النتيجة أن "الفرد يتقاعس عن العمل وطلب الرزق؛ بانتظار أن تقوم الجن بعمل خارق تلبي من خلاله جميع طلباته. أو إيمان الشخص بقدرة الأولياء والصالحين على معالجة المرض، وقضاء الحاجات، فيكتفي بأعمال تقربه لهم بدلا من مراجعة الأطباء. وسلسلة اليقينيات، كما يقول تتناسل في ثقافتنا، لا تنتهي، ولا تقف عند حد، (ولعل أخطرها مجال العقيدة والفكر، حينما يعتقد الإنسان انه على حق مطلقا وغيره على باطل مطلقا. وتارة الباطل يعني الكفر، مما يسمح بتكفير الآخر، وربما استباحة دمه كما يفعل المتطرفون الاسلاميون، من اتباع الحركات التكفيرية)[13].

وبعد أن عرّف الأستاذ ماجد الغرباوي اليقين السلبي؛ راح يبين ضده، أي اليقين الإيجابي، فيقول: (اقصد باليقين السلبي: "ما يعيق الفعل الحضاري من جزميات وقناعات راسخة". ويقع على الضد من اليقين الإيجابي. فايمان الفرد بوجود خالق ويوم حساب بعد الموت يعد يقينا ايجابيا لانه يعزز التقوى ويعضّد وازع الخوف، ويحول دون ارتكاب المحرمات والموبقات)[14].

ودائما تجد الوعي حاضرا في ردوده وأجوبته فهو عندما يفسر ظاهرة اليقين السلبي ومخاطرها يربط ذلك بالوعي الذي هو محور كتاب إخفاقات الوعي الديني، فالمهم لديه عدم تضرر وعي الإنسان كي لا ينزلق الى متاهات الظلام الطقوسي، يقول: (لقد افرز لنا اليقين السلبي نمطا من السلوك، ارهق وعي الفرد والمجتمع، وصادر حريته وارادته، وسخر كل امكانياته، من أجل طقوس وتقاليد ما انزل الله بها من سلطان. بل تمادى الخطاب الطقوسي القائم على اليقين السلبي، ففضل الطقوس على العمل الصالح)[15]. ويضيف: (ولعل من اسباب هذه اليقينيات... سذاجة الوعي)[16].

وهنا نقطة جديرة بالانتباه أن الأستاذ الغرباوي لا يفرق بين شخص وآخر في حوارته، سواء من اتفق مع رأيه أو خالفه. كلاهما على قدم المساواة، بغض النظر عن علمه او مستواه الثقافي، وهذه صفة العالم المتواضع. اضرب أمثلة على ذلك من حواراته على منصة التواصل الإجتماعي (الفيس بوك) والتي دارت بينه وبين المعلقين على منشوراته. أقتبس مقتطفات منها بدون ذكر الأسماء كشاهد على جديته وتواضعه، ومدى اهتمامه بمسألة الوعي بالذات. المنشور: (قداسة الرموز الدينية، تدفع بإتجاه أسطرتهم والإرتفاع بهم فوق البشر ودون الإله). بتاريخ 6-9-23.

فكتب أحد المعلقين: التقديس يتناسب طرديا مع الجهل.

- رد عليه الغرباوي: معادلة صحيحة ولكن ليس مطلقا، وأحيانا لا فرق بين الإنسان الجاهل العادي مع غيره من ذوي الألقاب العلمية والفلسفية الكبيرة، المسألة مسألة وعي ومسألة تحرر داخلي. فهو يدور حول الوعي دائما.

- فيرد المعلق: نعم أستاذي.. لم أقصد الجهل وعكسه صاحب الشهادة، القصد الجاهل الذي لا يملك وعيا ويسير مع الراي الجمعي بغض النظر عن مدى تعليمه.

- يرد عليه: " نعم يا صديقي أوافقك الرأي "

لاحظ كيف أوصل الأستاذ ماجد الغرباوي فكرته للمعلق وأقنعه ان الوعي هو المعوّل عليه في الفهم الصحيح والتحرر من الجهل.

- ومعلق آخر كتب: أعتقد أن رجال الدين هم السبب المباشر في التقديس الذي يصل حد المغالاة.

- ورد عليه: نعم يتحملون القسط الأكبر، لكن تعطيل العقل بحجة القداسة سبب رئيس هنا.

هنا ركز الأستاذ ماجد الغرباوي بشكل اساسي على تعطيل العقل، وللإمام علي عليه السلام، قول في هذا الموضوع مذكور في نهج البلاغة: "أعوذ بالله من سبات العقل" فتعطيل العقل او استقالته هو سبات، يفقد معه العقل قدرته وفاعليته.

وأطرف تعليق قرأته يأتي في بدايته على شكل عتاب مازح:

- استاذ أبو حيدر على كيفك ويانه.. ثم يسترسل في نص أدبي طويل، عن الجذر الإنساني في الحالة الحسينية.

فيرد عليه الاستاذ الغرباوي بادب وكياسة، فيقول:

- لم يشر المنشور الى اي مصداق، لماذا افتهمت هذا منه، لا أدري.

وعندما يستمر المعلق بإسلوب إنشائي عاطفي.. لا يرد عليه، حرصا ألا يخرج الحوار عن صلب الموضوع، ويتحول الى سجال أدبي، أو جدل سوفسطائي عقيم، وهذا ما لا يريده الأستاذ الغرباوي.

أو مثلا يطرح أحد المعلقين سؤالا على الأستاذ الغرباوي، ليس له صلة بموضوع المنشور ويطلب منه جوابا عليه، فيقول:

- لو طُلِبَ منك أن تصف الحسين بن علي عليهما السلام، كيف تُقدمه لقرائِك الذين ينعتونك بالتنويري.

يجيبه بأدب جم، ولا يلتفت لكلمة ينعتونك.

- أجيبُك لو كنتُ ذكرته بالمنشور، تحياتي.

التسامح والوعي

قرأت (رسالة في التسامح) لـ جون لوك، ترجمها عن اللاتينية الدكتور عبد الرحمن بدوي، مركز دراسات فلسفة الدين. وللأستاذ ماجد الغرباوي قرأت كتاب (التسامح ومنابع اللاتسامح، فرص التعايش بين الأديان والثقافات). والكتابان يبحثان في نفس الموضوع، مع اختلاف الفترة الزمنية، فبينما يقتصر التسامح لدى لوك على الديني، نرى الغرباوي يوسع دائرته لتشمل السياسي والاجتماعي والقومي، والإتني. ليكون بذلك تسامحا انسانياً. وقد استشهد بحديث نبوي شريف "كلكم من آدم وآدم من تراب" وآيات قرآنية ليؤكد وحدة العنصر البشري في الخلق[17].

الحديث عن جون لوك وتحوله من اللاتسامح الى مبدأ التسامح، كان هو الدافع الذي حدا بي لكتابة هذه الفقرة. إذ نجد لوك يتحول من النقيض الى النقيض في هذه المسألة، ذلك أنه كتب في عامي 1661 -1662 رسالتين عن التسامح اكتشفتا ضمن مجموع مخطوطاته، وخلاصة رأي لوك في هاتين الرسالتين هي أن كل الأفعال المستوية، مهما كان نوعها، تقع تحت سلطة من وُكِّل اليه التصرف في حرية وحياة كل فرد من أفراد الرعية، اي الحاكم المدني فله سلطة مطلقة على كل أفعال الناس في المجتمع، وعليهم ان يطيعوا القوانين التي يسنها الحاكم حتى ولو كانت خاطئة. يرى لوك في هاتين الرسالتين ان التسامح هو مجرد اسم آخر للعصيان والفوضى. وهنا يعطي لوك الحق المطلق للحاكم على الرعية، ربما كان ذلك بسبب الصراع بين السطلتين الدينة المتمثلة بالبابا، والسلطة الدنيوية المتملثة بالملك. لكن جون لوك لم يستمر على هذا الموقف طويلا، بل نجده في سنة 1667 يكتب (بحثاً في التسامح) لم ينشره في حياته، ونُشر البحث في مجلدين سنة 1876 بدأ يميل الى التسامح، فيقول "ينبغي للحاكم المدني ان يتدخل في ما يؤمن السلام المدني وممتلكات رعيته" ثم يخطو خطوة أبعد انه ليس للحاكم المدني اي سلطة على الرعية فيما يتصل بالدين، لأن أمور الدين تخص الفرد والله فقط[18]. وبهذه الفقرة عن مبدأ التسامح عند جون لوك، في كتابه (رسالة في التسامح)، نكتفي لنتابع موضوع التسامح مع ماجد الغرباوي في كتابه: التسامح ومنابع اللاتسامح.

يعتقد الغرباوي أن روح التسامح تتضمنها جوهر الأديان، وإنْ لم تنص على المفهوم، لكن روحه تؤكده نصوص الكتب المقدسة، فـ(اننا امام مفاهيم "كالتسامح والتعددية" ليست غريبة في روحها عن اصول ديننا وعقيدتنا، وانما اقصتها القراءات الاحادية والفهم المتحيز للدين)[19]. إما اللاتسامح فإنه بعيد عن روح الأديان المتسامحة، باستثناء بعض الحالات التي لها تفسيرها الموضوعي، غير المخل بقيم التسامح التي تدعو لها الاديان بصيغ مختلفة، لكن من أين جاءت قيم اللاتسامح؟ ما هي مناشؤها؟. وهذا ما قام به الأستاذ الغرباوي؛ حيث تقصى منابع اللاتسامح، ودعا الى تجنيها ومكافحتها تمهيدا لقيم التسامح: منطق العنف، الولاء القبلي (العصبية)، سلطة القيم، الأستبداد السياسي والتطرف الديني.

منظومة القيم تتقاسمها العشيرة والدين والموروثات الشعبية، وكل قيمة أخلاقية تنتمي في مرجعيتها الى واحدة أو أكثر من المصادر المذكورة، فهي اما ذات مرجعية دينية أو وضعية سياسية أو اجتماعية معينة أو موروثات شعبية متراكمة، وهذه تنتج مقاسات للتفاضل وأسس التعامل مع الآخرين، كالتسامح والتعصب، ورفض الآخر وتهميشه هو جوهر الأستبداد السياسي. يقول الباحث في هذا الصدد: (التسامح نسق قيمي واخلاقي يراد احلاله محل النسق القيمي والاخلاقي الذي ما زال يدير حركة المجتمع ويحدد اتجاهاته، وهو نسق وليد منظومة قيم موروثة تشكلت عبر ماض سحيق، ظل الشعب يتوارثها ويتعهدها ويلتزم بها ويحافظ عليها. وطبيعة هذه القيم انها تتقاطع مع قيم التسامح، لانها تكرس صفة العصبية والرفض والاقصاء. فلا يمكن للتسامح ان يكون فاعلا مؤثرا في مجتمع ما زال يتعهد تلك القيم الموروثة ويلتزم بها. أي ما زال يتمثلها قيما اخلاقية يستمد منها وجوده ومكانته داخل الوسط الذي يعيش فيه. ولا يمكنه التخلي عنها او التنكر لها، لان في ذلك – كما يعتقد - مصادرة لموقعه وقيمته التي هي رأس ماله الاجتماعي، وعلى اساسها يقيم علاقاته ويتخذ مواقفه من جميع القضايا، بل ويعتقد انها اساس وجوده)[20]. ويضيف: (وتتعدد منابع اللاتسامح تبعا لطبيعة المجتمع ثقافيا وفكريا وعقيديا، وايضا تبعا لمستوى حضور الدين ومدى تمسك المجتمع بالقيم الدينية والاجتماعية. لكن ثمة منابع تعد الاهم بينها، وهي المنابع التي تفضي الى التعصب الديني والقبلي والسياسي، وما ينتج عنها وما يعمق وجودها ويركز فاعليتها من مفاهيم وقيم)[21].

وقد استشهد الأستاذ الغرباوي بآيات كثيرة من القرآن الكريم، لتأصيل مبدأ التسامح، بعد أن تكلم تفصيلا عن منابع اللاتسامح واحدة بعد أخرى، كشف عن جذورها، وبيّن أبعادها ومخاطرها وتداعياته. أما قيم التسامح فهي قيم انسانية، نابعة من الرحمة الإلهية. وأما ما يُنعت به الاسلام من تطرف وإرهاب فهي آراء شابها الكثير من التحامل، على الاسلام وطمس مقاصده الإنسانية، نتيجة لتاريخه الذي طغى عليه العنف وسفك الدماء، وهو تاريخ السلطة التي تمادت في سفك الدماء باسم الدين لكن للاسف الشديد حُسبت على الاسلام. وإلا فآيات التسامح التي أدرجها في الكتاب أكثر من 60 آية، غيبها النسخ، وعطل فاعليتها. جميعا آيات رحمة وتود ومغفرة وتسامح مع الآخر، كما يقول الباحث الغرباوي في كتابه التسامح ومنابع اللاتسامح[22].

السياسة والوعي

ظل الباحث ماجد الغرباوي، يتابع مسألة الوعي، تارة يراهن على الوعي وأخرى ينسب المظاهر السلبية والنكسات الحضارية الى رثاثة الوعي، فهو يتوجس كثيرا من الوعي السلبي، ففي كتابه: (جدلية السياسة والوعي.. قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق)[23]، راح يستعرض مشاهد السلطة في العراق، من خلال تتبع وعي الشعب عبر مواقفه من المواطنة، الاستعمار، المليشات، القيادة، الاحزاب السياسية، المرجعية الدينية وغير ذلك. وقد عقد المحور الثالث لموضوع: أزمة الوعي السياسي، كما خصص المحور السابع إلى: الوعي الحضاري. فالكتاب يدور حول الوعي السياسي بالدرجة الأولى.

ولنأخذ مشكلة المحاصصة الطائفية، التي نختتم بها المقال، وتلك ابرز مشكلة ما يزال يعاني منها الشعب العراقي، ترقى للمعضلة او المرض العضال، يتعمق الأستاذ ماجد الغرباوي في الحفر ليصل لجذورها الضاربة في عمق التاريخ، فهو لا يعتقد أنها حدثا وقتيا طارئاً، أوأنها ستزول بمجرد اتفاق بين الكتل السياسية، التي تتصارع على الحكم، وعلى اساس هذا التحليل العلمي لا يصدر حلولا استهلاكية جاهزة للتطبيق، لا تلامس الواقع المتأزم في العراق، والتحولات السياسية التي ساهمت في خلقه في مرحلة من أصعب واخطر المراحل التي يمر بها العراق، منذ عام 2003 وحتى الآن، وإنما يرى (أن ظهور الطائفية في زمن الحرية يفضح عمقها وتجذرها، ويكشف عن وجود عوامل خفية كانت تعمل على تغذيتها وكبتها في آن واحد، وما لم نقف على تلك الأسباب لا نستطيع فهم الظاهرة وكيفية معالجتها والتخلص منها)[24]. وهذا ليس مجرد رأي شخصي، وإنما استقراء واستنتاج، طريقة علمية، هي أحد طرق البحث في علم الإجتماع، عند دراسة مشكلة اجتماعية ما.

ويستنتج الباحث "أن العراق برع في قدرته على التعايش السلمي بين المذاهب والأديان المختلفة، إلا ان ألإستبداد السياسي كان السبب الأساس في تسرب شحنات سالبة الى الشخصية العراقية، وكان المصدر في تغذية الحس الطائفي"[25].

بينما يجعل الوردي من البداوة المؤثر الأهم في إزدواج الشخصية العراقية[26]، يقول "ان العصبية المحلية تنمو في نفس الطفل، فيتعصب لأبناء محلته، وقد تتحول هذه العصبية المحلية الى عصبية عشائرية او طائفية او دينية، أو ما اشبه، وهكذا ينشأ العراقي وهو شديد التعصب لدينه وطائفته، بينما هو لا يعرف من واجبات الدين شيئاً"[27].

وبعد كل هذا التحليل والاستنتاج العلمي يقترح الغرباوي؛ الحل المناسب لمشكلة الطائفية، التي انتجت الفساد المالي والإداري، وبددت ثروات طائلة كان العراق بأمس الحاجة اليها للإعمار، يقول الأستاذ الغرباوي في معرض اقتراحه لحل عملي واقعي ما يلي:

(.... ليس في الكلام تحريض، او تكريس للخطاب الطائفي وإنما هي قراءة موضوية للمسألة الطائفية وفهم لها في ضوء خلفيتها التاريخية، واسباب تبلورها وتشكلها، من أجل الوصول الى تسوية ناجحة، مادامت لم تخرج عن السيطرة، وما زالت تتحرك على مستوى حقوق تاريخية مهضومة)[28]. ويضيف:  يمكن التخلص من الطائفية كمعوق من خلال الإستجابة لها وإشباعها (تحليل نفسي) وأول خطوة على الطريق الصحيح هو وعي الواقع. والقبول بالحققية، (لم يقل قبول الواقع) والإستجابة للتنوع الموجود على الساحة العراقية، كي يشارك الجميع في رسم مستقبل بلادهم[29].

هذا ملخص مبتسر لا يغني عن قراءة الكتاب، للتوسع في الوقوف على طروحات الأستاذ الغرباوي التي اشاد العديد من الكتاب الأكاديميين في هذا الحقل المعرفي، أعني دراسة التراث وتداعيات تأثيره على تاريخنا المعاصر.

وبذلك قدم لنا تحليلا سياسيا تاريخيا، وليس براغماتيا نفعيا، يصب في مصلحة جهة معينة. الغرباوي ينأى بنفسه ان يحابي أو يصطف مع جهة معينه.

عن الإمام علي بن ابي طالب (ع):

"لا يقيم أمر الله سبحانه وتعالى إلا من لا يصانع؛ ولا يضارع؛ ولا يتبع المطامع"

***

صالح البياتي – أديب وكاتب / أستراليا

......................

[1] - الغرباوي، ماجد، التسامح ومنابع اللاتسامح.. فرص التعايش بين الاديان والثقافات، الحضارية، بغداد – العراق، والعارف للمطبوعات، بغداد – العراق، 2008م، ص 25.

[2] - المصدر نفسه.

[3]- - الغرباوي، ماجد: إشكاليات التجديد، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، ط3، 2017م، ص 35.

[4] - الغرباوي، ماجد، الهوية والفعل الحضاري، مصدر سابق، ص 89.

[5]- المصدر نفسه.

[6] - الإحساس والمعرفة والوعي، كيف تصبح العقول واعية ص 107 - 108، أنطونيو داماسيو ، ترجمة د. عامر شيخوني ، الدار العربية للعلوم ناشرون ط / الأولى 2022.

[7] - إخفاقات الوعي الديني.. حوار في تداعيات النكوص الحضاري، حوار سلام البهية السماوي مع ماجد الغرباوي، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2016م.

[8] - المصدر نفسه، ص 78.

[9] - المصدر نفسه، ص 18.

[10] - المصدر نفسه.

[11] - المصدر نفسه، ص 59.

[12] - المصدر نفسه.

[13] - المصدر نفسه، ص 60.

[14] - المصدر نفسه، ص59.

[15] - المصدر نفسه، ص 61.

[16] - المصدر نفسه.

[17] - التسامح ومنابع اللاتسامح، مصدر سابق، ص 119.

[18] - جول لوك، رسالة في التسامح، ترجمها عن اللاتينية الدكتور عبد الرحمن بدوي، اصدار مركز دراسات فلسفة الدين، ص 41-44 .

[19] - أنظر كتاب: الغرباوي، ماجد، التسامح ومنابع اللاتسامح، مصدر سابق، ص 22.

[20] - المصدر نفسه، ص 25.

[21] - المصدر نفسه.

[22] - المصدر نفسه، ص 143-149.

[23] - صدر عام 2016م، عن المركز العلمي العراق – بغداد.

[24] - المصدر نفسه، ص 163.

[25] - المصدر نفسه.

[26] - مقاربة في تحليل الشخصية العراقية بين الغرباوي وأستاذي الدكتور علي الوردي، والفرق بينهما ان الوردي يركز على الموثر القبلي في الصراع بين البداوة والتحضر، في كتابه (شخصية الفرد العراقي، بحث في نفسية الشعب العراقي على ضوء علم الإجتماع الحديث)، بينما يرى الغرباوي للمؤثر السياسي التأثير الأكثر.

منشورات دار ليلى – لندن، الطبعة الثانية 2001

[27] - المصدر نفسه، ص 50.

[28] - المصدر نفسه، ص 166.

[29] - المصدر نفسه، ص 164- 166.

........................

* مشاركة (50) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

لست مبالغا بالقول، ان الاستاذ ماجد الغرباوي  موسوعة ممتعة تشرح الأفكار الفلسفية بصورة غاية في البساطة، وأكثر ما يميزها هو الاستخدام المبدع للأشكال الفلسفية  وشرح مفاهيمها الملتصقة بالحياة،  وبذلك جذب القارئ  له، بأسلوبيته الممتعة، وشخصيا، اثق بقدرته الشخصية على التفكير الفلسفي بعقلانية، مؤكدا قول أبي الفلسفة الفرنسية رينيه ديكارت (1596 – 1650) " أنا أفكر، إذن أنا موجود"  فالشك  الوجودي، ينطلق من الشك نفسه، المبني على النهج الفلسفي القادر على محاكاة الاشياء، والتفكير في سيرورتها، وبذلك نصل الى الجواب المنطقي، وهو ان الشخص الذي يفكر يجب أن يكون موجوداً، وهذا ما يشير اليه  دوما الاستاذ الغرباوي في كتبه ومقالاته.. حيث يوضح فيها أهمية الفلسفة وحاجتنا إليها..

قراءاته في الفلسفة، وفي العطاء  الثر الذي يتمثل في موقعه الاعلامي الرصين "المثقف"  يؤكد ان له قابلية حياة دائمة، وهو يسكن ذاكرته بشكل عجيب، ينضح ويتصفى ويشف كقطرات الماء الصافي، وبذلك  نعرف بأن  لولا الذاكرة لأنتفت القدرة على بناء الحضارة الانسانية، فالذاكرة هي الوسيلة الوحيدة التي تمكن الانسان من خزن تجاربه وخبراته وخيراته المكتسبة في سباق نشاطه اليوم .

والمطلع على افكاره، يلمس عمقها في تناولها  لموضوعات قريبة من الواقع، بعيدة عن الرؤى الضبابية، مثل الحرّية والمسؤولية والعدالة الاجتماعية، ضمن مفاهيم  الفلسفة النقدية وفلسفة التاريخ، ويبتعد عن التنظير الذي ينفر منه القارئ، فإيمانه متجذر في ان متابعه وقارئه يهمهم معرفة معنى وجودهم، ويستجلوا غاية المتغيرات المجتمعية والكونية، لذلك أراه دائم التأكيد على إيمانه المطلق بالعقل الإنساني ما يشيئ الى نظرته الحياتية، المفعمة بالفلسفة، فالعقل عنده، عدو الوهم والانخداع والتعصب، لأنه لا يفتأ يجوب الآفاق سعياً وراء المجهول، حتى يكشف عنه ويجلوه للعيان .. والعقل بطبيعته منتظم وناظم، يربط حلقات المعرفة بعضها ببعض ..

في كتابات الاستاذ ماجد ، يحس القارئ، ان الكلمة فيها  تنطلق الى الاخرى بثقة عالية، ومن اللفظ الى معانيه، وهو لا يحدق في ما وراء الكلمات والالفاظ، هو يكتب وفق منظوره الخاص، معبرا عن دواخل ما يريد بيسر اخاذ، دون ان يتقيد بهواجس الاصداء التي ربما يطلقها من يريد المناكدة والنقد، واظن ان وراء تلك الثقة بالنفس التي يمتلكها الاستاذ ابا حيدر، شعور مبن على قناعة بأن كل مبدع حقيقي، هو شجرة شامخة، باسقة، ويرى في نفسه إنها تلك . .. الشجرة .

وهو ايضا  يؤمن أن الحياة شاسعة، والحقيقة ليست مجرد ادراك ذهني بحت، وقد دفعه حبه للحياة بما فيها من ثراء الى السفر في عالم الابداع وهو عالم واسع جداً، واثمر هذا السفر عطاءً ثرا في مجال الكتابة الفكرية، الى جانب الصحافة الثقافية الالكترونية التي قدم فيها اسماء عديدة هي الان في صدارة المشهد الثقافي العراقي والعربي ..

سبق أن كتبت عن ثلاثة كتب من كتبه، سنة: 2010م، هي: (التسامح ومنابع اللاتسامح.. فرص التعايش بين الأديان والثقافات. وكتاب تحديات العنف، وكتاب الضد النوعي للاستبداد. تساؤلات عن جدوى المشروع السياسي الديني) بعنوان: كتب الغرباوي تدخل دائرة المحظور من باب النقاش.. تساؤلات عن الضد النوعي للاستبداد. أشرت في مقدمة المقال أنه يقدم أفكارا لم يسلط عليها الضوء احد كونها أفكارا من العيار الثقيل، التي يخشي الخوض في تلابيبها الكثرة الكاثرة من كتاب الفكرة الجاهزة والمطروقة.

تقبل مودتي ابا حيدر الحبيب ... ان السعادة تكمن في متعة الإنجاز ونشوة المجهود المبدع..

***

زيد الحلي – كاتب وصحفي عراقي

...................................... 

* مشاركة (49) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

تشكل تجربة الخطاب الديني احد الوجوه الاشكالية، ويصعب تفسير المواقف والامور بدقة مضمونة، حيث موضوعة الدين اصبحت نتيجة للتفسيرات التاريخية متعددة الوجوه، ودخلت في أفق دائري، منع عنها أن تقرأ بيسر واستدلال مباشر، وصعوبة وانعدام القراءة الموازية. نشير هنا إلى احد الاسباب الاشكالية في فرض القراءة من الداخل، والتي نسميها بقراءة الانتماء، فتلك القراءة تمتلك الاعتقاد الجازم، والتي تتعارض مع اغلب من ما ينجم من قراءة خارجية، وتعتقد تلك القراءة أنها المسؤولة الاساس عن قضية الدين ومحتواه، ومن تلك القراءة تولدت قراءات أخرى تختلف وتتفق فيما بينها. والاختلاف له وجوه مثلما الاتفاق له وجوه. وذلك وجه موقف ايديولوجي كما نرى في تحليلنا للخطاب. وتطورت تلك المسؤولية وتعقدت إلى حد قد اصبحت ظاهرة اشكالية، وعلى وجه الخصوص مع العقل المثالي والحر، ومن الطبيعي القراءة الفكرية السليمة ستبتعد كثيرا عن الافق العام للمجتمع، والذي تتسيد فيها تلك القراءة الداخلية ذات الانتماء الجازم، والتي لم تفرض ذلك الموقف المطلق فقط، بل منعت أي تعرض لذلك الموقف، وبطريقة غير مباشرة اقتربت من الافق العام للمجتمع، وجبهة الفطرة والسذاجة والجهل، وتمكنت من صنع جبهة انتماء عاطفية تحتمي خلفها، لكن ذلك لم يمنع من وجود خطاب يمتلك التدبير اللازم والمنحى الفكري البليغ، وهو ينتمي روحيا للموضوعة الدينية، وذلك الانتماء الروحي اهم من تلك العاطفة الزائفة، وقدم لنا المفكر ماجد الغرباوي احد الامثلة النوعية المهمة .

تشغل الطروحات الفكرية عند ماجد الغرباوي على تحليل بنية النص الديني من خلال المناطق التي تخص من جهة المنطق الجوهري للدين، والذي يرتبط مباشرة بالعامل الإنساني مباشرة، ومن الجهة الثانية يرتبط بالفكر العالي، وليس بالفكر الادنى، حيث الادنى يكون واجهة للموقف الايديولوجي. أما العالي فيوازي العرفان، بالرغم من عدم تداخله. والخطاب والنتاج عند ماجد الغرباوي يتجاوز الايديولوجيا الدينة المغلقة، ويرى الغرباوي للنص الديني هناك هيمنة معرفية[1]. وتلك المعرفة تجعل حقيقة النص متحركة وليس ثابتة، وهذا ما يعني بتخفيف البعد الايديولوجي للنص الادنى وليس الاعلى، فإن النص الاعلى خالي تماما من البعد الايديولوجي، وأما النص الادنى الذي دخل في القداسة، فهو يعتبر مغلقا على نفسه تماما. وتقابل ذلك النص المغلق واجهة العاطفة، ورغم ذلك اتجه ماجد العرباوي إلى تفسير موضوعي لفكرة الغلق، وكذلك التعامل مع الفكرة بالتحرير لها وليس بالتعامل مع القداسة، والتي هي صناعة بلا مهارة جاءت من انتاج تلك الواجهة للعاطفة، وهناك من يشترك من جهة القداسة أيضا، من خلال ما يسمى اوهام النخبة. وتلك النخبة هي عضوية وداخل الزمن البشري، لكن التفكير لديها يكون عاموديا، وقد يوازي النص الاعلى، باعتباره نتاجا النص الاعلى. أو الترجمة من خلال النخب على مستوى البساطة، لكن تجد هناك تعقيدات كثيرة، ويرى الغرباوي بأن ذلك النص – يفرض أرادته ومحدداته[2]، لتعارض الطبيعة المثالية للعقل وتتجاوز لها .

تشكل مناحي التفكير المعرفة ليس نمط قراءة وتفسير وتحليل بتحديد المنهج الاحادي، وذلك من الممكن في دور الحداثة، وفي ما بعد الحداثة تغيرت المناحي بالتطور، لكن لا تلغي المنهج، بل تطور المنهج في القراءة ليكون بتعدد، وهذا ما اهتم به دور ماجد الغرباوي، وجعل القراءة في مثلث يبدأ من المنهج بالتفسير، ومن ثم يتجه نحو التحليل المعرفي، وبعد ذلك يكون ليس فقط امام النتائج، بل يجد امامه افكارا جديدة، وهذا ما يقارب منهج دريدا في تحليل النص. وفعلا المعنى للنص لا يستعاد، بل ينتج من جديد، حيث يرى ماجد الغرباوي النص الادنى قد استهلكت المعنى من أجل تثبيت القداسة، وتثبيت وحدة الزمن، ويعتقد أنه يجب (نقد مصادر المعرفة، وتحديد قيمتها المعرفية، والارتكاز للعقل في تفكيكها)[3]. والتحليل الموضوعي يتفق مع فكرة الاهتمام بالمعرفة المتعددة التوجهات، حيث الاتجاه الاحادي يوازي مسؤولية النص الادنى، ويتوافق مع التفسير المباشر أيضا، ونظرية القراءة تحتاج إلى تطوير أفقها للتتعدد ولكي نواجه النص بشكل متعدد وليس من جهة واحدة، فقد تجاوزنا القراءة الافقية التي فقط تهتم بسياق النتائج. ويعتمد الغرباوي القراءة المتعددة الافاق، كي نواجه عدة ابعاد للنص. والنص الاعلى يستقبل تلك القراءة النشطة في المنظور الديالكتي، وفي ذلك يكون النص دائرة معرفية أمام القراءة المتعددة، وهي قراءة معرفة وفهم وذوق ايضا.

يرى ماجد الفرباوي على العقل أن يتميز معرفيا بالتعدد امام النص، وكذلك عليه فعلا أن يميز حتى في التخصيص اللساني، وليس فقط في القبول والمعارضة، ومهمة العقل الحضاري ليست تتجه نحو النتيجة، بل تهتم بالتطور المعرفي للوصول إلى اعمق نقطة للنص التي تجاوزت القراءة الافقية لها، ويهتم العقل عند ما جد الغرباوي في معارضة تحديد حقيقة النص بشكل احادي، حيث يعارض العقل الموضوعي الخطاب الذي (يتصور أن ما يؤمن به يعكس تمام الحقيقة)[4]. فالحقيقة في القراءة ليست أفقا واحدا في ذاته. القراءة دائما أمام وجهات نظر متعددة، وهنا يكمن الاشكال، فهناك وجهات نظر احادية، وعلى وجه التحديد في السياقات المذهبية، والتي تعتقد بأن نظرية الدين تنطلق من ذلك البعد الذي بناه الخطاب، وتلك اشكالية تاريخية كما يرى الغرباوي. وليست فقط معاصرة. فصيرورة الدين توالت عليها الصدمات، حتى انحرفت السيرورة تماما عن السبيل الاساس لها، وأصبحت تحتمل مسارات جيدة بديلة لذلك السبيل. والسبيل هو سبيل الحكمة، فيما المسارات هي نتاج العقل البشري الاحادي، والذي يهتم بالتفسير الذي ينتجه خطابه فقط، ويعارض اي خطاب آخر، بل يمتلك استعدادا لهدم أي خطاب آخر يواجهه. وفعلا العقل الموضوعي في تلك المعرفة الديناميكية أصبح أمام جبه العاطفة وليس أمام الخطاب الاحادي الدور والموقف.

يهتم خطاب ماجد الغرباوي بالجانب الاساس على مستويات المعرفة والفكر طاقة العقل في التحليل الموضوعي، ويتجنب التفسيرات العامة، بل يمتلك الخطاب لقراءة ثانية ما بعد القراءة الأولى، والتي لا تكون معالجة بل تحليلا لاكثر من جانب احادي. وصراحة يدرك ماجد الغرباوي أهمية التاريخ، بالرغم من وجود اشكالات إزاء الاضافات البشرية، والتي تتنافس بالسيرورة من خلال عاطفة القداسة الواهمة، والتي تتبع بشرا كليا وتؤمن بالله. والخطاب تعامل مع تلك الاشكالية اكثر من موقف للخطاب. ويؤمن الغرباوي بأن النص يؤمن حقيقته بنفسه، وأما ما يضاف يسعى لكسب الموقف لنفسه، وتلك الاشكاليات المعقدة وقف امامها الخطاب الفكري بطروحات معرفية موضوعية، ولا يميل الخطاب نحو جبهة معينة، بل يضع الخطاب الجبهات والتاريخ امامه، ويتعامل مع التاريخ كما يتعامل مع خطابات الجبهات الدينية. ويؤمن خطاب الغرباوي بأن الحقيقة المفردة في النص العلوي، فيما النصوص الادنى تحتاج إلى قراءة مضافة، وهي ايضا تحتمل حتى التأويل المضاد، بالرغم من ان خطاب ماجد الغرباوي لا يهتم بالتأويل المضاد، فهو معادل للنص البشري من الجهة المقابلة. أما المعرفة في الدايلكتيك هي انتاج ما بعد القراءة الافقية للنص. والمعرفة تعيد قراءة النص العلوي من اجل الفائدة، وما يستجد من أفكار معاصرة جيدة لم تستغل وتكرس من خلال النص الادنى، ولم تصل لها عاطفة التقديس، لذلك يمكن للخطاب أن يستمد تلك الافكاروينظم لها ويعيد انتاجها .

تقدم المعرفة في السعة الفكرية من الافكار عادة غير مكرسة، ولا بد من العقل ما فوق البشري، وليس العقل العلمي أو العقل الديني، ولا العقل السياسي، بل العقل الحر في التفكير، والذي يملك حرية الموقف، وقد اتجه ما جد الغرباوي نحو تلك الحرية التي هي انتاج وليس كسب من المجتمع السياسي أو الديني، وقد طرح لنا في خطابه بكتاب – اشكاليات التجديد – ذلك الموقف، وقد اكتسب الخطاب قيمة انتاج الحرية، فهناك فارق كبير ما بين العقل الحر والعقل المقيد، لذا يسعى خطاب ماجد الغرباوي إلى كشوف تعالج الاشكالات تعيد تفسير الافكار التي قيدت من خلال السلطة الدينية، والكشف أيضا يظهر دور السلطة السياسية، والتي هي تحتمي في ظروف داخل السلطة الدينية وتختمي بها، وفي ظروف معاكسة تجعل السلطة الدينية خلفها، وخصوصا في المكاسب المادية، لذلك يجد ماجد الغرباوي من المهم أن (ينعم الفرد بحريات تتيح له المشاركة والمراقبة والمطالبة بحقوقه)، وكما جاء في الصفحة 12 من كتاب أشكاليات التجديد[5] كدليل معرفي على أهمية حرية الانتاج، ويعتقد ماجد الغرباوي الحرية الاجتماعية في محنة. فالمقدس يمتلك قيود، والسياسي أيضا يتملك تلك القيود، والقبيلة والاسرة كذلك تمتلك قيود، وتلك القيود قد وقف ازاءها ماجد الغرباوي في كتاب – أشكاليات التجديد – على وجه الخصوص، وفي نفسه أيضا يقر بأن الحرية في محنة، وذلك منذ أن ذبح سيد الحرية من أجل السلطة السياسية .

إذا كانت الحقيقة الفكرية لا تحتاج إلى أقنعة أو تحسين كما يرى ماجد الغرباوي، فلماذا كل تلك الأقنعة التاريخية، والتحسين المرتجى الذي قلبه الصولجان الدين على قفاه، وتلك التحسينات التي ذهبت لصالح السلطة الدينية أو الدنيوية السياسية أو مركز القداسة، قد فصلت النظرية عن الواقع البشري لها، وكما استبدلت قيم الصلاح الإنساني إلى التزامات بالعبادات، على اعتبار عالم العبادة هو عالم الزهد، والعالم العملي للدين عالم الانجذاب للدنيا، وهذا ما أنتج مجتمعات للدين في خمول تام، فالواقع العملي للدين هو الرهان، لكن عالم قداسة الفقاهة وعسس الدين حولوا المسار، ونستذكر هنا عندما بنى إبراهيم بيوتا لله، سأله الرب كمْ من الجياع أشبعت، وهذا ما يعني دور العبادة للخمول الديني وللزهاد، فيما الواقع العملي لخلق قوانين صارمة للتعامل البشري، وصراحة السلطة الدينية هنا قد تجاوزت عقبة عصيبة، فلن يكون هناك إلا ذلك الالتزام العبادي، والذي قد أنتج له ذلك الكم من الأحاديث والروايات، والصلاة في الجامع أصبحت البديلة لصكوك الغفران، وأصبحت النص الديني الذي تستقبله السماء مباشرة، وتلك الشكليات استهلكت أوقات الأفراد، وتقريبا فأنعدم الاستعداد إلى الواقع العملي، وانعدمت الإرادة والحرية نتيجة لوجود آلية حكمت الحياة البشرية، ويرى انجلس من الواجب أن يكون النظر للعالم ليس ككيان من أشياء جاهزة، بل ككيان من عمليات، وهذا الرأي اعتقد يضعنا في مواجهة حتمية مع الدين الجاهز الذي انتقده موضوعيا ماجد الغرباوي، الذي هو وثيقة وليس بنص، وتطرفها هذا استوجب الرفض والاعتراض والاحتجاج والنهضة، والعقل ليس تلك الخطابات الجاهزة، بل العقل الحقيقي هو ذلك الضمير الحيوي والفاعل كما عند خطاب ماجد الغرباوي، والخطابات نتاج وعي ونفس بشرية، وتختلف فيها وجهات النظر، وهذا هو جانب الاصالة الموضوعية.

يشكل الخطاب الفكري عند ماجد الغرباوي ليس في توجه مسار احادي، وأستبدل كلمة – مسار – فهي لا تتوافق مع بنية الخطاب، وكما أعتقد بأن كلمة – سبيل – اكثر ملائمة مع بنية الخطاب في الجانب الموضوعي، والذي يعتمد عليه الخطاب بشكل اساس، فالخطاب يسعى إلى موازاة مفهوم كلمة سبيل، أي أتخاذ المعرفة الخالصة ذلك المبدأ لتفسير القضايا والافكار والمواقف، فالمعرفة في السبيل يعني الحكمة وليس المسار، فالمسار يأخذ ويلتزم بعد الايديولوجيا مباشرة، وتلك المباشرة بدورها ستخلق ذلك الرد فعل المعاكس، فيما الحكمة تختلف فتجعل رد الفعل يتخلى وينتمي لها. وصراحة لقد التزم ماجد الغرباوي في خطابه بالحكمة كمنطق جوهري، والتي هي مدعومة بالمعرفة الحقة، وكما مثل الخطاب الفكري حالة وسطية ما بين التشدد والتراخي، وبالرغم من وجود فطرة  للدين في نفس ماجد الغرباوي، لكن تلك الفطرة الاصيلة بحالة امتياز من النقاء النفسي،  وكما إن الجدارة الموضوعية لم تكن قد تخلت عن قيمة واصالة سبيل الحكمة، بل كانت في التحليل الفلسفي للخطاب قد لامست اعمق مناطق التفكير بتجرد تام، فالفطرة هنا هي اطار شخصي يقف بنقاء خلف حرية الخطاب ويتوازى مع تلك الحرية والخطاب أيضا، ووحدة العامل الموضوعي كانت هي النفس الاساس للخطاب عند ماجد الغرباوي، ونحن هنا لسنا ازاء تضامن شخصي، بل نحن إزاء فهم موضوعي وفلسفة حرية نقرأ ميزات ذلك الخطاب من جميع الوجوه، ولم نغفل الجانب اللساني، فوحدات الخطاب الاساس هي الجمل، وتلك الجمل تحتاج إلى تصنيف لساني، ونحن مع فصل الفكر عن اللغة، والنظر للغة هل هي مشبعة بحس شخصي أم حس موضوعي، وقد لمسنما في التصنيف اللساني اللغة متخلية تماما عن الحس الشخصي، والعمق الموضوعي لم يقف عند حد كما فسر لنا المستوى الفكري، وركن المعرفة يتجاوز ما قد بلغ تحليله إلى ما يحتاج إلى تحليل له من المناطق المجهولة، والغة أكدت هيب في سياق الفكر والتجربة والوعي المنصف .

من الطبيعي هناك فارق ما بين الاسلوب الفكري المعرفي وما بين الاسلوب المنهجي المحدد، فالمنهج يعتمد على المسلمات، ويجد تلك المسلمات حقيقة راسخة، ومن هنا قد يدخل المنهج في باب التقديس بالرغم من المعيار العلمي، وهذا ما يخالف التفكير المعرفي، والذي يجد تلك الحقائق ليست مطلقة، والمعرفة هنا تشير مباشرة إلى الخطاب البشري وليس إلى النص العلوي، فالخطاب البشري ليس بحقيقة تلزم الجميع كما يرى ماجد الغرباوي، وقد تطرق في كتابه – النص وسؤال الحقيقة – والتي نجد تلك الاشارة التي تبدأ من العنونة هي واضحة وصريحة ومباشرة، فماجد الغرباوي يرى كل خطاب هو وجهة نظر لايمكن لنا بالتسليم المطلق تماما، فنحن حيال فكرة مهمة يتبناها ماجد الغرباوي في خطابه، ووليم جيمس يرى بأن الحقيقة لا تستخرج من الواقع، بل هي امر يجب التعرف عليه، وأما مارتن هيدغر يرى تلك الكلمة النبيلة لقد استهلكت تماما حتى افرغت من أي معنى لها، وفعلا التصريح بالحقيقة الجازمة الذي يعارضه خطاب ماجد الغرباوي هو اعتقاد للحقيقة وليس الحقيقة نفسها، ومن الطبيعي الاعتقاد بفكرة من الطبيعي لا يعني الحقيقة نفسها، والاعتقاد هو تصور عن الحقيقة، لكن هو يزعم أنه مصداق للحقيقة، فيرى الغرباوي بأن القراءة المتحيزة فهي ستهمل الاسباب الموضوعية. وستفرض تلك القراءة ما تتبنى على المتن النصي، وتلك اشكالية تاريخية كما يرى ماجد العرباوي، حيث ستقوم بتشويه النص وتحتل مضمونه، وتلك القراءة لقد حكمت المضمون الديني بقيود العصبية والتطرف، وهنا لا تتجلى حقيقة النص، بل تصور تلك القراءة، والتي بنت على فهمها فقط .

***

محمد يونس محمد – ناقد وباحث فلسفي

.........................

[1] الغرباوي، ماجد، النص وسؤال الحقيقة، نقد مرجعيات التفكير الديني، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا وأمل الجديدة، دمشق – سوريا. 2018م. ص 14.

[2] المصدر نفسه.

[3] الغرباوي، ماجد، مواربات النص، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا وأمل الجديدة، دمشق – سوريا، 2020م، ص 20.

[4] المصدر نفسه، ص 99.

[5] الغرباوي، ماجد، اشكاليات التجديد، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا والعارف للمطبوعات، 2017م.

 ............................. 

* مشاركة (48) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

لطالما كانت الفجوة بين التراث الديني والتقدّم الحضاري موضع جدل ونقاش مستمر في أوساط المثقفين على اختلاف أطيافهم. ففي كتابه "إشكاليات التجديد"، قدّم المفكر ماجد الغرباوي مقاربة وطرحاً حاول فيه معالجة هذا الموضوع، وكيف ينبغي علينا (كأمّة إسلاميّة) التعامل مع الواقع المعاش المتغيّر بشكل مستمر وبسرعة صاروخية، وبين هويّتنا الأصيلة ومكوّناتنا الثقافية ومفاهيمنا المُستلّة من قراءتنا لديننا والتي كثيراً ما تصطدم مع المدّ الحضاري العارم. يطرح الكتاب[1] آلية التوافق الوحيدة (من وجهة نظره) التي ستدفع بالأمّة تجاه مواكبة التطوّر الحضاري دون أن تهجر وتقطع مكوّناتها الأصيلة الفريدة. هذه الآلية هي "التجديد"، الشيء الذي يصفه الكاتب بأنّه "ضرورة حضارية" كونها حركة إنسانية مستمرّة تدفع باتجاه التطوّر وباتجاه طرح ما هو أفضل. يقول الكاتب :"فالتجديد ضرورة منبثقة عن حركة الأشياء، من أجل مواكبة حاجات الإنسان، والاستجابة لتطلعاته. إلا أن الدعوة له دعوة استفزازية، تثير حفيظة رجال الدين، وربما اشمئزازهم، لأنها تنطوي على اتهام مؤسساتهم، وانتقاد فكرهم، ودعوة صريحة لتمحيص التراث ومراجعة الثوابت، بل جميع المقولات العقائدية"[2].

يستعرض الكاتب حال الأمة وكيف تبلورت فيها ثلاث اتجاهات رئيسية إزاء الصدمة الحضارية التي أعقبت الانفتاح على الغرب المتطوّر علميّاً وتقنيّاً، بين "رجعية" ترفض كلّ ما يأتي من الخارج ولو كان علماً نافعاً، وبين "نبذية" ترى بأنّ هجران الأصل والقطيعة مع الماضي ومكوّناتنا الثقافية (كالدين) هو الحلّ، وبين "توافقية" ترى أنّه من الواجب الاستفادة من التجارب الإنسانية النافعة من كلّ الثقافات، وفي المقابل يجب أيضاً ممارسة النقد المستمر إزاء التراث كحركة دافعة لتصحيح الأخطاء بشكلٍ متواصل. العائق الأكبر، أمام هذه الحركة، هم رجال الدين الذين يرون في مثل هذا الحراك اتهاماً مباشراً لهم ولسلطتهم.

محاور الكتاب

يعالج الكاتب في "إشكاليات التجديد" ثلاثة محاور رئيسية. في المحور الأول، يتناول فيه وبشكل مفصّل الوضع الراهن، مقدّماً تحليلاً شاملاً إزاء الحال كما هو. ويؤكّد الكاتب، ضرورة الارتقاء بالوعي في الإنسان، وكيف تمّ تزييفه في الدول التي قامت (بعد الخلفاء الراشدين) لتحقيق مصالح وأجندات تخدم الغرض المخطّط له. ولن يتطوّر الوعي في المجتمع دون وجود مرجعيات تجدّد فهمها للنصّ الديني باستمرار بما يتناسب مع القرآن والسُنّة الصحيحة. يقول الكاتب: "الأمة بحاجة أولا إلى وعي رسالي، تتجاوز به أزمتها، حتى تستطيع تحدي الممنوع، ولا يتحقق لها ذلك، إلا بإعادة تشكيل وعيها داخل فضاء معرفي، يستظل بمرجعيات تجدد بإستمرار فهمها للنص الديني، في ظل المستجدات الحياتية المتأثرة بالظروف الزمانية والمكانية."[3] كما نبّه أنّه من الضروري ألا نسلك مسلك قوم عيسى حينما اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وأن نميّز بشكل واضح بين الإلهي والبشري والمقدّس وغير المقدّس.

ولكنّ الارتقاء بالوعي ليست مسؤولية محصورة بالمرجعيّات الدينية المثاليّة المتصوّرة في الكتاب (المجدّدة لفهمها الديني باستمرار)، بل يشمل دائرة المثقفين وصنّاع الثقافة ومحركاتها (كالإعلام). فالثقافة هي المحدّدة للاتجاه العام لوعي الأمّة. ولذلك من الضروري أن يكون المُجدّد مثقفاً، وأن يمتلك العناصر الثلاث التي فصّلها الكاتب في الفصل الأول؛ المعرفة بالتراث وحيازة مكنة البحث والتفكير، والوعي بالواقع وإدراكه بشكل دقيق، والتشاعر معه لئلا يعيش المُثقف منفصلاً عن واقعه وواقع أمّته، واتخاذ الموقف الواضح الجريء والشجاع لخلق النموذج التضحوي الوقّاد لجذوة صحوة الأمة.

في أثناء تحليل الكاتب للوضع الراهن، استعرض بشكلٍ وافٍ مسار العقيدة الإسلامية منذ نشوئها وحتى الآن، وكيف كانت في نشأتها أنموذجاً عقائدياً فكرياً وهّاجاً، قضى على الوثنيّة وانسجم بشكل سلس مع الفطرة الإنسانية، وصار قلباً حيّاً نابضاً في أوساط الحياة الاجتماعية للناس آنذاك. يقول الكاتب: "تمتاز العقيدة الإسلامية بقدرتها على تجديد عقل الإنسان وانتزاعه من عالمه (الوثني، الطقوسي، القلق) إلى أفق رحب تتفاعل فيه العقيدة مع الحياة، ليفرز ذلك التفاعل مجتمعاً يتمثل القيم الإسلامية ويعيشها ممارسة يومية"[4]. بعد ذلك تطوّر البناء الفكري المحيط بالعقيدة حتى تشكّل ما يُسمى بعلم الكلام نتيجة المُطارحات العقدية بين الأطراف المختلفة (سواء المختلفة في الدين أو في المذهب نفسه). فمن وجهة نظر الكاتب، بالرغم من المساهمات الفكرية لعلم الكلام إلا أنّه كان أساساً في "موت الإيمان الحقيقي" حسب تعبيره وإبعاد العقيدة عن الممارسة الحياتية. كما قاد إلى تعطيل المنهج القرآني الواقعي والداعي دوماً إلى العمل الصالح بدل الجدل العقائدي. والمفارقة بعد هذا كلّه، هو أنّ علم الكلام، الناشئ من أجل استبقاء "العقيدة الصحيحة" ونبذ الأوهام الفكرية، انتهى إلى نشر أفكار مدمّرة كالجبر والإرجاء وتبرير أفعال السلطان، ومن ثمّ إطفاء فاعلية العقيدة في الحياة، وتأصيل الفِرَقية (مذهبية وغيرها) وتعميق خلافاتها وهجران الحوار مع الآخر إلى إقصائه، وبالتالي سقط الإنسان كإنسان وأصبح مجرّد أداة أو رقمٍ ممّثلٍ لهذه الفئة أو تلك.

في ضوء هذا، يرى الكاتب أنّ الأمة في حاجة إلى إنشاء وتطوير "علم كلام جديد" تتمّ فيه مجاوزة أخطاء علم الكلام السابق. وهذا لا يتأتى إلا بـ: إعادة النظر في القضايا الجدليّة ومعالجتها، واعتماد المنهج القرآني الموافق للعقل والفطرة، ونبذ الجدل والتكفير والإقصاء وانتهاج منهج الحوار العقلاني، والاعتناء بالإنسان كإنسان له كامل الكرامة والحقوق، وإعادة زرع العقيدة الحيّة في الناس المحرّكة لوجدانهم والفاعلة في حياتهم، وتقديم أجوبة مستمرّة للتحدّيات المتجدّدة النابعة من التغيّرات المتسارعة في العصر الحالي، وترك الجمود على أفهام السلف وتشجيع الاجتهاد في الأمور الفكرية والعقدية. فالكاتب يسعى، من خلال هذا الطرح ومن خلال علم الكلام الجديد، أن يعاكس التأثير السلبي الذي أحدثه علم الكلام القديم، والسير إلى مآل أفضل حالاً يرعى الإنسان ويوحّد الأمة ويعمل باتجاه التطوّر والرُقي.

وهذا لن يحدث (من وجهة نظر الكاتب) من دون تفعيل حقيقي لآلية الحوار مع الآخر المختلف. في بداية بزوغ شمس الإسلام، يرى الكاتب أنّ الحوار مع الآخر لم يكن مشكلة، بل كانوا سبّاقين للتعاطي مع الاتجاهات المختلفة. يقول الكاتب: "ولم يتخل المسلمون عن شروط الحوار مع الآخر، رغم تماديه وإصراره على التمسك بموروثه الثقافي المثقل بحمولته الفكرية اللادينية، واللاحضارية في أحيان كثيرة"[5]. واستطاع المسلمون، نتيجة انسجام عقيدتهم مع العقل والفطرة، أن يحسموا معظم المعارك الكلامية والفكرية في حواراتهم مع المختلفين آنذاك. ولكن هذا الانفتاح الفكري تقهقر مع الزمن عند نشوء الفِرَق الكلامية المتناحرة والمُكفّرة لبعضها البعض، حتى خنقت البيئة الفكرية الحاضنة للحوار مع الآخر. ونحن في حاجة ماسّة للعودة لشيء من ذلك الانفتاح لبدء حركة التدافع الفكري المنتجة والفعّالة. يرى الكاتب أنّ الانغلاق الفكري المعاش اليوم يتناقض بشكلٍ صريحٍ مع منهج القرآن الداعي باستمرار للحوار وبناء الجسور مع الآخر من خلال "كلمة سواء" و"التعاون على البر والتقوى".

والحوار المطلوب هنا ليس مقتصراً على أوساط الأمة فقط، بل يتعدّاه للحوار مع الآخر المختلف حضارياً، ومثاله الصارخ في واقعنا الحالي هو الغرب المتفوّق تقنياً وحضارياً. فقد أصبح الغرب، بحكم هيمنته الحضارية والعلميّة والتكنولوجية، مركز العالم، وبذلك غدت الحاجة ملحّة لتطوير الحوار معه عبر فهم منطلقاته وأدوات التواصل معه (كاللغة والبنية الثقافية والمرتكزات الفكرية وغيرها). يُبيّن الكاتب هنا أنّ المشكلة الحالية متواجدة في الطرفين، فالغرب أيضاً متراجع أخلاقياً تجاه الآخر، وكثيراً ما يتصرّف حيال الآخر بالطريقة التي نظر لها هنتنغتون في "صراع الحضارات"، وفوكوياما في "نهاية التاريخ"، كحضارة مهيمنة على الآخر ولكن منغلقة على ذاتها في التعاطي معه. فهناك ضرورة ملحّة لتطوير الحوار والتعاطي مع الآخر الحضاري من جميع الأطراف.

ويواصل الكاتب في تبيان أنّ البيئة الحاضنة للحوار بين المكونات المختلفة للأمّة ستخلق الجو المناسب لتشكيل ما يسمى اليوم بـ"المجتمع المدني"، فيتناول خواص ومميزات المجتمع المدني، بأنّه يتمتّع بشخصية مستقلة، ويزخر بالمؤسّسات المختلفة المحافظة على حقوق أفراده، ويسمح لأفراده بمساحة واسعة من الحريّة خصوصاً الفكرية والعقدية بما يعطيهم مرونة في الحراك الفكري الاجتماعي وبالتالي تكون انتماءات الجميع طوعية، ويؤسّس لنظرة وفلسفة للكون والحياة تسع الجميع، ويضع حقوق الإنسان كإطار شامل لجميع أفراده. يرى الكاتب أنّه من الجيد "تبيئة" هذا المفهوم، وأنّه مماثل لحدٍ كبير لمجتمع الرسول الذي أسّسه في المدينة (مع فروقات الزمن والتطور الإنساني والتقني)، وبالتالي لا بأس من استعارته وتبنيه. ولكن من الجدير بالذكر أنّ الكاتب يرى أنّه يجب "تبيئة" هذا المفهوم و"أسلمته" أيضاً، ذاكراً هنا كلمة السيد محمد خاتمي الذي ذكر مفهوم "المجتمع المدني الإسلامي" المختلف عن نظيره الغربي، حيث أنّه يجب "استبعاد أسس الغرب الفلسفية ونظرته الخاطئة للكون والحياة"[6] على حد تعبيره. ثم يذكر خواص المجتمع المدني كما ذكرها السيد خاتمي، في خلوه من الاستبداد بكل أشكاله، وتكريس كرامة الإنسان فيه، وتأصيل حق تقرير المصير ومحاسبة المسؤولين، وأنّ الحكومة خادمة للشعب. كلّ هذا ناشئ ونابع من مدينة النبي، كما يرى السيد خاتمي.

كما يطرح الكاتب رؤيته في التعاطي مع تفسير النصّ القرآني، حيث يرى وضوح رهان القرآن على عقل الإنسان، وبالتالي فالعقل يستطيع التعاطي مع النصّ القرآني بغية تفسيره، ولكن بقيود ضابطة (حسب وجهة نظر الكاتب). فالكاتب يوافق رؤية الشهيد محمد باقر الصدر، القائل بأنّ التفسير يجب أن يكون "حواراً متجدّداً مع القرآن والواقع" لحمايته من الجمود وتكلّسات فهم السالفين. كما يطرح الكاتب مقاربة أوّلية لكيفيّة التعامل مع المرويّات إزاء تفسير النصّ القرآني، مفصّلاً ومبيّناً طرق التعاطي المختلفة بناء على نوعيّة الروايات. فمن وجهة نظر الكاتب، يرى أنّ التعامل مع روايات الأحكام ليس ذاته مع روايات مصاديق الآيات، وأنّ بعض الروايات مرفوضة لمخالفتها القرآن والعقل، والبعض أتى ليخاطب الناس على قدر عقولها وبالإمكان تجاوزها لما هو أكثر تطوّراً ومناسبة للعصر الحالي. بالإمكان القول أنّ الكاتب، ولو لم يصرّح بهذا الشيء علناً في الكتاب، أنّه ضدّ تقييد القرآن بقيود المرويات، وأنّه مع محاولة فهم القرآن بالتماشي مع الروايات الصحيحة (دون التفصيل الدقيق في النقاش في دائرة الصحة أين تقع). والكاتب يعاتب كيف تحوّلت كتب التفسير إلى خطوط حمراء تقمع كلّ محاولة للخروج بفهم جديد، وهذه أيضاً إشارة لمظهر آخر للشيء العضال الذي أعاق فكر الأمة، ألا وهو الخلط بين الرسالة الأصيلة (الإلهية) والنتاج البشري (كالتفسير وآراء الرجال مثلاً).

التعددية

يختم الكاتب استقراءه لوضع الأمّة الراهن عبر معالجته لمفهومين معاصرين تداولُهما شائع في أوساط النقاشات الاجتماعية والسياسية، وهما مسألتا "التعدّدية الدينية" و"الولاء". فمن وجهة نظر الكاتب، فكرة التعدّدية الدينية الناشئة من عصر النهضة والمضادّة للمنظومة الكنسيّة ثبتت شياع الحقّ عند الجميع وكلّ الأديان، وهذا شيء لا يناسب بُنية الإسلام لأنّ هذه الفكرة تفرّغ الدين من محتواه الحياتي. هذه الفكرة تختزل الدين لتجربة روحيّة باطنية بعيدة عن الشعائر وأحكام الشريعة[7]، وهذا -في نظر الكاتب- يزيح الإسلام من فاعليته الحياتية. ولكن بالرغم من هذا فالكاتب لا يرى انحصار الحقيقة عند جهة أو دين واحد، وفي ذات الوقت لا يرى الجميع على حقّ، ولكن يرى بأنّ كلّ الناس لديها منهاجها التعبّدي أو العقائدي به تعرف الحقّ، وأن كل جماعة، أو فرد، تحكمه ظروف فريدة تجعله يتبع منهاجاً معيناً. وكأنّ الكاتب هنا "يعذر" الجميع ويعتبر الكلّ عيال الله، ولكن من دون الاعتراف أنّ الجميع على حقّ على نسق فكرة التعدّدية الدينية.

الولاء

أما بخصوص الولاء، فقد استعرض الكاتب كيفيّة تغلّب الرسول (ص) على هذه المسألة بحكمة وحنكة بالغة؛ بأن وحّد بطون وأفخاذ القبائل المُتفرّقة تحت لواء واحد وهو الولاء لله عز وجل. أمّا بعد ذلك فالمسألة تفرّقت وعادت للولاءات التحزبيّة والقبليّة وغيرها، وأصبح الولاء للأفراد مفضّلاً على الكفاءة والنزاهة حتى في المؤسّسات الدينية نفسها. وهذا الأمر معاكس للنهج القرآني، وينتج بيئة من الولاءات المتناحرة على شكل إقطاعات تعيش تحت كنف دولة واحدة ولكن ما من أحد يدين لها بالولاء، بل كلٌّ له ولاؤه. فالبعض ولاؤه مذهبي، والآخر قومي، وغيره عشائري، والخ من هذه التحزّبات الطاغيّة على اللواء الأكبر. يشير الكاتب إلى أهمية معالجة هذه المعضلة والعودة إلى ولاء واحد يتوحّد فيه الجميع وتزول فيه الجدر الفاصلة بين الناس.

مشاريع التجديد

ينتقل بعد ذلك الكاتب إلى استعراض نماذج من التاريخ الحديث التي كانت منارة تجديدية (من وجهة نظر الكاتب) أحيت الفكر الديني بعد ركوده. فاستعرض سيرة ونهج جمال الدين الأفغاني، والإمام محمد باقر الصدر، والإمام الخميني. وبيّن أهم مرتكزات حركة ونهضة كلّ شخصية من هذه الشخصيات العملاقة في تاريخ الفكر الإسلامي الحديث. فالأفغاني مثلاً عمل على محاربة الاستعمار، ومناهضة الاستبداد بأنواعه. كما ركّز بشكل واضح على توعية الناس، وتنقية الفكر الإسلامي من الشوائب المخلّة به، وأطلق مشروع الجامعة الإسلامية المعروف.

أمّا الإمام محمد باقر الصدر فقد أحدث موجة فكريّة عارمة في مجالات المنطق والفقه والفلسفة والتفسير وحتى الاقتصاد. فقد اشتغل بنقد التراث دون قيود التزمتّات الدينيّة والخطوط الحمراء، وعمل على دراسة نظريّات الآخرين من خارج الدائرة الإسلامية، وعمد إلى تقديم رؤى إسلامية جديدة في مختلف الميادين. وكذلك ركّز على الارتقاء بمستوى الوعي عند الناس، وكذلك نظّر لأطروحة "المرجعية الصالحة أو الرشيدة"[8].

في المقابل، عمل الإمام الخميني على مشروع إصلاحي-إحيائي، يتصدّى فيه الفقيه لقيادة الأمة سياسياً بالإضافة إلى مرجعيته الدينية. فكان مشروعه مرتكزاً على عدّة أبعاد، منها مناهضة الاستبداد، وتأكيد دور العلماء الحقيقيين وتحجيم فقهاء السلطان، وقطع التبعيّة للدول الاستعمارية، وإقامة الدولة الإسلامية وتأكيد دور الأمة.

ونرى هنا نمطاً متكرّراً في أوساط هؤلاء المجدّدين، وهو نزعتهم لمقاومة الاستبداد بشتّى صوره.

الاستبداد وتداعياته

في الفصل الأخير من الكتاب، ركّز الكاتب على منظومة الاستبداد بوصفها أكثر ما كبّل الإنسان وأكثر ما حجب المجتمعات عن تطوّرها وترقّيها، مستشهداً بآراء النائيني والكواكبي حيال هذه المنظومة القامعة للإنسان وحراكه الفكري والثقافي. كما يبيّن الكاتب من أين وكيف بدأ الاستبداد، بعد العصر الأول وتحديداً بعد الخلفاء الراشدين. ثم يبيّن بوضوح المنهج المناسب لمحاربة الاستبداد، ألا وهو فضح الممارسات الاستبداديّة بكل أنواعها (سياسية كانت أم دينية أم غيرها)، وتبنّي الشورى والديمقراطية وضمّ جميع أطياف المجتمع، والانضواء تحت سياسة القانون وإرساء العدل للجميع. يقول الكاتب: "لا شك أن الشورى والديموقراطية هما طرفا النقيض للاستبداد، فإذا انتعشتا في بلد جفت منابع الاستبداد وأثمرت حياة حرة كريمة، وإذا ذوتا استفحل الاستبداد، وعاش الشعب ظلمة الكبت والحرمان"[9]. ثم يعرّج الكاتب بشكل مختصر على نموذج ولاية الفقيه والشورى كمنظومة قد تكون صالحة في ظلّ صلاحيات محدودة للفقيه (المرشد الأعلى)، لا صلاحيات استبداديّة تسمح له بتجاوز مبادئ العدل والشورى وحكم القانون.

الكتاب يتناول موضوعاً لا زالت الأمّة في أمسّ الحاجة إليه، ألا وهو نبذ الجمود الفكري والانطلاق نحو التجديد الفكري الثقافي على مختلف الأصعدة، فقدّم نظرة دقيقة فاحصة في تشخيص الوضع الراهن، ولم ينزلق كعادة بعض المثقفين إلى الاصطفاف في إحدى الضفتين؛ إما الدفاع بشراسة عن التراث بكل ما فيه أو مهاجمته والاستنقاص منه والتنكّر له، بل نحا المنحى العقلاني الذي يوازن بين الأصالة والمعاصرة. فلا كلّ التراث سيء، ولا كلّه جيد، ويحتاج لعملية تنقية ونقد وتجديد باستمرار لئلا نتكلّس ونجمد، فالتجديد سنّة الحياة كما يقول الكاتب. ولا بأس لديه في التعاطي مع المنتجات الثقافية والعلمية من الحضارات الأخرى بوصفها -على حدّ تعبيره- "نتاجا إنسانيا" يمكن الأخذ به أو ردّه على حسب فائدته. هذه النظرة المتوازنة توحي بكمّ من الانفتاح والاعتزاز في آنٍ واحد، وتسلك باتجاهٍ قلّما تكثر أنصاره لكثرة المنزلقين لإحدى الضفتين المذكورتين.

وعمد الكتاب بشكل جميل إلى تثبيت أسسٍ رصينة بالإمكان البناء عليها، كإرساء ثقافة الحوار ومناهضة الاستبداد بأنواعه. وكانت له ملاحظة ذكية جداً على "علم الكلام" القديم الذي طالما تغنّى به المفكرون الإسلاميون كعلامة تفوّق فلسفي على الآخر، بينما لاحظ الكتاب كيف درج علم الكلام هذا في نهاية المطاف إلى إطفاء جذوة الإيمان الفاعلة وتأصيل الِفرَقية بأشكالها وزرع العقائد المغلوطة والمدمّرة وتعطيل المنهج القرآني الأصيل وغرس ثقافة الإقصاء، وبالتالي سقط الإنسان كلّه. وعالج مشكلة مُعقّدة أخرى (ولو بشكل مختصر) ألا وهي مشكلة الولاءات المتفرّقة الغير متوحّدة. وثبّت دور المثقّف في التجديد، ورسم له نموذجاً نأمل أن نراه في الواقع، وهو أن يجمع المثقّف بين المعرفة العميقة، والوعي المشتبك بالواقع، والموقف الشجاع والاستعداد للتضحية.

وأحد أكبر نقاط القوة في الكتاب هو نزعته للتعاضد مع النهج القرآني بصراحة تامة، فالكاتب يشرّف القرآن بتبيان أنّ القرآن يراهن على العقل، وداعية إلى الحوار مع كلّ الأطراف، ومضاد إلى كلّ أنواع الاستبداد. كما يشدّد على الحاجة إلى تجديد التفسير للنصّ القرآني، وينتقد كيف أصبحت كتب التفسير خطوطا حمراء وآلية قمع للاجتهادات الجديدة، ويفرّق في أكثر من مرة بين الإلهي والبشري. ولكن ربما لم يتم استيفاء هذا الموضوع فهو شائك وطويل وبحاجة إلى تبيان منهج واضح مع أمثلة صريحة في كيفية التعامل مع الآيات الشائكة في القرآن أو التي قد تحسب ضدّ القرآن. فبعض التنظيرات العامة جميلة ولكن الشيطان يكمن في التفاصيل، فما الآلية المناسبة لتطوير عملية التفسير، وهل ستظل حكّراً على بعض العلماء والفقهاء ومحرّمة على المثقفين مثلاً (كما هو الحال الآن)؟ بل حتى علم الكلام وتجديده، فلن يثمر شيئا ما لم يتم تجديد قضايا الكلام نفسها وتجاوز قضايا السابقين التي كانت معاول هدم ومصانع طحن أنتجت التكفير والتفرٌّق في الدين في مسائل عقدية ما أنزل الله بها من سلطان لا تثمر شيئا ولا تمس حاجة الإنسان والمجتمع ولا فلسفته في الحياة الموجّهة لأدواره البنّاءة.

قد يُعذر القارئ إن ظنّ أنّ الكاتب يناقض نفسه حينما تناول الكتاب قضية التعدّدية الدينية في بعض ما قاله آنفاً. فقد قارب ما حدث في عصر النهضة مع العالم الإسلامي وخلص إلى أنّ الإسلام لا يوجد به "إكليروس"[10] ولا تكفير، مع أنّ الشواهد تشير إلى أنّ كثيراً من المرجعيات بفئوياتها الضيّقة هي نوع من الإكليروس وتمارس التكفير لمن خالف ثوابتها أو نظرياتها (وقد ذكر الكاتب قبل ذلك شياع الفكر التكفيري كمظهر للتخلّف الحضاري). تجد في الكتاب عدم ارتياح في التعاطي مع فكرة التعدّدية الدينية بحجّة أنّها مفرّغة للدين من محتواه الحياتي، ولكن يبقى السؤال ماذا عن الأطياف المختلفة (حتى في الدين نفسه) التي لا تتّفق في ثوابت الشريعة مع الآخر وتمارس دينها بأسلوب قد يعتبره الآخر "تجربة روحية باطنية"، فهل يناقض ذلك وحدة الأمة أم يمزّق بين طوائفها؟

الكتاب صدر في سنة 2000 فهذه الآراء هي جزء من مسيرة الكاتب الفكرية ومن المستحيل أنّها لم تتطوّر أو حتى تتغيّر فتلك عادة المثقفين الحقيقيين. في الحقيقة الكتاب سابق لزمانه والقضايا الموجودة فيه ما زالت بذات الأهمية القصوى اليوم في هذه الظروف التي تعيشها الأمة. أنصح الجميع بالاطلاع عليه والاستفادة منه. فنحن بحاجة لمثل هذه النتاجات والتوجهات الدافعة لعجلة التجديد الفكري فقد تأخرنا كثيراً. أما كتبه الآخيرة فقد اشتملت آراء جديدة، بعضها قد تجاوز ما جاء في كتاب اشكاليات التجديد.

***

ابراهيم جلال القصاب - البحرين

....................

[1] الغرباوي، ماجد، إشكاليات التجديد، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2017

[2] المصدر نفسه ،ص23

[3] المصدر نفسه، ص38

[4] المصدر نفسه، ص58

[5] المصدر نفسه، ص70

[6] المصدر نفسه، ص87

[7] المصدر نفسه، ص127

[8] المصدر نفسه، ص181

[9] المصدر نفسه، ص232

[10] المصدر نفسه، ص126

 .............................

* مشاركة (47) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

لقد بات مصطلح التنوير ومن يشتغلون عليه، أو ينتمون إليه إدراكا ووعيا موضع تساؤل وشك، واتهام من جهات معينة. وكأني بها تحرص على أن يظل "ما وجدنا عليه آباءنا" حاضرا وفاعلا ومحركا، ومثبطا للعقل، أو لأية محاولة لإيقاظه، أو حتى دغدغته!

ولكن للحياة دورتها، وللزمن ساعته، فإثر اكتظاظ الساحات بالمعوّقات الفكرية، والتدمير الإنساني بحجة الدفاع عن الدين، أو تطبيق شريعة الله، كان لا بد من أن ينهض بعض العاقلين، والحكماء، وينهض المثقفون لمن فضل السيف والقذف سلاحا  للتحاور، يعظم عندهم ليصبح تحليل الدم بالقتل أمرا مباحا، حيث جعل الاجتهاد حكرا على فئة وأسماء لمّعت لغاية، أو أخرى عبر تسلسل لا يقبل خدشا، أو استبدالا، وكأني بالعقول التي خصنا بها الله حجة للوصول المتيقن ممنوع عليها أن تتأمل، أو أن تفكر، تتلقى فقط.. رغم أن القرآن الكريم ثري بالخطاب الإلهي الذي يحض على التدبر والتأمل، والتفكر.

وفي غمار هذا وذاك، كان لا بد أن يظهر الأستاذ ماجد الغرباوي، وأمثاله من الغيورين على الدين، وعلى الطائفة المسلمة ليعيدوا غربلة ما طفا فوق السطح، وتقويم ما اعوجّ بما أوتي من الثقافة، والدأب والعمل، وأن يجتهد لإعادة الأمور إلى رصانتها المنشودة، فيشعر من أوتي جانبا من الحكمة بالاطمئنان إلى ما يتلقاه منه مادة، وشروحا.

ومن الجوانب التي آثر الأستاذ ماجد الغرباوي أن يوليه موضعا كبيرا، وقيّما في قراءاته المستجدة للتراث ولما نسب إلى الشريعة على لسان المتقولين، هي المرأة... المرأة التي شغلت للأسف مساحة وارفة من فكر أصحاب الرأي والاجتهاد، والشيوخ ذوي الاستنساخات المشوهة حتى ليوشك أن ينسب انهيار المجتمعات الإنسانية إليها، وتفوق التفكير في شأنها على ما عداه مما تحتاجه المجتمعات الإسلامية من الدعامات والأسس التي تقيم أودها وتصلح شأنها، ولا ضير إن اعترفنا ببساطة وصراحة أننا أمة مأسوف عليها فيما وصلت إليه من التردي، والتخلف والانقسام الطائفي، والانحطاط الفكري، إلا من رحم ربي وتنبّه إلى المستنقع الذي طال قدميه، فانتشل ذاته منه، ونتجت إثر ذلك حركات فردية ما تزال تنشر فكرها وتساهم في إضاءة العقول والنفوس على استحياء، ومن تجرأ بإعلاء صوته منها، يرى الكثير من الألسنة تمتد لتعمل فيه إساءة، وتكفيرا، ولن نهمل أن هناك من آثر الانفراد بما قد استنار به لنفسه بعيدا عن حروب من حملوا لواء التكفير والشجب، ليحشرونا في خاناتهم التي هي ليست إلا إثراء لسطوتهم، وجشعهم، وانحرافهم الضليل!

في اطلاع لي على كتاب "الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي"1الفكري التنويري الإصلاحي إن صح التعبير، تلمست رؤيته للمرأة ودفاعه عنها ضمن تسلسل تاريخي نابها فيه ما نابها من الاضطهاد والإسفاف، والالتفاف حول الشريعة ومعطياتها في ما يخص المرأة.

أقتبس هنا بعض ما ورد في الكتاب ضمن محاورة جديرة بالاهتمام والتقدير:

مقارنته وضع الرجل المركزي بشكل عام في كل زمن، قابله تهميش للمرأة ضمن قيم تنتمي إلى العبودية، ولم تغادر تلك الرؤية في العصر القبلي، ولا حتى في العصر الإسلامي، وقد تسربت تلك القيم رغم ما طرأ على المرأة بعد نزل الوحي من تطور على مستوى الحقوق والواجبات: (إن مركزية الرجل وهامشية المرأة، تنتمي لقيم العبودية، ولم تغادر المجتمع في العصر القَبلي، بل وحتى في العصر الإسلامي، تسربت تلك القيم، رغم ما طرأ على المرأة بعد نزول الوحي من تطور على مستوى الحقوق والواجبات)2.

إن الشاهد على تكريس دونية المرأة نصوص / روايات تنسب إلى عصر الخلفاء. وبعضها يروى عن النبي نفسه، وبعضها سلوك شخصي أو اجتماعي متعارف عليه "ناقصات العقول، كن من خيرهن على حذر، شاوروهن وخالفوهن" وغير ذلك من النصوص التي تمثل فجيعة العقل التراثي، وغربة المرأة داخله.يقول:(والشاهد أن أغلب النصوص التي تكرّس دونية المرأة تنتسب لعصر الخلفاء، بعضها يروى عن النبي وبعضها سلوك شخصي أو اجتماعي متعارف "ناقصات العقول، كن من خيرهن على حذر، شاوروهن وخالفوهن" وغير ذلك من النصوص التي تمثل فجيعة العقل التراثي، وغربة المرأة في داخله)3.

إنه من المأسوف عليه حقا أن تتداول مجتمعاتنا تلك النظرة التي لا بد أن لها أسبابها لو قورنت بالعصر الذي سيقت فيه، والتي لا بد أنها ارتبطت -إن صدق نقلها وتوارثها- برؤية ومصالح فرضها بعضهم في زمن معين لغايات والتماسات معينة، ولكن ماذا في العقول الذكرية والتي بعضها قد يفترض به ارتقاء سلالم الوعي والثقافة، والمكانة الاجتماعية، وهم ما يزالون يرونها الرؤية الصادقة ويربطونها بالشريعة، ومبادئها؟!

ويأتي الرد من الأستاذ الغرباوي معقبا ومحاججا بأن القرآن الكريم لم ينص على دونية المرأة، ولم يتحدث عن ثنائية النوع الإنساني إلا من خلال الجانب الوظيفي4، وأن في النصوص القرآنية إشارات وقرائن يهملها المفسر/ الفقيه كما في الآية الكريمة " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم" والتي ما تزال تثير إشكاليات كثيرة، ورفضا واحتجاجا إيجابيا وسلبيا من جهة المرأة والرجل، إذ أن المفسر/ الفقيه يتكئ على بداية الآية، ويهمل الشروط التي قامت عليها.

ثم إن الغرباوي يسبر أكثر من آية كريمة فيها الإيحاء غير المباشر على المساواة بين الذكر والأنثى ويطيل الشروح المقرونة بالدلائل على معانيها، وعلى أن انتراع بعض المعاني وشرحها بعيدا عن السياق والإيحاء يعتبر جورا وظلما، ويخلص الأستاذ الغرباوي إلى أن مرجعيات الحركات الإسلامية سواء التراث، أو النص الديني هي وراء منطق تكريس دونية المرأة ومعاداة النسوية الداعية إلى تحرير وعي المرأة، واستعادة حيثيتها الإنسانية كي تواصل حياتها مستقلة بعيدا عن عقد المظلومية والانكسار5.

سنتحتاج وقتا طويلا، وأكثر من ثورة إنسانية فكرية لنتقبل الجديد، فكما قيل كل نبي غريب في أرضه، فإن إكرام متنور، أو مصلح اجتماعي لن يكون سريعا، إكرامه الذي أقصده، وعي ما قدمه ويقدمه لنا من فكر، وإدراك ما تحمله ثناياه جيدا من التحريض على إيقاظ العقل، وتحليل المعطيات لنتخلص من سلطة مفسر/ فقيه جعل من نفسه سيد العقلاء حين دفعته ذكورته التي ينتمي إليها إلى أن الرجل سيد المجتمع، وأنه الأفضل، والمتفضل، وهذا يقتضي أن تكون المرأة جزءا من متاعه خاضعا لإرادته يسوقه بعصاه كما يسوق أغنامه، فمن ذاك الذي يقبل بفقه فقيه يشرع وينسب إلى الإسلام ما لا يقبله عقل أو منطق، كتفخيذ الرضيعة، أو إرضاع الكبير لجواز الاختلاط مثلا" كما يذكر الأستاذ الغرباوي؟!"6.

قد ينبري أحدهم متهما أن الأستاذ الغرباوي ينبش في ذيول السلوكيات، ويحتج بها مما ذكرته أعلاه، لكن من يستطيع أن يغمض عينيه عن ممارسات القمع التي ما يزال يغص بها زمننا وحاضرنا من قهر للمرأة، وتعنيفها في أغلب بلداننا العربية، وهل السوشيال ميديا إلا السافر المسفر الذي لا نستطيع صده، وهويعرض علينا في كل حين مشاهد قتل وسحل للمرأة بمختلف الطرق، حين ترفض الزواج من أحدهم، فينحرها، وحين تغتصب طفلة من أقرب المقربين إليها، وتسكت أمها على الأمر خوفا من ذوي الشأن من الذكور في أسرتها، وضحايا الحروب والمعتقلات، والأطفال الذين ولدوا في السجون ثمار اغتصاب.... ماذا بشأنهم؟!

هو غيض من فيض فلسفه مشروع الأستاذ الغرباوي مشكورا في معرض لكشف الأستار، وإضاءة الأنوار حول وضع المرأة التي هي رحمنا الأول.. الأم قبل أن تكون الحبيبة، أو الزوجة وتتسلسل إلى ابنة وحفيدة، وسيدة مجتمع وكيانا قائما بذاته..

***

أمان السيد– أديبة وكاتبة

سيدني - أستراليا

.........................

هوامش

1- محمد علي، ا. د. محمود، الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي النسوي، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، ودار الوفاء الاسكندرية، 2021م.

2 - المصدر نفسه، ص 56.

3 - المصدر نفسه.

4 - المصدر نفسه، ص 57.

5 - المصدر نفسه، ص 60.

6 - المصدر نفسه، ص 78.

 ...........................

* مشاركة (46) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

استطاع الاخ العزيز والصديق الوفي ماجد الغرباوي أن يوجد لنفسه موطيء قدم في ساحة الثقافة والفكر العراقية والعربية. ومن خلال قراءتي لبعض ما أنجز في سياق مشروعه التنويري، ومتابعة ما كتب عنه وعن منجزه في الساحة العربية الثقافية والفكرية أستطيع القول أنه من أولائك القلائل الذين مزقوا الشرنقة التي عجز الكثيرون من التخلص من خيوطها التي كبلت العقول من الانطلاق في آفاق التفكير الحر بعيدا عن القول «إنا وجدنا آباءنا على ....».

لا أعتقد أن أحدا منصفا يجادل في أن هذا الرجل المغترب عن أهله ووطنه كان عصامياً بكل ما للكلمة من معنى ودلالة، ولعل الالتفات إلى البيئة المتواضعة التي نشأ فيها وانطلق منها، والظروف غير المستقرة التي عاشها معاناةً في كل مراحلها وتقلباتها تؤكد بكل وضوح ما ندعيه لهذا المثقف المثابر من إصرار وعزم على بلوغ ما يصبو إليه من إيصال ما يعتقده من آراء ومتبنيات، بغض النظر عن كوننا نتفق معه في بعض ما يطرح أو لا نتفق.

لا أريد في هذه الكلمة القصيرة أن أقوّم مشروع الغرباوي، ولا أن أشير إلى نقاط قوته وضعفه بحسب رأيي المتواضع جداً، لأنني وجدت عددا لا بأس به من ذوي الاختصاص والرأي قد فعلوا ذلك، والسعيد من اكتفى بغيره كما يقال، ولذلك سوف أقتصر على إيجاز ما يتعلق بالأخ والزميل ماجد الغرباوي في الأيام التي كنا فيها زميلين في مدرسة علمية واحدة، وفي صف دراسي واحد يوم عصفت بنا أيام الهجرة والغربة لتلقي بنا في طرق ومواقع ليس لنا في اختيارها أو اختيار بعض تفاصيلها وجزئياتها إلا هامش ضيق من الحرية.

وبعيداً عن المقدمات وجدت نفسي ذات يوم في مدرسة دينية في مدينة تعد من المدن العلمية المعروفة باعتبارها حاضنة لأحدى الحوزات العلمية الدينية، وذلك في السنوات الأولى من عقد ثمانينات القرن الماضي، ومن الطبيعي في وسط علمي كهذا يكون المرء فيه أشد انتباهاً لما حوله فيما يتعلق بمحيطه العلمي والدراسي، على صعيد المواد الدراسية، والأساتذة المعتمدين، وكذلك الطلبة وزملاء الدراسة من عدة نواح وزوايا.

وقد لفت نظري ـ وبشدة ـ أحد الطلبة الذين تجمعوا في هذه المدرسة المتواضعة من محافظات عراقية عديدية، ولكنهم أمة واحدة من حيث الإيمان والأهداف والمتبنيات على الرغم من تباين وجهات نظرهم في ما اختار كل واحد منهم من أساليب العمل لأداء ما يراه واجبا مناطا به في تلك الحقبة الزمنية المليئة بالأزمات، وعنفوان الشباب المتفجر.

وبلا مجاملة ولا مواربة أستطيع القول أن صاحبنا آتاه الله بسطة في الجسم والعلم، كان «أبو صادق» الذي لا نعرف عنه إلا كنيته ـ في تلك الحقبة التي كانت فيها الأسماء الصريحة من أشد المحرمات ـ شابا جميلاً يتميز عن الجميع تقريباً بقامته وبياض وجهه المشرب بالحمرة وشعره المائل إلى الشقرة، ولا أتذكر الآن إن كان لقب الغرباوي شائعاً يوم ذاك أم كان الاقتصار على الكنية وحسب.

وأنا على يقين أن العقود الأربعة التي تصرمت لتكون فاصلاً بين ذلك التاريخ ويومنا هذا أنستني الكثير من التفاصيل والانطباعات التي كانت حاضرة يوم كنت ألتقي «أبا صادق» في أروقة المدرسة ومحيطها، وبين جدران صفوفها، ولكن ما أستطيع أن أجزم به الآن يتمثل في امرين أعتبرهما من أهم ما استقر في ذاكرتي فيما يخص الأخ العزيز ماجد الغرباوي.

الأول أنه كان من الطلبة المتفوقين في جميع مراحل الدراسة، وفي كافة مواد المنهج ومقرراته، ولعلي غير مبالغ إذا قلت أنني كنت أعده ممن أخشاه في حلبة التنافس العلمي حينما تعلن نتائج الامتحانات الفصلية والنهاية، لما يتمتع به من ذكاء، وجدية ومثابرة، ولست بحاجة إلى أن أستحضر ما يدل على ذلك، فمؤلفات الغرباوي وآراؤه دليل واضح وجلي على استيعابه وقوة إدراكه وإحاطته العلمية والثقافية.

الأمر الآخر الذي يعد من مميزات هذا الرجل وبشكل واضح كل الوضوح في ذاكرتي هو ما كان عليه من جدية وثقة بالنفس واعتزاز بآرائه ومتبنياته منذ أيام شبابه، وقد تجلى ذلك بأنصع صوره فيما كان يدور في أوساط الطلبة والمحيط خارج هذا الإطار من نقاشات ومداولات تتسع لأكثر من جانب على الصعيد العلمي والاجتماعي وحتى السياسي في تلك الحقبة الملتهبة بسني الحرب وأيام الأزمات.

لا شك أن البرهة الزمنية التي لا تتجاوز العامين أو الثلاثة التي زاملت فيها أخي ماجد الغرباوي لا تكفي لمعرفة جميع جوانب حياته المليئة بالعطاء والانجازات والمواقف، ولكن ما لا يرقى إليه الشك هو أن الرجل بنى مجده بيديه، ولم يتكئ إلا على إصراره وعزمه وجده وحزمه، وشعورية بالمسؤولية الملقاة على عاتق أصحاب الوعي والعلم والثقافة في وضع العلامات المضيئة لعلها تكشف جانباً من طريق الحياة الذي تسيطر العتمة على أكثر زواياه ومنعطفاته.

وإذا أردنا أن نختار سمة مناسبة لنعت هذا الرجل الجدير بالتقدير والاحترام لا نتجاوز مفهوم «العصامية» التي قيل فيها:

نفسُ عصامٍ سودت عصاما

وعلمته الكرَّ والإقداما

وصيرته فارساً هماما

عذرا أبا صادق فليس هذا القليل يفي بحقك، ولكنك كريم تقبل العذر، ولا يسعني في الختام إلا أن أفتخر بك رفيق درب وأخا صادقا ووفياً، ومثقفا رائداً نفض ركام المحنة والغربة والتشرد، وتجاوز الصعاب والآلام ليشيد مجداً وإن كان بعيداً عن مسقط رأسه ومرابع صباه، فهو ليس كما قال الشاعر:

وشيدت مجدي بين أهلي فلم أقل

إلا ليت قومي يعلمون صنيعي

كنا نتمنى أن يكون الغرباوي بلحمه ودمه بين أهله يكلمهم وجها لوجه، ويستمعون إليه بكل حواسهم ومشاعرهم، ولكن حسبك أبا صادق أنك من أؤلئك الرجال الذين قال فيهم القائل:

وكن رجلاً إن أتوا بعده

يقولون مرَّ وهذا الأثر

***

طاهر أبو آلاء – كاتب وباحث

 ......................................... 

* مشاركة (45) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

قرأت له منذ سنين خلت من خلال صحيفة المثقف والتي  تكون تحت اشرافه.. يسير على مبدأ واحد ولا يمتلك محاباة برأيه ولا يميل لجهة معينة دون أخرى.. يمتلك مهارة  في انتقاء افكاره.. عرفناه مفكرا اسلاميا متنور الرؤى عميق التحليل جلي الأفكار بأسلوب رصين ...راقي اللغة رفيع المعاني ولا يهدف من ورائها منصبا أو مصلحة خاصة بقدر ما يهمه انتشال القارئ من ضجيج المفسرين وتنوع مشاربهم وتفسيراتهم التي لا توضح الفكرة انما تعقدها وتسحب القارئ الى مجاهل غريبة بعيدا عن الفكرة الرئيسية..

يمتلك شجاعة في قول الحق ولا يهاب لومة لائم ولا يجانب مهما كانت الظروف المحيطة به.. يعتمد على الاستنتاج العقلي والمفهوم المتحضر بروح انسانية عالية.

يبحث عن  الحقيقة لينير العقول التي باتت مشتتة بين هذا وذاك.. رجل ملتزم بقضيته متنور في زمن تتكالب فيه الناس على حطام الدنيا ويجافون الحقائق للمتاجرة بما يطرحونه من أفكار سطحية عقيمة لا تخدم مصلحة الناس  بقدر ما تخدم مصالحهم الخاصة.. مسك معوله بثبات وعزم وأخذ يحطم أسوار جهلهم وخرافاتهم التي عشعشت في عقول الكثير من الناس حتى كأنها غدت من الأمور المسلم بها.

لقد أسس بجهود  مضنية مفاهيما جديدة  راسخة لفهم  الدين بصورته الجليلة  الراقية كما أراد لها الله سبحانه وتعالى وبذلك دك معاقل التابوهات.. وسيكون لأطروحاته  أثر كبير في تحويل اسلوب الدراسة الى المنهج الحديث بعيدا عن المواعظ المكررة والساذجة التي  أرادها  الظلاميون ان تكون طريقهم لارتقاء سلم  مجدهم المزيف عن طريق الترهيب والترغيب والاسطورة والخرافة والتجهيل المتعمد.

وما أظن اني  بحاجة لإيراد الأمثلة على ذلك انما أيسر  الاطلاع  على مؤلفاته توضح ما ذكرته جليا.

قرأ  الغرباوي الدين الاسلامي قراءة منصفة مشذبة من  العوالق التي الصقت به فقدمه للقارئ  في كل كتاباته كونه  دين التسامح والرحمة والمحبة واحترام الانسان وان يأخذ كل ذي حق حقه.

لقد قدم للمكتبة العراقية والعربية ثراء فكريا جديدا بمؤلفاته القيمة.. وسيهتم الدارسون بهذه الأفكار النيرة التي طرحها وهي جديرة ان تدرس دراسة مستفيضة لما تحمله من أفكار ناضجة وأودع فيها المؤلف زبدة حكمته وأراءه والتي عالج من خلالها أسباب التخلف والجهل في مجتمعاتنا ...

يقول عبد الرحمن الكواكبي: لماذا يضعف المسلمون؟  يضعفون لانهم اهملوا آداب الدين التي نهضوا بها في صدر الاسلام.. ثم يتساءل: ولماذا أهملوا آداب الدين..؟ لأنهم جهلوا لبابه وأخذوا منه بالقشور.. ولأنهم فقدوا الهمة وقنعوا بالضعة واستكانوا الى الخور والتسليم.

***

سنية عبد عون رشو

.....................

* مشاركة (44) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

الأستاذ ماجد الغرباوي، مُفكّر تنويري يتميّز بقُدرته على النقد ومُساءلة القضايا والإشكالات القلِقة التي تُعدّ جوهرية تتطلّب المباحثة في سياق البناء الحضاري للإنسان. لديه حِسّ فلسفي نقدي تحليلي، يبتغي دومًا استحضار الإنسان والتأكيد عليه، في تفكّراته وتأمّلاته واستنتاجاته المعرفية والمنهجية بعيدًا عن أشكال الاستبداد خاصّة الديني، وعن الفكر المتزّمت، تأسيسًا لخِطاب ديني مُنفتِح وَسمته بأنه سمعٌ مُثمر وعقلٌ مُنتج في تكامُلية حيّة وتوليفة حرارية بين النقل والعقل.

على مُستوى علاقتي به، فإنّني أكنّ له كلّ المحبة والاحترام، إنسان عزيز، كريم الأصل ومُتواضع يسأل عن الحال ويتمنّى أفضله. فَتَح لي باب الكتابة والنشر في صحيفة المثقف القيّمة التي تضمّ مُختلف التخصّصات في تنوّع ماتِع ونافِع، كمَا يفتح المجال لجميع من يكتُب بجدّية، ولا يقتصِر الأمر على فئة مُعيّنة بدرجة عِلمية مُحدّدة.

في الأخير، أتمنّى له كلّ الخيرات والنجاحات، في انتظار مُستمر لكتاباته التي تستحِق النِقاش بالحُجّة، فمن بعث على ذلك كان حقًّا رَصين المبنى والمعنى.

***

الباحثة: شهرزاد حمدي – طالبة دكتوراه

جامعة محمد لمين دباغين سطيف2، الجزائر

تخصّص فلسفة عامة

.................

* مشاركة (43) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

تجلّيات التنوّع في التّأويلية الهرمونيطيقية

إن قيمة أيّة مشروع فكري تنويري تتمثّل في نوعيّة هذا المشروع من حيث الأصالة والابتكار، هل يقدّم حلولاً جديدة، هل يعالج المشكلات بطرق مبتكرة، نتاج هذا المشروع وقابلية التطبيق هل تتميّز بالاستدامة، أخيرًا وهل يستطيع أن يحدث فرقًا إيجابيًا واضحًا في المتلقي والمجتمع على حد سواء؟

كما أن كلّ كتاب نتطلّع إلى قراءته لابد من عنوان مهم له يشدنا نحوه، أما قراءة فكر الغرباوي، فهي قراءة مثمرة بقدر ما تفتح الأعين على رؤى عميقة ومنهج تحليلي متفرد في معالجة الإشكالات والقضايا الإنسانية.

عُرف ماجد الغرباوي بأنه مفكر وباحث عراقي له مساهماته في الفكر الإسلامي المعاصر، فكيف يمكن تحليل ونقد الطرح الذي قدّمه في سياق الهرمونيطيقية وما الآثار النظرية والعملية المترتبة على هذا الطرح، والذي يسهم في تأدية دورًا مهمّا في فهم النّصوص بطريقة عميقة بين النص والقارئ، حيث يؤثر كل منهما في الآخر.

بداية تظهر إصداراته كمحطات يتأصّل فيها منهج هذا المفكر الذي عرفنا على التغيرات والتحديات التي لا تنفصل في رؤيتها عن منهجه المعرفي والمحاور الرئيسية في مشروعه الإصلاحي، حينما اتّخذ موقفا جريئًا ثابتًا ممن يُؤلّهون الأوثان البشرية، فقال: " يكمن خطر التراث في قدرته على تأليه أوثان صنعها بيده"، هذه المقولة إصلاحية بقدر ما يتم تفسيرها على أنها دعوة إلى إعادة النظر في بعض جوانب التراث، التي يمكن أن تعيق التقدم، أو تسهم في ترسيخ مفاهيم خاطئة، حيث الفكر الإصلاحي يسعى لتحديث الممارسات والأفكار دون التخلي عن الجوهر أو الهويّة الثقافية، ونستطيع القول أنها تنويرية بقدر ما تعزّز المشاعر الإنسانية التي تتّخذ طابع التّجديد لولادة فكر موضوعي يركز على العقلانية، والعلم، ويدعو إلى التحرر من كل أشكال السلطة التي لا تستند إلى العقل والمنطق، بما في ذلك سلطة التقاليد والتراث، وكلا الحركتين الإصلاح والتنوير تدعوان إلى ضرورة التفكير النقدي الذي يتزامن مع عاصفة من التناقضات الاجتماعية الراهنة، حاو من خلالها الغرباوي أن يؤسس قاعدة ثابتة، يتحرّر فيها من عقدة النّموذج، ومن حتميّات الدّلالة.

يعتمد المشروع الإصلاحي لدى ماجد الغرباوي على السياق التاريخي والثقافي للموضوعات التي أراد لها النور، فبدأ من الإصلاح الداخلي، إصلاح الأوضاع الدينية والاجتماعية إلى السياسية أحيانا داخل المجتمع، سعيًا إلى تطويرها من الداخل وفقًا مبادئه الأساسية.

حرص الغرباوي على احترام التقاليد والقيم الراسخة في المجتمع في مشروعه الإصلاحي ساعيا إلى العثور على نقاط مشتركة بين الثقافات لأهميتها التي تسهم في مد جسور التواصل، ويرى في الإصلاح طريقة لإعادة إحياء هذه التقاليد بما يتكيف مع العصر الحالي لرأب الصدع الحاصل بين الدين والأخلاق.

كما ويسعى إلى التغيير التدريجي، كسيرورة في التقدم المستمر، بشكل يتساوق مع بناء الوعي المعرفي، وإن كان مشروعه يبدو بأنه يحمل اللافتة التنويرية ويتّخذ منهج الإصلاحيين.

فقد طرح سؤالات كبيرة في كتابه" المقدس ورهانات الأخلاق " كدعوة لإيجاد إجابات تحطم أطر التراث التي تستغرق الذاكرة، بحثا عن أسباب التخلف، وشروط النهوض، فالنهضة وفق منظوره يعرضها كأطروحة ثابتة، في إحياء الدين دون انحرافات، وترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني، وربط العقيدة بالنظام السياسي والاجتماعي.

وقد استعرض د. صالح الرزوق - وهو مفكر وكاتب سوري له العديد من المقالات والكتب النقدية التي تناولت قضايا مختلفة كالدين والثقافة والسياسة - في كتابه " جدلية العنف والتسامح" فكر ماجد الغرباوي وتناول موضوع النّهضة والتجديد في الفكر الديني والفلسفي، فتقاطعت أفكارهما في الرؤية التي عدّها محاولة للتوفيق بين الأصالة والمعاصرة، وبأنه إصلاحي ينتمي لمعنى اليقظة الاجتماعية، واليقظة حسب الرزوق انتباه نفسي وثقافي يفترض امتلاك أدوات سياسية يمكن أن نعتمد عليها في حوارنا مع الاخر. كما بيّن كيف يمكن للتسامح أن يلعب دورًا في تخفيف التوترات والصراعات التي تنشأ من العنف المستند على التفسيرات الدينية أو الأيديولوجية. وناقش كيف يمكن للتسامح أن يسهم في إحياء فكرة النهضة من خلال تشجيع الحوار والانفتاح على الآراء المختلفة.

دعا الغرباوي إلى خلق قطيعة إبستمولوجية مع الخرافة لصالح المعرفة، وفهم النص الديني ضمن سياقه التاريخي بعيدا عن تقديس التأويل، لإعادة تشكيل الوعي.

نتبين في قراءتنا أنّ موقفه ثابت نحو الاجتهاد الفكري المبدع الذي يجب أن يتواءم مع الحريات الإنسانية ونهضة المجتمعات الحديثة وفقا للظروف المعاصرة، فهو يناقش النهضة الإسلامية من منظور يجمع بين الدين والسياسة، ويبين دور النهضة كما حدده الرزوق " في تنقية الدين من انحرافات التأويل" وتجديد الفكر الديني بما يوافق متطلبات العصر، مع الاحتفاظ بقيم التسامح والحرية.

الإصلاح في مشروعه الفكري ظاهرة ملموسة ذات أهمية أسمى تتجاوز النّظريات المجردة، وترتبط ارتباطا وثيقًا بروح التجديد عبر الإشادة بضرورة العلم ونشر الوعي، ومحاربة الجهل والخرافات حسب ما ذكر في كتابه " المرأة والقرآن " بأنّ الانطلاق من داخل النص إلى خارج النّص هو الأمر الذي يتناسب مع القراءة عندما يشتبك مع عوامله الخارجية، فالقراءة التي تنبع من داخل النص وحدها إنما هي ضيقة الأفق والمدى، بينما تلك التي تتم من خارج النص إلى داخله تُظهر سلطة المعرفة، والاعتقاد في إطار استراتيجيات توجد الخطاب نحو الحقيقة. يقول محمد عابد الجابري: " مالم نمارس العقلانية في تراثنا، ومالم نفضح أصول الاستبداد ومظاهره في هذا التراث، لن ننجح في تأسيس حداثة خاصة بنا، حداثة ننخرط بها ومن خلالها في الحداثة المعاصرة العالمية، كفاعلين لا مجرد منفعلين".

في محطة/ المرأة والقرآن

حوار في إشكاليات التّشريع مع د ماجدة الغضبان

بدأ الحوار عن قضايا المرأة في إطار يتحرّى الموضوعيّة، ومدى صلاحيّة النص، لينظر في شأن المُطلق من الأحكام، كما وأنّ الهيئة الحواريّة للكتاب تزيح الملل عن القارئ، ومن خلال جرأة د. الغضبان في طرح الأسئلة جاءت الإجابات بعقلانية لافتة من الغرباوي، خلص فيها إلى أن القرآن الكريم لم يُنقص من شأن المرأة بينما الحكايات والأساطير والمرويّات التراثيّة فعلت ذلك استنادًا إلى نصوص دينية منحولة.

فيقول الغرباوي إن القرآن خاطب المرأة خطابات ثابتة ومدوّنة، بما يخصّها من التّشريعات، فجعل لها من الثواب والعقاب ما للرّجل على حدّ السّواء، التّساوي الذي يشملهما في الأوامر والنّواهي الإلهية، بينما التّفسير الخاضع لفهم المفسّر يعيقه الجمود على حرفيّة النّص والارتهان للتّراث، وهو يختلف من زمان إلى زمان آخر، يكون حسب الاسقاطات النّفسيّة والاجتماعية، حيث كشف عن الإشكاليّة القاصرة عن الإدراك، بسبب عدم مراعاة الواقع فتعكس صورة مشوّهة للنّص.

محطة" الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي

ماجد الغرباوي كمفكر تنويري يتخذ موقفًا يتّسم بالتوازن تجاه قضايا الجندر والحركة النّسوية، يؤيد فيه الحاجة إلى تحليل ونقد الأنظمة الاجتماعيّة والثّقافيّة التي تؤدي إلى الفوارق بين الجنسين، والتي غالبًا ما تعزّز الهيمنة الأبويّة التي نشأت في المجتمعات الغربية وتحصر دور المرأة في دور الأمومة والمسؤوليات المنزلية.

يعتقد الغرباوي أن الجغرافيا النسويّة ليست مجرّد دراسة لمظاهر الأرض " اللاند سكيب" بل هي تقصّي لكيفية تأثير الجندر والحمولات الثقافيّة والاجتماعيّة في تشكيل هذه المظاهر، ويرى أن الفروق الاجتماعية بين الجنسين لم تتكون بشكل طبيعي، ولكن صممت لترسيخ سلطة معينة.

فيسعى لإرساء الوجه الحقيقي للمرأة عبر مشروعه الفكري لمواجهة المفاهيم التي تتبنّاها الحركة النسويّة، وتوضيح دور المرأة في المجتمع وأهميتها ومكانتها كما يتوافق مع الأطر الدينية للمجتمع العربي والإسلامي، بعيدا عن الرؤية التي لازمت كلمة الجندر حينما ظهرت في كتابات سيمون دوبوفوار كنوع اجتماعي أرادوا جعله المفهوم المركزي للحركة النسوية كلها.

كما يوضح موقفه من الأفكار الراديكالية باعتماده على البحث عن توازن ونقد النهج الذي يدعو إلى الإجهاض، أو العلاقات المحرمة خارج إطار الزواج، أو حقوق المثليّات. في الوقت نفسه يشجع على ثورة فكريّة ثقافيّة تسمح بالتبادل الفكري الحر والمشروع، رافضًا ثقافة التنافس التي تتسم بالعداء.

لقد أولى العديد من المفكرين والمتخصصين في المجال الفلسفي اهتمامًا بالغا في فكر ماجد الغرباوي، ومنهم الدكتور محمود محمد علي الذي قام بتحليل مشروع الغرباوي فعرض تقييما للقضايا الشّائكة التي تثير النقاش حول آرائه التي تتعلق بالفلسفة النسوية، حيث بين في كتاب" الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي" كيف دعا الغرباوي إلى إصلاح الفكر السّائد وإعادة بناء الوعي بما يتماشى مع الفطرة السليمة والقيم الإنسانية، مؤكدًا على موضوع النظر إلى المرأة بأنها كيان إنساني كامل له حق التعامل معه بعدالة، وأن الدور البيولوجي للمرأة هو السبب لخضوعها للتصنيفات، حيث تم تقييمها من قبل الرجل باعتبارها مجرد جسد خاضع لقوته وإرادته، بينما النهج النسوي المتوازن يعترف بالفروق الجنسية ولكن يسعى في الوقت ذاته إلى إعادة تقييمها وتعريفها بما يتناسب مع النهضة في المجتمعات الحديثة، بطرق تمكن المرأة، وتعزز المساواة بين الجنسين دون إلغاء الفروق الثقافية والاجتماعية التي تضفي على المجتمع تنوعًا وتماسكًا.

ثم يعود في كتابه " التّسامح ومنابع اللاتسامح " ليسلط الضوء على فرص التعايش بين الأديان والثقافات، من خلال ربطه بين مفهوم التسامح والإصلاح مؤكدا على أن التسامح ليس مجرد قيمة أخلاقية بل هو عقيدة وطنية، يجب أن تعزز في المجتمع، والحرية في نظره شرط لا غنى عنه لتحقيق التسامح.

ويخرج من كتابه "إخفاقات الوعي الديني" وتداعيات النكوص الحضاري في حواره مع سلام البهية السماوي إلى كتاب آخر بعنوان "إشكاليات التجديد " ليحدد الأسباب التي دفعت العرب المسلمين للتأخر وتوقف المد الحضاري، حصرها في عدة اتجاهات:

- اتجاه أول: شعور الانبهار بالغرب وحضارته حدّ الاستلاب والدونية، ورفض الآخر.

- اتجاه ثاني: انكفاء وسط شريحة واسعة مشوهة بسلوكيات ماضوية تتمسك بظاهر الدين.

- اتجاه ثالث: يتقدّمه رواد الإصلاح الذين درسوا حقيقتي الازدهار والانحطاط بحثًا عن الحقيقة. والتي انتهت بضرورة التشبث بالجانب المعنوي لتسديد الأخلاق.

كما أوضح أن الإجابة هي موضوع اشتغال المفكرين والباحثين على جميع المستويات، حيث المشكلة في الأساسية هي في بنية العقل والنظام المعرفي لشعوب المنطقة كونها القاعدة الأولى التي ترتكز إليها النهضة.

وقد سنّ أطروحته بشكل أكمل حول المنهج الجديد في تشريع الأحكام، عبر كتابه" مقتضيات الحكمة في التشريع"، فنرى أن رسالة الكتاب تدور حول أهمية فهم مقتضيات التشريع وهي الظروف والأحكام التي تقتضي صدور حكم شرعي معين، وكيف يمكن لهذا الفهم أن يؤثر في تطبيق الشريعة وتكييفها مع الواقع المعاصر، كالتغيرات الاجتماعية، والتطورات التكنولوجية، والأوضاع الاقتصادية في ظل الأزمات، تحت ما يعرف بتغيير الأحكام وفق الزمان والمكان، ويتطلب ذلك دراية بأصول الفقه، كمبدأ في تجديد الخطاب الفقهي وجعله متوافقًا مع الواقع ومتطلبات العصر، والحفاظ على الثوابت، ومراعاة المقاصد الشرعية، من خلال فهم عميق لأصول الفقه وقواعده.

تعكس تجربة الغرباوي تجربة شخصية عميقة مع قضايا الاستبداد، سواء السياسي أو الديني، فهي تجربة تنقل بصدق وحساسية معاناة الأفراد الذين يعيشون تحت نير الأنظمة القمعية، هذه المشاركة تضيف الشّرعية لحديثه عن الاستبداد. فتظهر جرأته في طرح الآثار السلبية لاستغلال الدين في فرض سلطة البعض وتقييد الحريات.

في النهاية لا يسعني القول إلا أن سلسلة متاهات الحقيقة بدأت من النقطة الأهم وهي الهويّة كمجموعة من القيم والخصائص والمعتقدات التي تحدد شخصية الفرد ومكانته في المجتمع، وأهميتها الكبرى في رحلة البحث عن المعنى لوجوده، وعامل رئيسي لتشكيل الوعي، تمد الفرد ثقته بنفسه، وتعزز الانتماء الذي يمنح الأمان النفسي، ويمد أيدي التواصل لتبادل الأفكار والخبرات التي في رحلة البحث عن المعنى عبر دوره الاجتماعي، فالهوية إطار يمكن من خلاله التنقيب والتفكير في الأسئلة الأساسية حول معاني الوجود.

ولم تنتهِ مجموعة كتبه في متاهات الحقيقة ذات الرؤية الواسعة للتاريخ مشيرا عبرها إلى أن الاستبداد العابر للحضارات والثقافات، كان ومازال عقبة رئيسية أمام التقدّم والتطور الحضاري، وهذا يعكس فهمًا للتاريخ يركز على الصراع من أجل الحرية كقوة دافعة للتقدم الإنساني.

في رحلة عميقة نحو إيجاد معنى وجودي وفي سياق الإصلاح لدى الغرباوي ضمن إطار فكره الإصلاحي، يمكن أن تتضح مظاهر التنوّع بالنّقاط التالية:

1- التّأويل المنفتح: بمعنى إعادة تأويل النصوص الدينية والثّقافيّة بطريقة تعكس التنوع والسياقات المعاصرة، وتدعو إلى التعددية داخل المجتمعات، فيظهر الباحث الغرباوي اهتمامًا بتأويلات تتسم بالانفتاح على أفكار جديدة ومختلفة تحترم التنوع الفكري والديني.

2- النّقد الذاتي: يشجع النّقد الذّاتي وإعادة النّظر في التّقاليد الثّقافية والدينية بهدف تحديثها وجعلها أكثر ملائمة للعصر الحديث وقيم التنوير وحقوق الإنسان.

3- التفاعل الثقافي: التّأكيد على أهمية التفاعل والتعايش بين الثقافات المختلفة مع الحفاظ على الهويّة الثقافية والدينية.

4- التّعددية الفكرية: الدفاع عن التعددية وحرية الفكر والتعبير، ورفض الفكر الأحادي والتسلطي.

5- إعادة تقييم السلطة الدينية: دعا الغرباوي لإعادة تقييم السلطة الدينية وأسس التفويض والتأويل، بحيث يمكن الأفراد من فهم النصوص بشكل مباشر.

6- الإصلاح اللغوي: الاهتمام بلغة التواصل والتعبير عن الأفكار الإصلاحية، بطريقة مفهومة ومقبولة للجماهير مع الأخذ بعين الاعتبار السياق التاريخي والفكري.

***

ريما آل كلزلي – أديبة وناقدة سعودية

.....................

* مشاركة (42) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

إنه لمن دواعي سروري، وصميم قلبي، كما يشرفني أن أتقدم الى الكاتب الكبير الأستاذ ماجد الغرباوي بمناسبة بلوغه السبعين من عمره الحافل بالعطاء الزاخر، والمواقف النبيلة، داعياً الله أن يُطيل في عمره ويمده بالصحة ويحفظه بالسلامة. الكلمات قد تعجز بالتعبير عن ما قدمه الأستاذ الغرباوي من منجز فكري كبير، وهو صاحب اليراع الذهبي المعطاء، ولكن لابد من أن نسجل شهادتنا للتاريخ عن فارس الكلمة، والمفكر المبدع، والمجدد الألمعي الأستاذ الغرباوي، الذي قدم من خلال مشروعه الفكري، فكراً نيراً أغنى من خلاله مكتبتنا العربية والإسلامية، فقد كان ذو تجربة فريدة في نقد الموروث الديني، ذلك التراث الذي أثقل مسيرة الأمة في تقدمها للأمام، بل كان السبب في الكثير من تعثراتها، فكان الأستاذ الغرباوي من القلائل الذين شمروا عن سواعدهم للكشف عن ألغام هذا التراث، فقد أشر على الكثير من إشكالاته مفسراً وموضحاً ومحذراً عما يتضمنه من هنات ومخاطر .

لا يمكن لجهودك أستاذ ماجد أن تُنسى، فقد أوفيت بالغرض و وبذلت الكثير فأنرت لمتعطشي المعرفة طرق المعرفة بضياء معارفك الوفيرة التي سطرتها مؤلفاتك الكثيرة، والتي هي محل فخر واحترام كل المنصفين من العلماء والمثقفين في الساحة العربية والأسلامية. لك مني كل الثناء والتقدير بعدد حبات المطر، وألوان الزهر على جهودك الثمينة والقيمة والتي هي محل افتخارنا والتي فجرت ثورة فكرية في عالم نقد التراث، فقد كنت غاية في الجرئة والشجاعة، فقد اقتحمت ساحات أحجم عنها الكثيرون تردداً وخوفاً، فكنت فيها فارساً مغواراً مقتحماً ساحات الوغى الفكرية بعقل مفتوح، وروح مقدامة، وعزيمة راسخة، أنتج من خلالها قلمك أروع المؤلفات وأجمل الدراسات التي أثارت أعجاب كل من أطَلعَ عليها، وغرف من معين معارفها، واستنشق من شذى علومها، وتنسم من عبير نتاجها المعرفي. لقد كنت أنا شخصياً ولازلت من المتابعين لثراء كتابات الأستاذ ماجد الغرباوي، فهي جزء لا يتجزء من مائدة زادي الفكري، التي لها الفضل في تشكيل خزيننا المعرفي، وبناء فضائنا الثقافي، وأنا كواحد من قراءه لا يسعني إلا أن أسجل وافر شكري وامتناني على ما قدم من جهد استثنائي في بناء هذا الصرح الفكري، فقد كان كريم في عطائه، وجميل في عرفانه، فشكري لن يوفيكم حقكم يأستاذ ماجد لما سعيتم من مساعي مشكورة، وأن جف حبري عن التعبير عن شكركم، فقلبي يبقى يحمل مشاعر الحب والتقدير لشخصكم الكريم، ولمزيد من التوفيق والنجاح لأكمال مشروعك الذي لم تدخر جهداً لإنجازه.

المشروع النقدي لماجد الغرباوي

لا شك إن الكتابة عن الأستاذ ماجد الغرباوي، ليس كتابة عن كاتب عادي، لأن الغرباوي عبارة عن مشروع ثقافي كبير. هذا المشروع ساحته التراث، والخوض في عالم التراث كالخائض في بحر مائج يتسم بالمدى البعيد، والأعماق السحيقة، وهذا يتطلب لمن يمخر به أن يجيد العوم، الذي يتمثل بدرجة عالية من الكفاءة والحرفية، وكثير من الصبر لكي يتجنب أمواجه العاتية التي لا ترحم من لايجيد فن أتقاء عواصفها المجونة .

الغرباوي يعتبر واحد من الباحثين القلائل الذين أقتحموا ساحة النقد العقلي للتراث، وهي ساحة تتطلب من مقتحمها الكثير من الجرأة والشجاعة المنقطعة النظير، لأنها ساحة غاية في الحساسية، وفيها من المصدات والعوائق والمصاعب ما لا يقتحمها الا ذوي البأس الشديد، والماشي بها كالماشي في أرض مزروعة بالألغام، ومن لا يحسن المسير بها، ويتقي عثراتها، يكون مصيره الفناء، كما حصل لفرج فودة، أو التسقيط  والتشويه، كما حصل للدكتور نصر حامد أبو زيد، ولكن الأستاذ الغرباوي بخبرته واتقاد ذكائه نجح في تجنب سقوطه في حقل ألغام ساحة التراث، وتمكن من نزع فتيل قنابله الموقوته، لأنه يعرف خرائطه ومتمكن بالمسير في ممراته الآمنه، وهذا لم يأتِ من فراغ بل نتيجة لباعه الطويل بتضاريس ساحة الموروث الفكري والديني، واشتغاله الطويل بين ثناياه، والعارف بمحتواه وأنساقه المعرفية.

الأستاذ الغرباوي تابعته منذ بداياته في مشروعه النقدي، وكدت أتحسس خطواته وكأن الرجل أحسبه يسير بطريق الانتحار المعنوي، وكمن وَطنَ نفسه للشهادة على مذبح تحرير الوعي النقدي، ويذكرني ببعض رجال المعتزلة الذين اشتغلوا على مشروع حركة الوعي النقد ي فتعرضوا الى محنة قاسية قادت بعضهم للقتل الجسدي وآخرين للقتل المعنوي، وآخرين أنزوا في بيوتهم آثرين السلامة، وقد ذكر أبن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ ان أحد رؤساء المعتزلة لزم بيته خمسين سنة لم يقدر على أن يخرج من بيته خوفا من عامة الناس، ولكن الأستاذ ماجد الغرباوي بحنكته وحذاقته الفكرية وتمكنه الأداتي العقلي تجاوز ما وقع به غيره، وتعثر آخرون .

أن المهمة الكبيرة التي أضطلع بها الأستاذ ماجد الغرباوي كانت مهمة صعبة، ولكنها عظيمة النتائج، وأهم حصاد هذه المهمة، هو الفصل مابين النص المقدس، وبين تفسير النص وتأويله، الذي هو نتاج بشري، وهذا في حد ذاته انجاز في غاية الأهمية، حيث رفع وشاح القداسة من الفكر الديني المتمثل بالتفسيرات والتأويلات للنص المقدس، ففصل بينهما، ورسم برزخاً بينهما لكي لا يتحول كل ما أنتجه الإنسان من نتاج فقهي إنساني الى موروث مقدس عابر للزمن. إن رفع الغرباوي للغطاء المقدس للفكر الديني و جعل منه مادة قابلة للحوار والمناقشة والنقد فتح عظيم في عالم النقد والاصلاح الديني. فالغرباوي قد حرث أرض الموروث الفكري والفقهي مُخَلصاً أياها من كل مايُصَحرِها، ويجعل منها أرض بوار لا تصلح لأنبات كل ما يخضرر أرض الفكر، ويعالج قضايا الإنسان . فقد أدخل الغرباوي أدوات النقد العقلي كأداة ينخل بها هذا التراث ليفصل منه الغث من السمين، ويحوله من مادة كابحة لحركة التاريخ الى مادة دافعة للأمام في صيرورة تصاعدية. ومن تجليات مشروع الغرباوي، هو إزالة مشاعر الخوف والتردد في اقتحام هذا الحقل، الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، حتى أصبح ذلك الجدار الذي صد كل محاولات النهضة لهذه الأمة، فمشروع الغرباوي، هو بالحقيقة مشروع نهضوي لأنه حرك المياه الراكة في حركة النقد، وتحرير العقل من أوهام وأساطير تسللت الى سرديات النص الديني، وهي سرديات منها ما هو دخيل، ومنها ما هو نتاج ظروفه وبيئته الزمكانية. الأستاذ ماجد الغرباوي بالحقيقة حمل على عاتقه تحقيق منجز فكري كبير، تمخض عن رؤية نقدية جعلت من العقل دوراً فاعلاً في الحكم على الموروث المعرفي، كما جعل من الفكر التراثي فكراً تاريخياً مؤطر بظرفه الزمني، ومنوطاً بأدواته المعرفية، ومعطياته البيئية، ولايمكن أن يكون خارج حدود الزمن، وأنه محكوم بنسبيته المعرفية البعيدة عن أطلاقية النص المقدس.

بخلاصة القول أن الغرباوي قد ساهم بتأسيس مشروع نهضوي غايته تحرير العقل، والتأصيل لفهم يكون للعقل فيه الدور الأكبر بعيداً عن الأوهام والأسطرة، كما دعا للتسامح في تحليل ونقد التراث، وهو ما يذكرني بنظرية العنبري المعتزلي المعرفية التي تدعو الى التسامح في عدم تكفير أحد من المتأولين لأنه يرى أن كل مجتهد مصيب . إن مشروع الغرباوي يدعو للتسامح في تقيم الأفكار بعيداً عن الإطلاقية المتزمته في الحكم على الأفكار باعتبار أن المعرفة تبقى نسبية ومتعلقة بظروفها ومعطياتها التاريخانية وأن معرفة الإنسان معرفة تراكمية لا يمكن أن تتطابق مع الحقيقة الكلية والمطلقة. إن الغرباوي بلغته السهلة وبيانه الواضح، وابتعاده عن الغموض في شروحاته جعل من منتوجه الثقافي يتسرب الى أكبر عدد من القراء، حتى يمكن القول بأن مؤلفاته أصبحت في متناول أكبر عدد من الجمهور، حتى دخلت ضمن الثقافة الشعبية، وهذا بحد ذاته انجاز كبير، بعد ماكان هذا اللون من المعرفة محصوراً على النخبة من القراء.

***

أياد الزهيري – كاتب وباحث

.............................................

* مشاركة (41) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

قِراءةٌ نقديَّةٌ في تجلِّياتِ نُصوصهِ الأدبيَّة

تَقديمُ الذاتِ الأدبيَّةِ: حين يتناهى إلى أسماعنا في الوسط الثقافي العربي عامَةً والعراقي على وجه الخصوص ذِكرُ اسم ماجد الغرباوي، الباحث والمُفكِّر الإسلامي، نستحضر بجلاءٍ وإجلالٍ وتقديرٍ تلك الشخصية العراقيَّة النضالية الثقافية ذات الفكر الديني التنويري والوعي التَّحرُّري الإسلامي المعتدل، وصاحبة المشروع السياسي الفكري التضادي المناهض لديستوبيا الظلم والاستبداد. هذه القامة الشاخصيَّة الواثبة التي هَجَرَتْ بلدها العراق عُنوةً إلى أستراليا إبَّانَ حكم نظام البعث العراقي البائد الأسبق، وفيها أسسَ الغرباوي مثابته الإعلامية الأولى وضالته صحيفة (المُثقَّف). وبذلك يعدُّ ماجد الغرباوي رُبَّان مؤسسة المثقف الإعلامي وسادنها الرُّوحي والفكري، وحارسها الأوحد الأمين بمدينة سدني.

ولكنَّ الذي لا بُدَّ من الإضاءة إلية - تنويهاً وتعريفاً - والذي لا يعرفه الكثيرُ من الكُتَّاب والقُرَّاء ومحبِّي ومتابعي وجمهور ومتلقِّي صحيفة المثقَّف الغرَّاء، ويعرفه ثلةٌ قليلةُ من الأصدقاء والمقرَّبين من أنَّ ماجدَ الغرباوي، فضلاً عن كونه عُرِفَ كاتباً إسلامياً تنويرياً متخصِّصاً طوَّع نفسه الأمَّارة بهذا الشأن. هو في الحقيقة المغيَّبة يعدُّ أديباً ومفكِّراً جاداً وشاعراً نصوصياً مرهفَ الحسِّ، وذا قلبٍ نابضٍ بالجمال الرُّوحي ومفعمٍ بالأحاسيس الشاعرية الجيَّاشة، والمشاعر الإنسانية الشفيفة الفيَّاضة.

حتَّى تجده في أدبياته يكتب قصيدة النثر الشعرية الحديثة ذات النصوص الشعرية التأملية المتعدِّدة الثيم والوحدات الموضوعية الفكرية والجمالية، والمعبِّرة بصدقٍ وجلاءٍ عن نوازع فلسفته الذاتية النفسية، والكاشفة لتجارب أناه الشاعرية الفردية مع وقائع محيطه الجمعي الخارجي المائر بالأسى. والتي هي في واقع الأمر مناط رغبته في تأثيث أثير مجساته الشعرية، وبثِّ صور مرآته الفكرية في إنتاج وتصدير التقاطاته العينية لرهان عقابيل الواقع العراقي في مختلف تعدُّد الأُطر (السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والفكري، والثقافي) المتهالك فلسفياً ووضعياً وإنسانياً.

وماجدُ الغرباوي الإنسان والأديب يستمع في نثريات شعره - بتأمُّلٍ وصبرٍ - إلى صوت ذاته العقلية الداخلية المتداعية، فتحوِّلهُ مخايله الذهنية الشاعرية إلى دفقاتٍ شعوريةٍ ووحداتِ حدثٍ موضوعيةٍ شعريةٍ تلامس في واقعيتها نياط القلب، وتجذب إليه في مسامعها نظر المتلقِّي الواعي بتجلٍّ واضحٍ.

فَمثلُ هذا التحوِّل الثقافي المتراتب وعياً وفلسفةً وسلوكاً كان تصميمه المعماري المُهَندَسُ على أساس مستوى التجنيس الشعري لقصيدة النثر الحداثوية.أمَّا على مستوى التجنيس السردي في فنيَّة الكتابة النثرية، فقد مالَ الغرباويّ في كتاباته الإبداعية إلى النصوص النثرية التسريدية القريبة في مثاباتها الفكرية وثيمها الموضوعية وقواعدها وأحكامها واشتراطاتها ومتبنياتها الأدبية السردية من إشكاليات القصة القصيرة. وذلك كونها تجمع في خطِّ بنائها التركيبي الفنِّي بين جدليَّة التخاطر الشعوري الفكري المُسترسَلِ البوحِ نَصيَّاً، والبناءِ القصصي الحكائي المتوالد الأفكار والحكايات.

ومن مُسلَّمات النقدية المهمَّة في السَّرديات أنَّ الحدث السردي بتعاظم صراعاته وعقده، يعدُّ من أهمِّ عناصر فنِّ السرد القصصي الذي هو أصعب فنون السرد، فلو كانت تقانات وآليات الحدث السردي القصصي متكاملةً ومبنيةً بناءً فنياً مُنتظماً ومُحكماً وفق قواعد مسار السردية المعروفة التي هي بالضرورة إدراك عناصر القصة القصيرة الأساسية مثل، (التكثيف، والقصر، والاقتصاد اللُّغوي، والإيحاء، والترميز الفنِّي الحكائي، والأحداث الحاسمة المتَّصلة في صراعها الممتد بصلب الحكاية، وعنصر الإثارة والتشويق في حِبكتها، والهِزة الصادمة في كسر توقُّع مألوف خاتمتها).

وعلى وفق ذلكَ، وفضلاً عن هذا الإلزام كلِّه أنَّ القصة موجَّهة بشخوصها للقارئ الذي يمتلك تجارب معرفية مُسبقة بها. حتَّى إنَّ الرجل الغرباوي قد جمع إنتاج نصوصه الشعرية المُنثالة ووضعها بملفٍّ خاصٍ بعد نشرها فُرادى في الصحف، وأطلق عليه عنواناَ باسم، (نصوصٌ أدبيةٌ) كعتبة عنوانية خارجية رئيسة من عتبات النصِّ الموازية التي أكِّدها الناقد الفرنسي جيرار جينيت.

ولم يَقُلْ الغرباويً عنها تحديداً نصوصَاً شعريةً أو نصوصاً قصصيَّةً. كونه يُدركُ جيداً مالها ويعي ما عليها من أحكامٍ وضوابطَ فنيةٍ وجماليةٍ وموضوعيةٍ خاصةً بها لابدَّ من أخذ الاعتبار بها إبداعياً وفنياً في عملية التخليق الإنتاجي للمتلقِّي النوعي وغير النوعي البسيط. وترك مهمة الأمر في تدوينها ومعاينتها لذي الشأن من النقَّاد والباحثين، من هم أصحاب الاختصاص والرأي النقدي.

والحقيقة أنَّ نصوص ماجد الغرباوي، هي نصوص أدبية فكرية ناضجة موضوعياً وفلسفياً، وفي غاية الأهمية الفكرية والجمالية؛ كونها تحمل أبعاداً إنسانية تأملية وصوراً تنويرية، وإضاءاتٍ اجتماعية وثقافية ودينية وسياسية واقتصادية في جوهر مضامينها ورؤاها وتقاطعاتها ومدخلاتها ومخرجاتها، وتناصاتها الموضوعية، ولا سِيَّما تلك التاريخية والتراثية والدينية والرمزية والأدبية. وذلك، لأنَّها ناتجة عن أبعاد فلسفته الشخصية، وظلال أفياء مشروعه الفكري التنويري الوارف.

ومثل هذه المزايا والخصال الفنيَّة والأدبيَّة تشي بأنَّ الغرباوي في توصيفه الثقافي يُعدُّ صاحب مشروع فكري إسلامي ديني، ونهج ثقافي أدبي تنويري إبستمولوجي معرفي تحرُّري تأصيلي في يوتوبيا طروحات مدينته الفكرية والأدبية الفاضلة، وفي نهج تقاطعها المتضاد مع ديستوبيا الفوضى وانساق الاستبداد والانحراف القمعي والتضليل المعرفي والفكري الآخر الذي يُمارس صوب وعي المُثقف شَرعنةً وقانوناً وفلسفةً من قبل سلطة الاستبداد السياسي المهيمن على الوجود الزمكاني.

إنَّ الذي يميِّز إنتاجيَّة ماجد الغرباوي في إسلوبيته الأدبيَّة، سواءٌ أكانت شعريةً أمْ نثريةً سرديَّةً، هو رصانة تفوّق لغته الأدبية العالية المكينة، وجماليات حُسن اختياره لمفرداته وألفاظه الدلالية، ودقة انتقائه لعباراته الإنشائية، وجُمَلِهِ التركيبية المنتظمة حبكاً لغوياً، وسبكاً دلالياً، وتماسكاً نصيَّاً في آليات فنيَّة التعبير عن رؤى تشعيراته الشعورية وفلسفة تسريداته الأدبية المتتابعة نصيَّاً في تعدُّد وحداتها الموضوعية والفكرية والمعرفية.

وتحتاج نصوص الغرباوي برغم بساطتها التركيبية في الكثير من سياقاتها اللُّغوية والدلالية إلى متلقٍ مكينٍ واعٍ وقارئٍ فذٍّ حصيفٍ يسبر عمق أغوارها الدلالية، ويُدركُ فهم مكنوناتها ومعمياتها الخفيَّة، ويستجلي بوعي خبايا مكتنهاتها الفلسفية والجمالية المتراصَّة، ويكشف بأناةٍ جدل سياقاتها الثقافية القريبة والبعيدة. ورُبَّما تحتاج بعض نصوصه الشعرية والسردية إلى قراءة فاحصةٍ ووعي نافذ حصيف، وتمكين نقدي في سونار تحليلها وتأويلها الإجرائي، وتتطلب أيضاً فهماً وتفكيكاً لشفراتها اللغوية، وبيان مرموزاتها الخفية وموحياتها السيميائية والإشارية الأيقونية النصيَّة.

وكلُّ هذا التمايز الأسلوبي ناتج عن مقدرة الأديب الغرباوي وموهبته الفكرية وذائقته المعرفية واستعداده الفطري، وميله المعرفي المكتسب لثقافة التلقِّي القرائي، ولنظريات المعرفة الإنسانية في كلِّ أبحاثه ودراساته ونتاجاته، وفي بوصلة توجُّهه الآيدلوجي الذي انماز به فكرياً وثقافياً وإعلامياً.

فالمعرفة الابستمولوجية الدينية والسوسيو ثقافية هي أداة الغرباوي الفكرية التنظيرية والإجرائية التطبيقية، واللُّغة التوصيلية، هي وسيلته المرئية وغير المرئية الهادفة في إرسال وبعث محمولاته الصوتية والحركية والسمعية التعبيرية الراسخة في تصميم ورسم لوحاته الواقعية تجريداً وتجريباً.

ظِلَالُ المُدوَّنةِ الشِّعرِيَّةِ

لقد تضمَّنت مدونة ماجد الغرباوي (نصوصٌ أدبيةٌ) ثمانية عشر نصَّاً إبداعياً، منها (7) نصوصٍ شعريَّةً، و (11) نصَّاً سرديَّاً قصيَّاً، تمكَّنَ من خلالها الغرباوي أن يُصدِّرَ أفكاره لمتلقيه كَعتباتٍ فرعيةٍ داخليةٍ تمزجُ في ثناياها الموضوعية بين رؤية فنِّ المحسوس البصري المرئي، ورؤيا المدروس المخيالي اللَّامرئي الفكري الذي يتماهى فيه مع وقائع الأحداث والتمظهرات الوجودية التي فرضت نفسها على خطى ذائقة أسلوبيته الأدبية في كسر جدر الواقع المرتهن وتحطيمه فنياً. ولعلَّ أولِ هذه النصوص الشعرية التي نستحضرها نقدياً في قراءتنا نصَّه الشعري (تَسمَّرَ الضوءُ) :

شَاهِقَاً كَانَ المَدَى

يَتَوَسَّدُ نَاِصيَةَ السَّمَاءِ

غَارِقَاً فِي هَذَيَانَاتِهِ

يَتَصَفَّحُ جُرْحَاً

تَقَرَّحَتْ زَفَرَاتُهُ العَاتِيَةُ

(نُصوصٌ أدبيةٌ، ص14)

هذه الدفقة الشعورية هي المقطع الأول الذي افتتح به الغرباوي قصيدته ذات المقاطع الخمسة الدالة لغويَّاً على مضمون عتبتها الفنيَّة المؤنسنة انزياحياً. فالغرباوي يمنح بميله اللُّغوي فضاءه الزمكاني (المدى) صورةً حاليةً مكانيةً دالةً على صفات الرفعة والسمو والتطاول والثبات والرسوخ العالي. وفي الوقت ذاته يؤنسنه بصورة نومٍ حركيةٍ آدميةٍ إنسانيَّةٍ أخرى تتوسَّد أعالي السماء. ثُمَّ يضفي عليه صورةً صوتيةً سمعيةً تظهر أضغاث هذياناته الحُلمية العميقة، وكأنَّ ضوءَه المُنساب إنسانٌ ينظر مُتأمِّلاً إلى عمق جراحاته وصور كلومه التي تقرَّحت دماً بزفراته النفسية العاتية.

ويتواصل ماجد الغرباوي مُفتتحاً انثيالات المقطع الثاني من القصيدة ذاتها بعبارةٍ تساؤليةٍ ذهنيةٍ عن أثر الذهول الذي انتاب شجرة الغواية، تلك الرمزية التي تَأسرُ نسغ الأرواح بعطرها المنبعث من أزهارها الرقيقة وروعة سحرها العابق. وقد ترك للقارئ النابه، أو المتلقي الناقد مسافةً فراغية لسطرين متتاليين كتتماتٍ إحاليةٍ فكرية؛ لمعرفة أو لتذكُّر قصة الشجرة الرمزية المعروفة. ليبني تراكيب جمله الانزياحية بذلك السراب البعيد الذي كأنه حلم ارتدى متاهاتٍ بعيدةً:

أيُّ ذُهولٍ يَنتَابُ شَجَرَةَ الغُوَايَةِ... ؟

سَرَابَاً اِرتَدَى

حُلُمَ المَتَاهَاتِ القَصِيَّةِ

وَرَاحَ يَتلُو سُورَةَ المِاءِ

وَشَيئَاً مِنْ آيَاتِ الحُطَامِ

يَستَعِيدُ بَقَايَا مُوبِقَاتٍ وَثَرثَرَاتٍ

(نصوصٌ أدبيةٌ، ص 14)

ما هذا السراب المائي الذي استوى فيضه حُلُماً في أرض المسافات المستوية القصيَّة! والذي يظنُّه الظمآن سوراً من ماءٍ خير، أو يحسبهُ بعضاً من آيات العذاب والحطام التي تذكِّره بموبقات المهالك وثرثرة الهذيانات. وكأنِّي بالغرباوي استمدَّ مضامين هذه الدفقة الشعورية وألفاظها القرآنية من نصِّ الآية (39) من (سورة النور) في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعمَالُهُم كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحسُبُهُ الظَّمآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَ لَمْ يَجِدْهُ شَيئَاً وَوَجَدَ اللهُ عِندَهُ فَوَفَاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ). ويتواصل الغرباوي مع مقاطع القصيدة الأخرى معتمداً على تناصاته التاريخية الدينية والتراثية.

والمتأمِّل بعيداً في نصوص ماجد الغرباوي الشعرية سيقرأ - حقَّاً - أنَّ الغرباوي في هوسه الروحي الجمالي الصوفي مُتعلقٌ جدَّاً بموجودات الطبيعة الكونية الثابتة منها والمتحركة. فـ (الريحُ والماءُ والمطرُ والنارُ والشجرُ والبحرُ والصخرُ والأرضُ والسماءُ والشمسُ والبرقُ والنيازكُ والضوءُ واللَّيلُ والصبحُ والزنابقُ والعصافيرُ والمَها والسَّنا)، جميعها ألفاظ مثابات لتمظهرات تلك الطبيعة التي وظَّفها الغرباوي توظيفاً تأمليَّاً روحيَّاً صادقاً متماهياً ومتحاكياً معها في ثنايا نصوص قصائده:

تَعَالَتْ صَفِيرَاً

سَنَا البَرقِ لَونُهَا

تَسَرْبَلَتْ نَارَاً حَمِئَةً

تَتَهَادَى

تَهِبُ اللَّيلَ حِلكَة

شَوْهَاءُ تَلتَهِمُ الرَّدَى...

شَاحِبٌ صَدَى أَنِينِهَا

يَتَنَاسَلُ دَمًا يَلْتَهِمُ البَرَاءَةَ

(نصوصٌ أدبيةٌ، ص 19)

مثلما كان لعناصر الطبيعة المتحركة أثر نفسي كبير عند ماجد الغرباوي، فإنَّ لدلالة (الريح) في قصيدته (تبتكرُني الريحُ) الدالة على وقع معانيها الكونية صدىً نفسياً محكياً بالغ الأثر وعظيم التأثر. وكأن لسان حال الغرباوي يلهج بساعة البعث أو الحساب أو العذاب بالنار في يوم القيامة الموعود. فـ (الصَّفيرُ، والبرقُ، والنارُ، والحِلكةُ، والرَّدى، والشُّحوبُ، والأنينُ)، تمظهرات لونية وصوتية وحركية صورية وألفاظ مرعبةٌ دالتها الإشارية اللغوية وعلامتها الأيقونية على مظاهر الخوف.

فما هذه الريح التي تُطلق صفيراً مُرعباً، وتصدرُ ضوءاً مُخيفاً، وتَتسربل ناراً من طين حمئةٍ، وتُحيل اللَّيل الأليلَ سواداً مظلماً حالكاً؟ وما هذه الريح الشوهاء التي تَلتهمُ الموت كالنار الهشيم التهاماً؟ هذه الصورة الصوتية واللَّونيَّة المُرعبة لدالة الريح التي رسمتها لوحة الشاعر التجريبية وانزاحت بها مخيلته الذهنية. وكأنَّ الريح التي وظَّفها الغرباوي في قصيدته، وجادت بها روحه الوجلة الخاشعة بريح صرصر عاتية، (وَأمَّا عَادٌ فَأُهْلِكٌوا بِرِيحِ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ)، (الحاقَّة، الآية: 6).

أما الصورة السمعية لهذه الدفقة المقطعية (شَاحبٌ صَدَى أنينِها)، فتكاد تكون مخيفة لهول وشدِّة أثرها الصوري الفعلي على النفس. فألفاظ مثل، (صفيراً، وبرقاً، وناراً، وحِلكَةً، وَرَدىً، وصدىً، وأنيناً، وتناسلاً)، ما هي إلا تردُّدات قرآنية مرعبة لعذابات نار جهنم التي وُعِدَ بها الكافرون في سور وآيات القرآن الكريم. وقد أخذت صداها التكويني الفاعل الكبير في بنائه الشعري الروحي.

ومثل هذا الإجراء التوظيفي (اللَّفظي والفعلي) الشعري المتوالي الذي سيطر على وعي ومشاعر الشاعر يدلِّلُ كلَّ التدليل على ثقافة الغرباوي الدينية الراسخة وتأثُّره بآيات وسور القرآن وتدبُره لمعانيها التي انعكست مرايا صداها الدينية على وقع جمله الشعرية التأمليَّة التي زخرت بها سطور هذه الدفقة الشعرية المُلتهبة.

أمَّا الأفعال الحالية: (تعالتْ، تسربلتْ، تتهادى، تهبُ، تلتهمُ، يتناسلُ، يلتهمُ) والدالة على المشاركة الفعلية للحدث الريحي قد أسهمت كثيراً في تصاعد حدَّة الصورة الهلعية لبوابات الريح المهلكة.

من أُتون الريح المهلكة ومشاهد عذاباتها إلى تجلِّيات العشق الروحي الصوفية وأجوائها الماتعة التي وهبها الغرباوي لِأُنثاه المرأة الرمز المعشوقة، فمنحها أجمل ما يحبُّ محبوبٌ من عناقيد العشق المتدلية الأصيلة لمعشوقته.حيث مشاعر الحبِّ والإحساس بعذوبة صوتها الطربي وشهقتها:

لَهَا...

تَتَدَلَّى عَطَايَاكِ

عَنَاقِيدُ عِشْقٍ مُعَتَّقٍ

يَأخُذُنِي إِلَى حَيثُ

صَوتُكِ حِينَمَا يَطرُبُنِي

يَا أَنْتِ كَمْ شَهقَةِ حُبُّ

تُؤَجِّجُ نَارَ الشَّوقِ

تَحرُقُنِي فَأَتُوقُ إِلَى رُؤيَاكِ

سُنْبُلَةً عَطشَى تُرَاودُهَا الأَحْلَامُ

فَتَرتَوِي ظَمَأً

(نصوص أدبية، ص 48)

من التقنيات الفنيِّة التي اعتمدها الغرباوي في مفتتح قصيدته (عناقيدُ عشقٍ) الدالة على محتواها الجمالي العشقي تقنية الحذف التنقيطي التي أهداها عناقيده المتدلية بالضمير (لها...)، أي لفلانة دون التصريح باسمها الشخصي، وفضَّلَ أنْ يترك ذلك للقارئ للتفكير بها، والاستمتاع بمن تكون هذه المعشوقة التي حَزَبَتْ نفسَه المستهامة بهذه الصور البيانية البليغة والجمل الإنشائية الصريحة. وقد زاد على ذلك جمالاً حين خاطبها بضمير المُخاطب المؤنث قائلاً: (يا أنتِ...)، فكأنَّه حدَّدها بالإشارة دون التعريض بعلميتها. أما نصوص المصفوفة الأخرى فكانت تسري بهذه الروح النقيَّة.

تجلِّياتُ المَدَوَّنَةُ السَّردِيَّةُ

والمتتبع لنصوص ماجد الغرباوي السردية سيقرأ أنَّ معظم نصوصه الأدبية القصصية القصيرة أو الطويلة إنْ لم أَقل جميعها يغلب عليها في أسلوبيتها الفنيَّة المزج بين الواقعي الحياتي اليومي، والمخيالي الأسطوري الذي يمنحها بلاغة الفنِّ القصصي وروح تقاناته الموضوعية في جماليات التلقِّي المعرفي، وإن كانت الغلبة فيها لنصوص إطلاق العنان للمخيَّلة الفكرية أنْ تأخذ دورها الحكائي في واقعة الحدث الزمكانية.فهيَ شيء جميل أنْ يُمارس القاصُّ وظيفته الأدبية للفنِّ بِحُريَّةٍ.

وفضلاً عن هذا كلِّه رغبة الكاتب التعبيرية المُلِحّة في معجمه اللُّغوي السردي في أنْ يسلك مسلكاً عدولياً يميل فيه إلى الخروج عن المألوف الاعتباري وكسر آفاق أنساقه السياقية المعجمية السردية الأنية بلغة انزياحية بلاغية جماليَّة محببَّة إلى القارئ تستهوي نفسه وتجذبه إليها؛ كونها تعبيراً غير مباشر بعيداً عن خطاب التقريرية الفجَّة ولُغة المُباشرة البليدة التي تنفر منها النفوس؛ بسبب ألفتها الممقوتة وركودها الممل الذي لا يأتي بجديد في بنية القص الحكائي، بل يضعف من قوَّته المعنوية. ومن نماذج تلك الأسلوبية نصُّ الغرباوي القصصي الدالُ على فكرة الموضوع (ذُهُولٌ).

"أَدمنتُ قَارعةَ الطَّريقِ، أَتصفحُ وُجُوهاً كَالِحةً، تَرمَقُ السَّماءَ تَارَةً، وَأُخرَى تَنظرُ مُنكَسِرةً، حَتَّى إِذَا هَبَطَ اللَّيلُ أَو يَكادُ، رَأيتُ مَذهُولَاً يُسابِقُ النَّاسَ، كَمجنُونٍ يَستفزِّهُم بِهذيانِهِ، اِستهوتنِي مُتابعتُهُ، فَرُحتُ أعدُو خَلفهُ، كَانَ يُباعدُ بَينَ خُطواتِهِ، يَتَلَفَتُ مَرعُوبَاً.. خِفتُ أنْ يَسلُكَ طُرُقَاً وَعرَةً أو مَجهولَةَ لَا أَعرفُهَا، فَقَرَّرتُ العَودةَ، وَجَدتُ نَفسِي مَشدُودَاً إِليهِ، كَانَ غَرِيبَاً فِي أَطوارِهِ، حَركاتِهِ، نَظرَاتِهَ. كَادَ لِشِدَّةِ ذُهُولِهِ أنْ يَرتَطِمَ بِجِدارٍ فَصَرَختُ فِي جَوفِي لُولَا أنْ يَفيقَ فَيَتَحَاشَى صَدمَةً عَنِيفَةً"، (نصوصٌ أدبيةٌ، ذهولٌ، ص 9). فضلاً عن المشاهد الأخرى التي توالت في سطور القصة لاحقاً.

وكأنَّ الغرباوي بهذا التسريد الإنساني المتسارع الأحداث المُذهلة يصف مشهداً قصصياً حقيقياً واقعياً لشخصيةٍ دراميةٍ مُدهشةٍ مُريبةً عابرة في الطريق؛ لكنَّها لافتةً للنظر في كلِّ تصرفاتها الشخصية البصرية المحسوسة، وصور حركاتها ونظراتها وأفعالها الحدثية المتسارعة الخطى. ويُواصل الكاتب - حثيثاً - سرده لنسيج الحكاية بهذا الإيقاع الأسلوبي القصَّي الجمالي في توصيف شخصيته القصصية الفاعلية توصيفاً انطباعياً مؤثِّراً ومثيراً للجدل في موضوعيته وكنهه.

فتراه تارةً يميل حداثياً في لغته التعبيرية إلى التناصِّ القرآني التحوِّلي عندما يقول سارداً: "لَو أنَّ بِي قُوةً فَآوِي إِلَى كَهفٍ، أو أَعُودُ إلى أدرَاجِي"، (نصوصٌ أدبيةٌ، ص10)، متناصَّاً مع قوله تعالى من (سورة هود الآية: 43): (قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعصِمُنِي مِنَ المَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ اليَومَ مِنْ أَمرِ اِللهِ إلَّا مَنْ رَّحِمَ وَحَالَ بَينَهُمَا المَوجُ فَكَانَ مِنَ المُغرَقِينَ). 

فماجد الغرباوي في نصِّه القصصي هذا يُعيدنا في تماهيه الفكري إلى قوم نوحٍ وقصة الطُوفان التي كان من بين ضحاياها ابنه الذي صار في عِداد المُغرَقين ممن كان على شاكلته من الكافرين. فالخيبةُ والخُسرانُ هُما الرابطُ الأوحد بينَ النَّصينِ القرآني الأصلي القديم، والنص الشعري الجديد الذي تعالق معه الغرباوي نصيَّاً في الفكرة وانزاح عنه متحولاً في تسريده القصصي المتأثِّر فكرةً.

وكما هو الحال في توصيفه الدقيق لذاته السردية العَلِيمَة "أو خَالَطَنِي مّسٌّ مِنَ الجُنُونِ..." (نصوصٌ أدبيةٌ، ص10)، متناصَّاً بتقصيصه الإيقاعي مع قوله تعالى: (إلَّا كَمِا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطَانُ مِنَ المَسِّ)، (البقرة،. الآية: 175). وتارةً أخرى يعود إلى أدراجه في تعبيره إلى (المخيالي الواقعي) الذي فيه نسبة كبيرة من تجليات الواقع الحياتي الراهن الذي تنطبق أحداثه وصوره الانطباعية على واقع شخصياته الفواعلية المؤثِّرة التي وجدت لها مسلكاً في ثنايا قصصه الجمعية.

فضلاً عن ذلك أنَّ الكاتب كونه الرائيَ العليمَ لقصصه يتكلَّم عن شخصية بطله السارد بلغة المتكلم بتاء الفاعلية المُتَّصلة بالأفعال الماضية التي تدلِّلُ على لغة خطابه السردي، مثل تلك الأفعال الزمانية الماضية التي وردت في مطلع القصة، (أدمنتُ، رأيتً، فَرِحْتُ، خفتُ، قررتُ، وجدتُ، صرختُ). أو بلغة ضمير الفاعلية المستتر (نا)، أو ياء المتكلم بالفعل المضارع الدالة عليه.

ثمَّة أمر آخر لافت للنظر في كثير من قصص ماجد الغرباوي ونصوصه بوجهٍ عامٍ، وفي قصَّته (ذُهولٌ) التي نحن بصدد قراءتها بشكل خاصٍّ أنَّ الخواتيم لم تكن في أسلوبيتها التعبيرية صادمةً مُثيرةً في وقع هِزَّتها مقارنةً بمستوى المطالع والمفتتحات الشائقة في قوَّة إمتاعها ومؤانستها. فَلنَنصتْ بِتجلٍّ في خاتمه قصته التي يقول ففيها: "فِقْتُ صَبَاحَاً تَذَكَّرتُ مَا جَرَى، عَاوَدَنِي الحُزنُ، وَفَغَرتُ فَمِي عِندَمَا عَرَفتُ:أنَّ المُرَمَّلَ كَانَ قَلبِيَ"، (نصوصٌ أدبيةٌ، ص11). فالخاتمة أحسَّ بدهشتها بطلُ القصَّةِ نفسُهُ الذي شعر بترمِّل قلبه لا المتلقِّي لها يشعر بأنها صادمة مثيرةً للفعل السردي.

ولنذهب إلى نموذج إجرائي آخر من نماذج تسريده القصصي التأمُّلي البعيد في فكرة فلسفته الموضوعية حكاية قصة (حُطامُ المسافاتٍ) المتوالدة الأفكار والحكايات في وحداتها الزمكانية. والتي أختار الرائي لها شخصية (ميامي) بطلتها الأُنثى الرئيسة الحالمة بالآمال والتطلُّعات الحياتية التي تسعى إلى تحقيقها ذاتياً كونها إنساناً له تمنيات وحقوق ومآلات وعليها واجبات والتزامات كثيرة.

" مَيَامِي الَّتِي أَلَفَتْ لَوحَتَهَا الجَميلَةَ، أَصبحَتْ تَنقلُ نَظَرَهَا الَّذاوِي بَينَهَا وَبَينَ الشَّجَرَةِ، تَمَنَّتْ لَو تَحَدِّثُهَا عَنْ بُعدٍ وَلَو هَمسَاً، أَو تَصُغَي لِآهاتِهَا. شَعَرَتْ بِاِنجِذَابٍ شَديدٍ وَغَرِيبٍ نَحوَهَا، جَرَّبَتْ أنْ تَتَشَاغَلَ عَنهَا، أَو تَغِيبَ يَومَاً أو أكثر... أَفقَدَ الفُرَاقُ صَوَابَهَا...أَرسَلَتْ حَفنَةَ أَشوَاقٍ مُعَتَّقةٍ. أَجَابتهُ الشَّجرَةُ بِبَاقةِ آهَاتٍ حَالمِةٍ، اِنتَشَرَتْ كَفَرَاشَاتٍ مُلوَّنَةٍ عَلَى سَطحِ اللَّوحةِ الهَامِدَةِ فِي زَاوِيَةِ الغُرفَةِ". (نصوصٌ أدبيةٌ، ص 23).

والملاحظ على تركيب هذه الحكاية أن بطلتها (ميامي)، هي إحدى الشخصيات الفنيَّة النسوية، وليست الذكورية بدلالة ذكر الاسمية الصريحة لها وتردُّدات التاء التأنيثية الساكنة التي اتصلت بجملة من الأفعال الماضية (أَلَفَتْ، أصبحتْ، تمنَّتْ، شَعرتْ، جرَّبتْ، أرسلتْ) المُحرِّكة لفعلية الحدث الدرامي القصصي الهادئ بأجوائه المكانية والزمانية الصورية والحركية التي أضفت عليه نوعاً من الألفة والسكينة بين ذاتين كونيين شريكين في الوجود الحياتي ماءً وهواءً وعيشاً وموتاً، أي بين البطلة الساردة الإنسان ميامي صاحبة اللَّوحة الجميلة والشجرة الرمز الجماد التي تماثلها معاً.

فعلى الرغم من موت المؤلِّف (الكاتب) في هذا النصِّ كشخصيةٍ رائيةٍ غيرَ أنَّنا نشعر بأثر وجودها الحقيقي من خلال هذه الأنسنة الجمادية لدالة الشجرة حين بعث فيها الحياة كإنسان يتحدَّث ويهمس بصوته، ويُصغي صوبَ الآخر المماثل في فواعله وفعلياته الزمكانية بلغةٍ بَصَرِيَّةٍ ونفسيةٍ وحركيةٍ (صوتيةٍ وسمعيةٍ) مُتراتبة الحدث، وبمشاعر حقيقيةٍ مُفعمةٍ بالمحبَّة تبعث رسائل حوارية من المتعة والإدهاش والجمال في توليفتها التعبيرية المتجدِّدة عبر هذا التراسل القصصي السردي الإنساني.

الحدث بتجلياته الصراعية الهرمونية التصاعدية أو التنازلية المختلفة يعدُّ واحداً من أهمِّ عناصر وأركان القصة أو الرواية الأساسية البنائية الأربعة: (الحدث، الشخصيات، المكان، الزمان)، فضلاً عن القدة والصراع ومكملات السرد الأخرى. وكلَّما كان الحدث منضبطاً بمستويات رِتم إيقاعه الأسلوبي الفنِّي، وغير خارج عن مساراته الحقيقية المرسومة لوحدة الموضوع الفنيَّة، كان الأثر واضحاً في تفعيل حركة قواعد فنّ السَّرد القصصي القصير بأدواته التمكينية. والحدث عند الغرباوي يسير بإيقاعٍ خفيٍّ هادئ لا تحسُّ بوجوده العُقَدِي ظاهرياً، وإنما بإنسابيةٍ مسكوت عنها.

وعلى وفق ذلك التمايز الحدثي، فإنَّ أهم ما يميِّز الحدث في سرديات ماجد الغرباوي وفي هذه القصة بالذات هو ذلك التماهي الروحي الموحَّد الذي يخلقه الكاتب لبطله مع نظائره الأخرى في تشكُّل وقائع الحدث تشكُّلاً إنسانياً وحياتياً وفي ظلٍّ سقفٍ زماني ومكاني ما تحدَّده واقعة الحدث وتطوراتها التجددية. وبلغة أنيقةٍ رشيقةٍ وبإحساس ذاتي كبير يتغلَّب على صوت الحدث، حتَّى يتناهى إلى ظنِّكَ كثيراً التأكيد بأنَّ اللُّغة بهذه النصوص القصصصية الرتائبية، هي الشاخص الأوحد المحكي بمجسَّاتها الأثيرية، وأنَّ الحدث مجرد وسيلةٍ أو صدىً عن بلاغة تلك اللَّغة العالية التحكُّم.

فعلى طول مجريات الحدث يأخذك الكاتب في تسريده القصصي إلى تلك العلاقة الحميمية بين بطله وبين الشجرة، ويشعرك بسعادة غامرةٍ أو حزنٍ أسيفٍ مع صورتها الكليَّة الحالية.وكأنَّها كائن بشري يمتلك من المشاعر والأحاسيس الرفيعة، لها من المكانة والمحبَّة والوفاء التي تجعلها ابنةً أو صديقةً مُقرَّبةً لا يمكن التفريط بها لتلك العلاقة الجوهرية بينهما. حتَّى يتراءى إليك أنَّ القاصً قد صيَّرها إنساناً عزيزاً، له أعضاء (أغصان) تمنحه جدلية الحياة أو الموت وقوة الانتشاء أو النكوص.

"ذَاتَ يَومٍ جَالَتْ بِبَصَرِهَا... حَدَّدَتْ مُوقِعَ الشَّجَرَةِ بِدِقَّةٍ، تَفَقَّدَتٍ غُصُونَهَا، وَاحِدَاً وَاحِدَاً، هَالَهَا ذَلِكَ الغُصنَ اللَّعِينَ، رَاحَ يَتَدَلَّى مُودِّعَاً أَنفَاسَهُ. هَل سَتَمُوتُ الشَّجَرَةُ بِمُوتِهِ؟ بَكَتْ... شَعَرَتْ أنَّ، جُزْءَاً مِنهَا سَتَفقُدُهُ إِلى الأَبَدِ، رَاحَ الإِحبَاطُ يُبَدِّدُ آمَالَهَا، عَادَتْ تَجُرُّ أَذيَالَ الخَيبةِ، تَسمَعُ نَشِيجَ وِحدَتِها. رَكَّزتْ نَظَرَهَا عَلَى تَقَاطُعَاتِ لَوحَتِهَا، جَالَتْ بِبَصَرِها فِي زَوَايَاهَا الأَر بَعَةِ، بَدَأتْ حَنَايَاهَا تَتَمَاوَجُ...مَنْظرٌ غَرَيبٌ...بَحَيرَةٌ جَمِيلَةٌ...". (نصوصٌ أدبيةٌ، ص 24).

فالمشاعر الفياضة تغلَّبت على أُس الحدث، وكلُّ العبارات التي نطقت بها البطلة ميامي عن تلك الشجرة وما تحمله من مشاعر إنسانية كبيرة تشي بأنَّها روح كائن متجدد رغم جماديتها الصورية.

ويمضي الغرباوي قُدُمَاً باستكمال قصته الطويلة بهذا النسغ الروحي الرتائبي الخافت لواقعة الحدث المتصاعد بتمظهرات جماليات بلاغة بيان لغته القصصية المتعالية على حساب وقع الحدث. وحين تُجِيلُ النظر تأمُّلاً في قراءة خواتيمه القصصية، ستلحظ أنها على الرغم من كونها نهايات درامية تمزج بين تقنيات المَحسوس البصري وغير المحسوس المعنوي، فإنها تعدُّ نهاياتٍ مفتوحةً للقارئ يتوقَّعها كيفما يشاءُ فهمُهُ القرائيّ لها، وليس فيها من صدمة المفاجأة والإدهاش الذي يكسر أفق توقُّع المتلقِّي بفكرة خاتمة الأفكار التي هي حسن تَخَلُّصِ الحدث الحكائي للفكرة.

"ِالتِفِتِتْ إِلَى الشَّجَرَةِ، اَرهَقَتهَا حَنَايَا أَغصَانِهَا.عَادَتْ لِتَصحَبَهُ، اِمتَلَأَتْ قَبضَتُها شَوكَاً!". (نصوصٌ أدبيةٌ، ص 28). فعلى الرغم من الأنسنة والانزياحية اللُّغوية الصورية، فإنَّ هناك غياباً تامَّا لأثر الخاتمة.

ومن بين قصص هذه المصفوفة الأدبية قصة (اللَّاعبُ المُخادِعُ)، وهي من القصص البوليفونية المتعدِّدة الأصوات في بنائها التركيبي الحدثي، تعتمد على فكرةٍ جميلةٍ تقوم بتبادل الأدوار بين مُعلِّمٍ موسيقي مبدئيّ، وتلميذ هاوٍ مُبتدئ معجب بمعلِّمه عازف الموسيقى. ولكن سياقات العمل بينها تنحرف عن مسارها الأخلاقي المبدئي؛ وفقاً لما تقتضيه المصالح والمُتبنيات والمطامح الشخيصة لبطل القصة الذي يفاجئ تلميذة البارّ الذي يرى فيه صورةً قدسيةً لجلالة المُعلِّمِ الناهضِ بالأجيال.

"وَذَاتَ يَومٍ قَرَّرَ المُعلِّم فَجأَةً أنْ يَكونَ لَاعِبَ سَيركٍ مُعتَمِدَاً عَلَى لَياقتِهِ الجَسَديَّةِ، وَخِفَّةِ حَرَكَاتِهِ. وَعِندَمَا فَاتَحَ عَلِيَّاً [التلميذَ] بِالأمرِ اِستغرَبَ مِنْ قَرَارِ مُعَلِّمهِ، وَانْدَهَشَ مِمَا زَادَ فِي حَيرَتِهِ، فَمَا عَلاقَةُ السَّيركِ بِالمُوسِيقَى؟ غَيرَ أنَّ المُعَلِّمِ وَمَا يَتَمَتَّعُ بِهِ مِنْ لَبَاقَةٍ أقنعَ عَلِيَّاً بِالفِكرَةِ، عَلَى أنْ يَعمَلَا مَعَاً، يَقُومُ المُعلِّمُ بِدَورِ لَاعبِ سَيركٍ، وَعَلَيٌّ يَعزِفُ أَلحَانَاً مُوسِيقِيةً تَتَناسبُ مَعَ حَرَكاَتِ اللَّاعبِ، كَي يَشدَّ اِنتباهَ الجُمهورَ، وَيُمكُنُ اللَّاعبُ مِنْ تَمرِيرِ حَرَكَاتِهِ البَهلَوانيَّةِ بِبَرَاعَةٍ" (نصوصٌ أدبيةٌ، ص38). ومن هنا تبداً (المُخَادَعَةُ) بؤرة الحدث المركزية بين الشخصيتين المتصارعتين.

"يَا وَلَدِي السَيركُ كَالسِّيَاسَةِ، يَعتَمِدُ عَلَى الخُدَاعِ وَالتَشويشِ عَلَى تَفكيرِ النَّاسِ، وَسَرِقَةِ إِعجابِهم، وَاسْتِغلَالِ مَشَاعِرِهُم. - وَمَاذَا عَنْ القِيمَ الإِنسانيةِ؟ وَمَاذَا عَنِ الأَخلَاقِ؟ هَكَذَا سَأَلَ عَلِيٌّ بِبَرَاءَة - أَجَابَ المُعَلِّمُ سَتَعَلِّمُكَ التَّجَارِبُ أنَّ هُنَاكَ مَصَالِحَ تَعلو عَلَى المَبَادِئ وَالأخلَاقِ، فَلَا تَكُنْ سَاذِجَاً. وَأَنَّ مَا نجُنيهِ مِنْ رَيعِ عَمَلِنَا سَنَخدِمُ بِهِ شَرِيحَةٍ وَاسِعَةٍ مِنْ البُؤسَاءِ وَالمُعدَمِينَ". (نصوصٌ أدبيةٌ، ص 39). فإذا كانت رسالة السيرك تعتمد على خداع الناس، فإنَّ رسالة العلم والتعلُّم تعتمد على فضيلة الأخلاق وعلى تبني حقائق التنوير والأخذ بها لا على ديستوبيا الفوضى والتشويش والقهر التي لا تخدم شريحة المهمشين والمغيبين والبؤساء والمُعدَمين من السواد الأعظم من فقراء الناس.

وعلى وفق ذلك التوجَّه والمغايرة الفكرية قرَّرَ التلميذ عليٌّ مقاطعة عمل أستاذه المُعّلِّم، وإنْ كانت به خصاصة له ورغبة عارمة معه. فإيثاره وموقفه الأخلاقي كان سبب تركه العزف مع مُعلِّمه الذي كان يرى فيه صورة المُعلِّم صاحب الرسالة والأخلاق والقيم والمبادئ الإنسانية الثرة.

"قَرَّرَ عَلِيّ فّورّاً مّقاطَعَةَ العَمَلِ، والاِنْصِرَافَ إِلَى عَمَلٍ آخَرَ، وَمِنْ دُونَ اِستئذَانٍ اِنسَحَبَ مِنْ سَاحةَ العَرضِ، ورَاحَ مِنْ سَاعتِهِ يَبحثُ عَنْ عَمَلٍ يَسِدُّ نَفَقَاتِهِ الحَياتِيَّةِ. فَعَمِلَ عَاملَ اِستنساخٍ فِي أَحَدِ المَكَاتِبِ بِرَاتِبٍ بَسِيطٍ بِالكَادِ يُغَطِّي نَفَقَاتِهِ اليَوميَّةِ، لَكنَّهُ كَانَ يَشعرُ بِسِعَادةٍ عَارِمَةٍ؛ لأنَّ مَوقفَهُ كَانَ مَبدَئِيَّاً وَمُنسَجِمَاً مَعَ قِيَمِهِ". (نصوص أدبية، ص 39).

وفي هذه الدفقة التسريدية رسالة إنسانية أخرى يبعثها ماجد لمُتلقيهِ من خلال شخصية البطل عليٍّ التلميذ الذي فقد عمله وضحَّى به، واشتغل عامل استنساخٍ بسيطٍ، مَفادها أنَّ الأعمال البسيطة المتدنية التي يلجأ إليها الفقراء من عامة الناس والمعدمين مجتمعياً لا تُقلِّلُ من هيبتهم الإنسانية ومستواهم المعيشي بخلاف الأعمال الدونية غير الشريفة والتي تحطَّ من قدر صاحبها وَتُسِيءُ له.

وكأنَّ لسان حال ماجد الغرباوي يتمثَّل بدلالة قوله تعالى: (وَيُؤثِرُون عَلَى أَنفسِهُم وَلَو كَانَ بِهُم خَصَاصَةٌ)، ويبعث في الوقت نفسه برسالة اهتزازية لمتلقيه مفادها أنَّ المعلِّم وإن كان ذا رسالةٍ إنسانية كبيرةٍ قد يحمل تحت معطفها المقدِّس انحرافاً أخلاقياً مُشيناً يعكس طبيعة ذاته الأمَّارة بالسوء لا صفتها الاعتبارية التي كسر أفق توقعها بعقابيل حدث الراهن لشخصية البطل المنحرف.

إذن الصراع القائم بين الرجلين بطلي الحكاية، صراعُ قِيمٍ لا صراعُ وَجاهةٍ أو خلافٌ ماديّ. وقد انعكست صورة هذا الصراع المستديم وتجلياته الفعلية على ابن المُعلِّم الذي كان يستخفُ بعليٍّ ومن عمله الجديد. حتَّى وصل الأمر إلى خاتمة القصة التي تؤكِّد أن الحكاية تسبق الفكرة؛ وبالتالي يعطيك ازدراء الابن نسخةً طبقَ الأصل عن أبيه.وكأنَّ العمل بشرفٍ وعفةٍ يُعدُّ عاراً على صاحبه.

"فبَدَّدَ اِبنُ المُعلِّمِ الصَمْتَ، وَسَأَلَ عَليَّاً: - مَاذَا تَعملُ يَا عَلِيُّ؟ - عَامِلَ اِستنسَاخٍ وَالحَمدُ للهِ - فاطلق ِابنُ المُعَلِّمِ ضِحَكَةً مُدَويَّةً، بِاستخفَافٍ كَبيرٍ، و قَالَ: مُبارَكٌ لَكَ عَمَلُكَ الجَدِيدُ! ". (نصوصٌ أدبيةٌ، ص 40).

كل الدلائل الأسلوبية للسارد الكاتب أو الرائي المحكي الداخلي تشي بأنَّ الغرباوي كان يتذوَّق نصوصه السردية تذوِّقاً فنيَّاً وجماليَّاً ويستشعر أثر قيمة موضوعيتها الفكرية وتأثير وقعها الساحر على فهم القارئ العادي والمتلقِّي الواعي النموذجي الذي يعيش أجواءها الحالية من ألِفها إلى يائها.

والأمثلة السَّردية على ذلك التلقِي المعرفي كثيرة نذكر منها قصة: (هاتفُ الفجرِ، ذُهولٌ، تَمرُّدٌ، حُطامُ المسافاتِ، مِرايا الحُروفِ، وَاِنشقَ القمرِ، حَافاتٌ قَلقةٌ، قَرارٌ ارتجاليّ، اللَّاعبُ المُخادعُ، كِذبَةٌ مُتوهجةٌ، أُمنياتٌ مُتلاشيةٌ).وغيرها من النصوص الشعرية الأخرى لقصائده النثرية في المدونة (يَتهادَى حُلُمَاً، هَمساتٌ لَاهثةٌ، تَسَمَّرَ الضَوءُ، تَبتكرنِي الرِّيحُ، مَدياتُ حُلُمٍ، كَلمَةٌ هِيَ، عَناقيدُ شِعرٍ).

وحين نُجيلّ النظر متأمِّلين بتؤدةٍ وصبرٍ كبيرينِ نصوص ماجد الغرباوي الأدبيَّة، سواءٌ أكانت الشعرية منها أم القصصية التأمُّلية الفكرية، نجدُ أنَّ ماجداً الإنسانُ الماجدُ قبل أن يكون الغرباويّ المفكِّر الكاتب الواعد. وهذه صفة مهمَّة من صفاته الإنسانية ومزاياه الإبداعية التي تميِّزه عن مُجايليه أقرانه من كتَّاب الفكر التنويري والأدبي في عالمنا العربي المعاصر والحديث.

هذا من جهة ومن جهةٍ أخرى بوصفه إعلامياً، أديباً وكاتباً تنويراً مهمَّاً في ناصية الثقافة العربية عموماً والدينية الإسلامية خصوصاً، فإنَّ أسلوبيته المُعجمية تُشير بوضوحٍ إلى أنَّ ماجداً ابن ثقافةٍ بيئيةٍ تراثيةٍ عربيةٍ خالصةٍ طبعت أثرها الروحي بنفسه طبعَاً وأخذت مكانها منه مكاناً قارَّاً.

حتَّى تأكد لنا أنَّ نتاج ماجد الغرباوي وتنظيراته الفكرية المُتأثِّرة بفلسفة التراث العربي الإسلامي الضاربة أنساغ جذوره روحه العميقة بأطناب التاريخ، هو نتاج ثقافي بروحٍ فلسفيةٍ وعلميةٍ جديدةٍ وسطيةٍ متحرِّرة الجوهر، وإن كان شكله الظاهري قرآني بحت الفهم والمعنى؛ لكن أساسات المبنى هي من تضعه في خانة التمَّيز المعرفي الذي من خلاله أن نُقيِّمَ ماجداً ونحكم عليه قيمةً علميةً وعمليةً ثرةً لا نبخس ميزانها الشيئي عدلاً وانصافاً وإحقاقاً.

إنَّ ما يهمنا في هذه الدراسة النقدية المتواضعة هو رمزية ماجد الغرباوي بوصفه الأديبَ الشاعرَ، أو القاصَّ الناثرَ. تلك النقطة الضوئية التبئيريَّة اللَّافتة التي من خلالها أن نفهم بجلاءٍ أسلوبية الغرباويّ الفكرية والأدبية، وأنْ نعيَ جيِّداً أنَّ كل ما يقوم به ماجد الغرباوي المفكِّر الإسلامي الديني المُتنوِّر في آثاره الفلسفية من تنظيرات فكريةٍ وإجرائية تطبيقية، نجدها بحقٍّ ترجمةً حقيقيةً لمعاني آثارها الفكرية واضحة في مناهل وأبجديات صفحاته الأدبية الإبداعية الثرَّة.

وهذا يلفت النظر إلى أنَّ كلَّ ما يعكس فلسفته الفكرية تجده واثباً حاضراً عملياً وعلمياً في ثنايا نصوصه الأدبية الشعرية والقصصية السرديَّة على حدٍّ سواءٍ. وأنَّ محمولات التأثُّر الفكري جليةٌ في بناء آثاره العملية، ولاسِيَّما تناصاته الفكرية القرآنية: (التحوِّلية والإيقاعية والتركيبية) التي وشمت نصوصه الأدبية من حيث الألفاظ والمعاني والانزياحات اللُّغوية البلاغية الأسلوبية الواضحة.

وإنَّ مثل هذا الفعل الكتابي قد سبقه به أدونيس علي أحمد سعيد، المفكِّر والشاعر والناقد العربي السوري في نتاجه (الثابت والمتحوِّل)، وفي كُتبه وتنظيراته الفكرية الأخرى، وفي رمزياته الصوفية وأسلوبيته الشعرية، وفي موقفه الآيدلوجي الفكري الثابت من العقيدة والدين. مع فارق الاختلاف والتشابه الجوهري بين المفكِّرين وتباين الفكر الفلسفي لكلٍّ منهما في البدائل الثقافية والمتبنيات الفلسفية المهمَّة التي هي محطُّ اهتمام نظريهما الفكري. ونشهد لماجد الغرباوي سمته الأدبية التي تُضاف رافداً لمثابة تحوَّلاته الفكرية الراسخة في مكتبة الثقافة العربيَّة عامةً والعراقية خاصَّةً.

***

د. جبّاَر ماجد البهادليَ - ناقدٌ وكاتبٌ عراقي

.......................................... 

* مشاركة (40) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

سؤال يتبادر إلى الذهن ونحن نقف مع قامة فكرية في الساحة العربية، مثل ماجد الغرباوي. أين نصنف الفكر الغرباوي؟ هل نصنفه ضمن قائمة المفكرين المشهورين سواء كانوا عرب أم أجانب. وهل وصل ماجد الغرباوي بفكره الشمولي أو الكوني الى العالمية القائمة على الأسس العقلية؟، وهل سيلقى فكره قَبُولا لدى الآخر (الفكر الغربي) في حالة ما إن ترجمت أعماله الى لغات أجنبية، فماجد الغرباوي من خلال بحوثه عرف بانفتاحه على العالم، من خلال دعوته الى التجديد وإخراج الأمة العربية والإسلامية من مستوى الانحطاط الذي بلغته في مرحلة ما.

استطاع ماجد الغرباوي بفكره أن يشغل مساحة واسعة لنشر أفكاره. والمتتبع لكتاباته يقف على أن الغرباوي، مُنَظِّرًا وناقدًا ومجددًا، حيث تدور ابحاثه حول الخطاب الديني وتحرير العقل البشري من بنيته الاسطورية، مسلطا الضوء على كثير من المشكلات التي حظيت بنقاشات واسعة لدى النخبة المثقفة متخذا في ذلك مسارا جديدا في عالم الفكر والاستبصار. كما تناول قضايا تتعلق بمرجعيات الفكر الديني، حاول من خلالها إبراز سبب إخفاق الوعي الديني ولماذا انتصر الآخر علينا، كما تناول قضايا المرأة من وجهة نظر فلسفية تحررية، وما يمكن تقديمه من حلول مخاطبا في ذلك النخبة المثقفة من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساسي لأيّ بناء حضاري، ويمكن القول أن ماجد الغرباوي قد أشبع طرحا مستفيضا في كتبه وأبحاثه متتبعا الواقع الراهن وهو يرد على سؤال النهضة.

في هذه الورقة المتواضعة نقف على "النظرية الغرباوية" وما قدمته من أفكار ورؤى حول الإنسان في تقدمه تارة وتأخره تارة أخرى وفق ما تقتضيه الظروف، فكتاباته تأتي لتدعم جميع توجهاته في المجالات السياسية والفكرية، لامس من خلالها الوضع العربي وما يعانيه من مشاكل تعيق ازدهار الحركة الفكرية والسياسية والثقافية. فجل كتابات الغرباوي تدعو إلى تنوير العقل البشري وتحريره من القيود والتبعية السياسية والإقتصادية وحتى الفكرية عن طريق الحوار مع الآخر وممارسة النقد بأسلوب عقلاني حضاري، من أجل تقارب الأفكار بين الرأي والرأي المخالف/ المختلف، وبالأخص الصراع الدائر حاليا من جهة بين الحركات الإسلامية التي تبنت العنف كحل سياسي. ومن جهة أخرى حول مسألة الطائفية. ففي كل إصدار له نجده يغوص في إشكالية الأنا والآخر، الثابت والمتغير، المقدس والمدنس، يراجع فيها المفاهيم والأفكار حتى لا يُعَرِّضَ الوعي للإخفاق، خاصة حين ينفعل الوعي بالعالم الخارجي فيحوله ويُكَيِّفُهُ ويُغَيِّرُهُ، جعله ينتقل من مرحلة إلى مرحلة أبعد منها، إلى أن وصل إلى المرحلة الراهنة التي لم يستطع تعدّيها أو تجاوزها، لأن الأنظمة تغيرت وقوانين النظام الإجتماعي لم تعد ثابتة، في ظل نزاعات حزبية وسياسية معينة ومواقع إيديولوجية أثرت بالطبع على مضامينها وجديّة تمثيلها لموقف من المواقف، خاصة وأن المحدثين الأوائل كانوا فئات متفاوتة المشارب والثقافة والقدرة على الاستيعاب، فكان الغرباوي شديد الحذر إزاء النصوص.

وقد شهد فكره الكثير من الباحثين الأكاديميين الذين أشادوا بمشروعه الفكري الذي أثرى الساحة الفكرية والثقافية العربية، ورغم أن أسلوبه يتميز أحيانا بالتعقيد، لأنه يبتعد أحيانا عن الخطاب المباشر أي المصارحة، إلا أن أفكاره تتفق في مجملها مع الكثير من المفكرين التنويريين. فقد حرص الغرباوي على تقديم أفكاره ورؤاه وفق معطيات منطقية لامس فيها روح الواقع بنظرة علمية متفتحة، ما يعني قدرته على "المناظرة" والتحدي من أجل كشف الحقيقة ورفع اللبس عن القضايا المعقدة، في سبيل الارتقاء بمشروعه الفكري، كما نرى ذلك في كتابه الذي ناقش فيه "إشكاليات التجديد"[1]، وكتاب "التسامح ومنابع اللاتسامح"[2]، خاطب فيها الإنسان، هذا الإنسان الذي تطور في تمثله حركة العالم، بحيث ينظر إليه نظرة تاريخية، باعتبار أن التاريخ مادة متحولة متحركة، وفي كل حركة تاريخية يتحرك معها الإنسان، يظهر ذلك في عمله الجماعي، يتكون وينمو، فيضفي على نفسه صفة الواعي المدرك لمسؤوليته في العالم المعاصر، وقد يتأخر لظروف اجتماعية تؤثر عليه ومحيطه والبيئة التي يعيش فيها، فتجده يمشي بخطى مترددة كما أنه يتأهب لخوض معركة مريبة الخاتمة، فمن خلال ما وقفنا عليه من إصدارات آلينا أن نقرأ الغرباوي وما تحويه نظرياته من أطروحات، وأن نتأمل نصوصه في سياق الموقف الإجتماعي والسياسي السائد في الوقت الراهن.

التجديد عند الغرباوي هل هو ضرورة حضارية؟

فكتاب "إشكالية التجديد" كان عبارة عن أسئلة طرحها ماجد الغرباوي، هي أسئلة فرضتها حالة التخلّف والانحطاط الذي بلغته البشرية، فكانت موضع اهتمام الدارسين والمفكرين رفدت أقلامهم الوعي بكل جديد، من أجل نهضة حضارية تعيد للمسلمين مجدهم الضائع وأبقتهم في دوامة السؤال والبحث كمنتج فكري عن سبل كفيلة بإنجاز نهضة تمثل هويتهم، وتجسّد قيمهم ومبادئهم، لدرجة أن الكتاب طبع ثلاث مرات، الأولى في سنة 2000 ضمن سلسلة كتاب قضايا إسلامية معاصرة، والثانية سنة 2001 ضمن نفس السلسلة في بيروت، والطبعة الثالثة، صدرت عام 2017م، مع مقدمة بعنوان: التجديد والفعل الحضاري في ضوء التحول الثقافي والفكري. إذ يرى ماجد الغرباوي أن التبعية إحدى مظاهر التخلف، لأننا نعتمد على الغرب في كل ما نحتاجه، حتى ثرواتنا التي يحتاجها الغرب يصعب علينا فرض شروطنا عليه إلا بصعوبة، ومكمن الخطر أن الشعوب لا تعي مخاطر التبعية[3]. ويمكننا هنا أن نقارن بين فكر الغرباوي ومالك بن نبي في مسالة التبعية فهما يتقاسمان الفكرة لكن لكل منها طريقته الخاصة، بحيث سماها مالك بن نبي بـ: "القابلية للاستعمار"، وهو يطرح سؤال النهضة ليجد علاجا للمشكلات الحضارية وسلوكات المجتمع التي ادت إلى اتساع الهوة بين الإنسان وواقعه الذي تحكمه ظروف تاريخية، وجد نسه عاجزا عن التوفيق بين حاضرة وماضيه الحضاري.

فنحن نقرأ بحوث الغرباوي خاصة ما تعلق بالتراث والحداثة، وكأننا نقف على متطلبات حوار الحضارات وضمان استمراريته (اي الحوار) وفعاليته، الأمر طبعا وكما يقول مفكرون يقتضي الإيمان بالحوار، والتقيد بتقنياته وأساليبه والإتفاق على مرجعيته المتمثلة في العقل أو المنطق، كنهج أساسي في العلاقة مع الآخر، أي توجيهه الوجهة الصحيحة في حسم الخلافات والنزاعات، وهذا يطرح تساؤلا هو كيف يمكن التوفيق بين خطاب العقل وخطاب العاطفة (العاطفة الدينية) وكيف يمكن ربط العقل بالمفاهيم المتناسقة (الوعي، الفكر، الثقافة والتراث) وإن كان بالإمكان الوصول إلى قناعة ترضي الطرفين وتخدم الجميع، خاصة في مجال إعمال العقل في النص الديني وإعطائه صبغة "القداسة"، كونه ينظم كل مناحي الحياة،

ويشير ماجد الغرباوي إلى ما تعانيه الشعوب من استبداد سياسي صعب عليها تقرير مصيرها بنفسها، سواء التي تعيش تحت نير الإستعمار، أو التي تمارس حكوماتها التسيير الاستبدادي الدكتاتوري، من خلال مصادرة الرأي وقمع المعارضة وتلجأ إلى تكميم الأفواه عن طريق الاعتقالات، فتجده دوما يبحث عن المخرج من أجل وحدة الأمة التي تعتبر جزءًا من الدين، وهي قضية الإسلام ولا يمكن أن تنفك أو تنفصل عنه.، ويربط ماجد الغرباوي الاستبداد الديني في العالم العربي والإسلامي بانتشار الفكر التكفيري، الذي قادته حركات إسلامية متطرفة وهذا بسبب القراءات الخاطئة للقرآن وتأويلاته والفتاوي التي أباحت قتل الآخر، وهتك عرضه وحرمته، ومما زاد في تفاقم الحالة تعدد الخطابات، بين الدينية، الطائفية والقومية، هذه الخطابات أزهقت الحق بدلا من أن تزهق الباطل، فماجد الغرباوي في هذه المسائل يحاول إحقاق الحق، وهو في هذه الحالة يسير على نهج بعض المفكرين، من بينهم واصل بن عطاء الذي يعتبر أول من قال أن الحق يُعْرَفُ من وجوهٍ أربعة: "كتاب ناطق وخبر مجتمع عليه وحجّة عقل (القياس) وإجماع"[4].

ولذا يرى ماجد الغرباوي أن التجديد ضرورة حضارية، منبثقة عن حركة الأشياء[5]. الملاحظ أن الغرباوي يربط التجديد بالحداثة التي باتت ضرورة حضارية، رغم الهجوم الكاسح ضد المجددين، وصل إلى حد القذف والاتهام والطعن في الأعراض، والتجديد في نظر الغرباوي لا يعني إلغاء الآخر أو إبعاده ووضع آخر في مكانه، وإنما يعني به تحديث أدوات التفكير عبر مناهج ونظريات حديثة، خاصة في المسائل الدينية من أجل فهم الدين ومقاصده وغاياته ..الخ[6]، في ضوء تكون وعي الإنسان، وهذا يحتاج إلى مراجعة الثوابت والفكر والثقافة، رفع الجمود على النص وتقليد السلف، والانتقال من أسلوب التلقي الأعمى إلى البحث فلا يجب ان ننساق وراء حمايات لا نعرف عنها شيئا، أو نشارك من حيث لا نشعر بطقوس وممارسات تمتص طاقتنا ولا تساهم في إثراء النهضة.

و قد تحدث ماجد الغرباوي عن دور الثقافة في تحديد اتجاه الوعي، وقارن بين الثقافة المنغلقة والثقافة النقدية الجادة (المنفتحة)، الأولى كما يقول هو تفضي إلى واقع سلبي يغيب الوعي، وينتقد ماجد الغرباوي ممارسات تزييف الوعي، ويؤكد نحن بحاجة إلى وعي رسالي[7] في إطار مبني على منهج صحيح بعيدا عن الخطابات التحريضية من أي جهة صدرت ما دامت المسألة قابلة للبحث والدراسة، من وجهة نظر غرباوية فإن تخلف المسلمين سببه انقسامهم أمام النهوض الحضاري، الأول منبهر بالغرب، حيث تبنى ثقافة التغريب، وصل به الأمر إلى حد التبعية، الثاني أصولي متعصب للتراث ولا يرى غيره رافضا معطيات الحضارة الحديثة، والثالث عاد لمراجعة التراث يستنطقه دون التغلغل في أعماق الوسط الإجتماعي مهملا الجانب المعرفي[8]. ولذا ترى النظرية الغرباوية أن الوعي يشكل نقطة انطلاق في مهام التجديد، والوعي عند الغرباوي يعني إدراك الواقع وتشخيص أخطائه[9]، وإعادة النظر في إشكالية الحوار مع الآخر المختلف وفق مبدأ قرآني، دون أن ينسى دور المثقف في تكوين بنية المجتمع فكريا وفي تجديد هويته الثقافية، حيث يدعو الى منهجة الثقافة والمعرفة، وترك عملية الدفع الإجتماعي تأخذ مجراها، في إطار ديناميكية التناسق أو التضامن طالما في المجتمع البشري فئات مختلفة.

تحديات العنف والتطرف عند الغرباوي

وتشكل ثقافة العنف عند الغرباوي تحديات خطيرا لوجود الانسان منذ القدم، ولا يزال العنف من أخطر التحديات وأكثرها تعقيدا، وبات من الصعب العثور على طريقة تهدي إلى تشخيص الحلول الناجحة لتسوية الازمات، التي تفاقمت في العقود الاخيرة من القرن المنصرم وهذا القرن حتى تحول العنف الى سلسلة أعمال إرهابية وموجة تفجيرات وعمليات انتحارية طالت مناطق واسعة من العالم، اتهمت الرسالة السماوية بالدموية، حتى بات العنف علامة فارقة تتصف بها الحركات الإسلامية جميعا[10]. ما يلاحظ أن ما جاء في هذا الكتاب قد اشتمل على تقرير، تحدث فيه ماجد الغرباوي عن التكثيف الاعلامي المضاد لوسائل الاتصال الحديثة، بطريقة متهورة أحيانا، ليست أقل خطر من الأعمال الإرهابية ذاتها التي يرتكبها البعض باسم الدين، بل بات المسلم في نظر هذه الشعوب حيوانا مفترسا لا يستحق الحياة، بعد تجرد الإرهابيين من قيمهم الإنسانية وارتكابهم أعمالا مخزية ضد البشرية، أو ضد التطور الحضاري، فصار العنف يشكل تحديا كبيرا للمشروع الإسلامي الحضاري.

فماجد الغرباوي يطرح مسألة العنف من وجهة نظر فلسفية، هل هو حقيقة أم هو استعداد قابل للتطور والتفاقم؟ وهل هو حاجة غريزية؟ أو فعل إرادي يمكن السيطرة عليه؟ أم أمرا عارضا على الإنسان يمكن التخلي عنه؟، يقول الغرباوي أنه صعب الإجابة على هذه الأسئلة[11]، لأن هناك اختلاف في الرؤى والتصورات بين الفلاسفة والإنتروبولوجيين، خاصة إذا كانت السلطة تسعى لتأسيس دولة تنضبط داخلها الأمور كلها، ونجد هنا أن الغرباوي قد استعان بحوار الإنتروبولوجي المغربي عبد الله حمودي[12]، إذ يؤكد في الصفحة الموالية للكتاب أن مشكل العنف مشكل شائك وحضوره قائم، بمعنى أنه لن يكون مآله الزوال ومن ثمّ القضاء عليه مستحيل، في البداية انطلق الغرباوي من تاريخ نشأة العنف عندما تحدث عن حادثة ابني آدم (قابيل وهابيل)[13] التي عكست طبيعة العلاقات التي مر بها الإنسان خلال مراحل حياته، وهذا يعني كما يقول هو أن تاريخ البشرية بدأ بالعنف في أول خطواته، مقدما في ذلك صورة واضحة لفكرة "الجهاد"،إن كانت تعني قتل الأبرياء الذين يختلفون معهم دينيا أو مذهبيا أو تعني تفجير الساحات العامة والمباني والمؤسسات ومحطات النقل؟ وهل من الجهاد قتل الذين يمارسون شعائرهم الدينية بأسلوب انساني مسالم؟ وهل من الاخلاق قتل النساء والاطفال وذبح الاسير، من الوريد الى الوريد؟ انها أعمال وحشية لا انسانية فكيف يرتضيها دين الاخلاق والقيم الانسانية[14].

يقول الغرباوي أنه حان الوقت لمقاربة الاسئلة الممنوعة واستنطاقها والتنقيب عنها في أعماق التراث بحثا عن مكوناته وآليات تكوّنه، إذ ما زال التراث يتحمل القسط الاكبر من مسؤولية التخلف الحضاري للمسلمين، يكون ذلك عن طريق فتح حوار مع الذات عن الخلفية التي ينطلق منها الأصولي والمتطرف في ارتكابه ممارسات إرهابية وإقدامه على عمليات انتحارية ضد الناس الأبرياء، فالتمادي في ممارسة "الإرهاب" المسلح دون مناقشات علمية للبنى العقدية القائمة عليها، سيجعل من الأخيرة مرجعية يرتكز إليها كل من يبغي محاربة الآخر ممن يختلف معهم دينيا أو فكريا أو عقديا، لدرجة أنه ظهر الخلط في تحديد المفاهيم، فلا يوجد تعريف متفق عليه بخصوص مفهوم الإرهاب، ففيما يعتبره البعض عنفا واطرفا يراه البعض على أنه إقدام وشجاعة من أجل استرجاع حق مغتصب[15]. في كل هذا وذاك يقارن الغرباوي بين ما تمارسه الجاليات العربية والاسلامية التي تعايشت مع الآخر ونشأت بينهما علاقة مفعمة بالتسامح والاعتراف بالتعدد الثقافي والديني في الوقت الذي مارست فيه بعض شرائح المجتمع، كل أشكال العنف المسلح حتى صار العنف سلوكا يوميا عندها، بل تحول إلى ثقافة وفكر وعقل ومنهج في التفكير؟ ويرجع الغرباوي السبب إلى تسلط الأنظمة على شعوبها وتدميرها القيم الانسانية، واستنبات قيم جديدة اعتمدت العنف واستباحت المحرمات الانسانية والدينية.

جدلية العنف والتسامح في المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي

هل الغرباوي رجل إصلاح؟ ومن ثم يمكن ضمه إلى قائمة الإصلاحيين مثل الكواكبي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني، هذه الأسئلة تقودنا إلى تحديد مفهوم الإصلاح عند الغرباوي، فهو يرى أن الإصلاح واقع مادي جوهري وله قيمة فوق تجريدية وهو مرتبط بالتجديد[16]. حتى الذين تابعوا كتاباته أجمعوا على أن ماجد الغرباوي لم يذكر الإصلاح إلا وأردفه بالتجديد وفي جميع حواراته، لم يكن يفصل التجديد عن الإصلاح والعكس، كما أن جل رجال الإصلاح في المشرق العربي والمغرب العربي ركزوا في دعوتهم على مصطلحات تشمل التجديد والإصلاح والتسامح والتعايش، اكتسبوا من خلالها درجة من التقديس أبعدت عنهم كل الشبهات والتهم، وهذا الكتاب يعتبر متمما أو مدعما لما سبقه، ولذا اهتم الغرباوي من بين كل الإصلاحيين بالأفغاني[17]. إذ يرى الأفغاني في إصلاحه أنه إصلاحي نهضوي وكان مجددا رغم أن العاطفة الإسلامية تغلبت على انبهاره بالحداثة، يقول الغرباوي ان إسلاميات الأفغاني كانت موضع تشكيك من السلفيين[18].

أما مسألة النهضة، فالغرباوي يعرضها كأطروحة ثابتة تشمل مفهومين: الأولى إحياء وبعث الدين بلا انحرافات، والثانية ربط السياسة والأفكار بالعقائد، مقدما في ذلك شيخ الإصلاح محمد حسن النائيني منظر الحركة الدستورية "نموذجا"، لاسيما والشيخ النائيني وبغض النظر عن مذهبه، فهو يشترك مع رواد الإصلاح بنفس الاستراتيجية، وقد واجه نقاشات وجدالات وتساؤلات ومعارك فكرية متعارضة، ويبدو أن الغرباوي من بين المتأثرين بفكر محمد حسن النائيني بحكم نظرته الخاصة للإنسان وكيف يمكن أن يعيش، أكونه دقيق النظر في المسائل المعقدة والمستعصية حلها لاسيما في الجانب العقدي دون أن يهمل الجانب الذي يعتبر الأساس في دعوته كتهذيب الأخلاق والمعاملات من أجل تحقيق الفضيلة[19]. فهو مثلا يرفض الجهاد ضد الحاكم المسلم في المقابل يقبل بالأعمال الحربية ضد الإستعمار، المسالة هنا هي مسالة موازنة بين الدعوة والدولة والإسلام هو الفكرة السائدة في هذه الموازنة، ما دفع المفكرين للتساؤل عن من يملك الاستقلالية المطلقة الدين أم الدولة؟ وربما ماجد الغرباوي واحدا منهم، بدعوته إلى استخدام العقل في القضايا المصيرية والتعقل في كل المسائل التي تتعلق بالإنسان كجوهر.

موقف ماجد الغرباوي من المدارس النسوية

لا ينفك ماجد الغرباوي أن يقحم المرأة في أطروحاته، ففي كتابه "إشكالية التجديد" اعتبر المرأة مقياسا لتطور المجتمع، وقمعها يعتبر أحد علامات تخلفه، حيث تعيش المرأة مسلوبة الإرادة والاختيار، بينما تعيش المرأة في الغرب إنسانا كاملا في الحقوق والواجبات[20].

وقد كانت هناك قراءات حول رؤية الغرباوي لقضية المرأة، منها القراءة التي أجراها الدكتور محمود محمد علي في كتاب: "الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري"[21]، فالمدارس النسوية بتعدد أفكارها وإيديولوجياتها تسعى لإعطاء وجها جديدا للمرأة في إطار التغيير السياسي والاجتماعي والثقافي، وتحديد العلاقات بين الجنسين، وصولا إلى المساواة المطلقة كهدف استراتيجي، وقد انقسمت المدارس النسوية في خطاباتها بين خطاب معتدل وسطي وخطاب متشدد متطرف وتولد عن هذين الخطابين العداء والصراع بين الجنسين.

لقد مرت المدرسة النسوية بعدة مراحل وموجات من أجل تمكين المرأة في المجالات المختلفة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية، معتمدة في ذلك على عدد من المفاهيم الرئيسية خلال مراحلها المختلفة من أجل تفسير الواقع السياسي، فنجد من هذه المفاهيم كلمة "الجندر" (Gender) الذي ظهر مع كتابات سيمون دو بوفوار، وهو يعني النوع الإجتماعي الذي يمكن القول أنه أصبح المفهوم المركزي للحركة النسوية كلها، وقد واجهت المدرسة النسوية بكافة مراحلها موجة انتقادية وهجومات واتهامات كذلك، بحجة أن هذه المدرسة تأسست لضرب الأسرة وتدميرها كمؤسسة أولى في التنشئة الإجتماعية، خاصة ما تعلق بـ: "الجندر" نظرا لكون هذا المفهوم يخرج عن الإطار المجتمعي والثقافي، كما يتعارض بشكل صريح مع الأطر الدينية التي تتبناها المجتمعات العربية والإسلامية.

في معرض رده على سؤال الدكتور محمود محمد علي حول الأطر الثلاثة للنسوية: (النظرة النسوية الإصلاحية، النظرة النسوية المقاومة والنظرة النسوية المتمردة) حيث تسعى الأولى إلى تحسين ظروف المرأة والارتقاء بأوضاعها الإجتماعية، والثانية تركز على العنف والقهر الجنسي الموجه ضد المرأة، يقول الأستاذ ماجد الغرباوي: (إن قضايا المرأة متشعبة ومركبة، وتسويتها تقتضي تفكيك أنساقها، والبحث عن جذر القهر والاضطهاد)[22]، ويرى أن هدف النظرية الإصلاحية إصلاح أحوال المرأة المعيشية والإقتصادية فيكون الإستغلال وجهتها (وهذا النوع من التشخيص لا يمس جذر المشكلة، ويعالج قضايا فوقية، رغم الأهمية الاقتصادية)[23]، دون التعمق في القضايا الجوهرية العميقة التي تواجهها، وهنا يتساءل الغرباوي إن كانت المشاكل الإقتصادية بديل عن الوعي ودوره في تعزيز القيم الإنسانية. الملاحظة التي سجلها ماجد الغرباوي ان مشكلة المرأة هي ثقافية عامة يشترك فيها الفرد والمجتمع، فلا هي مشكلة أنثوية ولا هي ذكورية، فماجد الغرباوي تناول بالنقد والمراجعة المدارس النسوية، وبيّن موقفه منها، كالمدرسة النسوية الاصلاحية، الاشتراكية، الماركسية، الراديكالية والراديكالية المتطرفة، كما قارب مسألة النسوية العربية أو كما سمّاها العرْبُ إسلامية، وبيّن خصائص البيئة والثقافة، وضرورة أخذهما بعين الاعتبار حين عالج قضايا المرأة، وهناك تفصيلات كثيرة يمكن مراجعتها ضمن صفحات الكتاب.

ويوضح الغرباوي كيف كان ينظر الرجل للمرأة في القرون التي خلت، بحيث كان ينظر إليها نظرة مقدسة بل يضعها في مرتبة الآلهة، بخلاف اليوم أسقطت منها صفة القدسية وأصبح ينظر إليها نظرة دونية، ويرجع الغرباوي هذه الأحكام إلى الفارق البيولوجي أو الجنسي للمرأة والرجل، أما موقفه من "الجندر" عندما تحدث عن أساسيات الجغرافية النسوية وقال أن دراسة الجندر ومظهر الأرض أو كما يسمى بـ: "اللاندسكيب" وتقصي أثر النوع والخلفية الثقافية والإجتماعية للإنسان في تشكيل هذا المفهوم، إلا أنه يوضح أكثر، أن مهمة الجندر نقد وتحليل النظرية التي تعتقد أن الفوارق الإجتماعية بينهما تم تزويرها لتعزيز السلطة الأبوية، وخلق قناعة لدى المرأة بأن مهمتها محصورة بالأمومة والمنزل[24].

ودعا الغرباوي إلى إعادة تشكيل الوعي من خلال تفكيك الأنساق الثقافية والمهيمن الفكري، وتشكيله على أسس إنسانية[25]، حيث ينظر للمرأة نظرة إنسانية عادلة، وذلك عندما تحدث عن الوظيفة البيولوجية للمرأة، إذ يرى أن هذه الوظيفة كانت وراء تصنيفها، فهي بالنسبة للرجل جسد، مرتهنة لقوته وإرادته جنسيا. يقول: (لا يخفى أن الوظيفة البيولوجية للمرأة كانت وراء تصنيفها. فهي بالنسبة للرجل جسد وطبيعة بيولوجية مغايرة)[26].

من هذا المنطلق يبدو أن المفكر التنويري ماجد الغرباوي يؤيد الثورة النسوية المتوازنة ودورها في بناء الوعي في رده على الراديكالية المتطرفة التي تبيح الإجهاض وإقامة العلاقات الجنسية الغير شرعية، وحق المرأة في ممارسة السحاق، وما شابه ذلك وهو بذلك يتحيز إلى ثورة فكرية ثقافية يكون التنافس الفكري فيها مسموحا ومشروعا، أي دون هيمنة فكرية أو تعصب فكري وبعيدا عن ثقافة "الندّية"، وكان الأستاذ ماجد الغرباوي قد ناقش مثل هذه القضايا في كتابه: " المرأة والقرآن" وأعطاها أبعادها الفكرية والإجتماعية والدينية، لاسيما قضية حجاب المرأة، وعاد به إلى زمن الرسالة المحمدية، حيث ربطه بالحياء والاحتشام، ونقف هنا مع موقف الغرباوي عندما قال: "هناك من ترتدي الحجاب عن قناعة باعتباره شعيرة دينية، وهناك حجاب تفرضه العادات والتقاليد، وثمّة حجاب يخفي تمردا أنثويا"[27]، وممّا تقدم، يطالب الغرباوي بإعادة قراءة حكم الحجاب في الشريعة ودعوات خلعه وحالات التمرد عليه من باب نظرية العبودية.

قراءات للفكر الغرباوي

ما وقفنا عليه من أعمال الغرباوي يعتبر شيئا قليلا، لأن نصوصه تحتاج إلى قراءات وتحليل، كانت هناك قراءات أجرها كثير من المفكرين، فقد حظي فكر ماجد الغرباوي باهتمام كثير من الباحثين الأكاديميين والمختصين في الفلسفة ومنهم الدكتور محمود محمد علي، الذي قدّم لمشروع الغرباوي قراءات فلسفية متعددة، عرض فيها أفكاره وموقفه من القضايا المطروحة لاسيما التي تلقى جدلا بين الباحثين والمفكرين. خصوصا في كتاب الفلسفة النسوية.

كذلك نقف مع القراءة التي أجراها الدكتور قادة جليد أستاذ الفلسفة بجامعة وهران غرب الجزائر، حيث اعتبر الغرباوي ظاهرة فكرية وثقافية في العالم العربي الإسلامي لأنه مثقف نقدي يبحث في المعنى وعن فهم جديد للقضايا الفكرية التراثية والإنسانية، ومثقف عضوي لأنه منخرط في عملية التغيير الإجتماعي وهذا ما يجعله مختلفا عن المفكرين الآخرين، خاصة في مسألة التراث، فالغرباوي يعتقد أن الفهم الذي نعنيه اليوم بالتراث غير مطابق لحقيقة التراث وبالتالي هذا الفهم الخاطئ وتقديسه هو عائق أمام التطور، فهو يرى أن الغرباوي شخصية علمية عصامية، ملتزم بما يؤمن به وملتزم بقضايا المجتمع وطموحه إلى التغيير دفعه لذلك، والالتزام عند المثقف العربي هو أن يكون مثقفا عضويا بلغة غرامشي، بمعنى يكون منخرطا في القضايا العامة التي تواجه المجتمع كتحديات، وهذا ما يقوم به ماجد الغرباوي، خاصة من مؤسسته " المثقف" من أجل التنوير والتغيير، ومن هنا جاء التفلسف أو التفكير بالمطرقة، فقليل جدا من المفكرين والكتاب يقول قادة جليد من يكون مستعدا لدفع الثمن، ولكن أغلبهم يطرحون الأسئلة الفاخرة، أما المثقف الحقيقي والصادق يطرح اسئلة الناقوس والغرباوي من الذين يطرحون أسئلة الناقوس أي أسئلة الخطر ويجيب عليها وأسئلة الناقوس لها ثمن[28].

أمّا الدكتور صالح الزروق في مشروع الغرباوي أن هذا الأخير في حديثه عن الإصلاح والإحياء الديني كان أكثر وعيا بالسياسة عند أئمة الشيعة الإصلاحيين ومنهم باقر الصدر وروح الله الخميني وأفرد لهما مساحة خاصة للتدليل على أن الإصلاح هو نهضوي فعلا[29]، له غاية تتلخص في إحياء الدولة الإسلامية، ولذلك لا يختلف الإصلاح عن التجديد في مفهوم الغرباوي حيث يدعو إلى فتح باب الاجتهاد حتى في الثوابت، ومن هنا تنعكس فلسفة الإصلاح عند الغرباوي عن باقي المصلحين أو الإصلاحيين إن صح التعبير، حيث يجعل التسامح في مقدمة أطروحاته، من باب ان التسامح أمر الهي وعقيدة وطنية، إلا أنه يرى ان الحرية شرط أساسي للتسامح فهي ضمان من التخلص من الأبوية، فهو يرى الحرية مطلب ديني وحاجة غريزية، خلاصة القول يلاحظ أن ماجد الغرباوي التنويري يسير على نهج الكثير من التنويريين، إذ يطل على منطقة الفكر على أساس أنها ساحة معرفية مشتركة تقع على خطوط التماس مع الدّين والفلسفة والسياسة لإرواء عطشه الفلسفي[30].

***

قراءة علجية عيش

.............................

[1] - الغرباي، ماجد، إشكاليات التجديد، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2017م.

[2] - الغرباوي، ماجد، التسامح ومنابع اللاتسامح.. فرص التعايش بين الأديان والثقافات، الحضارية، بغداد – العراق، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2008.

[3] - اشكاليات التجديد، مصدر سابق، ص 11.

[4] - علي سامي النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، دار المعارف، الطبعة السابعة، 1977م، ج1، ص395.

[5] - اشكاليات التجديد، مصدر سابق، ص 23.

[6] - المصدر نفسه، ص 24.

[7] - المصدر نفسه، ص 24.

[8] - المصدر نفسه، ص 47.

[9] - المصدر نفسه، ص 54.

[10] - الغرباوي، ماجد، تحديات العنف، الحضارية، بغداد – العراق، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2009، ص 95.

[11] - المصدر نفسه.

[12] - المصدر نفسه، ص 96.

[13] - المصدر نفسه، ص 32.

[14] - المصدر نفسه، ص 20.

[15] - المصدر نفسه، ص 21.

[16] - الرزوق، د. صالح، جدلية العنف والتسامح.. قراءة في المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي، دار نينوى، دمشق – سوريا، 2016م، ص 42

[17] - المصدر نفسه، ص 46.

[18] - المصدر نفسه، ص 25.

[19] - المصدر نفسه، ص 30.

[20] - اشكاليات التجديد، مصدر سابق، ص 30.

[21] - محمد علي، د. محمود، الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا، ودار الوفاء، الاسكندرية – مصر، 2021م.

[22] - المصدر نفسه، ص 157.

[23] - المصدر نفسه.

[24] - المصدر نفسه، ص 142.

[25] - المصدر نفسه، ص 159.

[26] - المصدر نفسه، ص 136.

[27] - المصدر نفسه، ص 217.

[28] المنجز الفكري لماجد الغرباوي ضمن ندوة: الفكر العربي المعاصر والتفلسف بالمطرقة في الجزائر، تقرير علجية عيش، أنظر، صحيفة المثقف 12 كانون2/ يناير 2023.

[29] - جدلية العنف والتسامح، مصدر سابق، ص 37.

[30] - المصدر نفسه.

.....................

* مشاركة (39) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

طالما قرأت الكثير من إنتاجاتكم الرصينة.. واكثر ما شدني هو إقدامكم الشجاع على إقتحام فلسفة التنوير في إطارها الآيديولوجي وفلسفة التحرير في إطارها السياسي.. وهي ساحات لم تكن سهلة، ومع ذلك فقد كان إقتحامكم لهذه الساحات (السياسة والدين) له مغزاه ومدلولاته في مجال الإدراك العقلي وليس فقط في الفكر المحض.. وكنتم دائماً تريدون ان تضعوا أسساً للتنوير وأسساً لإصلاح العقول في واقع يشترط إزاحة المستبد في العقل عن طريق التنوير الذي يستمر الى نهاية التاريخ الذي لن ينتهي هو الآخر.

كنتم ولا زلتم قامة رائدة في هذا المضمار الشائك والمعقد، وإن إقتحامكم كان شجاعاً حتى اذا استمر البحث من اجل إيجاد مقاربات بين السياسة والدين وبين منطق العقل الحسي ومنطق العقل المجرد، عقود من السنين. وتلمست من خلال أطروحاتكم الرصينة تساؤلات تحتاج الى التوسع وإظهار الفرق بين التنوير في الواقع  وبين الثورة على الواقع (وأيهما الأولي..؟).. فالكثير من العقول وأنماط التفكير تستخدم في بعض المفاصل الثانوية.. والقليل من العقول تجرؤ على الاستخدام الاساسي وألأمثل الذي يعالج وجود الانسان العقلي، وصديقي العزيز أحدهم بإعتزاز.

الواقع مشحون كما تعلمون بالتناقضات والمشكلات والإشكاليات، وما يهمنا في هذا المجال هو كيف يتخلص العقل من (نفاياته) كما يشير اليه "كولن ويلسون" التي تعمل على التشويش الذهني؟ ومن هذه ما يترسب من إقحام السياسة بالدين وإقحام الدين بالسياسة.

فعندما يستخدم الانسان نسبة عالية من قدرات العقل في مساءل (ثاوية) يستهلك طاقته العقلية دون ان يقدم حلولا لها.. وما يقوله إيمانؤيل كنت (تجرؤا على استخدام عقولكم).!! وأنتم تدخلون هذا المدخل بجدارة وثقة، كما أرى واتابع ما تكتبون، وخاصة وانتم تشخصون خطر الوصاية على العقول وتشخصون الاوهام والخرافات القديمة وهي مكبوت ايديولوجي يتعارض مع المنطق العقلي، وتدعون إلى الخلاص والتنوير، أي التحول من حالة عدم استخدام العقل الى التجرؤ باستخدامة بعد التخلص من تلك النفايات.

***

د. جودت صالح

17/03/2024

....................

* مشاركة (38) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

(نحن بحاجة إلى وعي يمزّق جدار الصمت، يفضح الكذب والتزوير، ويقول الحقيقة بصوت مرتفع).. الباحث ماجد الغرباوي

***

الباحث والمفكر الديني ماجد الغرباوي، شخصية فكرية معروفة. اصدر عددا من المؤلفات، تناول فيها قضايا فلسفية وفكرية وعقدية، ساعيا بمشروعه الى تحرير العقل من بنيته الأسطورية، وإعادة فهم الدين على أساس مركزية الإنسان في الحياة. كما جاء في سيرته. وأيضا يسعى جادا إلى ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي. ويؤكد (ان فهم قضايا العصرمرتهنة بتجليات العقل الواعي). والغرباوي هو مؤسس مؤسسة وصحيف المثقف والمشرف عليهما. كتب عن منجزة عدد كبير من الكتاب، نشرت في المثقف وفي مواقع أخرى.

يسعى المفكر الإسلامي دائما الى تقديم اجابات، عن أسئلة تراودنا، حول قضايا عقائدية وميتافيزيقية. عن الحياة والموت وما بعد الموت، وعلاقة كل هذا ببعثة الرسل والأنبياء. أو ما يراودنا من شكوك حول وجود الله تعالى، وحقيقة اليوم الآخر. وكذلك اسئلة عن العدل الإلهي، ومعنى العذاب والخلود في النار. اضافة الى قضايا تخص حياتنا حول التسامح مع الآخرين، واحترام خصوصياتهم وعقائدهم. وما هو السبيل للعيش بسلام مهما اختلفت الاديان والقوميات.

نجد أجوبة الباحث الغرباوي على أسئلتنا وشكوكنا، واضحة وجلية، تزيل هاجس الحيرة وتداعيات الشك، فهو مفكر اتسمت كتاباته بالشفافية والوضوح، وأسلوب رائق بانسياب سلس وبسيط .

تناول الغرباوي قضايا مهمة كثيرة، وكانت له آراء يتفرد بها ربما حول تلك القضايا. كل ذلك ضمن مشروعه التنويري، فهو عندما يدعو لمراجعة التراث ونقد النصوص، لمواكبة الحاضر، يبرر ذلك بقوله: (إن نقد النص هو تعبير آخر عن سؤال الحقيقة، وهذه إحدى مهام الكتاب[1] وهو يلاحق مرجعيات التفكير الديني بحثا عن مضمراتها، لفرز ما هو نسبي، وفضح مراوغات النص وتقنياته في وجود الحقيقة، لاستعادة الوعي وإعادة تشكيل العقل وفق نظام معرفي يرتكز للدليل والبرهان في معارفة وعلومه، من أجل نهضة حضارية نستعيد بها إنسانيتنا، ونستنشق رحيق الحرية، بعيدا عن سطوة التراث، وأسطرة الرموز الدينية)[2]. فالغرباوي في مراجعاته النقدية للتراث لا يتوانى عن الغوص عميقا من أجل الوصول الى الحقيقة، والكشف عن الزيف في قضايا نعتبرها مسلمات، ولكنها ليست ذلك بعد البحث والتنقيب كما يفيد كلام الغرباوي:  لست مع متاهات التفكيك، غير أني أسعى لأقصى ممكنات الغوص في أعماق الظواهر الاجتماعية والدينية لإدراك الحقيقة، وتقديم قراءة موضوعية، تنأى عن المراكمة فوق ركام الخراب المعرفي ودوامة التخلّف. وأطمح لرؤية مغايرة وفق مبادئ عقلية متحررة من سطوة الخرافة واللامعقول وأوهام الحقيقة، ورهاب النص وقدسيته، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب[3].

ولم تقتصر آراء الغرباوي على التراث ومراجعاته النقدية بل أن كتاباته حول قضايا أخرى كالمرأة والتجديد والتنوير كثيرة ومتعددة، وله حول التسامح كتاب مشهور بعنوان: التسامح ومنابع اللاتسامج... فرص التعايش بين الأديان والثقافات، كُتبت عنه مراجعات كثيرة. وهو من دعاة التسامح، يرفض كل قيم اللاتسامح والعداء والكراهية ونبذ الآخر، ويعتز بالتسامح أنه قيمة إنسانية ودينية نحن بحاجة ماسة له، خاصة الدولة المتعددة دينيا وثقافيا وقوميا. يؤكد في كلامه: (رغم ان التسامح مفهوم اسلامي غني في دلالاته غير ان القراءات المبتسرة للدين ونصوص الذكر الحكيم صورّت التسامح مخلوقا لا اسلاميا، او مفهوما مستوردا للاطاحة بقيم الدين الحنيف. وهي قراءات تشبث بها دعاة العنف والاحتراب، ممن اختزلوا القرآن في بضع آيات نزلت في ظل ظرف خاص، بينما أهملوا مصفوفات قرآنية كثيرة تدعو الى المحبة والوئام ونبذ العنف والدعوة الى الاسلام بالحكمة والموعظة الحسنة)[4].

- لم يكتف الغرباوي بموضوع التسامح، بل تناول منابع اللاتسامح في كتاب التسامح، وأيضا سلط الضوء، تحليلا ونقدا، على التطرف الديني وتوظيف الدين لمصالح أيديولوجية وسياسية وحزبية وحتى شخصية. والتطرف معضلة فكرية، جاءت نتيجة تراكمات الغلو العقائدي والفكري، والتعصب المقيت، تحت عناوين دينية، ما هي سوى مغالطات وقراءات خاطئة للنصوص الدينية. وهيمنة العقل التراثي، بمفاهيمه وتفسيراته للنصوص المقدسة وفق ولاءات عقدية. وقبليات طائفية. لذلك طالما حذر الغرباوي من القراءة الايديولوجية للتراث، وطالب بقراءات عقلانية موضوعية: (القراءة الأحادية للتراث، ضرب من الخداع، حينما تزور الحقائق، وتشوه الواقع، وتعكس لك صورة مثالية عن تاريخك ومقدساتك..هدم أسوار القداسة ونقد الموروث أول خطوات النهوض الحضاري وأثبات عدم تسويفها لمصالح فكرية أخرى). فهناك ضرورة لتقديم قراءات جديدة للتراث والعقل التراثي، ونقدهما لاكتشاف الحقيقة، وبيان ما هو زمني محدد بحدوده الزكانية وما هو مطلف، والتمييز بين ما هو بشري وما هو إلهي، كي لا تلبس الامور ويختلط المقدس بغيره، فهناك نظرة مقدسة للتراث لا تسمح بمراجعته فضلا عن نقده. خاصة القضايا العقائدية التي يبدي فيها الغرباوي حساسية فائقة، لخطورة ما يترتب عليها من التزامات دينية، ووعود أخروية، تغري المتلقي، فيندفع في تبني كل شيء، لا فرق عنده بين الصحيح والمزور، لا عمدا بل لأنه يثق برجل الدين، على صعيد الايمان يقول: (الإيمان يتأثر بمناشئه وصدقية العقيدة ترتهن لأدلتها وبراهينها، وبينهما بون كبير، فربما مناشئه مجرد أوهام الحقيقة أو مصفوفة خرافات لا دليل عليها سوى الوهم بتأثيره النفسي، وهذا مبرر موضوعي يسمح بنقدها ومراجعتها للكشف عن تاريخيتها وزيفها وحجم الوهم والمؤثرات الآيديولوجية والطائفية في صياغتها فيُخطئ من يؤمن بثبات العقيدة، أو ينفي تطورها وتاريخيتها)[5]. فهو يعالج في نقده للتراث قضايا ساهمت في انحراف العقيدة، وشكلت خطرا على مستقبل الدين والمسلمين، عندما استباحوا قتل الآخر، وسفك دماء الناس الابرياء. وساهموا في زرع الفرقة والتنابذ. والأعتداء على رموز ومقدسات الآخرين، والتجاوز أللا أخلاقي على حياتهم وخصوصياتهم، مما زرع الكراهية والضغينة بين الشعوب، خاصة بين المذاهب والطوائف الدينية في البلدان العربية، وهذا ما حدث في الفترة الأخيرة من اغتصاب قرى ومدن وتدمير معالم تاريخية تراثية، وقتل الأبرياء، والعُزل وسبي العوائل الآمنة في شمال العراق. لهذا يؤكد في كتاباته على نقد النص لاكتشاف حقيقته: (المطلوب فهم النص / الحكم، ضمن سياقه التاريخي، بعيداً عن التقديس. أو افتراض وجود ميتافيزيقي للحكم يحول دون إدارك ملاكاته. فربَ ظرف ما وراء صدوره، يمنع إطلاقه أو تعميمه. أو كان ثمة سبب لصدوره وقد انتفى موضوعه، فيفقد النص / الحكم فعليته. وما لم يؤخذ السياق في فهم النص تتغير جملة من الأحكام كالموقف الشرعي من الآخر وفقاً لفتاوى الفقهاء. والكلام عن النص الديني وخصوص النصوص التشريعية)[6].

ويراهن الغرباوي كثيرا على الوعي وسيلة لفهم الواقع، وتشخيص الأخطاء، دون خوف أو تردد، من اجل اكتشاف الحقيقة، وتشخيص الزيف والعودة الى قيم الدين والقيم الانسانية، وعليه نحن (بحاجة الى وعي يمزق جدار الصمت ويفضح الكتب والتزويرويقول الحقيقة بصوت مرتفع).

متمنية لكم الاستاذ القدير ماجد الغرباوي استمرار النجاح والتألق الفكري.

***

إنعام كمونة

......................

[1] - يقصد الباحث كتابه: النص وسؤال الحقيقة.

[2] - الغرباوي، ماجد، النص وسؤال الحقيقة.. نقد مرجعيات الفكر الديني، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، وأمل الجديدة، دمشق – سوريا، 2018م، ص 9.

[3] - المصدر نفسه

[4] - أنظر مقدمة الطبعة الأولى من كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح، فرص التعايش ين الأديان والثقافات، مركز دراسات فلسفة الدين – بغداد، 2006م، ص 5.

[5] - مدارات عقائدية ساخنة، حوار طارق الكناني مع ماجد الغرباوي، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا وأمل الجديدة، دمشق – سوريا، ط2، 20019، ص 22.

[6] - الغرباوي، ماجد، مقتضيات الحكمة في الترشيع.. نحو منهج جديد لتشريع الأحكام، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا، وأمل الجديدة، دمشق – سوريا، 2024م، ص 309.

 .......................................

* مشاركة (37) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

كاتب ومفكر تخطى الأسيجة الدوغمائية، فهو من الكتاب المجددين للفكر؛ إذ طالما كانت كتاباتهُ تحرّض القارئ على التحرر من قيود التراث، وفهم النص الديني بما ينسجم مع العقل، وحركة العصر، وما فيه من متغيرات حضارية.

الكاتب ماجد الغرباوي لم يكن كاتبا طارئا، بل يمتلك مشروعا ثقافيا تنويريا، يهدف إلى توعية المجتمعات، وإخراجها من ظلمات التشدّد والسطحية التي طالما كانت تعصف بها؛ لأنّها منغلقة على مفاهيم الماضي، دون مواكبة الحاضر.

من يقرأ للغرباوي يدرك أن الرجل يقف على أرض صلبة؛ نتيجة اطلاعه على التاريخ الإنساني، وثقافات الشعوب، وعقائدها، وأساطيرها، وما مرّت به من تحولات تاريخية. هذا الاطلاع، والجذوة الفكرية؛  شكلا نقطة القوة في كتاباته التي تتميز بالرصانة، والمتانة، وجمال الفكرة، ومنهجية الاستقراء. إذ تشكل مؤلفاته إضافة حقيقية للمكتبة العربية والإنسانية، متمنيا له المزيد من العطاء ومواصلة هذا المشروع  الثقافي الكبير.

***

الشاعر والكاتب أحمد مانع الركابي

....................................................... 

* مشاركة (36) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

                

منذ ان بزغ النور في سماء الانسان وهو يبحث عن مرجع معتمد يجيب عن أسئلته حول الوجود والحياة والموت، وسبب وجوده، وما هو أصله، وكيف سيكون مصيره. فكان الدين دون مرجعية الانسان المؤمن لمعرفة تلك الحقائق، فراح يهتدي بهديه، ويتمسك بشرائعه، ويتحلى باخلاقه، وتطمئن به نفسه، ويتخذ من القرآن مصدرا لمعرفة كل القضايا التي تهمه، مادام الدين وحيا منزلا من عند الله تعالى. أنزله على صدر نبينا محمد (ص) لهدايتنا، فالدين مرجعية صائبة بالنسبة للمؤمنين، وهذا سبب تعلقهم بدينهم والافتخار بالانتساب له، والدفاع عنه. وقد دعا الله جل وعلا إلى تدبر آيات القرآن، في أكثر من آية، رغم أنه كتاب مقدس. فالتدبر يفتح للقارئ معاني جديدة لا تظهر بالقراءة العادية له. والاية تخاطب الانسان الذي جعله الله خليفة في ارضه، مهمته عمارة الارض، قد أوكلها الله له، فعليه أن يكون كفؤا لهذه المهمة. وهي مهمة صعبة تحتاج للدراسة والتحليل والتطبيق والغوص في غمار التفاصيل التي تتناسب مع حياته في ظل التقدم الذي يُليقي بظلاله على كل امور الحياة. وقد وضع القرآن العقل معيارا لفهم تأويلات الكتاب، وهذا يؤكد أهمية العقل واحترام الاديان له: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)[1] والالباب هي العقول واللب هو جوهر العقل، وكون الانسان مخيرا وليس مسيرا فلابد أن يتمتع بمساحة من الحرية لاختيار طريقة تفكيره على الأقل، لذا بات جليا أن تقاس جودة الاشياء بمدى تطابقها مع الواقع الحياتي للانسان الذي يستوفي شروط ديمومته من القيم العليا المتمثلة بآيات الله جل وعلا. غير أن مجتمعاتنا هجرت العقول وتمسكت بالأساطير حتى سادت فيها ضروب الخرافة والتسلط وانعدام الحريات وانتهاك الحقوق، والتمسك بالطقوس والشعارات بدلا من التخلق باخلاق الدين وتمثل قيمه الانسانية. والسبب ليس المجتمع وحده بل الخطاب الدين الذي لم ينجح في مواكبة العصر، ولم يلبِ طموحات الانسان الروحية والحياتية، لذا لابد ان من خطاب ديني جديد، وفهم ديني جديد يعيدان للناس ثقتهم بأنفسهم وعقولهم ودينهم. وقد تصدى عدد من العلماء والمفكري للتجديد الديني من خلال تقديم آراء دينية تنسجم مع القيم الاخلاقية والحضارية الانسانية، وعدو للتسامح والمحبة واحترام الآخر، منهم: الباحث والمفكر الاستاذ ماجد الغرباوي.

ماجد الغرباوي

ماجد الغرباوي كاتب وباحث بالفكر الديني، واجه خلال حياته ظروفا مختلفة، وهاجر الى أكثر من دولة، لكنه ظل وفيا لمبادئه وقيمه التي آمن بها. وحمل على عاتقه مشروعا دينيا وإنسانيا ينتمي للعقل والعقلانية، ويتخذ من الاخلاق ركيزة اساسية له. بعد أن مضى بدراسة وتدريس العلوم الدينية والعقلية المرتبطة به، سنين طويلة كما أشار الى ذلك في سيرته. إمتاز بدماثة الخلق وسرعة البديهية وقدرة على طرح الأفكار وشرحها وبيانها بكل سلاسة ووضوح ورحابة صدر منقطعة النظير. نشأ في أسرة متسامحة، ابتداء من رأس الهرم والده الذي أخذ منه كل القيم النبيلة ومبادئ الفضيلة، ووالدته التي كانت ينبوعًا أغدق عليه العاطفة والنبل والتسامح وحب الاخر. وزرعت في نفسه احترام الاخرين بعيدا عن أي اعتبار، وهذا ما انعكس على شخصيته فيما بعد (فالجذور الطيبة ثمارها طيبة). محاور من الطراز الأول، ينطلق من ثقافة ومعرفة واسعتين، أهلتاه ليكون قبسا يستضاء بعلمه وأدبه. يعتمد على الدليل والبرهان والعقل في آرائه فهو لا يطلقها جزافا او بدوافع عاطفية. هدؤه ينبع من منبته الطيب ودراسته العميقة وخبرته الحياتية وخلقه الكريم. يدعو في كتاباته الى التسامح واحترام الاخر. والدين برأيه معاملة حسنة، وأسلوب حياة، وليس طقسا يُردد دونما أدنى وعي. والايمان إيمان عقلي نقي، وليس أوهاما وخرافات. تعددت أعماله حتى بلغت أكثر من 30 عملا، تأليفا، وترجمة، وتحقيقا، وحوارا واعداد، وكتب حول منجزه كثيرون. كل هذا وغيره ذكره في سيرته، المنشورة في المثقف.

القارئ لمؤلفات الغرباوي يجد تأكيده الدائم على الانسان، باعتباره سيد المخلوقات. يتناول في بحوثه كلا بعديه المادي والروحي، دون تفريط. كما يدعو الى اصلاح الذات سبيلا لاصلاح المجتمع، ودعا الى التسامح لتدارك اخلاق الكراهية والعدوان المستشري بسبب الحروب والصراعات السياسية على السلطة. التسامح حاجة ملحّة لمجتمعات تفتقر له اساسا، مجتمعات سادها العنف والتعصب الاعمى والعنصرية المقيتة. بسبب الاستبداد وروح العبودية، لذا تعني الحرية عنده، حرية الرأي والتفكير الحر، والاعتقاد السليم دون مغالاة. ويمكن أن اضرب مثلا بالعراق لحالة التشرذم والصراعات الطائفية والسياسية وانعكاساتها على المجتمع. العراق بلد تتعدد فيه الاعراق والطوائف. وكان شعبه الى حد قريب يتمتع بالاخاء والمحبة والتسامح، ففي الحي الواحد تجد المسلم والمسيحي والازيدي والصابئي والعربي والكردي والتركماني يتشاركون الشمس نفسها والنهر نفسه والارض ذاتها تحتضن خطواتهم وتباركها بعيدا عن أي أي اعتبار، لكن هذا المفهوم تشرذم عندما تسيست أهدافه مما أدى إلى تنافر أقطابه وبالتالي حلت الكارثة!. لذا نجد الغرباوي يؤكد على التسامح وقد اتخذ من العراق بلده حينما ألف كتابه التسامح ومنابع اللاتسامح: (ولعل مشاهد العنف في العراق ستبقى ماثلة في ذاكرة الاجيال. هذا البلد الذي عرف بتنوعه الديني والمذهبي والقومي منذ قديم الزمان، غير انه تعرض لتحديات خطيرة في مصداقية وحدته، وتحولت خطوط التماس الى خطوط نار محفوفة بدماء الابرياء من الاطفال والنساء والشيوخ، وظلت تراكمات الخراب المدني وكل ما هو جميل في الحياة شاهدة على عمق الازمة الثاوية في لا وعي الشعب المتنوع، والتي انفجرت عندما استنشقت جرعة قوية من الحرية)[2].

من جانب آخر، أكد على الحرية كقيمة أساسية عنده، يرفض التفريط بها أو التنازل عنها، ويؤكد على حرية الفكر والرأي وحق التعبير، دون تعسف، مادم الانسان يلتزم بقوانين المنطق والعقل3. ويكون جداله بالتي هي أحسن ومن خلال الأدلة والبراهين. بينما القمع وتكميم الافواه سياسة سائدة في بلداننا، بحكم الاستبدادين الديني والسياسي. لهذا يقف الغرباوي بشدة بوطه الاستبداد، مهما كانت سلطته[3]. فالانسان كائن محترم يجب ان يتمتع بحرية كافية حدودها حرية الآخرين، والأنظمة والقوانين التي تشرع للصالح العام. حتى التقليد الفقهي يرفضه الغرباوي ما لم يكن عن بينة، يستوفي شروطه الموضوعية. ويدعو الى منهج جديد لاستنباط الاحكام الشرعية، يحفظ كرامة الانسان وفق ضوابط علمية وعلى اساس القيمة الاخلاقية الاصيلة، كالعدل والمساواة.

وقد نظر الغرباوي للمرأة باعتبارها قيمة انسانية أولا وقبل كل شيء،[4] بل أنها أعلى قيمة يستمد منها المجتمع طاقته وديمومته، وهي ليست مجرد رقم أوحاجة بل إنها الانسان الذي خلقه الله بأجمل تقويم وعليه يُعوّل بناء الانسان والحياة والمجتمع والحضارة، فهي تهب الانسانية سبل ديمومتها وحضورها ومعنى وجودها. وعلى اختلاف العصور كان لها دور قيادي وريادي واضح في مجمل ميادين الحياة العامة والخاصة ، فهي نصف المجتمع وتربي نصفه الاخر، وقد اثبتت حضورها كجوهر وغاية وليس مجرد وسيلة للتلاعب بمقدراتها، وقد استلهم الغرباوي آراءه وأحكامه بالنسبة للمرأة من بديع الايات القرآنية التي كرّمت المرأة وأنصفتها ورفعت مكانتها ووهبتها الحقوق التي حُرمت منها في العصور الغابرة، ومع اختلاف الدور البايولوجي للمرأة لكنها أخذت مكانتها بموثق من الله وإن أغفله الفرد المتسلط أو البيئة المتعصبة (يأيها الناسُ اتَّقوا ربكمُ الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زَوجها وبثَّ منهما رجالا كثيرا ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام)[5].

في الختام، هذه شهادة عبرت فيها عن وجهة نظري الخاص، اسال الله العلي القدير ان يبارك في مسيرة الاستاذ ماجد الغرباوي

***

مريم لطفي - أديبة وكاتبة

..........................

[1] - سورة الرعد، الآية 19.

[2] - الغرباوي، ماجد، التسامح ومنابع اللاتسامح.. فرص التعايش بين الاديان والثقافات، الحضارية، بغداد – العراق، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2008، ص 12.

[3] - أنظر موقف ماجد الغرباوي من الاستبدادين الديني والسياسي في كتاب اشكاليات التجديد، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، ص 209. وكتاب: الضد النوعي للاستبداد.. استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2010م.

[4] - هناك كتابان يشتملان على رأي الغرباوي في المرأة وحقوقها. الأول حوار د. ماجد غضبان مع ماجد الغرباوي في كتاب المرأة والقرآن.. حوار في إشكاليات التشريع، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2015م. وكتاب: الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري، للدكتور محمود محمد علي، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا، ودار الوفاء، الاسكندرية – مصر، 2021م.

[5] - سورة النساء، الآية: 1.

........................................ 

* مشاركة (35) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10

 

 

الصفحة 1 من 5