بأقلامهم (حول منجزه)

كوثر بلعابي: الفكر والشّعر مجاورة ومحاورة.. أدب الأستاذ ماجد الغرباوي نموذجا

محاولة في قراءة تشريحيّة لكتاباته الأدبيّة

في البدء: أشير إلى أنّه ليس بالهيّن ان نقف على تجربة إبداعيّة في مجال الكتابة الأدبية لمفكّر صاحب أنساق نظرية.. ذلك أنّ شخصيّة المفكّر تظلّ تُلقي بظلالها على خطابه الأدبي ولو بدرجات متفاوتة من شخص إلى آخر حتى وإن حاول التّنصّل منها ومهما أخلص للأدب يظلّ لرواسخ المعرفة الفكرية حضورُها الشّفيف من وراء الكلمات والجمل فيحدّ ذلك من مشروعيّة التعامل الأدبي الصّرف مع نصّه بواسطة آليات النقد خاصّة إذا كنّا مفتقرين إلى منهج مناسب يضع بحوزتنا وسائل التّحليل الابستيمولوجي إلى جانب وسائل التحليل النّقدي حتى نستطيع الوقوف ولو نسبيّا وإجرائيّا على درجة أدبيّة ذاك النصّ بالقياس إلى درجة تأثّره بالشخصيّة الفكريّة لمبدعه.. هذا ما اعتراني وانا اقرأ كتابات الأستاذ ماجد الغرباوي الأدبية بعد أن قرأت عدّة مقالات حول كتبه (المرأة وآفاق النّسويّة - مقتضيات الحكمة في التّشريع: نحو منهج جديد لتشريع الأحكام - تراجيديا العقل التّراثي - المقدّس ورهان الأخلاق...) وخاصّة حول مشروعه الفكريّ التّنويريّ الذي يقوم على (إعادة النظر في طرق التّعامل مع النّصّ الدّيني وأحكامه وفقهه بطريقة عقلانيّة حداثيّة مجارية لحركة الزّمنِ) وعلى الدّعوة إلى تحفيز الوعي نحو ضرورة (إقامة مجتمع يأخذ بأسباب العلم والمعرفة ويعزّز قِيَم الدّين والفضيلة باعتبارهما قِيَما إنسانيّة أصيلة تُكافح الظلم والعنف وتعضد روح التّسامح والسّلم الأهليّ وتُقوّض مشاريع الهيمنة والسّيطرة وخطط إذلال الشّعوب ونهب ثرواتها وتساهم في التّحرّر من سطوة المنظومات الدّينيّة ذات الأفكار المتطرّفة والهدّامة) فاتضح لي من خلال ذلك أنّني إزاء شخصيّة تنطبق عليها صفة المثقّف العضوي الذي يُحمّل كتاباته مهما كان نوعها همّنا الجماعيّ ورسالةَ مقاوَمةٍ (إن لم أقل ثوزيّة) في منتهى الجرأة والشجاعة إذ تواجه واقع العراق وما حلّ به منذ كارثة 2004 وما بعدها بقراءة جديدة للفكر الديني مغايرة تماما لتلك التي أفرزت التّناحر الطائفي والإرهاب السّلفي.. وواقع البلدان العربية الإسلامية عموما وما حلّ بها خاصة بعد أحداث 2011 تلك التي كانت نتيجة محتّمة لوعينا المبتور بخطورة بداية تنفيذ السياسة الامبريالية العالمية لمشروعها الجديد في الشرق انطلاقا من حرب العراق وحرب السّودان .. هي ذات الجرأة والشجاعة التي شفّت عنها لي كتاباته الأدبية ذات الطّابع الخاصّ والخطّ الموحّد في تعدّدها وتنوّعها أجناسيّا فجاءت متجاوزة لممكنات التصنيف المعتادة.. أو من خلال هذا البحث المعمّق عن الذات أو الكينونة الفعلية للانسان المفروض إنسان هذه المرحلة من تاريخنا المأزوم والمهزوم (أو "الإنسان القاعدي" الذي بحث عنه طويلا وحاول نحت ملامحه عالم الاجتماع التونسي المرحوم "المنصف ونّاس") أداته في ذلك توظيفات جمالية للّغة ناجحة في الإثارة بالإبداع والاستدراج نحو الفكر ..

الخطاب بين الفنّ والموقف

من خلال مصافحتي لكتابات الأستاذ الغرباوي التي بحوزتي على الأقل وهي تعدّ حوالي عشرين نصّا على أكثر من شكل وفي أكثر من موضوع حتى أنّني ألفيت نفسي إزاء خطاب لا يخضع بسهولة إلى التّصنيف أجناسيّا منها ما كتب باسترسال النّثر بمنسوب عال من الشّاعريّة ومنها ما كتب بنظام الأسطر الشعريّة بمنسوب عال من نثريّة السّرد والخاطرة وبين هذا وذاك تتدفّق اللغة بمعجمها وتركيباتها مدّا وجزرا او كثافة وشفافيّة مراوغة المجازات تنأى عن كشف حجبها للقارئ بيسر محقّقة أدبيّة الإيماء الفاتح لتعدّد ممكنات القراءة والفهم والمُشرّع للتّاويلات المُغنية لمرمى الكتابة ..

ذلك أن الغرباوي يعوّل كثيرا على الفكر بأنساقه التأملية والمعرفية العميقة في تشكيل النّصّ بمختلف بُناه ورؤاه له طريقته الخاصّة التي تحفر كلّ مرّة قالبها المختلف كما يحفر ماء الجدول مجراه فنجده مثلا وهو يجسّد انبلاج فجر الكتابة في أحواله المختلفة يتناول المسألة في نصّين بقالبين مختلفين هما: "هاتف الفجر" الذي جاء في شكل أسطر شعرية منها:

(تبتكرني الريح شظايا..

مديات حلم

حطام المسافات

و انشقّ القمر...)

ونص" هاتف الفجر" الذي جاء في قالب نثريّ مسترسل منه:

(تحرّكت أناملي تتلمّس موضع السّهم في قلبي ومسّني طائف من الجنّ لم استعذ منه إلّا به) فإذا هيكل النّصّ خاضع لمُقتضى الفكرة وليس العكس وإذا الكتابة بمثابة أفق مفتوع على أحوال الكاتب الإنسان وأعماقه الضّاجّة بالمشاعر والتّأمّلات وعلى شتّى الأنماط والتلوينات الإبداعية تبعا لذلك ليدبّج خطابا أدبيّا مُحمّلا بموقف فكريّ حداثيّا يوظّف لغة الأدب حسب حركة الحياة والتّاريخ ينطلق من عمق الذّات بفكرها ووجدانها فيتبدّى متخفّيا من خلال الجمل النّاقلة تصويرا أو تسريدا للأحداث والشّخصيات والمشاهد والبيانات نقلا رمزيّا مدهشا بلاعبيّة ملوّحة بتحرّك في خضمّ اللغة والنصوص يلاعب الفكر أدبيّا ويلاعب الأدب فكريّا في بحث قلق عن نهج متحرّك مساير لحركة التّاريخ هو نفسه نهج الغرباوي في مؤلّفاته الفكريٍة وهو يستنطق النصّ الدّينيّ وأحكامه وتشريعاته ويدعو الى التّعامل معه قياسا إلى موضوعيّة العقل لا إلى انطباعيّة النقل.. وهنا يمكن أن أورد هذا المقطع الشّعري المسرود في مشهديّة مُتخيّلة موغلة في التّرميز إلى حيرة الإنسان في زمننا المعقّد بين الحقّ والباطل وقد كثر فيه النفاق والمغالطة إلى درجة الالتباس وصعوبة التمييز بينهما وهو مقطع من نص: "تسمّر الضّوء"

(يالدهشة السّؤال..

آلهة المعابد الرّخاميّة

تركوا الباب مواربا

فتسمّر الضّوء يعانق أوهام الحقيقة

و نبوءة المرمى الأخير

تمزّق أكفانه البالية..)

وسيلة مفكّرنا الأديب في ذلك طريقة خاصّة منبعها تشبّعه بالفكر الفلسفي مكّنته من التّغلغل في جسد اللغة ليستقي من طرق المجاورة بين مفرداتها والمجاوزة لمعتاد استعمالاتها ما يجعلها أكثر قابلية للتعبير عن رؤاه المتداخلة دون تعقيد فكري أو تبسيط انطباعيّ.. وليستقي من ثراء معجم العربية الزّاخر ممكنات لا حدّ لها من المجازات والاستعارات والتشبيهات رمزا وانزياحا بما يحقّق ما يلزم النّص من جمالية الادهاش باللغة حتى يحقّق ادبيّته.. لننظر هنا مثلا في نصّ: "يتهادى حلما" كيف تمّ توظيف المعجم الشّعري العريق (عيون المها) مع المعجم الطقوسي (محراب .. يتبتّل.. آياته..) في تشبيك بلاغيّ بين الاستعارة والمجاز العقليّ (التّشخيص) لتشكيل وضعيّة عاطفية برومنسية مثيرة ومؤثّرة في آن:

(ضاحكةً عيونُ المَها

تُلامسُ شغافَ قلبٍ

يَسهو في مِحرابهِ

يتبتلُ ساعةً وأخرى

يَعكفُ ..

يُرتّلُ آياتٍ ..

مرَ بِها طيفُكِ ساعةَ سحرٍ)

فاللغة في هذه النصوص لا تقول وجود صاحبها بتمظهراته المتعدّدة الفكرية والوجدانية والاجتماعية فقط إنما تقول أساسا وجودها الأدبيّ الفنّيّ حتى وهي تعبّر عن المواقف الفكرية سواء في نثرية شعرها ضمن نصوص قد نتعسّف عليها حين نصنّفها قياسا إلى قصيدة النّثر.. أو في شعريّة نثرها ضمن نصوص قد نتعسّف عليها حين نصنّفها قياسا إلى الخاطرة أو القصّة القصيرة.. ألا ينضح بالشّاعريّة الفائقة مثلا نصّ " تمرّد" ذو المنحى الفكري التّأملي الوارد في شكل خاطرة؟ وذلك بما تضّمنه من رمزيّة السّرد وطرافة التّشويق المخاتل والنهاية المدهشة الصّادمة لتوقّعات القارئ.. وهذه مقتطفات منه:

(أتصفح عوادي الأيام حتى عثرت على أشلاءٍ موشّاة بحمرةٍ، أو بقايا بقع دمويةٍ)، (حاولت ألمس تلك الأشلاء، تناثرت رمادا بين أناملي الذابلة)، (فقت قليلا، أو كدت)، (ثم تذكرت فصرخت في عمق الليل.. إنها أشلائي!!!).

ونفس الشيء نجده في نص " كذبة متوهّجة " ذي المنحى السّياسي المندرج ضمن فكرة أخلقة السياسة.. وهذه مقتطفات منه:

(ثم يتذكر رفاق دربه، ويتصورهم كيف يتسلقون الجبال، ينامون بين الصخور، ويتوقعون الموت في كل لحظة، لكن إرادتهم لا تلين، وعزمهم كالحديد، يستأنسون بالموت، ويتوقعونه في كل لحظة)، (من أجل أهلنا ووطننا)، (كيف استطعت الصّمود كل هذه الفترة سال رعد بإعجاب.. كيف استطعت الصمود كل هذهِ الفترة؟ سأله رعد ببراءة واعجاب. فاجاب نوري جواد بهدوء:

لا يا رعد انا عادة أأتي من الطرف الاخر بواسطة سيارة، ولا اكابد اي مشقة في الطريق). فلم تتعارض صرامة الموقف اللّاذع مع شاعرية النصّ السّارد لوقائع ذات بعد رمزيّ..

هكذا ظلّ خطاب الغرباوي وهو يخوض غمار التجربة الإبداعية منجذبا إلى آفاق الفكر والفلسفة مؤمنا بأنه لا حدْ لنمط او لنوع أو صنف من الأشياء وأن هناك وجود كلّيّ للموجودات يختبر كينونتها الفعلية على محكّه عساها تدرك مرتبة أقرب إلى الكمال الذي يتوق اليه الجميع على مدى حركة التاريخ ولا يدركه لذلك تتشابك أنماط الكتابة وتتقاطع على قاعدة الوحدة والتّنوع او المُشاكَلة والمُمايَزة في ذات الآن في كتاباته فتفتح القصيدة على ذاتية الخاطرة وجماعية القصّة وتنجذب لغة الشّعر فيها إلى الغة الفلسفة والحكمة لتتناغم في ذاك النفس الشاعري المؤثّر والنزعة الدرامية المشوّقة والفكرية المستفزّة المثيرة للتساؤل.. لذلك فإن التعامل مع هذه النّصوص في إطار الأجناسية الأدبية ليس بالمُيسّر هذا ما يقتضي منّا الوقوف على خصائص الكتابة كرسالة جمالية التّأمّل منطلقها والفكرة أو الموقف غايتها وغوايتها..

الرّسالة الجمالية والفكريّة

كان للشّعر في الفكر الإغريقي دور أساسيّ في أداء فنّ الخطابة الذي عبّر به الفلاسفة آنذاك عن نظريّاتهم ودروسهم في الحياة والسياسة وتنظيم المجتمع وكان هذا الفكر يتّخذ من اللغة الجذّابة وسيلة للتّأثير والاستقطاب حتّى أنّ " هوميروس" كتب نظريّته الفلسفيّة شعرا.. فمنذ القديم كانت الصّلة بين الإبداع الأدبيّ والفلسفة قائمة الذّات وتجلّى ذلك خاصّة في الفكر العربي القديم الذي تفنّن رواده وقد كان عدد كبير منهم أدباء (مثل الجاحظ والفارابي وابن رشيق...) في صياغة فكرهم صياغة أدبيّة فائقة الجودة.. ثمّ ظهرت في فترة متقدّمة كتابات الرّومنسيين العرب في الشّعر والنّثر محمّلة بالفكر الوجودي وقضايا الفلسفة وقيم الإنسان المُريد ومنزلته في الوجود.. فالتّكامل بين الأدبيّ والفكريّ يحتمل التكامل أكثر ممّا يحتمل التّعارض لذلك جاءت نصوص الغرباوي على تنوّع مواضيعها محلّقة في التّجريد وقد وردت عوالمها الأدبيّة مفلسفة لرؤى صاحبها ومواقفه تجاه ذاته في تقلّب أحوالها بين العشق والإستياء والتّفاؤل والحيرة وغير ذلك... فها هو في نصّ" عناقيد عشق " يوحّد بين فاعليّة الغرام والكتابة وإرادة الحياة في صورة غزليّة أدبيّة حبلى بالمعاني الرومنسيّة دبّجتها عبارات قرآنيّة المصدر فكان أن أدّت رسالة جماليّة مفادها انّ لغة القرآن بإمكانها التّعبير عن كلّ المعاني والمقاصد والأفكار وأنّ الحبّ لا يكون إلّا وهو في أوْج صوفيّته وأنّ الحياة أمل وبحث مستمرّ في تحقيق الأفضل مع تجدد كلّ يوم.. ومنه هذا المقتطف:

(أسبح باسمك

حين طلوع الحب

فتستلقي هواجسي

تستريح على شطآن

حلمنا الموعود

في انتظار فجر

صادق)

فجاء الشعر محبّرا للفكر مجاورا له في تأدية الرسالة..

ويتّسع مجال هذه المجاورة لتصبح محاورة خاصّة في النّصوص ذات المنزع العقلي المتأمّل لرسالة الكتابة والتي نجدها احتلّت مساحة كمّيّة هامّة لتثير إشكال المكابدة أثناء الكتابة إن كانت انفعالية أو ذهنية أو منزلة بين المنزلتين؟

فنجده مثلا يسرد في نص "ذهول":

(حتى إذا هبط الليل أو يكاد، رأيت مذهولاً يسابق الناس، كمجنون يستفزهم بهذيانه. استهوتني متابعته، فرحت أعدو خلفه، كان يباعد بين خطواته، يتلفّت مرعوباً)، (هو في ذهوله، وأنا أتلظّى غضباً او ندماً، مع كل مشهد)، (عاد مهرولا كأنّه وجد ضالّته)، (فقت صباحا تذكرت ما جرى، عاودني الحزن، وفغرت فمي عندما عرفت: أن المرمّل كان: قلبي..)

و نجده في نفس السياق وبطريقة مختلفة توحّد بين الكتابة والفداء تضحية ونضالا يكتب في نصّ " تبتكرني الرّيح ":

(وانا المسجى بين حرفين

تبتكرُني الريحُ شراعاً

يُراقصُ ضوءَ أقبيتي)

*

(مذهولاً أستردُ أنفاساً

تراودُ كلكامش في حُلمهِ

فيغمرَني الحنينُ

ينسابُ بين أصابعي

وتنسلُّ رايةٌ

تُصارعُ المدى

وذاك المُراقُ بين لهاثِ الدروبِ

دمي.....)

فتكون الكتابة في فلسفة الغرباوي بهذا المعنى عناء وعطاء حتى السّفوح يعقبه انبعاث وولادة متجدّدة لذلك هي لا تقبل القيود ولا الجمود تساير حركة الرّيح وحرّيتها وهكذا لا يكون الأديب إلّا قادرا على ملاحقة تلك الحركة الدّؤوب .. كتب في نصّ " مديّات حلم ":

(في مدياتك القصية حلمٌ

شاسعان جناحاك

حلقْ .. فلن تجدَ سوى الريح موطئا...)

إلى جانب الكتابة طرح الغرباوي وبذات المنطلقات الفلسفية قضية مأساة الانسان في الوجود وحيرته بين المقدّر والمخيّر بطريقة باعثة على التفكير وإعمال العقل ومحفّزة على البحث في كوامن الذّات استجلاءً لامكانياتها ونواقصها .. كتب في نص "هاتف الفجر":

(أيمّم وجهي صوب ناصية القدر الأزليّة.. أرى الحياة مشهد بؤس او حطام ألم لا يفقه لغتها سوى حكيم اعتزلها أو عاشق هام في أرجائها... الحياة عتمة حين ينطفئ نور القلب...)

و لتأمّل أحوال المجتمع وأخلاقياته نصيب هامّ في نصوص أديبنا المفكّر الذي وضع قلمه على مواضع الداء بشجاعة المؤمن برسالة المثقّف في ترشيد العقول وتوعيتها من أجل تغيير الوعي والتحفيز على التفكير في العمل على تغيير الواقع نحو الأفضل قدما.. فأرهف بصيرته لينتقد ويشرّح دون أن يجرّح وليرشد نحو سبل الخلاص دون أن يقود أو يصرّح فأجاد وصل الموقف الفكري بالرّسالة الأدبية في تسليط الضوء على الواقع العربي المرير الذي يتخبّط فيه الإنسان والأوطان.. فكتب في نصّ " وانشقّ القمر":

(كانت حيرة فهمه للسؤال أصعب عليه من الاجابة)..

(كيف يقترب بنصف جسد خائر القوى؟. كيف يقطع المسافه بينه وبين نصفه الثاني؟)... (كيف يقترب بنصف جسد خائر القوى؟. كيف يقطع المسافه بينه وبين نصفه الثاني؟)... (انها بضع خطوات... لا .. لا .. لا .. ليست بضع خطوات، إنه القدر حينما يطاردني).

محيلا في هذا الموضع على قعود نصف المجتمع العربي (من المقصّرين أو النساء اللواتي اقصتهنّ العقلية الذكوريّة السّائدة) عن الفعل والإنجاز المحققين للحياة في معناها الحقيقي..

ومستاءً في موضع آخر إزاء كرب الوطن من نصّ " يتهادى حلما":

(فما عادَ لنا فرحٌ

والموتُ يَنشرُ راياتَهُ السود

فوقَ سحابات بلدٍ خانتْ به

نفوسٌ أدمنتْ الغدر)...

و هو مع ذلك لا يُغفل التفكير في العوامل والأسباب التي يسهل تجاوزها بالمراجعة والتّصحيح والحرص على التغيير وتحقيق الخلاص وهنا يمكن أن استشهد بهذا الجزء من نصّ "حافات قلقة":

(لكن هل بمقدورنا ان نصنع انسانا كما نريد؟؟) .. (ما علينا الا ان نصّدق اوهامنا، ونجد من يدافع عنها، حينئذٍ ستكون هي الحقيقة في أعين الناس .. أليس أصدق الحقائق أكذبها)...  (وماذا عن جوقة المطبلين؟ .. هكذا اجابت بثقة عالية.. ولما حان وقت التحدي، ارادت ان تحمله، لكن ...  صعقها خواء حلمها).

تلك بعض إضاءات حول ما حملته نصوص الغرباوي الأدبيّة من رسائل فكريّة عبّرت عن موقفه المنتصر لمقاييس العقل المتشبّع بالمعرفة في عيار الكتابة والحب والإنسان والمجتمع والأخلاق والحُكم.. هي ذات المقاييس التي تعامل بها في كتاباته الفكرية مع إحكام الدين الإسلامي ونصوص الفقهاء في تفسير القرآن والسّنّة ومراجعة ما ورد فيها من أحكام وتشريعات..

في المنتهى

لقد تميزت تجربة الغرباوي الأدبية بحداثة متعدّدة المظاهر.. منها هذا التّشبيك الأجناسي بين عدة أنماط من الكتابة حقّقت جمالية خاصّة في توظيف الأساليب التّقريرية والإنشائيّة والبلاغيّة والسّردية.. فضلا عن التّشبيك بين لغة الشّعر القديم ولغة القرآن ولغة الشعر الرومنسي المعاصر ولغة المتصوّفين والحكماء التي أجِيد توظيفها بشكل موغل في التّجريد الفلسفي.. ممّا جعل الكتابة تسع بكلّ سلاسة ويسر المواقف الفكرية لتؤسس لممكنات متجدّدة قادرة على تخطّي عتمة الرّواكد وكسر تجلمد القوالب.. وهذا يقود إلي الإقرار بأنّ النصّ الأدبي لدي هذا المفكّر لم يضيّع أدبيته في خضمّ تجريد الرّؤى وعقلنة المواقف بقدر ما أكتسب ثراء الأفكار وعمق الرّسالة الأدبية وفتح للكتابة أبواب التّجديد المستمرّ على مصاريعها .. وبأن شخصيّة المفكّر وإن طغت على شخصيّة الأديب لم تتعسّف عليها في لعبة المجاورة والمحاورة..

***

بقلم: الأستاذة كوثر بلعابي - أديبة تونسية

..........................

* مشاركة (65) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10