بأقلامهم (حول منجزه)
عنصر المكان في قصة "حافات قلقة" للكاتب ماجد الغرباوي / جلال جاف
الكاتب ماجد الغرباوي من القلائل الذين قدموا خطاباً حكائياً متميزاً، يقصي تكرار النمطية التقليدية.
فقد رسم للسرد فضاء واسعاً غنياً بعطاء الحداثة و التجريب، ينفتح على مساحات ومطبات تخيلية أصيلة غير مألوفة. بالإضافة إلى إعتماده خطابا يعكس أفعالا غرائبية متميزة، يمنح النص أبعاداً دلالية ورمزية وتأولية لا حصر لها.
وصف المكان في قصة "حافات قلقة" يحتل موقعاً هاماً في بناء السرد و توجيهه وجهتها الخاصة، مساهماً وبشكل فعال في الربط بين المكان كواقع وكحالة عجائبية مانحاً النص أبعاداً واقعية سحرية فريدة وخاصة.
يتحول المكان في النص من حالة الثبات والسكون والحيادية، إلى حالة المشاركة الفاعلة والمؤثرة في تشكيل الصورة والقيمة اللتين يريد الكاتب بواسطتهما الوصول إلى تجسيم وإبراز فكرة القصة الاساسية، ويصبح ملتحماً بالسرد وبالفكرة الأساس التي ينهض عليها هذا العمل القصصي الفريد، إذ يصبح "المكان" هنا عنصراً فاعلاً وشخصية خفية لها التأثير القوي على مسار تشكيل القصة. هذه الفقرة تقوم برسم حدود المكان (الساحة):
"وقفت في ساحة العرض"
المكان الذي سيحوي كل الجهات والاقطاب مجتمعة ومسرح الصراع والمجابهات المختلفة النابعة من تطلعات وإرادات خاصة تحملها هذه الاقطاب.
"نظرت الى جميع الاتجاهات "
وبتقديم لوحة (مشهد) طوبوغرافية لأبعاد المكان وحيثياتها وتشكيلاتها الملحقة به:
" من أي جهة سيدخل ... كي يعلن عن شيئ مهم؟
هناك جهتان متقابلتان محفوفتان بآلياتها الخاصة والدور المنوط بكل منهما؛ "الكوة" والمكان المقابل أو المكان الضد"الساحة".
"اختارت نقطة الوسط تماما"
اختارت قلب المكان لأنها حاسمة في التلقي الدقيق للقرار المصيري الصادر من "المكان" المقابل "الكوة" وحاسمة كنقطة انطلاق لرد فعلها تبعا للقرار.
تشير تفصيلات المكان الى الخوف والتوجس وتوقع الخطر بل توقع ما يشبه الكارثة:
"لاحت لها كوة صغيرة، قالت: اذن هنا سيعلن عميد القرية عن اسماء المتفوقين .."
. فالوصف هنا يوحي بخلجلات الترقب واللهفة والقلق التي تشعر بها البطلة. ف"الكوة" أصبحت تمثل هنا وفي لحظة معينة من حياة البطلة مكانا وجودياً مصيرياً تاريخياً مكثفاً.
لذا:
"خطت خطوة الى الامام"
باتجاه الكوة لا شعوريا مستعجلة انهاء حالة الترقب.
ثمَّ:
"تراجعت"
مبتعدة عن "الكوة" نظراً لإضطرابها وقلقها وخوفها متفاعلة بشدة مع المكان"البؤرة" أو مقرر المصير.
لم يقتصر الترقب على البطلة فقط , فقد شاركها الآخرون وجل تركيزهم على "الكوة" "المكان" المركزي الذي يحدد المصائر كلها والذي اصبح يقترب من الاسطورية:
".. الكل ينتظر، يترقب"
"اذن هنا سيعلن عميد القرية عن اسماء المتفوقين"
لقد شدد الكاتب على وصف المكان الذي منه يصدر القرار النهائي ليخلق أعلى درجة توتر وترقب ممكنين.
عندما ظهر عميد القرية في"المكان الكوة" ليعلن أسماء الفائزين بدا "المكان" هذا كأنه نقطة الإنعطاف التاريخية الكبرى:
"اتخذ مكانا مرتفعا .."
"المكان" المرتفع دليل على السلطة والهيمنة ومركز القرار و"المكان" المنخض"الساحة"
هو الضعيف المتلقي.
لقد اهتم الكاتب بالتصوير الدقيق لحيثيات المكان لاهمتيها كدلالات لتفسير الحدث او ابرازه وتعميقه واثراء السرد ذاته.لقد شكل الارتباط الوثيق بين وصف المكان والحدث السر الخفي لقوة هذه القصة قرائياً من جهة وارتباطه الوثيق بمشاعر البطلة من جهة أخرى. فالوصف هنا يوحي بخلجلات الترقب واللهفة والقلق التي تشعر بها البطلة. لقد نجح الكاتب "ماجد الغرباوي" هنا وبامتياز في إشعار القارئ بحضور المكان كعنصر اساسي مهيمن ومحرك في القصة بحميمية وغرائبية.
وقفت في ساحة العرض، اختارت نقطة الوسط تماما، نظرت الى جميع الاتجاهات، لاحت لها كوة صغيرة، قالت: اذن هنا سيعلن عميد القرية عن اسماء المتفوقين .. انتشت قليلا، خطت خطوة الى الامام، تصورت فرحتها وهي تستلم الجائزة، ثم تراجعت، جفلت واغمضت عينيها .. قالت: وماذا لو تقدّم عليّ فلان وفلان؟.. ماذا لو كنت الثالثة او الرابعة في قائمة الفائزين؟ ماذا سيقول عني ابناء القرية؟ .. آه .. يا الهي، لماذا تراودني الأوهام؟ لا .. لا .. عليّ ان أتريث، أعمالي أشاد بها الجميع وانا واثقة من نفسي، فلماذا ينتابني القلق؟
هكذا رددت الكلمات بارتباك .. وحيرة
ثم اردفت:
لكنه صارم، لا يجامل .. أعرفه جيدا، هذا ما اخشاه، حقا سيسحق غروري اذا تجاهلني.
***
حينما اقتربت الساعة الرابعة عصرا، تجمع ابناء القرية .. الكل ينتظر، يترقب، سمعتهم يتهامسون .. فلان هو الفائز الاول، وآخر يقول فلان، وثالث يقول: كل توقعاتكم خاطئة. ولاحت من بعضهم نظرات مريبة، فكاد ان يغشى عليها، لكنها تماسكت حينما طل من كوته، وبيده اوراقه العتيدة، ومعه بعض رجاله وحاشيته.
نظر الى الجميع، شاهد الرجال والنساء، كل يترقّب. اتخذ مكانا مرتفعا .. ثم بدأ نائبه يتلو الاسماء الفائزة واحدا بعد الآخر، وهي تصغي بلهفة، حتى اذا همّ باعلان الاسم التالي قالت: انا، انا (س ع ا د.(..
لكنه وهم .. وهم .. لست من الفائزين. فماذا انتظر .. هذه هي الحقيقة ..
***
عادت الى بيتها منكسرة، مذهولة .. تحاصرها نظرات الشامتين، وتطاردها كلمات المستهزئين، فودّت لو انها توارت، او ابتلعتها الارض. كان موقفا صعبا .. محرجا، لم يكن متوقعا مطلقا.
آفاقت من هول الصدمة، وقالت بغضب:
سانتقم ..
سانتقم ..
سيعرف من انا. ساحطّم كبرياءه. ساجعله يندم
ثم راحت تقلب فنون المكر، وتفكر بحيل النساء، فصاحت بصوت مرتفع: وجدتها .. عليّ ان اكون اكثر حنكة، الامر ليس هينا، عميد القرية يتحصّن خلف رجال أشداء، أقوياء، فكيف أجد من ينافسهم ويتحداهم في مهنتهم. هذه هي الخطوة الاولى في معركتي معه. أن أعثر على رجل يجعل عميد القرية يغيّر قناعته .. لكن هل بمقدورنا ان نصنع انسانا كما نريد؟؟ ..
لنجرب ..
استبد بها صمت عميق، استغرقت في تفكيرها وهواجسها، ثم قامت فجأة، واخذت تتحرك بأناة ورويّة، فجمعت قطعا من حديد ونحاس.. أوقدت عليها نار غضبها، وصهرتها بجمر احشائها، واضافت لها رماد حقدها الدفين، حتى لانت لها، فصيّرت منها تمثالا جميلا، قصير القامة، دعج العينين، ينظر شزرا، ولحية طويلة. وشقت في داخله قناة، تعلوها ثقوب اربعة، يمكنها التحكّم بها.
ولما نفخت فيه من روحها الشريرة، بدى وجهه متجهما. ابتسمت حينما نظرت اليه، وقالت: ما علينا الا ان نصّدق اوهامنا، ونجد من يدافع عنها، حينئذٍ ستكون هي الحقيقة في أعين الناس .. أليس أصدق الحقائق أكذبها؟؟
وهذا ما سأفعله، ساجعلهم يغيّرون قناعاتهم، ويعترفون بابداعاته وإن كانت مزيفة. لذا ارتدت أفخر ثيابها، ووضعت أبهى زينتها، ثم اشارت لبعض صعاليك الرجال بكلمات منمقة، واغراءات ساحرة، فجاءوا يتهافتون، رجالا لبقين، يرتلوّن كلاما منافقا، أمرتهم ان يصطفوا واحدا تلو الاخر، ثم طلبت منهم ان ينفخوا في قناة التمثال ويصفّقون له، فصدر منه صفير، راحت تتحكم به عبر الثقوب الأربعة. فاضفت على اصواتهم موسيقى باهتة.. وكلما انتهى أحدهم من مهمته جلست تضحك، تتباهى، تعلوها ابتسامة صفراء، وهي تردد:
سترى .. سترى.
ثم أفاقت فجأة، وماذا لو انكشفت اللعبة؟؟
نظرت الى نقطة بعيدة، تطوي الافق في عينيها، وابتسمت:
وماذا عن جوقة المطبلين؟ .. هكذا اجابت بثقة عالية.
ولما حان وقت التحدي، ارادت ان تحمله، لكن ...
صعقها خواء حلمها.
***
جلال جاف - شاعر وناقد