بأقلامهم (حول منجزه)
إنعام كمونة: شعرية التناص الروحي وصوفية التعبير.. أنموذجا الباحث ماجد الغرباوي
يقول الإمام علي بن أبي طالب رضي لله عنه وارضاه: "لَوْلاَ أنَّ الْكَلاَمَ يعُادُ لَنَفِدَ"1.
***
- المقدمة:
قد اتخذ منَ أدب التصوف كأحدى وسائل التشكيل في القصائد الحديثة ومن عناصربنيتها الفنية خاصة في نصوص الأدب المعاصر بحداثة الفكر وفتح آفاق العلوم الإنسانية، ولأن الشعر الصوفي ينبع من بتلات الروح بوجدان نقاء، وليس عن طريق الإقتباس والتقليد والتناص فقط وإنما نتيجة رهافة العاطفة وعمق الإحساس الذاتي، فانبثق أثر تجربة ترسبت في باطن الروح بمخاض روحاني التعلق يتجاوز كل حدود مشاعر العشق، واضحى بمطاف الغزل العذري في التعبير الشعوري، ما استدرجنا في هذا البحث الإقتباس التراثي الصوفي والتناص القرآني الموحي بالرموز الدلالية في لغة الشاعرماجد الغرباوي ببنية شعرية وتراكمها في اللاوعي الشعوري وكباحث في العقائد الدينية وأديب واسع المعرفة في العلوم الإنسانية، والعلمية.. الأدبية.. الإجتماعية بما تتطلبه بحوثه الإنسانية.
Introduction:
It has been taken from Sufi literature as one of the means of formation in modern poems and as elements of their artistic structure، especially in contemporary literary texts، with the modernity of thought and the opening up of human sciences. Sufi poetry springs from the devotions of the soul with a pure conscience، not merely through imitation and quotation but as a result of refined emotion and deep personal feeling. The impact of an experience that has settled in the depths of the soul emerges through a spiritual labor that transcends all boundaries of passionate feelings. It has become، in the course of pure love poetry، an expression of emotion، which led us in this research to quote from Sufi heritage and the Quranic allusions that suggest symbolic meanings in the poet's language of majed al gharbawi، with a poetic structure that accumulates in the subconscious as a researcher in religious beliefs and a widely knowledgeable literary scholar in human، scientific، literary، and social sciences، as required by his humanistic research.
- تمهيد:
يتجلى في الرؤية الشعرية للباحث ماجد الغرباوي، والتي من وحي مسارات افكاره الفلسفية وتأملاته العقلية في دروب الذات الواعية باستشعارات الفكر الصوفي، تعكسها سيميائية النص عبر مصطلح اسلوبي في النصوص الحديثة، ألا وهو عنصر التناص القرآني، ورغم تضارب الآراء حول تعريف محدد للتناص في الأدب الغربي وما أثار جدال واسع، لكن لا اعتراض عليه كعنصر من عناصر النص الحديث لإثراء القصيد، لما يختزنه من بعد دلالي لفكرة النص، يغني تأويل القارئ، وما أن نذكر التناص حتى يمر بأذهاننا الباحثة البلغارية جوليا كريستيفيا والتي أول من اقترح تسمية التناص كمصطلح بمفهومه النقدي في النص الحديث، وعبر عنه كمصطلح من نقاد عرب ومنهم الناقد عبد الملك مرتاض بقوله (هو تبادل التأثر والعلاقات بين نص أدنى ما ونصوص أدبية أخرى) 2، و في الموروث العربي يطلقون عليه مسميات كثيرة منها التضمين، التلميح، الأستعانة، الإقتباس، التبادل النص، التنصيص، السرقة وغيرها.
وإن النزوح لبنية التناص الصوفي تعتمد على خبرة الأديب وقدرته اللغوية والثقافية وتأتي من مخزونه المعرفي في اللاوعي أولرفد الشكل والمضمون بما يدعم الموضوع أو يفيد الفكرة، واستخدام آليات التناص صيغة أسلوبية مستحدثة لسيميائية النص المعاصر، إذ يستعين الشاعر ببعض المعجميات الصوفية، أو يقتبس بعض المصطلحات، أو يستخدم رموز من التراث الصوفي ويوظف غيرها، يضمنها فضاء رؤاه بخصوصية لغة رامزة الدلالة، أحيانا ليعبر بالمحسوس عن ألامحسوس لتضمين الفكرة، وللتناص عدة تعاريف عربية وأجنبية، وقد أشار جينيت لهذا النوع من العلاقات بتعريفه:" علاقة حضور مشترك بين نصين أو عدة نصوص "وهو اقتباس أو تلميح أو انتحال"3، وليس بالضرورة أن يكون الشاعر ذو نزعة صوفية أو تجربة صوفية، بل يستمدها من الهام معرفته بميتافيزيقيا التراث وتاريخ عقائد، فيروض لغته الشعرية لفلسفة صوفية التناص، وباستعارات تقنية فنية مغايرة التشكيل، تتناسب مع واقعنا الفكري والأدبي بصيغة حداثة عصرية الإبتكار، وذلك استدعاء رؤيوي بغموض أو تصريح، وخوض روحانية الذات بقدرة إبداعية، غير مقيد التأويل بابعاد الظاهر والباطن، فيكون الموضوع أكثر أثرا لتجلي البعد الدلالي في ذهن القارئ لفك شفرات النص.
نستخلص برؤانا أن التناص الاستعاري حصيلة حوار ضمني متبادل بين النصوص وما تشَرَب في فكر الشاعر من مشاعر وجدانية وأفكار فلسفية تختلط باصداء معرفته وتترسب في اللاوعي باعماق ذاته، فتتراسل رؤى لا تخلو من الطابع الحسي بإيحاء دلالي يذرالمعنى مثلا من توظيف من تراث أو من أسطورة، وكذا تتمنهج ذهنيا باحداثيات التأثر الفردي أو التفاعل العام، من روافد واعية، وللاواعية بكينونة أفق التأمل من ذات الشاعر، فكيف أن كان الأديب باحثا في علوم الأديان والعقائد، وملما بأيات القرآن الكريم وتراثه التاريخي والزمني، وله مؤلفات كثيرة بنقاشات وقراءات معاصرة تزيح ضبابية المعنى، وتتوافق ذات الوعي برؤى تحليلية للنصوص التراثية، تطرح بُعد القصد لتغييرات الأجيال وتغيرات الزمن، بحداثة تناسب زمنية العصر، والتي لها دعائم اجتماعية وميول نفسية واتجاهات أدبية وعلمية لفنون معرفية كثيرة بتراكمات سببية تتقصاها شفافية الذات لتقطف ما يثري المعنى وتُنضج روح الفكرة بتقنية اسلوبية عبر توظيف التناص الصوفي بإشارة أو علامة أو رمز وغيرها.
لنستقرئ مكنونات يتهادى حُلما
- العنوان:
العنوان ثريا النص وأول ما يلفت ذهنية التلقي، فهو العتبة الموازية لهوية النص ومرآة الفكرة، يستبصره القارئ ليقطف منه لُب الرؤى جزئيا أو كليا، هو النسق الأول الذي يحفز بصيرة القارئ لاكتشاف جوهر النص فيرسو للبحث والتمحيص والاستمرار، ومنه نتطرق لعدة مستويات اجرائية في اللغة الشعرية، وقد يكون أحد مفردات النص، أو بعيدا كل البعد عن أي جملة للنص، لكن الإبداع أن يحمل كينونة النص بتكثيفٍ دلالي عميق يضئ ذهن المتلقي بشغف الرؤى.
توهجَ عنوان النص (يتهادى حلما) جملة شعرية مختزلة التعبير، أنيقة التركيب، شفيفة القوام، يتجلى عبر تركيبها الدلالي تموج إيحائي من العنوان بالفعل المضارع (يتهادى)، ليوحي بحسية دينامية مستمرة الحركة، وقد أردفها برمز(الحُلم) بما يتوارى خلفه من سيميائية غائرة يتماهى بمرونة دلالات عدة بين (الحقيقة والخيال، والممكن والمستحيل)، محفزة رؤى القارئ لاكتشاف فحوى النص، ويفتح شهية التأمل الصوفي بمديات رؤيوية تتدفق تداولية متنوعة الحواس، منسجمة مع مستويات مفاصل النص.
استهل الشاعر أولى العتبات جملة فعلية بتركيبة فنية رقيقة النسجة، وتشكيل بنيوي فني رائع التماهي، تتجلى من الفعل المضارع (يتهادى) بمعنى التراخي.. التأني.. الدلال.. والتمهل، توحي بدلالة التقدم والمسير في مكان ما، ربما تشي لدلالة التمرد على صيغة الوصول لحلم الواقع الفكري.. الحسي.. والنفسي، نستشعرها مادية حواس ومعنوية شعور، تتراءى لنا تكرار الحركة ببطئ مقصود، وغير مقصود بتأثيرعوامل أخرى، وما ضمر من غائر دلالي يوحي بانتظار أمنية عصية الحضور، برغبة إنسانية ملحة من آنٍ لآن بوجدان الأنا المتلهفة، فاستعان بتشبيه استعاري الدلالة، لفيزيائية أهتزاز متباطئ الحركة مُتأرجح بين (التقدم والتأخر)أوتموج بين (مد وجزر) يشي لعدم توازن طبيعة الوجود، نستدل منها عدة دلائل ذهنية من عمق رؤاه الفلسفية.
وحين نعرج لطوبوغرافية الحُلم نستلهم منه روحانية رؤى تنبثق بؤرة دلالات لرحلة مبهمة عبر متاهات زمن غير معلوم في اللاوعي، ، مما خلق اقتران زمني بتضاد الحواس بين الاستمرار والتوقف على مستوى دلالي بين الحركة والسكون، بتداخل متآلف بين الماضي و الآني، والماضي والمستمر، ما يؤول في ذهن المتلقي سيرورة زمن لحدث معين برؤى التأمل، كي يمنح مشهدا شعوريا بانفعال حيوي.
وظف الشاعر رمزية الحلم برؤى صوفية مستوحاة من لغز فضائه الواسع، ومرجعيته المعجمية الملهمة الإيحاء من دلالات انثروبولوجيا عقائدية ممتدة عبر تفسير الحُلم، والمستمدة بدورها من سوسيولوجيا التراث الديني والحكايات الملهمة التناص بروحانية الإشارة، تلك المتجذرة عرفانيا بالشعور واللاشعور من تلقائية التأمل، وما تستحوذ ثيمة الحُلم من سيميائية خصبة الخيال غامضة التفسير محببة للنفس البشرية، وأهوائه المكبوتة، مما يطلق عنان التفكر للتأويل من غياهب الذات المتسائلة عن عمقه الفلسفي.
ولنغوص بتفاصيل دلالية أدق في الفعل (يتهادى)، فعل متعدي له نبرة صوتية لينة بحروفه الألف.. الياء.. والهاء، وبما يتضمن تكوينه من تآلف صوتي، ينساب على مسامع القارئ بإيقاع لفظي مموسق مع مفردة الحُلم، وما لها من لحن شفيف الخيال يشحن سمات التذوق بدلالات عامة وخاصة حين التلقي، تتشظى بجمالية إيقاع محبب على مسامع الذات، ما أعطى بعدا دلاليا أوسع للتأويل من لحظات حُلم بتردد متداخل، متماوج المعنى، بواقع متآلف الروعة، فتجانست موسيقى تناغم بلسانية تواصل معبرة عن تراسل حسي مفعم بعنفوان مشاعر، يثري تأويل المتلقي بما تشي معاناة الانتظار.
ومن الإدراك الحضوري للمجهول بالفعل (يتهادى)، والذي يعود على الضمير (هو) مرتبط بعالم الذات الشاعرة، المرتبطة روحيا بمعجمية (الحُلم)، مما يجعل العلاقة بين الحقيقة والوهم واقعاً إدراكياً نفسيا لمحنة المعاناة، وهو الترابط الروحي والمادي بتخيل ابداعي وقطفة شعورية رائعة لتحيين الآني باستمرارية تحيل القارئ لتحديد نقطة التوقف في نقطة ذهنية الاختيار على مهل تدفق رؤياها.
نستنتج أن عتبة العنوان بينية الإيحاء مستترة خلف رحلة متآلفة الاختلاف، متداخلة ما بين زمن مجهول بفعل (يتهادى) دلالة غير منتهية الوقت (غير معلوم)، وزمن معلوم (الحُلم) لأنه ينتهي بزمن اليقظة، فنستقرئ مما يبدو مستوى مقاربة بتوازن مذهل، مما يحث المتلقي للتساؤل بشغف أدبي من هو الذي يتهادى حُلما؟، وهل سيبقى يتمايل ما بين القبول والرفض؟، ليبقى الحلم بين دفتي التهادي بدلالة التشويق؟، أو يبقى التهادي حُلم متصوف بايمان متجذر، أوشكَ الوصول الى صورة الواقع؟ ربما!!، لكن من حيثية التساؤل لماذا، و متى؟، نلتقط من بعدهِ الغائر مدارك فلسفية أُخرى تسترعي الاستمرار، أو التغاضي عنه بتطويع ثقافة رؤى التلقي.
نلاحظ البنية الثنائية التضاد من العنوان بالفعل يتهادى دلالة إداء بارادة النفس لغرض معين، أما الحُلم غيبة روحية معنويا لا إرادية، فنستبصر تمازج العناصر رغم تغاير الصفات للمفردتين، فنقرأ من خصائصهم المنصهرة سويا بتوازن كُلي، بعض التناقضات الحياتية الخفية عن ميتافيزيقية الوجود، تتجسد دلائل صوفية مثل (الموت والحياة، الجسد والروح، العقل والقلب، الوعي اللاوعي، حسي وغير حسي) وغيرها.
- النص: كيان النص عبارة عن ثلاث فقرات لاتنفصل عن ذات الفكرة ومجمع العنوان
تحيلنا فضاءات النص الى عدة مستويات إجرائية لقراءة فقرات النص واختراق أبعاده الدلالية من خلال طبيعة رموزه المتعددة وتوظيفها كعناصر أساسية لجمالية النص وتشكيله الشعري في المبنى والمعنى للفكرة والمضمون، بعد تحليلها وتفكيكها لإرساء فلسفة رؤانا، وما يشدنا تعدد رموز التناص لإنثروبولوجيا، التراث، الإقتباس الصوفي، وغيرها، فنعتمد قراءات عدة للصور الشعرية وانزياحاتها والتطرق للإيقاع الداخلي واستنباط ما نؤؤله حسيا ونفسيا من علوم إنسانية أخرى.
أن لجمالية التناص الصوفي في اللغة الشعرية أثر على شهية التلقي في الشعر والنثر على حد سواء، وفي جميع الأجناس الأدبية، وهذه تقنية الشاعر إذ يطوع لغته الشعرية بفلسفة حداثة رؤاه، وينتقي من ذاكرة التراث ما يغني مضمون الفكرة، ويضفي على تشكيلاته اللفظية فنية تنسيق ليفتح للقارئ بابا للتذوق من تاريخية التراث، ويستدرجه لكثير من المفاهيم الصوفية بشعورية حسية تُثري التأويل الدلالي بإيحاء فسيح التأمل،
لنقتطف بعض من عتبات الفقرة الأولى وقراءة بعض من الصور الشعرية، والصوفية التناص من الأنساق التالي
نافرةً هوتْ زنابقُ البحر
توقاً إلى رَعشةِ اندهاشٍ
سَرَقَتها آلهةُ النارِ
فَطافَتْ بها سبعةً..
مشدودٍ لذلك الفجر
لأولَ يومٍ تَمايلتْ فيه الريحُ
تُشاكسُ دَمدَمات المَطر
لا تُداعبُ زَغبَ العَصافير
نلاحظ استعارات رقيقة تهفو بعذوبة البوح نستمتع بجمال التضاد الغائر من العتبة الأولى (نافرةً هوتْ زنابقُ البحر)، ومن بلاغة التعبير في الصورة الشعرية ما بين النفور، وهو الهروب والابتعاد بصدمة وذهول، طبيعة حركة باتجاه تصاعدي، ومن معجمية (هوت)، دلالة الهبوط التنازلي أو السقوط المفاجئ، يتجلى التشكيل الصوري من اختلاف الاتجاهين بين (صعود ونزول.. بُعد وقُرب)، مقترنا بسيميائية تضاد رائع التوازي يشي للتوتر والتأثر النفسي من حدث ما، تشي لوتيرة الصدمات القاسية المواربة لقسرية الهجرة الفجائية والتشتت الجمعي.
ومع محاكاة استعارية من رموز الطبيعة في (زنابقُ البحر)، تتجلى من رمزية الزنابق سيميائية تشبيه استعاري لأنوثة المرأة تَنُم عن إشارة صوفية الدلائل لجمال ورِقة المرأة، وكذلك رمزية البحر أحد الرموز الصوفية لأن الماء دال على الحياة والنقاء (وخلقنا من الماء كل شئ حي)4، وأسرار ربانية أخرى عن كنه حيوية الماء، فالبحرعالم يلفه الكثير من الغموض المفعم بغرابة كائنات حية، وبهذا رسم الشاعر تعبيراً مجازي الصورة، ببنية فنية يتجلى من انزياح تركيبي دلالي التأويل، نستنتج منه إحالة استعارية لمعادل موضوعي عام عن دورة الحياة وتناقضاتها بعموم الوجود وعدم الاستقرار لكلا الجنسين (الرجل والمرأة).
عمد الشاعر لتقنية الإقتباس الصوفي بستراتيجية نصية من رمز ميثولوجي ديني ينتمي لأسطورة يونانية من أساطير حضارات قديمة هي رمزية (آلهة النار)، كما ذكر البعض أنها اسطورة هندية بحكاية تراثية معروفة عند الهندوس لها جذور دينية باعتقاداتهم وفي كلتا الحكايتين لها بعد فلكلوري صوفي ومسحة روحانية لتزكية أعماق النفس بمظهرها الشعوري، وكيانها الإنساني بقوة مكابدة فكرية.. عقائدية، تغري الفضول الأدبي للقارئ وتجذبه للمتابعة الشيقة.
ضمنَ الشاعر مشهدا حسيا جميلا بحُلة فنية ذات شعورية عقائدية مستوحى من أسطورة برومثيوس سارق النار كما في النسق التالي (سَرَقَتها آلهةُ النارِ)، صياغة تناصية بتكثيف دلائل صوفية.. روحانية بحتة، باقتباس نصي من الأسطورة، تتعالق بين الذات الشاعرة والشعور الحسي، منها يتبادر لذهن القارئ تساؤلات عقائدية متعددة، هل يحق للآلهة أن تسرق وهى رمز للعبادة بخلاصة النقاء؟، وبأي شرعية يحق لها أن تسرق؟، أي مبررات توحي سلوك وتصرف إنساني، يستدعي السرقة؟، إحالة دلالية التأويل لازدواجية الأنا بسيكولوجية الصراع المادي والنفسي في واقع ميول البشر، تتجلى التستر خلف ستار الدين عن تهتك المبادئ، وهذا ما يسترعي انتباهنا الى أن الشاعر الغرباوي تنبع لغته من أعماق اللاوعي بهوية باحث عقائدي، فيختار اقتباساته لغرض دلالي عن التباس المفاهيم وتزوير الوعي خاصة التباس المقدس بالمدنس، وقد أشار لهذا السلوك في منجزه الفكري (النص وسؤال الحقيقة نقد مرجعيات التفكير الديني5)، فنرى انعكاس فلسفته الفكرية وبصمته البحثية في معظم نصوصه الأدبية.
نلاحظ سيميائية التناص الصوفي المعتق بالتراث العقائدي من الصورة الشعرية (فَطافَتْ بها سبعةً)، فرمز الطواف دلالة لتاريخ أديان ومعتقدات منذ القدم لتطهير الجسد من الذنوب، لكن مكنوناتها العميقة الدلالات متزاوجة التناقض للنفس الأمارة بالسوء، فنستنير بمدى دلالي عن زيف الطواف وغرضه الشخصي بسلطة الأطماع، نظرا لاستكمال طقوس العبادة لإثبات شرعية السرقة باتمام الطواف!!، ، فتداهم التلقي تواصلية دهشة لاستكشاف إيحاءه الفكري باستذكار مقولة (كلمة حق أُريدَ بها باطلٌ)6، إحالة سيكولوجية التأويل غائرة الإشارة عن روحانية الشعور المزيفة، منها نغوص بعدة دلالات تضاد منها، (الإثم.. البراءة، النزاهة.. الفساد، الكذب.. الصدق، الشك.. اليقين، وغيرها).
تبدو دلالة التأكيد لإتمام طقوس الدوران المغلق بالرقم سبعة عقيدة تراثية، وهو رقم صوفي بتأثير طبوغرافية التصوف، لتكتمل كينونة الانعتاق الروحي بخلع رداء الأنا، وارتداء معنى النقاء باصرار الذات المتعبدة، ثم التوحد المطلق مع الخالق عرفانية مناجاة باشتغال كافة الحواس، وعلى ما يبدو يترك لنا الشاعر أفق تأويلي مفتوح الدلالات بمغزى مبطن يستنتجه شغف التلقي ليستشف المعنى الدلالي القريب من تفسيره المتذوق.
أعتمد الشاعرعلى توظيف رمز العدد (سبعة) بما له من إشارات توحي بتناص ديني في كثير من الآيات القرآنية بتعدد دلالاته الكونية ومنها على سبيل المثال لا الحصر لتعددها (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)7، ورمز متكرر في العديد من التقاليد الاجتماعية التراثية، ودلالات ميتافيزيقا الكون، فالتيمن باليوم السابع عقائدية وجود، كما في تضادات مختلفة في اليوم السابع للولادة والموت.
وهناك الكثير من فيزيائية ظواهر كونية للرقم سبعة كالطيف الضوئي وغيرها، فليكن للقارئ الشغوف وجهة نظر تنبثق من ذهنيته المتأملة ومنطق صوفيته ليغني إحالات التأويل بإدراك عوالم صوفية، تتحفز بفلسفة رؤياه ونطاق تذوقه، أو فيما يتشظى لديه من روحانية تفوح من عمق الباطن من الدلالات حين تنغمس النفس البشرية في رحاب تجليات العبادة تغرق في الانعتاق الروحي بحرم قدسي التعبد، والاعتراف بشتى العبودية للتحرر من دنس الذنوب والخطايا، تتشكل في طواف الانتماء للآلهة، وبجرس صوفي الإيقاع تهتز له المشاعر، كما يبدو من العتبات التالية:
تَتَهجد...
تُرتّـلُ قداساً مكتومةً أنفاسهُ
وتَطوفُ حولَ مَدارٍ
نلاحظ المستوى النفسي بمفارقة حسية مكثفة الإيقاع بكيان شعوري متنوع منفصل عن حصانة الذات، وبتشكيل صوتي لحركة الأداء من الأفعال المضارعة المبتدئة بحرف التاء في (تَتَهجد، تُرتّـلُ، تَطوفُ)، التاء حرف لين هنا يدل على الهمس والخوف بانعتاقه للذات الإلهية، وبتكرار حرف التاء أعطى استمرارية متخمة بالشعور الصوفي تنبع من اللاوعي للشاعر، ويتجلى التغاير الحسي في تكثيف الجمال الذي أبدعه الأديب باستعارة تضاد لدلالة رمزية مضمرة في الصورة الشعورية (مكتومةً أنفاسهُ) تتباين بين دينامية التردد الحسي وقسرية السكون الروحاني، إحالة تأويلية دلالية عن هوية صوتية بحسية عميقة صوفية التناص بهاجس نفسي متجذر الخوف من المعبود.
-نلاحظ تنوع المستوى الزمني في العتبات التالية
مشدودٍ لذلك الفجر
لأولَ يومٍ تَمايلتْ فيه الريحُ
تُشاكسُ دَمدَمات المَطر
وتُدندنُ أغنياتٍ مهمَلةً
لا تُداعبُ زَغبَ العَصافير
استخدم الشاعر سيميائيات نسبية الدلالات مبهمة التاريخ (مشدودٍ لذلك الفجر)، (لأولَ يومٍ تَمايلتْ فيه الريحُ) توحي لفترات بينية غير مرتبطة بكينونة زمنية محددة، تشي لزمن ماضٍ، وباستخدام الشاعر معامل موضوعي لمشاعره الوجدانية من جمالية رموز الطبيعة (فجر، مطر، عصافير) معبرا خلالها عن عاطفة شعورية تتوسد لاوعيه بصيغة صوفية الأحاسيس، لها إيقاع صوتي من الذكريات وطاقة حركية بفاعلية الواقع من الأفعال الحسية التالية: (تمايلت، تشاكس، تدندن، تداعب) ومن روح التكرار لحرف التاء موسيقى داخلية حركية الإيقاع، نستقرئ زمنية أحاسيس مؤثرة بذات الشاعر مكثفة التأويل الدلالي تنُم عن تناص صوفي بتماهي الصورة الجمالية والصوتية والحسية.
كما نستقرئ دلالة الإحباط النفسي من تشكيل الصوري من عتبات خاتمة الفقرة الآولى (أغنيات مهملة، لا تُداعبُ زَغبَ العَصافير) تشبيه رائع بايقاع صوتي لمشاعر الوجع عبر إيحاء الرموز الصوتية، بعمق حسي وفكري التأمل، عما يجول بحياة لا قيمة للإنسان فيها بتواتر الزمن ومن أبسط متطلباته، إحالة تأويلية للإحباط النفسي.
- الفقرة الثانية من النص: نستبصر مناورة صوفية شفيفة المناجاة
- نلاحظ من الصورة الشعرية المركبة الانزياح (أَغدو وأنا المُتَيمُ... شفقاً)، نرى دلالة صوت الأنا العاشقة برؤى صوفية رقيقة، بسيميائية زمن مستمر المعاناة، ثم يترك الشاعر لنا فسحة توقف بعدة نقاط لتصورات تستفز تذوق القارئ، لنسميه بياض تأملي، فدعانا لتشبيه جميل للزمن متمثلة بهذا الهيام كحالة وسطية بين انتهاء بقايا ملامح الليل، وبداية شروق نور لفجر جديد تمهلنا التفكر في رمز من الطبيعة شفيف المعنى صوفي التأمل، ورغم أن الشفق علامة زمنية لوقت قصير المكوث، إلا أنه وقت جميل المنظر بانبثاقه في السماء كما نعرف في اختيار المفردة ليس عبثا من أديب مبدع بفرضية التشكيل الفني لنصه بتناص شعوري، وكمفكر إسلامي وباحث عقائدي دقيق الإختيار لتوظيف رمزية معجمية الشفق، يوحي لسيميائية دلالة إحياء طقوس الدعاء بانجذاب روحي شفيف بالتوحد مع طيف العاشق المدلل التهادي بتضاد غائر، إحالة دلالية التأويل صوفية.. روحانية لتحقيق أمنية مضنية لحلم الشعور.
ونتابع صدى ترددات التهادي في نسجهِ الأنساق المتوالية من الصور الشعرية البارقة بجمال رومانسي المناجاة، (حينما يُغازلُ دفؤكِ لهاثَ أنفاسي)، وصف وجداني أنيق التعبير بمشاعر حميمية التوله بسيمائية دلالة زمنية عامة، إذ وظف مجمل الحواس بتكثيف منطقي ملتهب بغزارة حسية، في صورة شعرية رائعة بليغة التعبير تفوح بطاقة شعور صوتي الترنم لمناجاة الأنا، وتتجسد بروعة صياغة تركيب الإنزياح الدلالي وتقنية التشكيل، أجادها الشاعر الغرباوي للتعبير عن تهادي الحُلم بظرفية ذكرى، فأراق الزمن برغبة صوفية تحث التلقي عن كشف المعادل الموضوعي لعاطفة تجتاح هنيهات روحه.
ونقطف روحانية أحاسيس من الصورة الشعرية التالية (فَتُراودُ أَحلامي جَمراتُ شَوقٍ)، نرى رمزية الحُلم دلالة صوفية التناص بقوة الإنفعال من هذا التعبير البسيط والعميق الإيحاء يتدفق زخم عاطفي للأنا المغرمة من خلال ضمير التملك، وسيمائية دلالة توحي من يوتوبيا تكرار الحُلم لإصرار ما نبت في اللاوعي، ومنها نسترجع ملامح العنوان بقوة انسيابه مع كل نسق، إحالة دلالية شعورية التجلي عن تهادي ذلك الحُلم بانتظار اللقاء بلا زمنية ممكنة.
وبتأكيد استمرار الحلم وتكراره، من واو العطف للصورة الشعرية التالية، (وحَفنةُ آهاتٍ تُطاردُ ظِلاً)، نستمتع بنغمات حسية الإيقاع وصدى سيكولوجية المشاعر بلهاث اشواق الحبيب وزفرات الوله خلف الحُلم، نستنتج من استعارة رمز الظل صوفية دلالة للشعور المعنوي لخيال عاشق، ويبقى اشراق طيف الحبيب متواريا خلف تمني المحب وحلماً يتهادى رقة وعذوبة مفعمة الاشواق بتأكيد ذلك الحُلم.
ونلاحظ بلاغة الصورة الشفيفة الرومانسية من وحي الطبيعة، بسيمائية تشبيه يشي بالتكثيف الدلالي لرمز البنفسج وعطره عن المرأة الحبيبة في بلاغة صوفية غائرة الإيحاء من التعبير الآتي (يُسابقُ البَنَفسَجَ عطرُهُ)، فنتقصى الشعور النفسي في اللاوعي يحتل كل مدارات التذوق الحسي، ويشغل كيان الأحاسيس للشاعر بخصوصية روحانية التناص تندمج بذاكرة أدبية تأخذنا لأغنية ليل البنفسج بصوت(ياس خضر8 وشعر مظفر النواب*9)، معبرا عن سباق لهفته للحبيب بنعومة التشكيل، إحالة تأويلية تجسد حنين العاشق لكيان حبيبته الغائبة بصوفية تعلق، بدلالة نفسية تشي باستنشاق العطر عن اختراق حسية ذكرى راسخة التأثير في روح الذات، فللمرأة خاصية صوفية الرمز، تدل التعلق الراقي في مصافي الحب كالتعلق الروحي عند الصوفيين بتشبيه استعاري بليغ بعذرية التوله.
وبعتبة غزلية فنية التشكيل لصور شعورية رومانسية التعبير، رقيقة الوصف، لا تخلو من سيميائية تصوف
- الفقرة الثالثة: استمرار الحلم بمطاف صوفي رائع، كما في النسق التالي:
ضاحكةً عيونُ المَها
تُلامسُ شغافَ قلبٍ
يَسهو في مِحرابهِ
ما زال الشاعر برحلته الروحسية (الروح والحسية) وذاتية الحلم يتهادى ليلامس شغاف حواسه السارية في محراب عشقه معتكف بمناجاة مشاعره الطليقة المتيمة، فيتغزل بصفات حبيبته باستعارة رمز أنثوي التشبيه هو رمز عيون المها بمقاربة بجمال الوصف للمرأة، ومن سيميائية الأنساق استخدام يوتوبيا الحواس بحسية التعبد والدعاء في محراب الحب تشبيه استعاري عميق يستفز فكر القارئ ورؤاه التأويلية الدلائل بتساؤل:هل يسهو العابد في محراب عشقه.. ومتى؟، سيميائية سمو عرفاني عبر المحسوس بعمق التأمل، فهو في حضرة انسجام شعوري مع أنا الحواس لربما الغياب عن العالم الحقيقي بخيال سارح يغيبه عن محيط الواقع فيعانقه الحُلم.
ونتابع مستوى إجرائي آخر بتكثيف صوفي:
يتبتلُ ساعةً وأخرى
يَعكفُ
يُرتّلُ آياتٍ
نلاحظ الإقتباس الصوفي من الأفعال الموحية الإستمرارية بحضور روحاني فاعل من (يتبتل، يعكف، يرتل)، سيميائية صوفية الإيقاع نستبصرمنه مجاهدة النفس بجرس وجداني الأحاسيس، فيبدو من دلالة الاعتكاف تشبيه رائع للاتصال الروحي بالمحبوب آسر التنسك بخلوة عاشق، وهي درجة من مقامات العبادة الخالصة في الإنعتاق لهوى المعشوق، كمقام الورع، ومنهان أن يتعدد تأويل القارئ ورؤاه بمنتهى التذوق الأدبي وتخمينه الرؤيوي.
لنتذوق جمال مناجاة لِطَيف ذكرى الحبيبة بنزعة صوفية عرفانية من العتبات التالية:
مرَ بِها طيفُكِ ساعةَ سحرٍ
فظلّتْ مَركونَةً في زوايا ذكرياتٍ
يبدو قدرة التخيل الصوفي للغرباوي في تجلي الذكريات، رغم ما تشير الدلالة لبينية قصيرة برمز (ساعة السحر) زمن محدد ببعده الماضي، إلا أن من باطن الإيحاء تبدو سيميائية رمز السهرمستمرة في خاطر الشاعر بدلالة شدة التوق، ونرى الشاعر يستخدم إقتباس زمني من تراث الأدب والقريب لإحساس المتلقي بتذوق المفردة، اذ استعار بتمكين تقني فاستجلب الزمن من قصيدة الشاعر السياب نستذكر منها (عيناك غابتا نخيل ساعة السحر)، نقرأها سيميائية إقتباس أدبي معشق بصوفية الفكر.
نستكمل الوجد الروحي في الصور الشعرية البسيطة التالية
وبقايا أُمنياتٍ تَسربلتْ
حُزناً سَرمدياً
يتراءى منولوج الهيام الروحي الذي سكن النفس فتداخل الشعور بين الروح والجسد وانحدر دواخل اللاوعي فتشرب فلسفة ميتافيزيقية الوجود وتسامى في رؤى العاشق وتوق ناسك، بلمحات من سيميائية الوجع الأبدي في تعبيره الصوفي، ونلاحظ منها مفردات التناص من التراث الديني (تسربل، سرمد).
ولِنعود لمستوى آخر من التناص التراثي لأسطورة تاريخية تمهد لنا فكرة الشاعر وغرض التناص، ولأن من تقنيات النص الحديث الاستعانة بالرمز الأسطوري لحضارة ما، يستمد منه مقاربات لدلالاته الضمنية باختزال جوهر الفكرة، فيسعى الشاعر للغة الرمز لربط دلالاته الحسية بملامح واقع تأثره النفسي، نابعا من محيط معاناته الإنسانية بأبعاد اجتماعية وتاريخية، متعالقة بذات الموضوع تُستمد من اللاوعي، ليستمد من رمز الأسطورة طاقة إيحاءات لإيفاء المعنى وتكثيف الدلالة بإحالة جديدة من الخيال بما يلائم أتساقه ضمن النسق يضفي طابعا غير مألوف يثير شهية الشك الرؤيوي، ويحرر يقين تأمله بفتح أبواب الإلهام في ذهن المتلقي بحيويات دلالية عدة، منها تسترسل ملامح من قصدية الفكرة لإعادة خلقه برؤية ما في ذهن القارئ ليحيى ببعده الأسطوري نوافذ تأويل دلالي تستسقى من معرفة القارئ وتذوقه.
ولنستبصر القراءة في الأنساق التالية:
جادَ به تَموز
فما عادَ لنا فرحٌ
وهنا ما يشفع للقارئ أن يستمد طاقة رؤى من سيميائية رمز أسطورة (تموز) ومن موروثه الشعبي يُغني مرونة الإيحاء، ورمز(تموز)هو أحد ملوك سومر والذي يدعى ب (ديموزي)، وما ينضوي من استدعاءه الرمزي المفعم بخيال عميق الأثر بمدار دلالي رحب لامتداده الزمني من التراث الأسطوري لماضي الإنسان (تموز)، ومازال ملتصقا بحاضره المؤثر، وقد برع الشاعر بتوليفهما معا لحدث مرادف لأزمنة الحياة المعاصرة، ليشحذ التفكر والإيحاء بتكثيف دلالي وبإشارات متباينة الاعتقاد والتصور عن سيرة حقبة زمنية يستذكرها الشاعر بمشاعر الحزن، تحز الوجع في اعماق نفسيته، نستنتج منها مقاربة دلالية التشابه مع حزن تموز حين سرقته الآلهة الى العالم السفلي وسلبته حريته قسرا، بذلك أوحى دليلا غائرا، مرمز الإستعارة والتشبيه عن اغتصاب الحريات من الشعوب العربية على وجه الخصوص، وأثرى المضمون ببعده الدلالي عبر توحده مع ذاتية الرمز، وكذلك منحه تواصلية تاريخية التناص بتداولية التأويل لإلهام المتلقي فيتزود من معرفة التراث، ويبحث عن تفاصيل أسطورة أو حقيقة من حضارات قديمة، بدلائل حزن مستشري بأعماق الأنا الحسية والنفسية، وبذكراها تتعتم سمات الشعور بأوان الفرح.
ونستنتج من التشبيه الإستعاري لأسطورة (تموز) بحياة الشاعر من الأنساق التالية:
والموتُ يَنشرُ راياتَهُ السود
فوقَ سحابات بلدٍ خانتْ به
نفوسٌ أدمنتْ الغدر
ولمستوى موحي بصوفية منولوج نفسي عن سيميائية رمزية الموت بما تحمل من دلائل رهبة وسوداوية مؤثرة بذات الشاعر وعمومية مرافق الحياة، ومتجذرة الخوف لصعوبة فهم ميتافيزيقية* الوجود، أشار لها الشاعر بتكثيف انزياحي وتشكيل جمعي للدلالة عن انتشار أشكال الموت، وتعدد اساليبه، وتنوع طرقه، بأسبابه الواهية (وأن تعددت الأسباب فالموت واحد)10، فاوحى للتلقي سبب وجع التشتت بازدياد العنف والقتل والغدر غير المبرر من عناصر مغتصبة البلاد والعباد، وشبهها برمز من الطبيعة (سحابات) مظلمة ظللت أرض الوطن، واشار بوضوح التعبير وبساطة لغة لمن اتقن لعبة الخيانة، إحالة دلالية التأويل عن فكر التطرف بالاعتداء على حقوق الإنسان ومحاربة حريته الشخصية بسلبه حياته واستباح أفكاره وآراءه بتدميره فكريا وعقائديا.
نستخلص بما تشي هذه الأنساق المتوائمة مع عتبة العنوان بنسق مترابط كلما أوغلنا في تلابيب النص، ووفقا لما استحدث من هذا التناظر الأدبي المتداول لمنطوق سيمائية التناص الصوفي، أن خلق العلاقات مع وحدات النص بتشكيلة التركيبي تُحمله قيمة دلالية تتناسب مع مضمون سياقات النص وبناءه التعبيري الفني، وتضيف سينمائية المعنى الدلالي بخصائص الإقتباس تتضمن ضوء الفكرة برؤى شعرية تنسجها لغة الشاعر، (وهذا ما يؤكّده محمد مفتاح لأهمية التناص للشاعر وعدم استغنائه عنه فهو بمثابة الهواء والماء والزمان والمكان للإنسان فلا حياة له بدونهما ولا عيشة له خارجهما)11، فالتناص أحد العناصر المهمة لقصيدة النثر الحديثة باستعارته اللغوية وتوظيفاته الرمزية لتكثيف الاثر الخفي للنص لاستباحة الحركة الذهنية للقارئ.
نلاحظ عتبة الانتقال الفجائي والتي تطير بالمتلقي على شغف ستغرابه بما يصدمه من خاتمة تمتشق حزنأ معتقأ عن معاناة وجع الوطن، وهي تورية عن حب مؤرخ بعمر يسترجعه الشاعر بكيان حُلم يؤرقه دوما ألا وهو حب الوطن، وما يشي لأي حبيب بعيد غائب، فتتراكم من رواسب الغربه آهات الألم لشتات أحبة ما لبثوا ان تباعدوا، يستعيدها الشاعر طواف عمر بفضاء الأسى، فاستبدال الحبيب بالوطن لا يلغي أي دلالة من السياق بل يوقرها جمالا، وبهذا سنرى أن ثيمة الحُلم تستحوذ على صياغة دلالات سطوع الخاتمة بانفعال شعوري مقترن بالإنتظار، وأن فعل التهادى يفترش وجع المسافات المطعونة بالفراق توحي بتجربة الشاعر المعمرة بالوجع.
- خلاصة:
أن الثيمة الأُسية المحركة لفقرات النص هي مفردة الحُلم والتي تتراسل مع البؤر الدلالية في أنساق النص، وتنهض بالعامل الزمني من مهد الذكرى وتاريخ الأماكن على مستوى التخييل، والتي ترتبط بها الأنا ومنها تنطلق لتبادل الرؤى مع حيز الواقع، يستثمرها الغرباوي ببناء خطابه الشعري بجمالية الصور وحركة الأفعال وتعبير الجمل ونسيج اللغة، فيبث سيرة ذات هيمن عليها مناخ الغربة وقلق معاناة بدلالات ايحائية متقاربة في محطات شعرية تتجاذب وتتنافر صورها الشعورية، في كيان وجداني ساحر تتوغل في البنية النصية بمكنونات الشاعر النفسية والفلسفية والحسية.
نص يثير ذهن القارئ ليعاود القراءة بتفقد الألم من بداية العتبات للخاتمة، بصوفية الرموز والتنقيب عن دلالات التناص المتنوعة الآفاق، ليرتع من دلالات الرموز بتأويلها ويستمد الرؤى من تراث الماضي ويغور بأزمنة استكشافه، وما يؤول على مدى مستحدث من تقنية العنونة ليُغني تساؤلهُ، فيبحث عما هو مستتر من علامة، إشارة ، ورموز وعناصر تسري به لدفقات الخاتمة، يسترجع وظيفته التفسيرية ووجهته التحليلية وما يتوالد منه من تأويلات اخرى، وبهذا خلق الأديب ماجد الغرباوي تداولية رائعة بالتفاعل والتواصل الموضوعي من الخصوصية للتعميم بترابط متين، ينتقيها القارئ بلذة استكشافه المكنون بما توحى له بصيرة تأمله، كما ويتقصاها الناقد بمنهجية إضاءات على مستوى إجرائي بما تتيحه دلالات رؤاه وانطباعاته الفكرية.
أن الأبحار في أي نتاج للباحث القدير والإطلاع على رؤاه الفلسفية يتيح لنا سعة التماهي بعدة دلالات فكرية التأويل ويفتح لنا آفاق معرفية أخرى للتذوق الأدبي، ونرى في نصوصه بصمة بحثية لا تخلو من توجهه الفكري التنويري وانعكاسه على خياله الأدبي فانزاح من تأمله الثقافي، اضافة ما نتوجسه من صوفية تلامس بين الفكرة والموضوع، تجانس المعاناة بين الفرد والمجتمع، ووتتطابق بين الخاص والعام، فيعطي بعدا آخر لتنفس القارئ، بما يفيض تصوره وأختيار نقطة أنطلاقته الذهنية بتفكر مجزي، وتلك ميزة حاذقة في مضمون الجنس الأدبي تطرب المتعة للقارئ \الناقد والباحث عن التجديد بفكر معاصر.
***
إنعام كمونة – أديبة وناقدة
...................
هوامش
1- كتاب العمدة في محاسن الشعر وآدابه -ابن رشيق القيرواني ص 91 -الجزء الأول
2- عن كتاب نور الهدى لوشن: التناص بين التراث والمعاصرة، مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها، ج 15، ع 26، صفر 1434 ه / ص 1023
3- علم النص ترجمة زيد الزاهي21 ط1991م، دار توبقال
4- سورة الأنبياء آية رقم 30
5- الباحث ماجد الغرباوي مؤسسة صحيفة المثقف – سدني استراليا-مل الجديدة –دمشق-سوريا-2020م
6- تنسب للأمام علي المصدر صحيح مسلم ص 1066
7- سورة الطلاق آية12
8- مطرب عراقي معروف بصوته العذب ولد في محافظة النجف
9-شاعر عراقي معروف بقصائده الجريئة والمغناة
10- الشاعر أبن نباتة السعدي القائل(ومن لم يمت بالسيف مات بغيره / تعددت الأسباب والموت واحد)
11- محمد مفتاح الخطاب الشعري، إستراتيجية التناص، صفحة 125