بأقلامهم (حول منجزه)

مونولوج ماجد الغرباوي وبشرى البستاني

كان ذلك قبل عقدين من الزمن، أكثر أو أقل لا أذكر، ما أعرفه أن الأمر لم يعد الآن مهما فهو يعرف أن مثل هذه الأمور لا تعنيني، أقول له ذلك فيبتسم عن بعدٍ قائلا، وأنا كذلك الا في التوثيق. أسأله وهل في حياتنا من توثيق على الإطلاق. ولكي ينهي مثل هذا الحوار يقول: أحيانا. ونصمت.

 اليوم تفصل ما بيننا ظلال بعيدة لم يخطر ببالي أنها امتدت كل هذه السنين، فقد مرت بنا خلالها مصائب وفواجع وانكسارات، كان خلالها يعلمنا ألا نعيشها دفعة واحدة بل نبتلعها على وجبات أو جرعات أو ان استطعنا لقيمات..

من يعرف الأستاذ ماجد الغرباوي مدير مؤسسة المثقف العربي يدرك بأمانة أيَّ مثقف عراقي واسع الأفق صادق السلوك في التدين وفي التعامل مع الكتاب والمثقفين في عمله بإدارة مؤسسة المثقف، نزيه العلاقات في تعامله مع الجميع متواضع، وصبورحليم بسعة محبته وتأنيه وقدرته على خلق أجمل العلاقات مع كل مثقفي وكتاب المؤسسة، ومن فضائله التي يتسم بها على الدوام الصبر الجميل على المرض، على الشدائد، على الفقدان، والعودة لزملاء العمل بكل هدوء ورصانة وأمل بثواب الله.

في البداية كنت أخاف التعصب، التعصب الذي أضر بديننا الحنيف كثيرا، ولذا كنت أتعامل معه بحذر يهدف إلى الكشف عما وراء هذا الهدوء الرصين، وحالفتني الصدفة بحلول (يوم القدس) واحتفالنا بذلك اليوم على المستوى الإعلامي والوطني فأرسلت له فيروز4208 ماجد الغرباوي وبشرى البستاني

 تغني (ياقدس ..) توجست خيفة أن تزعجه حرمة الأغاني لكنه أجابني بما كنت أنتظر، ولماذا لا نسمع الأغاني الرصينة، الله سبحانه خلق لنا العيون لنتأمل الجمال وخلق الأذن لنسمع الجمال وهكذا اللمس والشم والتذوق وخلق لنا نعما لا تعد ولا تحصى، وعلينا أن نمارسها لنشكره، ونحسن عبادته.

 الآن أدرك أن ما أكده هيدجر حقيقة نعيشها، إيجابيات الماضي حاضرة في ثنايا حياتنا وهي التي تشكل رؤانا لمستقبل نتوخاه ولإيقاعات جديدة، مستقبل نتطلع لتحقيقه بآليات وتشكيلات عصرية وليس بالتشكيل الذي تحدده الطائفة أو العشيرة أو المذهب، فالإنسانية فوق الجميع وقيمها المشرعة على الخير والجمال هي المنتصرة في النهاية وهكذا كان..

عام 2008 أرسل لي عميد كلية الآداب في جامعة جرش بعمان وكنا نلتقي في المربد ببغداد يخبرني أنه أرسل لنا دعوة للتدريس في كلية الآداب بعمان حتى انتهاء الأزمة الطائفية في العراق وعودة الأخوة العراقيين جميعا لحضن الوطن، وحينها سارع رئيس جامعة الموصل مشكورا للموافقة وتزويدي بالكتاب الرسمي قائلا هذه محنة وستزول وتعودون لجامعتكم.

في حينها كتب لي الأستاذ الغرباوي، تعرفين يا بشرى أن تطوير الذات والمجتمع يبدأ من الإرادة وها نحن نعيش هذه المرحلة أو المحنة بصبر وإرادة، وسيكون السفر فرصة للاطلاع وتطوير الذات والكتابة معا فالأدب صراع الذات الفردية المغتالة بقهر المجتمع وسلبيات العصر وأدوات رعبه القاسية، وأمام هذه المرحلة القاسية سيكتب الأديب مخلصا لإبداعه، مجددا لأساليبه وطرائق أدائه بتوجيه من العقل وحساسية الأداء.

أسأله لكن الأدب يمكن أن يكون رعبا حينما تظل الورقة بيضاء أمام عينيه لا يزخرفها السواد، ويقول تلك قضية أخرى، فقد تنهض التجربة بذاتها ويواصل القلم زخرفة الصفحة البيضاء وقد تكبو التجربة فيدرك المبدع أن هذه التجربة قد ذوت وتوقفت وغابت معالمها. يقول يحدث هذا عندكم في الأدب مرات حين يكون النص إبداعا، أما نحن فبعد التخطيط المنهجي وجمع المصادر وتأمل الأسباب والحلول فحالة النكوص أقل مما لديكم.

قلت له في كل ثقافات الدنيا لا يكون الدين إلا جانبا روحيا وسلوكيا مهما في الثقافة الكلية وممارسات العقيدة للأمة إلا عندنا فإن الدين هو الذي يشكل الثقافة كلها ويشكل القيم كلها، والسلوكيات الظاهرة للعيان فهو الماضي والحاضر والمستقبل هو الثقافة وهو العلم والطب والفلك وهو الاقتصاد والزراعة والصحة والأدوية ولذلك ظل مجتمعنا مقيداً بأطر حُشر فيها الدين قسرا فلا مجال في دينا للنقد الحر ولا أفق لطرح الآراء ولا محل لثقافة الاختلاف إنما الفضاء كله لذوي العمائم الذين غامت ألوانُ عمائمهم من عبور زمن قديم عليها متناسين أن لكل زمن مشاكله وظروفه وحقوقه ولكل زمن دولة ورجال وأحكام وقوانين صالحة لمعالجة إشكاليات ذلك الزمن وأهله وان الحلول الجمعية لا يمكنها أن تصلح إشكاليات فردية أو تعمم عليها في وطن يموج بإشكاليات شتى وبمختلف الكوارث والمصائب والمصاعب والتناقضات والاحتلالات مما يحتاج لاستجابة الحلول لأنواع المشاكل حيث لا يجدي توحيد الحلول أمام اختلاف الإشكاليات ولا تجدي حلول القرون الوسطى لعلاج إشكاليات عصر مابعد الحداثة، فنحن شئنا أم أبينا إنما نعيش زمننا عصراً نكابد إشكالياته ونحتاج لحلول قادرة على معالجة معضلاته، نعم سنضحك يوما ما أو ربما ستضحك أجيالنا القادمة على ذلك التهافت الطائفي المشين الذي قتل من أجله بعضنا بعضا على قضايا مضت من أربعة عشر قرناً والقرآن الكريم يقول وكأنه يخاطبنا نحن ((تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون)) البقرة 134، بمعنى أن ما جرى أمره لله، هو الذي يحكم فيه، لأنه انتهى ومضت أحداثه وانتهت نتائجه والعجب أننا اليوم غارقون بإشكاليات شتى نتركها ونقتتل لأحداث الماضي معتمدين على المرويات في التاريخ والتاريخ مؤدلج يكتبه ذوو المصالح والأدلجات الذين قُتل اخوتنا وأهلنا وجيراننا بسببها وقد مرت قرون على حدوث معظمها لأسباب زمنية لاعلاقة لنا بها ولم يساهم أحد منا بأي حدث أو سبب فيها، فلماذا الاقتتال عليها، أليس الأجدى الن نلتفت لمشاكل واقعنا ومعضلات شعبنا وعصرنا وإعمار وطننا بثرواتنا الوفيرة ومعالجة العدوانات الذي تحيق بنا من كل جانب، ونسعى لدراسة أسبابها والعمل على وضع الحلول الناجعة لها، وفي ذلك اليوم سندرك أننا كنا نقتل بعضنا بدل أن نلقي القبض على من أشاعوا الفتنة بيننا وحرقوا بيوتنا ومزقوا نسيج شعبنا الواحد ونستعيد منهم ماسرقوا من خيرات وطننا ونحاكم خطاياهم وما ارتكبوا فينا من جرم وآثام.

يقول بهدوئه المعتاد، كل ذلك كلام سليم لكنه التاريخ يستعيد بعض أحداثه أحيانا، والمغرضون الطغاة المنتفعون موجودون دوما، وعلى استعداد لإشعال الفتنة التي تخدم مصالحهم.

يوم قرأت كتابه الحواري عن قضايا المرأة في الإسلام، قلت له وهو الحواري المتفهم، أظننا كنا بحاجة لشجاعة أمضى في معالجة القضايا المطروحة، وما أظن أن القرآن الكريم طرح مصطلح التأويل أكثر من مرة إلا لحاجتنا إليه في جانب مهم من حياتنا ودراسة الآيات والأحكام عبر العصور التي امتلك رجال الدين تفسيرها وترسيم مراميها دون طرحها أمام إشكاليات عصرنا المستجدة، ليكون القرآن كما أكدت نصوصه الكريمة كتاب حياة وفعل وتطوير دائم للإنسانية المعذبة.

ويجيب بثقة وتفهم، سيكون ذلك وسترين لكنه لن يكون إلا بثمن، والثمن لا يدفعه أحد غيرنا؛ لأننا وشعبنا أولى بحل إشكاليات وطننا.هكذا هو المفكر المتواضع الثري بالثقافة الاسلامية والفكرالانساني والوعي النقدي، والانسان العصامي ، الصلب ، المحارب بالكلمة والقلم، والثورة الحقة لديه فصل حب كوني إنساني شمولي وقادر على حلّ مجمل الإشكاليات الخاصة بحياة الفرد والجماعة. 

ماجد الغرباوي المفكر المتمرس في التراث الاسلامي، والذي يمتلك الأسس الفكرية المنفتحة بالنسبة لرجال الدين في زماننا والأدوات الفنية الجادة التي يعتمدها اسلوبه الكتابي النقدي ومقارباته االثقافية، التي تعد اهم ركائز واوليات ومتطلبات المثقف صاحب الفكر المتأني الحاضر لقبول الاختلاف الذي لا يلحق ضررا بالعقيدة والذي يحارب الجهل والتزمت ..

الغرباوي والكتابة النسوية

 حول الكتابة النسوية كنا على وفاق في أنه لا يمكن الجزم بوجود كتابة نسوية أو ذكورية خالصة؛ لأن الكتابة نتاج حركة المجتمع أجمع، وحركة المجتمع في كل بيت وأسرة شئنا أم أبينا، الكتابة لها جلالها وهيبتها عند المرأة والرجل معا، إلا أنها عند المرأة لها ممارسة ذات طقوس تسكب فيها معاناتها منذ أمسكت بالقلم، وهذه المعاناة لها بعدها الكوني الذي يلامس جذور النفس البشرية، فروح الكتابة عند المرأة تشكل لغزا وصراعا وتعبيرا عن وجع نفسي ومجتمعي يختلف عن مشاكل الرجل الجسدية والمجتمعية، فهي التي تدفع ضريبة الإنجاب والأمومة غالية من أوجاع شتى في مجتمعات العالم الثالث التي لم تلتفت لاحتياجاتها في الحمل والولادة والإرضاع والتربية المبكرة، ولذلك فهي تكشف في تعبيرها عن عالم ضبابي معقد يخيم على عصرها، بعيدا عنها وعن إشكالياتها، فضلا عن عملها إن كانت عاملة. عصر الذرة والحروب النووية والاقتتال حول كيفية نهب ثروات الشعوب المستضعفة، كما أن الحرف الأنثوي يجسد موقفاً جمالياً وفلسفيا تطفح فيه مشاعر الحب، والأمومة، فالحرف الأنثوي موقف إنساني له دلالاته الخاصة. إذ إنها تسكب في كتاباتها الخوف الكوني من الفقر وسوء السكن وضيق العيش وأرض الله تزخر بالخيرات.فضلاً عن الحروب التي اشتدت عواصفها ونيرانها في عصرنا الحاضر ؛لأنها ليست حروبا من أجل تحقيق العدالة على الأرض، وليست حروبا من أجل نصرة الضعفاء، بل هي اقتتال شرس قائم على الظلم وابتزاز حلم الإنسان وموارد عيشه ليس في الحياة حسب، بل حتى بعد موته فها هي إنعام كججي الروائية العراقية المغتربة نلمس منذ اللحظة الأولى في روايتها "طشاري" عنوانا يجذبنا إلى المعنى المأساوي للتغرب عن الأوطان والعذاب الذي لحق الإنسان في نفيه القسري عن بيته ووطنه وماله من أبعاد ثقيلة ترهق النفس ، فالفعل طشَر يأخذنا إلى معناه اللغوي أي بعثر بعنف وفرّق ورمى بلا قانون أو نظام، فتجلت الرواية بمضامين مثقلة بهموم الإنسان العراقي الذي بددته الحروب وجعلته في بحث دائم عن هويته وحضارته وتراثه الذي نثرته أمريكا ومَن معها هباء بوابل قنابلها وصواريخها، بعيدا عن كل معاني الإنسانية ، -تؤكد إنعام كاججي- أن الإنسان بدأ يراوده القلق الكامن في داخله أين سيكون قبره وهل ستكون المقابر مكانا يلتقي فيه الأهل والأحبة يلملمون شتاتهم وعذاباتهم وجراحات وطنهم، فهي تلامس بحروفها شفافية مشاعر المنفيين وآلام الانسان المغترب ومكابدته في كل بقاع الأرض.

 أما الكاتبة المصرية رضوى عاشور ففد دونت في " ثلاثية غرناطة " التي تتكون من ثلاث روايات وهي: غرناطة، مريمة، الرحيل، حين تأخذنا أحداثها إلى تاريخ عميق تمتد جذوره إلى عام م1491 وقد تعمق العذاب العربي في الرحيل عن غرناطة، وما زال هذا الانكسار مستمرا إلى يومنا هذا بتتابع الاستعمار على أراضينا حتى اليوم والشعور الممزوج بالغربة على أرضنا.

أما الشاعرتان العراقيتان آمال الزهاوي وبشرى البستاني فقد علا صوتهما في المشهد الشعري النسوي في العراق بعد الرائدة نازك الملائكة بقصائدهما ذات العواطف الوطنية الملتاعة على ما جرى والسحر الأنثوي والوطني الذي يرفض مبادئ النسوية وأهدافها لما فيها من مخاطر على الدين والأسرة والانسان والحكم عليهما بالتفكك. ذلك الشعر الذي تغنى بجمال العراق وحدائقه الفكرية والجمالية وبكى أحزانه ونزيف جروحه، فضلا عن القضايا الإنسانية والوجودية الأخرى، وعن العذابات الداخلية التي حفرت بعيدا في روح المرأة.

إن حلم المرأة الكاتبة هو التحرر من السجن الداخلي، وهوحلم يميل إلى بلورة مجتمع مشرق يمنحها أبسط الحقوق في الحياة، وفي طليعتها حرية التعبير واحترام خبراتها وإرادتها وحق صنع القرار الذي تجد فيه حياتها.

عام 2014 بلغت بصدور قرار مؤسسة المثقف التي يديرها المدير العام الأستاذ ماجد الغرباوي بتكريمي وأنا في عمان لكني واصلت تواصلي مع (المثقف) من هناك، وعلمت أن التكريم باقتراحه على اللجنة الاستشارية وكان حدثا مهما إذ لم يكن المعتاد تكريم امرأة عراقية منفية خارج العراق، حينها قلت له، لا أريد ولن أفرح بأي تكريم يلقي مسؤولية على مؤسسة المثقف ومسؤوليها، يومها قال لي بثقة ومسؤولية: هذا قرار لا يستطيع نقضه أحد حتى لو كانت بشرى البستاني. لأنه حقّك الذي يلمسه الجميع في مختلف أجناس الأدب.

بودي لو تحدثنا قبل النهاية عن مجمل موقف القرآن الكريم من المرأة وقضاياها وتباين آراء المفسرين في مواقفهم من هذه المخلوقة أمّ الرجال، وإلى أي مدى سيكون التأويل مفيدا في تكييف الأحكام دون مساس بالعقيدة في كتب الغرباوي، ولكن القضية تحتاج لمواقف جديدة وشجاعة قد لا نمتلكها الآن ومعنا الكثير من المفسرين المحدثين، بل ويرفضها الكثير من رجال الدين التقليديين الذين يهيمنون على عقول الشباب ليكونوا في طليعة التصدي لكل فكر جديد ومتنور..

ماجد الغرباوي تصدى لمعظم هذه الأمور في حواراته، لكننا نعلم أن الآراء تحتاج لنقلها الى قوانين وتطبيقات حقيقية لتكون نافعة.

تحية لأستاذنا في عمره المتجدد الرصين، ومجداً لكل المخلصين في نواياهم وفعلهم من أجل قضية الإنسان وتطوير حياته وتأمين عيشه.

***

بقلم: أ. د. بشرى البستاني

شاعرة وناقدة وأكاديمية وصوت نسوي معروف