بأقلامهم (حول منجزه)

مجدي إبراهيم: فلسفة الحوار النقدي في مدارات الغرباوي العقائديّة (2)

تبيّن لنا فيما سبقت إليه الإشارة كيف أن الحوار النقدي يقيم فلسفة تحدّدت عند فيلسوف كبير كأفلاطون؛ فكشفت، بنظرية المعرفة، عن حرية العقل والتفكير كما ارتبطت بها في مجالات عدّة أهمها الأخلاق. وفي إطار وضوح (فلسفة الحوار النقدي في مدارات الغرباوي العقائدية) تلك المدارات الساخنة التي أجراها حواراً فلسفياً معه طارق الكناني (2017) حول منحنيات الأسطرة واللامعقول الديني، توقفنا في اللقاء السابق أيضاً عند اختياره لهذا النوع من الحوارات ذات الطابع العقلي، بحيث يجعل مسؤوليته كمثقف تنصب على انتشال الوعي من مغبّة الجمود ورثاثة الخمول، والعودة به إلى صفائه الأول، إلى أفق العقلانية والتعامل مع الأشياء بواقعية ومنطق مقبول يتجاوز ضيق المساحات القابلة للتفكير السطحي؛ والذي يخلّف ورائه تسلل الخرافة أو تسرّب فعل الأسطرة في ظل عقول ربما استكانت لقبول اللامعقول في حياتنا الفكريّة، فضلاً عن انعكاسات صورها في الواقع الفعلي بكل أضراره وسوءاته، ناهيك عن أثرها المباشر في تخلف المسلمين، إذا هي تحولت إلى حياة تعاش وممارسة تكاد تكون يوميّة؛ الأمر الذي يقوض دعائم العلم والمعرفة والثقافة والحضارة على التعميم.

ــ  فلسفة الحوار النقدي من المنهج إلى الموضوع:

تضمّنت بنية الحوار منهجية نقدية قاعدتها التأسيسية فلسفة العقل؛ لتجعل من العقل غايتها، بالإضافة إلى النقل (النص الديني المقدَّس)، فكل سؤال يحتاج إلى إجابة، ويبرز عن السؤال المركزي أسئلة فرعية تتضمن تفاصيل القضية المطروحة، بحيث تجيء الإجابة عن السؤال المركزي والأسئلة الفرعية المنبثقة عنه لم تجافي الحقيقة ولم تخالف منطق العقل. ويبقى الرهان قائماً في مفهوم الغرباوي على الوعي ويقظته في استيعاب ما جاء في الحوار من أفكار.

بمثل هذه المنهجية عالج الحوار الفلسفي قضايا عقائدية شتى هي ما كان طرحه الكتاب في محاوره العشرة بسؤالها المركزي، وبتفاصيلها الفرعيّة؛ فمن المحور الأول الذي يبدأ : بالمُخلِّص .. المفهوم والمصداق، يجري السياق في تناول جذور الفكرة وتداعيات الانتظار، ومعنى الخلاص ومعنوياته، إلى المحور الثاني الذي يتناول الشفاعة دينياً وما عساه ينعكس عليها اجتماعياً. وبمنهجية تحليلية ناقدة يشرح مفهوم الشافعة ويقدّمها برؤية مختلفة مستنبطة من الدليل العقلي، ومن الضوابط القرآنية خاصّة. ويتناول بنفس المنهجية الناقدة في المحور الثالث : قضية المهدي المنتظر في العقيدة الشيعية، ويجعل في المحور الرابع لّلّامعقول الديني فلسفة تتناسب مع الغياب الأسطوري.

ويقدّم في المحور الخامس دراسة نقدية حول الفقيه الوليّ وتطور مفهوم الاجتهاد، وربما وجدنا تكراراً في بعض المضامين الفكرية الخاصة بهذا المحور بما سبقها من محاور شدد القلم عليها كتطلعات الانتظار ومعالجة النواحي المقدّسة، غير أنه تكرار الذي يرسّخ فكرة يريدها لا تكرار الفكرة بما يجرى بها القلم جريانه في محيط تناوله.

أمّا المحور السادس، فموضوعه المهدي والخمس الشيعي يعالج فيه الخمس والغيبة، والمهدي والخمس، نكبة الإنفاق، المرجعية المؤسسة؛ ليجيء المحور السابع، فيتناول الولاية التكوينية واللامعقول الشيعي، بدايةً من تحليل مفهوم الولاية التكوينية وانتهاءً بالموقف من المعجزات، ويركز على اللامعقول الديني؛ لتتناول فلسفة الحوار النقدي في المحور الثامن مفهوم الرجعة ودراستها في الديانات الأخرى ويقدمها كضرورة شيعية من حيث تقليب وجوه النظر المعتبرة في أبعادها ومعطياتها. ويخصص الحوار الفلسفي النقدي محوره التاسع لمشكلة الإمامة كمفهوم سياسي.

إمّا المحور العاشر والأخير؛ فيتضمن التشيع وتناسل الطقوس مع نقود مستفيضة يكاد الحوار نظريّاً أن يقضي منها على الغلو؛ ليقرر في نهاية المطاف بحثاً حول محنة التشيع.

تلك كانت موضوعات الكتاب، تسبقها منهجية نقديّة، جعلت من الجوار الفلسفي غايتها المرجوة واتّخذت منه مادة تقيم الإصلاح الديني في طريقه المعقول، لتزعزع يقينياته الدجماطيقية الثابتة. ولعل هذا هو شرط نجاح الحوارات الفلسفية كونها تزعزع يقينيات كانت وما زالت راسخة في ممارسات باقية تنحو نحو اللاعقلانية ناهيك عن تجافيها للواقع الفعلي.

وتبقى من بعدُ مهمّة الحوار قائمة تشعل فتيل الوعي وتدريب العقول على منهجية المراجعات النقديّة، لتنير أماها الحقائق على قناعة وقبول. ولا بدّ – من بعدُ – من خلاف إنْ لم يكن (استنكاراً) من هؤلاء الذين رسخت لديهم حول العقائد من طريق التقليد قيماً ساقطة مثل ما ترسخ القيم وهى تنمو كنباتٍ شيطاني على الجمود والركود. غير أنها سرعان ما تتزعزع مع إيثار العمل العقلي والصبر عليه والقدرة على ممارسته يومياً والتحلي بقيوده ضوابطه.

حدّد الغرباوي مثل هذا الخلاف الذي سكون من بعض القراء، ووضع إطاره منذ البداية، مستنداً على وضوح المنهج وتقرير العمل به على الدوام بغير انقطاع : فالخلاف سيكون في المبنى وفي المنهج، خاصّة وإن منهج الحوار جعل القرآن الكريم والعقل صنوان لا يفترقان، مرجعته الأولى، فتكون علاقة الروايات بهما علاقة طويلة، مع التأكيد على تاريخية العقائد وحكم استجابتها المتواصلة لوعي الفرد والعقل الجمعي، ومتطلبات المرحلة : أيديولوجياً وطائفياً). (يُراجع : مدارات عقائدية ساخنة : حوار في منحنيات الأسطرة واللامعقول الديني، دار أمل الجديدة، دمشق، الطبعة الأولى 2017 م، ص 16).

وبتطبيق قواعد المنهج العلمي الموضوعي يرتكز الغرباوي على مرجعية القرآن كما تقدّم، وعلى العقل، وعلى الصحيح من السيرة، بعيداً عن التحيزات الطائفية، ثلاثة محاور رئيسية يتأسس عليها منهجه، مع الوضع في الاعتبار شرط الاحترام الكامل لإيمان الناس بعقائدهم، والاستفادة من معطيات العلم وتراكم التجربة البشرية؛ الأمر الذي دعاه، وفق تطبيق هذا المنهج، إلى إعادة النظر في فعلية الأحكام الشرعية، ومدى صلاحيتها بعد انتقاء موضوعاتها، وتحري الدقة الواصبة في إجراء النظر عليها.

ولاريب في أن الجزء الأصيل من أركان المنهجية لتطهير العقائد من لوثة الفهم المغلوط، يكمن في التركيز على النص الديني (القرآن الكريم) فهمه وحضوره وإيحاءاته ومراميه. (وما خالف القرآن فهو زخرف. وما خالف القرآن فأضربوا به عرض الجدار)، ويبقى القرآن بوصلتنا لحسم النزعات العقيدية، فكل عقيدة لم يصرح بها القرآن الكريم ليست بحجة علينا، وليست ملزمة مهما كانت أدلتها (مدارات : ص50)، ولكي نرفع غشاوة الجهل عن أعيننا، يجب عدم الوثوق مطلقاً بالتراث، وبما يقوله رجل الدين في هذا المضمار، والعودة للقرآن لمعرفة الحقيقة؛ فالله أعلم بحقائق الأمور، وهو عالم الغيب والشهادة (مدارات : ص 53).

يأخذ الغرباوي بالعقل الحداثي في مقابل العقل التراثي، وبمنهجية نقدية تقيمها فلسفة الحوار يُقارن بين مطالب كل منهما في ظل قبول ما يقبله أحدهما ورفض ما يرفضه الآخر، واضعاً في الاعتبار مسيرة الحياة الفكرية وفق قانون التطور، فما كان يفكر فيه العقل التراثي يستحيل أن يكون هو هو كل ما يفكر فيه العقل الحداثي، وإلا ألقينا سنن التطور خارج نطاق الوعي وخارج نطاق التاريخ. ولم يكن إذْ ذَاك معنى للتفكير من أساسه، ولا معنى للنقد، ولا معنى للحوار أصلاً، ولتوقفت معنا المعارف العلميّة وتوقفت سُنة التطور العلمي والمعرفي؛ لتجدنا آخر الأمر نعيش حياة غير حياتنا، وواقعاً مفصوماً عن العقلانية والتنور، معزولاً عن قيم جديدة ينبغي الأخذ بها في محيط تقدّمه، ولبطلت فكرة التقدُّم والدعوة إليها من قريب.

ويرتكز على التجديد في مناهضة التقليد، ويحرر الخطاب الديني من سطوات تبعية التراث وتداعيات الجمود العقلي والمعرفي، وتلك بلا شك معالم نهضة حضارية وثقافية تحرر العقل من الخرافة، وتعيد بناء التفكير على أسس علمية ومنهجية، قوامها العقل النقدي والقراء المتجددة للنص الديني تقوم على قواعد النقد والمراجعة المستمرة كشرط أساسي لنهوض حضاري؛ يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف التنابذ والاحتراب.

وللحديث بقية مع مناقشة فكرة التقدم

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم - أستاذ فلسفة / مصر