بأقلامهم (حول منجزه)
عقيل العبود: قراءة في كتاب الشيخ محمد حسين النائيني منظر الحركة الدستورية.. ماجد الغرباوي
تمهيد: ليس سهلا على الباحث أن يستقرئ تفاصيل الأحداث التي تحيط بحياة عالم ومجتهد كبير، ليضع معيارا دقيقا لتقييم المواقف بناء على تنافر، وتشابه الآراء بين شريحة مختلفة من العلماء، خاصة عندما ترتبط تلك المواقف بحياة الشعوب والمجتمعات.
والأصعب من ذلك أنه كيف لهذا الباحث أن يتجاوز التراكمات التي تتغلغل في العقل الباطن، تشغل حيزا منه، وتغذيه بفعل الدور الذي تلعبه المؤسسات الإعلامية والدينية التي تستغل الثوابت من المعتقدات لتسويق المفردات التي تغذي مصالحها. كيف للباحث قراءة مواقف الفقيه، والعالم بناء على حيثيات القضايا، ومتنوعات المسائل وعلى أساس صيرورة ما تكتنزه الأحداث والمشاهد التي يضخ بها الواقع المتناقض للسياسات المختلفة، وكيف للباحث أن يقول كلمته تحت مظلة التسلط الديني؟
في كتابه (الشيخ محمد حسين النائيني منظّر الحركة الدستورية)[1] والذي هو عبارة عن 202 صفحة، بضمنها نبذة عن انجازات المؤلف، وسيرة حياته، وما تعرض له من استفزازات في ظل واقع ارتبطت لغة الاستبداد فيه بمصالح الحكومات المتعاقبة في عموم المنطقة، وتأثير ذلك على مستوى الحوزة في قم، وفي النجف، يسلط ماجد الغرباوي الضوء على حركة التفاعل بين سلطة الحاكم المستبد، وسلطة الفتوى، وانعكاس ذلك على طبيعة العلاقة التي ترتبط بإرادة المجتمعات بقيادة المجددين المجتهدين من العلماء من جانب، والسيف الذي يسلطه الحكام المتسلطين على عقولهم ورقابهم من جانب آخر. والأهم أنه كيف للباحث والمفكر أن يكون راصدا دقيقا لسلطة الاستبداد الديني التي ساعدت وتساعد على ولادة ونمو الاستبداد السياسي، والتي سار على نهجها واتبعها وللأسف بعض العلماء تحت عنوان الفتوى والمقدس الديني؟
ولذلك يعد المشروع الذي طرحه الشيخ النائيني إنموذجا حيا للتمييز بين سلطة الدين الحقيقي، وسلطة الاستبداد الديني، ما يفرض على المؤلف أن يكون أكثر حرصا لمتابعة الأحداث الخاصة بسيرة المجتهدين والعلماء وبحيادية تامة، ومنهم الشيخ النائيني وأستاذه الأخوند الخراساني، ومشروع الحركة الدستورية (المشروطة) والملابسات التي أحاطت بذلك المشروع وفقا لمساحة كبيرة من الانتشار.
هذه المساحة تحكي عن دور ومواقف الحوزة العلمية، والعلماء مع اختلاف آرائهم تجاه سلطة الاستبداد السياسي، وكيف أن هذه السلطة حاولت، ولا زالت تحاول تحييد العامل الديني من خلال تجنيد وتطويع سياسة الفتوى لخدمة مصالحها في الحكم.
وبذلك تتداخل لغة الاستبداد السياسي مع الاستبداد الديني، بل تتجذر من خلاله، وهذا ما تصدى له الكواكبي، وكما تطرق له المصلح الكبير جمال الدين الأفغاني. وكتاب الشيخ النائيني يُعَدُ مقاربة تم تصنيفها في خطوط تماسها العريضة بحسب ما جاء في فصول الكتاب الأربعة والتي تتضمن الوعي في المنطقة الاسلامية ص 23-43، جذور الوعي والحركة الدستورية ص 44-93، المواقف السياسية 94-128، ومقومات المشروع الإصلاحي 128-187. تليهما صفحة خاصة برواد الاصلاح من 188-189 وهذه الصفحة تمثل مشروعا يدعو الباحثين للخوض في مسائل التجديد الديني الذي أسس له الشيخ النائيني وغيره من المجتهدين، ويسبق ذلك توطئة ص 6-17، وتقديم ص 18-22[2].
توطئة
يقول الأستاذ الغرباوي في مستهل كلامه: "لا خلاف أن التحيّز فخ يستدرج الباحث لمجافاة الحقيقة، وتزوير الواقع"[3]. وفي هذا القول يريد المؤلف أن يقدم بحثا سيكولوجيا عن طبيعة الإنسان، كونه يختزن مقدمات وأحكام أولية في عقله الباطن عن هذا المعتقد، أو ذاك، ما يفرض على العقل أن يحكم وفقا لآلية محكومة بهذه المقدمات. وحجة القول ترتكز على التغيرات التي حصلت مع العلماء، والنائيني واحد منهم في المواقف، كما هو وارد أدناه:
"وفي حياة الشيخ محمد حسين النائيني كثير من المواقف والظواهر المفتوحة على أكثر من تفسير ورأي، لكن تجد كل باحث يختص برؤية مستقلة. [....] اعتمدت كغيري من الباحثين على مصادر تاريخية، وما كتب عن ثورة المشروطة في إيران، وأحداث العراق وما رافقها من دخول الاستعمار وثورة العشرين، ودور علماء الدين فيهما"[4].
والمشروطة هنا إنما يشار بها إلى شروط اتباع الأحكام الشرعية، وما يفرضه الشارع المقدس في نظرية الحكم، بغية وضع العقل في محله الصحيح: " تتلخص فكرة مشروع رواد الإصلاح، في تلمس معالم المشروع الإصلاحي لكل رمز من الرموز للتواصل معه، والبحث عن نقاط الضعف لتداركها، وتأسيس وعي جديد، يرتكز إلى العقل، ضد الخرافة والقداسة، وضد الاستبداد بنوعيه السياسي والديني"[5].
وهذا يفرض اتجاهين داخلي، وخارجي. أما الاتجاه الداخلي فيفرض استنهاض العقل وتحريره من تبعية الجهل عن طريق الفتاوى، والاجتماعات، والمؤتمرات، والرسائل. وأما الاتجاه الخارجي فيقتضي نشر الوعي، والتثقيف بمبادئ مشروع الاصلاح من خلال توزيع الكتب والكتابة عنها يقول المؤلف: "ومن المخطط الكتابة عن كل المشاريع، بما فيها مشروع السيد جمال الدين الافغاني، وغيره من المصلحين"[6].
ومن المناسب الإشارة هنا إلى أن مشروع الإصلاح هذا يقتضي الارتباط بثقافة إسلامية واعية، ومن ضمن هذه المبادئ أسس الإصلاح التي أراد لها الحسين بن علي أن تسود، وعليه يصبح من الضروري تثقيف المجتمعات بالمضامين الحقيقية للشعائر الحسينية، وعلاقتها بالوعي التنويري، وفي هذا الباب يتصدى المؤلف لأهمية تهذيب الشعائر الحسينية، كون ذلك لا ينفصل عن فكرة تحرير الوعي من الجهل، وهو من الأسس المهمة التي اعتمدها الشهيد شريعتي ضمن منهج الحركة الدستورية. ولكن الطريق إلى الإصلاح ليس سهلا، فهو يتطلب صبرا، ومثابرة، وعناء، ولهذا يتحدث المؤلف عن تجربة معاناته حيث يشير إلى حادثة تعرضه للاستجواب الأمني عندما نشر مقالاته في هذا الباب في مجلة التوحيد، من قبل شخص يعمل في الحكومة الإيرانية مستجوبا إياه عن رأيه في مشروع و"أفكار الدكتور علي شريعتي"، مع أسئلة تحقيقية أخرى، وذلك إشارة إلى أن عملية الصراع بين لغة التجديد، وقوالب التخلف الفكري، تفرض حواجز ليس من السهل اجتيازها، كونها تخضع لسلطة الاستبداد الديني[7]. وبذلك ومن خلال التوطئة التي قدمها المؤلف، أصبح واضحا، وكما هو معروف لدى الكثير حجم الاضطهاد، والتعتيم والمنع الذي تعرض، ويتعرض له المصلحين في كل زمان، ومكان.
وفي زاوية تقديم يتناول المؤلف أهم ما جاء به الشيخ محمد حسين النائيني للحركة الاصلاحية وهو رسالته " تنبيه الأمة وتنزيه الملة"[8] حيث يقول المؤلف عن مشروع الشيخ النائيني "فليس مشروع النائيني عقد مصالحة بين الحق والباطل أوصيغة للتعايش مع الطاغية، وإنما هو انتزاع الحقوق المغتصبة للأمة، وتقييد المستبد ليمارس سلطته في إطار القانون"[9]. وهذا يعني أن هنالك منهجا رادعا، يسعى لمعارضة استبداد الحاكم، والدفاع عن حقوق المستضعفين، وهذا هو منهج الإصلاح الذي أراد له الحسين بن علي في ثورته مع يزيد أن يسود. ولذلك يشعر المتتبع لفصول الكتاب، أن هنالك مرتكزات حقيقية تتكئ على التجربة التي مر بها الإسلام، ليتم اتباعها من قبل أنصار الحركة الدستورية، وهم قافلة من المراجع والعلماء الذين نذروا حياتهم من أجل ذلك[10].
الوعي في المنطقة الإسلامية
يتضمن هذا الفصل مجموعة من المحاور تندرج تحت عنوان الوعي في المنطقة الإسلامية وترتكز على عوامل النهضة الإسلامية الحديثة وهذه العوامل وبحسب التصنيف هي: علماء الدين، السيد جمال الدين الحسني (الأفغاني)، التحديات الخارجية، الرقي المتصاعد، الحالة الثقافية في إيران والعراق، والحركة الدستورية والوعي.
وفي هذا الفصل يسلط المؤلف الضوء على حالة التردي والتخلف الذي أصاب الامة الاسلامية بسبب التسلط الذي مارسه الأمويون والعباسيون بعد أن روجوا لسلطة الحاكم، واعتبارها ممثلا عن سلطة الدين، حتى صار التشريع موجها من قبل الحاكم بعيدا عن شريعة الدين، وانشغل الحاكم الاموي، ومثله الحاكم العباسي بمصالحه الشخصية، ما آل إلى ضعف سلطة القانون، وسلطة الدولة، وابتعد التشريع عن إرادة ومبادئ الدين والشارع المقدس، ما تسبب في عزوف الناس عن نصرة الحاكم المستبد والوقوف معه، حتى المرحلة التي تم فيها إحتلال بغداد من قبل هولاكو، وبعدها السيطرة على دمشق من قبل تيمورلنك، هذا إضافة إلى ما سببته الحروب الصليبية في بلاد الشام من خراب، وكذلك ما قامت به سلطة الحكم العثماني في استغلال الدين "[و] تكريس فقهاء السلطة، وبلورة الفقه السلطاني، المكلف بشرعنة ممارسات السلطان"[11]. وهذا معناه أن من حق السلطان أن يمارس القتل، والزنا، واستعباد الرعية، فهو الفرعون والرب الذي لا يحق للرعية مخالفة أوامره مهما كانت النتائج، وبهذا ليس للرعية الحق إلا إعلان حق الطاعة والولاء المطلق للسلطان. ولكن هذه التداعيات أدت إلى التمرد والثورة، وكانت الظروف القاسية التي مرت بها البلاد الإسلامية تأثيرا في بث الوعي والتصاق الناس بالعلماء، ولذلك فإن المرحلة الثانية من مراحل الصراع تحكي عن عوامل النهضة الإسلامية الحديثة، وهذه المرحلة تناقش تأثير حملة نابليون في مصر وعامل التحدي الحضاري بين الغرب والشرق، ومقابل ذلك، دور العلماء والمراجع الكبار الذين تصدوا للاستبداد وقيادة حركة الوعي، وظهور السيد جمال الدين الأفغاني مع الملامح الرئيسية لمشروعه الإصلاحي والذي يقوم على أساس محاربة الاستعمار، مناهضة الاستبداد، إشاعة وتركيز الوعي، تنقية الفكر الإسلامي من الشوائب، وتوحيد المسلمين في إطار الجامعة الإسلامية، وهذا المشروع لا يمكن أن يمر بدون رد فعل، ولذلك أصبح لا بد من الصراع بين نقاط التماس بين الغرب الحضاري إن صح التعبير بمعنى الغرب الذي يتغذى على موائد الشرق الحضارية، أي العلوم المختلفة للعلماء المسلمين، والإسلام. ويبدو هنا أن أساس التخلف الحضاري يعود إلى الاستبداد، ولهذا حرص الاستعمار على إدامة المصادر التي تغذي هذا الاستبداد، ومن هذه المصادر، أنصار الحركة المستبدة، ولهذا وبعد أن تكشفت الأبعاد الحقيقية للمصالح الاستعمارية، توجه المسلمين للبحث عن منابع العلم والتنوير بحثا عن طرق حضارية لمجابهة التخلف الذي يسعى الاستعمار فرضه وترويجه، وتم تتويج هذا التوجه بفتح مراكز علمية للدراسات في العراق وإيران وكان ذلك بجهود المراجع الكبار، ولذلك فإن الحركة الدستورية كانت قد فتحت الأبواب المغلقة لتتصدر المشهد السياسي والحضاري وفقا لرؤية واضحة، "وبهذا استطاع علماء الدين أن يثبتوا مصداقيتهم في قيادة التحرك الجماهيري"[12].
وهذا معناه أن هنالك مسارا متصلا مع البعد الحضاري المعرفي للدين الاسلامي سواء في الغرب، والشرق. ومن الضروري الاشارة هنا إلى أن المؤلف قد حلل عوامل الضعف والقوة على مستوى الديانات الأخرى حيث تجد أن سلاح الاستبداد كان قد شمل سلطة الكنيسة في الغرب أيضا، وأن الغاية منه هو استغلال الشعوب واضعافها. ولذلك فإن مشروع الإصلاح هو رد فعل يستمد نقاط قوته من الظروف التي تعصف بالبلاد.
جذور الوعي
يضم الفصل الثاني والذي عنوانه جذور الوعي والحركة الدستورية المحاور التالية: النشأة الأولى، في مدينة سامراء، في مدينة النجف، دوافع الحركة الدستورية، بداية التحرك، تفاقم الأزمة، المجلس النيابي، دور علماء النجف في الحركة الدستورية، النائيني والحركة الدستورية، الثورة مجددا، الاستعمار والحركة الدستورية، أخطاء الحركة الدستورية، الشيخ فضل الله النوري، اشعاعات الحركة الدستورية في العراق، إعلان الجهاد ضد الاستعمار وهو بفرعين هما: إعلان الجهاد ضد روسيا والانجليز، إعلان الجهاد ضد ايطاليا.
يتناول موضوع النشأة الأولى أبرز المحطات في حياة الشيخ النائيني وهو عبارة عن سيرة تاريخية، ابتدأ نورها من مرحلة الولادة 1860 مـ في مدينة نائين المدينة التابعة إلى أصفهان، حيث بدايته الأولى على يد" شيخ الإسلام" وهو والده، ثم انتقاله إلى أصفهان ملتحقا بمدرسة علمية تابعة إلى الحوزة العلمية وبعمر 17 سنة، حيث إكماله لعدد من المناهج الدراسية التي تعتمدها الحوزة العلمية، وفي ذلك بعض الملاحظات الإشكالية حول الطريقة التي تأثر بها الشيخ النائيني بالسيد جمال الدين الأفغاني، وتأثره بالمقالات التي كان يصدرها الأفغاني في جريدة العروة الوثقى. ويتناول المحور الثاني وهو بعنوان في مدينة سامراء انتقال الشيخ النائيني من النجف إلى سامراء وبداية نشاطه السياسي، حيث تتلمذ على يد الميرزا محمد حسن الشيرازي، وزيارة الأفغاني ولقائه به في مكان إقامته، وفي المحور الثالث يعود الشيخ النائيني إلى النجف "بعد وفاة السيد محمد حسن الشيرازي". وفي دوافع الحركة الدستورية يتحدث المؤلف عن الظروف التاريخية التي مرت بإيران حيث توالي عدد من الملوك المستبدين من الدولة القاجارية على سدة الحكم، وتردي الوضع المعيشي للعامة حيث جاء ذلك متزامنا مع حالات التعسف والاضطهاد، حتى ظهرت بوادر الثورة على مستوى الشارع الإيراني. وبتظافر الجهود مع زعماء الإصلاح ومنهم السيد الأفغاني، وتجلى الموقف ناصعا مع "ثورة التبغ التنباكو"[13]، ومع تفاقم الأزمة السياسية، والصراع بين أنصار المشروطة والسلطة المستبدة في إيران في ذلك التاريخ، تم انتخاب أحد زعماء المشروطة في المجلس النيابي وذلك عام 1906، بعد إجبار مظفر الدين شاه لتلبية مطالب العامة وتعيين من يمثلهم من العلماء. وكان لعلماء النجف دور في المد الثوري ضد حكومة إيران، وفي ذلك التاريخ كان الآخوند الخراساني، والسيد اليزدي، وفي محور النائيني والحركة الدستورية، كان الشيخ النائيني مواكبا لأحداث الحركة الدستورية من مقر إقامته في النجف. وفي محور الثورة مجددا يتناول المؤلف كيف حصل اتساع رقعة المد الثوري ليستقطب مناطق جديدة في إيران ومنها تبريز.
وفي محور الاستعمار والحركة الدستورية، يقف المؤلف على النهج الذي نهجه الاستعمار في سياسة الاختراق، حيث استطاع دس مجموعة من الشباب المغترب ومعه مجموعة ممن يحملون الأفكار العلمانية لشق صفوف الحركة الدستورية، وزج عدد من المتنفذين الإقطاع مما أدى إلى انحراف الحركة الدستورية، حيث تم انشغال البعض من المحسوبين على الحركة الدستورية بمصالحه الشخصية، وهذه الأسباب تضافرت لخلق حالات الانشقاق والفوضى، انتهت بمقتل الشيخ فضل الله النوري بسبب أخطاء وحماقات البعض من المتطرفين، ولكن رغم كل ما حصل من إخفاقات، وتداعيات سلبية، تصاعدت تأثيرات المد الثوري حيث انعقدت جلسات ومناقشات ومناظرات، للعلماء والطلبة والمثقفين، وولدت على أثر ذلك شخصيات وأفكار تشير إلى عمق في مستوى الوعي، وكان العراق بعلمائه من المصلحين لاعبا قويا في إعادة مسيرة المشروطة وحمايتها من المنحرفين المتطرفين وأصحاب الأفكار الغريبة، حيث استطاع أنصار المشروطة "وبعد انقلاب عام 1908 وإعلان الدستور في الاستانة" أن يحققوا قدرا من الحرية[14]. وصار "لعلماء الإمامية [دورا كبيرا] في محاربة الاستعمار ومقاومة الاعتداء ضد الدولة الإسلامية" وأعلن الجهاد ضد روسيا والانجليز، ثم تبعه الجهاد ضد إيطاليا عندما احتلت ليبيا[15].
وهذا يعني أن هنالك سلسلة مهمة من الاحداث المتتابعة ويقابلها دورا متصلا من المواقف الخاصة بالعلماء الذين أدوا دورهم الجهادي ضد مساحة منتشرة من الجغرافية سواء على مستوى الوطن العربي أو دول أوربا التي اتخذت من المحيط العربي مأربا لمصالحها السياسية والاقتصادية. ومن الضروري الاشارة إلى أن المؤلف أراد أن يقول أن سلسلة الاحتلال البريطاني والروسي والتركي والايطالي والفرنسي في مصر ساهمت بانتشار الثقافة الاسلامية على الرغم من المطبات التي آلت إلى نشر لغة الاستبداد السياسي متزامنة مع لغة الاستبداد الديني الذي تم تسويقه منذ العصر الأموي والعباسي وقبلهم عهد الخليفة الثالث الذي تأسس الاستبداد في فترة خلافته وكيف أن الثورات نشأت في هذا الامتداد الواسع على مستوى الجغرافية السياسية للأمة الاسلامية ولذلك كان للنائيني ومن حذا حذوه حيث سبقهم الآخوند الخراساني دورا بارزا في شحذ الوعي الجماهيري لمقارعة هذا الاستبداد بكل صنوفه، ولكن هذا لا يمنع أن هنالك اختلاف في المواقف بين العلماء صاحبتها خيبات أمل متكررة خاصة ابان الحرب العالمية الأولى وقضية الانتداب وتأسيس نظام الوصاية الانجليزية على العراق ذلك تابع ذلك في الفصل الذي يليه.
النشاط السياسي في العراق
يتضمن هذا الفصل والذي عنوانه المواقف السياسية: النشاط السياسي في العراق، النائيني والانتداب البريطاني، الاعتداء الوهابي على العراق، الموقف من المعاهدة العراقية البريطانية، تبعيد الشيخ النائيني وزملائه إلى إيران، الشيخ النائيني في إيران، النائيني في مدينة قم، مفاوضات العودة إلى العراق، النائيني وإعلان الجمهورية في إيران، الرمز العلمي، وفاة الشيخ النائيني، المحطات السياسية في حياة النائيني.
يتناول المحور الأول موقف الشيخ النائيني من الاستعمار إسوة بباقي العلماء الذين تصدوا لنظام "الوصاية البريطانية [...] الذي يمنح الوجود الأجنبي شرعية الاستمرار في احتلال العراق"[16].
يتحدث المحور الثاني عن الأحداث التي حلت "بعد وفاة شيخ الشريعة الأصفهاني، [وبروز الشيخ النائيني] لمؤامرة الانتداب البريطاني"[17]، وفي المحور الثالث الذي عنوانه الاعتداء الوهابي على العراق، يتناول المؤلف دور العلماء في "انعقاد مؤتمر كربلاء الذي كان مناسبة جيدة لتوحيد الموقف الشيعي تحت قيادة دينية واحدة"[18]، وتوحيد المواقف هنا جاء حلا لمشكلة الاختلافات التي حصلت وتحصل دائما بين العلماء والمجتهدين. ويناقش في موضوع الموقف من المعاهدة العراقية البريطانية كيف " بدأت فصول سياسية جديدة في العراق برز فيها العلماء قادة للمعارضة السياسية"[19]. وفي محور تبعيد الشيخ النائيني وزملائه إلى إيران، " [كيف أن] المعارضة اتخذت مواقف متباينة تجاه التحولات في سياسة الحكومة الجديدة، فلم تعر المعارضة زيادة اهتمام بعودة المبعدين السياسيين"[20]. وفي محور الشيخ النائيني في إيران "[كيف] استقبل أهالي كرمنشاه العلماء المبعدين من العراق" وتداعيات الأحداث والموقف المضاد من الملك فيصل[21]. وفي محور النائيني في مدينة قم يبحث المؤلف كيف أن استقرار الشيخ الخالصي في قم قاد إلى "التباين في وجهات النظر بينه وبين الآخرين حول مفاوضة الحكومة العراقية وشخص الملك فيصل بالذات من أجل العودة إلى العراق" وفي الموضوع تفاصيل في الرؤى والمواقف، حيث بعكسه بعث الشيخ الأصفهاني والشيخ النائيني "مبعوثين لمفاوضة الملك حول هذه القضية "[22]. وفي محور مفاوضات العودة إلى
العراق، يناقش المؤلف كيف أن " الملك... راسل العلماء في إيران من أجل احتوائهم"[23]. وفي محور النائيني وإعلان الجمهورية في إيران كيف أن الأحداث التاريخية لعبت الدور المؤثر في أن يتمتع الشيخ النائيني بمكانة علمية وقيادية مرموقة، إضافة إلى "[...] تمتعه بسمعة كبيرة لدى الشعب الإيراني"[24]. وفي محور الرمز العلمي، يناقش المؤلف كيف أن الشيخ النائيني "تفرد بمدرسة علمية لها آراؤها ومتبنياتها العلمية في الفقه وأصول الفقه"[25]. ص 120،
وتحت محور وفاة الشيخ النائيني، يناقش المؤلف المحطات السياسية في حياة النائيني والتي من أبرزها "مرحلة النضج الفكري وتكامل مكونات الوعي " وبهذا يسلط الأستاذ الغرباوي الضوء على أبرز محطة في تاريخ المرجعية[26].
وفي إشارة لمعنى الإصلاح كونه مشروع دائم، يقول المؤلف في نهاية الفصل " ثمة حقيقة أخرى هي ان الشيخ النائيني قد انطفأ وهجه الإصلاحي عند وفاة الآخوند الخراساني رغم مواقفه المشرفة في مقاومة الاستعمار. وحل به ما حل بمحمد عبده عند وفاة استاذه السيد جمال الدين الحسيني المعروف بالأفغاني. فكلا الرجلين نشعر عندما نقارب حياتهما انهما كانا يتحركان بحركة استاذيهما"[27].
مقومات المشروع الإصلاحي
ينطوي هذا الفصل، بعنوان: مقومات المشروع الإصلاحي. على مناقشة المحاور التالية: تنبيه الأمة وتنزيه الملة، الجذور الفكرية للكتاب، المشروع الإصلاحي، ويتضمن محاربة الاستعمار، مناهضة الاستبداد، تعريف الاستبداد، تاريخ الاستبداد، أسباب الاستبداد، آلية الاستبداد، شعب الاستبداد ويمثل الاستبداد السياسي، والاستبداد الديني، قوى الاستبداد، الدولة الدستورية، ومحاورها استيلاء وغلبة، دولة دستورية. النظرية السياسية، مشروعية المجلس النيابي، شروط ووظائف أعضاء المجلس النيابي، مبادئ الحكم، ويتضمن موضوعها الحرية، والمساواة، المساواة في الحقوق، المساواة في الأحكام، المساواة في القصاص والعقوبات، الشورى، النائيني والمستبد العادل، رواد الإصلاح.
يعد كتاب تنبيه الأمة وتنزيه الملة للشيخ النائيني ملخصا موجزا للمشروع الذي اشتغل عليه الشيخ النائيني، وهو قريب في مضامينه من كتاب طبائع الاستبداد لعبد الرحمن الكواكبي، وبما أن الكتاب تمت طباعته في القاهرة عام 1905، فهذا يعبر وبحسب الأستاذ الغرباوي عن تجاذب في الآراء بين "الكواكبي والنائيني" بما يتعلق بمفهوم وحقيقة الاستبداد. وقد أشار المؤلف في هذا الباب إلى معنى الاستبداد من وجهة نظر الكاتب الإيطالي "فتوريو الفبري" الذي تم الإشارة إليه في كتاب الكواكب[28].
هنا وإشارة لحالات التشكيك التي حصلت من قبل عدد من المؤيدين للشيخ النائيني بسبب بعض المواقف، أسوة بغيره من المراجع، يقول المؤلف بهذا الصدد: "اتضح من خلال حياة الشيخ النائيني ومتابعة فصول الأحداث السياسية التي رافقته، فأثر بها أوتأثر بها، ان الرجل كان يتحرك ضمن مشروع سياسي يتسم بالوضوح والثبات في مقاومة الاستبداد ومحاربة الاستعمار، وظل وفيا لمبادئه حتى المراحل الأخيرة من عمره"[29].
والكتاب وباختصار شديد يعتبر رسالة علمية وعملية لأهم مبادئ الحكم التي جاء بها الشيخ النائيني ابتداء من القوانين المتعلقة بمشروعه الإصلاحي والتي ترتكز على محاربة الاستعمار، ومناهضة الاستبداد وفقا للتعاريف التي وضعت له من قبل كبار المفكرين، وتاريخه، وأسبابه التي تحدث فيها عن حقبة الحكم الفرعوني، وآلياته التي ترتبط ب"جهل الأمة"، وشعبه، وأنواعه، وقواه التي منها الاستبداد الديني، والتزلف للسلطان، ثم موضوع بناء الدولة وفقا لنظرية دستورية، والتي ترتكز "على أساس مشاركة الشعب" ومشروعية المجلس النيابي في الحكم، وشروط ووظائف الأعضاء في المجلس النيابي والتي بضمنها الخبرة السياسية، ومبادئ الحكم في الحرية التي ورد في تعريفها اعلى أنها "تعني تحرير الأمة من ربقة الجائرين"، والمساواة، وتنص على مساواة الناس في الحقوق، والأحكام، وفي القصاص والعقوبات، ويضاف إلى ذلك الشورى باعتبارها " أحد أهم مبادئ الحكم في الإسلام"، وعن مفهوم المستبد العادل التي وردت في نهاية الفصل، يدعو الشيخ النائيني "إلى انتخاب مجلس برلماني ينهض بمهمة صياغة دستور يحد من سلطة المستبد ويخلق منه مستبدا عادلا يعمل بمبادئ الحكم الثلاثة الحرية، المساواة، الشورى"[30].
الخاتمة
وخلاصة ما تقدم، يرسم لنا الأستاذ الغرباوي في دراسته التحليلية الشاملة والدقيقة هذه، الظروف التاريخية االتي مر بها الشيخ النائيني، ليقدم لنا صورة تفصيلية عن المواقف السياسية والدينية لهذا المرجع الكبير، والظروف التي مرت بها البلاد في ظل العصر الذي أراد الاستعمار البريطاني وغيره فيه استخدام قدسية الدين لتمرير خططه الهادفة إلى تقزيم وتشويه المبادئ التي جاء بها الإسلام على أساس الفصل بين إنسانية الدين القائمة على أساس المساواة والعدل والحرية واحترام الحقوق العامة للشعوب، وسلطة الحاكم التي أريد لها تتجاوز جميع الخطوط تحت ما يسمى بقدسية السلطان، وبهذا تتحول قدسية الدين إلى قدسية الحاكم، ولذلك سعى الاستعمار إلى استخدام بعض الفتاوى لترويج مصالحه وتثبيتها في نفوس البسطاء من العامة.
وبناء على ذلك، تبرز لنا حقيقة الدور الذي اختطه الفقهاء من المجددين لممارسة دورهم الحقيقي لمقارعة الاستعمار وفضح سياسات الغزاة الذين يسعون لطمس حقيقة الدين.
ويعتبر الفصل الرابع خاتمة البحث، كونه يلخص وبالتفصيل الموجز الأسس والمبادئ العامة لمشروع الإصلاح الذي جاء به الشيخ النائيني في كتابه تنبيه الأمة وتنزيه الملة، وأعتقد أن عنوان الكتاب في دلالته الضمنية يشير إلى شروط إتباع الشارع المقدس من خلال تنوير وتثوير الوعي ضد سياسة الاستبداد التي استمدت جذورها من خنوع الشعوب لحكامها، ومن تجهيل الناس واستخدام سلاح الفتوى تحت عنوان المقدس الديني لخدمة مصالح السلطان. ويعد هذه الكتاب مقدمة لواجب أسمى يقع على عاتق المفكرين الأوفياء، وهو اتباع خطى من سبقهم من المصلحين.
***
قراءة عقيل العبود
.........................
[1] - الغرباوي، ماجد، الشيخ محمد حسين النائيني منظّر الحركة الدستورية، مؤسسة المثقف، سيدني – أسترليا، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2012م.
[2] - راجع محتويات الكتاب ص 195- 198.
[3] - المصدر نفس، ص 5.
[4] - المصدر نفسه، يتحدث المؤلف في هذا الباب عن جملة العقبات التي تعترض المهمة الإصلاحية، وعن تجربته تحديدا، راجع الصفحات 5ـ17.
[5] - المصدر نفسه، ص 9، المقطع الأخير السطر 1ـ4
[6] - المصدر نفسه، ص 9-10، السطر 6ـ8، والصفحات التي تليها لغاية ص 16.
[7] - المصدر نفسه، ص 11 – 16. في هذه الصفحات يتناول المؤلف تجربته مع مسؤولية الإصلاح وتداعيات الصراع التي لها علاقة كبيرة بلغة المفاهيم والمعتقدات.
[8] - المصدر نفسه، ص 17.
[9] - المصدر نفسه، ص 18.
[10] - راجع السطر 4 ص17، والمقطع الثاني ص18 السطر1-3. تتضمن حاشية الصفحة 19 تجربة الباحث الغرباوي في كتبه عن رواد الإصلاح، منها منهج الشهيد الصدر في تجديد الفكر الإسلامي، وانتهاء بكتاب النائيني.
[11] - المصدر نفسه، ص 24.
[12] - المصدر نفسه، ص 41. راجع العوامل التي ساعدت على "اتساع رقعة الوعي" المقطع الأخير، ص 34.
[13] - المصدر نفسه، ص 54.
[14] - المصدر نفسه، ص 84.
[15] - المصدر نفسه، ص 46-91، وبحسب محاور الفصل حيث يشرح المؤلف تصاعد المد الثوري للحوزة العلمية في النجف " عبر الاجتماعات العامة والقاء الخطب مسيرة الأحداث التي ابتدأت بقتل الشيخ النوري.، راجع ص 81ـ82 يصف المؤلف فيه تنامي حركة الوعي وتمخض التناقضات في المواقف والصراعات عن تمسك الجماهير بمبادئ الحركة الدستورية "بعد إعلان الدستور في الاستانة في 23 /تموز/ .1908.
[16] - - المصدر نفسه، ص 94.
[17] - - المصدر نفسه، ص 96.
[18] - المصدر نفسه، ص 100.
[19] - المصدر نفسه، ص 105.
[20] - المصدر نفسه، ص 109.
[21] - المصدر نفسه، ص 111.
[22] - المصدر نفسه، ص 112.
[23] - المصدر نفسه، ص 114.
[24] - المصدر نفسه، ص 116.
[25] - المصدر نفسه، ص 120.
[26] - المصدر نفسه، ص 93ـ125.
[27] - المصدر نفسه، ص 127.
[28] - المصدر نفسه، راجع الجذور الفكرية للكتاب ص 133المقطع الثالث.
[29] - المصدر نفسه، ص 129 المقطع الأول السطر 1ـ5.
[30] - المصدر نفسه، راجع مبادئ الحكم، صفحة 173، السطر 1-2 المقطع، راجع جميع الصفحات الخاصة بالفصل الرابع مع الحواشي.
.................
* مشاركة (25) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).
رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي
https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10