بأقلامهم (حول منجزه)

محمد هروان: التسامح ومنابع اللاتسامح.. قراءة في كتاب ماجد الغرباوي

منذ تمهيده في هذا الكتاب يسعى ماجد الغرباوي الى اشاعة قيم التسامح والتعايش والتفاهم على أسس إنسانية. بعيدا عن العنف والتطرف والكراهيية والغلو. لهذا دعا لتقديم قراءة جديدة للدين والنصوص المقدسة. وشدد على ضرورة إرساء مقاربة تشاركية بين السياسي والديني والتربوي والاعلامي والثقافي، للحد من مشاعر الاقصاء والاحتراب، إذ (لم يبق امام الشعوب الاسلامية خيار للحد من ثقافة الموت والاحتراب والعداء والاقصاء المتفشية في كل مكان، سوى تبني قيم التسامح والعفو والمغفرة والرحمة والاخوة والسلام، لنزع فتيل التوتر وتحويل نقاط الخلاف الى مساحة للحوار والتفاهم بدل الاقتتال والتناحر)[1]. وإرساء مبادئ سامية تجعل من المجتمع مجالا مفتوحا، يتولى أفراده إدارته وتدبير شؤونه وتجاوز أزماته التنموية المستعصية.

إن القيم المغايرة للمألوف في واقعنا الذي يتسم بشيوع الفكر الانتحاري دون الفكر الحيوي واليقظ، وجنوحه للكراهية بدل الحب، والتنابذ بدل الوئام، يتطلب تنزيلها على ارض الواقع، والعودة الى الذات لمساءلتها، واعادة النظر في تراكمات التراث المعيقة والمكبلة لتتفتق عبقرية الفرد في الوجود. هي دعوة صريحة الى التقوية والمعالجة من أجل مستقبل أفضل.

يرتكز الغرباوي في دراسة التسامح، المقابل للتعصب كضد نوعي، الى عنصرين هامين، الاول هو الاسلام كدين يحمل خصوصيات مشتركة بين جميع التوجهات التي انجبها. وايضا يتميز ببعده العام الذي يدعو الى التعايش والتعارف. وقد اتخذ الكاتبُ العراقَ نموذجا لدراسة موضوع التسامح وضده النوعي العنف، لأسباب بينها داخل الكتاب [2].

وقد يتساءل أحد عن الرابط بين مجتمع العراق الذي ينتمي اليه الغرباوي ومجتمع المغرب الذي انتمي اليه، واجيب ان هناك قضايا متشابهة واخرى متباينة، ولعل ابرز وجوه التشابه سيادة الدين الاسلامي، بيد ان اشكال التدين تختلف. فالعراق يزخر بتعدده الديني والمذهبي، وهناك إلى جانب الإسلام، المسيحية والصابئية المندائية،  بينما المغرب اغلبية مسلمة تتبنى المذهب المالكي منذ أكثر من اربعة قرون. ورغم التعددية الدينية في المغرب الا انها ليست بمستوى العراق. لكن كلا البلدين يعاني من أزمات سياسية. فكلاهما لم يحقق الى الآن تقدما حقيقا على مستوى الديمقراطية، وهناك أزمات مستعصية يعاني منها كلاهما، كدعوات الانفصال القومي والعرقي، ووجود المتطرفين وانتشار ثقافة الكراهية، وغير ذلك، ولا حل أمامهما سوى تبني ثقافة التسامح والعفو والاعتراف بالآخر من أجل مجتمع مدني، والتأكيد على حقوق الإنسان والانتقال السلمي للسلطة، وإشاعة قيم المحبة والوئام والتعاطف والرحمة.

دلالات التسامح:

يعرف الغرباوي المفاهيم المفتاحية المرتبطة بموضوع الكتاب، فالتسامح لغة من السماحة والجود اي الموافقة على المطلوب، والمسامحة تعني الجود والسخاء والكرم والمساهلة، اما التسامح فيعني التساهل.

ويشير الى ان مفهوم التسامح ظهر في القرنين السابع عشر والثامن عشر[3] في بيئة غربية كانت بحاجة اليه لتجاوز خلافاتهم الدينية والسياسية  والايديولوجية. وقد اتخذ المفهوم اصطلاحا عدة تعريفات مفادها احترام الحرية الفردية وحقوق الانسان وتقبل الاخر قصد تحقيق التعايش في المجتمع دون تحيزات فكرية او دينية، وهذه المبادئ لا تتحقق الا بالكف عن دعوى احتكار الحقيقة التي اضحت في ظل الحضارة الغربية متعددة ونسبية وما من احد لديه الحقيقة المطلقة بل كل لديه فهمه الخاص للامور.

مفهوم التسامح بهذا المعنى غريب عن البيئة العربية الاسلامية، كما يصرح الغرباوي، لذا يدعو الى تبيئته لينسجم مع ثقافتنا، او تسييقه contextualiser اي تنزيله وفق السياقات الثقافية للمجتمع، مع الحفاظ على روحه ومقاصده العليا[4]. وقد اشار الى ان الاسلام لا يخلوا من قيم التعايش والتعددية واحترام الاخر المختلف انما غيبتها القراءات الاحادية والمتحيزة والجامدة التي تحاول التفرد بالحقيقة واقصاء الثقافات الاخرى او النظر اليها بعين الاستهزاء. من هنا وجب تغيير هذه المنطلقات من اجل الدخول في الحداثة بشكل فعلي وليس شكليا، كما هو الحال في عديد الدول الاسلامية[5].

التسامح وفق قراءة الغرباوي ليس بالضرورة تنازلا امام الاخر او انصياعا له واتباعه فيما يعتقد او يريد، انما (يصار الى صيغ توافقية تبقي الاحتمالات مفتوحة لمراجعة جميع المفاهيم والمقولات التي تشترك في تكوين الانساق المعرفية. أي يمكن اعادة النظر بمفهوم التسامح نفسه ومراجعة قيمنا ومفاهيمنا ايضا للتأكد من صحتها وشرعيتها)[6]. ويؤكد الغرباوي ألا حل أمام التنوع والاختلاف الديني والثقافي في جميع المجتمعات، ومنها مجتمعاتنا، والمجتمعات الاسلامية خاصة، سوى التسامح والتعايش. وفسح المجال امام الحرية السياسية التي تقتضي اعطاء الحق لكل فرد في الانخراط والمساهمة في الحكم شريطة التوفر على الضوابط والنزاهة.

منابع اللاتسامح:

يؤكد ماجد الغرباوي ان الموروثات العريقة الممتدة منذ تاريخ قديم تلعب دورا في ترسيخ اللاتسامح، فما زالت شعوبنا محافظة على نسق فكري وعقدي دوغمائي يرفض الاخر ويقصيه. وعندما يتسامح معه يتسامح معه على أساس التفضل والمنة. بينما مفهوم التسامح الحقيقي عنده يتجاوز هذا النمط من الافكار. فمفهوم التسامح عنده وليد (منظومة قيم موروثة تشكلت عبر ماض سحيق، ظل الشعب يتوارثها ويتعهدها ويلتزم بها ويحافظ عليها. وطبيعة هذه القيم انها تتقاطع مع قيم التسامح، لانها تكرس صفة العصبية والرفض والاقصاء)[7].

1- العنف:

العنف هو المصدر الأول والأساس للاتسامح على مر التاريخ. هذه الظاهرة، التي لازمت المجتمعات البشرية، وصارت لصيقة بها، رغم تعدد اسبابها. وقد أدرج المؤلف الدفاع عن النفس ضمن هذه الأسباب، بل هو أولها، حيث لجأت اليه المجتمعات البدائية لحماية نفسها من الاخطار المحيطة بها من كل جانب. حتى اضحى العنف جزءا من ثقافة الشعوب، تقاس به رجولة الفرد، ومدى قدرته على ممارسته. (واستمر العنف صفة ملازمة لكثير من الشعوب رغم اختلاف الظروف وتطور الحضارات وتوغلها داخل العمق الجغرافي لاغلب البلدان في العالم. وهي صفة للبداوة اكثر منها صفة للمدنية والحضارة. ولهذه الظاهرة اسبابها وجذورها التاريخية)[8]. إذن العنف كان السبيل الوحيد لاثبات الذات لمن يفتقر الى مؤهلات التسامح والعيش المشترك على أساس إنساني.  

وللاسف الشديد مازالت المجتمعات تتعهد العنف والروح الانتقامية. تستعيد الماضي ومشاكله، ولا تعرف طريقا لتسوية الخلافات الا العنف. وقد ساعد على ذلك عنف السلطة السياسية، واحترام الناس لها مادامت تمارس العنف والقوة، والناس يهابونها ويحترمونها، ولديهم الاستعداد للتضحية من أجل الحاكم المستبد.

من كل هذا يتبين لنا ان العنف شئ غريزي في الانسان  وهو ميّال اليه، ويظل لصيقا به ما لم يتحول الى كائن ثقافي وحضاري قادر على تبني قيم التسامح.

2- الولاء القبلي:

يعتبر الغرباوي القبيلة (نسق من القيم والاخلاق تحكم افراد القبيلة الواحدة، تستقطب ولاءاتهم، وتوجه سلوكهم، وتحدد مكانتهم الاجتماعية)[9]. كما ان لكل قبيلة نسقها الاجتماعي الذي يضع الشيخ فوق الجميع ويتيح له التحكم بمصيرها[10]. فتقاس قيمة المرء ومكانته بولائه ومدى رضوخه للقبيلة ومقدساتها. من هنا يتصور المنتمي للقبيلة انها اولى واهم من المصلحة العامة للوطن والمواطنين جميعهم، هو ضرب من ضروب التزمت والتعصب، اضافة الى التعسف والقسوة وضيق الافق، وتتضح في بلداننا مظاهر القبلية في المجال الحزبي والسياسي، حيث تشكل الاحزاب والمؤسسات امتدادا لفكر القبيلة، وما يتيح التواجد هنا هو الولاء وليس الكفاءة.

3- سلطة القيم:

قيم التسامح قيم بعيدة التحقق في مجتمعاتنا لطغيان قيم الاستبداد والتسلط التي اخذت اشكالا متعددة الابعاد، منها السياسي ومنها الاجتماعي ومنها الديني... وللاسف في مجتمعاتنا تطغى النظرة الشمولية والاطلاقية التي ترى في قيمها المتوارثة حقائق ثابتة ونهائية بينما ترى الاخر خاطئا ظالا لا تقدر على تقبله والاستفادة من منجزه، وما يزيد الطين بلة في هذا الوضع هو القيم المصطنعة التي رسختها دوائر الحكم والنخب الثقافية والاجتماعية والدينية وجعلتها في صالح مصالحها. قيم الطاعة والولاء وتغييب النقد والخضوع للمجتمع الذكوري والابوب الذي يجعل المرأة كائنا ناقصا ووسيلة ومصدر عار في حال الفضيحة بينما ذلك مصدر بطولة للرجل، فمجتمعاتنا مجتمعات ذكورية كما يقول ماجد الغرباوي: (تمنح الرجل صلاحيات واسعة في مقابل تهميش المرأة وتحقيرها، وتلغي وجودها وتعتبرها انثى يطأها الرجل حينما يرغب ويتخلى عنها متى شاء، وفي احسن الاحوال انها اداة لخدمة الرجل وابنائه وضيوفه من الرجال. وهي ايضا عورة وبلاء وهمّ متى تنتقل في عهدة رجل آخر ليتخلص من مسؤوليتها اهلها ويهدأ بالهم، لانها بنظرهم كائن حيواني غير مؤتمن على شرفه، بل يجب حصره وتضييق الخناق عليه مخافة ان يراها احد فتنخدش قيمة الرجل عندما يتصفح وجهها الآخرون، او يخشى عليها الانهيار بمجرد ان تلتقي برجل ليس من محارمها، فهي بلاء مزمن وعار كامن في نظر الرجل القبلي)[11]. لذلك يتم التسامح مع اخطاء الرجل واضطهاد المرأة والمغالاة في حال ما اقدمت على غلط ما، بينما ايضا يتم تطبيق تسلط عمودي على الابناء من طرف الاب وحرمانهم من حق التعبير والتساؤل والمساهمة في صنع القرار، في نفس السياق يحرم الحاكم محكوميه من حقهم في تقاسم الحكم وصيغة القرارات التي تخصهم. كلها عوامل ساهمت في طغيان النظرة الاحادية المتزمتة والمتعصبة للرأي.

4- الاستبداد السياسي:

اكيد ان الاستبداد السياسي هو افة من افات المجتمعات المتأخرة وهو عامل يكبلها ويعيد انتاج الازمات فيها، لانه يحرم السواد الاعظم من الحقوق ويغيب حسها المشترك الرامي الى النهوض بالبلاد والعباد، وهو نقيض التسامح، (وخصم حقيقي له)[12] الذي يقتضي التعامل باحترام وبمساواة مع الجميع بعيدا عن التراتبية والتفرد بالسلطة وبالقرار السياسي، والتسامح يعني قبول للآخر بدون شروط مسبقة عكس الاستبداد الذي يحتم على الطرف المقهور الرضوخ لمن هو اعلى منه مرتبة في السياسة،  وتستغل السلطة السياسية كل الوسائل المتاحة للاستمرار في الهيمنة ومن بين ما تستغله العاطفة الدينية لدى الناس، وليس لديها مشكل في قراءة النصوص الدينية بالطريقة التي تخدم مصالحها، فالغاية تبرر الوسيلة في هذا المجال. لا يرضى الحكام في دول التخلف الخضوع للنقد والتمحيص انما يجعلون انفسهم فوق ذلك والويل لمن يقدم على ذلك الفعل، بينما يقتضي التسامح الحوار وقبول الرأي المختلف، شعوب اذن مصيرها ليس بين ايديها بل هي مسلوبة الارادة ولا تعرف حتى التفريق بين الممارسة الديمقراطية السليمة والاستبداد، والانكى والامر انها بفعل الادلجة اصبحت تخشى الديمقراطية والتحرر.

5- التطرف الديني:

يعتبر الغرباوي التطرف الديني احد ابرز مصادر اللاتسامح لكونه اقرب طريق لحشد همم الناس وخصوصا البسطاء منهم، يشد قلوبهم ويأسره تحت شعارات ويافطات رنانة لا تترك لهم فرصة للنقد والمساءلة. (يعتبر التطرف الديني احد اخطر منابع اللاتسامح، لتلبسه ببعد شرعي، وتوظيفه للنص الديني، وسرعة تصديقه من قبل الناس، وقدرته على التخفي والتستر تحت غطاء الشرعية والواجب والجهاد والعمل الصالح والامر بالمعروف والنهي عن المنكر)[13]. فهو مفهوم حساس يوظفه الكثير من رواد الاسترزاق باسم الدين ويجيشون به الحشود ويدفعوهم لاضطهاد الاخر المختلف مذهبيا او دينيا. ولعل ما يزيد الطين بلة هو النزوع نحو التفرق والطائفية والتمذهب نتاجا لتعدد التفاسير رغم وحدة النص القرأني، ما يجعل ظواهر التكفير ورفض الاخر الداخلي اولا والخارجي ثانيا متفشية نتاجا لتلك القراءات السطحية والحرفية. معضلة التطرف الديني هي قصور في فهم الدين واختلال في الفهم والادراك وهي  منبع للجمود العقائدي والاطلاقية، وهي عوامل تعرقل استقبال الاخر وفهمه والتواصل معه بشكل فعال.3544 كتاب التسامح ماجد الغرباوي

التسامح، تأصيل الاسس:

ترسيخ المنظومة القيمية للتسامح يقتضي بالضرورة ايقاف نزيف الكراهية والحقد والاقتتال والحدية في التفكير، وبناء فرد ومجتمع قابل للحوار، منفتح على الافكار المختلفة. وتوفره على تربية سليمة قادرة على منح المجتمع روح النقد والانفتاح والقابلية للتغيير، وكل ذلك ينطلق من الاسرة والاعلام والاوساط الثقافية والسياسية وغيرها من مجالات الحياة. ويبقى الاضطهاد والتكفير مصادر لتفشي العنف والجهل المركب في مجتمعاتنا المعروفة بالأصولية الاسلامية التي تأبى تجاوز المحكيات والموروثات المتقادمة.

لذلك ينادي الغرباوي بنقد الانساق الفكرية والعقدية والثقافية في هذه المجتمعات وذلك لتجاوز اشكالياتنا التاريخية وقصورنا وازماتنا، واستتباب قيم التسامح والتعايش في جو يسوده احترام اختلافات الناس وتعدد افهامهم. وترسيخ التسامح بدل العنف القابع في عمق اللاوعي عمل صعب ويحتاج الى الصبر والتسلح بالعلم والمعرفة والحكمة لخلق شعوب تعي تخلفها وتصبوا لتغيير واقع الحال المتسم بالتفتت على شتى الاصعدة: (ان خطوات قيام مجتمع متسامح تبدأ من العقل، تبدأ من نقد الانساق المعرفية، تبدأ من نقد العقيدة، والفكر، والثقافة، ليصار الى فهم بديل للدين والحياة والمجتمع يساعد على استتباب قيم التسامح)[14].

اسس التسامح:

1- حقوق المواطنة:

من اجل تحقيق الغايات الكبرى للوطن والمتمثلة اساسا في مواطن حر يتمتع بحقوقه ويحترم واجباته، يتحدث الغرباوي على ضرورة تحقيق مجتمع يقبل بعضه البعض، قبول الاخر مسألة مهمة اذن من اجل المصلحة العامة المشتركة ومن اجل حماية البعد القومي والديني. الا انه ايضا يتحدث عن الاعتراف بالآخر والذي يعتبر اقرارا لحق الاخر في التعبير عن افكاره وقضاياه دون طائفية ولا ادعاء للتفوق: (ليست المواطنة سوى الاعتراف بالآخر وبحقوقه. او لا اقل قبوله وقبول التعايش معه سلميا وفق حقوق مشتركة لجميع المواطنين)[15]. ويخبرنا الغرباوي عن قيم المواطنة الحقة والتي من شأنها اعلاء راية الوطن كقضية اولى حتى من كل الانتماءات، اثنية كانت ام طائفية ام دينية.

1- الحقوق الاسلامية لغير المسلمين:

يرجع بنا الغرباوي الى زمن سحيق من تاريخ الاسلام ليسرد لنا وقائع واحداث شهدها هذا العالم وذلك من اجل اعادة فهمها كما يجب، وذلك لان العالم الاسلامي للأسف تطغى فيه القراءات الاحادية للنصوص الدينية. هذا الجمود العقائدي يؤدي الى الرغبة في تنزيل آيات اتت في سياقات محددة ومنها ما لا يستقيم تنزيله بالفهم الحرفي في  زمننا هذا، ويدعوا الى العمل بروح الاسلام الذي يتجسد في وقائع وآيات عديدة تدعوا الى الحوار بين الثقافات والامم رغم اختلافاتها، كما يشدد على اهمية السعي الى الحوار الهادف الى تبادل المعارف والخبرات والتجارب والتكامل والتثاقف  وليس السعي الى هداية الناس لان هذا من شأنه معاملة الناس على انهم كفار او اشياء شبيهة بذلك، ليخلص في الاخير الى ضرورة وضع الاختلافات كمصدر للمراجعة والنقد ولا شيء يتعالى فوقه باعتبار افهام الناس متعددة، ويجب كذلك الحكم بنسبية فما من صحيح مطلق وما من خطأ مطلق وتجاوز الفكر الذي يتصور الاخر كضال وجب هدايته لان الهداية التامة لله والبشر ما هم الا خطاؤون عليهم الانصات الجيد لبعضهم البعض للوصول الى التكامل. (ان الاعتراف يعني: (ان الآخر شخص له عقيدته وفكره ودينه ووجهة نظره. له الحق في تبنيها والدفاع عنها)[16].

2- سيادة القانون:

لا يتحقق التسامح الا اذا كان هناك قانون يحميه ويستند اليه[17]. وهذا القانون ينبغي ان يتوفر على قوة ردع عالية لضبط حقوق المواطنين بشكل متساو. المواطنون قد ينزعون الى العنف او التشنج لكن على السلطة تثقيف الناس على قيم الاحترام والحق والواجب. ويبقى القانون هو الالة الرادعة التي لا تستثني احدا ولا تقصي حقوق الاقليات، من أجل مجتمع قادر على تبني قيم التسامح، مجتمع يتداول السلطة سلميا ويتحلى بحب الوطن والعمل الصادق من اجل مصالحه العليا ومصالح مواطنيه.

تعدد المرجعيات:

يعد تعدد الولاءات للدين او للعرق او العشيرة او اي نطاق محدود كيفما كان قتلا لسيادة القانون، و(يصاب القانون بالخواء والشلل عادة اذا نافسته مرجعيات اخرى)[18]. ويؤكد الغرباوي بهذا الخصوص على الولاء للقانون المتوافق عليه، خدمة للوطن، من اجل مجتمع تسوده قيم التسامح والانفتاح. بعيدا عن اي مرجعيات أخرى. خاصة من يتحدثون باسم الله كأنهم ممثلين للإرادة الالهية. وهذا يُنتج حالة من التزمت والاستعداد للإرهاب.

3- اعادة تشكيل قيم التفاضل:

في بيئة تعرف التعدد على جل المستويات، تشكل القيم الدينية منبعا رئيسا للتمثلات التي تنغرس في لاوعي الفرد وتحركه، ومن هذا المنطلق يقترح الغرباوي من اجل الحد من العنف واللاتسامح استراتيجيتين رئيسيتين وهما، الولاء للوطن ولمصالحه العليا وذلك بتجاوز الاختلافات الضيقة والمغلقة، والارتكاز على القيم الانسانية باعتبارها قيما كونية تنصهر فيها القيم المغلقة المبتنية على التفاضل والولاءات.

واما التفاضل في الاسلام فيحدده الغرباوي في ثلاثة مستويات[19]، اولها التقوى والتي لا تعني كثرة العبادات او التشدق بالمعاني الدينية بل القيام بالعمل الصالح الذي يعود بالنفع على الذات وعلى الانسانية جمعاء، وقول الله تعالى (ان اكرمكم عند الله اتقاكم) هو دليل على ان الله يحب عبده المتقي لأنه هو الأدرى والاعلم بمن يتق، اما البشر فليست لديه القدرة ولا الحق في الحكم على الناس وتفريقهم الى متق او غير متق، انما ما على البشر هو تقبل الاخر وتجنب اصدار الاحكام عليه، ولرب قليل العبادات احسن عند الله لما يقوم به من عمل صالح، عكس من يكثر في العبادات ويبيح سفك الدماء او يريقها.

وثانيها الجهاد، لا الجهاد الذي يتصوره المتزمتون والمتطرفون، انما الجهاد الرامي الى النهوض بالنفس وبالوطن، وهو قائم على التضحية من اجل الاخر ونبذ العنف واللاتسامح معه بغض النظر عن اختلافاته.

وثالث هذه المبادئ هو العلم، لان من حيث حتى عبادة الله فهي لا تتم الا عن علم، لذلك فالله تعالى كرم عباده العلماء لانهم الاقرب اليه وهم الاقدر على طاعته خير طاعة، والعلماء هم منارة الانسانية لما يقدمون لها من خدمات تميط اللثام على مظاهر التخلف وتستجيب لحاجياتهم في الدنيا وتقيهم من الشرور، وعالم افاد الانسانية في اختراع علمي يبقى ذلك في ميزان حسناته كصدقة جارية.

هذه هي مبررات التفاضل التي قدمها الاسلام، اما الفهم القبلي او الطائفي فيخندقان البشر في تفاضلات شكلية تبتعد عن مضمون الامور، بارتكازها على النسب او اللون او العرق، وهذه من اسباب النكوص الحضاري التي تبقي المجتمعات في سياجاتها الدوغمائية المغلقة بتعبير محمد اركون. فما احوجنا الى ميثاق حقوق المواطن والمواطنة في شمال افريقيا والشرق الاوسط.

4- اطلاق الحريات العامة:

يذهب الغرباوي الى ان الحريات العامة تلعب دورا اساسيا في انبثاق عبقرية الفرد في العالم، بينما يلعب القمع دورا مهما في ترسيخ العنف والتشنج والتنابذ حتى بين ابناء الوطن الواحد، لان المجتمعات المقهورة تسوء اخلاقها على حد تعبير ابن خلدون. يقول: (تلعب الحريات العامة دورا كبيرا وفاعلا في ترسيخ قيم التسامح بين ابناء الوطن الواحد)[20].

والمجتمعات المرعوبة تخشى الحرية نظرا لما تعرض له هذا المفهوم من تشويه بفعل الايديولوجية وبفعل الرغبة السياسية في استمرار الاضطهاد وبذلك ترسخت في العقول بوعي او بدونه افكار حول الحرية من قبيل انها فوضى او انفلات او كفر او اشياء من هذا القبيل، الا ان الحرية تعني حرية الفكر والمعتقد والثقافة والحرية السياسية والدينية، وتبقى حلما مشروعا ما دامت تصبو الى خدمة الوطن والمواطن، ومن هنا وجب تحرير الوعي الاسلامي من بعض المنطلقات المغلوطة التي ترسخ افكار من نسج خيال بعض الجهات التي لها مصالح في تأبيد سطوتها، ولنطلق العنان لسهام النقد والمراجعة والمعارضة لكل ما هو سيء في البنى السياسية والاقتصادية لان هذا ما من شأنه خلق اوطان ديمقراطية وحداثية وليس اوطانا مليئة بالخراب كما يصورون للناس.

ومن الاحكام الفقهية التي تشوه صورة الحرية في الاسلام وصورة الاسلام بحد ذاته حكم قتل المرتد[21]، وذلك اجتهاد فقهي لا اساس له في القرآن، فالأخير ينص على ان: "لا اكراه في الدين".

ومن هذه المنطلقات يركز الغرباوي على ضرورة فهم النصوص الدينية فهما يتماشى مع العصر وان مجموعة من النصوص نزلت في سياقات معينة وتم تطبيقها باليات محددة، ولا يمكن العمل بعقليات عصور قديمة جدا، وهذا من شأنه ان يترك عقلية المسلمين جامدة لا تسعى الى المضي قدما وتجاوز القراءات المتزمتة والمغلقة.

التسامح.. نصوص خالدة:

ينتصر الغرباوي للجديد المتجدد ضد القديم المتهالك التي لم تعد صالحا، رغم انه لا ينكر دور الكثيرين في صناعة تاريخ الامة، بين انهم اتوا وادوا دورهم في مراحلهم الخاصة، ولكل زمان رجاله، اذن وجب استحضار مصالح وقوى الاحياء لا اتباع الاموات وتقليدهم، ومنه ابداع افكار حية بدل الافكار الميتة التي تميت الانسان والمجتمع وتجعله عاجزا على التطلع الى افاق العصر والانصات الى متطلباته. (من الغريب اننا نستفتي الموتى ونسقط الماضي على الحاضر رغم اختلاف الظروف والثقافة والعصر، فما لم نتخل عن التقليد ونكف عن مناشدة الموتى واستنطاق الماضين، ستنقلب حياتنا جحيما في ظل عقول استاتيكية متحجرة لا تفهم من الدين سوى ما قاله السلف، وما افتى به المتشددون).[22]

ويستغل المتطرفون احداث الحروب التي ما كانت يوما الا استثناء في تاريخ دعوة الرسول الكريم الى الاسلام، وايضا يجدون ضالتهم في آيات القتال التي جاءت لغايات سياقاتها التاريخية من اجل اصدار الاحكام وجز الرقاب وتخويف الناس، وهذا ما يشوه الاسلام الذي تبنى الحكمة والموعظة الحسنة، وجاء لرحمة العالمين، اي الناس جميعا على اختلافاتهم وتبايناتهم.

نصوص غيبها النسخ:

يستعرض الباحث ماجد الغرباوي في هذه الفقرة آيات من الكتاب الحكيم يستند اليها المتطرفون لتبرير افعالهم المقيتة، وساهم النسخ في تغييب آيات اخرى اكثر اهمية، وهي عديدة جدا وتدل المسلم الى الرحمة والصفح والسلم والسلام.

وقفة مع الآيات:

يواصل الباحث العراقي ادراج الآيات التي تدعوا الى التعايش والسلام والاخوة بين الناس، ويدعو الى التبصر في كنهها وتفادي الفهم الاعوج للآيات المشروطة بسياق معين وظروف محددة، وفي الاخير يدعوا الى استتباب قيم ومبادئ  اسلامية[23]:

الرفق: على اعتباره ضدا للحمق والعنف والخرق، فالرفق قيمة انسانية نبيلة تشكل احد ثوابت التسامح، لأنها تعامل لين يكسب به المرء القلوب.

الحلم: هو ثاني القيم الاسلامية المساهمة في ارساء التسامح، وهو تمكن من كظم الغيظ، وتفادي للحرب وضبط للأهواء الجياشة.

العفو: هو ملكة تمكن من ترسيخ مجتمع متسامح ومتفهم ومتعاون، اعتبارا من كون الناس خطائين، فالعفو صفة الانسان الراقي والواعي بدواخل النفس وجموحها.

الرحمة: "ارحموا من في الارض يرحمكم من في السماء"، الانسان كائن ضعيف والرحمة واجبة مع كل ما في الارض، ولعل البسملة خير دليل على اهمية الرحمة.

خاتمة:

ما احوجنا في مجتمعات شمال افريقيا والشرق الاوسط والعالم الاسلامي عموما الى نهضة فكرية تنطلق من اختلافاتنا وتجعلها قوة وترجع الوحدة كإيديولوجية بدل البحث عن وحدة الايديولوجية، لان ذلك غير ممكن، فالناس ميالون الى الاختلاف والتفرد وهذا امر وارد وطبيعي وجب ضمانه كحق للجميع، فما احوجنا من اجل ذلك الى مفكرين مثل ماجد الغرباوي، بأسلوبه السلس والعميق، يؤصل للمفاهيم ويضعها في سياقنا المتسم بخصائص تميزه، ولعل الكتاب موضوع قراءتنا خير دليل على الاهمية القصوى للمشروع النهضوي القائم على التسييق والبساطة وغيرها من المبادئ والمنطلقات الفكرية الرامية الى خلق مجتمع واع بحقوقه وواجباته، متسامح مع ذاته ومع مجتمعه ومساهم في صناعة القرار.

***

محمد هروان - المغرب

 .......................

[1] - الغرباوي، ماجد، التسامح ومنابع اللاتسامح.. فرص التعايش بين الأديان والثقافات، الحضارية – بغداد والعارف للمطبوعات – بيروت، ط 2008م، ص 15.

[2] - المصدر نفسه، ص 18.

[3] - المصدر نفسه، ص 20.

[4] - المصدر نفسه، ص 21.

[5] - المصدر نفسه، ص 22.

[6] - المصدر نفسه، ص 21.

[7] - المصدر نفسه، ص 26.

[8] - المصدر نفسه، ص 27.

[9] - المصدر نفسه، 33.

[10] - المصدر نفسه.

[11] - المصدر نفسه، ص 43.

[12] - المصدر نفسه، ص 51.

[13] - المصدر نفسه، ص 56.

[14] - المصدر نفسه، ص 74.

[15] - المصدر نفسه، ص 76.

[16] - المصدر نفسه، ص 100.

[17] - المصدر نفسه، ص 102.

[18] - المصدر نفسه، ص 104.

[19] - المصدر نفسه، الصفحتان: 118 و119.

[20] - المصدر نفسه، ص 121.

[21] - المصدر نفسه، ص 123.

[22] - المصدر نفسه، ص 138.

[23] - المصدر نفسه، الصفحات: 157 – 160.