- لابد من إضاءة:
أن تكتب عن مفكر عربي متميز في عطائه الفكري، وطموحه الإنساني في مشروعه التنويري، في عالم عربي وإسلامي مشبع في تكوينه الثقافي بفكر ديني تراثي يحمل الكثير من فجوات النقل والتفكير، وفي تكوينه الاجتماعي مطنب بالشعبوية السلبية، وفي تكوينه السلوكي بثقافة التقيد والاتباع والانقياد. قلت؛ أن تكتب عنه في البعد النقدي الذي شكل المعلم الأساس لمقاربته التراث الديني بكل قضاياه، تلك القضايا التي تحتضن بؤرة التوتر العالي بين التنوير والتضليل، خاصة تلك التي تتصل بقضايا عصرنا الحالي، والتي بحكم طبيعتها ليست هي ذاتها للماضين، فالمعطى التاريخي له حضور فيها كرهنا أم أحببنا. أن تكتب عن علم من أعلام التنوير الأستاذ الجليل ماجد الغرباوي لمجازفة ومخاطرة كبيرة، في ظل هذا السجال الحاد ولا أقول الحوار، لما يكتنف حوار التنوير مع التضليل من عنف لفظي ومادي جلي في ممارسات فكرية وسلوكية بلغت حد التكفير ومن ثمة التصفية الجسدية. مجازفة تحمل من الإكراهات الكثير من قبيل:
أ - ألا تفي الأستاذ الكريم ماجد الغرباوي حق الكتابة، التي تتساوق مع قامته الفكرية والعلمية. فترد مفردات الكتابة تفصيلا وتمفصلا قاصرة عن التعبير عن المعنى وظلال المعنى، بما يجلي البعد النقدي في فكره ومنجزه التنويري بصيغة الجمع المحمولة على منطوقات عناوين مؤلفاته المتميزة. فتصير إلى طمس معالم المثقف التنويري الحداثي الناقد والمبدع في نفس الآن، الذي أعمل ويعمل التفكير النقدي في التراث الديني منسحبا على قضايا العصر تساؤلا وفحصا وتدقيقا ومراجعة وتصحيحا؛ لأجل خلق تقارب أو توافق أو تطابق أو استظلال للثابت الصحيح من التراث الديني مع مجمل المشاكل والإشكاليات القائمة في الحياة الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية الراهنة، كيفما كانت طبيعتها وسياقها الزمني والمكاني والموضوعي والتاريخي. ذلك المفكر الذي تلمس من خلال كتابته وتأليفه استقلاله وحريته، وانعتاقه من سجن الصمت أمام الملتبس والمشوش من التراث الديني وحراسه. وانبعاج ثقافة التقليد والتبعية والتكرار والخضوع المطلق والإيمان الأعمى به؛ بمشرط مشروعه التنويري، والتقليص من محاصرة الفكر الناقد الحر المستقل الجريء، مقابل انكماش الفكر التبعي السكوني. فعصرنا في حقيقته وفق التطورات المتنوعة في مختلف المجالات؛ بما فيها التطور التكنولوجي والرقمي والذكاء الاصطناعي، هو عصر النقد بامتياز، الذي يجب أن نجريه ونفعله في وجه كل شيء، بما في ذلك التراث الديني ورجاله، الذين ينبغي أن لا يبقوا خارج النقد أو فوقه، مما يقوض العقل بما هو الأداة الفاعلة في كشف الحقائق، وفي إخضاع الأشياء لسلطانه وتوظيف القوانين الكونية لصالحه، وفي تذليل الصعوبات والتحديات لاستمرار سيرورة نجاحه، وفي تبديد الظلمات من حوله، ونشر النور من حوله باقتحام المجهول والغامض من العوالم المعتمة، ويقوض التفكير والإبداع لدى الأفراد والمجتمع معا، ويعرقل بشدة التقدم الإنساني ونواتجه الحضارية في المجتمع، ويحجب الحقيقة من التجلي أمام عيون وعقول الناس، ويسود التضليل والتعويق.
ب - في ظل مجال زمني محدود ومضغوط تصعب الكتابة عن منجز علم من أعلام الفكر الإسلامي التنويري بصيغة الجمع، فمهما بلغت ذروتها تجد نفسها عاجزة عن استقصاء التفاصيل أو استدراك المفاصل في مبسوط مؤلفاته القولي، خاصة أمام فكر مثقف موسوعي استحكم المشهد التراثي الديني بما اكتسب من فرشة نظرية متخصصة في المجال الإسلامي، متمكنة من آليات اشتغالها وأدواتها، ضابطة جهازها المفاهيمي استيعابا وتوظيفا واستثمارا، متحكمة في مناهج اشتغالها المعرفي، زادها التدريس والتعليم خبرة وتجربة وحنكة، والزمان غنى ونماء واتساعا. وأنت القارئ الباحث المبتدئ؛ لا تسعفك حصيلة دراستك الجامعية في ذات الشريعة الإسلامية أن تزعم مقاربة البعد النقدي في فكره - حفظه الله تعالى بما حفظ به الذكر الحكيم - بمنظار تعاقبي أو تزامني، يفضي إلى إبراز المشهد النقدي في كل مؤلفاته. فذلك؛ دونه خرط القتاد. لأن عوالم التراث الديني شاسعة ومتشعبة ومتداخلة ومتشابكة، رصيدها على مستوى مجالاتها وحقولها المعرفية كبير جدا وضخم في معطياته، لا يمكن رصده ولو بعدسة مجهرية لانفلات مكوناته من الإمساك. وهو رصيد تراثي ديني تعشش فيه كل الأفكار والآراء والاجتهادات والرؤى والأطروحات المتعددة والمتنوعة، راكمته ورصدته السنون والأجيال والحقب التاريخية، والذي طبعته بطابعها الخاص، وبسمته بخصوصياتها وتميزاتها ومميزاتها، التي تفيد أن قراءة البعد النقدي في فكر أستاذنا الكريم ماجد الغرباوي لابد لها من استحضار البعد التاريخي لمنجزه الفكري بصيغة الجمع، لتمنح موجوداته الفكرية خصوصياتها ومعطياتها الواقعية آنذاك، وسياقها الواردة فيه، ومبررات استحضارها؛ مع العلم أن الراهنية التاريخية للواقع والأحداث هي التي تميز بين عصر وآخر، وتعطى دلالة الأشياء، وتحدد المفاهيم ومصطلحاتها وتخوم معارفها وعلومها ومواضيعها. فإن أقصينا البعد التاريخي من الحضور في المسألة المعرفية، نكون أسقطناها من فوق على المجال المعرفي دون أن نجد لها جذورا في تربته، ولا اتصالا بين محتوياته ومقاطعه، ولا منهجا لمقاربته، فيكون الاشتغال مبتور الأصل، مشتت الرؤى، متشظي المعرفة. ونكون أمام كل ذلك قد ألغينا من مدخل اشتغالنا معطيات شكلت الواقعة المعرفية في زمانها ومكانها. ومنه؛ لكي تجد هذه الورقة مبررها المنطقي في دائرة البحث والدراسة لفكر علمنا الكبير الأستاذ ماجد الغرباوي، لابد من إلغاء قصر المسافة الزمنية من حسابها بتحويل موضوعها " البعد النقدي في فكر المفكر العربي ماجد الغرباوي " من شهادة إلى كتاب يشتغل على هذا البعد بخيط ناظم لأغلب أعماله هو التاريخ لرصد سيرورة التفكير النقدي عنده أولا في متن أعماله، ثم ثانيا سيرورة تطور منهجه النقدي كرونولوجيا وإوالياته وآلياته وأدواته. يغطيه المستقبل - إن شاء الله - بزمنية واسعة، تمنحه فرصة التعمق والإدراك. وحشر نفسها - أي الشهادة - في مبحث من مباحثه، لتتماشى مع الشهادات في حق أستاذنا الفاضل. لذا؛ ستبحث في عناوين ثلاثة من منجزه الفكري، أولها إصدار الأستاذ سلام البهية السماوي حوارا وإعدادا، الثاني والثالث إصدار الأستاذ الكبير ماجد الغرباوي تأليفا:
1 - إخفاقات الوعي الديني " 2016 "؛
2 - تحرير الوعي الديني " 2021 "؛
3 - مقتضيات الحكمة في التشريع: نحو منهج جديد لتشريع الأحكام " 2024 ".
عناوين وأخرى داعمة لها تسمح للورقة بإدراج نفسها تحت عباءة الشهادة، لعلها تفي وعدها لأستاذها الجليل بالكتابة حول منجزه الفكري من منظورها الخاص، وبمنهجية القراءة التحليلية للسطح والعمق، لأوراق كتبت بنفس تنويري في عالم إسلامي مغلق على موروث فكري ديني تراثي مرجعي، يقاس عليه الحاضر، وينظر من خلاله إلى المستقبل. فيه مكابح عجلة التفكير بكل أنواعه، وتحجير على الحاضر والمستقبل، وإجهاض للنهوض من التخلف الجاثم على الأمة، وللشفاء من الإعاقة الذهنية والنفسية والسلوكية. منها مثالا لا حصرا قولهم: {ما ترك الأول للآخر شيئا} و{ليس بالإمكان أفضل مما كان} تعديلا لقول أبي حامد الغزالي: {ليس في الإمكان أبدع مما كان} تبريرا للعجز أو سدا للفعل أو حصرا للتميز أو طلبا للاحتكار والمنفعة.
ج - في ظل الكتابة عن أعمال الآخر، تنبعث من أعمال المشهد البحثي أصوات مبحوحة، تدعي من باب الظهور والتفرد وشد الانتباه، المجاملة في الكتابة عن الآخر، تقربا منه أو جلبا لمصلحة ما. ويشيعون في القوم ذلك، لغرض في نفس يعقوب يقضيه أو قضاه. خاصة في زماننا هذا الذي استوعب أصلاء المفكرين وأشباههم ومنتحلي صفاتهم، يسترزقون بأقلامهم لمن يدفع أكثر ... ومن باب الخروج من دائرة المجاملة؛ تعلن الورقة أن بسط الكلام هو حقيقة موضوعية وعينها، يتتبعها القارئ في عناوين الأعمال المذكورة ومتنها الفكري، ويرصدها بعين النقد، للتأكيد أو النفي. خاصة أن الورقة لم تكن إلا قارئة لمنجز أستاذها ماجد الغرباوي بمنظار نقد النقد، فوجدت أن منجزه الفكري بصيغة الجمع، وبحمولة وعيه للعصر ومتطلباته، وبمنهجه النقدي، الذي قلما يشرعه الباحثون والدارسون والمفكرون والمثقفون في وجه التراث الديني، في ظل معرفتهم اليقينية بردود فعل الخصوم بهم الشديدة والمؤذية. لكن؛ من يقرأ الرجل يجد - صراحة وبصدق - أن النقد يسيطر عليه لا لذاتيته، وإنما لغايته. تلك التي منحته فكرا مجددا، (يتبنى أفكارا تنويرية راسخة، تتطلع لفسحة نور لانتشال المجتمع الإسلامي من تخلفه، وتنقيته من الأفكار والعقائد الدخيلة. أفكار كانت وما زالت بعيدة عن الإسلام النقي، إسلام القرآن الكريم. وعقائد تسببت في تخلف شعوبها، وتحطيم فكرة البناء، غير أن عقائد راسخة في عقول الناس، ومن الصعب التحرش بها، أو نقدها، لهذا يحذر الكتاب الاقتراب خوفا من سخط الناس إلا الشجاع منهم، رغم أن الجميع لديه ملاحظات وأسئلة حول الواقع المزري)[1]. وبالتالي؛ تأخذ هذه الشهادة مصداقيتها من مطلبها " القراءة فوق القراءة "، ومن شهادات كبار مفكري العرب والمسلمين ومثقفيهم وأكاديمييهم. وتخرج من نطاق المجاملة أو التحيز.
د - هذه الورقة في رصدها البعد النقدي في فكر المفكر العربي ماجد الغرباوي، ستعتمد أساسا على منجزه بصيغة الجمع، بتردد ثلاثة عناوين ضمن انفتاحها على امتداد هذا الفكر التنويري عند مفكرين آخرين، لتقدم كثافة كتابية تتمركز حول متون منجزاته الفكرية، وأنساقها وتاريخها ولغتها ومضمونها عرضا لأفكاره ورؤاه وأطروحاته خاصة الاشتغال تحت سقف منظومة الأخلاق. التي تشكل العمود الفقري لطرحه في "مقتضيات الحكمة في التشريع: نحو منهج جديد لتشريع الأحكام". وهو في طرحه على صواب لأن الأخلاق كقيم توجه الأفكار والأعمال معا إلى الانضباط للإحسان (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)[2]. ففي الأخلاق أمر بعدل وإحسان، ونهي عن فحشاء ومنكر وبغي. بمعنى قيام المسلم بما عليه من واجب بإتقان وجودة وحرص على الصدق فيه حتى لا تضيع حقوق من كلفه بذلك الواجب، وليصفي ذمته من تبعيات واجبه أمام الله أولا ثم أمام مكلفه ثانيا، ويقوم لطلب حقه بذات الأخلاق والقيم والرفق والرحمة. فالعامل وصاحب العمل في الأخلاق والقيم سيان، كل يجب الالتزام بها وتفعيلها في سلوكه العملي تجاه الآخر، لا يطغى أحدها على الآخر. فلهما الأجر عند رب العالمين إن فعّلا الأخلاق والقيم فيما بينهما. فهذا المنهج الذي يدعو إليه جدير بالمناقشة والتبني. فهو قمين بإبعاد مناطق الشر والسقوط الإنساني عن أفكارنا وأعمالنا والإضرار بالكون ومكوناته بما فيها الإنسان. فهو منهج (يكرس القيم الإنسانية والروحية. يحفظ حرية الإنسان وكرامته وحقوقه الأساسية. لا يتجاهل النص ولا يلغي دور الزمان والمكان في فعليته، يأخذ بنظر الاعتبار هدفه وغاياته. وهذا منهج تشريعي جديد، ينتمي لفهم مغاير للدين ومقاصده. يعتمد معنى جديدا لمفهوم قداسة النص، يخرجه من دوغمائيته وجموده. غير أنه يتطلب: العدول المرجعي من الفقه إلى الأخلاق، من التعبد إلى التعقل، والانتقال من ضيق الفقه وسجون النص إلى رحاب القيم الأخلاقية ... يأخذ فيها العقل دوره معيارا للتمييز بين الصواب والخطأ، والحسن والقبح)[3]. وسيقف القارئ على متسع من القول تبيانا وتوضيحا ودعما لما ورد عند أستاذنا الجليل ماجد الغرباوي من أطروحات وشروح وتوضيحات وردود عن تعليقات وتعقيب توسعة للوعاء المعرفي بالتراث الديني الإسلامي. لهذا كان قبل الصدى صدى، وصدى الصدى ملامح نقد.
- قبل الصدى صدى:
بمنطوق عناوين المنجز الفكري الجمعي للمفكر العربي ماجد الغرباوي وظلال دلالته، نستشف البعد النقدي للمعطى التراثي الديني في كتاباته بمشرط علم أحياء الحفريات وأدواته، وبمقص علم التشريح الإنساني وحقينته العلمية التي تصب فيها روافد أنهار علوم عدة " الاجتماع، التاريخ، الأخلاق، الإنسان، الشريعة، الفلسفة، الآثار، المعرفية/الإبستيمولوجيا، الأحياء، اللغة ... "، تتظافر في اشتغالها على المجال الديني عامة، والإسلامي خاصة، في سياق تجديد التراث الديني بمختلف حقوله المعرفية، وتطويره وتمهيره تكيفا واستجابة مع الواقع الراهن المعيش، المفارق للماضي ووقائعه وأحداثه ونوازله. الماضي الذي ما فتئ يستولي باسم التشريع وصلاحية منتوجه الحكمي لكل زمان ومكان على الحاضر والمستقبل بدعوى القدسية والقياس عليه. فنحن في تراثنا الديني وسياق حياتنا الطبيعية ومفرداتها اليومية (أمام ماض لا يمكن إلا أن يصبح حاضرا ولكنه لن يكون كذلك إذا غدا حضوره ثقيلا جاثما مكبلا لكل حركة، قاضيا على الزمان. وهي الحركة التي يناهضها الفكر الديني المتعصب بمذاهبه وتياراته الفكرية والعقائدية المختلفة، الذي يبقي التراث الديني ساكنا راقدا، محاطا بسياج قدسية العقيدة! فهو الهيكل الديني، الذي يحميه المجمع الفقهي بما يحوي من تراثيات وفقهاء وشيوخ وأهداف ومصالح، أغلبها تتماشى مع النفعية الفردية أو الجمعية أو السلطانية، وبما يضمن تحريم الاقتراب منه بأي نقد أو مساءلة، فبالأحرى منطق الشك المزروع في ذاتية الإنسان وطبيعته، المعبر عنه بمجموع علامات الاستفهام التي يطرحها على نفسه، وعلى الآخر، وعلى موضوعه. وهو منطق الوعي الإنساني الذي يفصله عن ذات غيره، ويوصله بذاته ذاتا بيولوجية وفيسيولوجية، ليشكل استقلاليته وحريته وفردانيته عن الآخر والأشياء، بما يؤصل وعيه بذاته وبوجوده، بمنطوق الذكر الحكيم: (ذرني ومن خلقت وحيدا)[4] و(كلهم آتيه يوم القيامة فردا)[5]. وبما يزيح شدة ضغط الماضي التراثي الديني عن مفاصل وتفاصيل حياته اليومية في عالمه المعاصر؛ (لتعزيز حالة الوعي، وتكريس منطق النقد والتفكير والتحليل، بعيدا عن العواطف والدوافع الأيديولوجية)[6]. وبما يسحبه من دائرة التقليد، وهي أشد الدوائر عبئا على عقل المسلم. تكبله؛ بإلغاء روح التفكير المستقلة والحرة من أجل استنساخ أخرى على المذهب الهندوسي، تتمثل في العالم والمفتي والفقيه والشيخ والمقَلّدَ من حراس العقيدة. فيعطل بإرادته تحت مسمى الفقه والمعرفة الشرعية والاختصاص والدراية والخبرة الدينية والتقليد المذهبي كل كفايات ومهارات وقدرات التفكير عنده، فيصير إلى التبعية والتفسخ العقلي والفكري في قطيع التوابع الإنسانية، التي ستسأل لوحدها عما صدر عنها بتكليف رباني لا قول فقهي بشري، (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)[7].
فقضية نقد التراث الديني عند أغلب حراس العقيدة قضية حساسة دونها التكفير وسفك الدم، لنكران ما يجب الاعتقاد به، ولو كان قول شيخ مفسر أو فقيه مجتهد، تحول من الاجتهاد إلى الاعتقاد. ذلك أن قوله يدخل في بنية المقدس المتعبد به؛ وهي القضية التي يجب الاشتغال عليها بفكر نقدي حجاجي وإبداعي في نفس الوقت فضلا عن كونه تفكيرا علميا، يقدم بين يديه الحجج والأدلة متجاوزا دوكسا الجمهور والتابعين والمريدين. بما يشكل طرحا فكريا يلعب فيه السؤال الدور المركزي لهدم قضية التراث الديني من جديد وإعادة بنائها على أسس منطقية وعقلانية وموضوعية وتاريخية حقيقية، تجعل السنة تتماشى مع القرآن الكريم، ولا تقضي عليه. فالقرآن الكريم هو المرجع الذي يجب الاحتكام إليه بمنطوق العديد من الآيات البينات، (إنا أنزلنا الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما)[8]، و(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا أن يعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون)[9]، و(من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)[10]. ولا يضاهيه أي كتاب سواء صحيح البخاري أو غيره، فقول: " أصح الكتب بعد كتاب الله صحيحا البخاري ومسلم " يفيد تصريحا وضمنا أنهما لا يأتيهما الباطل من الجهات الست " فوق/تحت، يمين/يسار، أمام/خلف "، ويضفي عليهما القدسية كالتي للقرآن الكريم لأنهما أصح الكتب بعد كتاب الله كما تفيد ذلك أقوال علماء الحديث! وقد قيل فيهما الكثير منذ تأليفهما قبولا ونقدا واستدراكا؛ ما يعني أنهما لا يتمتعان بخاصية الصحة بعد كتاب الله تعالى، والقول بهذا يبين أن قائله لم يدرك قوله، ولم يستوعبه، ولم يمحصه قبل أن يلفظه. فالكتابان مؤلفان من البشر، والبشر مهما أوتوا من دقة وحنكة وكفاءة تبقى أعمالهم ناقصة. لذا؛ فإسنادهما للبشر يعني حتما النقصان؛ ومنه، لا يجوز بالمطلق القبول بهذا الحكم " وكتاباهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز " لحمل دواعي النسف من داخل بنية الكلام نتيجة صدورهما عن البشر.
- صدى الصدى ملامح نقد:
وبظلال معاني عناوين المنجز الفكري الجمعي للمفكر العربي ماجد الغرباوي وإشراقات دلالاتها، نلمس وجود البعد النقدي للمعطى التراثي الديني في إصداراته؛ متنوعة الحقول المعرفية الراهنة، التي شدت وتشد إليها المفكرين والأبحاث والدراسات لتعلقها بحياة المسلم خاصة والإنسان عامة، لما لها من ارتباط وثيق بتفاصيل الحياة على مستوى المعتقد والسلوك، وما ينتج عنهما من أفعال وردود أفعال، هي في الأخير محصلة الإنسان التي يسأل عنها في الدنيا والآخرة انطلاقا من باب التكليف، بما يحمل من دلالة الإرادة والمسؤولية والاستقلالية والحرية، والتي تتنافى والتقليد والتبعية في التفكير والرؤية والمسلك بإلغاء الذات في الذات، وهو ما يسمى الاتصال بمفهومه العضوي أو بمفهومه المجازي، والذي يستوجب التمحيص العقلي بما يؤدي إلى الانفصال بمنحاه الفلسفي. وسأتحدث عن البعد النقدي لفكر الأستاذ ماجد الغرباوي ممارسة للانفصال عما في التراث الديني من اتصال، وعليه سأثني على مفهوم الانفصال، ذلك الذي أجراه مراجعة لبعض مناطق التراث الديني بطبيعة قولها البشري. وهو ما ذهب إليه؛ بما أنه يحمل مشروع تجديد التراث الديني من خلال هدفية (مشاريع التجديد، التي نادى بها المجددون، الارتقاء بالفقه إلى مستوى تحديات الواقع وأسئلته التي هي نتاج تطور المعرفة البشرية. سواء معطيات العلوم الإنسانية حول: مصادر المعرفة، طرق التفكير، اللغة، النص، التأويل. وسواء العلوم الطبيعية وما حققته من فتوحات علمية وتقنية، غادر معها الإنسان عالما كان يرتهن إرادته لرجل الدين. وبات منطق العلم وليس الخطاب الديني الذي هو السائد والموجه لإرادته. فالمعاملات البنكية الحديثة التي لا يمكن الاستغناء عنها، وطرق التعاملات المالية عبر وسائل الاتصال الحديثة، التي لا تحقق شروط العقد الشرعي كالإيجاب والقبول وغيرهما، ما هي سوى أمثلة بسيطة من طيف أسئلة الواقع الجديد كالاستنساخ، زراعة الأعضاء، التبرع بالأعضاء، أطفال الأنابيب، المعاملات الربوية، الذكاء الاصطناعي، الريبوتات، هندسة الجينات، وغيرها كثير، يقف أمامها الفقه عاجزا ما لم يعتمد منهجا جديدا لملء الفراغ التشريعي، ويعيد النظر في مقدماته الكلامية والأصولية. يتحرر من سجون النص وسلطة السلف، ويكف عن تهميش العقل والأخلاق. هكذا يكون التجديد منتجا، يخرج الفقه من حالة الانسداد التشريعي إلى أفق المرونة والانفتاح، عندما يعتمد العقل مصدرا تشريعيا في موازاة النص، وتكون الأخلاق حاكمة على الأدلة الأولية، تحول دون وقوع التعارض بينها وبين الأحكام، وتغدو أساسا لتحديد مستوى الإلزام فيها)[11].
في عناوين المنجز الفكري الجمعي للمفكر العربي ماجد الغرباوي نلمس بحس القراءة المتبصرة مناطق النقد ودلالة كلماته وألفاظه وأسلوبه، ومنبع التساؤل وهو أصل التفكير النقدي نواة تشكيل الرأي الآخر وتعدد الرؤى والاتجاهات بما يغني المشهد الفكري ويثريه. ومنه؛ تستدعي هذه القراءة المتبصرة من القارئ إطلالة وجيزة على معطى التفكير النقدي اتجاها فلسفيا واتجاها عمليا في كتب الاختصاص. الذي يعري على المستور، ويقتحم المجهول، ويحطم المقدس بالانتقال به؛ من العاطفة والحساسية إلى العقل، ومن غموض وتشويش اللفظ إلى وضوح المفهوم، ومن الملموس إلى المجرد المصورن. ويعيد ما هو منزه إلى ما هو عليه، وما هو غير منزه إلى ما هو عليه، بمعنى يعيد القول المقدس إلى قدسيته، والقول غير المقدس/البشري إلى بشريته، وينزع عليه تلك القداسة التي هالته، والحرمة التي أضفيت عليه لإزاحة الاقتراب منه بمشرط النقد.
- قراءة في عناوين الأعمال الثلاثة:
هذه قراءة تحليلية للسطح والعمق للعناوين المذكورة سابقا، للكشف عن البعد النقدي فيها من حيث التركيب والدلالة وفق ترتيب كرونولوجي، تعاقبي الزمن، كما يلي:
1 - إخفاقات الوعي الديني " 2016 ":
1.1. إخفاقات الوعي الديني على مستوى السطح:
يتجلى البعد النقدي على مستوى سطح التركيب في كلمة " إخفاقات "، وهي بالجمع وليس بالمفرد، ما يدل على تعدد الإخفاق وتنوعه، ومساحتها الشاسعة، ومجالاتها المتعددة. فالعنوان التمس لفظ الإخفاق ليخفف من حدة الفشل في وجه الوعي الإسلامي؛ لأن الإخفاق في اللغة من الدخلة المعجمية " خفق "[12]، ومن بين معانيها: الضرب الخفيف، والتصويت، والاضطراب والتحرك، والغياب، والخلو، والتخييب، والدهاء، والفشل. وهي من مزيد الفعل الثلاثي بهمزة للدلالة على تعدي الوعي الديني بمعنى اللاوعي الديني على المجال الديني وعلى المجتمع الإسلامي الذي كان متقدما عن الغرب في عصوره المظلمة، وتعدى بفعل الإخفاق بالهمزة إلى هذا المجتمع، فأدخله في ظلام دامس. فشده قبل كل شيء إلى الخلف والتخلف بعوامل عديدة من أفكار ورؤى وأفعال ومقولات خاطئة كالتقليد في المذاهب، والتقديس للأثر والتراث وحتى الأشخاص كما في الأشراف، فقد (ابتلي المسلمون والعرب خاصة بنزعة تقديسية باعدت بينهم وبين الحقائق، حتى استغرقت القداسة أتفه القضايا، وبحجة القداسة أحجمنا عن النقد، الذي هو أساس تطور الشعوب، وبقي كل شيء على ما هو عليه تقديسا للماضي والتراث وعادات وتقاليد الأجداد. أنا لست ضد كل هذه الأشياء لكن ضدها عندما تكون عائقا للوعي والتطور، حينئذ أرفضها، وأبالغ في نقدها كي تفسح المجال للعقل يمارس دوره ويتفتق إبداعه)[13]. وبما دس فيه من سم لأغراض سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية أو تربوية أو ذاتية. ذلك؛ (المسلمون الآن لا يتمسكون بحبل القرآن بقدر تمسكهم بأهوائهم ومصالحهم الفئوية والطائفية والسياسية، حتى عمدوا إلى تفسير النصوص لصالحها. فأفرغت من محتواها وفاعليتها. وصارت تدعم هذا الطرف وتذم ذاك. وهذا حال المسلمين منذ وفاة الرسول وإلى يومنا هذا)[14]. ما عوق الإنسان المسلم ومجتمعه من الانطلاق إلى الحاضر والمستقبل بتقليد أعمى للذي مضى؛ إذ (التقليد صفة أخرى ابتلي بها المسلمون ... الحاضر يقلد الماضي في كل شيء، فخبا الإبداع، وقمعت القابليات. والتقليد وليد شرعي لثقافة التقديس ... تقديس الماضي، وتقديس السلف، فما زلنا بعد ألف وخمسمئة سنة نقلد السلف الصالح، ونستفتيهم بشؤوننا وحاجاتنا، وكأن الواقع لم يتغير. أنا لست ضد السلف الصالح، ولكن لهم حياتهم وحاجاتهم وتطلعاتهم، ولنا حاجاتنا وتطلعاتنا وظروفنا، وعلينا أن نجتهد من أجل بلورة أجوبة شافية لكل متجدد في حياتنا)[15]. وعوقه بفساد سياسي (حيث اصطف رجل الدين مع المستبد السياسي فراح يشرعن سياسته القمعية. ويمنحه شرعية في تصرفاته وسلوكه، فأصبح الظلم والاستبداد باسم الدين والتشريع، ولعل مثاله الواضح رجال الدين ممن اصطف مع خلفاء الدولة الأموية والعباسية، أو سلاطين الدولة العثمانية وشاهات الدولة الصفوية، وتأثيرهم السلبي على حركة التحرر، حتى بقت الشعوب ما يقارب 500 سنة تحت ربقة الاستبداد السياسي بفضل الاستبداد الديني، لأنه باسم الدين والإله، والناس تصدق ذلك بطيبتها وقلة وعيها. الاستبداد الديني يمنح قدسية للمستبد، ويحرم الخروج على سلطته فيساهم في ترسيخها على حساب الشعب وتطلعاته)[16]. وعوقه التفكير الصفري الماص نسبة للصفر في عملية ضرب الأعداد، حيث الجداء دائما يساوي الصفر. فالتفكير الصفري هو في عمقه صفر، ويحول جميع أنواع التفكير إلى الصفر بإلغائها من الوجود قمعا وعنفا وقتلا، فهو أخطر أنواع التفكير على العقل المسلم؛ إذ يعتقد بأنه الوحيد الذي يملك الحقيقة المطلقة، ودونه يجب على الآخر أن يعترف به ويعتنقه، وإلا محاكم التفتيش بالمرصاد له فتكا. فهو الفكر الوحيد الأوحد على الصواب لأنه على المنهاج النبوي وسنته عليه الصلاة والسلام وعلى آله الميامين الأماجد الأبرار. ومنه الفكر التكفيري الذي يعود (في جذوره إلى قراءات مبتسرة عن الدين، وتأويلات خاطئة للآيات والأحاديث الخاصة في مجالي الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر [ومجال مؤسسة الأسرة خاصة رؤيتهم للمرأة وموقعها من الوجود والعقل والفعل والتأثير والتأثر والحرب والسلم][17]. ثم عزز هذا اللون من الفكر فتاوى دينية استباحت قتل الآخر، وهتك حرمته. وهو نمط سلوك عدواني تسبب في تراجع الفعل الحضاري، وانتكاسة كل الجهود المكرسة له. حتى بات الغرب يساوي بين المسلم والإرهابي. وللأسف تفاقمت الحالة مع تراجع الوعي، وتوافر الدعم السخي من قبل جهات تسعى جاهدة لتفتيت لحمة الشعوب العربية والمسلمة وتمزيقها في ظل خطاب طائفي وآخر قومي أو ديني. حتى غدت تلك الصراعات سمة تميز منطقتنا، رغم ما تزخر به من ثروات وخيرات)[18].
وزيادة " خفق " بالهمزة تدل على إدخال الوعي الديني بمفهومه السابق المجتمع الإسلامي بما له من بعد فردي وبعد جماعي؛ بمعنى الأمة إلى زمن الانحطاط والتخلف الحضاري والانكسار والهوان، في جغرافية المكان بأطلسيته الترابية ودلالتها الفكرية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتراثية والسياسية والإثنية والشعبوية الضيقة الإقليمية والمحلية. التي تضع الحدود والتخوم للبقع الترابية في المشهد العام للمجتمع الإسلامي تأثيرا وتأثرا. وترفع من شأنها أمام ما هو أعم وأوسع كالوطن والمواطنة وموجبات الدولة من مؤسسات وقوانين وفعاليات. ف- (مجتمعاتنا مجتمعات قبلية، تحكمها قيم العشيرة. فولاء الفرد دائما لقبيلته، سواء كانت على حق أم باطل)[19]. وبذلك، فالانحطاط والتخلف الحضاري أوسع، هو انحطاط الفكر وتخلف التفكير، وظهور الخرافات والهمروجات والخزعبلات والأساطير في مشاهد حياتية ووقائع معيشية حية في المجتمع كاستحضار الجن وتسخيره لقضاء الحوائج، وتقديم القرابين له تحت أنظار الدجالين والمعتوهين والمسطولين أو زيارة العرافين والشوافين لاستقاء المجهول والمستقبل بتكهناتهم وتوقعاتهم أو زيارة القبور والأولياء والصالحين وأضرحتهم، وقد صاروا إلى الموت لا يسمعون ولا يتكلمون، فكيف لهم بقضاء الحوائج والأغراض وهم أحوج إلى الدعاء بالرحمة والمغفرة؟ (إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين)[20]و(ما يستوي الأحياء ولا الأموات، إن الله يسمع من يشاء، وما أنت بمسمع من في القبور)[21]. وتلك زيادة همزة في الإخفاق بإدخال العقل المسلم في (اليقين السلبي، [الذي هو] حزمة جزميات وقناعات راسخة، توجه وعي الإنسان وتضبط سلوكه وحركاته ومشاعره. ومثاله البسيط إيمان الفرد بقوى خارقة، يستعين بها لتحقيق مآربه، دون سلوك الطرق العملية والطبيعية، كتسخير الجن وتحضير الأرواح، فيتقاعس عن العمل وطلب الرزق، بانتظار أن تقوم الجن بعمل خارق تلبي من خلاله جميع طلباته. أو إيمان الشخص بقدرة الأولياء والصالحين على معالجة المرضى وقضاء الحاجات، فيكتفي بأعمال تقربه لهم بدلا من مراجعة الأطباء وسلوك الطرق الطبيعية للتكسب. فهذا اللون من الإيمان واليقين يعيق تطور المجتمع. لذا تعشعش هذه الأفكار في المجتمعات المتخلفة والشعوب البدائية، وللأسف ما زال شطر كبير من شعوبنا يعتقد بكل هذه الخرافات والأساطير، بينما العالم الغربي يقفز خطوات كبير في عالم السعادة والرفاه. وسلسلة اليقينيات تتناسل في ثقافتنا، لا تنتهي، ولا تقف عند حد، ولعل أخطرها مجال العقيدة والفكر، حينما يعتقد الإنسان أنه على حق مطلقا وغيره على باطل مطلقا. وتارة الباطل يعني الكفر، مما يسمح بتفكير الآخر، وربما استباحة دمه كما يفعل المتطرفون الإسلاميون، من اتباع الحركات التكفيرية)[22]، وباتت (حياتنا حقلا ملغما بيقينيات لا يسمح لك المجتمع بالتشكيك بها، بل ربما يعرضك الشك إلى القتل من قبل المتزمتين)[23].
كما أن هذه الزيادة الهمزية تسلب للوعي الديني وعيه؛ من حيث الوعي الواعي لا يهادن الضلالات الفكرية والعقدية المبنية على مجهول الأصل أو المتناقض مع المتن المقدس القرآن الكريم بصراحة ظاهرة وجلية وصريحة أو يقبل بملتبس الثبوت والدلالة. ولا يقبل كذلك الوعي الواعي بإزاحة العقل وهو مطلب إسلامي بصيغ التفكير والتفكر والتدبر والتعقل، واللب والبصر والبصيرة ... ومبدأ النقد ومنطلق الشك أو الريبة على الأقل في مجال البحث مهما كان موضوعه وقضاياه ومشاكله وإشكالياته، لأن ذلك ضرورة لتعرية الأتربة والأوحال عن الكنوز الأصلية والأصيلة من تراثنا الديني، (والغريب [في هذا السلب] حتى الوقائع التاريخية لا يسمح لك عندنا مقاربتها والبحث عن حقيقتها، وإنما عليك التسليم والإيمان بها مطلقا وفقا لعقيدة العوام. وإلا ستكون خارجا على الدين والمذهب. من هنا تجدنا نتفاخر بأشياء لا نعرف ما هي حقيقتها، ونخشى مقاربتها خوفا من انكشاف زيفها)[24]، من قبيل: حكي عن أحد الصالحين أو العارفين بالله أو رأى في منامه فلانا يقول له أو جاءه في المنام حاملا ... وقارئا عليه السلام ... فتصير رؤيته عقيدة يتعبد بها ويعمل بها شريعة بالناس!؟ فهل الرؤيا المنامية تشكل عقيدة يتعبد بها؟ وتصبح من اليقينيات وتدخل في النص الديني المقدس من قرآن كريم وسنة صحيحة؟ في حين اللاوعي الديني ينكر على بعض الفرق القول والإيمان بالمنامات، ويوردها في سردياته هو باسم أهل السنة والجماعة أو الداعشية!؟ ولعله (من أسباب هذه اليقينيات، إضافة إلى سذاجة الوعي، وسوء الظروف المعاشية والاجتماعية، تراثنا المشحون بروايات عن السلف ترسخ تلك اليقينيات وتمنحها صفة شرعية، يصعب مناقشتها فيسلم لها ويتعبد بها كيقينيات غير قابلة للشك)[25]. وتلك آفة العقل والفكر الحر والناقد، ومكبح لانطلاقه في تفكر وتدبر وتبصر سنن الله التي أودعها في مخلوقاته، (فالبعد الفكري أساس في فكر المسلمين، من حيث وعيهم للحياة، ودورهم على الأرض. فقدم القرآن تصورات كافية، ورسم أهدافا مفتوحة، عززها بمحفزات مادية ومعنوية. فمثلا عندما يقول القرآن {قل سيروا في الأرض فانظروا ...}. والمسير في الأرض مع التفكر، يفتح آفاقا واسعة لحركة العلم والمعرفة. وأيضا الآيات المحفزة هي كثيرة: ألا يتفكرون، ألا يعقلون، ألا يتدبرون ... أو ما يعزز هذا المعنى حث الرسول [صلى الله عليه وآله وسلم] على طلب العلم: {اطلب العلم من المهد إلى اللحد} {اطلب العلم ولو كان في الصين} ... أو آيات العمل الصالح الملازم للإيمان فإنها كثيرة جدا، والعمل الصالح لا ينغلق على موضوع محدد، وإنما ينفتح على كل عمل فيه صلاح للإنسان).[26] فالفكر أساس كل شيء في فكر أستاذنا الجليل ماجد الغرباوي وثقافته الدينية، ومرتكزه إلى المرور إلى تجديد التراث الديني، وإلى النهضة الإسلامية وما تعنيه من مسايرة معطى العصر الحضاري، وإلى التنمية البشرية والحجرية.
وهي الزيادة بالهمزة لخفق ردفا على ما سبق، تفيد في مقامنا هذا كثرة الإخفاق متعدد الوجوه مستخلصة من عنوان المنجز الفكري، والمسجلة في مجالات عديدة، رمزها المعبر عن مجملها عنوانان عريضان هما إخفاقات الوعي الديني والنكوص الحضاري؛ يتقاسمان السبب والنتيجة، بمفهوم المقدمة ونتيجتها؛ فإخفاقات الوعي الديني في المجتمع الإسلامي المرتكز على التراث الديني بحمولته الفكرية والمذهبية والطائفية بقوة، في وجوده ومناشط هذا الوجود، سبب حقيقي لكل الإخفاقات " الإخفاق الفكري، والعملي، والسياسي، والسلوكي، والأخلاقي، والاجتماعي، والثقافي، والاقتصادي، والصناعي، والتكنولوجي، والبيئي، والعمراني، والتدبيري ... " لأنه ينزع من الإنسان وازعه وضميره الإنساني، وروحه السامقة بالقيم والأخلاق، فيستبيح كل المحرمات فضلا عن مكتسبات الحلال، بما يعني الذهاب إلى وجوده المادي بأبعد مدى، لا يهمه من وجوده سوى شيئيته وحاجاتها وحاجياتها ومطالبها الفيزيقية. فيغدو إلى نفي ما جاء من مساحة الوعي[27]، حيث الإخفاقات استطاعت أن تصنع إنسانا جاهلا لذاته ومسؤولياته ... لا يقبل بتداول السلطة سلميا، ولا يتعايش مع الآخر رغم تناظر أو تطابق الثقافات والديانات ... يجيد لغة الخلاف، ويتمتع بعبودية واسعة، في ظلها تنكمش وتضمر إبداعاته على جميع المستويات، ولا يمارس طقوسه الدينية بحرية في ظل عبودية دينية، ولا يعبر عن قناعاته بشفافية ضمن انحصار حرية الرأي والاعتقاد أو انعدامها. كما لا ينجح في استبعاد سلطة مؤسسة حراسة الدين الإسلامي عن ممارسة الوصاية على الأفراد والجماعات والمجتمع، والتحرر من ثقل التراث والماضي والعادات والتقاليد القبلية المكبلة، ويرتكز إلى الجهل والتضليل والشعوذة الفكرية. فتنتفي عنه صفة ومضمون ومفهوم ودلالة الوعي، بما صار إليه في الشرق، حيث نحن في المشرق العربي والإسلامي (ما زلنا نرفض الآخر ونصفه بالكافر و"النجس"، بما في ذلك الآخر الداخلي، أعني المسلم، الذي نختلف معه مذهبيا، فيجيز لنفسه ذبح أخيه، لا لشيء سوى هذا الاختلاف البسيط. وحتى لو اعترفنا بالآخر نعترف به منة وتفضلا، بينما الغرب يعتقد أن الآخر شريك في الحقيقة، فالاعتراف به حقيقي، كما هو الاعتراف بالذات)[28].
ويبقى لما تبقى من معاني زيادة الهمزة حضور في إخفاقات الوعي الديني، من التعريض، وصيرورة مؤسسة حراسة التراث الديني من مشتقات الإخفاق لأنها هي مصدره، وبلوغ الإخفاقات بهذا التخلف والنكوص الحضاري حدا لا يمكن القبول به، وبتنا معه (بحاجة ماسة لمراجعة ثوابتنا ومقولاتنا وتراثنا وفكرنا وثقافتنا، بحثا عن مصادر قوتها وتشخيص نقاط ضعفها. ومطالبون بتجديد رؤيتنا للحياة والموت والآخرة، وعلاقة الإنسان بما حوله. والعودة إلى مصادره وعينا وتفكيرنا، في ضوء الواقع، وتحكيم العقل في قراءة التراث ومصادره)[29].
- ما بين الإخفاق والوعي:
هذه المعاني التي أكسبتها زيادة الهمزة للمدخل المعجمي "خفق" على مستوى سطح تركيب العنوان، يزيدها سيميولوجيا تركيب متناقضين جمالا، ليوحي من خلال الأول نفي الثاني والعكس صحيح؛ ينفي الثاني الأول، وهما:
- إخفاقات؛
- الوعي الديني.
فالإخفاق لا يتماشى مع الوعي الديني، لأن هذا الأخير يرتبط بمفهوم الوعي بشكل عام، وبمفهوم الدين بشكل خاص. فالوعي الديني كاف للكشف عن الواقع الإسلامي المتخلف، من حيث العوامل، والأسباب، والمشاكل، ليقترح مشروع المقاربة والحلول والمعالجة والاستثمار ضمن مطالبها الموضوعية والأداتية عن رشد وبصيرة، وبعلمية ومنهجية منضبطة لأصول مناهج البحث واستراتيجياتها، يكون فيها العقل مدركا وفاهما للوقائع والمعطيات فهما سليما واضحا، ماسكا بها ومحللا لها، عاملا على التواصل المباشر معها. فهو يدركها ويستوعبها ويدرسها لأجل تفكيك إوالياتها، ومعرفة الأمور وحقائقها التي تجري عليها بالبراهين والأدلة والحجج، محاولا إيجاد الحلول المناسبة لها، مما يطور الأفكار ويرصد الحلول الناجحة. فالوعي الديني يمنح الفرد سمته العقلانية، والمجتمع تطوره وتقدمه. ويبني الفرد والمجتمع على أسس دينية صحيحة وعلمية ومعرفية متينة، وعلى أرض صلبة من الأدلة والحجج والوقائع الحقيقية والصحيحة، وعلى إيمان العقلي لا الوراثي. وهذا الوعي الديني بهذا المعطى يشكل ذاتا عارفة بحاثة تقف على دقائق الأمور وتفاصيلها وتسائلها بمبادئ العلم والعقل والخبرة والتجربة، ليكون اشتغالها عقلانيا منظما ومنضبطا لا عشوائيا ارتجاليا أو عاطفيا متسرعا. فتكون الحلول مناسبة للمشاكل والقضايا والإشكاليات المطروحة عليه. ولا يركن إلى الاستسلام للجاهز والمجتر والمتكرر برسم العادة والتقليد، وادعاء الجهل لتبرير الأخطاء على حساب الآخرين أو لقضاء المحرمات بمنطوق ألسنتهم وذمتهم. فذلك منهج المستسلمين والتابعين والمقلدين الذين لا يبذلون الجهد إلا اضطرارا، وإنما كسلهم عندهم أحلى من العسل، في مقابل ألسنتهم الحادة اتجاه نقادهم وخصومهم، برفع لغة تكمم أفواه ناقديهم، وتخنق أصوات المعترضين عليهم، المستنكرين لكسلهم وتعميتهم الحقيقة. خاصة منهم، من يسمون بالمصلحين والتنويريين، بما فيهم من قرآنيين وحداثيين؛ أولئك الذين لا يرومون سوى تجديد التراث الديني بفهوم ومناهج وأدوات ونماذج ومفاهيم جديدة، لتغطي الخطوط الحمر وأسلاك الحدود الشائكة وحراسها وجيوشها وخنادقها وأبراج مراقبتها. ف- (لا شك أن صرامة الأجواء، وكثرة المحرمات والخطوط الحمراء تفرض على المصلحين الحذر في مقاربة كل ما يمت للعقيدة والطقوس بصلة، لذا تجد أكثر المقاربات سطحية تنأى عن الإشكاليات الأكثر عمقا. فمن يروم التجديد عليه أن يضع مصلحة الإسلام والأمة فوق كل شيء. ويتسلح بالعلم والمعرفة، ويقتحم كل ممنوع ومحرم، ويمارس النقد بأقصى مدياته، فلم يعد التمسك بالعادات والتقاليد، والتشبث بالماضي خيارا مقبولا، ونحن أمام مد حضاري هائل على جميع المستويات. وليس من المعقول أن نبقى متفرجين، لا نحرك ساكنا بدعوى القداسة واحترام التراث والسلف الصالح، وأبناؤنا يواجهون شتى الإشكالات، ويتعمق شكهم بدينهم وحضارتهم. وتحاصرنا الشبهات والتهم)[30]. فالوعي الديني المتمسك بالنظر العقلي بمعنى الفلسفة يدفع الإنسان إلى معرفة الحق والحقيقة بطرح سؤال معنى الحياة وحقيقتها ومآلها، وسبل عيشها في سلام وسعادة تحت النقاء الأخلاقي والإيمان الديني بالخالق جل وعلا، وبتوابع الإيمان، التي تسائل الوجود وأشياءه عن علتها ونتائجها، بما يفضي إلى الإيمان العقلي الراسخ في الروح والنفس والجسد، المتحرر من كوابح رفض الآخر، المتعطش للحوار والعيش المشترك ... وعي لا يذهب إلى تكريس التخلف والنكوص الحضاري في المجتمع، ولا يبرر الأخطاء وعوامل الانحطاط، وإنما يناهضها ويحاربها ويعري عليها، ويجدد الرؤى وفق معطيات العصر ومطالبه ومتطلباته، ويعمل على خلق عوامل القوة في الفرد والمجتمع، لا عوامل الاستكانة والبهدلة والدروشة وضعف الشخصية الفردية والجماعية للإنسان المسلم. بل؛ الوعي الديني الحي يحيي الناس والمجتمع ويقودهما إلى نهضة الضمير والإيمان والعمل بدثار القيم والأخلاق الإسلامية النبيلة، والتشريعات والقوانين الشرعية الصحيحة العادلة والبانية والمقتدرة على إحداث التغيير المجتمعي. وبناء عليه؛ وعلى واقعنا المر والهش والمريض بكل الأمراض، وعلى مختلف المستويات والمجالات، وما نحن عليه من وجود وسلوك معتل مختل؛ لا يمكن في هذا الواقع المر أن نسم معرفة مجموعة من الأطر الناظمة الإيمانية والاجتماعية والسياسية والسلوكية المحددة لسلوك الإنسان ومعتقداته في المجتمع الإسلامي، وإيمانه بخالقه وملائكته وكتبه واليوم الآخر بالوعي الديني، ما لم يحدث التغيير والتطور المنشود، ويناسب العصر ويتوافق معه، لأن كل ذلك مناقض لمضمون مفهوم الوعي الديني. وأقرب منه إلى اللاوعي الديني أو الوعي اللاديني، لكي يناسب الإخفاقات. وأما أن ننسب الإخفاق للوعي الديني فذلك خروج أحدهما عن سياق التخلف والانحطاط والنكوص الحضاري، لأن المناسب أن نسم الوعي الديني بالتعثر في مسيرة فهم الدين والواقع والعصر وبناء منظومة القيم والأخلاق والأحكام والقوانين والتشريعات الشرعية والنماذج الإسلامية المناسبة والمتساوقة مع المجتمع الإسلامي الحقيقي، لأن التعثر يقع في سيرورة حدثية عملية مستمرة لا منقطعة كما في الإخفاق. ذلك أن السير يكون قائما قبل العثرة، ثم يقف أثناء العثرة، ليستأنف السير من جديد. لكن في الإخفاق؛ فإننا نتوقف عن السير في نفس المسار، لنحوله إلى مسار آخر أو نعدله بشكل كبير. والمسار هنا لا يقف عند مفهومه المكاني وإنما يتجاوزه إلى دائرة سيميولوجية واسعة، من مسار فكري، ومنهجي، وموضوعي، ومجالي ... والإخفاق يستدعي مراجعة الاختيارات والنظريات والمناهج والأدوات. والإخفاق مدعاة الأمراض النفسية.
وأما الإخفاق بدلالة الكثرة والمبالغة، وبسيميولوجيا عدم قدرة الوعي الديني على استيعاب متغيرات العصر والتكيف معها وإيجاد الحلول والأطروحات المناسبة لها دينيا تأطيرا نظريا، وإجراء تطبيقيا، وحلا لقضاياه ومشاكله وإشكالاته وفق روح الدين الإسلامي. وعجر الفكر الإسلامي بصيغة الأصولية، والسلفية السنية التنظيرية، والإخوانية السياسية؛ المحتكرة للمجال الديني في العالم العربي والإسلامي، والمتحكمة في شعبويته السلبية بالتشريع والفتوى والتثقيف والدعوة وبالنصح والنصيحة ورفع الفضيحة بسيرة السلف الصالح، عن مواكبة معطى الحداثة وما نتج عنها من فكر حر عقلاني علمي، ونظريات مؤطرة ونماذج فكرية عملانية، ومن تحديات داخلية وخارجية في سيرورة تطور المجتمعات الإنسانية ونتائجها، التي غطت العالم كله بسبب التطور التكنولوجي والتقني والرقمي والافتراضي، والعوالم العلمية والإعلامية والبحثية، والوقائع الإجرائية الميدانية. فوقع هذا الفكر الإسلامي بهذه الصيغة في المأزق التاريخي الذي يعيشه المجتمع المسلم من إخفاقات ونكوص حضاري فضلا عن التخلف الفكري والعلمي والتنموي، الذي لم يعد يدري كيف يخرج منها تنظيرا وعمليا وإجرائيا. وهو مازال يروج للأفكار البالية التي غطت العصور الماضية، ومازال لم يمسك بعد بخطاب الحداثة، خطاب ثقافي وديني يربي على قيم الحرية، والديمقراطية، والمواطنة، والفكر العلمي الحر والمستقل، والحوار، وقبول المختلف والمتنوع، والتسامح، والتقاطع، والتكامل، والتعاون، والعيش المشترك، والشريك المختلف في الوطن، وحقوق الإنسان، وحقوق الأقليات، وحقوق الطفل، وحقوق المرأة، والنقد، والإبداع، والاستيعاب ... ويتمدرس عليها الطفل منذ نعومة أظافره حتى تسير من شخصيته الفردية طبعا أكثر من تطبع، ومن مجتمعه سمة وسلوكا جماعيا، واجتماعيا ثقافة وفكرا متداولا، وتسير إلى اللغة الأم المشبعة بحمولة الهوية، وإلى الخطاب اليومي كالغذاء والماء والهواء، مما يستوجب على خطابنا الثقافي والديني أن يستفيد من محصلة العلوم الأخرى، لكي يستطيع مسايرة العصر ومنتوجه الفكري ومنتجاته المادية والتكنولوجية. ولكي يجدد خطابه وفق لغة العصر، فيساهم في إصدار الأحكام بعقلانية، واتخاذ القرارات الناجحة دون الإخفاق في مواجهة متغيرات المجتمعات الإسلامية وضروراتها.
وبما أن الإخفاقات في العادة تتضمن على الغالب فرصا للنجاح إن استقينا معلومات عملية متعلقة بمكامن الإخفاق ودرسناها دراسة علمية ودقيقة ومفيدة، تصبح عامل نجاح وتجاوز الإخفاق بما تمنحه من معالجة للاختلالات والأخطاء والثغرات بشكل أكبر، فهي تساعد على تحسين وتجويد وتطوير الأداء بطريقة أفضل. والإخفاقات تشكل ضرورة وجودية لأهميتها في تعلم الإنسان لما تحمل من أخطاء في القرارات أو القرارات الخاطئة بذاتها أو من تشوش الرؤية والتقدير أو في المعلومة والإحاطة بالمشكل أو من التشخيص أو الأدوات والأطر التي نشتغل بها. وكذا؛ نظرتنا إلى الفشل أنه خطيئة أو بالقبح ... وعدم التعاطي معه من ضرورته الوجودية للتعليم والتعلم والتربية، فضلا عما يحمل من فرص النجاح إن أحسنا قراءته والتعامل مع بنيته ووظيفته في سياق وروده. ما يفقدنا مصدرا للتعلم من تجاربنا غير الناجحة بشكل كاف، ومن خبراتنا ومعرفتنا وإمكانياتنا بشكل واع ومسؤول. فنحن في العموم لا نتعلم من مثيلات إخفاقاتنا التي ارتكبها غيرنا من قبل ووقع فيها، ونحبذ عود على بدء. ولا نستنتج ونستخلص العبر والدروس من إخفاقاتنا وأخطائنا، ونتجاهل الإشارات التي تشير إلى بوادر أخطائنا، ولا نهتم بها، ولا نكلف أنفسنا جهد وعناء التعلم من دروسنا الناجحة، فتجدنا نكرر الإخفاقات؛ فلو لم نكررها لتقدمنا وتقدمت شعوبنا. والإنسان بطبيعته يكره الفشل وينظر إليه سلبيا، خاصة في هذا العصر الذي تعاني فيه الإنسانية من الفشل، في العديد من المستويات والمجالات والقطاعات، أبرزها المستوى الديني والأخلاقي والحقوقي، والعلاقات الاجتماعية البينية، سواء ما ارتبط منها بالعلاقة مع الأسرة أو العائلة أو المجتمع أو تلك المتعلقة ما بين الدول والشعوب والمؤسسات الدولية.
والإخفاق كمضمون سلبي مقابل الوعي الديني كمضمون إيجابي لا يجتمعان ولا ينسجمان إلا في سياق الفعل الإنساني، الذي من طبيعته النقصان، وحينئذ وارد الإخفاق ورودا طبيعيا، لا يمكن القدح به في وجه الوعي الديني. لكن عندما يرتبط الوعي بالدين؛ فهنا، نستحضر ذلك البعد العقلي والأخلاقي في مستوى التفكير والعمل، إذ المسلم المؤمن يتقن عمله؛ لأن الإتقان فريضة شرعية من فروض الكفاية كما جاء في الفقه الإسلامي، وحسب القرآن الكريم ومرويات السنة النبوية الشريفة، فقد قال الله تعالى: (صنع الله الذي أتقن كل شيء)[31]، وهو الجلي تفصيلا للنظر والتفكر والتدبر في قوله تعالى: (ألم نجعل الأرض مهادا، والجبال أوتادا، وخلقناكم أزواجا، وجعلنا نومكم سباتا، وجعلنا الليل لباسا، وجعلنا النهار معاشا، وبنينا فوقكم سبعا شدادا، وجعلنا سراجا وهاجا، وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا، لنخرج به حبا ونباتا، وجنات ألفافا)[32]، فتجلى بذلك صنع الله في كونه وإتقانه لصنعه، الذي أودع فيه كل القوانين الناظمة والحاكمة له وحركته، فأحسن سبحانه وجوده وأتقنه. كما السنة النبوية الشريفة دعت إلى الإتقان؛ ففي حديث عائشة رضي الله عنها عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه)[33]. والإتقان يفيد أن يؤدي العامل عمله دون إخلال به أو خلل فيه، وبجودة تلتزم بمطالبه ومتطلباته، بالتقيد بضوابطه وتقنياته ومنهجيته ومضمونه ومنظومة قيمه وأخلاقه. فقد ورد أن إتقان العمل عبادة، وقيل حكمة: " لا يكفي أن تصنع خبزا؛ فعليك أن تحسن صنعه ". وفي إتقان العمل نجاح المُجتمع الإسلامي على مختلف الأصعدة، وتعزيز قوته وتطوره ونمائه وتنميته، وضمان كفايته من حاجاته واحتياجاته، وارتقاء مستواه الاجتماعي والثقافي والعلمي والفكري والاقتصادي والتكنولوجي والرقمي ... واستمرار حيويته ونشاطه وحركته وأعماله. فالوعي الديني طبيعته الأدائية متقنة لاشتغالها على مجالها، من باب الإخلاص فيه لارتباطه بالضمير الفردي والوازع الديني والمراقبة الداخلية. فالإتقان قيمة من منظومة القيم الإسلامية التي تعتمد على البعدين: الدنيوي بطلب غرض أو تحقيق هدف نفعي دنيوي، والتعبدي بالتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى الذي سيسأل عنه يوم القيامة. وبما أن البعدين الدنيوي والتعبدي قائمان في الفرد والمجتمع، فإن جميع الأعمال والصنائع والحرف والوظائف تستوجب الإتقان، لكي نستغني بأنفسنا عن غيرنا في الاكتفاء الذاتي من المنتجات التي يحتاجها الفرد والمجتمع المسلم، تحقيقا للمصلحة الفردية والمصلحة العامة للجميع.
كما أن الوعي الديني يرفع عنا ترسبات التراث الديني التي حنطتنا في قوالب ماضوية، وحولتنا إلى أفراد ومجتمعات جامدة وساكنة تقتات على موائد ماضيها، حيث (إن تداعيات الجمود على النص، وتقليد السلف، واستفتاء الموتى، راكمت التخلف والانحطاط والتبعية، شعرنا بذلك أم لم نشعر. فعلينا بنهضة حقيقية تبدأ من المنهج في تلقي العلوم، وطرق تلقيها. من المدرسة وطرق التدريس، ننتقل من أسلوب التلقي والإصغاء والإملاء العقيم إلى أسلوب البحث والنقد ومحاكمة الأفكار ... نبدأ من المسجد عندما نجلس نصغي لرجل الدين مأخوذين بما يقوله، تهتز فرائصنا لحكايات لا نعرف عن حقيقتها شيء، أو نشارك من حيث لا نشعر بطقوس وممارسات، تمتص طاقاتنا وثرواتنا، ولا تساهم في إثراء نهضتنا، بل تتحول إلى تحديات، يختلط فيها الديني بالدنيوي، فيصعب معها التمييز، وهذا أحد مكامن الخطر. علينا أن نبدأ من البيت وكيف يتعامل بعضنا مع الأطفال، وأن نكف عن قمعهم بالضرب والصراخ، وأن نحترم إرادتهم، ونجيب على أسئلتهم، وننمي قابلياتهم، ونشجع إبداعاتهم. ونهيئ لهم كل وسائل وتقنيات العصر الحديث بما يناسب أعمارهم. وعلينا احترام الرأي الآخر وعدم مصادرة حقه، وبيان الأسباب الحقيقية وراء كل الظواهر، وأن لا نحيلهم على الغيب ومخلوقات أسطورية خارقة. لكي يتمرنوا على البحث والسؤال، ويلاحقوا الحقيقة أين ما كانت. وما لم تختف مطاهر التخلف، بمعالجات جذرية حقيقية، لا يكتب النجاح لنهضتنا الحضارية المرتقبة. لأنها مظاهر متجذرة، وتشكل عائقا حقيقيا. بل إن اختفاءها يعني بداية النهضة، ويعني أننا وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح. وكلما اختفت ظاهرة كلما سجل المجتمع تطورا ملحوظا. وهذا يتطلب تحولا ثقافيا ومعرفيا، وعليه يجب البدء من الثقافة من أجل وعي جديد للحياة، وعلاقتنا بالماضي والحاضر والمستقبل. ويجب التحرر من كل السلطات التي تعيق حركة الفرد والمجتمع ... الفرد عندنا مشدود إلى الأمام. يتلفت إلى الخلف حتى وهو يمشي إلى الأمام. بينما شروط الحياة تغيرت. ولكل عصر حاجاته ومتطلباته)[34].
- توقعات سطح العنوان:
من خلال سطح العنوان نتوقع أن مضامين تفصيله وتمفصلاته أن تحدد أسباب الإخفاقات وتداعياتها وانعكاساتها على الأفراد والجماعات والمجتمعات، وتطرح البدائل والحلول لمشاكلها وقضاياها وإشكالياتها وتحدياتها ومعيقاتها لتجاوزها بعقلانية وحكمة. وهذا ما جرى بين دفتي الكتاب، حيث أظهر أستاذنا الكريم ماجد الغرباوي في أجوبته عن الأسئلة المطروحة، وهي 26 سؤالا أسباب إخفاقات الوعي الديني والنكوص الحضاري، والتخلف على أكثر من صعيد ومجال، وكيفية مقاربة نتائج تلك الأسباب وطرق معالجتها وتصحيحها. لكن الملاحظ أن تصحيح الفكر يتطلب السنين والعقود العديدة، والجهود الكثيرة، والتضحيات العظيمة والكبيرة؛ لأن تصحيح الفكر ليس كتصحيح الأوراق من حيث الشطب وإعادة الكتابة أو إعادة الرقن. بينما الفكر تبعا لتعدد العقول وطرق واستراتيجيات تفكيرها يصعب تصحيحها بعد تشكيلها. خاصة، والأمر يتعلق بالمسألة الدينية، التي ترتبط عقديا بالتعبد، وبالجزاء والعقاب. يذكيها رجال الدين بالنقل الذي يقدمونه على العقل، ما يجعل العقل أقل مرتبة من النقل، ومشكوك في نتائج اشتغاله؛ ولو كان هذا العقل مدخلا لتصحيح النقل، من حيث نقده والتساؤل عن مدى صحته وكيفية تصحيحه ثم المعالجة والتصحيح والتصويب. مما رهن الفكر للديني للنص التراثي فكانت الخطوط الحمر واللاءات ومحاكم التفتيش الجديدة؛ ذلك (إن ارتهان عقل المسلم للنص مهد لانتشار مختلف الروايات الدينية والتاريخية. وما تشاهده من خراب على مستوى العقيدة والفكر والثقافة والأخلاق سببه الذهنية التراثية التي تجعل النص فوق العقل. المسلم يقمع عقله بالنصوص، ويتخلى عن التفكير تحت وطأة التقديس، والخرافات، ووهم التفوق. فالقطيعة مع التراث شرط لتطور المجتمع حضاريا وفكريا أو يبقى أسير طقوس وأوهام تمتهن كرامته، حينما يلهث وراء الآخر، يحتمي به، ويستدر عواطفه، ويحسب أنه في ظل قوى غيبية تكفلت بحمايته. وبالتالي لا يمكن الاطمئنان لكتب السيرة والتاريخ مطلقا إلا وفق منهج علمي صارم، يعتمد القرائن، والعقل، ويجعل من القرآن شاخصا. فتبقى رواياتها محتملة يتعذر الجزم بصدورها وتطابقها مع الواقع)[35]. فالعقل الذي درج على ثقافة معينة من الصعب إخراجه من تلك الثقافة أو تصحيح هفواته وأخطائه. وأجد شخصيا أن العلاج السلوكي المعرفي" Cognitive Behavioral Therapy/ CBT" هو المناسب من العلاجات النفسية الممكنة لهذه العقلية الإسلامية المريضة، التي يجب عليها أن تدرك الصحيح الإيجابي والخاطئ السلبي من تفكيرها، للنظر إلى مضمون فكرها وناتجه العملي بوضوح، وتستجيب بفعالية لتصحيحه وتجاوز سلبياته. فالعلاج السلوكي المعرفي في هذه الحالة العقلية المرضية وسيلة مفيدة في علاج اضطراباتها وأعراضها المرضية من أجل عودة صحتها العقلية، لكي تتعلم كيفية التفكير والتدين الصحيح، وكيفية التعامل مع مواقف الحياة المختلفة، خاصة ما تعلق منها بمعنى الوجود الإنساني القائم على العقل والدين. فتدرك أفكارها وعواطفها ومشاعرها وأحاسيسها ومعتقداتها حول القضايا والإشكاليات والمشكلات والتحديات والأزمات التي تعيشها أو تعيش في سياقها. فتسلك لمقاربتها مسلك الدراسة والتحليل والمساءلة، والخروج منها ببعد الذات العارفة عن موضوعها، والتروي في شأن اتخاذ القرارات بخصوصها، وتفسير معناها وظلاله بعد تحديد المناطق السلبية في تفكيرها، لتعرف نمط التفكير ونوعه المناسب لها، والسلوك الملتمس لحلها ومعالجتها في ظل مساءلة الذات عن سند التفكير في القضايا والإشكاليات والمشكلات والتحديات والأزمات التي تعيشها، ما بين سند حقيقي مبني على أسس واقعية أو سند تصوري مبني على ارهاصات وتكهنات وتوقعات محتملة أو مبني على الوهم والخيال والأحلام.
فجاء الحوار متوافقا مع المتوقع من حيث رصد مكامن وأسباب إخفاقات الوعي الديني والنكوص الحضاري، وبحمولته الفكرية في مرحلة تاريخية عربية وإسلامية عصيبة وشديدة على الدول والشعوب من حيث برز الإسلام السياسي بشكل واضح وضاغط، احتضانا من الخارج أو من الداخل نتيجة الاستبداد السياسي ونتائجه السلبية على الأفراد والمجتمع. وظهور الجماعات المتطرفة في ساحة الأنظمة السياسية العربية والإسلامية المتخلفة بعنوان "الربيع العربي". خاصة منهم الإسلاميون الذين حشدوا في ربيعهم العربي فقهاء " الثورة " وشيوخ الصحاري والبراري والصبيان للإفتاء بالجهاد في بلاد العرب والمسلمين بدل بلاد الكفر وفق مصطلحاتهم التراثية، ولم يفتوا بجهاد الصهاينة الغاصبين في طوفان الأقصى، وأفتوا بالقتل والنهب والظلم لنظرائهم في الدين والوطن، ولكثرة الجرائم المرتكبة باسم الدين ومن باب الجهاد في حق الأبرياء، وفي حق المنتوج الحضاري العمراني والثقافي والاقتصادي والصناعي والتكنولوجي والتعليمي والتربوي من إبادة معالم التحضر الإنساني فيه، وهدم ما بناه الأجداد والآباء حتى بتنا نسكن الكهوف والمغارات والقبور، و(ما نشاهده اليوم من ممارسات على أيدي ما يسمون بالدولة الإسلامية أو داعش، من سبي النساء غير المسلمات، وقطع الرؤوس بما فيها الرؤوس المسلمة خير شاهد على ما نقول)[36]. ما دفع بالعقول النيرة والمتعقلة والمثقفة والحرة والمستقلة أن تتساءل عما يجري على مستوى الدين والسياسة والاجتماع والتربية والتعليم والثقافة والفكر ومظاهر الحضارة والعمران، وعلى مستوى التغيرات التي تجري في عالمنا العربي تحت اسم " الربيع العربي " الذي جاء حاملا طموحات كبيرة وواعدة وآمالا عديدة في المجال السياسي خصوصا، محمولا على أسلحة المخابرات الأجنبية والأعرابية وأوراقها الديبلوماسية ومساعداتها المادية ودعمها المعنوي والسياسي ومؤسساتها " الإنسانية " التي يقع قلبها على العرب والمسلمين حبا وتضامنا مع مأساتهم! ما ستر السم الذي دس فيها تحت مسميات هم بعيدون عنها كل البعد من الديمقراطية والمساواة والتداول على السلطة وحقوق الأفراد والجماعات تطبيقا في عالمنا العربي والإسلامي، وأقرب منها ثرثرة وخطابات فارغة المعنى والدلالة ... والتحضر الإنساني على الطريقة الغربية، التي دعمت واحتضنت في طوفان الأقصى إبادة الكيان الصهيوني النازي الفاشي الداعشي للفلسطينيين، ودعمت جرائمه بالسلاح والمال والمرتزقة، ودافعت عنه في المحافل الدولية، ومنعت وقف الإبادة والمحرقة الإنسانية في غزة العزة وسائر فلسطين التاريخية. فإذا بالربيع العربي تحول إلى " الصيف العربي " محرقة شمسه في سماء الأعراب الغربان العرب والمسلمين بفتاوي فقهاء البلاط والبنوك النفطية وسماسرة المخابرات، وبيد الجهال وقطاع الطرق الذي شيدوا " بتوبتهم " إلى الله حسب زعمهم دولة إسلامية على منهاج النبوة!؟ تبيد البشر والحجر وتستعبد الرجال وتسترق النساء. مما أثار ويثير مجموعة من علامات الاستفهام في كل الاتجاهات. وهو ما تطلب قراءة نقدية لهذا التراث الديني وخطابه وحمولته الثقافية التي لا محالة أنها تحمل بذور العنف تجاه الآخر نتيجة الفكر التكفيري. ذلك، أنه (اجتاحت العالم العربي والإسلامي في العقد الأخير موجة تكفير، قادتها حركات إسلامية متطرفة، تدعو لقتل الآخر المختلف دينيا ومذهبيا، في ظاهرة مفجعة، عكست انطباعا سلبيا عن الإسلام وتعاليمه)[37]. وهو ما لمسته الورقة في صريح فقرات الكتاب، حيث مثالا لا حصرا في قضية المرأة المسلمة؛ يقول أستاذنا الكبير ماجد الغرباوي توصيفا صريحا ونقدا تصحيحا لواقعها في التراث الديني: (المرأة مقياس تطور المجتمع، وقمعها أحد علامات تخلف المجتمع، حيث تعيش المرأة مسلوبة الإرادة والاختيار، تفرض عليها قيم بائسة، تحرمها أبسط حقوقها، وتقصي قدراتها الخلاقة، فتحرم المجتمع نصفه. [هذا الوضع ناتج عن تراث ديني يحاصر المرأة ويكبل كيانها وحريتها واستقلالها وعقلها وطموحاتها وعطاءها ... فهو منبث سبي النساء واسترقاقهن في سوق نخاسة داعش] بينما تعيش المرأة في الغرب إنسانا كاملا في كل مرافئ الحياة، في الحقوق والواجبات. فالمطلوب تكريس ثقافة تعيد الثقة للمرأة كي تمارس دورها في المجتمع، وتمنحها الثقة لتواصل الحياة عضوا فاعلا ونشطا أسوة بالرجل. خاصة وللمرأة دورها البناء في تربية الجيل، وزرع الثقة فيه. وصدق الشاعر حافظ إبراهيم، حينما قال:
الأم مدرسة إذا أعددتها **** أعددت شعبا طيب الأعراق)[38].
- من مميزات البعد النقدي على مستوى السطح:
ومن خلال السطح نستشف مهارات وقدرات وكفايات التفكير النقدي عند أستاذنا الفاضل ماجد الغرباوي، الذي انفتح على التراث الديني بقراءة نقدية تتميز بما يلي:
- تمييز الحقائق والوقائع التي يمكن إثباتها عمليا؛ "إخفاقات، تداعيات، رفض الآخر، الوصف بالكفر والنجاسة، ذبح الأخ، القهر، الكبت، الحرمان، التبرير، سيادة المنطق الأرسطي، تحويل الصراعات السياسية إلى صراعات دينية، اعتبار المعارضة خروجا عن الدين وسلطته الشرعية، الاستبداد السياسي، الاستبداد الديني، استبداد قيم العشيرة، انعدام الوعي، الاستعمار، التقديس، التقليد، قمع المرأة، فرض الشروط بالسيف والقوة، الاعتقاد بالخرافات والأساطير نتيجة العقل الخرافي، تشويه السمعة، صراع الطوائف الإسلامية، تحطيم أواصر الأمة الواحدة ... ".
- تمييز المعلومات عن الادعاءات والمزاعم التي لا تقف أمام صرامة العقل؛ " المعلومات: الندية في تكافؤ في المقارنة بين وضعين، نحن بدون الغرب كما يقول أدونيس صحراء وجمل، شوهت الحركات الإسلامية المتطرفة سمعتنا وباتت تصدر للعالم أبشع أنواع القتل والإجرام باسم الدين والإسلام، بتنا عيالا مستعمرين من حيث نشعر أو لا نشعر، للغرب وحضارته ... المزاعم: المستشرقون عادة ينكرون ذلك [ تأثير الحضارة الإسلامية في نهضتهم ]، ويعتبرون جذورهم ضاربة في الفكر اليوناني، وما دور المسلمين إلا الوسيط في الترجمة، لكن ماذا ينفع هذا التفاخر [ بجذور الحضارة الغربية في تربة الحضارة الإسلامية ] والغرب الآن يمسك بقبضة التقدم ويتحكم بنا من خلال افتقارنا لأبسط منجزاته!، يستفزنا ويستنزف ثرواتنا ونحن لا حول لنا ولا قوة؟، فالحكم الشرعي بنظرهم يبقى فعليا رغم تبدل ظروف موضوعه والأسباب الموجبة له، الواقع أستاذ سلام يكذب هذا القول، ولديك متسع من الوقت لتجرد كل ما يدور حولك، فهل تجد سوى منجزات غربية أصيلة أو تقليدا لها؟ أعود وأكرر العامل الخارجي أحد الأسباب وليس السبب الوحيد ... ".
- تحديد دقة العبارة، وتعمدت إيرادها في سياق بعده النقدي؛ " فمنذ الصدمة الحضارية ومازلنا عيالا على الحضارة الغربية في كل شيء، نحن بحاجة إلى نموذج حضاري في مقابل النموذج الغربي. نموذج يمثل هويتنا وينافس الآخر حضاريا على المستوى الفكري والثقافي والاقتصادي والعلمي والسياسي، وأساليب العيش، والفن إلى آخره، من يدعي شيئا نطالبه بالدليل كي لا يكذبه الواقع، لكن يجب أن نؤكد أن التأثير لا يعني أن الفكر الإسلامي نسخة طبق الأصل [للفكر اليوناني]، لكن فقهاء السلطة عبأوا الناس للجهاد إرضاء لهوى الخليفة والسلطان، المسلمون الآن لا يتمسكون بحبل القرآن بقدر تمسكهم بأهوائهم ومصالحهم الفئوية والطائفية والسياسية حتى عمدوا إلى تفسير النصوص لصالحها فأفرغت من محتواها وفاعليتها، إضافة إلى ما تقدم من مظاهر التخلف في مجتمعاتنا هناك: عدم الشعور بالمسؤولية، التمرد على القانون، الإسراف، قيم التفاضل في المجتمع القائمة على أسس غير إنسانية ... "[39].
وهناك مهارات وقدرات وكفايات أخرى متعلقة بالبعد النقدي في ثنايا الأجوبة عن الأسئلة المطروحة كتقديم المعلومات بناء على مصداقيتها وثبوتها بالدليل، فمثلا: الاستبداد السياسي في المجتمعات العربية والإسلامية يستقي مصداقيته من واقع حال الشعوب العربية والإسلامية ومظاهر حكامها ملوكا ورؤساء الاستبدادية " الأسلوب القمعي المتمثل في مصادرة الحريات وقمع المعارض، رفض المحاسبة، المالك الحقيقي، قمع المنافسين ... "[40]. وكمعرفته للمزاعم والحجج، في سياق بنية القضايا التي طرحتها الأسئلة، فهو ذهب إلى تحديد الفارق بين الواقع الحالي للحضارة الإسلامية وواقع الحضارة الغربية بناء على حجج ذكرت سابقا، فعيش الأستاذ المفكر العربي ماجد الغرباوي، ومحاوره الأستاذ سلام البهية السماوي في الغرب؛ قدمه حجة على كينونة الفرد في الغرب وكمال حقوقه وحرية ممارسته للطقوس والعادات والتقاليد، والتصريح بقناعاته، وحرية الفعل في حدود القانون وحرية الآخرين. مقابل حججه على معاناة الفرد العربي والمسلم من القهر والكبت والحرمان. وفند مزاعم الغرب بأن الحضارة الإسلامية في بعدها الفلسفي ما هي إلا نسخة يونانية، مقدما منجزات الفلاسفة الكندي وابن سينا وابن رشد الفلسفية حجة على تميز الفلسفة الإسلامية بطابعها الإسلامي الخالص. وهو بذلك وظف مهاراته النقدية في تحديد قوة برهانه وحجاجه تجاه هذا الزعم. فذكر الأعلام الفلاسفة السابقين برهانا قويا على تأثير الفلسفة الإسلامية في الغرب، فضلا عن قوة حجاجه بخصوص تميز الفلسفة الإسلامية عن اليونانية بطبيعتها وخصوصيتها الإسلامية. كما أنه استشف سبيل الحل لواقعنا الإسلامي الإشكالي من خلال أطروحاته المتعددة بوجوب نفي ما نعانيه من أزمات فكرية وعملية، من حيث (ما لم تختف مطاهر التخلف، بمعالجات جذرية حقيقية، لا يكتب النجاح لنهضتنا الحضارية المرتقبة)[41].
والبعد النقدي في هذا المنجز حوارا، تجلت بعض مميزات فكر مفكرنا التنويري ماجد الغرباوي بما فيه من نقد؛ في:
*متسع فكره الموسوعي وشموليته بتماس دائم بقضايا الأمة العربية والإسلامية بجناحيها المسيحي والإسلامي. ففي جناحيها يهتم بالعلاقة بينهما من حيث انعكاس الفكر الإسلامي خاصة منه التكفيري على المسيحي العربي وامتداده الأجنبي، وكيفية تحطيم تمثله وتصوره عن المسلم المتعصب والمتطرف الذي خلق في نفسيته فوبيا الإسلام، بما هو الإسلام دين ذبح وسلخ وتفجير وقتل وسبي وجرائم. وقد (عزز هذا اللون من الفكر فتاوى دينية استباحت قتل الآخر، وهتك حرمته. وهو نمط سلوك عدواني تسبب في تراجع الفعل الحضاري، وانتكاسة كل الجهود المكرسة له. حتى بات الغرب يساوي بين المسلم والإرهابي. وللأسف تفاقمت الحالة مع تراجع الوعي)[42] و(صيروا من الغرب عدوا عبأوا كل طاقاتهم لمحاربته، وبث الرعب في قلوب شعوبهم. فصار المسلم في نظرهم يساوي الإرهابي، والقاتل، والمعتدي، فانعكس سلبا على علاقتهم بنا، خاصة الجاليات المسلمة في الغرب. فضحينا بسمعتنا لصالح فهم مبتسر للدين ونصوصه المقدسة. فهم بات عبئا ثقيلا يتناسل بسرعة فائقة، رغم جهود حثيثة تبذل لتطويقه، وتفنيد أدلته)[43]. وهو من باب استخلاف الله تعالى الإنسان في الأرض يجد أن الدين الإسلامي هو للاستخلاف والإعمار، والاستخلاف يقتضي علاقة واعية ومتفهمة وسليمة مع مكونات الكون بما فيها من مخلوقات، وهي العلاقة التي حددها القرآن في أكثر من آية. والإعمار يقتضي تعمير الكون على أساس إيماني وأخلاقي حتى ينضبط العمل بما يحقق مصالح مكونات الكون. وقد دلت الآيات على ذلك (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)[44]. فيما ينفتح الاستخلاف والإعمار على (العمل الصالح الملازم للإيمان ... لا ينغلق على موضوع محدد، وإنما ينفتح على كل عمل فيه صلاح للإنسان)[45]؛ وبهذا يردم المسلم الهوة بينه وبين الآخر لأنه يستهدف منفعته، وهو نظيره في الدنيا.
وأما في الجناح الإسلامي فهو متخصص في علوم الشريعة والعلوم الإسلامية، مهتم بنقد الفكر الديني المنعكس بصيغته التقليدية وجموده النقلي ومسلكه التقليدي - نسبة إلى التقليد - سلبا على قضايا العصر من التسامح، والعنف، والحركات الإسلامية، والمرأة، والتنوير، والتقدم الحضاري وما يطرح من قضايا مستجدة كالتبرع بالأعضاء وزراعتها، والاستنساخ، وإعارة الرحم، والتلقيح الخارجي، وتعديل الجينات/الكروموسومات/الصبغيات، والهندسة الوراثية بصفة عامة، الذكاء الاصطناعي، الزواج الإلكتروني أو الرقمي، وأطفال الأنابيب ... يطرح رؤيته الواضحة والشفافة في الأسباب والمقاربة والتطبيق والممارسة تحت منطق التحليل العلمي وأدواته ومناهجه، (في سياق فهم جديد للدين يرتكز للعقل ومحورية الإنسان. والتأكيد على حريته وكرامته وقدرته على الاختيار وفق مقتضيات الحكمة. بعد بلورة معنى جديد للقداسة)[46].
*عمق تفكيره وفكره؛ حيث المطلع على هذا المنجز الحواري يقف على نظرته العميقة لما طرح عليه من أسئلة في مجالي إخفاقات الوعي الديني والنكوص الحضاري، بما يدل مرة أخرى على موسوعية ثقافته الدينية والفكرية، التي أسعفته في عرض الموضوعات بشكل مختصر ومركز ودال، وعميق يمس مركزية القضايا والمشاكل والإشكاليات المطروحة. ولا يلامسها سطحيا. وإنما يبئر عدسته الفكرية والنقدية المجهرية على نواة الموضوع، مقدما وصفا وتحليلا له مقابل ما يقتضي حاله من مقترحات المقاربة والمعالجة. ولتكن هذه الرؤية الثاقبة دليلنا الذي نقدمه بين أيدينا لما قلناه؛ فقد قال في سياق الرد عن سؤال في سياق الحديث عن التطرف الديني وبجرأة الناقد الذي لا يخاف لومة لائم في الله: " وهل يصدق هذا على الخلفاء الأربعة؟ وأنت تعلم جيدا مكانتهم وقربهم من الرسول؟ " ردفا على سؤاله السابق الموضح للمجهول الوارد في تابعه ولاحقه [هذا]: " هل هناك جذور لهذا الفهم المتطرف؟ ولماذا اعتاد بعض المسلمين على إشهار السيف بوجه معارضيه؟ "[47]: (أول خطأ ارتكبه الحاكم الإسلامي كان حروب الردة، بقيادة أبي بكر الصديق، حيث اعترض عليها عمر ابن الخطاب، وطالب بمعاقبة خالد بن الوليد. وشاح عنها وجه علي بن أبي طالب. والقوم لم يرتدوا، وإنما رفضوا خلافة أبي بكر التي لم تتم بطريقة سليمة، ولم يجمع عليها المسلمون، أو كما قال عمر: إنها فلتة، وخطأ حصل. فجمعوا زكاتهم ووزعوها على فقرائهم، ولم يسلموها للخليفة. فلم يرتدوا، ولم يتخلفوا عن إقامة الصلاة، وظلوا يشهدون أن لا إله إلا الله حتى حينما قاتلهم جيش الخليفة. وهذا أول تأسيس للعدوان بعد رسول الله، واستمر الخلفاء ومن جاء بعدهم، ثم السلاطين، يستبيحون كل شيء باسم الدين والإسلام. أما لماذا لم نفكر بحجم تداعيات ما يسمى بالفتوحات الإسلامية؟ لماذا لم نفكر بحجم ما اقترف الخلفاء والولاة باسم الشرعية الدينية؟ الحجاج يقتل 120 ألفا من العراقيين. والعباسيون يقتلون 50 ألفا من الشاميين، وماذا عن معاوية، ويزيد الذي تجرأ على قتل ابن بنت رسول الله، الحسين بن علي. تاريخنا مأساة لا مثيل لها لأنها جرت باسم العدالة والدين والتشريع. ومازال القتل يقطع رقابنا باسم الدين وتأسيا بسيرة الخلفاء والسلاطين للأسف الشديد)[48] و(اقترف الفقهاء جريمة كبرى عندما حولوا الصراعات السياسية إلى صراعات دينية، فبرروا قتل المعارضة باعتبارها خروجا على الدين وسلطته الشرعية)[49]. فقراءته التاريخية هذه لواقعة حروب الردة مثلا تتسم بالتحليل والتوليد في الآن ذاته، من حيث حلل الواقعة ليولد منها حكمه عليها بالخطأ. وهو في رأيي البسيط - أي تحول ما هو سياسي إلى ما هو ديني، وتحويل الاجتهاد إلى الاعتقاد - عين الخطأ ومنبع الصراع بين المسلمين إلى يومنا هذا، حين انتفى الإجماع عن خلافة أبي بكر الصديق، وحين تحول السياسي إلى الديني، وتحول الديني التراثي إلى الديني المقدس المتعبد به. فتلك أكبر مصيبة ابتلي بها المسلمون، تساعد كل من أراد شق صفوفهم من دول واستخباراتها، ومن فرق دينية وسياسية وثقافية، وأحزاب سياسية، وطبقات اجتماعية أو عرقية. يسهل مهامهم انعدام الوعي والجهل في عالمهم العربي والإسلامي.
والعمق في الرؤية والاشتغال هو ما تجده في منجزه الفكري الجمعي دون استثناء، في إطار التفكير النقدي، والقراءة المتبصرة التي تقف على مناطق النقد ودلالة كلماته وألفاظه وأسلوبه، ومنبع التساؤل أصل التفكير النقدي ونواة تشكيل الوعي والرأي الآخر وتعدد الرؤى والاتجاهات؛ بما يغني المشهد الفكري ويثريه لديه، ويدفع القارئ إلى الاسترسال في القراءة بمصاحبة قلم الرصاص لتدوين الملاحظة والخلاصات والاستنتاجات والتفردات الفكرية. ومنه؛ يستدعي عمق الرؤية إطلالة وجيزة على مقاربة التفكير النقدي فلسفيا وعمليا في الفكر الديني الإسلامي، النص والحواشي والشروح، بما يعري بأدوات الجراحة العقلية على المستور منه، المحرم والمقدس الذي لا يأتيه الباطل كأنه قرآن كريم. ففي معرض إجابته - حفظه الله تعالى - عن السؤال 25 من إخفاقات الوعي الديني: هل هناك جدوى من التجديد كشرط لنهوضنا الحضاري؟ ولماذا يستفز مفهوم التجديد رجل الدين بشكل خاص؟ نلمس عمق التحليل المفضي إلى الإقناع بجدوى التجديد الديني عبر المعطيات التالي:
- التجديد ضرورة في إطار تطور العالم ومكوناته ومتطلباتها وحاجياتها وحاجاتها؛
- التجديد مستفز لما يرمز إليه من نقد ومساءلة ومسؤولية؛
- التجديد مظنة اتهام مؤسسات رجال الدين وانتقاد فكرهم؛
- التجديد مدعاة تمحيص التراث ومراجعة الثوابت المقولات العقدية؛
- التجديد خطر داهم للمؤسسة الدينية ورجالها؛
- الانفتاح على حضارة الغرب من خلال وسائل الاتصال الحديث.
التي شكلت وأطروحاته الفكرية في مؤلفاته المختلفة - في رأيي المتواضع - الهيكل المقالي لإجابته، حيث أفاد أن (التجديد ضرورة منبثقة عن حركة الأشياء، من أجل مواكبة حاجات الإنسان، والاستجابة لتطلعاته. إلا أن الدعوة له دعوة استفزازية، تثير حفيظة رجال الدين، وربما اشمئزازهم، لأنها تنطوي على اتهام مؤسساتهم، وانتقاد فكرهم، ودعوة صريحة لتمحيص التراث ومراجعة الثوابت، بل جميع المقولات العقدية، وهو خطر فادح على مستقبل المؤسسة ورجالها، لذا تستميت في الدفاع عن قيمها، وتتصدى لكل دعوات التجديد. وتسعى لإحباط أي مشروح إصلاحي بكل الوسائل، وتشن هجوما كاسحا ضد المصلحين والمجددين، يصل حد القذف والاتهام والتحريض والتسقيط. لكن رغم كل الإجراءات التعسفية، تواصلت دعوات الإصلاح، ومازالت هناك أصوات عالية تدعو للتجديد، وتراهن على وعي الشعوب، خاصة جيل الشباب، الذي بدأ ينفتح عبر وسائل الاتصال الحديث على حضارة الغرب، ويرى مستوى التطور والتقدم، فيتشجع على المراجعة والسؤال وطرح الإشكالات والتشكيك بكل ما يحيط به. والتجديد الحقيقي سيقع على عاتق هؤلاء بعد أن يتطور وعيهم، وتتعمق رؤيتهم للكون والحياة، ويكتشفون بأنفسهم، مدى الفارق الحضاري بينهم وبين الآخر الذي كان يقتات يوما ما على منتجهم الفكري والثقافي والعلمي)[50]. وهو بذلك يدعو إلى تحطيم المقدس بالانتقال به؛ من العاطفة والحساسية إلى العقل، ومن غموض المرجعية وتشويش الرؤية إلى وضوح المفهوم والطريق والمنهج. ويعيد ما هو منزه إلى ما هو عليه بطبيعته، وما هو غير منزه إلى ما هو عليه بطبيعته الأصلية التي طرأ عليها التغير بتراكم رواسب التاريخ عليها. بمعنى آخر؛ يعيد القول المقدس إلى قدسيته، والقول غير المقدس/البشري إلى بشريته، وينزع عنه تلك القداسة التي هالته، والحرمة التي أضفيت عليه لإزاحة الاقتراب منه بمشرط النقد.
وفي إطار هذا العمق وموسوعية المعرفة نكتشف باقي مميزات بعده النقدي الذي يجتمع والبعد الأخلاقي والقيمي، فيضفي لصالحه مزيدا من النجاعة للوعي والتجديد والتغيير والتطور، وبناء المجتمع الإنساني بما فيه من أفراد وجماعات ومؤسسات على أسس دينية متينة وفاعلة. فنجد فيه - أي البعد النقدي - الوضوح من حيث تبيان مفكرنا حفظه رب العالمين لأفكاره ورؤاه ومسلكياته المنهجية والعملية بوضوح القادر على تقديمها بمنهجية منطقية، تعتمد على تحديد المقصود بها وتعيين الأهداف والمقاصد منها مع تقديم الأدلة والحجج كما مر معنا. التي يوفر لها دقة صدقها للتأكد منها صحة وزيفا. فهو هنا أقرب إلى المنهج الإحصائي والمنهج العلمي التجريبي. وهو بذلك يحكم معطياته بصرامة تحديد وتعيين المفاهيم والمصطلحات والتعريفات والوقائع والأحداث والسرديات والمعلومات والحقائق والآراء؛ مما يربط المعطى البحثي " إخفاقات الوعي الديني والنكوص الحضاري " بمغزاه عبر خيطه الناظم الأفكار والمعلومات والحقائق والمسلك المنهجي الذي يبلور صوره بوضوح وشفافية وحتى بالدقة المطلوبة والمرجوة، فيصير إلى طرح المخارج والمخرجات تحت سقف إسهامها في الحلول والمعالجة، والتأثير نحو الخروج من الإخفاق والنكوص إلى التجديد والتطور واللحاق بالحضارة الإنسانية العالمية. وأخذ العضوية في مؤسستها العلمية والأخلاقية والحقوقية. فالناظر في جوابه السابق يقف عند اتساق أفكاره وسلاسة أسلوبه الذي يجذبك للاسترسال في القراءة، بل الدراسة، بمنطق الترابط بين الأفكار بروابط عضوية، وترتيبها حسب أولوياتها وأهميتها وجدواها، فتأبى إلا أن تضعك على محك اختبارها على مستوى الصحة والخطأ بنقد النقد، الذي تلمسه في فتح منافذ القراءة الناقدة المحمولة على مفهوم نقد النقد. وأجده - حفظه الله - من كتاباته مفكرا ناقدا صريحا جريئا، يطرح أفكاره ويفصح عن معتقداته بكل التجلي والوضوح، لا يخاف في الله لومة لائم مهما كان وأنا كان، في استقلالية فكره وحريته ونزاهته العلمية، مدركا لمعرفته وحدودها وامتداداتها وأثرها وتأثيرها في القارئ مقارنة مع غيره، متواضعا فكريا، ينحو إلى الإجابة عن الكتاب والقراء والمعلقين إلى التواضع واحترام الآخر ورأيه المختلف. ولعل التعليقات والشهادات المرفقة بمنجز موضوعه، تبين هذا التواضع (لا أجد سوى الصمت وأنا أصغي مبهورا بشهادتك، لأنها شهادة خبير، قادر على تمييز الفكر بحكم تخصصه كباحث ومفكر تنويري، طالما تابعت كتاباته وقدرته على التحليل والتشخيص، شهادة أعتز بها وأفتخر بها وساما، أفرحني رضاك بهذا الوعي والتفاعل مع مفاصل الحوار، كل التقدير والاحترام مع خالص محبتي)[51]. وتظهر شموخ عالم متواضع يصادق على ما درج عليه العلماء من قول: " كلما ازداد المرء علما كلما ازداد تواضعا "، وتجلي عطفه وحنانه على الغير؛ ولعل مسعاه إلى هدم الهوة بيننا وبين الآخر المختلف عنا دينا أو مذهبا أو جنسا أو حضارة أو لغة دليل على هذا الخلق الكريم والقيمة الإنسانية التي قلما تجدها عند التراثيين الأصوليين المتعصبين المنغلقين الذين يصفون خصومهم بأبغض الألفاظ وأمقتها وانحطاطها، والتي لا تعبر عن أخلاق العالم والعلم. ولهذا جذور في ثقافتهم. فهو في رده على تعليق الدكتور عدنان عويد السابق، يدلي بسمة جليلة تتساوق مع سمة التواضع، وهي التكامل المعرفي مع الآخر للاستفادة من تجربته وخبرته وعلمه ومعرفته وقدراته ومهاراته " طالما تابعت كتاباته وقدرته على التحليل والتشخيص ".
فأستاذنا الكريم ماجد الغرباوي، يريدنا في البعد النقدي للتراث الديني من خلال العنوان الحالي " إخفاقات الوعي الديني حوارا " أن نخرج من دائرة:
- الفكر الديني الأحادي الذي يرى بعين واحدة، ومن زاوية واحدة الأمور والأحداث، فيغلق منافد الرؤي الأخرى بالعيون المتعددة؛ (للأسف مازالت الأرضية غير مؤهلة لاحتضان الآخر)[52]. و(سلسلة اليقينيات تتناسل في ثقافتنا، لا تنتهي، ولا تقف عند حد، ولعل أخطرها مجال العقيدة والفكر، حينما يعتقد الإنسان أنه على حق مطلقا وغيره على باطل مطلقا، وتارة الباطل يعني الكفر، مما يسمح بتكفير الآخر)[53].
- ردة الفعل التي تسيطر على فكرنا الديني، لا المبادرة والاستشراف في الرؤية والتفكير؛ (لكن ماذا ينفع هذا التفاخر والغرب الآن يمسك بقبضة التقدم ويتحكم بنا من خلال افتقارنا لأبسط منجزاته!)[54]. وكل منجزات الغرب نحاول أن نرجعها إلى الحضارة الإسلامية بالمطلق كرد فعل على تقدمه وتخلفنا؛ (بتنا بحاجة ماسة أكثر من قبل للمكاشفة والصراحة، وواقعنا المزري يفرض علينا هذا الموقف مهما كان حجم التضحية وردة الفعل)[55].
- الخمول والتقاعس والكسل في مقاربة التراث الديني والتفكير الديني ومساءلته ومشاكسته بدل الرضا بأول الحلول والاقتراحات دون باقيها؛ (لذا يجد أكثر المقاربات سطحية تنأى عن الإشكاليات الأكثر عمقا)[56]. و( بالفعل ثروات المنطقة دفعت باتجاه التكاسل، والاتكال عليها بدلا من تطوير الذات وخلق عالم جديد، فكان وعيا سقيما مهد لطعننا من الخلف، وجعلنا في تراجع مستمر كما تفضلت، وهذه بتقدير نقطة مهمة تضاف إلى النقاط الأخرى)[57] ف- " العناد، الجهل، الإيمان بمفاهيم جاهزة ثابتة لا تتغير بتغير الحال، فكر البدوي، الاتكالية وعدم الرغبة بالبحث عن سلالم الارتقاء بالإنسان، والبقاء في دائرة الاسترخاء "[58]، كلها من الفكر الديني التراثي المقلد القائم على سيادة النص الهامشي الشارح للمتن، المثقل بسلطة السلف الصالح المستمرة فينا المتحكمة بشؤوننا، وسطوة الإجماع الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وإن كان فيه وجهة نظر. المكبل بأصفاد السياسة والمصالح والغرائز والهوى إلى يومنا هذا، يدور دوران السلطة؛ انغلقت وتحجرت انغلق وتحجر، وإن إن انفتحت انفتح؟! المشبع بالعنف والتكفير والقتل جلبا للديمقراطية في بلداننا، والبارحة لطاعة الحاكم وإن كان ظالما ...؟، والدوران مع المنافع والمصالح والرغبات والطلبات دوران عقارب الساعة، والغارق في سبات الماضي؛ لا يمكنه إلا أن يكون فكرا مسترخيا كسولا، مستقيلا من التفكير نظرا وقراءة ونقدا وإبداعا، جالسا على الأريكة يضع رجلا فوق أخرى ويتفرج على تفكير العقل الآخر ومنجزاته، تارة يحللها وأخرى يحرمها، فهو في انحدار إلى أسفل القاع، بقتلنا بحروبه وإرهابه وتكفيره. وينأى بنا عن التغير والتقدم بما أخرنا عن ركب العلم والتكنولوجيا والصناعة والمخترعات والإبداعات التقنية والرقمية، وأضعفنا أمام الغير وخصومنا، وعرض ثرواتنا للنهب والتبديد من قبل سلطات عربية وإسلامية ضعيفة وهزيلة، لم نقو على مواجهتها، فخضعنا لرغباتها وطلباتها. وهو الأمر الذي سجله أستاذنا الجليل ماجد الغرباوي في رده على تعليق الشاعر والقاص والناقد الأستاذ حسن البصام حين قال: (أراك وضعت أصبعك على نقطة مهمة، بالفعل ثروات المنطقة دفعت باتجاه التكاسل، والاتكال عليها بدلا من تطوير الذات وخلق عالم جديد، فكان وعيا سقيما مهد لطعننا من الخلف، وجعلنا في تراجع مستمر كما تفضلت، وهذه بتقديري نقطة مهمة تضاف إلى النقاط الأخرى)[59].
- القدسية والتقليد اللذان يقيدان الفكر والفكر الديني من الانطلاق نحو الآفاق الواسعة من التطور والتحضر والتمدن، ومن العلم والمعرفة؛ (ابتلي المسلمون والعرب خاصة بنزعة تقديسية باعدت بينهم وبين الحقائق ...)[60]. و(صفة أخرى ابتلي بها المسلمون ... الحاضر يقلد الماضي في كل شيء)[61].
- االيقينية المطلقة في التراث الديني من خارج العقلنة، التي ترتكز على الموروث القولي الديني تحت سقف الإجماع رغم أن الإجماع فيه وجهة نظر؛ فهو حجة عند الإمام مالك وغيره، وسلك مسلكه الفقهاء والعلماء والشيوخ الورثة للدين. ومعطى احتمالية عدم الإجماع بمعنى الاختلاف طبيعة الحياة الإنسانية، من حيث إمكانية الاختلاف لا الائتلاف بين الناس، سيرا وموافقة لسنة الله تعالى في خلقه، التي تطبع الحياة الإنسانية بالاختلاف نتيجة تنوع وتعدد الأفكار والتفكير، وزاويا الرؤية، ومتطلباتها ووسائلها وكيفياتها ومناهجها ومسالكها، وتنوع مسالك المعيشة بين الناس ... وغيره من مظاهر الاختلاف في الحياة. فقد قال رب العالمين جل وعلا: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين)[62]؛ وقد (أفرز لنا اليقين السلبي نمطا من السلوك، أرهق وعي الفرد والمجتمع ... ولعل من أسباب هذه اليقينيات، إضافة إلى سذاجة الوعي، وسوء الظروف المعاشية والاجتماعية، تراثنا المشحون بروايات عن السلف ترسخ تلك اليقينيات وتمنحها صفة شرعية، يصعب مناقشتها فيسلم لها ويتعبد بها كيقينيات غير قابلة للشك)[63].
- الفكر النقلي الذي لم يجسر ذاته بالتفكير التجريدي، الأداة لصورنة الواقع بالمفاهيم تجريدية، تبني نماذج فكرية قابلة للتطور والتجديد. بعدها الفلسفي يغطي ما لم يستوعبه الفكر النقلي من منقولات الواقع إلى العقل، ومنقولات العقل إلى الواقع. لذا وجدنا (فهم النص ضمن الإطار العام للقرآن ولغته ورمزيته وتعاليه وقصديته، لا خارجه. وهذا لا يحد من حرية الباحث بل يمهد لقراءة منتجة في ضوء منطقه الداخلي، فعندما يأمر القرآن برد المتشابه إلى المحكم من الآيات فهو يعترف ضمنا بعجز اللغة الدينية عن استيعاب المعاني المفارقة، فتأتي النصوص متشابهة، وليس أمام الباحث سوى الآيات المحكمة لاستنطاقها، تفاديا لأي تعارض بحكم التعارض القائم بين ظواهر الآيات، كما بالنسبة للآيات التي تجسم الخالق مثلا، فتعكس صورة لجبار متغطرس، تشبيها بجبابرة الأرض، بينما الآية المحكمة تقول ليس كمثله شيء!، وحينما نرتكز لها نفهم أننا أمام آيات متشابهة فرضتها ضرورة اللغة الدينية لتقريب معنى مجرد لذهن بشري مادي، لا يدرك معاني الأشياء بعيدا عن مصاديقها المادية أو تمثلاتها بينما يعجز عن إدراك القضايا الماورائية. فاشتراط التقيد بالمنطق القرآني ينير الفضاء المعرفي للباحث الموضوعي)[64]. الفكر النقلي الذي حصر الواقع في ماضوية لا تتحرك إلا على سحب الحاضر إلى الماضي أو إحلال الماضي في الحاضر، وثباتها على أحداث ووقائع ورؤى تاريخية محددة، يقيس العقل النقلي بها كل شيء محدث. ينافح عن ذاته بقمع كل أنواع التفكير؛ (إن تداعيات الجمود على النص، وتقليد السلف، واستفتاء الموتى، راكمت التخلف والانحطاط والتبعية)[65].
- الفكر التجزيئي الذي يتعاطى مع تفاصيل الأشياء دون وضعها في إطار أشمل، بمعنى وضعها في إطار منظومي نسقي؛ بمعنى الاشتغال بالتفكير المنظومة. نسق مكوناته تتفاعل فيما بينها تأثيرا وتأثرا، ويستحضر بعضها الآخر لاستكمال اشتغاله ... (كما هو دأب العقل التراثي الذي يهتم بجزئيات لا علاقة لها بجوهر الأشياء)[66]. ما يفقده الرؤية الشمولية في مقاربته وربط الجزئيات بإطارها العام. فمعظم الفتاوي هي فتوى بخصوص نوازل منعزلة عن سياقها العام الاجتماعي والثقافي والسياسي ...؛ لذا نقيس الحاضر على الماضي. فمثلا: قضية المرأة في المجتمع الإسلامي نقيس حاضرها بماضيها عبر أحكام وفتاوى فقهية تاريخية لها مسوغاتها ومسبباتها، ليست حتما متشابهة بالراهنة منها، ولا في سياقها. ولا هي في جزئياتها وعمومها شبيهة بالتي حاصلة الآن، فظروف المجتمع الآن غير ظروفه في الماضي، ومتطلباته الحالية غير متطلباته الماضية ... وهكذا؛ نأزم المأزوم أصلا، ونزيده بؤسا ومعاناة. (المرأة مقياس تطور المجتمع، وقمعها أحد علامات تخلف المجتمع، حيث تعيش المرأة مسلوبة الإرادة والاختيار، تفرض عليها قيم بائسة، تحرمها أبسط حقوقها، وتقصي قدراتها الخلاقة، فتحرم المجتمع نصفه)[67].
- فكر ديني معتل بثقافة القبيلة والإثنية والمذهبية والطائفية؛ بمعنى فكر يفرق أكثر مما يجمع خلافا لأصله العقدي ({واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} ... وجذر من تمزقهم وتنازعهم: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم})[68]. وهنا لابد من تسجيل أن هذا الفكر هو الملائم لأعداء الأمة لبث التفرقة بين أفرادها وشعوبها؛ لأن طبيعته قابلة لتبني عوامل التفرقة والتمزيق في بنيته العقدية. وهو ما يتجلى في فتاوي التكفير للمخالف المذهبي والطائفي، حتى صار إلى دعوة الأعداء لشن الحروب على بعضنا البعض؟! وكأننا لسنا من أمة مسلمة واحدة، و(نحن متفرقون منذ الوجود وإن اختراقنا كان سهلا جدا ومازال واختراقنا هي تبعيتنا)[69] وهو ما يحول وعوامل أخرى دون اتحاد الدول العربية والإسلامية ووحدتهم. (فالقرآن من حيث المبدأ قادر على تماسك الجماعة المسلمة، بمعنى أنه قادر على تأسيس وعي كامل لمسألة وحدة المسلمين، من خلال حثه على الأخوة، والإيثار، والتسامح، والعطاء، إلى آخره، وكلها عناصر تساهم في وحدتهم)[70]. لكن الفكر الديني التراثي القبلي المذهبي الطائفي يلغي من قاموسه هذا المبدأ، ويجعل المسلمين طوائف متحاربة فيما بينها. ف- (داعش وأخواتها كفيلة بتفتينا. بل إن الصراع بين الطوائف الإسلامية الذي يتجلى بأشكال مختلفة، وعلى جميع المستويات، ظاهرا مرة وأخرى مستترا كفيل بتحطيم أواصر الأمة الواحدة، وبالتالي القضاء عليها. مرعب حجم التنابذ والتكفير الذي يصل حد استباحة الدماء، لا أستثني أحدا، ومآل خطير)[71].
- الفكر المغالي والمبالغ في مذهبه ومعتقده وطريقته؛ من أنه نجح (في ترسيخ بديهيات عقيدية، من خلال منهج مراوغ، يعتمد الاستدلالات الساذجة، ويستغل رثاثة الوعي، وانحطاط الثقافة، والبيئة المثيولوجية، فيشاغل وعي المتلقي بمضامين غرائبية خرافية عن الرموز الدينية، يغفلون معها سؤال الحقيقة. أي السؤال عن ذات الرمز وحقيقته قبل الحديث عن خصائصه ومعجزاته وكرامته. فعندما يشاغل النص الوعي الرث بأحاديث خارقة، مذهلة، غرائبية لا يلتفت لسؤال الحقيقة، بل تصبح لديه منظومة بديهيات، ومبادئ عقيدية مسلمة، تندرج ضمن اللامفكر فيه، والمقدس، الذي يحرم مقاربته، فضلا عن نقده. هذه البديهيات هي التي تمرر روايات الغلو، لتراكم مزيدا من المعرفة المشوهة، العقيمة. فلا دليل على أسطرة الرمز الديني سوى النص ومنطقه ومراوغاته وأدائه، وقدرته في التشويش، وتوجيه العقل الجمعي، المفجوع بوعيه. خطاب الغلو لا ينتج معرفة، بل يؤسس للخرافة واستعباد العقل والمنطق. فهو خطاب مغلق، دائري، يتحرك داخل مداراته، بين الرمز ومضامين النص. يجب الإشارة إلى مراوغات خطاب التقديس والخطاب التنزيهي الذي يلعب دورا هو الآخر في ترسيخ جملة بديهيات عقيدية، كانت قد انبثقت في بيئة خرافية، ثم ترسخت تحت فعل التلقين والتربية والتثقيف، وخطاب التقديس يتخفى بظل الأوصاف الأسطورية، والمبالغات التقديسية، ويحقق ما يريد، من خلال سلطته حينما يتمركز في اللاوعي. فقيمة النقد ليس في تناول ما يقوله النص ظاهرا، بل باستدعاء ما لا يبوح به، ويسعى لتمريره دون التصريح به، من خلال قوة أدائه وبلاغته. وقمة وعي الفرد في قدرته على إعادة تشكيل العقل وفقا لسؤال الحقيقة عن ذات البديهيات العقيدية، وصفاتها، وخصائصها، وبشريتها، وليس النقد انشغالا بظاهر النص، وما يبوح ويتجاهر به، فهذا ليس نقدا عقليا وفلسفيا، ولا يمثل منهج التفكيكي والتحليلي. ولا يصدق أنه حرث وتنقيب في أعماق النص. فالنقد مهمة شاقة، تتطلب أدوات ماضية، ومنهجا عقليا صارما، مع ذكاء وفطنة، وقدرة على ملاحقة مراوغات النص، والإمساك بهلاميته، والوقوف على آليته. لذا تندر القراءة النقدية الفاعلة، ولذا أيضا يتهستر العقل التقليدي من نتائج النقد وقوة محاججاته. إن مهمة النقد مهمة فكرية فلسفية، تتوغل عميقا في المضمر من الأنساق، وتواصل تفكيك مرجعياتها، وتحليل مقولاتها، كي نتعرف من خلالها على حقائق الأمور، وخيبة الوعي، عندما تكتشف حجم التزوير، ومساحة اللامعقول في العقيدة، التي هي مركز توجيه الوعي، وتشكيل العقل. وتقف بنفسك على خيبات التخلف الحضاري والفكري، حينما نحتسب أن كل ما بيدنا حقائق نهائية، وما هي سوى تزويرات، تخشى المقاربات النقدية)[72]. ولكي يكون النقد ذكيا وفطنا لابد أن يلتمس في فرشته المعرفية المنطق غير الصوري للوقوف على المغالطات المنطقية والمنطق وتحليل الخطاب مع مهارات وقدرات وكفايات التفكير المختلفة. فالغلو يحبك صنعته جيدا؛ حيث يمسك بحديثه داخل بيت عنكبوته عبر خيوط رفيعة تعكس في ظاهرها الحقيقة والمصداقية وصدق المرجعية، وفي باطنها نار الجهل والتخلف والتزوير والتزييف. وباطن بيت العنكبوت هذا، في زاوية ما، حاصره فكر أستاذنا الجليل ماجد الغرباوي، لعله يفتح كوة في عقلنا الجمعي لمراجعة تراثنا الديني وتفكرينا العقائدي بمنطق السؤال، ويشكل وعينا الديني المفقود منذ زمان، شدنا إلى الخلف والتردي. فهو ينزع إلى إيقاظنا من السبات والغفلة لننطلق بديننا نحو العقل وآفاقه الرحبة.
- الفكر التراثي الديني الحامل للخرافة واللامعقول، ما لا يقبله العقل ولا التفكر والتدبر والتبصر، ولا يستحمل وجوده في العقيدة الإسلامية. فقد جعل بعضهم مسلك القرب من الله سبحانه وتعالى، ودخول جنة الخلد الأذكار فحسب، والسباحة بالروح في بحر غرق الأرواح، أو انصهار ذات الأروح في الروح بلا أرواح، أو الانعتاق من سلاسل أغلال الزمن والمكان والحدث بالفناء في عالم الأنوار، في دروب وأزقة وعروق ذات الذوات بلا ذات ... وهذا العدم في لا عدم بلا عدم يقتضي الخلوة، والخلوة مكان انفراد الإنسان بالنفس مختليا للعبادة في اصطلاح الطريقة الكركرية، من حيث يلزم العابد مكان الخلوة ليتجرد من الحس/المادي/الجسد، ويسافر إلى عالم المعنى، عالم المجردات، عالم الرب جل وعلا، بزاده/قوته/عظمته/اسمه ... والانقطاع الكلي عن ذات العابد وحسيته، ومفارقة الروح للجسد بلا مفارقة، والدخول إلى القلب بصفاء ذهني ونقاء روحي لمجالسة الرب، لكي تنكشف الأحجبة عن قلب العابد، فيتزود من القدم بما لا يبلى من مكاشفة وذوبان في السناء ... فلا أجد لعقل هذا الكلام - لا فهمه - منهجية تمسك به، فهو من خارج التعقل والتدبر والتفكر والنظر والوعي الذي أمر به الله تعالى في كتابه الكريم، ولا أجد نبينا عليه وعلى آله السلام سلك مسلكا كهذا منذ غادر غار حراء؛ فهو كلام ومنهج وطريقة ومسلك يساهم بشكل كبير، وبدرجة عالية في تمزيق العقل والجسد والروح، فضلا عن هدم الزمن والجهد في سبيل فراغ كلامي. فسر الآيات والأحاديث على هواه ولصالحه، وزعم أنه في طريقه هذا يلازم السنة في الأقوال والأفعال والأحوال، ويمزج بين الفناء والبقاء، فالمريد فيها فان باق في الوقت نفسه حسب زعم الطريقة الكركرية مثلا لا حصرا.
هنا؛ وبكل صدق (وقد بلغ العقل مرحلة متقدمة مع النبي محمد، أصبح قادرا على طرح الأسئلة النقدية)[73]، ولكي لا نحرم من طرح الأسئلة الحرجة والمحرقة على العقل والتفكير والتدبر في شأن هذا الواقع العربي والإسلامي المشبع بالخرافة واللامعقول الذي يحرق كل شيء، من قبيل:
- هل الرحمن الرحيم لا ينظر إلى الإنسان إلا وهو في كسوة العبادة المرقعة كوزرة المتعلمين في الفصل الدراسي؟ ولا يرتبط به سبحانه إلا وهو في حالة الدروشة والمسكنة والمذلة والانكسار؟ أم أنه خلقه في أحسن صورة، وطالبه بالزينة وحسن المظهر وجمال العقل. (يا بني آدام خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين)[74]. و(عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز. وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)[75].
- ألا يقتضي " لزوم قبر الحياة للتجرد من الحِسِّ والسفر إلى عالم المعنى بِزَادِ الاسم ..." من المريد أن يقتل نفسه، بمعنى الانتحار ليقصر المسافة بين حياته الموت وحياته الحياة تطبيقا لحالتهم الروحية شعرا:
فالمَوتُ فيهِ حياتي ****** وفي حَياتي قَتلي[76] ؟
وأنصح كل من يريد مجالسة رب العالمين الذي دعانا إلى تعمير الكون وإلى العمل وإلى التفكر والتدبر والتعقل بمفهومه العلمي لا بمفهوم أصحاب الأهواء على اختلاف تياراتهم ومذاهبهم ومدارسهم أن ينغمس في دراسة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة الصحيحة والتاريخ الإسلامي بعين العقل المتبصر المتدبر. للوقوف على غايات الخلق والوجود الحقيقية التي خلق لها. وأما؛ وما نحن فيه وعليه من هذيان وخرافة وأساطير وسرديات خيالية وسحر يحدد مصائر الخلق، لا يناسب أمة اقرأ، والقراءة سباحة العقل في ملكوت الرحمن فاحصا ودارسا ومكتشفا ومبدعا ... فالله تعالى ليس في حاجة لعبادتنا إلا لغايتها السامية في خدمة الإنسان والكون ومخلوقاته وتعميره وتطويره. والله خلقك أيها المريد والشيخ لتحيا، لا لتموت وأنت تمشي في هذه الحياة الدنيوية، فهو جل وعلا غني عنك، ولكن الأمة فقيرة كل الفقر لمجهوداتك العلمية وأعمالك التكنولوجية والصناعية، لتجد روحك مسلكا إلى الموت في الله، في فلسطين دفاعا عن المستضعفين من إخوانك. ويكون استشهادك حياة حقيقية في الله، من حيث تكون حيا عنده ترزق، لا كما الحال اليوم موت في موت بلا موت. علا تعالى عما يفتون به من تخلف وخرافة علوا كبيرا، فديننا دين عقل ومعرفة وعلوم وتربية، والتربية منظومة قيم وأخلاق في بناء العالم وتعميره على أسس العلم والإحسان إلى الإنسان.
وقد جاءني واقعا مشاهدا بالحس أن الانتحار - سواء المادي أو الروحي - فعل تكفيري يقلص ويقصر مسافة الزمان والمكان إلى عشرة المصطفى عليه وآله السلام، وإلى الخلود في جنان الرب الكريم بدماء الأبرياء، والنعيم بالحور العين ... ونسوا وشيعتهم من فرق مكذوبة على الإسلام والمسلمين أن الشهادة لا عبث ولا انتحار، وإنما صدق في الزمان والمكان والحال والمآل في طغاة ليس لهم مقام. فالعبث كل العبث، الانحراف عن ساحة الجهاد الحقيقية إلى ساحة القتل. فقد قال عبد الله بن المبارك فيها وفي العبادة على الطريقة الصوفية شعرا:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعبُ
من كان يخضب جيدَه بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
وصور الخرافة تتعمق في تراثنا الديني بتراث السنة النبوية الموضوعة، في الإيمان بالسحر وسطوته على الإنسان، والإيمان بمفعوله ضدا على إرادة الخالق، (ولا يفلح الساحر حيث أتى)[77]. ف- (إيمان الفرد بقوى خارقة، يستعين بها لتحقيق مآربه، دون سلوك الطرق العملية والطبيعية، كتسخير الجن وتحضير الأرواح، فيتقاعس عن العمل وطلب الرزق، بانتظار أن تقوم الجن بعمل خارق تلبي من خلاله جميع طلباته. أو إيمان الشخص بقدرة الأولياء والصالحين على معالجة المرضى وقضاء الحاجات، فيكتفي بأعمال تقربه لهم بدلا من مراجعة الأطباء وسلوك الطرق الطبيعية للتكسب)[78]. فمازال مع الأسف الشديد تراثنا الديني مشبعا برؤى تقليدية فكرية وثقافية بما فيها الدينية والتربوية، وموروثات خرافية أسطورية تسللت إليه من روافد عدة، إحداها الإسرائيليات والوضعيات التي تخضع التفكير الديني على القبول بمقولات كالسحر والكرامة والولاية والتصوف والعجائب والغرائب من الأمور والأحداث. ولنا في المغرب المثل من حيث الأضرحة تصرف عليها الأموال الطائلة من الدولة والأفراد بزعم قضاء الحوائج والأغراض من أولياء شرفاء ماتوا وشبعوا موتا، انقطع عملهم منذ موتهم. وهم مازالوا بسلالاتهم وبغيرهم، كحياتهم يزيفون الوعي الديني للمسلمين، ومازالوا ينشرون الترهات بينهم، والسذاجة والحمق والبله، ليسهل انقيادهم من ثعالب السياسة والدين والثقافة حيث يريدون. فهم مازالوا يصنعون إنسان الخرافة، والجهل، والأسر، والتبعية، والعدمية ...
والأخطر ما في هذا التفكير التديني الأسطوري الخرافي أخذه الشرعية الدينية من التفسير السيميولوجي للنص الديني قرآنا كريما كان أو سنة شريفة. وأعطته تلك الشرعية عند رواده عقدية تعبدية، جعلوها من بنية الفكر الديني التي لها وظيفتها في التقرب منه تعالى، فهي كالصلاة أو أعظم. مما تغدو معه وعبر الزمن والممارسة من المقدسات التي لها حرمة لا تنتهك إلا تحت طائلة العقاب الشديد بالحكم الشرعي كما هو السائد مع مكذوب الحديث وأباطيل التكفيريين، وتنتشر في مجتمع الأسطورة والخرافة بسرعة وتستقطب الأتباع. وتطرح نفسها علما مستقلا بين علوم الدين يدرس، له متخصصون وأكاديميون، ومرجعية دينية تعلو فوق إدراك العقل وقدراته، بمعنى فوق العلم والمعرفة. وهنا؛ يقف أستاذنا الكريم ماجد الغرباوي منبها لعامل الزمن بمفهومه التاريخي إلى ملتبسات هذه المقدسات السنية التي أخذت شرعية الانتساب إلى النص الديني الصحيح من باب تواردها بين الرواة. حيث (سبق التأكيد أن حجية السنة النبوية تقتصر على ما له جذر قرآني، فتكون بيانا وشرحا وتوضيحا في أفق الواقع وضروراته، شريطة صحتها بما يفيد العلم اليقين، بسبب بعدنا عن السيرة وعدم وجود أدلة كافية على صحة جميع ما وردنا من أحاديث السنة النبوية، واختلاط أقوال الصحابة والتابعين بأقوال السنة)[79].
- لماذا رزقنا الله العقل؟ أليس لنسلطه على النص الشرعي والكون قراءة بما تعني من تفكر وتدبر ونظر وتبصر لاكتشاف مكنونهما من المكونات والحقائق والقوانين والأدوات والمعرفة ونقيم الحجج والأدلة على ما يدعيه العقل أو الشرع؟ ألم لتركه وإعلاء شأن النقل نحوه، بدعوى قصوره عن إدراك ظاهرة الوحي وحقائقها وما ورد عنها من تشريع سماوي؟ أو بزعم تناقض العقل والنقل؟ والمنطق يفيد أن الاشتغال على النص الشرعي ذاته يقوم على العقل وإمكاناته الهائلة؛ فلما هذا التعارض بين النقل والعقل؟، وقد خلق الله العقل ليكتمل والنقل في نقل الحقائق والمعارف والأفكار والنصوص وغيرها من معطى التراث الديني على الوجه الصحيح الدال عليهما بالحجة والبينة والدليل. ومدح وأثنى الإسلام على العقل لأنه مناط التأمل، والتدبر، والتبصر، والتفكير الحر والمستقل المجرد في ملكوت الله تعالى، واكتشاف حقائقه وقوانينه وقواعده المتحكمة فيه والناظمة له. وصورنتها في نماذج فكرية قابلة للاستثمار والتطبيق، من باب الانتفاع بالمعرفة لخدمة الإنسانية عامة، والأمة الإسلامية خاصة. كما هذا العقل هو مدخل معرفة النص الشرعي بكل تفاصيله لغته ومتنه وقيمه واستنتاجاته ... فهو - أي الإسلام - يحتضن التفكير النقدي متنه، ولا ينفك عن الحجاج والحراك مع الآخر، ومع معطيات الكون والواقع حتى تسلم أفكاره بالحجج والدلائل التي تثبتها، ولا يخاف اقتحام المجهول والإبداع والتطوير والتجديد والتجدد، ولا يركن إلى ما حققه السلف أو استنبطوه أو استنتجوه أو أبدعوه، وإنما ظل التساؤل يرافق شمس السؤال، تلازم الظل لصاحبه، لا يختفي إلا بزوال النور، وزوال النور الجهل أو التقليد أو الموت. فهو مع الحياة يعيش القلق الإبستيمولوجي المنعش للتفكير والتأمل. ما أهله ويؤهله لمرتبة التكليف، في مقابل التنديد بالتقليد والاتباع، والإشادة بالعقل والحفاظ عليه والاشتغال به فيما ينفع الفرد والجماعة والأمة، وعدم توظيفه فيما لا ينفع من قبيل السحر، والشعوذة، والخرافات، والأساطير، والباطل. وهو سياق من سلك قمع العقل، وشكل العقل له الخوف من توظيفه واستعماله: (أكد الكتاب الكريم على ختم النبوة وختم التشريع: "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيئين، وكان بكل شيء عليما". " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا". وكلاهما يؤكد نضوج العقل وقدرته على الهداية والتشريع في ضوء قيم الدين والأخلاق، وهي قيم إنسانية كونية. والمقصود في خطابي ختم النبوة وختم التشريع، خصوص النخبة المفكرة ممن تتصف بوعي قادر على إدراك مقاصد الختم، وفي مقدمتهم الفقيه. وأما عامة الناس فيطرح الموضوع لهم كثقافة، في محاولة لزعزعة يقينيات الخطاب التراثي، الذي يغذي رهاب القداسة، والتوجس من العقل وأحكامه، خاصة عندما يضعه في خصومة مع الخالق، فتغذو أحكامه ردة وصلافة وجرأة على الله، ويكفي انطباع هذه الصورة في ذهن الناس لخلق ردة فعل من أحكامه في مقابل أحكام الشرع، التي يعمل الفقيه على توسعة نطاقها أبعد مما هو منصوص عليه قرآينا، لتشمل آراءه الفقهية ولو إيحاء، وهو يعلم علم اليقين أنها آراء اجتهادية ورؤية بشرية غير مقدسة ...)[80].
فالخروج من هذه الدائرة يفضي بنا إلى (الانفتاح على النص الديني بقراءة نقدية، للتعرف على مقومات النهوض، المنبثقة من مفاهيمه الأخلاقية. وتقديم رؤية جديدة للنصوص التي في ظاهرها تعيق التقدم الحضاري والتقني)[81]. والخروج من الفكر الساكن المنغلق على ذاته إلى فكر متنور منفتح قادر على فهم الآخر والحوار معه، وبناء شراكة معه في العيش المشترك، وقابل للاندماج الاجتماعي والثقافي والسياسي والفكري في المجتمع الأصلي، وفي مجتمع بلاد الاستقطاب والمهجر. باستنهاض العقل، وتثوير السؤال والبحث والتقصي، وتفاعل العقول وتكاملها وتناسقها وتقاسم معطياتها، واندماج الأفكار في رحاب تقاطعات الرؤى والثقافات والمعلومات والخبرات والتجارب، وإعادة تدوير الأفكار لإنشاء الجديد في إطار التفكير الإبداعي والابتكاري، وتشييد الوعي الحقيقي للأمة. وهو ما يسعى إليه مفكرنا الأستاذ المبدع ماجد الغرباوي - حفظه الله - حين يعتقد أنه (بالضبط يلعب الوعي دورا كبيرا في تحديد معالم نهضتنا الحضارية، والفهم الخاطئ سلبية قاتلة، جرت علينا كما تفضلت ويلات هائلة. ونحن نسعى جاهدين للمساهمة في ترشيد الوعي واستنهاض العقل من أجل تطور حضاري قائم على قاعدة أخلاقية مكينة)[82]، (بنسق عقدي مغاير، يضع العقل فوق النص، فيصدق أنه مذهب في التشريع، ينهل من معطيات العلوم الحديثة والفتوحات المعرفية المتجددة. يقدم الأخلاق على الأدلة الأولية ... لتعزيز حالة الوعي، وتكريس منطق النقد والتفكير والتحليل، بعيدا عن العواطف والدوافع الأيديولوجية)[83]. وبذلك يصنع متدين العقل، والعلم، والحرية، والاستقلالية، والنقد، والإبداع.
ونحن بصدد الخروج من شرنقة النقل الأعمى والتقليد وجمهرة المحافظين التراثيين الدينيين، بالانفتاح على النص الديني بقراءة ناقدة، نستحضر في تاريخنا الإسلامي بالخصوص، وفي الغالب، أن عملية التأريخ للمعطى العلمي والاجتماعي والثقافي والفكري؛ بما فيها تدوين الموروث الديني في بدايتها كانت بأثر رجعي. فرغم وجود بعض المبادرات التدوينية عبر صحائف الصحابة والتابعين ومن تبعهم للسنة أو الحديث حسب المختصين بالحديث والسنة والأثر - وهو أمر لا يمكن الجزم به لمجرد أن المخطوطة الفلانية موجودة في المكتبة الفلانية أو في المتحف الفلاني أنها صادقة - فإنها لا تصدق إلا حين تكون عن المدون نفسه، وإلا هي نسخة عنه؛ قد يقع فيها التصحيف والتحريف، والزيادة والنقصان. والصادق من الأحداث أو الروايات، هو ما تم عيشه حقيقة وبدون كذب في الواقع المعيش في زمنه ومكانه ودون في وقته. وأما ما دون بأثر رجعي، وزعم صحة متن تدوينه؛ فذلك لا تصدق عليه الصحة والثبوت القطعي، وإنما الثبوت الظني أولى به. وأما الحدث المسموع فهو حدث مساءل بضرورة طبيعته، لا حدث بالقطع والجزم لأنه نبأ. ومطلوب شرعا تبينه وتفحصه لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)[84]. وعليه جهد علماء المسلمين على إنشاء ووضع علوم شرعية لتمحيص الحدث ومتنه المروي وراويه ومخرجه، بمعنى التمحيص وإن شئت النقد على مستوى الرواية والدراية[85]. والمسألة في التراث الديني خاصة خارج القرآن الكريم المتن المقدس، هي مسألة تاريخية بامتياز يجب توظيف المنهج التاريخي - حسب أستاذنا الجليل ماجد الغرباوي - في دراستها، لكي نعي مفاهيم ونماذج الظاهرة التراثية الدينية الإسلامية في المجتمع الإسلامي التي نزعت بهذا الأخير إلى فرق وملل ونحل متصارعة فيما بينها فكريا وماديا. ما دعا إلى التماس المنهج التاريخي لتبيان جذور المشكلة وطبيعتها من سياسية إلى دينية مرورا بالاجتماعية والثقافية والاقتصادية ... والحكم عليها تدوينا وتاريخا ومتنا ومنهجا وتوثيقا ودراسة.
الظاهرة التراثية الدينية الإسلامية لم تنشأ معزولة عن التفاعل الحضاري تأثيرا وتأثرا في المجتمعات الأخرى ولا المعطى الثقافي للأديان السابقة. ما يفسر الدعوة الملحة لتوظيف المنهج التاريخي في مقاربتها. من حيث:
- وصف وتنظيم التراكم التراثي الديني الإسلامي تعاقبيا وتزامنيا، ودراسته زمانيا، ومكانيا، وحدثا واقعيا، وحدثا فكريا. وتحليله بصرامة علمية مسؤولة وجادة، دون تأويل ولا تجميل ولا موالاه ولا مغالاة؛ لتقويمه بموضوعية، لأنها تتعاطى مع معطى موضوعي كان قائما في مرحلة ما، ولم ينته بعد، لأن امتدادات له في الحاضر والمستقبل.
- التماس المنهج النقدي التاريخي في دراسة التراث الديني الإسلامي لأجل رصد تبئيرات المشتغلين به منذ تأسيس التدوين، على الممكنات الوجودية التي عاصروها أو سبقتهم، وأخرجوها من إمكانية الوجود إلى الوجود بالفعل، ومن موضوع مجرد إلى موضوع متحقق على مستوى الكيان، ومدون على مستوى الحدث. وإلى متحقق تاريخي بين يدي الدارس والباحث الناقد، قابل للإمساك المعرفي والتداول التعليمي. والذي من جهة أخرى يشكل أحد مكونات الحاضر والمستقبل. ذلك؛ ما القياس إلا دليل على إخراج ممكن الوجود إلى الوجود الفعل الواقعي. فالمنهج التاريخي بصفة عامة يساهم باستحضاره سياق الوجود وحيثياته وتفصيلاته وتمفصلاته الزمنية والمكانية والموضوعية والذاتية، في فهم واستيعاب ممكن الوجود - الحدث الغائب عن التدوين في وقته - ودلالاته ومعانيه في ذاته، قبل إسقاط دلالات خارجية عليه أو إضافتها لسابقاتها الذاتية. وهو ما يمكن أن يشكل منحدرات الانزلاق إلى التأويلات والتفسيرات وإسقاطات ظلال المعاني عليه. فيحتمل إمكانية الالتباس. وهو ما أشار إليه أستاذنا الكريم ماجد الغرباوي بصيغة أخرى وبرمزية أخرى في سياق حديث آخر عن التداخل بين الأسطوري والديني، حيث قال: (فالبحث التاريخي يساعد على دلالاتها الرمزية [الخطابات القرآنية]، لتدارك أي انزلاق تأويلي، يؤثر سلبا في فهم تيمتها)[86].
وهذا المنهج لن يتجلى بصورة واضحة دون ترصيف المنجز الفكري بصيغة الجمع لأستاذنا المفكر التنويري الجليل ماجد الغرباوي، ورصد المرتكزين السابقين فيه، فهما قائمان حسب القراءة المتبصرة. ويكفيني لذلك الإشارة إلى قوله: (أن جميع الأحكام تشرع وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع في إطار الواقع وضروراته)[87]، والواقع وضروراته يختلف في الزمان والمكان والحدث وأهله وطبيعة تفكيرهم وأدواته ومناهجه واستراتيجياته. نتيجة طبيعته المتجددة والمتطورة التي تأبى السكون، وتنزع للحركة. وهنا البعد التاريخي حاضر بثقله لا يمكن إلغاءه ولا تجاوزه، ولا إنكار تأثيره في الأحداث وأحكامها وروايتها ودرايتها.
2.1. إخفاقات الوعي الديني على مستوى العمق:
في هذا المبحث ستكثف الورقة دلالات العمق سيميولوجيا، حيث ستشير في البعد النقدي إلى رمزيات إخفاقات الوعي الديني حسب متن الحوار القائم بين السائل الأستاذ سلام البهية السماوي والمجيب الأستاذ ماجد الغرباوي، كالتالي:
- الإخفاق يشير إلى غياب الوعي الديني لدى حراس العقيدة عبر قرون مديدة، منذ احتلت السياسة تربة جذور العقيدة، تغذيها بالمواد والماء والأسمدة، فيعتقد الفرد أن العقيدة شجرة خالصة الطبيعة الدينية، ولا يرى الجذور ولا التربة تحت جذع الشجرة. فتصبح العقيدة تابعة لا مستقلة، ويصبح التراث الديني الإسلامي في أكثريته تبريرا لواقع مرير يكرس تزييف الوعي والعقيدة معا، ويناصب كل نقد بناء أو مساءلة فكرية العداء، وينحو نحو الدفاع عن الموروثات كيفما كانت مادامت تنتسب إلى الدين، ولو كانت خرافات وأساطير متساوقة مع أطروحاته. فالوعي عندما يدخل تحت عباءة النقل الأعمى والتقليد واللامفكر فيه، ويلغي من ذاتيته البعد النقدي، ويشطب بالقلم الأحمر على منظومة التساؤل؛ يصبح كارثيا على التراث الديني نفسه، وعلى المجتمع لتحجره في قوالب فكرية معينة مغلقة غير قابلة للفتح أو في أقبية مظلمة معتمة لا ينفذ إليها النور. لكن عندما يدخل تحت عباءة العقل والفلسفة والسؤال يتحرر من قيوده، وينطلق نحو النقد والمساءلة بما يدقق في الحقائق والأحداث، ويراجع الأقوال والأحكام. ولا يهتم لتلك الأوصاف التي يسقطها عليه التحجر الفكري، ويسير إلى هدفه بثبات وحياد مزيحا كل العقبات والإكراهات والتحديات من طريقه ضمانا للوعي الديني المحرر للإنسان.
- الإخفاق دلالة على استقالة الفكر الديني عن ممارسة دوره في التجديد والتطوير للمعطى التراثي ومنتوجه الحضاري والإنساني. بمعنى إخفاقه في تناول الأسئلة الحرجة المتعلقة بالبعد الوجودي الحقيقي للإنسان المسلم ومآلاته، في زمن التغيرات المتسارعة في المجتمعات ومناحي حياتها، وقطاعات إنتاجها ... فالفكر الديني مازال يجتر الماضي وينسب كل منجز حاضر إلى ماضيه، ظنا منه أنه سيأصله. فالفكر الديني ما لم ينفتح على قضايا عصره لن ينجز شيئا، ولن يفهم فلسفة الحياة المعاصرة، ولن يتقدم إلى الأمام شبرا. فعليه الانفتاح على العصر وقضاياه ويشارك في مقاربته بنقد وإبداع، وثقة وعزة وحرية ومسؤولية واستقلالية. فالتابع عبد يؤمر ولا يأمر.
- إخفاق الوعي الديني هو قتل للدين ذاته بلا منازع. لأن غياب الوعي هو غياب للموضوع والمنهج وأدوات الاشتغال على الدين. فلا يستقيم إخفاق الوعي الديني مع إيجاد معرفة واعية بالدين. فذلك من المتناقضات التي سعى التراث الديني إلى التوفيق بينها، بل الترقيع بينها في أكثر من قضية دينية أو فكرية. وأدخل في علوم الدين ما ليس له صلة بالعلم ولا بالعقل ولا بالمنطق. بل ربما يتصل بنظرية الفوضى.
- إخفاق الوعي الديني يرمز في ناحية ما إلى عدم التوسع المعرفي بمسألة التراث الديني، وضيق الاطلاع الموسوعي على مختلف العلوم المساهمة في توضيح الرؤى، الداعمة لتنوع التفكير، وقلة الإمساك بالمناهج الحديثة لدراسة الظاهرة التراثية الدينية كمعطى ثقافي واجتماعي وتاريخي وسياسي ... قبل المعطى الديني. فالتراث الديني المقصود منه ليس القرآن الكريم ولا السنة النبوية الشريفة، وإنما ما أنتجه العقل الديني من علوم وشروح وتعليقات واجتهادات وهوامش ونكات ... وغيرها. فقصور المعلومة يؤدي إلى اختلالات في القرارات فضلا عن المناهج والأدوات ... وفي ظل هذا المعطى الرمزي، يؤدي القصور المعرفي في المجتمع، وحتى في المجتمع المعرفي إلى الفهم المغلوط والمشوش للتراث الديني، ما يؤدي إلى ظهور مشكلات معرفية وسلوكية عدة، قد تهدد بانهيار المعمار الديني للمجتمع معتقدا ومسلكا وسلوكا ومن ثم معماره الاجتماعي. فخطورة الفهم القاصر والمشوش والرمادي على الفرد والمجتمع أشد وقعا من القنابل، لأن مفعولها محدود في الزمن والمكان والأشخاص، بينما مفعول الآخر يدوم وينتشر على الكل.
- إخفاق الوعي الديني بصيغة الجمع يرمز إلى وجود عدة مجالات وقطاعات وحقول تم فيها الإخفاق، خاصة تلك التي تشكل المدخل الحقيقي والعملي للتطور الإنساني. وهي الحقول والمجالات المعرفية والفكرية. فالإخفاق مثلا في الإنتاج هو إخفاق في المعرفة والعلم والإبداع. وإخفاق الوعي الديني عندنا ناتج عن إخفاقنا في نزع سيطرة النقل الأعمى على تراثنا الديني الحامل للخرافة والأسطورة، وضيق العقل واشتغاله. والإمساك بأوهامنا وضلالاتنا وتفكيكها بأدوات علم النفس المعرفي السلوكي، وإخراجها من دائرة معتقداتنا، ورميها في هوة سحيقة من ذاكرتنا الجمعية والفردية، وردمها بتربة التفكير العقلاني المتطور. بل حرقها في أفران الوعي الديني الحقيقي أو إذابتها بحوامض المركبات الكيمائية الفاعلة في إبادتها من وجودنا الديني والثقافي والاجتماعي. ودخول العصر الحديث دونها لكيلا تؤثر فينا، والتواصل مع آفاق وأوطار العقل والتفكير العلمي للخروج من واقعنا المريض والمأزوم.
- إخفاق الوعي الديني في عمقه يدعو إلى مراجعة التراث الديني دراسة وتحليلا، ومساءلة وتصحيحا، لتنقيته وتصفيته من الشوائب العالقة به، من إسرائيليات وأحاديث موضوعة، وشروحات وتفسيرات خاطئة وأخرى أسطورية وخرافية. وإزاحتها عن مشهد الأحكام ومواطن التأثير في الخاصة والعامة من المسلمين والثقافة الدينية والتداول التعليمي والعلمي والأكاديمي، ومغادرتها فكرا وسلوكا. ومحاربة الاجتهادات والفقهيات والأفكار المتخلفة عقليا ونفسيا التي سيطرت على المجتمع الإسلامي لعقود طويلة، ووسمته بالجمود والتأخر والتخلف على مختلف الأصعدة. وكذلك الوقوف على الأسباب الحقيقية التي تشدنا إلى الخلف الراقدة في تراثنا الدينية، والعمل على حل مشاكلها ووضع الحلول والخطط لتجاوزها سيرا نحو التقدم والتطور الحضاري والعلمي والتكنولوجي ...
- إخفاق الوعي الديني يرمز من جهة أولى إلى ما نعيشه من أزمات متنوعة، ومن جهة ثانية إلى تأكيد أولوية صناعة الوعي من جديد في المجتمع. إذ أصبحت صناعة الوعي اليوم من أولويات ما تسعى إليها النظم التربوية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمعات والدول، وإلى تحقيقها عمليا وفعليا على أرض الواقع، لكي تتطور وتتجدد وتنمو في ظل التطورات التقنية والتكنولوجية والعلمية البحثية، وتحدث منافذ للوعي في الأفراد والجماعات، وتشكيل الوعي الجماعي الذي يشيد المصلحة العامة للمجتمع، ويبني تلاحمها وتضامنها وتكافلها وتآزرها، ويعضد الأواصر بين مكوناتها لتحقيق منافعها، وما يسعدها ويرغد عيشها وحياتها.
- إخفاق الوعي الديني يرمز إلى تهيب السؤال ومغامراته الفكرية، ومجاهيل مصائره في حياة الفرد والمجتمع، خاصة ارتدادات الصدى في مدى الإيمان وعائدات السياسة والمصالح والمنافع لا الحسنات والثواب، والجزاء والعقاب؛ لأن السؤال لم يكن (علامة استفهام ساذجة ارتسمت على وجهه [أي الإنسان] في أول بادرة وعي بشري، بل كانت سؤالا فلسفيا، يتحرى الحقيقة، والبحث عن معنى لوجوده ومصيره، وفهم ما يحيط به من ظواهر وألغاز. الإنسان مسكون بالحيرة، لذا لازم السؤال حياته، وشكل أساسا متينا لمعارفه وآفاقه العلمية، التي أفضت إلى اكتشاف قوانين الطبيعة وتسخيرها لمواجهة تحدياتها. فكان الشك يتفاقم، يتشظى، يفتت ركام التخلف والانحدار، ويزعزع يقينياته وقبلياته، سيما السؤال الإشكالي، يستدعي التأمل والحفز والتنقيب، ويفتح مساحات رحبة للنقد والمراجعة والحث على اكتشاف الحقيقة. فالسؤال تعبير آخر عن الحيرة والدهشة، وإعادة ترتيب أولويات التفكير النقدي، عندما يخترق مرجعياته، ويستدعي مقولاته الأساسية، وما تتستر عليه، وتستبعده من ثقافة موازية، تمارس تزوير الوعي. غير أن السؤال الإشكالي المنتج مرتهن لشرطه، أو يخبو وينهزم في أجواء التخلف والعبودية، فثمة خطوط حمراء، ومحرمات، عقدية وفكرية، يعتبر تخطيها، استفزازا وتقويضا لمؤسسات دينية واجتماعية نشأت، وفرضت هيمنتها وفقا لاجتهادات، تخدم مصالح مذهبية وطائفية وسياسية. فالأمة القادرة على صياغة أسئلتها، تكسب معركة النجاح حضاريا ولو آجلا، وتنكفئ حينما تراوغ وتتشبث بأوهام الحقيقة، والهروب من المسؤولية إلى أحضان التراث)[88].
- لابد من الاعتراف:
لكل مقاربة نجاحاتها وإخفاقاتها أو إيجابياتها وسلبياتها. ولعل الاعتراف بذلك يظهرها في:
أ - الإيجابيات:
- من محاسن العنوان أنه أخرجنا من ضيق الفكر الديني التراثي التقليدي المنغلق إلى رحابة الفكر الديني التنويري.
- الإطلاع على مشروع مفكرنا الأستاذ ماجد الغرباوي التنويري في مقاربة التراث الديني، وطرحه المنهجي المرتكز على البعد التاريخي والأخلاقي.
- حضور النقد في منجزه الفكري بصيغة الجمع بجانب البعد العقلي والفلسفي الذي يضفي سمة الميتافيزيقي في التدين الإسلامي تأملا وتحصيلا. والحضور هنا بأبعد مدى، وبأشد سؤال حرقة، وبأكبر جرأة لا تخاف لومة لائم في الله. فانفتحت آفاق تشييد الوعي الديني من جديد على ركيزتي النقد والعقل ومتطلباتهما المتنوعة.
- حضور البعد التاريخي في قراءة أستاذنا الجليل للتراث الديني، خاصة منه الفقهي، والخروج بما يناسب قضايا العصر ومستجداته. وتصحيح المتهافت منه بمنطق الحدث التاريخي والعقل.
- حضور الوعي الديني في ملاءمة المنطوق الفقهي - خاصة منه ما يتعلق بالآخر المختلف - مع قضايا التواصل بالآخر في العصر الحاضر.
- قراءة منجزه الفكري بصيغة الجمع توسع مساحة البيكار المعرفية للقارئ، فضلا عن فتح منافذ السؤال على التراث الديني ببعد نقدي مشرطي متفحص ومدقق ومصحح.
- الاعتقاد بتعدد الرؤى حين الدعوة إلى تحرير الوعي الديني وتجديد منهج تشريع الأحكام، بما يفيد أن القراءات التراثية التقليدية غير مكتملة، وغير مؤهلة بما يكفي لمقاربة معطيات العصر الحالي. ما يتطلب فتح على القراءات العصرية التي شكل العقل مركز الانطلاق إلى مغاليقها وأقبيتها.
ب - السلبيات:
- فصحة الزمن الممنوحة تضيق أمام هذا التراكم المعرفي والمنهجي، وعديد المنجز الفكري بصيغة الجمع. لذا جاءت المقاربة في جزئها الأول المتعلق ب " إخفاقات الوعي الديني" مضغوطة مبتسرة. لا تدعي، ولا تزعم أنها وفت منجزه تفصيلا من البيان والدراسة، ولا تحصيلا لمكانته بين تراكم وترصيد الفكر التنويري، وإنما تلتمس العذر من قامة فكرية كبيرة، هي المقاربة منها نزر كحبة تراب من ظل شجرتها الوارفة السامقة حين تستقيم شمسها في وسط السماء بالنهار.
- الورقة هذه غير مكتملة، وإنما هي الجزء الأول من بين ورقتين باقيتين، ستعمل المقاربة على إنجازهما وعدا لأستاذنا الكريم ماجد الغرباوي بالمشاركة في المؤلف الجماعي القادم بإذنه تعالى. أولهما تخص منجز " تحرير الوعي الديني " وثانيها منجز "مقتضيات الحكمة في التشريع: نحو منهج جديد لتشريع الأحكام". حيث يتجلى فيهما البعد النقدي بوضوح.
- المقاربة هذه وقفت على هذه المفردات في موضوعه بقراءة سريعة متسرعة في فعلها وزمنها، سيغطي على مثالبها الطموح إلى إنجاز كتاب في شأنها، يمنحني الوقت الكافي والدراسة والقراءة المتأنية الفاحصة الناقدة لمنجزه الفكري بصيغة الجمع. وتعتذر من القارئ ما لم يجد نفسه في تفاصيلها مع مؤلف " إخفاقات الوعي الديني ".
- أمل:
أملي أن أكون أشعلت شمعة في طريق الإضاءة على الفكر التنويري لأستاذنا المفكر الجليل ماجد الغرباوي، بعود ثقاب الرصد للنقد الديني، الذي أجلى أمامي الكثير من الحقائق، ومنحني مسلكا منهجيا جدير بالمناقشة والدراسة، وتوافق مع ما أصبحت عليه من قناعات دينية اتجهت نحو التحرر مما كبل تفكيري الديني من مسلمات ويقينيات، شحنت في الذاكرة المعرفية منذ أيام دراستي للشريعة الإسلامية عن السنة النبوية الشريفة خاصة. قناعات تشكلت عند ملامستي الفلسفة دراسة وممارسة، ورميت البوح بما لها من رحابة التفكير والحرية عندما تعانق روح الإسلام القرآن الكريم ...
وألتمس من كرمه أن يضع هذه الورقة في خانة يتبع إن شاء الله تعالى.
***
عبد العزيز قريش
قارئ من المغرب
......................
المراجع:
" حسب ورودها في المتن "
أ - الورقية:
- القرآن الكريم.
- صحيح مسلم.
- إخفاقات الوعي الديني، حوار سلام البهية مع ماجد الغرباي، مؤسسة المثقف العربي/العارف للمطبوعات، سيدني/بيروت، أستراليا/لبنان، 2016، ط1.
- ذ. ماجد الغرباوي، مقتضيات الحكمة في التشريع: نحو منهج جديد لتشريع الأحكام، مؤسسة المثقف العربي/أمل الجديدة، أستراليا/سوريا، 2024، ط1.
- ذ. ماجد الغرباوي، تحرير الوعي الديني، مؤسسة المثقف العربي/أمل الجديدة، سيدني/دمشق، أستراليا/سورية، 2021، ط1.
- ذ. ماجد الغرباوي، النص وسؤال الحقيقة ... نقد مرجعيات التفكير الديني، مؤسسة المثقف العربي/أمل الجديدة، سيدني/دمشق، أستراليا/سورية، 2018، ط1.
هوامش
[1] إخفاقات الوعي الديني، حوار سلام البهية مع ماجد الغرباوي، مؤسسة المثقف العربي/العارف للمطبوعات، سيدني/بيروت، أستراليا/لبنان، 2016، ط1، ص.:5.
[2] سورة النحل، الآية: 90.
[3] ذ. ماجد الغرباوي، مقتضيات الحكمة في التشريع: نحو منهج جديد لتشريع الأحكام، مؤسسة المثقف العربي/أمل الجديدة، أستراليا/سوريا، 2024، ط1، صص.: 7 - 8.
[4] سورة المدثر، الآية: 11.
[5] سورة مريم، الآية: 95.
[6] ذ. ماجد الغرباوي، مقتضيات الحجمة في التشريع: نحو منهج جديد لتشريع الأحكام، مؤسسة المثقف العربي/أمل الجديدة، أستراليا/سوريا، 2024، ط1، ص.: 9.
[7] سورة الزلزلة، الآيتان: 7 – 8.
[8] سورة النساء، الآية: 105.
[9] سورة التوبة، الآية: 31.
[10] سورة المائدة، الآية: 44.
[11] ذ. ماجد الغرباوي، مقتضيات الحكمة في التشريع: نحو منهج جديد لتشريع الأحكام، مرجع سابق، ص.: 5.
[12] انظر في شأنه المعاجم العربية.
[13] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.:49.
[14] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.: 42.
[15] نفسه، صص.: 49 – 50.
[16] نفسه، ص.:47.
[17] ما بين معقوفتي المجال الرياضياتي هو إضافة من الورقة.
[18] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، صص.:57 - 58.
[19] نفسه، ص.:47.
[20] سورة النمل، الآية:80.
[21] سورة فاطر، الآية:22.
[22] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، صص.:59 - 60.
[23] نفسه، ص.:60. بتصرف.
[24] نفسه، ص.:61.
[25] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.:61.
[26] نفسه، صص.:39 – 40.
[27] هذه الفقرة نفي لما جاء عن حضارة الغرب في الصفحة 17 من: ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني.
[28] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، صص.:17 - 18.
[29] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.:67.
[30]ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، صص.:67 - 68.
[31] سورة النمل، الآية:88.
[32] سورة النبأ، الآيات من/إلى:6 – 16.
[33] أخرجه أبو يعلى والطبراني، وصححه الألباني.
[34] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، صص.:68 - 69.
[35] ذ. ماجد الغرباوي، الهوية والفعل الحضري، مؤسسة المثقف العربي/أمل الجديدة، سيدني/دمشق، أستراليا/سورية، 2019، ط1، صص.: 332 - 333.
[36] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.: 34.
[37] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.: 57.
[38] نفسه، ص.: 50.
[39] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق.
[40] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق.
[41] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.: 69.
[42] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.:57.
[43] نفسه، صص.: 53 – 54.
[44] سورة الحجرات، الآية.:13.
[45] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.:40.
[46] ذ. ماجد الغرباوي، مقتضيات الحكمة في التشريع: نحو منهج جديد لتشريع الأحكام، مرجع سابق، ص.: 31.
[47] سؤال الأستاذ سلام البهية السماوي، إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.:36.
[48] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، صص.: 36 - 37.
[49] نفسه، ص.: 35.
[50] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، صص.: 65 - 66.
[51] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، صص.: 73 – 74.
[52] نفسه، ص.: 34.
[53] نفسه، ص.: 60.
[54] نفسه، ص.: 27.
[55] نفسه، صص.: 95 – 96. ردا على تعليق الدكتور الكاتب والباحث علي ثويني.
[56] نفسه، ص.: 68.
[57] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.: 93.
[58] إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.: 92.
[59] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.: 93.
[60] نفسه، ص.: 49.
[61] نفسه، ص.: 49.
[62] سورة هود، الآية: 118.
[63] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.: 61.
[64] ذ. ماجد الغرباوي، تحرير الوعي الديني، مؤسسة المثقف العربي/أمل الجديدة، سيدني/دمشق، أستراليا/سورية، 2021، ط1، ص.:138.
[65] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.: 68.
[66] ذ. ماجد الغرباوي، تحرير الوعي الديني، مرجع سابق، ص.:88.
[67] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.: 50.
[68] نفسه، ص.: 41.
[69] فكرة متبناة من ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.: 92. بتأكيد القول ب: تضاف إلى النقاط الأخرى.
[70] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.: 41.
[71] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، ص.: 107. ردا على تعليق الدكتور الطبيب الكاتب الأديب محمد مسلم الحسيني.
[72] ذ. ماجد الغرباوي، النص وسؤال الحقيقة ... نقد مرجعيات التفكير الديني، مؤسسة المثقف العربي/أمل الجديدة، سيدني/دمشق، أستراليا/سورية، 2018، ط1، صص.:279 - 280.
[73] ذ. ماجد الغرباوي، تحرير الوعي الديني، مرجع سابق، ص.:363.
[74] سورة الأعراف، الآية: 31.
[75] أخرجه مسلم.
[76] انظر موقع الطريقة على الشبكة العنكبوتية.
[77] سورة طه، الآية: 69.
[78] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، صص.: 59 - 60.
[79] ذ. ماجد الغرباوي، مقتضيات الحكمة في التشريع: نحو منهج جديد لتشريع الأحكام، مرجع سابق، ص.: 15.
[80] ذ. ماجد الغرباوي، مقتضيات الحكمة في التشريع: نحو منهج جديد لتشريع الأحكام، مرجع سابق، صص.:116 - 117.
[81] ذ. ماجد الغرباوي في: إخفاقات الوعي الديني، مرجع سابق، صص.: 64 - 65.
[82] نفسه، ص.: 94. ردا على تعليق على الشاعر الأستاذ الحاج عطا الحاج يوسف منصور.
[83] نفسه، ص.: 9.
[84] سورة الحجرات، الآية:6.
[85] انظر في شأن هذا المبحث كتب الاختصاص من علوم الحديث.
[86] ذ. ماجد الغرباوي، تحرير الوعي الديني، مرجع سابق، ص.:178.
[87] ذ. ماجد الغرباوي، مقتضيات الحكمة في التشريع: نحو منهج جديد لتشريع الأحكام، مرجع سابق، ص.:127.
[88] ذ. ماجد الغرباوي، الهوية والفعل الحضري، مرجع سابق، ص.: 7.
...................
* مشاركة (22) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).
رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي
https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10