بأقلامهم (حول منجزه)

أدناه رابط محاضرة للأستاذ محمد هروان،  بعنوان: انسان الغرب وانسان الشرق وفقاً لماجد الغرباوي

يقول المحاضر: في كتابه "اخفاقات الوعي الديني، تداعيات في النكوص الحضاري" يتحدث الكاتب والمفكر العراقي ماجد الغرباوي عن اسباب تقدم الغرب وعن اسباب تخلف المسلمين، في هذا الفيديو اتطرق الى الفروقات بين مواطن الغرب ومواطن الشرق استنادا الى ما قدمه الغرباوي، وجدير بالذكر اننا لا نتصور ان انسان الغرب كامل ومنزه بل لديه نواقصه ايضا الا اننا نظرنا الى ميزاته الايجابية كي نضعها على النقيض من سلبيات مواطننا الشرقي، الاخير بدوره لديه ايجابيات ولكن الظرف التاريخي المتسم بتخلفه وتقدم الغربي يحتم علينا المقاربة بهكذا شكل.

رابط تحميل الكتاب : https://urlz.fr/mqe0

.........................

رابط المحاضرة

https://www.youtube.com/watch?v=89OAbBDATZU

Against tyranny, the open religious discourse project: a productive hearing and a productive mind at majed algharbawi

مُلخص:

نهدف من خِلال هذه الورقة البحثية إلى فَحص اشتغالات أهم الخِطابات التي تتصدّر منابر التوجيه، وهو الخِطاب الديني في صيغته العربية الإسلامية، لنُسلّط الضوء بِداية على أهم إشكالاته ومَزالقه والأساليب المُستبدة التي ينتهجها والجِهات التي يعتمد عليها في ترسيخ مَركزيته وإزاحة مُنتقديه، ثم ننتقل إلى شُروط إصلاحه وتجديده، من أجل تحرير الوعي الديني وإعادة فهم الدين، كشرط رئيسي للنُهوض الحضاري للإنسان، وِفق المَسالك المنهجية العِلمية والكُشوفات المَعرفية الحديثة والقيم الإنسانية التي لا تنضب، مثل: التسامح، الحُرّية والعقلانية، بما يُحافظ على الغايات الإسلامية الحقّة كما تضمّنه الخِطاب الديني المُنفتح والتنويري للمُفكّر "ماجد الغرباوي" كحَالة بحثية نوعية في هذا السياق. وتأتي أهمية الموضوع في كونه يُعالج قضية مُلحّة وهي سطوة الخِطاب الديني الرجعي الذي يُصادر كل حملة عقلية مُناهِضة، لينسحب ويطال بقية مجالات الحياة، بخاصة حينمَا يتحالف مع السُلطة السياسية، التي تتخذ النزعة الشُمولية في العالم العربي وتتزعّم مقاليد التسيير في كل شيء. إضافة إلى ميزة مهمّة في فكر"الغرباوي" والذي اتخذّناه نموذجًا أنه يطرح البديل ويؤسّس لثقافة دينية مثمرة لا تستبد وتُزيح. أمّا الأدوات المنهجية التي اعتمدناها، فكانت بارِزة في المنهج التحليلي والمنهج النقدي.

الكلمات المفتاحية: الخِطاب الديني - الاستبداد - اللامُفكر فيه - النقد - التنوير - النُهوض الحضاري104 tasamoh2

Abstract :

Through this research paper, we aim to examine the activities of the most important speeches at the top of the guidance platforms, it is the religious discourse in its Arabic-islamic form. Let’s first highlight its main problems and pitfalls and the tyrannical methods that he uses and who he relies on to establish his centralization and dislodge his critics, then we turn to the conditions for its reform and renewal, in order to free up religious consciousness and re-understand religion, as aKey condition for the advancement of human civilization, in accordance with scientific methodology and modern cognitive data and human values that are not lacking, such as: tolerance, freedom and rationality, it is also included in the open and enlightening religious discours of the intellectual majed algharbawi as a qualitative research case in this context. The importance of the topic is that it addresses a pressing issue: the ascendancy of the reactionary religious discourse that confiscates each every anti-mindset campaign, to withdraw and demand the rest of life, especially when allies with political power, in the arab world, it takes totalitarianism and leads the way in everything. Add to an important feature of algharbawi thinking, which we took as a model, it posed an alternative and established a productive religious culture that is not excluded. The methodological tools we have adopted have been prominent in the analytical approach and critical approach .

Key words: religious discourse - tyranny - the unthinkable - criticism - enlightenment - civilizational advancement .101 majedalgharbawi1

مقدمة: يأتي الدين religion في طليعة العناصر الحيوية التي يمتح منها الإنسان شخصيته المُركّبة، ليسدّ ثغراتها ولِيَحّفظها من شِراك التمزّق والضياع الوجودي. فهو على حدّ توصيف الروماني "مرتشيا إليادة" Mircea eliade(1907-1986م) يُمثّل بنية الوعيconsciousness ذاته وليس مرحلة من مراحِله فحسب. ويتموّضع الدين بقوة ضِمن الشُروط الجوهرية للبناء الحضاري الذي تطلبه الإنسانية، ولهذا الغرض نلحظ الهمّ الفلسفي الدؤوب بالعُنصر الديني؛ حيث يشتغل المُفكرون والفلاسفة على تجديد القِراءات الموضوعة للنص الديني، من دعوى صريحة لاستحداث مناهج أكثر فعالية وإنتاج، وضرورة اختراق الأعين التفسيرية التقليدية التي كبّلت العقل عن البحث والاجتراح. ولقد شكّل الدين نقطة باعِثة على التفكّر منذ العُصور السالِفة، في صيغة خِطابات دينية فسّرت وشرحت وأوّلت النُصوص، وقدّمت مجموعة من الرُؤى والمواقِف. لكن إن تحتكر مُهمة القِراءة وتحوّل خِطابها إلى فكرة لامُتناهية مُطلقة تصدر بالأساس عن عقل مُتعصّب مُرتهن لمُنطلقاته التي يحسب فيها صِفة القداسة، ولتفسيراته الواهِمة بأنها تحضر في كل زمان ومكان، عقلاً مُستبِدًا وقامِعًا، على قطيعة مع مُستجدات الحقل العِلمي من مناهج ومَعارف، أسير الثنائية: حلال-حرام، يُعنّف في أحكامِه التعسّفية، ويعمل على تزييف الوعي ويُعتّم منطقة الأسئلة الهامة بحجّبها في المحظور أو ما أصبح يُتداول باللامُفكّر فيه، هنا يُصبح الدين المُعبّر عنه في خطابٍ جاف خطرًا على الحياة الحضارية للإنسان، فينتقل من الحيوية إلى التكلّسية، وينخرط بالتفكير والتعقّل في براديغم الجُمود والرتابة، والأمرّ من ذلك أنه يضرّ بالدين ذاته، حينمَا يُحوّل مضمونه إلى دفعٍ للتناحر والاحتراب، ودلالاته إلى فكرة خُلقت ولن تموت، ذلك برفض تجديدها وتقويمها بما يُخدم مصالح الإنسانية. ضِمن هذا المُعترك يبرُز المُفكّر والباحِث العراقي "ماجد الغرباوي"Majed algharbawi(1954م)، مُسجِّلاً موقِفًا نقديًا من الفكر الديني المُستبد، في ذات الموضع يجتهد في وضع سُبل تجاوز هذه العقبة، وتأسيس خِطاب ديني مُتحرّر يقبل النقد والمُراجعة والإضافة المُستمِرة. وعليه: وِفق رُؤية "ماجد الغرباوي"، ماهي أبرز مظاهر سُلطة العقل الديني التُراثي؟ وفيم تتمثّل فُصول مشروعه التنويري كطرح فِكري لإحلال الدين كطرف مِحوري فعّال وحيوي؟9 majed500

أولاً: ماجد الغرباوي، المسَار العملِي والمَنْجَز الفِكري

"ماجد الغرباوي"، المُفكّر والناقِد، من مواليد 1954م بالعِراق، يَحْمِل الجنسية الأسترالية، "مُتخصّص في علوم الشريعة والعلوم الإسلامية، مؤسّس ورئيس مؤسسة المثقف العربي - سيدني، كان رئيسًا لتحرير مجلة التوحيد (الأعداد: 85-106)، أصدر سلسلة رواد الإصلاح، وكان رئيسًا لتحريرها، كما اشتغل كعُضو الهيئة العلمية لكتاب التوحيد(...)، ومارس التدريس ضِمن اختصاصه في المعاهد العِلمية لسنوات عدّة"(1)، ممّا يوضّح خبرته في المجال العِلمي الأكاديمي، وعلاقته المباشرة بمسائِل الشريعة الإسلامية. سيُصنّف كباحِث بالفِكر الديني religious thought، يهدف من خِلال المشروع الذي سطّره إلى تحرير العقل الدينيreligious reasonمن قاعِدته الأسطورية والاشتغال على إعادة فهم الدين من مُنطلق مركزية الإنسان في الحياة، كما يسعى إلى تهذيب الوعي والنُضج به عبر تحرير الخِطاب الديني religiuos discourseمن قُيود التُراث ومُستتبعات العقل التقليدي. وتنديدًا بضرورة استدعاء قِراءة مُتجدّدة للنص، تعتمد النقد criticismوالمُراجعة المُتواصِلة كآليات بِنائية لها، بغرض فهم الدين فهمًا متجدّدًا، كشَرط رئيسي لأي نُهوض حضاري، يحظى بإسهام مُعتبر في تجذير قيم الحُرّية freedomوالتسامح toleranceوالعدالةjustice ، في إطار مجتمع مدني يخلو من روح الكَراهية spirit of hatredكالعُنف violence ، التنابذ والاحتراب (2). يتّضح إذن، الملمح الجوهري لفكر "الغرباوي"، المُشتغل في حقل نقد الفكر الديني السُلطوي، وما يتداعى عنه من تحريمات وتعنيفات وقتل للأفكار الجديدة. إضافة إلى حِرصه على تأسيس خِطاب ديني مُنتج يتحرّى تحقيق المدنية المُجتمعية المُتولّدة عن مدنية التفكير. ويُشير هذا المسعى إلى أن النص الديني ليس نصًا مُغلقًا مكتمل البناء الدلالي، واضِحًا وظاهرًا، لا يحتاج القِراءة الفاحِصة، وهذا ما أراد له العقل الديني المُستبد حينمَا جعل من تفسيراته للنُصوص محظورة عن المُساءلة بوصفها قِراءة مُباشرة وكُفئ للنص الأصلي، الذي يقبل بالأساس التأويل interpretationوالتفسير explanation والتعقّل، ويدفع إلى البحث عن المعاني المُضمرة، فاللغة حمّالة أوجه وبالأخص اللغة الدينية. وفي هذا السياق يجدُر التنويه إلى نقطة مهمّة، تتعلّق بنوعية القِراءة والشبكة الدلالية المُتمخّضة عنها، فالتأويل والفهم من الآليات التي يدعو إليها الدين الإسلامي ذاته ويحثّ على تنشيط مَلَكة العقل، هذا من جهة ومن جهة ثانية هُناك آيات قرآنية مُختلف فيها ومعانيها مُتوارية تتطلّب الفَحص، لكن ينبغي الحذر من التأويلية الجارِحة التي تتذرّع بعدمية المُقدسsacredسوى الإنسان، وتشرع في تبديل وتحوير الآيات ومضمون النص الديني حينمَا تغفل أنها تضرّ بعقلها الذي ارتهنت له، لأنها بهذه الطريقة تحجبه عن الحقيقة الموجودة في الأعين النظرية الموصولة بالمحتوى الديني، وصلاً تكامُليًا لا تفاضُليًا ومركزيًا. وبالمُجمل يشتغل "الغرباوي" على موضوعات: نقد الفكر الديني، فكر النهضة، العُنف، التسامح، الحركات الإسلامية، المرأة، الترشيد والتنوير (...)(3)، وهي نقاط بحثية قلِقة وهامة، ترتبط بمُستقبل المجتمع العربي الإسلامي ورأسماله الثقافي والقيمي، وشخصيته ومفاهيمه ومدى حُضوره المُستقل والمُبدع في ساحات الفكر والنظر الحصيف، وتعامُلاته مع مُفكريه وإنتاجاتهم بما يضمن الحِفاظ على التراث مع الانفتاح والانتفاع، وترسيخ قيم التسامح بمُختلف صوره، والعقلانية والتتبّع المُلحّ لمُخرجات العقل العِلمي واكتشافات منطق التقدّم، والأهم الانخراط بالدين كسند جوهري في التحضّر، وِفق اعتماد منهجيات النقد والتجديد renovationوالتفكيك deconstructionمع إعادة البناء. أمّا عن إنجازاته وإنتاجاته الفِكرية، فلقد شارك في عدّة ندوات ومُؤتمرات عِلمية، وحازت أعماله على جوائز نقدية وتقديرية نظير مجهوداته، يمتلك "الغرباوي" أكثر من 35 عملاً مطبوعًا، تأليفًا وتحقيقًا وحِوارًا وترجمة، وجُملة مُحترمة من الحِوارات والدِراسات والبُحوث والمَقالات في دور مجلات وصُحف ومواقع، إضافة إلى الحظوة الاهتمامية لعدد من النُقاد والباحثين عرب وأجانب لمَنْجزه الفِكري والثقافي والأدبي(4). ومن بين كتاباته: "إشكاليات التجديد (طبعتان) - التسامح ومنابع اللاتسامح، فرص التعايش بين الأديان والثقافات (طبعتان) - تحدّيات العُنف - الشيخ محمد حسين النائيني، مُنظّر الحركة الدستورية (طبعتان) - الضدّ النوعي للاستبداد، استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني - الحركات الإسلامية، قراءة نقدية في تجلّيات الوعي - جدلية السياسة والوعي، قراءة في تداعيات السُلطة والحُكم في العِراق (...)- ترجمة كتاب الدين والفِكر في شِراك الاستبداد - تحقيق كتاب نهاية الدراية في علوم الحديث(...)، حِوارات معه: إخفاقات الوعي الديني وتداعيات النُكوص الحضاري، حِوار مع ماجد الغرباوي/ سلام البهية السماوي"(5)، وغيرها، خاصة موسوعته متاهات الحقيقة، وعلى سبيل المِثال لا الحصر نذكر كتاب صدر عنه: الفلسفة النسوية في مشروع "ماجد الغرباوي" التنويري، الكاتب: محمود محمد علي. بهذه المُعطيات التي تبيّن الانهمام الفِكري "للغرباوي" بنقد الخِطاب الديني المُتزمّت، الذي يأسر أحقية الفهم understandingوالتأويل في نِطاقه، فإننا نصرف سعينا عن سيرته العمَلية والعِلمية إلى فَحَص وتحليل الصُور الحيّة لسطوة العقل الديني كما سجّلته رُؤيته النقدية.1 salih

ثانيًا: تجلّيات التسلُّط الديني، ضديدة الغرباوي من المُستبِدة الدينية

عَكَف "ماجد الغرباوي" على نقد العقل الديني القامِع، وكشف في مُناسبات كثيرة مُراوغاته، وفضح مُتوارياته، بوصفه حامِلاً ومُنتِجًا للاستبدادtyranny، ومنه الاستبداد الديني religious tyranny الذي يأسر التفكير في نسقه ويُعمّم ثقافة الولاء والطاعة العمياء ضمانة بقاء الأمة تحت سقفه. ولقد خصّص العديد من كتابته لبحث ظاهرة الاستبداد من تعريف، تاريخ، آليات وأنواع وغير ذلك، ويُشار في هذا المقام إلى المجهود القيّم الذي وضعه المُفكّر السوري "عبد الرحمان الكواكبي"abed al-rahman al-kawakibi (1855-1902م) في مؤلّفه الموسوم ب: "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، الذي يعود إليه "الغرباوي" ذاته في تدوين بعض النُصوص. وقبل مُعاينة مظاهر الاستبداد الديني كعامل رافِد للتخلّف الحضاري العربي الإسلامي، نتعرّض أولاً لماهية الاستبداد.

1- في الاستبداد ودعائمه:

من أخطر الأساليب التحكّمية التي تهدف إلى السيطرة وخدمة المصالح وتمرير الرسائل الشخصية أو لفِئة تجمعها منافِع مُشتركة هو الاستبداد بمُختلف أشكاله، حيث يعمد الإنسان الطاغية إلى استغلال نفوذه وخوف الشعب من سُلطته، لغرض بسط هيمنته وتزعّمه التسيير لكل شيء.

أ- تعريف الاستبداد:

يُوصف من يحكُم بمنطق الاستبداد "بالمُستبدdespot ، المُشتقة عن الكلمة اليونانية ديسبوتيسdespotes ، التي تعني رب الأسرة، أو سيد المنزل، أو السيد على عبيده، ثم خرجت إلى عالم السياسة لكي تُطلق على نمط من أنماط الحُكم، بعد أن طوّرت الكلمة أكثر من مرة على يدي رجال الفكر السياسي، كان آخرهم مونتسكيو (1689-1755م)"(6). يُشير مُصطلح الاستبداد لُغويًا إلى دلالات الزعامة وتسلّم مقاليد الحُكم في مكان مُعين وعلى فئة مخصوصة، قد يكون في المنزل وعلى أفراده، أو في الساحة الاجتماعية كفضاء العمل مثلاً وعلى العمال الذين تُخلع عليهم صفة العبيد، ثم كان للمُصطلح أن دخل السياسة ليُصبح شكلاً من أشكال الحُكم، إمّا أن ينحصر الحُكم في يد مجموعة من الأفراد المُستبدة وإما في يد فرد واحد يزعم الملكية المُطلقة، النتيجة أن النظام الحاكم لا يعرف حق الشعب في إبداء الرأي أو في تقرير مصيره، والأخطر من ذلك أن الشعب ذاته هو من يجهل حقه بالموالاة التامة للحاكم المُستبد. والسُلطة المُستبدة هي تلك السُلطة التي تقفز على القانون، فبحسب منظورها لا يخضع الحاكم إلى القانون إنما هو قيد على المحكومين فقط، ممّا يجعلها في حُرية تامة فيم تعلّق بالاجراءات التي تتخذّها لمُصادرة حُرّيات الأفراد أو ممتلكاتهم(7). إذن بهذا التوصيف يكون الحُكم الاستبدادي أخطر الأنظمة الحاكِمة لما ينتهجه من أساليب قمعية ضدّ الشعب وكل من يُخالف عقيدته.

ب- تاريخ الاستبداد:

يُصرّح "الغرباوي" بأن للاستبداد تاريخ طويل، يُثبت تساوقه مع اللحظة التملّكية التي أراد لها الإنسان التحقّق والتجسيد، وبالعودة إلى السجلّ التاريخي المَخفي عن القِراءة، نجد العديد من النماذج التي دلّت على وجود الطواغيت والمستبدين، فالحضارات الشرقية كالسومرية، البابلية، الآشورية، الفرعونية أو الصينية وغيرها، قامت على أساس انتهاك حرية الإنسان وكرامته، هذا الفعل الاستبدادي هو المُنعطف نحو تشييد حضارة مادية عبر التاريخ، وتأسيس حكومات مُطلقة تمتّعت بالسيادة الواسعة المُنفلتة من كل قيد دستوري أو قانوني يحدّ من سُلطتها(8)، فالغريزة الإنسانية للتملّك وتحصيل المنافع جعلته يتّخذ من السُلطة سبيلاً استغلاليًا لجلب مصالحه، فأذلّ بذلك العِباد وأرقّ دماءهم. أما في الدولة الإسلامية فقِياسًا على دِراسات الشيخ "محمد حسين النائيني"sheikh mohammad husain al-nae’eni، لم يكن هناك أيّ مظهر استبدادي في سياسة الرسول صلّى الله عليه وسلم أو الخُلفاء، غير أنه أرجع وجود الاستبداد في الدولة الإسلامية إلى الحُكم الأموي، حينمَا تحوّل الحُكم إلى وراثي لا يهتم لشرط الكفاءة اللازمة في الحاكم الإسلامي، إنما الأهم هو شرط النسب والوراثة فقط(9). نفهم من هذا أن سياسة التسامح والشورىconsultationوالاستماع إلى الآخر والحِفاظ على المُمتلكات والحرّيات والكرامة التي هي من مقاصد الشريعة، كانت ملمحًا جوهريًا نفى الاستبداد عن فترة النبي الكريم والخُلفاء، كما يُمكن تسجيل نقطة مهمة وهي أن الاستبداد في وجه من وجوهه يعتمد على عامل الوراثة من أجل إبقاء دائرة الحُكم ضيّقة لا تتعدّى نِطاقه.

ج- آلية الاستبداد

لأجل الانتشار والتجذّر أكثر يعتمد المُستبد على آليات يُراهن عليها من أجل جعل الاستبداد ظاهرة طبيعية والأكثر مطلوبة كما لو أنها نظام شرعي لإعطاء الحُقوق وإبقاء الحياة، ويرى "الغرباوي" أن المُجتمعات الإسلامية قد عانت من الاستبداد، وطريق الإصلاح يمرّ بداية عبر خطوة هامة تتمثّل في فضح المُستبد ومُراوغاته، وكشف أوراقه(10)، فالاشتغال على التعرية وإسقاط الأقنعة التي يرتديها المُستبد ضرورة سابقة، حتى يحصل الوعي من طرف الشعب المقموع والمقهور بأن الحاكم أو رجل الدين الذي يتوسّمون فيه الفلاح هو مرتع خصب للفساد، من ثم تأتي مرحلة الإصلاح بعد أن تم تهيئة العقل للفهم والموافقة. ويستند المُستبد على آلية دينية، حيث يُلاحظ أنه "يرفع شِعار الدين ويرتدي عباءته عند الضرورة، بعد أن يستغل جهل الأمة، ويستعين ببطانة من الجهلاء. فعلى الصعيد الأول نجد فرعون يرفع شِعار الدين ضدّ موسى عليه السلام ويوحي إلى قومه بأن واجبه يُطالبه بالدفاع عن الدين (...) وأما على صعيد الجهل فإن العوام هم قوة المُستبد وقوته"(11). فمن خِلال التذرّع بالوظيفية الدفاعية عن الدين وبإسم حمل الصِفات الإلهية يتمكّن المُستبد من كسب العامة إلى صفّه، ولنا في ذلك مِثال الطاغية فرعون الذي برّر لاستبداده بالمسؤولية الدينية الموكلة إليه، وسوف يقوى الاستبداد أكثر ويجد المُستبد المساحات الكافِية للتحرّك هيمنيًا فيها بعد أن يضمن جهل الأمة، الذي يحوّل الفاسِق إلى مُصلح، والناقد التنويري إلى مُتمرّد مُجرم، وينظُر بعينٍ نقيضة لكل ما يفعله المُستبد من إهانة وانتهاك وسلب وتعدٍ. ويؤكّد "ماجد الغرباوي" أن الاستبداد الديني أخطر من الاستبداد السياسيpolitical tyranny ، وهو أخطر أنواع الاستبداد وقواه لدرجة أنه يصعب علاجه بل يُمتنع عن ذلك، والاستبداد السياسي متولّد عنه(12)، فالخِطاب الديني هو أهم الخِطابات وأكثرها تأثيرا، لأن الشعوب العربية الإسلامية هي شُعوب مُتديّنة يكتسب الدين في فضائها اليومي حيّزًا كبيرًا، فحتى على مُستوى مشاكلها وأزماتها فإنها ترفض في الغالب حلول العقلانية والأعين العِلمية الحديثة لصالح الفتاوى التي تتحوّل بفعل منطق الجُمود إلى الثنائية التي تأسر: حلال - حرام، ونحن هنا لسنا ضدّ الدين، بالعكس فهو شرط جوهري، لكن الضديدة هي من المُتزمّت الذي يهمّ بانتشار الجهل ويسعى إلى وقف حركة التوعية والتنوير، وبالتالي فخُطورته مُتزايدة ومُكثّفة مقارنة ببقية استبدادية الخِطابات الأخرى. وللاستبداد الديني مظاهر متنوّعة، يفصّل فيها "الغرباوي" في كتاباته، ولقد وقع الاختيار على أهمّها وأكثرها حُضورًا وتوجيهًا.81 majedalgharbawi600

2- أين يتجلّى الاستبداد بالدين؟

يلجأ المُستبد لتحقيق مأرب كبح الحُرّيات، وقتل التفكير ونشر التكفير، وتمويه العقول وإفساد الضمير، وتغييب الوعي إلى أن يُصبح صنمية مُتأزّمة لا تنتج إلاّ التدجين والقبول السلبي بالوضع البائِس على أنه أفضل الأوضاع، إلى الدين والشِعارات الدينية كغِواية ناجِحة للشُعوب المُستضعفة فكريًا قبل كل شيء، ويتمظّهر الاستبداد الديني في نقاط مُهمّة وقلِقة كثيرًا، وهي كالتالي:

أ- إفشال الوعي وتغليط الرأي:

نظرًا للأهمية الفارِقة لملكة التوعية النقدية في إيقاظ الشُعوب ودفعها إلى المُراقبة والمُعاقبة للطبقة الدينية والسياسية القاهِرة، تعمل السُلطة المُستبدة على تزييف الدلالة الأصلية للوعي حتى يحصُل له الإخفاق في تبليغ رسالته التنويرية التي تُعبّر عن جوهر مفهومه. فيؤكّد "الغرباوي" على ذلك، حينمَا يُصرّح بأن الحُكّام والشريحة المُنتفعة لمّا تُدرك خطورة الوعي، فإنها تُسارع إلى سدّ جميع طُرقه، ولمّا عرفوا قيمة الدين في حياة الأمة استندوا عليه لتحقيق مآربهم، فحوّل وعاظ السلاطين وعُلماء البلاط النقد جريمة وتمرّد ديني لا يُمكن العفو عنه، وأعطوا دلالة تفسيرية تضليلية للوعي، حتى صار لدى الناس مُرادِفًا للتمرّد والرفض والخروج عن المألوف من أعراف اجتماعية وشِعارات دينية وتراث وسلف، فإذا أرادوا لشخص ما السقوط قاموا بإنسابه إلى تيار الوعي، ولعلّ أكثر ما عانت منه الطبقة المُصلحة هو إخفاق الوعي وفشله في تحديد المعنى الصحيح لمفهومه(13). بهذه الكيفية تُشوّه المُستبدة السياسية الدينية الوعي؛ إذ تجعل من النقد وروح التوعية جرائم يُعاقب عليها بإسم الدفاع عن الدين وما تُمليه الشريعة، ممّا يتولّد عنه مفهوم خاطئ عن الوعي على أساس أنه كُفر وإلحاد بالنسبة إلى الدين الذي يصطنعونه ويبيعون شريعته والثمن سلب حرية التفكير والتعقّل، من أجل إبقاء الشعب في غفلته، ليكون الوعي ضحية لفساد الجهة القابِضة.

ب- سُلطة النص وسجن القِراءة في قُدسيته

لقد حالت المُستبدة الدينية دون أن تشهد الساحة الفكرية العربية الإسلامية تفاعلاً جدليًا مُثمرًا بين النص والقارئ؛ وذلك بفِعل القِراءة الضيّقة التي ترتاب مزلق خرق المُقدس، رغم أن عالَمها رحب يضمّ المنقول والمعقول، والمسموع والمكتوب، "فالباحث الديني/ الفقيه / المفكر / المفسّر، يقرأ من داخل النص، فيخضع لسُلطته ومحدّداته لا إراديًا، ولا يُمكنه التمرّد عليه. لا لأنه لا يُريد الحرية أو لا يفهم معناها، بل لأن قداسة النص هي التي تتولّى هندسة قبلياته وبنيته الفكرية والمعرفية فتفرض محدّداتها ومدياتها، وآلية تفسيره أو تأويله للنص، وهي التي تحدّد هامش الحرية وفضاء التفكير داخلها (...) ومِثالها جميع القِراءات التُراثية بل وأغلب الفكر الديني الخالِ من النقد والإبداع"(14). يُكبّل النص التحرّكات التفسيرية والقِرائية للباحث الديني، ويأسرها في نسقه ويفرض عليها قوانينه التي تتلخّص في قانون القداسة. ليُشكّل بذلك مرجعية ثابتة هي من تعمل على تحديد خلفياته وقاعدته الفكرية والمعرفية والمنهجية أيضًا للتعاطي مع دلالته، والأكثر تُحدّد مقدار الحرية والتفكّر الذي وعلى حسب ذهنية التطويق في إطار المُقدس تكاد تنعدم. ممّا نتج عنه قِراءات جافة تُردّد المدلول الظاهر للنص من دون تسجيل إضافات جديدة مُبدعة وخلاّقة تخدم النص ذاته بأن تجعله مُنفتحا على كل زمان ومكان ومُواكبًا للحركة الواقعية المُتغيّرة، فإذا تحرّر القارئ وُلد النص وعلى ذات المسيرة سيتوالد صونًا له من إجهاضات الحبس في إطار زماني ومكاني تقليدي. ولا نوافق "الغرباوي" هنا في إدراجه للمفكّر في سياق أولئك الخاضعين للسُلطة النصّية، فالمُفكّر رأسماله هي الفكرة، التي تأبى التحديد والفَرَض القبلي، ثم إن التفكير والتفكّر من طبيعته الجُرأة الموصولة بعلّة الحرية. إضافة إلى أن القِراءات التُراثية لم تكن في مجموعها عقيمة، هناك قِراءات جمعت بين عالم السمع وعالم العقل، ليكون المنتوج مُبدعًا، نذكر من ذلك قِراءات المفكر المغربي "طه عبد الرحمان"taha abed al-rahman (1944م)، وقِراءات أخرى يُحسب لها مجهودها، غير أنه طالها النقد باعتبارها قِراءات مجزوءة، لنكون أمام حتمية منهجية التكامل والتراجع عن توصيفات: "جميع"، "كل"، مثل: قِراءة المغربي "محمد عابد الجابري"mohammed abed al jabiri (1935-2010م)، وقِراءة الجزائري "محمد أركون"mohammed arkoun(1928-2010م) والتي يُشير إليها "الغرباوي" ذاته بتثمين خَرجَاتِها النقدية، لكنه يُحذّر من مزالق الارتهان للأسس المُنطلق منها حتى لا نعود في كل مرة إلى سجن القدسية.

ج- الإزاحة بالعُنف وتكفير التفكير:

يخاف المُستبد الاختلافdifferenceوالنقد والمُعارضة، خوفًا على مصالحه لا على الدين كما يزعم بوقاحة، فالدين الإسلامي الحنيف يدعو إلى الاجتهاد والتعقّل وآيات القرآن الكريم الداعِية بوضوح إلى إعمال العقل والتدبّر والتفكّر خير برهان لمن يحجب البرهنة بأساليب واهِمة. ولقد قاده الاستبداد إلى التعنيف والتكفير والإخراج من ملّة الإسلام، حيث ينوّه "الغرباوي" إلى خُطورة هذا الفِعل القمعي؛ إذ اجتاحت موجة من التكفير العالم العربي والإسلامي في العُقود الأخيرة، كان وراءها حركات إسلامية مُتطرّفة، من دعواتِها الأولى قتل المُختلف دينيًا ومذهبيًا، لترسم صورة سوداوية عن الإسلام وتعاليمه، فهي ظاهرة مُفجعة لا تُلقي سوى بالانطباعات السلبية. ويرتد الفكر التكفيري في أصوله إلى قِراءات غير ناضِجة مُبتسِرة عن الدين، وتأويلات مغلوطة للآيات والأحاديث الخاصة بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر. وتعزّز هذا الفكر المُنحرف بواسطة فتاوى دينية حكمت بحلال قتل الآخر، وهو لون سُلوكي عُدواني آفِل بالفعل الحضاري والجهود المبذولة للتقدّم به. حتى صار الغرب يُرادف بين المسلم والإرهابي(15). يُظهر هذا النص حجم التعنيف والتكفير الذي مارسه المُستبد بالدين ضدّ المُختلف والناقِد، ناتِجة عن جهل بالمضمون الحقيقي، فكل تأويل مُتسرّع سطحي لآيات وأحاديث تتحدّث عن أمور الجهاد، سيؤول بالمعنى المُراد له إلى الهاوية حينمَا يُزاح لصالح آخر يحثّ على تكفير التفكير والإبعاد بالعُنف. هذا الواقع المأزوم للنص الديني جعل من الغرب كما يقول "الغرباوي" يُساوي بين المسلم والإرهابي وهو ما أصبح يُتداول تحت مُسمّى "الإسلاموفوبيا"islamophobia. وبحسب تقدرينا، نرى أن التأويل المُبتسر قد يُخفّف من وطأة الجُرم بعفو الجهل منهم، وإننا نُقدّر المسألة على أنها بعمدٍ وتخطيط، هم يعلمون جيدًا أن نشر قِراءات مغلوطة للنصوص المنوطة بالجهاد طريق مُعبّد لإهدار طاقات التحضّر. كما لا تفوتنا الفُرصة للتأكيد من جهة على رأي "الغرباوي" بأننا بمثل هكذا سُلوكيات تعنيفية وتكفيرية وبإسم الدين نترك الغرب يتصيّد أغلاطنا للحُكم علينا بصانِعي الإرهاب، لكن ومن جهة ثانية لا نغفل على حقيقة أنه هو الإرهاب الفِعلي ونصوص الفلاسفة المعاصرين تعترف بذلك، من مثل كتابات: "جان بودريار"jean Baudrillard(1929-2007م)، "نعوم تشومسكي"noam Chomsky(1928م) وغيرهِما، وأبلغ حجّة على الإرهاب الفكري هي رسومات شارلي إيبدوcharlie Hebdoالساخِرة من شخصية النبي الكريم في محاولة لاستفزاز المُسلمين وإغضابهم، من ثم إعلان أنهم إرهابيين.84 mahmod mohamad ali 600

د- الهيمنة الذُكورية وتهميش المرأة :

بِداية، تُصنّف إشكالية قمع المرأة كإشكالية عالَمية وليست عربية إسلامية فقط، لكن ولأننا نهمّ دائِمًا بُمعالجة إشكالاتنا واعتلالات فِكرنا وواقعنا، فسنحّصر التحليل النقدي في إطاره المَحلي. ولقد حظيت هذه الإشكالية بعِناية بحثية مُتميّزة في فكر"ماجد الغرباوي"، حيث ينتقد كثيرًا المنطق الذُكوري السُلطوي وقمع المرأة، وله في هذا الصدد كتاب مُعنّون ب: إشكالية العلاقة بين المرأة والقرآن، "كمدوّنة عقدية وتشريعية، تستمد قُدسيتها من تعاليها، وهيمنتها على الوعي الديني قاطِبة. وهي تمثّل سُلطة معرفية، وُظّفت لتكريس المنطق الذُكوري، بعد تجريد أحكام الشريعة من تاريخيتها، والدفاع عن إطلاقاتها الأزمانية والأحوالية. يتجلّى ذلك في فتوى الفقهاء والخِطاب الديني المُرتكز لرؤية الفقيه"(16). رغم الدور المِحوري للمرأة داخل المجتمع ومن عدّة زوايا، إلا أن الواقع العربي الإسلامي لا يزال جاحدًا بهذه الحقيقة ولو أننا نلحظ تحسّن في وضعية المرأة خاصة بفضل القوانين التي تحميها من العُنف الذُكوري. وفي إطار قمعِها فلقد عزى ذلك "الغرباوي" إلى الخِطاب الديني المَبني على رؤية ذُكورية تهمّش العُنصر النسوي، بسبب سوء فهم وسوء توظيف لأحكام الشريعة، كعامِل من عوامل قمع المرأة، في وقت أنصفت فيه الشريعة الإسلامية المرأة وضَمِنت لها حُقوقها وصانت لها كرامتها، غير أن العقل الفقهي والديني الرجعي هو من أساء إلى المرأة بمنطق ذُكوري مُستبد. إذن، هذه هي أهم تجلّيات التسلّط الديني والتي تسبّبت في تراجع الفِعل الحضاري وأفشلت المشاريع النهضوية. ولا يتوقّف "ماجد الغرباوي" عند نقد الفكر الديني والخِطاب العنيف القاتِل لروح الأفكار التنويرية، بل يؤسّس لخِطاب آخر يتميّز بكونه يجمع بين الدين كشرط جوهري للانتفاضة الحضارية وبين الأعين العقلية لنكون أمام أطروحة: سمع مُثمر وعقل مُنتج؛ بمعنى كيف نجعل من الدين رافِدًا دافِعًا للتحضّر؟ والإجابة هي القِراءة العقلانية المُنفتحة التي تتكامل والمعاني الإيمانية الحقيقية. 

ثالثَا: نحو سبيل فِكري تنويري، ماجد الغرباوي ورِهان الإيقاظ :

بعد أن عرضنا بالتحليل والنقد الجزء الأول والذي اختصّ بالموقف النقدي "للغرباوي" من منطق الاستبداد الديني ومظاهره، يأتي الجزء الثاني مُوجزًا اهتم بأهم المُهمّات التجديدية التي دعى إليها قصد التغلّب على عوائِق الاستبداد وإيقاظ الشعوب العربية المُسلمة من مراقِدها نحو التفتّح على العلم والمعرفة بالمحافظة على المقاصد الحيّة للدين الإسلامي، وتفصيل ذلك في مايلي:

1- ضرورة التجديد وبعث الفكر التنويري :

يُلحّ كثيرًا "الغرباوي" على قيمة التجديد وإلحاحيته في زمن تفجّرت فيه الرتابة والجمود والتقليد، وانتشرت فيه الحركات المُناهضة لكلّ أطروحات العقل التنويرية والتوعوية، ويقصد بالتجديد، "تحديث أدوات التفكير عبر مناهج ونظريات حديثة، لإعادة النظر بجميع اليقينيات والمقولات الأساسية. من أجل فهم جديد للدين ومقاصِده وغاياته ومبادئه ومعارفه في ضوء تطوّر وعي الإنسان وقُدراته العِلمية والمادية، استجابة لتطوّرات العصر ومُقتضياته، ومعرفة حدود الدين، والمائز بينه وبين الفكر الديني، والتفريق بين الإلهي والبشري، أو بين المُقدّس والمُدنّس"(17). ينبغي تحيين الأدوات المُفكَّر بها بالانفتاح على المسالك المنهجية والمنظورات المعرفية الحديثة، وهذا يُشير إلى أن الإجراءات البحثية التقليدية من مناهج وأعين لم تعد مُثمرة، فهي حبيسة زمان ومكان ولّى عهدهما، لكن بحُسن توظيف؛ فالمناهج المنقولة من دون تحوير وتنسيق ستضرّ بالبيئة المزروعة فيها، والقصد هنا ضرورة تكييف المنهج بما يتماشى وخُصوصية الموضوع، فليس من المعقول الإتيان بمناهج غربية هي في الأصل استنبتت لمُعالجة إشكالات العلوم الإنسانية وإقحامها هكذا في تأويل الأحاديث أو الأكثر من ذلك إخضاع القرآن الكريم لها، فلكلّ منهج تاريخ محلي، ومن أجل الانخراط به في العالمية يجب أولاً تعديل مقاصِده بما يتّفق والمادة المقصودة. كما يدعونا "الغرباوي" إلى التفرقة بين الاصطلاحات المُتقاربة بالضدّ غير المُتطابقة، مثل: المُقدّس / المُدنّس حتى نحفظ الدين الحنيف من تشوّهات الخلط التي تُحيل كل شيء إلى مُدنّس، وفي ذات الموضع يُنبّهنا إلى أهمية فهم جديد للدين، فهمًا حقيقيًا لما يرمي إليه ويقصده. وفي حديثه عن قيمة الفكر التنويري، فيؤكّد أنه لا تراجُع عنه؛ لأنه ولغرض إزالة الحواجز وفتح الطريق أمام موجات الإصلاح والتغيير، يتطلّب إفشال مساعي رجل الدين والحُكم والعشيرة والوقوف في وجههم ممن يستثمرون في الجهل والتبعية وعدم الانفتاح على آفاق العِلم والمعرفة والحضارة ورأي الآخر، من أجل تجذير سُلطتهم التي يخافون عليها من استيقاظ العقل وتمرّده على سُلطاتهم. وإن لم نُفعّل قِوى المُعارضة سيبقى الفكر والثقافة أسيرًا في عالم النظر والورق مفصولاً عن الواقع لا يؤثّر فيه، ولهذا فالنقد ثم النقد بهدف شقّ آفاق الوعي(18). فالرِسالة واضِحة الخُطوط والمعاني؛ إذ ينبغي بإصرار كسر وتيرة الاستبداد بخاصة الديني، فالدين لبِنة رئيسية للتحضّر، وأيّ توظيف إيديولوجي مشحُون بالسُلطة سيُحيل المَسعى إلى وهم هادِرًا للطاقات، وعلى سيرة التنويه يُشار إلى أن "الغرباوي" خصّص كتابات حول واقع السياسة والدين في بلده العراق، من ذلك كتابه الذي حاوره فيه "طارق الكناني" والمعنّون ب: "رهانات السُلطة في العراق، حوار في أيديولوجيا التوظيف السياسي". والنقطة الثانية تتعلّق بقيمة إنسانية راقية نقيضة لإرهاب العُنف والاستعباد.

2- ترسيخ قيمتي التسامح والحُرّية :

ما يُميّز المُجتمع البشري التركيبة الغنية بالاختلاف والتعدّديةmultilateralism ، ممّا يفرض وجوبًا التسامح مع هذه القيم الكثيرة وأن لا نُعنّف بعضنا البعض لمُجرّد أننا نختلف دينيًا أو عرقيًا أو جُغرافيًا، فهو هبة ربّانية تحمينا من تمزّقات المُطابقة والاتفاق في كل شيء. ويُحدّد "الغرباوي" الأبعاد الجوهرية للتسامح في نبذ العُنف ورفض الطائفية واعتماد آليات المجتمع المدني والإيمان بها، واتخاذ مبدأ الحوار كمبدأ لحلّ النِزاعات كافة، ولذلك فإن الحُرّية عنده ليست ماهية بل مُشخّصنة؛ بمعنى مُتجسّدة ولها وظيفة اجتماعية مُحدّدة. ولا يُمكن أن نقدّم لها آية ضَمَانات سياسية في مُجتمعات كمُجتمعاتِنا(19). فالتسامح شرط أساسي للالتحام، وهو عصب العيش المُشتركcommunal living، الذي يُعد مطلبًا مُلّحًا لعديد الفلاسفة مُمثّلي البراديغمات المُتلاحقة: الاختلاف، التواصل communicationوالاعترافrecognition، ولقد أكّد "الغرباوي" على ضرورة تفعيله، بخاصة بين الأديان وتأسيس ثقافة التعايش واحترام المُعتقد المُختلف، والتسامح يستدعي الحُرّية؛ أؤمن بحُرّيتك بالتالي أتسامح مع اختلافاتك عنّي، والتي يخلع عليها صِفة عملية تندرج بها ضمن فلسفة الفعلphilosophy of actionحينمَا يطلب تجسيدها في الواقع الاجتماعي وليس الرفع من قيمتها في عوالِم النظر والماهية والجوهر. أمّا النقطة الثالثة فترتبط بالمرأة وإصلاح الرؤية التعسّفية لها.43 malida2

3- إنصاف المرأة، نحو قيم تحفظ إنسانيتها من تسلُّط الذُكورة وعِبادة الأنُوثة :

يهدف "ماجد الغرباوي" المُهتم بقضية المرأة ومنه ما يُعرف بالفلسفة النسويةfeminist philosophy، إلى إحلال منظور عقلاني عادِل لها، تِبعا للظُلم الذي تعيشه بسبب ولاء المُجتمع للمنطق الذُكوري وإخلاله بالقيمة الإنسانية للمرأة؛ إذ يرى أن "أهم إشكالية تواجه المرأة عامة والمرأة المُثقّفة خاصة، تحرير العقل الجمعي من ذُكوريته وسُلطويته واستخفافه، ليرقى إلى مستوى إنسانيته في تعامُله معها. مع تعميق ثقتها بذاتِها وبمَنْجَزِها، بعيدًا عن تاء التأنيث، تحاشِيًا لإعادة إنتاج الذُكورة من خِلال تكريس الأنُوثة"(20). إنها تحديدات مطلبية مُهمّة للغاية، حيث ينبغي بإصرار تحرير الوعي، والاعتراف بقيمة المرأة وتقدير مجهوداتها، والعمل على توعية المُجتمع بأهميتها، وأن الإنسانية برجالِها ونسائِها، والحضارة تُبنى بهمَا معًا في إطار حُقوقي وواجباتي عادِل. وينبّه "الغرباوي" إلى نُقطة فارِقة غفلت عنها الحركة النسوية المُتطرّفة في دعوتها للاتفاف حول المرأة، وهي أنه يشير بذكاء إلى توخّي حذر الوقوع في تكريس الأنوثة التي ستُنتج تلقائيًا الذكورة، ليتوالد الصِراع بينهُما، ويأتي هذا التنبيه إلى كون الأنُوثة والذُكورة عبارة عن مدلول جنسي، وطريق إنصاف المرأة عبر تقديم أنوثتها لن يورث سوى الإذلال لها بحكُم أنها توصيفات جنسية ستجعلها حبيسة منظور الجسد والدلالات الجنسية، أمّا أن نُنصف المرأة لنحافظ على المرأة فله معانٍ أكثر رِفعة من اجتماعية، عِلمية، اقتصادية، تاريخية وثقافية، التي تستدعي دورها الفعّال في التقدّم والتحضّر. وفي حديثه عن وظيفة الخِطاب الديني، فيدعو إلى توظيف الخِطاب الديني الإنساني، العقلاني والتنويري، الذي يعتمد قيم العدل، الرحمة والتراحم(21)، من أجل إبلاغ مأرب منشود لحظة التحقّق، يُعيد للمرأة إنسانيتها وثقتها الضائِعة في مُجتمعاتنا المثقوبة نفسيًا ومعرفيًا وقيميًا.

إذن، كانت هذه أهم النقاط الفِكرية التي طرحها المُفكّر "ماجد الغرباوي"، ليُبيّن بواسطتها الفهم المُشوّه الذي ينجم عن عقل مُتعصّب يخدم منطق الأبويات والوصاية، ولا يكترث لقيم التنوير والحُرّية والإنسانية التي تأبى التأطير، وهذا ما توضّح في الاستبداد الديني القاتِل للجدّة والأصالة معًا. ليضع مشروعه التجديدي والإصلاحي الرامِي في مفاصِله إلى إحداث تغيّرات حقيقية على مُستوى الفهم والسلوك.

خاتمة:

بعد الانتهاء من وضع نقطة النهاية لهذه الورقة البحثية، والتي نُقرّ بأنها نهاية ظرفية مخصوصة هُنا فقط، في انتظار جُهود أخرى تُصحّح أخطاء المسار وتُثمّن صوابيته، نصل إلى إدراك عُمق الضرر الذي يلحق بالواقع العربي الإسلامي جرّاء مركزيات دينية مُستبدة، تقطع الطريق على إمكانات فِكرية آمنت بأن قدر التخلّف والتبعية يُمكن ردُّه بالعمل والإرادة على التغيير نحو الأفضل، وتُجهِض المُحاولات الطموحة لاستنطاق مقدرات العقل المُتّفقة مع القول الديكارتي: "العقل أعدل قسّمة توزّعًا بين الناس"؛ لتبعث الثقة في الذات المُفكّرة بأن العطاء المنهجي والمعرفي ليس حِكرًا على العقل الغربي، فقط ينبغي تهيئة الشُروط اللازمة. لتدفع هذه الحالة المُتأزّمة مُفكّرًا وباحثًا نُقدّر يقظة ضميره الفِكري ونقرأ نصوصه بعينٍ موضوعية تتصل ولا تنفصل، ناقِدة لا ناقِضة، وهو "ماجد الغرباوي"، لنؤكّد على نُقطة طرحها وألحّ على الالتفاف حولها، وهي الإنسان، كسؤال محظور في ثقافتنا، فنحن نشتغل على مباحث المُقدس، الديني، الدولة، ولكن مبحث الإنسان مفقود، رغم أنه مبحث غني جدًا بالإمدادات المعرفية الموصولة بفروع عديدة أبرزها علم الأناسة، ثم إن السبيل للتحضّر يستلزم الإحاطة بالإنسان، ولذلك يجب أن يعي العقل العربي المُسلم أهمية الاشتغال حوله، وقيمة القِراءات الإنسانية العقلانية المُتحرّرة من قبليات لاهوتية مُتزمتّة، في حين مُنفتحة ومُتكاملة مع نُصوص إيمانية عرفت قدّر قارِئها.

***

شهرزاد حمدي – طالبة دكتوراه / فلسفة

كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة محمد لمين دباغين سطيف2، الجزائر

.............................

* الدراسة قد شاركت ضمن أعمال مؤتمر: المتغير الفكري وأثره على الخطاب الديني.. الذي انعقد في كلية التربية الأساسية، جامعة الكوفة العراق آذار 2022م، ثم تم نشره مؤخرا في مجلة الكلية الإسلامية الجامعة المحكمة، في الجزء الثاني من العدد: 71 / 28 آذار 2023م.

الهوامش:

(1) موقع المثقف العربي:

https://www.almothaqaf.com/foundation/majed-algharbawi-cv

(2) المرجع نفسه

(3) المرجع نفسه

(4) المرجع نفسه

(5) ماجد الغرباوي، إشكاليات التجديد، ط3، مؤسسة المثقف العربي، شركة العارف للأعمال، سيدني، بيروت، 2016م، ص 247

(6) ماجد الغرباوي، الشيخ محمد حسين النائيني، مُنظّر الحركة الدستورية، ط1، مؤسسة المثقف العربي، شركة العارف للأعمال، سيدني، بيروت، 2012م، ص 137

(7) ماجد الغرباوي، الضدّ النوعي للاستبداد، إستفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني، ط1، مؤسسة المثقف العربي، شركة العارف للأعمال، سيدني، بيروت، 2010م، ص 30

(8) ماجد الغرباوي، الشيخ محمد حسن النائيني، مُنظّر الحركة الدستورية، مصدر سابق، ص ص 139-140

(9) المصدر نفسه، ص 140

(10) صالح الرزوق، جدلية العنف والتسامح، قراءة المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي، ط1، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، 2016م، ص 51

(11) ماجد الغرباوي، الشيخ محمد حسن النائيني، مُنظّر الحركة الدستورية، مصدر سابق، ص ص 146-147

(12) ماجد الغرباوي، الضدّ النوعي للاستبداد، إستفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني، مصدر سابق، ص 28

(13) ماجد الغرباوي، إشكاليات التجديد، مصدر سابق، ص 36

(14) ماجد الغرباوي، النص وسؤال الحقيقة، نقد مرجعيات التفكير الديني، ط1، مؤسسة المثقف العربي، دار أمل جديدة، سيدني، دمشق، 2018م، ص 35

(15) ماجد الغرباوي، إشكاليات التجديد، مصدر سابق، ص 15

(16) محمود محمد علي، الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري، ط1، مؤسسة المثقف العربي، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، سيدني، الاسكندرية، 2020م، ص 15

(17) ماجد الغرباوي، إشكاليات التجديد، مصدر سابق، ص 24

(18) ماجد الغرباوي، متاهات الحقيقة (1) الهوية والفعل الحضاري، ط1، مؤسسة المثقف العربي، دار أمل الجديدة، سيدني، دمشق، 2019م، ص 196

(19) صالح الرزوق، جدلية العنف والتسامح، قراءة في المشروع الإصلاحي التنويري لماجد الغرباوي، مرجع سابق، ص 73

(20) محمود محمد علي، الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري، مرجع سابق، ص 12

(21) المرجع نفسه، ص 40

- قائمة المصادر والمراجع

أولاً: المصادر

1- ماجد الغرباوي، الشيخ محمد حسين النائيني، مُنظّر الحركة الدستورية، ط1، مؤسسة المثقف العربي، شركة العارف للأعمال، سيدني، بيروت، 2012م

2- ماجد الغرباوي، الضدّ النوعي للإستبداد، إستفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني، ط1، مؤسسة المثقف العربي، شركة العارف للأعمال، سيدني، بيروت، 2010م

3- ماجد الغرباوي، النص وسؤال الحقيقة، نقد مرجعيات التفكير الديني، ط1، مؤسسة المثقف العربي، دار أمل جديدة، سيدني، دمشق، 2018م

4- ماجد الغرباوي، متاهات الحقيقة (1) الهوية والفعل الحضاري، ط1، مؤسسة المثقف العربي، دار أمل جديدة، سيدني، دمشق، 2019م

ثانيًا: المراجع

1- صالح الرزوق، جدلية العنف والتسامح، قراءة في المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي، ط1، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، 2016م

2- محمود محمد علي، الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري، مؤسسة المثقف العربي، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، سيدني، الاسكندرية، 2020م

ثالثًا: المواقع الإلكترونية

1- موقع المثقف العربي:

https://www.almothaqaf.com/foundation/majed-algharbawi-cv

مقدمة: يعد ماجد الغرباوي، المفكر العراقي من أهم الاسماء المعاصرة في العالم الاسلامي والتي طرحت بجرأة أسئلة مرتبطة بالتخلف الذي يعاني منه اغلب بلدان شمال افريقيا والشرق الاوسط وبلدان اخرى مسلمة، اسئلة مؤرقة شغلت بال مفكرين كثر كأركون والجابري وطه جسين وحسين مروة وغيرهم الكثير، اجيال تتالت واحدثت نظريات مختلفة وتارة متباينة، كلها تصب في مصب واحد وهو ايجاد المخرج من المأزق الحضاري الذي نعانيه.

اضافة الى ذلك، نمت افكار اصلاحية تحاول تحليل المنظومة الفكرية والعقلية للمسلمين بيد انها ووجهت احيانا بالتنكيل واحيانا بالرفض والتكفير، ويحاول الغرباوي تحليل منابع ذلك النكوص واليقين السلبي من خلال هذا الكتيب الذي يحاوره من خلاله الأستاذ سلام البهية السماوي، وذلك وفق مقاربات نقدية وتحليلات مبنية على المقارنة مع الغرب، بعيدا عن الخيار العنفي الشمولي والفكر الرجعي، وتم طرح قضية التجديد على طاولة النقاش، زد على ذلك ثلة من الاسئلة والمظاهر التي تبصم بنية العقل الاسلامي.

من هو ماجد الغرباوي:

ماجد الغرباوي كما مدون في سيرته في "مركز نقد وتنوير": مفكر عربي تنويري معروف بإسهاماته النقدية الإبداعية في مجال الفكر العربي في مختلف تجلياته الفلسفية والدينية. ويعد الغرباوي من أصحاب المشاريع الفكرية النهضوية في العالم العربي والإسلامي . وقد شيد مؤسسة المثقف العربي في سيدني باستراليا، وهو يرأس حاليا هيئة تحرير صحيفة المثقف الشهيرة . يتضمن مشروع الغرباوي قضايا حساسة جدا في الفكر العربي ويتمحور هذا المشروع في العمل على تحرير العقل من بنيته الأسطورية وإعادة فهم الدين على أساس مركزية الإنسان في الحياة. ويركز على أهمية التنوير الديني وتحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، ويؤكد الغرباوي على أهمية قراءة متجددة للنص الديني تقوم على النقد والمراجعة المستمرة، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب. ويتناول ماجد الغرباوي ضمن مشروعه على موضوعات: فكر النهضة، نقد الفكر الديني، التسامح، العنف، الحركات الإسلامية، المرأة، التنوير، والنهضة الحضارية في المجتمعات العربية والإسلامية. وقد صدر لها أكثر من 34 كتابا أهمها متاهات الحقيقة التي صدر عنها 8 كتب لحد الآن1.3057 اخفاقات الوعي الديني

اخفاقات الوعي الديني، حوار في تداعيات النكوص الحضاري

يشير ماجد الغرباوي في معرض الاجابة عن التساؤل المرتبط بالفرق بين الغرب والشرق بما يلي...

الشرق

- رفض الاخر ووصفه بالنجس والكافر (بما في ذلك الاخر الداخلي)

- في حالة الاعتراف فانه يكون تفضلا ومنة

- القهر والكبت والحرمان

- التسلط وتقديس الافراد

- غياب سياسة ثقافية وتذوق للفن والجمال

الغرب

- انسان يعي مسؤولياتيه

- يقبل بتداول السلطة سلميا

- يتعايش مع الاخر رغم اختلاف الثقافة والدين

- يجيد لغة التفاهم

- يتمتع بحرية واسعة تتيح الابداع في كل المستويات

الحرية الدينية وحرية الاعتقاد، مما يتيح التعبير وممارسة الطقوس والشفافية

- استبعاد سلطة الكنيسة (رجال الدين)

- التحرر من ثقل التراث والماضي

- التحرر من العادات والتقاليد المكبلة

- الارتكاز على العلم والتجربة 

 ***

يحذو الغرباوي حذو ادونيس في معرض نقاش التنافس بين الحضارتين، حيث ان ادونيس يقول بأننا بدون الغرب صحراء وجمل، لذلك يعتقد الغرباوي ان المجتمعات الاسلامية ليست في مستوى يؤهلها ان تكون ندا للغرب2، هذا الاخير استعمرها وتفوق عليها كليا، وذلك نتاجا لتطوره الهائل في كل الميادين، علميا وعسكريا واقتصاديا، والمسلمين غارقين في تقليدهم، والمغلوب مولع بتقليد الغالب حسب ابن خلدون... وذلك حتى في مجال الابداع الادبي، واكد على ازمة المسلمين في التبرير والتباكي على الاطلال وعدم الاعتراف. يخلص المفكر العراقي الى ان العالم الاسلامي مطالب بتشييد نموذج خاص واستكمال النهضة وبعدها المرور الى التناد مع الحضارات الاخرى3.

وهذا النموذج الحضاري الذي يطرحه الغرباوي ينبغي وفق ما يراه ان يكون مبنيا على اسس احترام الاختلاف والمعارضة وبناء ديمقراطية حقيقية تمكن من الازدهار والتحرر من القيود التي تكبل تفتق وعي الفرد، ويضرب لنا مثالا باليابان التي تمكنت من فرض ذاتها كحضارة مشكلة معادلة صعبة في المشهد العلمي والاقتصادي والعسكري على الصعيد العالمي، يرى ايضا ان الدخول في حلبة التنافس كحضارة يقتضي الانطلاق من الهوية الخاصة كاليابان التي انطلقت من تراثها الخاص وتمكنت من تطويره ومن ثم طرحه كنموذج يحتذى به فنيا وسياسيا وثقافيا... بعيدا عما يقدمه المسلمون الان من صورة على حياتهم والتي جعلت منهم محط انتقاد وسخرية وازدراء4.

التفاعل الحضاري:

يؤكد الغرباوي على ضرورة الانفتاح على الاخر وذلك قصد الاستفادة من منجزه العلمي والثقافي والادبي، وذلك ممكن عبر الترجمة، اذ يذكر لنا نماذج من التاريخ كما وقع في العصر العباسي التي شهد ازدهارا للمسلمين وذلك بعد ايلاءهم الاهتمام للترجمة ونقل معارف المجتمعات الاخرى والاستفادة منها. تعد الترجمة اذن علاوة على الفتوحات الاسلامية من بين العوامل التي شهدت انفتاحا للمسلمين على الحضارات الاخرى وفق الغرباوي5.

يجيب الغرباوي عن مجموعة من المغالطات عبر هذا المؤلف، ومن بينها ان العالم المتحضر استغل العلماء المسلمين من اجل التقدم، وهذا ليس الا محاولة لتبرير التخلف وغياب احترام العلماء في العالم الاسلامي، لان الغرب ايضا له منجراته الخاصة وهي كثيرة6... وهنا يمكن ان نقول ان المهم ليس ان يكون لك علماء ولكن الاهم ان تعرف كيف تعطيهم مفاتيح الاسهام في التغيير، فالعالم الغربي قدس رجال العلم ومكنهم من زمام الامور، غير عالمنا الاسلامي الذي يعانون فيه من التضييق والتكفير والمغادرة الى احضان من يمنحهم قيمتهم، وجدير بالذكر ان الحضارة الاسلامية في فترات تقدمها ايضا كانت تستقطب علوم الامم الاخرى وتستفيد منها. وبهذا نخلص الى ان الحضارات القائمة على اسس متينة هي الحضارات التي تعرف كيف تحتضن العلماء والعقول.

الفلسفة الاسلامية والفلسفة اليونانية:

صحيح ان الغرب استفاد من ثروات المسلمين في الطب والجبر والفلك وغيرها من العلوم بيد ان هذا لا يستوجب ان يكون مصدرا للتفاخر في العصر الحالي، والا فيما سيفيد والمسلمين مستعمرون ولا قوة لهم رغم الثروات الهائلة التي حبى الله بها بلدانهم، ويعيشون الفقر والقمع طامحين الى المغادرة والهجرة هربا من كل هذه الويلات، التي يساهم فيها الجبروت الغربي الذي يستنزف كل خيرات هذه الاوطان.

اما بخصوص تأثر الفلسفة الاسلامية بالفلسفة اليونانية، فيشير الغرباوي الى ان الفلسفة في الاصل هي يونانية النشأة ومن ثم اخد منها المسلمون بعض الاسس التي خلقوا من خلالها فلسفة اسلامية تحمل اشياء كثيرة من نظيرتها اليونانية وبرزت في هذا الصدد اسماء كالكندي وان رشد والفارابي وغيرهم، وذكر الى ان هذا التأثر يتجلى في الاشتغال بالمنطق الارسطي الذي لا يزال طاغيا في فكر المسلمين، وقد شكل مجال الالهيات والمنطق والرياضيات اهم المجالات التي استقى فيها المسلمين افكارهم من فلاسفة اليونان القدامى7.

الغرب والشرق، حوار ام صراع؟

مع ما اتاحه عصر التقدم التكنولوجي الهائل من امكانيات للتفاعل والحوار، الا ان الحركات الاسلامية المتطرفة عرقلت هذا المسار عبر ممارساتها التكفيرية والعنفية والتي جعلت الاخر يخاف ويتوجس، واشار الغرباوي الى ان الغرب لا زال مسكونا بنظرية هنتنغتون، صراع الحضارات، رغم ان شعوب الغرب بعدما ذاقته من الويلات في الحروب لم تعد تثق كثيرا في التوجهات الاقتصادوية والسياسوية في سياسات حكوماتها الخارجية8.

واشار المفكر الغرباوي الى ان الارضية لم تتهيأ بعد، لا للغرب ولا للمسلمين، لإنشاء جسور التواصل والحوار، لان الغرب يحتوي على شرائح واسعة من العنصريين الذين يدعون التفوق العرقي، وفي المسلمين ايضا شريحة كبيرة من التكفيريين الذين يتصورون الاخر نجسا وكافرا لا ينبغي التفاعل معه9.

التطرف الديني:

على امتداد تاريخ المسلمين، شهد عددا كبيرا من القتلى المسلمين بسيوف اخوانهم المسلمين، لا لشيء الا لاختلافات بسيطة او تأويلات خاصة وفي احايين كثيرة من اجل السلطة والمارب السياسية، هذا القتل كان قد تواطأ فيه رجال الساسة بإيعاز من رجال الدين الذين يبيحون ما يريدون وفق اهواءهم. هذا الوضع ساهم في خلق الخوف في صدور المسلمين وتراجع حرياتهم السياسية التي يخشون حتى الحديث عنها، فما بالك المطالبة بالحقوق في الحرية والكرامة والعدل10.

القرآن والتقدم الحضاري:

يعرف الغرباوي الحضارة على انها منجز انساني ناتج عن تفاعلات فكرية مادية، ويستحضر دعوة القرآن الى الانتشار في الارض والتفكر والتعقل والتدبر... ويخلص الى ان القرآن الكريم اوجد ارضية لبناء الحضارة في بعديها المادي من خلال العقل وبعدها الروحي من خلال ربط الدنيا بالآخرة11.

اما فيما يخص قدرة القرآن على رص صفوف المسلمين يشير الغرباوي الى ان فيه دعوة صريحة للاعتصام بحبل الله والتعارف والتآزر، الا ان المسلمين ومنذ وفاة الرسول وهم تتقادفهم موجات التطرف والطائفية والسياسة والعنف والاقصاء، وهذا ما مرقهم وجعل اختراقهم اسهل ما يكون12.

التخلف الحضاري واسبابه:

يرجع الاستاذ الغرباوي اسباب نكوص المسلمين الى سببين:

اولا: السبب السياسي، حيث انطلقت الصراعات السياسية حول السلطة بوفاة الرسول، وما زاد الطين بلة هو غياب آيات صريحة تحدد شكل السلطة وصفات الخليفة، دون نسيان ان الرسول الكريم لم يخلف احاديث تحد من حدة النزاعات السياسية، ما عدا بعضها الذي فهم بتأويلات متعددة، ومنذ ذلك الحين ظلت الخلافات ضارية ولم يتمكن المسلمين من الاستقرار على نمط حكم يقيها من الطائفية والمذهبية، عوامل نخرت جسدهم من الداخل13.

ثانيا: سبب مرتبط بمرونة النص القرآني الذي يشكل منظومة القيم والتشريعات، والتي تأثرت بدورها بالنزاعات السياسية، وعانت من التجاذبات حول السلطة والزعامة منذ العصر الأموي وحتى العباسي، ونشأ التكفير والاضطهاد والقمع باسم الدين والشرعية14.

اذن يخلص ماجد الغرباوي الى كون الحرية والابداع والازدهار رهينين بسياسة الديمقراطية القائمة على منح المجتمع الهامش الذي يتيح تفتق قدراته وعبقرتيه، وهذا ما حدث في الغرب عكس العالم الاسلامي الذي طبع مع الجهل والتسلط وقمع المعارض.

ان ارتباط الديني بالسياسي عامل حاسم في ارساء الاستبداد، بحيث انه باسم الدين تم اضطهاد الشعوب واستعبادها، واستقى السياسي مشروعيته من الدين بتواطؤ من الفقهاء معه، ويشرعنون له ما يشاؤون لتتولد ممارسات سياسوية رجعية تختفي وراء ستار الدين. وترسخت ايضا قيم القبلية والعشيرة التي تكبل الفرد في سياق جد ضيق، ينضاف اليها النظام الابوي الطاغي15.

وكنتيجة لذلك الاستبداد الثيوسياسي انعدم الوعي وقلت فرص التعلم ودور المثقفين والفنانين، ولعل ما عمق الجراح هو الاستعمار الذي لم تتحرر الامة الاسلامية منه بعد رغم خروجه الا ان الشعوب والسلطة لا زالوا يلهثون وراءه.

ويضيف الغرباوي عوامل اخرى ساهمت في هذا النكوص كغياب الاعتراف بالآخر وخاصة المختلف مذهبيا ومنها نشأ التمزق والفرقة وسادت نزعات تقديسية للأفكار المتوارثة والعادات، قدس الافراد كذلك وتسامت مجموعة من الامور على النقد والتمحيص16.

ان هذا الوضع جعل من التقليد مرجعية، وجعل بذلك من الماضي سيد الحاضر، والتحرر رهين بتجديد الوعي والتعامل مع الحاضر كمستجد، فلكل جيل خصوصياته وافاقه. وتحدث الغرباوي عن قمع المرأة وتقزيم دورها ايضا في التربية والثقافة، وتنضاف عوامل غياب الحس بالمسؤولية والتفاضل والتمرد على القانون وغيرها...

النهوض الحضاري:

الصدمة الحضارية وسؤال النهضة، لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمين استنهضا اتجاهات تشخيصية للأسباب وطرح الحلول للخروج من المأزق:

الاتجاه الاول: اتجاه اجتاحه الانبهار بالغرب والذوبان فيه، هو اتجاه وفق الغرباوي يحاول خلق تبعية عمياء للغرب، لأنه لا يكفي تبني مبادئ وقيم الاخر كما هي من اجل التقدم، فهذا قد يكون سببا في الاغتراب كما يعيش ابناء الجاليات المقيمة في الغرب17.

الاتجاه الثاني: في مقابل الاتجاه الاول يعتقد دعاة هذا الاتجاه الثاني الى الانكفاء التراث الخاص وتقديسه، بل ذهب الى حد العداء للغرب والانغلاق في سياجات دوغمائية عمياء18.

الاتجاه الثالث: اتجاه توفيقي بين الجانب الديني والجانب العلمي، ويصف الغرباوي هذا الاتجاه الى انه اقرب الى الصواب، لأنه يأخذ بأسباب التقدم التقني والتكنولوجي وفي نفس الوقت يدعوا الى التشبث بالتعليمات الاخلاقية للإسلام والتي تحد من خطورة تلك التقنيات كالأسلحة الفتاكة مثلا، هذا الاتجاه تمثله شريحة من رواد الاصلاح لكن حدث لهذه النزعة نوع من التراجع والجمود والسقوط في فخ التبعية19.

علاوة على كل ما ذكر يؤكد ماجد الغرباوي ان مشاكلنا معقدة جدا، وليس سهلا الخروج بخلاصات في اسباب نكوصنا، ويرجع وضعيتنا الى بنية العقل وازمة الثقافة والنظام المعرفي لهذه الشعوب20.

اشكالية الفكر التكفيري:

ان تفشي ظاهرة التكفير والعنف ضد الاخر المختلف مذهبيا حقيقة منتشرة في العالم الاسلامي، ولا يتناطح كبشان على ذلك، ويرجع الغرباوي اسباب نشوء هذه النزعات التكفيرية الى قراءات معاقة للآيات القرآنية، وبالمناسبة هذه الممارسة هي تعبير عن وعي شقي ناتج عن سوء فهم للدين وعن ازمات نفسية واجتماعية واقتصادية.

ويعزز تواجد هذا النوع من التفكير غياب الحس النقدي وتدعمه جهات عازمة على تشتيت المسلمين قصد تحقيق النفوذ والسلطة. ولا مسوغ لفتاوى القتل او العنف ضد اي شخص مهما كان اختلافه، بحيث ان القرآن ينص على ان قاتل نفس بدون حق كقاتل الناس جميعا. ولا يجوز التهاون مع مثل هذا الفكر، بل وجب اجتثاثه من جدوره، وجب الحد من تلك اليقينيات السلبية التي تبصم فكر الكثير من شباب العالم الاسلامي21.

اليقين السلبي:

يضع الغرباوي القارئ امام نوعين من التفكير، تفكير يقيني سلبي مبني على الدجل والخوارق والإطلاقية من اجل قضاء الحاجات كالتطبيب مثلا... وتفكير يقيني ايجابي يعتمد على التجربة والعلم والعمل والاجتهاد.

نشأ تحرر الغرب من الخروج من نطاق طغيان الكنيسة، وذلك اعتمادا على الشك والبحث الدائم والتجربة، اما في العالم الاسلامي فلا يزال التحفظ يغلب في عديد القضايا، توجس يخلق خوفا من النقاش والتحليل اتقاء لانكشاف ريف عدة يقينيات22.

التجديد ضرورة حضارية:

يجيب الغرباوي عن مجموعة من الادعاءات التي تتهم الدين بالوقوف خلف تخلف المسلمين، ويواجه هذا الطرح من المسلمين ذاتهم باستماته، لان الدين عندهم خط احمر. ويصحح الغرباوي الخلط الذي يقع قائلا بأن هؤلاء لا يخلوا طرحهم من صواب لولا طريقتهم في معالجة الاشكالية، وكان عليهم التفريق بين الدين والديني، بين النص والتراث. وانطلاقا من كون الدين مسألة لا يمكن تجاورها في العالم الاسلامي، يطرح الغرباوي ضرورة القيام بقراءات نقدية في النصوص الدينية رغبة في تحقيق النهضة، والتقدم التقني والتكنولوجي يقف ايضا على الاستفادة من العلوم والتجارب الحديثة23.

التجديد اذن ضرورة ملحة وجب ان يكون ثورة فكرية تراهن على وعي الشعوب والشباب خاصة، مع العلم اننا في عصر النمو التقني الذي يتيح الاكتشاف والانفتاح، رغم ان كثير من رجال الدين سيقفون حجر عثرة امام هذا المسعى، وذلك حفاظا على سلطتهم الرمزية في توجيه العقول، وكذا حفاظا على مكاسبهم المادية... ولعل ما نشهده من رغبات اصلاحية تعاني من التنكيل والتكفير والاستفزاز علامة دالة على تخوف هؤلاء المحافظين.

التجديد يقتضي التسلح بالمعارف والمناهج الحديثة لمسايرة العصر ولخلق نموذج مجتمعي قائم على النقد وعلى السؤال، ويبدأ ذلك من تربية النشأ على قيم المواطنة الحقة واعطاءهم حرية ابداء الرأي والاجابة على تساؤلاتهم دون قمع او تنكيل او ضرب... هو تجديد للرؤية وتحفير للعقل قصد السير قدما والتخلص من ثقل التراث الذي يشدنا الى الوراء24.

خاتمة:

بعد هذا الحوار تباينت ردود افعال المتدخلين، المنتمين الى مختلف التخصصات العلمية والفنية والادبية ومختلف الاتجاهات الفكرية، بين مؤيدة لأفكار ماجد الغرباوي ومعارضة لها، وكذلك أخرى اضافت اشياء لم يستحضرها او غفل عنها او تناساها، ولعل هذا مؤشر اخر يدل على صعوبة الموضوع وتفرعه وشدة الخلافات حوله25.

ان تخلف المسلمين موضوع جد صعب، ولعل ما يزيده ضراوة هو التجاذبات السياسوية والنزعات العرقية والطائفية، لما لا وهناك من لم يعرف بعد حجم التخلف الذي تعيشه هذه الامة او بالأحرى لا يرضى الاعتراف بذلك، وهذا نوع اخر ينضاف الى اليقينيات السلبية التي تناولها الغرباوي، ومن هنا وجب ان نقول ان اولى خطوات العلاج هو قبول الخضوع الى التشخيص والاعتراف بالمرض.

***

محمد هروان - المغرب

13/04/2023

..............

1 – سيرة ماجد الغرباوي في مركز نقد وتنوير

https://tanwair.com/author/majed

2- اخفاقات الوعي الديني.. حوار في تداعيات النكوص الحاضري، (حوار سلام البهية السماوي مع ماجد الغرباوي) العارف للمطبوعات ومؤسسة المثقف، ط 2016، ص 18.

3- المصدر نفسه، ص19.

4- المصدر نفسه، ص 20.

5- المصدر نفسه، ص 21 .

6- المصدر نفسه، ص 22.

7- المصدر نفسه، ص 24.

8- المصدر نفسه، ص 33.

9- المصدر نفسه، ص 34.

10- المصدر نفسه، ص 35.

11- المصدر نفسه، ص 39.

12- المصدر نفسه، ص 42.

13- المصدر نفسه، ص 45.

14- المصدر نفسه، ص 46.

15- المصدر نفسه، ص 47.

16- المصدر نفسه، ص 48.

17- المصدر نفسه، ص 52.

18- المصدر نفسه، ص 53.

19- المصدر نفسه، ص 54.

20- المصدر نفسه، ص 55.

21- المصدر نفسه، ص 57.

22- المصدر نفسه، ص 59.

23- المصدر نفسه، ص 63.

24- المصدر نفسه، ص 65.

25- المصدر نفسه، ص 73.

............

نقلاً عن موقع الحوار المتمدن في يوم 13 – 4 – 2023م

- الفكر العربي المعاصر والتفلسف بالمطرقة مشروع كتاب يتناول فكر ماجد الغرباوي وتفكيك التراث

- (نُقَّاد يسلطون الضوء على جيل من المفكرين المُجَدِّدين

(المفكر التجديدي ماجد الغرباوي نموذجا)

يعتبر المفكر العراقي ماجد الغرباوي من المفكرين الثلاثة الذين ارتبط فكرهم بإعادة دراسة التراث وتفكيكه وهم: (حسن حنفي، محمد أركون ومحمد عابد الجابري)، إلا أن هذا الجيل كما يقول الدكتور قادة جليد وهو أستاذ بجامعة وهران لم ينل حظه من المتابعة الفكرية من قبل الباحثين والنقاد، رغم ما قدموه من جهود فكرية، بحيث لم يجد فكره انتشارا في الأوساط الأكاديمية والجامعية خاصة في المغرب العربي، لدرجة أن الكثير منهم يجهل اسم ماجد الغرباوي في الساحة الفكرية من المغاربة وهو الذي قدم دراسات عميقة حول التراث وشخّص أزماته وأعطى البدائل التاريخية للتراث.4698 ندوة الجزائر

المفكر العراقي ماجد الغرباوي من مواليد 1954 وفي ظل انتشار الفكر الشمولي والمذهبي في عهد صدام حسين هاجر إلى أستراليا ومارس البحث وأسس مؤسسة المثقف ومن خلالها ساهم في بعث النهضة الثقافية العربية نال خلالها مجموعة شهادات وأوسمة. اشتمل منجزه الفكري على مجموعة كتب تحت عناوين مختلفة: التسامح ومنابع اللاتسامح.. فرص التعايش بين الأديان والثقافات / إشكاليات التجديد / الحركات الإسلامية.. قراءة في تجليات الوعي / الضد النوعي للاستبداد.. استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني / جدلية السياسة والوعي / تحديات العنف / النص وسؤال الحقيقة.. نقد مرجعيات التفكير الديني / الهوية والفعل الحضاري / مواربات النص / الفقيه والعقل التراثي / مضمرات العقل الفقهي / تحرير الوعي الديني / المرأة وآفاق النسوية / تراجيديا العقل التراثي / المقدس ورهان الأخلاق.

كتب عن منجزه الفكري والثقافي والأدبي عدد من النقّاد والباحثين، عرب وأجانب. كما صدرت عنه ثلاثة كتب للدكتور صالح الرزوق والدكتور محمود محمد علي والدكتور صالح الطائي. كما تُرجم كتابه التسامح ومنابع اللاتسامح إلى  اللغة الفارسية.

الفكر العربي المعاصر والتفلسف بالمطرقة

الفكر العربي المعاصر والتفلسف بالمطرقة كان موضوع ندوة فكرية نظمتها المكتبة الولائية للمطلعة العمومية بولاية معسكر غرب الجزائر قدمها الدكتور قادة جليد ومن تنشيط الأستاذ فؤاد النجار، سلط فيها المحاضر الضوء على الفكر العربي وأجياله. وموضوع الندوة هو عبارة عن مشروع كتاب يصدر في سنة 2024 يتناول فكر المفكر التجديدي ماجد الغرباوي ووضعه داخل إطاره التاريخي. يقول الدكتور قاد جليد: مع مطلع القرن الثامن عشر، شهدت الساحة الفكرية بروز جيلين من المفكرين، الجيل الأول ظهر مع بداية النهضة العربية ويمثله الطهطاوي، الكواكبي، الأفغاني ومحمد عبده وغيرهم، وهو جيل سمي بجيل الصدمة التاريخية فيه أدرك العرب تخلفهم وأدركوا المسافة البعيدة بينهم وبين الغرب، من هنا بدأ التساؤل حول لماذا تخلف المسلمون وتأخر غيرهم؟، ثم ظهر جيل جديد، وهو الجيل الثاني الذي طرح سؤال النهضة. وذكر المحاضر أسماء من هذا الجيل كالشبيل شملي، سلامة موسى، طه حسين، ووصل إلى المفكرين المعاصرين كمحمد أركون حسن حنفي وآخرون.

واعتبر المتحدث د. قادة جليد أن المفكر العراقي ماجد الغرباوي من المفكرين الثلاثة الذين ارتبط فكرهم بإعادة دراسة التراث وتفكيكه وهم: (حسن حنفي، محمد أركون ومحمد عابد الجابري)، إلا أن هذا الجيل كما يقول الدكتور قادة جليد وهو أستاذ بجامعة وهران لم ينل حظه من المتابعة الفكرية من قبل الباحثين والنقاد، رغم ما قدموه من جهود فكرية، بحيث لم يجد فكرهم انتشارا في الأوساط الأكاديمية والجامعية خاصة في المغرب العربي، وهو ما اعتبره جحودا في حق المشارقة الذين أعطوا مساحة خاصة للمفكرين المغاربة، لدرجة أن الكثير منهم يجهل اسم ماجد الغرباوي في الساحة الفكرية من المغاربة وهو الذي قدم دراسات عميقة حول التراث وشخّص أزماته وأعطى البدائل التاريخية لأزمات هذا التراث.

الإنسان العربي ومرجعيات التراث4701 ندوة الجزائر

من وجهة نظر الدكتور قادة جليد فإن الإنسان العربي لا يفكر إلا بمرجعيات التراث الذي أصبح يؤطر الإنسان العربي في فكره، ولذا يحاول المفكر ماجد الغرباوي أن يحدد علاقة الإنسان بتاريخه وهي رؤية ماضوية تقرأ بعقول أعدت للماضي، في الوقت الذي عرف الإنسان الغربي أو الأوروبي إن صح التعبير كيف يطور نفسه ولم يبق حبيس ماضيه، فمشروع الغرباوي إذاً يختلف عن الرؤية التغريبية والرؤية الاستشراقية التي يدعوا أصحابها إلى القطيعة مع الماضي، بل هو (أي الغرباوي) يدعو إلى القطيعة مع فهم معين للتراث وليس مع النص المقدس، فالغرباوي في نقده التراث والقداسة يفرق بين الدين والنص الديني، والمشكلة كما يضيف المحاضر هي في الفكر الديني، لدرجة أن الخطاب الديني أصبح ينافس النص المقدس. يقدم الدكتور قادة جليد مثالا عندما تحدث عن بعض الغلاة الذين جعلوا من صحيح البخاري نصا مقدسا بل جعلوه أقدس من القرآن نفسه، وهذا الذي ينتقده ماجد الغرباوي في دراساته.

 من خلال ما جاء في ندوة الدكتور قادة جليد يُفْهَمُ من كلامه أن هناك وجهات تقارب بين ماجد الغرباوي ومحمد أركون، هذا الأخير يسميها بالمدونات النصية الرسمية المغلقة، حيث أخذت طابع القداسة وأطلق عليها اسما آخر وهو السياج الدوغماتي، وهذا أخر تطور الفكر العربي، فالغرباوي يدعو إلى أرخنة التراث وعقلنته ويقول أن النص الديني شيء والفكر الديني شيء آخر، فهذا الفكر نشأ تاريخيا على فهم معين للنصوص الدينية، السؤال الذي طرحه الدكتور قادة جليد: كيف يستطيع الغرباوي بفكره أن يحول التراث إلى نسبي بعد أن كان مطلقا؟، الجواب هو أن الغرباوي من خلال دراساته بين أن المشكلة ليست في النص الديني المقدس وإنما في النصوص المتأخرة التي تشكلت على النص الأول المقدس وانتزعت منه القداسة، هذا الفكر الديني الذي أنتج العنف والإرهاب (داعش).

في هذه الندوة حاول المحاضر تبسيط الأفكار التي ماتزال موضع جدل وصراع بين الحداثيين والأصوليين وقال أن الصراع هو فكري محض، مشيرا بالحديث عن المثلث الأنثروبولوجي الذي تحدث عنه كل من محمد أركون وماجد الغرباوي ليبين مدى تقارب فكرهما، وقد سماه محمد أركون بالعقل الأرثوذكسي، أما عن المرجعيات التي وصفها المحاضر بالصامتة يحاول الغرباوي تفكيكها باستعمال منهجيات معاصريها دون أن يشير إليها مثل منهج التفكيك والتفلسف بالمطرقة التي تحدث عنه نيتشه، أو المنهج الأركيولوجي لميشال فوكو.4700 ندوة الجزائر

 يتفق الغرباوي وأركون من حيث تحليل التاريخ الاسلامي والثقافة الاسلامية حول مفهوم أساسي وهو الجهل المؤسس بالاضافة الى الجهل المقدس للفيلسوف الفرنسي أوليفي روا، لأن هذا الجهل هو الذي أنتج وينتج العقل الأرثوذكسي الذي يقوم على المثلث الأنثروبولوجي (الحقيقة، المقدس، العنف).

ويبدو من خلال رؤية الدكتور قادة جليد للفلسفة الغرباوية بأن ماجد الغرباوي مفكر تجديدي بامتياز بحيث استطاع أن يقفز على كل الاتجاهات الفكرية ليقدم صورة حقيقية للفكر العربي وأسباب تأخره، وهو ما أراد المحاضر تبسيطه بل إيصاله إلى المثقف العربي عندما تساءل عن سبب غيابه عن الساحة الفكرية عندما اختتم محاضرته بالقول أن المشكلة هي مشكلة مثقفين ونحن نفتقر إلى المثقف العضوي والمثقف الثوري، فالفكر كما قال هو ثوريٌّ في طبيعته ولابد أن تكون للمثقف الجرأة على قول الحقيقة وملامسته الجرح.

كانت هذه ندوة الدكتور قادة جليلد، بثت عبر شريط فيديو والحقيقة أن هناك باحثين ومفكرين وفلاسفة اشتغلوا في الفكر الديني وأسسوا منهجا فكريا لموضوعاتهم، إلا أنهم واجهوا مشاكل كثيرة أمام المحدثين قبلهم في حقب التاريخ الإسلامي، حيث طرحوا أسئلة تتعلق بكيفية التوفيق بين خطاب العقل وخطاب العاطفة ومدى تحكم العاطفة في هذا العقل، كما تساءلوا عن العلاقة بين الدين والعقل والعلاقة بين الدين والسياسية والتوفيق بينهم من أجل إعطاء الصفة العلمية للتفكير الديني أو الفكرة الدينية التي تحدث عنها المفكر الجزائري مالك بن نبي وآخرون، كانت هناك مقاربات بين الاتجاه الكلامي (من طبقات المتكلمين من سُنّة وشِيعَةٍ ومعتزلة وبعض الفرق الإسلامية) والاتجاه الفلسفي والاتجاه الصوفي العرفاني الذي تجاوز العقل ويقابله الاتجاه العلماني، هكذا وقعت صراعات وأزمات حول النص المقدس ولعل السبب في ذلك هو غلق باب "الاجتهاد”، حيث بقيت بعض الجماعات الإسلامية تجتر نصوصا منذ قرون دون إخضاعها للتحليل ويراد بذلك الذين يسمونهم بـ: “الغوغائيين” الذين لهم فهم تقديسي لكل ما يمس الدين حتى ظهر مُقَدَّسٌ ثالث هو “التراث” وهي النصوص التي استعملت النص المقدس.

والتراث في مفهومه العام هو كل الرؤى والأفكار والخبرات والإبداعات الخاصة بالمنتجات، فنشأت صراعات أيضا بين التراث (الأصالة) والحداثة والهوية في ظل نظام فكري حَجَبَ الواقع لصعوبة تحليل الواقع وخصوصيته، فيما أطلق عليه اسم "الإيديولوجيا"، وليس محمد أركون وحده الذي يذهب في الاتجاه التجديدي بل نقف مع المفكر الجزائري مالك بن نبي أيضا، حيث نلمس اهتمام مالك بن نبي بالفكر الديني من خلال مؤلفاته التي تركها لاسيما الظاهرة القرآنية، شروط النهضة، وجهة العالم الإسلامي، بين الرشاد والتيه وغير ذلك، كل هذه الكتب تناولها بالتحليل منذ عهد النبي إلى العصر الحديث الذي تميز بظهور الحركات المذهبية والطوائف التي أعطت للفكر الديني تفسيرات مختلفة لكيفية تشكل الوعي الإسلامي لدى الأفراد وقد قارن مالك بن نبي بين المجتمع النبوي الموحد وبين المجتمع المفكك اجتماعيا مجتمع خضع للاستعمار طيلة عقود من الزمن، حيث ارتبط عاطفيا بالدين، بحيث لم يكن له رصيدا لغويا يجعله يفهم الخطاب القرآني فهما صحيحا.

4699 ندوة الجزائر

هذا وكانت المكتبة الرئيسية للمطالعة العمومية لولاية معسكـر، بالتنسيق مع نادي بيت الحكمة للفكر والأدب والفنون لولاية معسكر تنظم، ندوة فكرية بعنوان:

"الفكر العربي المعاصر والتفلسف بالمطرقة.. ماجد الغرباوي "أنموذجاً"

تقديم: الأستاذ الدكتور قادة جليد

تنشيط: الأستاذ فؤاد النجار

يوم الجمعة 23 ديسمبر 2022

على الساعة 16:30 مساءً

 

بمقر المكتبة الرئيسية

وقد حضر الندوة التي تحدث فيها الاستاذ الدكتور قادة جليد عن المنجز الفكري لماجد الغرباوي لفيف من المثقفين واساتذة الجامعات في مقدمته البروفسور نابي بولي استاذ الفلسفة الاسلامية في جامعة معسكر، ودار حوار بين المتحدث والحاضرين.

***

متابعة علجية عيش

 للطلاع على الفديو

 https://www.youtube.com/watch?v=6nO3SkHXCJw

 

لا ريب أن الإشكاليات المعرفية التي يعاني منها المقدس ورهان الأخلاق تنعكس مباشرة على واقعنا المعاصر، إذ أضحت (كما يقول الباحث الجزائري المتميز عبد العزيز بلعقروز)، مسألة القيم في الواقع الكوني مجالا تداوليا للنّقاش ضمن التحولات الحداثية والمابعد حداثية؛ واشتركت في هذا النّقاش المعرفة بفروعها (الفلسفة، العلوم الإنسانية، الاجتماعية…) بخاصة من داخل المؤسسات التي أدركت منزلة وجود التوجيه القِيمي داخل هياكلها كيْما تستقيم وكيْما تكون مقاصدها مشروعة. وفضلا عن هذا، فإن التحوُّلات الكونية في مستوى الصّلات بين الثقافات والحضارات، قد دخلت إلى معجمها التقييمي روح المفاضلة بين الثقافات والحضارات، إما شعورا بتفوق نظام القيم الذي تتبناه، وإما إبصارا منها دونية في منظومة قيم مختلفة عنها، لكن هذه الرؤية لم تكن تؤدي إلى مسالك الأمان، إذ اندفع العنف وبصورة لا سابق لها، بسبب هذه التّصنيفات القِيمية التي تتحرّك من وحي عوائد نفسية وأيدولوجية وجَهالة معرفية. لقد استوجب من جهة أخرى؛ استدعاء سؤال القيم مُجدّدا، لكن ليس من أجل المفاضلة والتّصنيف التراتبي للقيم، وإنّما من أجل التنقيب عن المُشْترك بين الثقافات المتنوعة، من أجل أن يكون أفقا وجسرا للتواصل، ومُسوغا قويا من مُسوغات القول بوحدة الطّبيعة الإنسانية في نزوعها نحو قيم مخصوصة نجدها مبثوثة في ذاتها أو في فطرتها، وإما لانتماء البشرية إلى روح دينية أصلية ألهمتها هذه القيم وتمظهرت بعدها في الأديان وتجلّياتها.

ومن ثم ظل سؤال “المقدس ورهان الأخلاق” هو أهم الأسئلة المحورية لعودة منظومة القيم، وبعثها من سباتها العميق على مدى  عصورها المتطاولة، وهذا الحضور المُكثَّف والجلي، لسؤال القيم، انجلى أيضا في الفكر العربي المعاصر، وذلك من خلال ما يُصنّف من كتب تسعى لأن تفكر في القيم انطلاقا من زاويتها ومنظورها، ومنظورها معناه: حقيقة النظام الأخلاقي الذي يدبّر ذاتها، من حيث الأصول والمبادئ التي ينبني عليها.

وهنا يجيئ كتاب المقدّس ورهان الأخـلاق، للفيلسوف والمفكر المبدع ماجد الغرباوي، والذي صدر حديثاً عن مؤسسة المثقف في سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة في دمشق سوريا، وهو الكتاب الثامن من سلسلة “متاهات الحقيقة”. والكتاب يقع في 385 صفحة من الحجم الكبير، وقد زينت لوحة الفنان التشكيلي الكبير ا. د. مصدق الحبيب غلاف الكتاب الجميل.

يتناول فيه كاتبه مجموعة قضايا من بينها العلاقة بين الكلام الإلهي والتعاليم الدينية والسلوك، ودور المقدس في شرعنة الممارسات التي قد تتعارض مع الأخلاق، وما هي رهانات المقدس وهو يشرعن بعض الممارسات رغم تعارضها مع القيم الأخلاقية، وهل ثمة ما يدو لاعادة النظر بمجموعة مفاهيم كالقداسة وغيرها؟. ومن جملة الموضوعات التي تناولها الكتاب أيضا: التشكيل الأخلاقي للوعي، القرآن والأخلاق، الفقه والأخلاق، أخلاق العنف، التحريض على القتال، إشكالية العلاقة بين الدين والأخلاق، من خلال السلوك النموذجي للأنبياء، وكيفية فهم التعارض بينها وبين القيم الأخلاقية. كما تناول الكتاب: شروط الفعل الأخلاقي، الإلزام والأخلاق، الفعل الأخلاقي، الوعي الأخلاقي، مستويات الفعل الأخلاقي، الضمير، التجربة الدينية والأخلاق، جوهر الدين والأخلاق، مأسسة الأديان والأخلاق، النص والأخلاق، المقدس والأخلاق. كما ركز الكتاب على التعارض بين الأوامر الإلهية والأخلاق، وتعارضها مع الأحكام الشرعية، وما هي العلاقة بين الدين والأخلاق. والفرق بين القيم الأخلاقية الأصيلة والنسبية / المكتسبة. ثم حدد مبادئ التشريع: العدل وعدم الظلم. السعة ولارحمة. المساواة. وغيرها من موضوعات في دائرة اشتغال الكتاب لتسوية إشكالية العلاقة بين الدين والأخلاق.

ثم ينتقل، في محور لاحق، للكشف عن بديهيات العقل، ويناقش ضرورة الاحتكام لمصادر عقلانية من أجل استنباط معايير حاكمة للأخلاق. وفي هذا المضمار يقارب مشكلة الحسن والقبح، وهل هما عقليان أم شرعيان؟. ولمن ترجح الكفة للتدبير والتفكير أم  للنص؟.

ويؤكد الغرباوي في كل فصول كتابه على الفجوة التاريخية التي يحملها العقل التراثي بنيويا، فهو يرهن الحقيقة لمؤدى الخبر، ويصدّق ما يوافق عقائده بعيدا عن الدليل العقلي والفلسفي. مع أن الواجب يقتضي الركون للدليل وقدرته على تحدي الإشكالات، ودراسة جميع الأدلة والبراهين والقرائن المتاحة والإجابة على جميع الأسئلة والاستفهامات وتحليل الواقع بجميع عناصره.  وهذا يعني أن لا نكتفي  بالخبر دليلا على صحة الأفكار والمواقف، كي لا نكرس السكون والتبعية. ويخلص بالنتيجة إلى ضرورة أن تقوم النخبة بترقية الوعي إلى مستوى قبول الآخر، والتعددية، واتباع الدليل والبرهان في اعتماد الحقائق.

كما تناول الكتاب مجموعة قضايا قاربها الكاتب ضمن الحوار المفتوح. وكان محفز البحث فيه: سؤال عن قدرة القرآن على تهذيب سلوك المسلمين. سؤال يخفي أكثر مما يظهر، ويدين أكثر مما يُبجل. يثير أسئلة ويرسم علامات استفهام كبيرة، حول دور المقدس في شرعنة جملة ممارسات تتعارض مع القيم الأخلاقية. ما هي رهاناته؟ وهل يمكن إعادة تشكيل الوعي أخلاقيا؟ وماذا عن التعارض؟ وهكذا يستمر طرح الأسئلة، ويواصل السجال طريقه، للكشف عن بديهيات العقل وفق رؤية أخلاقية تؤمن أن العقل مصدر الأخلاق، وأن الحُسن والقُبح عقليان لا شرعيان. روية تضع العقل فوق النص. فثمة إشكالية معقدة بين الدين والأخلاق تطرق الكتاب للقسم منها.

ومن هنا جاءت الأجوبة في هذه الموسوعة الحوارية (متاهات الحقيقة)، تقارع حصون الكهنوت وتحطّم أسيجة تراثية تستغرق الذاكرة، وتطرح أسئلة واستفهامات استفزازية جريئة.. بحثا عن أسباب التخلف، وشروط النهوض، ودور الدين والإنسان في الحياة. فتوغّلت عميقا في بنية الوعي ومقولات العقل الجمعي، واستدعت المهمّش والمستبعد من النصوص والروايات، وكثّفت النقد والمساءلة، وتفكيك المألوف، ورصد المتداول، واستنطقت دلالات الخطاب الديني، بعد تجاوز مسَلَّماته ويقينياته، وسعت إلى تقديم رؤية مغايرة لدور الإنسان في الحياة، في ضوء فهم مختلف للدين، وهدف الخلق. فهناك تواطؤ على هدر الحقيقة لصالح أهداف أيديولوجيات – طائفية. ومذهبية – سياسية.

وقد سبق أن صدر لماجد الغرباوي عدة مؤلفات تناول بها تجديد الفكر الديني بشكل عام والإسلامي على وجه الخصوص. ومن أهم أعماله: إشكاليات التجديد، التسامح ومنابع اللاتسامح، قراءة نقدية في تجليات الوعي، الحركات الإسلامية.. قراءة نقدية في تجليات الوعي، الشيخ محمد حسين النائيني منظّر الحركة الدستورية، الضد النوعي للاستبداد.. استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الدين، تحديات العنف، الأصول الرجالية الأربعة. وقام بتحقيق كتاب “الوجيزة في الدراية”  لمحمد بهاء الدين العاملي والذي صدر عن منشورات المكتبة الإسلامية. كما صدرت عنه مجموعة كتب، وترجمت كتبه إلى لغات أخرى.

والأستاذ ماجد الغرباوي يُعدّ أحد القامات الفكرية العراقية- العربية التي آلت على نفسها الجمع بين النظرة العقلية الغربية والتراث الإسلامي في معالجة القضايا الفكرية، وهي تلك النظرة التي كشفت له عن العديد من الأفكار المهجورة في الفكر الإسلامي، وفي علاقة الإسلام بالآخر والقضايا الفكرية الآنية، ويحسب له أنه موسوعي الثقافة مستنير الفكر، فهو الذي كتب عن نقد الفكر الديني، والتسامح، والعنف، والحركات الاسلامية، والمرأة، والاصلاح والتجديد، وهو متخصص في علوم الشريعة والعلوم الإسلامية.

علاوة علي أنه متعدد المواهب فهو كاتب، وشاعر، وباحث دؤوب؛ حيث يسعي من خلال مشروعه في تجديد العقل الديني إلى ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، وذلك من خلال قراءة متجددة للنص الديني تقوم على النقد والمراجعة المستمرة، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب.

ولهذا نراه في مشروعه النهضوي الذي لا يقل عن مشروع كل محمد أركون ومحمد عابد الجابري وغيرهما يسعى الى: تحرير العقل من بنيته الأسطورية وإعادة فهم الدين على أساس مركزية الإنسان في الحياة. وترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، ومن خلال قراءة متجددة للنص تقوم على النقد والمراجعة المستمرة، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب.

وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على أن كتاباته تتميز بالوسطية والعقلانية، وتكشف عن تعمق كبير في العلوم الإنسانية والعلوم الشرعية، ويتميز أسلوبه بالوضوح والمنطقية؛ ولقد شهد له كل من كتب عنه من الباحثين بالدقة، والأمانة العلمية، والثقافة الواسعة ..إلي جانب ما يتمتع به من خلق رفيع، وتمسك بتعاليم الدين الحنيف . ولا غرو في ذلك فهو يمثل منظومة حافلة بالعطاء العلمي الجاد، والشموخ الإنساني المتميز، باحثا ومنقبا، محققا ومدققا، مخلفا وراءه ثروة هائلة من الكتب العلمية، والبحوث الاكاديمية الرصينة، وطائفة كبيرة من المريدين والاتباع الذين أعطاهم خلاصة فكره وعلمه.

تحية خالصة لماجد الغرباوي لابن أرض الرافدين، وحفيد هارون الرشيد، الذي كان وما يزال رمزاً من رموز المعرفة الموسوعية الفريدة، وواحداً من أصحاب الرؤية الفكرية والثقافية الشاملة.. بارك الله فى ماجد الغرباوي، وأفاد تلاميذه وقراءه بعلمه ووطنيته، بفكره وموضوعيته، بنقائه وطبيعته.

***

أ.د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

.................

المراجع :

1-ماجد الغرباوي :  المقدس ورخان الأخلاق، ضمن متاهات الحقيقة 8، دار أمل الجديدة، دكشق.

2-عبد الرازق بلعقروز : سؤال القيم في الفكر العربي المعاصر : قلق تاريخي أم رهان واقعي ؟، اسلام أون لاين .

3- محمد أركون، الإسلام الأخلاق والسياسية، ترجمة هاشم صالح، دار النهضة العربية، مركز الإنماء القومي، 2007.

4- أ. د. محمود محمد على - قراءة في كتاب المفكر العربي ماجد الغرباوي “تحرير الوعي الديني”، صحيفة المثقف.

بحث مشارك في مؤتمر جامعة واسط.. مشاركة ثنائية:

- ايمان عامر، باحثة دكتوراه فلسفة تطبيقية، جامعة قالمة الجزائر

- دنيا مسعود خلوف، باحثة دكتوراه فلسفة غربية حديثة ومعاصرة، جامعة قالمة الجزائر

Tolerance is an enlightening Islamic vision –majed al-gharbawi is a model-

***

الملخص

مثل الحب والسلام، يعد التسامح فضيلة انسانية بالدرجة الأولى قبل ارتباطها بأي مؤسسة سواء كانت دينية أو اجتماعية وغيرها.. فهو ضرورة نقابل بها قيم التعصب والعنف والاستبداد التي أهلكت الانسانية وأدخلتها في دوامة من الحروب والصراعات على مر العصور، فقد كتب لوك وفولتير رسائلهم في التسامح لضرورة ملحة، أي انتشار كل أشكال العنف في ظل غياب التسامح منادون بضرورة تحطيم كل أشكال الخلاف والمناداة بالاختلاف الديني والثقافي وقبول الآخر، والعديد من الأصوات المنادية به في العالم سواء الغربي أم العربي، هذا الاخير الذي أنتج قلما من خيرة أقلام هذا العصر المنادية بضرورة فك دعائم اللاتسامح والدعوة الى فاعلية قيم التسامح لعلها تنتشل الفرد العربي من أزمته، وهو المفكر العراقي "ماجد الغرباوي" من خلال تقديمه لرؤية فلسفية وعقلانية محضة تنهل من منطق العقل ومن نهر الشريعة الاسلامية لتخلق نسق قيمي جديد قائم على قيم التسامح ومفككا لقيم اللاتسامح ومنابعها، انطلاقا من الواقع ومن البيئة الاسلامية التي شهدت تطرفا واستبدادا نظرا لعدم وعي الشعوب وعدم فهم النص القرآني فهما صحيحا، لهذا فمن الضروري أن تتظافر الجهود من ّأجل تفكيك النسق القيمي المتطرف وتبديله بقيم جديدة ايجابية لكي يعم التسامح والحب والتضامن كل أرجاء العالم الاسلامي في زمن انتشر فيه العنف باسم الدين.

الكلمات المفتاحية: التسامح، اللاتسامح، الاستبداد، العنف، الوعي، الشريعة الاسلامية.

Like love , peace, tolerance is a human virtue in the first place, before any religious or social instituation, it is a necessity with which we meet the values of intolerance, violence and preparedness that have destroyed humanity, locke and Voltaire wrote their letters in tolerance of the necessity and spread of all forms of violence in the absence of tolerance, calling for the acceptance of the other. Many have called for it, whether in the arab or western world, one of the most important advocates of the value of tolerance in the arab world is “majed al-gharbawi” who presented a purely rational and philosophical vision to create a new paradigm of tolerance that deconstructs intolerance, from the reality of the Islamic environment, which witnessed extremism and tyranny, given the lack of awareness among peoples and the lack of proper understanding of the quranic text, it is necessary to cooperate to dismantle the extremist system and replace it with positive values, so that tolerance,love and solidarity prevail throughout the Islamic world at a time when violence in the name of religion has spread.

Key words

Tolerance, intolerance ,tyranny, violence,awareness , Islamic law.

3980 الضد النوعي للاستبداد

مقدمة:

يعد التسامح فضيلة أخلاقية لها ملامح انسانية بالدرجة الأولى، اذ أنه من بين الفضائل التي سعى الانسان لبلوغها دوما، وشرع لمفهومه وآلياته الكثير من الفلاسفة على رأسهم جون لوك وفولتير ومونتيسكيو الذين ساهمو بشكل كبير في بداية تأسيس خطاب حقوق الانسان من خلال مشروعهم القائم على التسامح للتخلص من التعصب المتطرف الذي أغرق اوروبا في وحل النزاعات. ناهيك عن الخطاب الديني الذي يحمل في طياته رسالة وجيهة ألا وهي نشر قيمة التسامح والوئام والحب، لأنه من الضروري وجود رابطة متينة تعزز ثقافة السلم والتبادل الفكري الخلاق والداعم للحوار وبالتالي نشر قيمة التسامح في عالم تسوده هواجس الصراعات والمشاكل بين البشر، هذا التنافر سببه قيمة الاختلاف ليس هي في ذاتها، بل بالمشاكل المتعلقة برفضها، فالعالم الذي نعيش فيه اليوم يرفض الاختلاف وتقبل الآخر بالرغم من كونه سنة الكون والدعامة الأولى التي تميز البشر مهما كان نوعه ايديولوجي أو ديني او عقائدي أو سياسي، وبالتالي فالبشر لا يتقبلون من هو مختلف عنهم وبالتالي تسبب هذا الاعتقاد في وجود أزمة خانقة على مر التاريخ، على سبيل المثال ما شهدته أوروبا من حروب دينية بسبب التعصب الدوغمائي من قبل رجال الدين على بقية الشعب وممارستهم الوصاية باسم الدين وما نتج عن ذلك من استبداد ونهب وقتل وغيرها من منابع اللاتسامح التي عرفها العالم الاسلامي أيضا عبر مختلف الأحداث وساد الاعتقاد أن المنظومة القيمية الاسلامية هي المسؤولة عن تفشي هكذا أحداث، والكثير من الاتهامات التي وجهت لتلك القيم الدينية والتي نتجت عن مفهوم خاطئ والتي تستدعي قراءة جديدة للدين لفهمه فهما صحيحا، لذلك حاول المفكرون تجديد الخطاب الديني عبر محاولات نهضوية مختلفة، ومن أبرز مفكري العصر الذين اهتموا بهذا الموضوع بغزارة نجد المفكر العراقي "ماجد الغرباوي" في رؤية فكرية ذات توجهات اسلامية قائمة على نقد أسس العنف والاستبداد واللاتسامح وبيان تناقضها مع الشرع الاسلامي وفك الخطاب الديني الذي يبدو متطرفا وشرحه واعادة النظر في مفهومه واستبداله بالحقيقة الواعية البعيدة عن كل تطرف، وفهم الخصوصية الدينية والدعوة الصريحة لقيمة التسامح في وقت تفشى فيه العنف باسم الاسلام وبيان وجود مفهوم التسامح كمفهوم متجذر في الخطاب الاسلامي ودعوة صريحة له منذ نزول القرآن الكريم وبالتالي فالمطلوب هو البحث عن هذه القيمة في النصوص الشرعية ومحاولة نشرها بما يناسب واقع اليوم ..هذا ما حمله مشروع ماجد الغرباوي التجديدي والاصلاحي، ومنه نطرح التساؤل التالي: كيف يمكن للتسامح أن يحد من تفشي العنف والاقصاء؟ وكيف يمكن أن يكون وسيلة لتفكيك خطاب اللاتسامح الاستبداد ومنابعه؟

أولا-التعريف بالكاتب:

ماجد الغرباوي كاتب ومفكر عراقي مهتم بالفكر الديني، متخصص في الفلسفة والعلوم الاسلامية وعلوم الشريعة، كما يعتبر مؤسس ورئيس مؤسسة المثقف العربي بسيدني، شغل عدة مناصب من بينها رئيس تحرير مجلة توحيد، كما أصدر سلسلة رواد الاصلاح وكان رئيسا لتحريرها بالإضافة الى عضويته في الهيئة العلمية لكتاب التوحيد، كما حاز على العديد من النقدية والتقديرية عن أعماله1. يسعى الغرباوي من خلال مشروعه الى تحرير العقل من بنيته الأسطورية التي لجم بها واعادة فهم الدين على أساس مركزية الانسان دون غيره ونشر الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، وقراءة النص قراءة متجددة تقوم على النقد والمراجعة من أجل فهم الدين كشرط أساسي لترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة في اطار مجتمع مدني خال من العنف والحرب ويعمه السلام الكوني2.

أشهر مؤلفاته:

كتب الغرباوي العديد من المنجزات والكتب التي تعبر عن غزارة انتاجه الفكري، نذكر منها:

-الضد النوعي للاستبداد (استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني)

-التسامح ومنابع اللاتسامح (فرص التعايش بين الأديان والثقافات)

-اشكاليات التجديد

-النص وسؤال الحقيقة (نقد مرجعيات التفكير الديني)

-الحركات الاسلامية (قراءة نقدية في تجليات الوعي)

- تحديات العنف

- موسوعة متاهات الحقيقة، التي صدر منها لحد الآن:

- الهوية والفعل الحضاري.

- مواربات النص.

- الفقيه والعقل التراثي.

- مضمرات العقل الفقهي.

- تحرير الوعي الديني.

- المرأة وأفاق النسوية.

 - تراجيدية العقل التراثي.3981 التسامح ماجد الغرباوي

ثانيا: مفهوم التسامح:

لغة:

لقد ورد مفهوم التسامح في لسان العرب لابن منظور "من السماح والسماحة: الجود. وسمح وسماحة وسموحة وسماحا: جاد.

ولغة يُقال: سمح وأسمح اذا جاد وأعطى عن كرم وسخاء. وقيل: انما يقال في السخاء سمح، وأما أسمح، فإنما يقال في المتابعة والانقياد. ويقال أسمحت نفسه إذا انقادت.

والمسامحة: المساهلة، وتسامحوا: تساهلوا.

ومن ثم فالتسامح هو التغاضي عن أخطاء وزلات الغير أو التساهل في الحقوق أو الصبر على إساءة أو أذية ما3 .

- وفي النواحي الغربية الأوروبية فتتم الاستعانة بكلمتي Tolération وTolérance للدلالة على معنى التسامح. أين تحمل احداهما وهي Tolération معنى التخصيص فتشير بالضبط الى التسامح الديني سواء على مستوى الديانة الواحدة أو على مستوى ديانات متعددة.

في حين تحمل كلمة tolérance معنى العموم مشيرة بذلك الى تقبل الآخر بالروح السمحة مهما كان مختلفا عنا. ولعل الاستخدام المعاصر يميل الى كلمة Tolérance أكثر 4.

اصطلاحا:

أما من الناحية الاصطلاحية فالتسامح يشير الى جملة التصرفات والسلوكات الخاصة أو الجماعية التي على الأفراد ممارستها حتى يتقنوا فن العيش هم وغيرهم من الآخرين، دون أي انغلاق وتطرف، بل انفتاحاً على الاحترام المتبادل الذي يترك مجالا ومساحة للآخر المختلف خصوصاً عقائدياً 5.

 وبذلك فالتسامح مبدأ انساني يُؤصّل لفكرة التعايش وتقبّل الآخر مهما كان مختلفاً عنّا، بل تقويض طرق وسُبل الانقسام والشتات باسم الدم، الدين، الجنس... يقول في ذلك فولتير: "ان التسامح نتيجة ملازمة لكينونتنا البشرية، لأننا جميعا من نتاج الضعف، فنحن ضعفاء ميّالون للخطأ، لذا دعونا يسامح بعضنا البعض ونتسامح مع بعضنا البعض بشكل متبادل وذلكم هو المبدأ الأول لقانون الطبيعة والمبدأ الأول لحقوق الانسان كافة." 6.

ثالثا- التسامح عند الغرباوي:

لقد وجدت الحضارة الإسلامية نفسها بعد مضيّ زمن طويل في وضعية شتات وصدمة حضارية عميقة، وذلك نتيجة استفاقتها على حالة من الانحطاط والتخلف والزعزعة، بعد أن كانت مهد كل الحضارات، وذلك في أول لقاء حضاري مع قرينتها الغربية، الأمر الذي دفع بالشرق وبالأخصّ الإسلامي أمام هذه المساءلة النهضوية الى الانشطار لثلاث اتجاهات7:

أوّل إمّعة تزعمه المتغرّبون ممن مالوا الى الذوبان في ثقافة الغرب، فقطعوا الصلة مع تراثهم.

اتجاه ثاني محافظ وفيّ مخلص لثقافته وحضارته الإسلامية ورافض لأي اختلاف ومغايرة غربية.

واتجاه ثالث وسطي تأرجح بين الأصالة والمعاصرة، فحافظ من ناحية على قيم وتعاليم

الدين الإسلامي، وانفتح من ناحية ثانية على ما يناسبها (القيم) من الحضارات الأخرى، مؤصّلاُ بذلك لثقافة التسامح والعيش الواحد المشترك بما فيه من احترام الذات واعتراف متبادل بالآخر.

ولعل هذا الأمر هو المشروع الأساسي الذي أكد عليه مفكّرنا العربي ماجد الغرباوي، فالأمة الإسلامية حسب رأيه في حاجة ماسّة الى رقيّ ونهوض حضاري لتجاوز ركودها وتقهقرها السابق الأمر الذي لا يكون الّا من خلال الموازنة بين معطياتها من جهة ومعطيات نظيرتها الغربيّة من جهة أخرى.

إنّ الآخر من وجهة نظر الغرباوي ليس المغاير المناقض، بل هو المغاير الذي يستلزم التواصل ويقتضي الانفتاح والقبول، فلم تكن المغايرة أبداً تخلّي عن الذات وطمس لهويّتها، كما لم ولن تكن أبداً انغلاق على الذوات الأخرى ومحاربة لها. بل على العكس من الحالتين المغايرة تسير في سياق الرقي بالذات ضمن علاقة وجدلية إيجابية مع الآخر قوامها المعايشة الواحدة والاحترام المتبادل ضمن سياق قيمي تسامحي 8.  وفي الإشارة الى التسامح يقدم الغرباوي مفهومه الخاص له باعتباره مبدأ إيجابي يسمح بتعايش الرؤى والاتجاهات المختلفة دينيًّا وسياسيًّا، ليس تكرّماً ومنّةً، وانما واجباً تفرضه الحرية الشخصية. فالتسامح كمشروع حضاري لا يطمس ويتجاوز الآخر المختلف وفق ثقافة النبذ والاقصاء وتحت شعار المجابهة والقتال، بل يسعى الى التواصل والتعايش، ورغم أنه لا يقتصر على الجانب الديني فحسب بل يتعداه الى جوانب أخرى، إلاّ أنه في الفترات المعاصرة يُطرح ضمن هذا السياق خصوصًا وأن حضارتنا الإسلامية في حاجة ماسة الى مراجعة جديدة وعمليّة تعرية وكشف لما هو مستور مضرّ يمسّ ويهدّد وجودها من خلال الانغلاق على ذاتها والتعصب لمعتقداتها.

فالبيئة الإسلامية على حد تعبير الغرباوي في حاجة الى قراءة جديدة لنصوصها، قراءة قوامها الكشف والمساءلة لا التستر والمدارات، لأنّ هذه القراءة وحدها التي تسمح بالرقي بها وبإعادة بنائها وفق قيم حقيقيّة أبرزها قيمة التسامح. فالضرورة هنا هي تحديث هذه الحضارة ليس بشكل خارجي شكلاني وانّما بقلب الموازين واحداث تغيير داخلي عميق 9.

ان التسامح عند الغرباوي هو تجاوز لأي تعصّب وانغلاق على الآخرين، الى التقبّل والسماح لهم بإبداء آرائهم والتعبير عنها وفق مبدأ الحرية سواء كانت موافقة أو مخالفة لآرائها الخاصة.

ولذلك فنحن في حاجة ملحّة ضمن سياق مشروعنا الترقيعي النهضوي الإسلامي حسب الغرباوي الى خطوتين العودة الى الماضي بأصالته، وممارسة النقد عليه وتعريته. فالعودة لا تعني الذوبان التام فيه خصوصا اذا كان يحمل في طياته بوادر ضعفه، والنقد من ناحية أخرى لا يعني التقويض والهدم، وانما في الحقيقة هو ملية قوامها استدعاء الماضي وإزالة ما فيه من عرقلة نهضوية، وفي نفس الوقت الانفتاح على المستقبل بما يتضمنه من معايشة للآخر، ذلك أن تحضّر ورقيّ أي مجتمع يعود الى قاعدة وركيزة واحدة هي التسامح بمعناه الحقيقي الفعّال الذي يقوم على تقبل المختلف مهما بلغت درجت اختلافه ومستويات أخطائه، والسير نحو رؤية ايجابياته ونقاط جماله والأهم التسامح معه 10.3982 تحديات العنف ماجد الغرباوي

رابعا- بين التسامح واللاتسامح:

كتب على بني البشر العيش في جماعات مجتمعة، فلا يمكن لبشر أن يعيش بمعزل عن الآخر ولهذا العيش ضوابط وخصائص اذ يتوجب على الأفراد احترام خصوصيات بعضهم البعض وقبول معتقدات الآخرين وأفكارهم وحرياتهم الشخصية واختلافاتهم سواء كانت في الدين أو العرق أو اللون او في المعتقدات، لقول الله تعالى ان في ومن آياته خلق السماوات والارض واختلاف السنتكم والوانكم ان في ذلك لآيات للعالمين سورة الروم الآية22...، فالبشر جميعهم مختلفون لهذا السبب لا بد من تقبل الآخر والنظر في الأشياء التي تجمع الانسانية بعيدا عن كل تطرف او انتماء قد يشق أو يخلخل شبكة العلاقات الانسانية ويفكك قيم التسامح، هذا فان لم يحدث تقبل للاختلاف ستتدهور حالة المجتمعات مثلما هو سائد الآن ونخص بالذكر المجتمعات الاسلامية التي فقدت بنسبة كبيرة قيمة التسامح في مقابل انتشار قيمة اللاتسامح والتعصب والعنف وغيرها من قيم سلبية أثرت على الفرد العربي بالدرجة الأولى وفي سلوكياته وانطباعاته تجاه الآخر ومن ثمة مجتمعه. حيث أن ما نشاهده اليوم من صراع محتدم بين القوميات والأديان والمذاهب يكشف عن رخاوة الأسس التي يقوم عليها مفهوم التسامح الذي يعتبر في نظر الأوساط المتصارعة مجرد قيمة أّخلاقية تتحكم به المؤثرات الاجتماعية والسياسية والثقافية11. فالأطراف والأشخاص والأقوام المتصارعين لم ينتبهوا الى قيمة التسامح كونها الفاعل الأساسي في الحد من ذلك الصراع واعتبروها مجرد قيمة أخلاقية كغيرها من القيم كما أن غياب الوعي بمدى قدرة هذه القيمة في تغيير أحوال المجتمعات زاد الطين بلة وأدى الى نسيان الهدف الأسمى والصورة الغائية التي تندرج تحت هذه القيمة.

يرى الاستاذ ماجد الغرباوي أن الرهان على فاعلية قيم التسامح وقدرتها على خلق مناخات مؤاتية لاستنبات نسق قيمي جديد يتجاهل ما توارثه من محفوظات ونصوص ويؤسس لقيم جديدة ناظرة الى البعد الانساني12. بمعنى أن النهج الصحيح للوصول الى مجتمع متسامح هو اثارة الوعي حول هذه القيمة واعادة تشكيلها وفهمها من جديد بعيدا عن الموروث الديني المفهوم بشكل خاطئ وفهم الدين فهما صحيحا لأن المتطلع على الخصوصية الدينية يجدها تدعو الى كم وفير من القيم الايجابية كالتسامح والحب والأمانة وتقبل الآخر، وأن السبب في تفشي ظاهرة العنف واللاتسامح هو عدم فهم آيات الذكر الحكيم واعتبارها آيات تدعو للعنف وهذا نتاج القراءة السطحية والفهم المتداول عن العقل الجمعي الذي يتبع فقط الآراء السائدة، وعدم الوعي بقيم التسامح وثوابها ونتائجها المتواجدة في القرآن الكريم، وبالتالي انتشرت الكراهية ونبذ الآخر والتفرق والانحياز الى مذهب أو فرقة على حساب أخرى والتعصب لها وبالتالي انتشرت كل مظاهر اللاتسامح. اذن فمشروع مفكرنا مبني على "محاولة لتأسيس نسق قيمي جديد لمفهوم اسلامي عريق أكدته نصوص الكتاب وعضدته السير الصحيحة وارتكز اليه المسلمون وشخص النبي في علاقته مع الآخر المختلف دينيا"13.

 هذا المشروع يقوم على اعادة قراءة التراث قراءة صحيحة بعيدة عن الأحكام المسبقة والآراء المتطرفة لأنها هي السبب في نشر مشكلة اللاتسامح والقضاء عليها على الأقل نسبيا وبما أن البحث في جذور المشكلة هو نصف الحل اضافة الى تشخيص الأزمة فالبتأكيد سنتمكن من الحد من انتشار هذه الظاهرة خاصة وأن الانسان كائن مميز بالعقل، فبإمكانه ادراك وتحليل ما يخترقه من أزمات من خلال عقلنتها وعقلنة كل شيئ سائد لا سيما الدين، وهو ما ذهب اليه ايمانويل كانط في القرن الثامن عشر حينما أطلق العنان للعقل ورفض كل قيم التعصب والتشدد الديني التي تضفيها علينا الأحزاب الدينية وغيرها، فالعقل يستطيع الوصول الى الدين الصحيح دون املاء من تصورات مفارقة من خلال الاعتماد على نصوص الذكر الحكيم واستنباط منها قيم صحيحة عكس تلك السائدة كذلك اتباع قيم السيرة النبوية والتي رسمت لنا في بعض أحاديثها أروع رسوم التسامح كقصة النبي محمد (ص) مع الشخص اليهودي الذي تقبل اختلافه وتعامل معه بلين ورفق رغم أذية اليهودي لشخص الرسول لكنه تعامل معه بأبلغ قيم الانسانية، فالإسلام دين أخلاق عالمية كونية وانسانية يجهلها الشخص المتطرف. لأنه صار مألوفا حز الرؤوس وتقطيع الأوصال والتمثيل بجثث القتلى حتى مع المسلم البريء لمجرد اختلافه مذهبيا أو سياسيا، بل صار يعرف الاسلام بهكذا ممارسات لا انسانية فضلا عن لا اسلاميتها.

فالممارسات العنيفة من قتل واغتصاب واستبداد لا تمت للإسلام بصفة فهي أولا صفات دخيلة ربما ناتجة من جهل المجتمعات القبلية التي تتصرف بوحشية وفقا للنمط المنغلق المبني على العصبية..

و يرى مفكرنا أن الحل الوحيد لهذه الأزمة ليس بالأمر الهين لأنه مرتبط بصفات متجذرة في الشعب والمجتمع كما أنه مرهون للحد من صفات خانقة وكوارث اجتماعية متفشية تجتاح المجتمعات بلا هوادة وأثرت على المجتمع سلبيا، لذا فانه من الضروري "تبني قيم التسامح والعفو والمغفرة والرحمة والاخوة والسلام، لنزع فتيل التوتر وتحويل نقاط الخلاف الى مساحة الحوار والتفاهم بدل الاقتتال والتناحر وهو عمل صعب يستدعي جهودا يتظافر فيها الخطاب الاعلامي مع الخطاب الثقافي والديني والسياسي والتربوي"15. لهذا فزرع قيم التسامح بدلا من اللاتسامح هو عمل جبار يتطلب تعاون متبادل بين جميع الّأطراف وكل بنى المجتمع من أجل نشر الوعي من خلال تبني قيم الدين وقراءتها بصورة جديدة وتقديم رؤية عصرية لمختلف قيمه بما فيها التسامح وشرح اهمية التسامح الديني من أجل ضحد كل المنابع المؤسسة للعنف باسم الدين واستنباط قيم جديدة من اجل استغلالها لصياغة نسق ديني خاص بالتسامح لكي يعم السلام والأمن كافة أرجاء الانسانية لأن الانسان هو خليفة الله في الأرض فلزام عليه أن يكون كائن مسالم متسامح مع كافة اخوانه.

ومن جانب آخر فلا يمكن للتسامح أن يتواجد في مجتمع تسوده قيم سلبية وشعوب متناحرة ومتنافرة وعادات تعبر عن سوء التأقلم والتعايش بين البشر، فلا يمكن للمجتمعات التي تعاني الاقصاء والتمييز والعنف أن تتبنى التسامح وتتقبل نمط معيشي جديد يسوده الهدوء بعيدا عن كل عصبية، اذن فانه من الضروري تفكيك كل منابع اللاتسامح أو المحددات المؤسسة لها ووضع قيم جديدة وتبني أشكال جديدة من القيم تصب كلها في منبع التسامح، لكن قبل ذلك يجب معرفة منابع اللاتسامح والقيم التي تؤسس لهذا الفعل وتحليلها من أجل تفكيكها والتمكن من تجاوزها في النهاية. أي "محاولة لتجريد التعصب من الشحنات السلبية ليصار الى قيم جديدة يتعصب فيها الفرد لصالح القانون واحترام النظام وتبني قيم التسامح والمحبة والوئام" 16. لأن الدولة المدنية هي التي تحمي الفرد بالقانون ولا تسمح بالتعدي على الآخر كما هو سائد في العقلية الرجعية للشعوب، وتختلف منابع اللاتسامح حسب مفكرنا نذكر بعضا منها

1- منابع اللاتسامح:

العنف:

لعل العنف من أبرز الظواهر السائدة في المجتمعات الحديثة ولا سيما القديمة، أي أنه مفهوم متجدر وتكون هذا المفهوم منذ القدم فقد لجأ الانسان الى العنف من أجل الدفاع عن نفسه بمختلف أنواعه سواء كان معنوي أو مادي بالضرب أو القتل او من خلال السب والشتم وغيرها من وسائل العنف المختلفة، كما ساد العنف بكثرة في الحروب وفي الخلافات العائلية وبين القبائل أي في المجتمعات التي لا تتحكم الى قوانين وضوابط مدنية وتلجأ الى العنف بحيث "أصبح الأسلوب الوحيد في انتزاع الحقوق وفرض الآراء هو اللجوء للقوة، التي هي جزء كبير منها ممارسة غير مشروعة للعنف، بل ومحرمة بميزان الدين والأخلاق" 17.

 فهناك من يلجأ الى بسط نفوذه والوصول الى مبتغاه بالعنف من خلال منطق القوة، كما اصبحت هذه الأخيرة وسيلة لانتزاع الحقوق بدلا من اللجوء الى القضاء والقوانين العادلة وبالتالي سيكون هناك ظلم خاصة أن القوي سيأكل حق الضعيف بأي صورة من صور العنف سواء بالضرب المبرح أو القتل العمدي وهي أفعال محرمة شرعا ومحظورة انسانيا، اذن فالأهم هنا هو القضاء على العنف وافراغ محتواه لتحل محله القيم الانسانية، لكن المسألة لا تقتصر على مظاهر العنف والممارسات اللامشروعة للقوة فهذه الأخيرة يمكن القضاء عليها بعنف مضاد، لكن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه، كيف نتجت ثقافة العنف وكيف نقضي على منابعها ومنابع التعصب بصفة عامة 18.

 اذن فمن الضروري تقديم قراءة جديدة للدين واستنتاج قيم جديدة قائمة على فعل التسامح لتحل محل العنف وتوعية الشعب وتثقيفه للابتعاد عن هذه الظاهرة المستبدة وتنقية عقله من الأوهام والسرديات الكبرى أو السرديات الفائقة بلغة ليوتار والتي ترسم لنا مظاهر العنف عبر أشهر محطات التاريخ التي لجأ فيها الانسان للقوة ليخرج منتصرا، فالشعوب دوما تتذكر القصص التي فيها عنف والتي غيرت التاريخ في نظرهم عن طريق انتهاج هذا النهج، فمن الضروري تقويم المخيال الجمعي وتوعيته والمساهمة في يقظته لكي يحل محل العنف قيم السلام والاخوة والليونة.

الولاء القبلي:

قبل الولوج في مفهوم الولاء القبلي وجب أولا الحديث عن القبيلة أو العشيرة باعتبارها مجموعة من الأشخاص يستوطنون مكانا ما، لهم قوانين ونظم خاصة بهم ويترأسهم شيخ يكنى بشيخ القبيلة، فهو يسن القوانين وهو الشارع المنظم يمارس الحكم على الجميع ويصدر القرارات التي ينبغي على الجميع احترامها والانقياد بها، هذا ما يسمى الولاء أي الطاعة واحترام قوانين العشيرة وجلب كل ما له مصلحة لها على حساب كل القبائل الأخرى، لأن وجود الفرد من وجود قبيلته ووجوده مرهون بها فهي من تصنع له مكانته، وبالرغم من دخول الفرد مرحلة الدولة الحديثة او دولة القانون الا ان النظام العشائري مزال يفرض نفسه ومسؤول عن انتشار اللاتسامح في بعض الدول من خلال تعارض المصالح خاصة عندما يكون الحديث عن معتقدات وقيم القبيلة.

لقيم العشيرة تداعيات خطير خاصة في المجتمع الذي يضم عدد كبير من العشائر ويكمن الخطر حينما تتصادم قيم القبائل فيما بينها أو تتصادم مع قوانين الدولة أي ما يسمى بتقاطع الولاءات هنا يكون الفرد مخيرا بين الولاء لقبيلته أو لدولته والقانون أو عندما يكون الامر مرتبط بالولاء للدين ايضا، فتكمن المشكلة الى من سينحاز الفرد في الولاء أكيد سيختار قبيلته وينحاز لها ضد الدولة فهو لا يستطيع التخلي عن عشيرته التي ترعرع في كنفها وعلى مبادئها وبما أن مكانته الاجتماعية تعطى له على أساس قبيلته 19.

كما أنه من المعروف أن القبيلة تقف بالمرصاد لأي أمر يتعارض مع مصالحها.. هكذا اذن تتقاطع الولاءات في معادلة الولاء للدولة أو للقبيلة وبالتالي تحدث فوضى عارمة في المجتمع ولاتسامح بين الأفراد لذلك كان لزاما تفكيك كل القيم المنوطة بالولاء العشيري واعادة تشكيلها وفقا لقيم جديدة اكثر انسانية ولا يسود فيها العنف والتصادم، أي أن يحول الولاء الى دولة القانون التي تضمن للإنسان حقوقه ومتطلباته الاساسية التي تطبق على الجميع سواسية، وتكون هذه القيم الجديدة قائمة على اساس الدين والنص القرآني الذي يدعو للبر والتقوى والتعاون، من هنا ستتوحد الشعوب على أساس انساني، كما أن الأمر يحتاج الى اعادة تفكيك قيم القبيلة لا القضاء عليها أو تعطيل فاعليتها لأن هذا الامر مستحيل وانما يعاد تركيبها بشكل يخدم المجتمع ويفعل القانون ويضمن ولاء الفرد للدولة القانونية بعيدا عن التعصب القبلي الذي كثيرا ما يتعارض مع المصالح العامة للشعب، هذا الأمر الذي عبر عنه الكاتب على أنه مصادرة للفرد وقيمته الانسانية وارادته التي أراد لها الله أن تكون متحررة وتسامح في بناء مجتمع متسامح20.

اذن فتفكيك النسق القيمي وليس الاجتماعي للقبيلة واعادة تشكيل العقل العشائري له الأولوية في عملية التغيير وتأسيس مجتمع يقبل كل التحولات بنظرة متسامحة تنشد كل قيم التسامح 21.

سلطة القيم:

تعتبر القيم الأساس الضابط لسلوك الفرد في تعاملاته وهي مكتسبة من المجتمع، بحيث "يلقن الفرد بمفاهيم قيمية يراد له الالتزام بها كي يكتسب احترام المجتمع، الذي لا يحترم الا من دأب على احترام قيمه والتزم بأعرافه وتقاليده"22.

اذ أن الاحترام يتبين من خلال تمسك الفرد بقيمه فهو بالتالي شخص محترم له مكانة اجتماعية مرموقة وكل شخص متمرد وساخط عن قيمه فبالتالي هو شخص فاقد لمكانته الاجتماعية خاصة تلك التي أعطته اياه القبيلة، فالقبيلة تشرع لصفات صارمة من قبيل العنف والولاء كما سبق شرحه وكذلك قيمة العصبية، فان لم يستخدم الفرد هكذا صفات في تعاملاته مع العشائر الأخرى أو في الدفاع عن قبيلته فسيوصف بالجبان وغيرها من صفات الضعف، فمعيار القوة في العشيرة هو مقدرة الشخص على التعامل بصلابة وبقوة وبكل عصبية والا فقد مكانته الاجتماعية في القبيلة، وبما أن هم الاشخاص نيل رضا شيخ القبيلة فبالتأكيد سيكون رد فعلهم صارم ولا متسامح ابان كل ردة فعل الى درجة التطرف.

كذلك في سلطة القيم يشير مفكرنا الى انتشار السلطة الأبوية وسيادة الذكورية، لأن المجتمع الذكوري لعب دورا كبيرا في تكريس سلطة النظام الأبوي، اذ يحتل الذكر مكانة أعلى من مكانة الأنثى، ومكانة مركزية الكون يتلاشى معها الوجود الاجتماعي للمرأة حتى تفقد قيمتها ومكانتها من خلال عدم تدخلها في القرارات خاصة المصيرية والحاسمة وبالتالي اختفى وجودها الحقيقي، وبذلك عطل المجتمع الأبوي نصفه الآخر بإرادته بعد أن هيمن العنصر الأبوي على جميع المستويات 23.

وبالتالي فان غياب مكانة المرأة في المجتمع يكون عبئا على تطور المجتمعات ويستحيل وصفها بالمجتمعات المتسامحة لأن هذه الأخيرة لا يمكنها اقصاء أي عنصر فعال في المجتمع ومهم كأهمية المرأة طبعا. هكذا اذن فان سيادة القيم المستبدة واللاسوية في المجتمع، تؤثر سلبا عليه وهذا بانتشار اللاتسامح والاضطهاد والعنف والاقصاء باسم القيم ومن الضروري فك النظام القيمي المتجذر في الشعوب ومحاولة وضع قيم جديدة أكثر عدلا وتنساق في المجتمع ليعمه السلام.

كما أشار الأستاذ الغرباوي الى منبعين آخرين لللاتسامح، وهما الاستبداد السياسي اضافة الى التطرف الديني واللذان تربطهما علاقة ببعضهما، فالمنبع الأول المتمثل في الاستبداد السياسي الذي يعني ممارسة السلطة العليا الاضطهاد والعنف باسم النظام والاحتكار والرشوة والظلم والكثير من أساليب الاستبداد، لذلك يتنافى الاستبداد السياسي مع التسامح ولا يمكن لهذا الأخير أن يحل في جو يسوده الاستبداد والعنف ويمارس ضمنه أساليب قمعية مختلفة هذا وتختلف انواع الاستبداد وتتعدد مجالاته وتتباين في الخطورة ولعل أخطرها الاستبداد الديني الذي يستمد شرعيته من الدين ويمارس عرابوه كافة طرق الاستبداد تحت شرع الدين بكل حرية وبالتالي يطغون ويصعب ردعهم، كذلك انظمة الحكم التي شهدها الانسان قد أسست للاستبداد والديكتاتورية بشكل كبير مما منع ظهور التسامح وقبول الآخر وحتى الاعتراف به، لهذا وجب دحض أسسه ومناهجه وأساليبه، كون أن "الاستبداد عقدة يجب تجنبها في كل صيغة لأي مشروع حضاري مستقبلي. كما ينبغي الارتقاء بوعي الأمة الى مستوى ادراك مساوئ الاستبداد، أيا كان مصدره سياسيا أو دينيا أو اجتماعيا" 24.

أما عن التطرف الديني الذي يشبه عامة وفي سياقات خاصة الاستبداد الديني فهو أيضا أساس آخر مشكل للاتسامح، من حيث أنه يتخفى تحت ثوب الشرع والدين، لهذا فالتطرف الديني لا يعدو كونه قراءة متحيزة للدين ومجتزئة للنصوص نظرا لاختلاف القراءات وتعددها رغم وحدة القرآن وتعدد الآراء واختلاف الفتاوى وعلى هذا الأساس يكون هناك خلاف ولا تقبل وبالتالي ينتشر التطرف ويختفي التسامح من الساحة 25. لذلك فان تفكيك الخطاب الديني القائم على التطرف ونشر قبول الآراء وتبادل الافكار وحل مساحة للحوار هو الحل لأي طرف ناشد للتسامح ورافض للخلاف والاستبداد.

خامسا- أسس التسامح:

بما أن التسامح مبدأ انساني وشرط حضاري نهضوي، فلابد له لامحالة من دعائم يقوم عليها حتى يتسنّى للأفراد والأمم افشاء التعايش وتقويض التناحر، ولعل أبرز هذه الأسس 26.

حقوق المواطنة:

تتحدد المواطنة انطلاقا من الاعتراف بالآخر كذات مغايرة ومخالفة لنا، والاعتراف بأن له جملة من الحقوق وان كانت تخالف حقوقنا وتصوراتنا، ذلك أن هناك فارق كبير بين قبول الآخر وبين الاعتراف به رغم أن كلاهنا يؤصّل للانتماء الوطني، لكن يبقى قبول الآخر هو حالة خارجية مفروضة على الفرد تبعا لمصالح وحياة مشتركة واحدة. في حين الاعتراف به ينطلق وينبع من الذات الواعية التي لا تكون أنانية في تصرفاتها وانّما تسبّق الولاء وبالأخص الوطني على أي ولاء آخر دون أي الغاء لا للذات ولا للغير27.

ان حقوق المواطنة تتطلب المساواة في الحقوق والواجبات بين كل المواطنين سواء كانوا مسلمين أو غيرهم ضمن اطار الوطن الواحد، خصوصا وأن الإسلام أكّد في نصوصه العديدة على حفظ حقوق أهل الكتاب قولا وعملا، قولا في الآيات العديدة:" ولا تجادلوا أهل الكتاب الاّ بالتي هي أحسن" (العنكبوت الأية 46 ) وعملا من خلال ما قام به الرسول عليه الصلاة والسلام في ميثاق المدينة الذي جعله دستور للناس مهما اختلفت انتماءاتهم الدينية فهم أمة واحدة لهم نفس الحقوق والواجبات 28.

 لعل التعايش والاعتراف بالحقوق بين المسلمين وحتى مع غيرهم هو أبرز ولاء للوطن اذ يقوم على أساس التسامح، وينبذ أي شتات وخلاف مهما كان نوعه (طائفي، قومي، عرقي، مذهبي...) ولذلك فالحقوق هنا واحدة والخصوصيات ليست ملغاة وانما معترف بها تحت لواء المساواة بين الجميع دون أي تفضّل أو منّة، هنا فقط ينفتح الأفراد على حريات عديدة.

سيادة القانون:

بعد حقوق المواطنة، لابد للتسامح أن لا يسير بشكل عشوائي عرفي غير مقنّن، وانما لابد له من عملية تقنين فالقانون يلعب دور كبير في حماية التسامح والعمل على تطبيقه محابهةً لأي نوازع ذاتية وذلك حتى لا تنشأ هُوة بين الحقوق والواجبات ويحصل تصدّع بين الأفراد.

ان القانون يمثّل قوة عليا رادعة لأي تمرّد ولأي محاولة للثورة على الجماعة، وفي نفس الوقت مُحلّة ومُرسية لثقافة الحوار والتعايش وتقبّل الآخر المختلف.

غير أنه تجدر الاشارة الى أن هذا القانون لابد أن يبقى صامد مجابه لأي تصدّع ولأي مناداة بالانهيار والتراجع خصوصًا في ظل وجود مرجعيات أخرى منافسة له أو جهات ثانية يحتكم الها المواطن غيره، فهذا وحده يقوض الولاء للوطن باسم ولاءات ثانية متعددة، ذلك أن أساس استقرار أي مجتمع يكون من خلال إحلال التسامح والسلام والتعايش والحوار بين أفراده مهما حمل في طياته اختلافات (قومية، دينية، سياسية...) هنا فقط تبرز وتتجلى قيمة التسامح كمبدأ يحقق وحدة المجتمع في ظل التعدّد والاختلاف 29.

إعادة تشكيل قيم التفاضل:

تلعب القيم دور كبير في بناء أو تهديم أي مجتمع، فمن ناحية يمكن أن تغرس في أفراده سلوكات التواصل وثقافة الولاء للوطن وللآخرين، ومن ناحية ثانية يكن لها خصوصا اذا ما يتم تشكيلها وترتيبها بالشكل الجيد أن تُحدث فجوة وتُفشي في المجتمع الشتات وعوامل التفكك والخلاف، ولذلك لابد نقل هذه القيم من المستوى الخاص الأناني المنغلق الى مستوى عام انساني تعايشي منفتح.

ولعل الإسلام أبرز من أصّل لهذه القيم السمحة من خلال فكرة التفاضل التي تقوم علة جملة أسس أبرزها:

التقوى: تتمثل في وضع الانسان لله عز وجل في قلبه وعلى رأس تصرفاته أثناء معاملة الناس، أي الخشية منه، ومن ثم لا يمارس ولا يسلُك الاّ وفقًا لما هو أخلاقي، دون أن يستغل الدين في أعمال لا أخلاقية (سفك دماء، ظلم، تعدّي على الحقوق...)

الجهاد: ذلك أن الله عز وجل خصّ المجاهدين في سبيله بمنزلة ومكانة مع الأنبياء والأبرار والصالحين ووعدهم بأجر عظيم، ولذلك هناك فرق كبير بين من يجاهد في سبيل دينه ووطنه وبين من لا يحرك ساكنًا ازاءهما.

العلم: فالعلم له مكانة مرموقة خاصة في الدين الإسلامي خاصة باعتباره غاية مطلقة على كل الناس بلوغها، وذلك لما له من فائدة وقيمة عليا 30.

اطلاق الحريات العامة:

 ان المجتمعات التي تعايش الكبت والتستر تحت لواء قيود عدة لا يسودها الّا العنف والاستبداد واللاتسامح، في حين المجتمعات التي تنفتح على الحريات تترسخ فيها قيم التسامح والاحترام، فالحيرة مطلب ومسعى انساني رغم عديد المحاولات الساعية لطمسه، والمعنيّ بالحريات العامة حرية العقيدة والفكر والتعبير عن الرأي والحرية الدينية والسياسية والثقافية، لذا تبقى الحرية أهم ذريعة لتثبيت قيمة التسامح والاعتراف ونبذ كل عنف وتفرقة وكراهية.

الخاتمة:

ختاما نستنتج أن مشروع ماجد الغرباوي النهضوي المتمثل في اعادة تفكيك الخطاب الديني وتأسيس منظومة قيمية جديدة قائمة على الفهم الصحيح للدين من خلال ما ورد في النص القرآني والسيرة النبوية وبلورته بما يناسب مجتمعاتنا الاسلامية اليوم التي تعاني العنف والاستبداد والاضطهاد والاقصاء فيما بينها، فقد وجد مفكرنا في التسامح المبني على الحوار والانفتاح العقلاني على الأفكار واحترام الحريات والاعتراف بالآخر مساحة كافية للتقليل من الأخطار التي قدفت بالإنسانية نحو الهاوية وألقتها في ظلال اللاتسامح الشائكة والتي تتعارض مع الطبيعة الانسانية والفطرة السوية التي فطر الانسان عليها ككائن متسامح، متعاون، مسالم، لهذا وجب تفكيك النسق القيمي السائد وتشكيل نسق جديد قائم على الحب والحوار وتأسيس التسامح القائم على الاعتراف بالآخر، فأن تكون متسامح مع غيرك عليك أن تعترف به بذاته بوجوده وبكينونته، وهذا أمر شائك يستدعي جهودا كبيرة تتشارك فيها جميع الجهات من أجل نشر أكبر مقدار من الوعي، وهي محاولة أصيلة من مفكرنا تستدعي التطبيق الفعلي على أرض الواقع، من أجل مشروع سلام دائم بلغة ايمانويل كانط.

***

طالبتا الدكتوراه، الأستاذتان:

ايمان عامر ودنيا مسعود

الهوامش

1- صحيفة المثقف، السيرة الذاتية لماجد الغرباوي، صفحة الكاتب في باب المؤسسة:

https://www.almothaqaf.com/foundation/majedalgharbawi-2

2- المصدر نفسه.

3- ابن منظور،لسان العرب.

4-  عصفور، جابر، ثقافتنا بين التعصب والتسامح، ص80.

5- ستيفن ديلو، التفكير السياسي والنظرية السياسية والمجتمع المدني، 2003، ص700.

6- مجلة قضايا إسلامية معاصرة، 83، الصفحتان: 12 و13.

7- الغرباوي، ماجد، تحديات العنف، ص124.

8- الغرباوي، ماجد، الضد النوعي للاستبداد.. استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني، ص 111.

9- الغرباوي، ماجد، التسامح ومنابع اللاتسامح.. فرص التعايش بين الأديان والثقافات، ص 22.

10- الغرباوي، ماجد، تحديات العنف، ص 125.

11- التسامح ومنابع اللاتسامح، مصدر سابق، ص 11.

12- المصدر نفسه، ص 13.

13- المصدر نفسه، ص 14.

14- المصدر نفسه.

15- المصدر نفسه، ص 15.

16- المصدر نفسه، ص 27.

17- المصدر نفسه، ص28 .

18 - المصدر نفسه، ص 30.

19- المصدر نفسه، ص 34.

20- المصدر نفسه، ص 37 و38.

21- المصدر نفسه، ص 38.

22- المصدر نفسه، ص42 .

23- المصدر نفسه، ص 48.

24- المصدر نفسه، ص 28.

25- المصدر نفسه، ص 57.

26- المصدر نفسه، ص 75.

27- المصدر نفسه، ص 76.

28- المصدر نفسه، ص 82-97.

29- المصدر نفسه، ص104 و105.

30- المصدر نفسه، ص 108 و109.

قائمة المراجع والمصادر:

- ابن منظور. (1990). لسان العرب. بيروت: دار صادر.

- الغرباوي ماجد. (2008). التسامح ومنابع اللاتسامح. العراق: الناشر الحضارية للطباعة والنشر.

- الغرباوي ماجد. (2009). تحديات العنف. لبنان: دار العارف للمطبوعات.

- الغرباوي ماجد. (2019). متاهات الحقيقة الهوية والفعل الحضاري. استراليا، مؤسسة المثف وسوريا: دار أمل جديدة.

- الغرباوي ماجد. (2010). الضد النوعي للاستبداد. لبنان: العارف للمطبوعات.

- جابر عصفور. (فيفري، 2006). ثقافتنا بين التعصب والتسامح. مجلة العربي.

- ستيفن ديلو. (2003). التفكير السياسي والنظرية السياسية والمجتمع المدني. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة.

- مجلة. (دون سنة). التسامح ومنابع اللاتسامح. مجلة قضايا اسلامية.

www.almothaqaf.com

Iben mandor,1990, tongue of the Arabs, Beirut, sader publishing house

harbawi majed,2008, tolerance and founders, irak, annasher cultural publisher

Gharbawi majed,2009, challenges of violence, Lebanon, el aref publishing house

Gharbawi majed,2009, the labyrinth of truth identity and civilizational, Syria, amal publishing house

Gharbawi majed,2010, the specific antithesis of tyranny, Lebanon, el aref publishing house

Jabber assfour, febrary2006, our culture between intolerance and tolerance, al arabi magazine

Steven delow, 2003,politic thinking, political theory, civil society, cairo, superme council, of culture

Magazine, don a year, tolerance and founders, journal of Islamic issues

البحث منشور في مجلة لارك للفلسفة واللسانيات والعلوم الاجتماعية/الجزء الثالث من العدد السادس والاربعون /مؤتمر التنوع الثقافي أساس التكامل الوطني كلية الآداب/جامعة واسط ٢٠٢٢

https://lark.uowasit.edu.iq/index.php/lark/issue/view/63

يعيش الانسان اليوم في رحتله الحياتية في غربة، ولاسيما عندما يجد ان هناك ثمة تعرقل مقصود يطيح به، ويحيط به في الوقت ذاته، بسبب عدم القدرة على التسامح، واللاتسامح المفرط في وقتنا المعاصر أدى إلى ضعف البنية الاجتماعية بين الأفراد، وانتقل إلى عموم المجتمع وتفصيلاته، في هذه الرحلة مع" ماجد الغرباوي" يضيء لنا بعض الأضواء في مفاهيم التسامح حيث يجد أنه مفهوم اسلامي، ولكنه في الوقت ذاته قد صورته الثقافة الإسلامية بعده مخلوقا غير اسلامي بسبب قراءات العنف والاحتراب، وهذا مما يستدعي منا الرجوع إلى الذات لمراجعتها ونقدها، والوقوف على مواضع الخلل فيها لتقويمها ومعالجتها.

على الرغم من الملاحظات على القراءات المبتورة التي سجلها "الغرباوي" على من يعتقد بأن المتسامح هو انسان متنازل عن قناعاته الفكرية والعقيدية نزولا عند رغبة الآخر كما يعتقد، أو هي الانصياع والتبعية والرضوخ للاخر المختلف في رؤية أخرى، هنا الا يعتقد او يضع مجالا بعده تعايشا؟ على اساس كلية العقيدة وحرية التعبير وماشاكل ذلك.

قطعا ان التسامح عنده هو نسق قيمي وأخلاقي يراد احلاله محل النسق القيمي والأخلاقي الذي مازال يدير حركة المجتمع ويحدد اتجاهاته، ولاسيما بعد ان ظل العنف مستحكما داخل المجتمعات غير المتحضرة والتي لاتحتكم الى القانون، وتحتاج إلى رجوع واضح لفهم التداعيات في الممارسة غير المشروعة للعنف، واعتماد الجميع القوة والعنف أساسا في التفاضل الاجتماعي والسياسي عن طريق:

3215 التسامح ماجد الغرباوي- الولاء القبلي .

- وسيادة الإرادة السياسية .

وهذا بدوره أدى إلى تاسيس قيم في المجتمع من خلال :

١- تزريق القيم الى وعي الفرد عادة في السنوات الأولى من حياته عندما يلقن مفاهيم الخضوع والاستسلام للقيم .

٢- المجتمعات العربية مجتمعات ذكورية، تمنح الرجل صلاحيات واسعة، وتهمش المراءة وتلغي وجودها .

٣- هيمنة القيم التسلطية والقمعية في المجتمع .

٤- تمثل السلطة الفوقية وتداولها ولائيا.

مما سبب حالات من التغيير في مبتنى فهم الأفراد لما يحتاجون إليه جملة وتفصيلا، داخليا وخارجيا .

وبما أن التسامح هو نسق قيمي إلا أنه لاينسجم مع منظومة القيم المستبدة، لأن المجتمع هو الذي يحكم بصلاحه من عدمه، ووقوف الاستبداد السياسي كخصم حقيقي للتسامح، من خلال رفض الآخر وتبعاته، كما ينبغي بحسب " الغرباوي" اعتماد أسلوب آخر في الحكم ينهي هيمنة الطاغية على عقل الإنسان، الذي يخشى التدهور السياسي والأمني عند غيابه، بمعنى البقاء داخل السلطة مهما كلف الأمر.

ومن جهة أخرى يرى أن التطرف الديني أيضا أحد أخطر منابع اللاتسامح، لتلبسه بلبوس المقدس، وتوظيفه للنص الديني، بما ينسجم مع مصالحه الخاصة فقط .

بعدها ينتقل الى أسس التسامح في حقوق المواطنة من المسلمين وغيرهم، الى سيادة القانون والاستمرار في تأثيره الاجتماعي، ولكنه يصطدم عندما يجد تعدد في المرجعيات فيفقده قوته ويتراجع،وحتى يبقى موقفه قويا لابد من اعادة تشكيل قيم التفاضل من خلال مجموعة موزعة اجتماعيا بين الدين والأخلاق والأعراف

والعادات والتقاليد، وتوظيفها في إطلاق الحريات العامة لترسيخ قيم التسامح بين أبناء الوطن الواحد، عن طريق الإسلام الصحيح بالرفق والحلم والعفو والرحمة، بدراسة مهمة ومحاولة تاسيس نسق قيمي جديد لمفهوم اسلامي عريق أكدته نصوص الكتاب وعضدته السيرة الصحيحة.

محاولة "الغرباوي" هذه محاولة علمية جادة، أراد من خلالها تبيان منابع التسامح الإسلامية الصحيحة التي تدعو إلى العيش المشترك، بعيدا عن لغة الحروب والصراعات والفتن، التي لا تؤدي إلا إلى القطيعة، وقد تستمر الى أجيال وأجيال اذا لم نتبه إليها.

 

د. حسنين جابر الحلو

 

 

ماهية الدين وعلاقته بالمعنى الوجودي للإنسان، لا تزال أشكل الإشكالات في تفاصيل حركة الحياة الإنسانية، هذا المبحث الشائك والمتشابك والعميق عمق تاريخ الدين في مسيرة البشرية يعد صنو إشكال ماهية المعنى الإنساني في حياة البشر، وفي حقل الأبحاث الفلسفية المعاصرة في الجغرافيا العربية والإسلامية هناك مشروع نقدي جدي وتجديدي مثير للنباهة ومحرك للوعي الحضاري لدى الإنسان العربي والمسلم بدوره ورسالته الوجودية كإنسان وعلى ضوء القيم الدينية السابحة في غمار حياته التاريخية وخياراته الثقافية، هذا المشروع الذي يعود لأربعة عقود من الزمن الثقافي العربي والإسلامي التنويري، لا يكاد يتوقف عن رفد العقل العربي والمسلم بمصابيح الوعي وأدوات التجديد، لأنه مشروع خارج إطار الأنا الضيقة، بل هي تجارب نقدية متعددة ومتنوعة تلتقي في بعض المسارات وتختلف في أخرى لكنها تعكس ثقافة وعي راسخة تقرأ الدين من خلال قراءة معنى إنسانية الإنسان دون الاستغراق في التراث وأدلجته وبعيدا عن الإغتراب في التعبير والتطبيق للعقلانية والمعنوية على ضوء فلسفة الدين المعاصرة، إنها نخبة نالت قسطا وفيرا من التجارب الفكرية والنقدية والمقاربات الثقافية التطبيقية عبر سنين من التساؤلات الجوهرية النابعة من المسؤولية الإنسانية تجاه فهم الدين ومقاصده على وجه الخصوص، كما أنها استطاعت أن تبعث خطابا ثقافيا ميزته الأساسية أنه فوق الطائفية وبلغة علمية رصينة، يجعل القارئ يستشعر جدوائية الخطاب الإنساني في ترسيخ الوعي القيمي والكرامة الإنسانية وتفعيل الحرية الفكرية..

2626 عبد الجبار الرفاعي وماجد الغرباوي

نسلط الضوء بعجالة في هذه السطور على قامتين من قامات الفكر التجديدي المعاصر ضمن الحقل الثقافي النقدي الإسلامي المسؤول، الأستاذ المفكر الأستاذ ماجد الغرباوي والأستاذ المفكر الدكتور عبد الجبار الرفاعي، وكلاهما من العراق بلاد الرافدين والثقافة العربية والإسلامية الأصيلة عبر جميع محطات الزمن الإسلامي، حيث المطلع على نتاج كلا المفكرين يلحظ عدة ملاحظات منها:

1- تأسيس الفعل النقدي على أدوات ومناهج دقيقة ومنتجة للوعي الجمعي بعيدا عن المجاملات والمواربات..

2- ضبط المفاهيم من خلال إثارة الإشكالات من أجل رفع الغموض عن المشكلات الحقيقية لواقع الإنسان والأمة وليس اشتغال فكري نظري يزيد الواقع تيها واغترابا عن الرسالة الحقيقة للإنسان والأمة..

3- تأكيد النقاش العلمي والفعل النقدي بعيدا عن نظرية المؤامرة وترسيخ قيم الإنسانية في تفكيك الأزمات الثقافية والحضارية التاريخية بعيدا عن لغة التسقيط والتسفيه وما هنالك مما يتنافى ومقاصد التطلع الإنساني للحضارة والسلام والرقي ناهيك عن الأدب الإسلامي في المجادلة العلمية ..

4-  الإنفتاح الفكري على الثقافة الإنسانية من خلال القراءات العميقة والمعرفة الدقيقة لخلفيات الأفكار والنظريات وتاريخ العلوم ومناشئ الفلسفات وتبلور المدارس الفكرية في الغرب والشرق..

5- التحرر من تأثيرات الأيديولوجية بشجاعة وثقة عبر التأكيد على النزعة الإنسانية في مقاربات القضايا والإشكالات والمشكلات والأزمات والتطلعات..

6- رسم معالم إنسانية مقاصد الدين الإسلامي من خلال مقاربة آفاق الآيات القرآنية والارتكاز عليها في تأصيل دور العقل في استعادة الوعي بضرورات التجديد في فهم العلاقة بين الإنسان والدين من خلال تفكيك جدليات الواقع والتاريخ..

7- رسوخ القيم في تناول المسائل والمشاكل وتخليص حقيقة الدين والمقدس من متاهات النفس والتاريخ وسمسارة الأيديولوجية والمصالح..

8- تطابق الحس الأخلاقي مع الفعل الثقافي فلا يمكنك أن تقرأ عن الأخلاق والقيم لدى كليهما دون أن تلمس ذلك المعنى في تفاصيل حياتهما، التسامح أو التواضع والصدق والنزاهة والعفو والإخلاص كلها حاضرة في سيرة المفكرين لكل من عرفهما عز المعرفة، فالتسامح والتواضع عند الأستاذ ماجد ليس لقلقة لسان أو تنظير في فضاء الفكر وإنما حقيقة حية تعكس دقة الرؤية وصدق التحليل وعمق المعرفة، ونفس الحال عند الأستاذ عبد الجبار، كل منهما يأسرك بأخلاقه العملية الإنسانية الرائعة في تعاملهما مع الأفكار والأشخاص والأحداث..

9- استطاعا بكل اقتدار أن ينتقلا بمفاهيم ذات علاقة بالدين من خطاب المؤسسات الدينية إلى لغة التداول الأكاديمي عبر عمليات النقد والتفكيك، مما جعل الموضوع الفلسفي الديني الإسلامي عموما في أعمالهما يتجاوز المعوقات التاريخية والخلل المنهجي والأحكام المسبقة..

10- تجربة كل من الأستاذين الغرباوي والرفاعي تعكس صور وتمثلات المثقف المسؤول وترسم نهج تجاوز أدلجة الدين للعبور نحو إنسانية الدين للنهوض بوعي التجديد والمسؤولية لدى الفرد والأمة 

كانت هذه بعض الملاحظات العابرة من خلال قراءاتي المستمرة منذ عقود لنتاج المفكرين الرفاعي والغرباوي ، ولعلها تنطبق على مفكرين آخرين عبر العالم العربي والإسلامي، بينما الأكيد أن آخر نتاجاتهما كانت ذات أثر بليغ واستشراف عميق لما يجب أن تكون عليه العملية النقدية في المدى القريب والمتوسط خصوصا في سلسلة متاهات الحقيقة بالنسبة للأستاذ ماجد الغرباوي وثنائيات الدين الخاصة بالأستاذ عبد الجبار الرفاعي، وأهم ما يمكن الإشارة إليه في هذا الخصوص أن للأخلاق والقيم حضور قوي وبين في جل أعمال المفكرين ليس كسمة أنطولوجية وإنما كقاعدة أساسية للأجيال على أن قراءة الدين بعيدا عن المعنى الأخلاقي ضمن إنسانية الإنسان هي قراءة ناقصة وقد تكون ذات آثار وخيمة، وهذا ما عبر عنه كلاهما في علاقة الدين بالأخلاق في آخر حلقات الحوار المفتوح مع الأستاذ الغرباوي المستمر ضمن سلسلة متاهات الحقيقة وفي جديد إصدارات الدكتور الرفاعي الذي سيرى النور قريبا حول الدين والكرامة الإنسانية..

ما يمكن استخلاصه من هذه الإطلالة الخاطفة على سمات فكرين يتقاطعان أكثر مما يفترقان أنهما يشتغلان بحب وصدق وإخلاص من أجل صناعة الوعي السليم وتفعيل الحركة التجديدية في إعادة قراءة وفهم الدين ونصوصه دون التغافل أو إهمال إنسانية الإنسان وضمانا لحريته وكرامته ونهوضا بمسؤوليته الحضارية فردا وأمة..

كل الشكر للأستاذين المفكرين رائدي التجديد المعاصر على الفكر الحر والرؤية الثاقبة والتطلع المسؤول والمنهج الرصين في النقد والتحليل والهندسة لآفاق التجديد والتمكين للنهوض الحضاري في عالمنا العربي والإسلامي، ونأمل أن يزداد الاشتغال الأكاديمي النقدي والتحليلي لأعمالهما لدى الباحثين الأكاديميين من طنجة إلى جاكرتا لأن معنى الحقيقة وحقيقة المعنى لدى كلاهما بحاجة لإستثمار معرفي أولا ومنهجي عملي ثانيا ضمن ما يمكن تسميته أنسنة الوعي الديني حتى يلبس الدين لبس الفرو مقلوبا.. ويبقى معامل الوعي الإنساني أساس التغيير والإصلاح والتجديد والنهضة..

 

مراد غريبي - كاتب وباحث في الفكر

 

صدر في شيراز – إيران عن دار "نگاه معاصر" بالتعاون مع "مركز تحقيقات مجد"، كتاب:

(مدارا و ریشه های نامدارایی.. فرصت های هم زیستی ادیان و فرهنگ ها)،

(التسامح ومنابع اللاتسامح.. فرص التعايش بين الأديان والثقافات) لماجد الغرباوي.

ترجمة الأستاذ: مرتضى رحيمي نجاد

تقديم: الأستاذ الدكتور محمد جعفر أمير محلاتي، استاذ إلهيات السلام، جامعة شيراز، إيران.

اتصفت الترجمة بدقة النقل وجمال البيان، حيث بذل المترجم جهدا لتفادي حرفية الترجمة، ونقل مفاهيم الكتاب بلغة فارسية مشرقة. وللأستاذ مرتضى رحيمي نجاد مجموعة كتب ترجمها من اللغة العربية إلى اللغة الفارسية.

كما أشاد الأستاذ الدكتور محمد جعفر أمير محلاتي في مقدمته الضافية بمؤلف الكتاب، وأكد على خلفيته العلمية وآرائه الفكرية، خاصة في موضوع التسامح، فكانت المقدمة إضافة نوعية من خلال قراءة نقدية لمفهوم التسامح وضروراته.

جاء في المقدمة:

التسامح ومنابع اللا تسامح كتاب لماجد الغرباوي الذي اتسم بمكانته العلمية، وقدرته على تشخيص أسباب التعصب والعنف علميا وفي إطار رؤية نظرية متماسكة. ويُعد كتابه من أفضل الأعمال وأكثرها تحليلا. ولا ريب فهو عالم له منجزاته ومكانته. ومن المهم جدا أن نعرف أن الغرباوي عراقي. ولد من رحم الحضارة الإنسانية؛ وكان شاهدا حقيقيا على حجم العنف الذي اجتاح بلاده. وأعاد ستة آلاف سنة من الحضارة العالمية إلى عصر الكهوف.

اهتم المؤلف في هذا الكتاب بجوانب مهمة من علم الوجود (الأنطلوجيا) والتأريخ وعلم الاجتماع وعلم الدلالات والرموز والفلسفة السياسية وعلم النفس واللاهوت والأنثروبولوجيا وغير ذلك.

2595 تسامح فارسي 2

إن كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح.. فرص التعايش بين الأديان والثقافات، كان قد صدر سنة 2005م عن مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد. وصدرت طبعته الثانية في بيروت سنة 2008 عن مركز الحضارة ودار العارف. ويعد من الكتب واسعة الانتشار، وقد حظي بقراءات عديدة.

أتقدم بجزيل الشكر والاحترام للجهود الطيبة التي بذلها الأخ الأستاذ مرتضى رحيمي نجاد. كما أشكر الأستاذ الدكتور محمد جعفر أمير محلاتي بمقدمته التي أسعدتني. متمنيا لهما دوام العطاء والعافية.

2596 tasamoh3

يمكنكم الاطلاع على النسخة العربية من الكتاب على الرابط أدناه مع الاحترام

https://www.almothaqaf.com/k/majed-al-gharbawi-s-books/928973

 

ماجد الغرباوي

24 – 6 – 2021م

 

 

 

 

يمثل المفكر الإيراني "علي شريعتي" أحد أبرز المفكرين الذين ساهموا في إثراء وتجديد العصر الحديث، وقد تأسس "فكر شريعتي" على مكافحة حال الجمود والاستبداد، وإعادة بعث الوعي الديني، وبناء الوعي في فكر "شريعتي" اعتمد على ما عرف بفكر المقاومة، والذي نشط كتيار سياسي في سبعينات القرن الماضي، ومع عودة ثقافة فكر المقاومة إلى الساحة الإسلامية، خاصة بعد ما عرف بالربيع العربي، كان من الضرورة عودة النظر في فكر المقاومة . وذلك لحاجة المجتمعات الإسلامية المعاصرة لعودة الوعي الديني مع الاحتراز من شعارات تسييس الدين. ويرى "شريعتي" في دعوته إلى عودة الوعي الديني، أن الدين حتى يكون فاعلاً في المجتمع فلابد من تحويله إلى أيديولوجيا، فكان ذلك مدخلا لدراسة مدى تأثير الوضع السياسي والحزبي على فكر "شريعتي" وتوظيفه للدين في غير حقله. (ولم يفارق الهم الايديولوجي رجل الايديولوجيا المعلم الدكتور شريعتي وبقي يؤكد: ان الذي أأمله وابحث عنه هو العودة الى الاسلام باعتباره « ايديولوجيا». وفي مقابل ذلك رفض شريعتي الاسلام المجرد من الايديولوجيا واعتبره تراكما ثقافيا وفكريا لكن بلا حياة ولا حيوية)1.

وهنا وجدنا الأستاذ الكبير ماجد الغرباوي يقدم لنا في القسم الثالت من  كتابه "الضد النوعي للاستبداد- استفهامات حول جدوي المشروع السياسي الديني" قراءة حديثة لمشروع علي شرعيتي التغييري، وذلك من خلال الاستفادة من فكره في كشف أسباب تخلف المجتمع الإيراني، مع التوقف عند دعوته أدلجة الدين، لنوضح أن الدين أرحب من الأيديولوجيا، وأن أدجلة الدين ننقله من حقلة الأساسي كمصدر للأخلاق والقيم؛ إلى الحقل السياسي الضيق.

وهنا نجد ماجد الغرباوي يقدم لنا قراءة منهجية لسوسيولوجيا علي شريعتي في التغيير، وذلك من خلال اعتماد نموذج إرشادي تحليلي مركب يقوم علي قراءة كتابات شريعتي النقدية، وبالتحديد مفهومي " التشيع العلوي" و" التشيع الصفوي" على اعتبار أن بلورته لهذين المفهومين هو بمثابة نقد لأيديولوجيا المجتمع الإيراني. وما يعنيه الغرباوي بنقد الأيديولوجيا هو تحليل وكشف للأفكار والمعتقدات من حيث ارتباطها بعلاقات السيطرة والهيمنة الاجتماعية، وممارسته لهذا النقد بروح ومنهجية تقارب منهجية " النقد الداخلي" كما تم تطويرها في النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت.

إن محاولة الغرباوي في أواخر كتابه " الضد نوعي للاستبداد" تقديم قراءة منهجية وجادة لنقد الأيديولوجيا – الداخلي عند شريعتي، تأخذ أهميتها الحقيقية المتمثلة بإهمال مثل الدراسة المنهجية لأعمال شريعتي، والتي يتم تناولها ضمن الأدبيات التي تعالج الثورة الإيرانية بشكل خاص، أو ظاهرة ما يسمي " الأصوليات الإسلامية المعاصرة"، حيث عادة ما تقدم هذه الأدبيات شريعتي بصفته المؤدلج الرئيس للثورة الإيرانية، أو المسؤول عن تحويل الإسلام (التشيع) إلي أيديولوجيا؛ وذلك بالرجوع إلي دوره في بلورة الإسلام – التشيع تحديداً إلي أيديولوجيا سياسية لعبت دوراً حاسماً في تحريك قطاع واسع من الجماهير الإيرانية، وتحديداً جيل الشباب، طلاب الجامعات والمثقفين الشباب.

2413 الضد النوعي للاستبداد

هذه الرؤية لشريعتي ودوره وإن كانت تحمل قدراً من الصواب، إلا أنها في نظر ماجد الغرباوي مجزأة، وخاصة بالنظر إلي الخلفية غير السوسيولوجية، وبالتحديد البعد النظري لكثير من هذه الدراسات التي عالجت تراث شريعتي برجل الدين؛ إذ نجد أن تراثه قد تسبغ كما يقول الغرباوي بنقود لاذعة لرجل الدين حتى كانت انتقاداته إحدى المآخذ القوية ضده، غير أن الموقف كما يذكر الغرباوي من شريعتي حول هذه النقطة بالذات موزع ما بين معارض متطرف، ومؤيد يبرر له فعله . ويضيف: (كان وما يزال الجدل محتدما حول الدكتور الشهيد علي شريعتي،  والاراء في تقييمه متاقطعة وربما متباينة تباينا تاما، ففيما ينتقده بعض بشدة ويصفه بالمروق والخيانة والخروج عن الدين، حتى لا يتورع بعضهم من رميه بالكفر، يمجده اخر ويرتفع به الى قمة العظمة. وقد مرت بعض التقيمات الايجابية لاهم رجال الثورة الاسلامية حوله. وهذا يكفي لمعرفة حجم التأثير الذي تركه شريعتي في مجتمعه، كما ان حجمم الجدل كان يتناسب بلا شك مع مستوى وعيه وحركته)2. أما لماذا ذلك فنجد الغرباوي يسوق لنا الأسباب التالية:

أولاَ: أن شريعتي كما يري الغرباوي كان يعي الدور الخطير ويدرك امتداداته الواسعة في المجتمع وتأثيره البالغ سلباً وايجاباً .

ثانياً: أن شريعتي يميز بين (الروحاني) عالم الدين الورع، المتقي، المجاهد، الواعي، والرسالي المناضل أو ما يطلق عليه علماء التشيع العلوي . وبين (الروحاني) رجل الدين المستبد المتحجر الخرافي الساكن المتكسب بالدين . يدعم السلطان ويشرعن ممارساته، ويتخذ من الدين حرفة ووسيلة ويفرض علي الأمة نمطاً من التفكير المغلق، أو ما يصطلح عليهم رجل الدين في التشيع الصفوي.. وبهذا الشكل كما يذكر الغرباوي انسن شريعتي رجل الدين بعد أن أنزله من عليائه ومزق شرنقته الميثولوجية، وصار يحتمل الخطأ والنسيان بعد أن كان معصوماً مصاناً متعالياً لا ينطق إلا الصواب والحق3.

ثالثا: كان شريعتي مبكراً في صراعه مع روحاني التشيع الصفوي المترصدين بلا هوداة لمناشطه الفكرية والاجتماعية، وطالماً شن هؤلاء هجوماً قاسياً على الرجل في المجالس العامة والأوساط العلمية، واتهموه بشتي التهم، غير أن شريعتي كما يذكر الغرباوي كان يزداد اصراراً وجرأة في طرح مفاهيم جديدة للدين تضع رجل الدين ومصالحه الشخصية المرتكزة إلى الدين في زاوية حرجة وتسمح للإسلام بالامتداد في جميع مناحي الحياتي التي حرمه رجال الدين من دخولها فتعطل هدفه وانحسرة دائرة تأثيره.

وثمة مؤاخذات يسجلها شريعتي على رجل الدين كما يذكر الغرباوي، فيرى في وقوفه إلى جانب السلطان الصفوي تخطياً فاضحاً للقيم الإسلامية الأصيلة، ويعتبرها مواقف غير مبررة مهما قيل في الدفاع عنها، إذ يسجل شريعتي، كما يذكر الغرباوي، على الدولة الصفوية والسلطان الصفوي التحفظات التالية:

التحفظ الأول: محاربتها للدولة العثمانية التي تقف رغم سلبياتها في نظر الغرب المسيحي، العدو الإيديولوجي للإسلام، وكانت حرب الدولة الصفوية كما يرى الغرباوي مع الدولة العثمانية حرب استنزاف للقوة الإسلامية، وقد أفضت إلى هشاشة المقاومة إلى درجة طمع الغرب في تخطي الحدود الشمالية، ومن ثم استولى على الرقعة الإسلامية بشكل تدريجي . وكان ينبغي للدولة الصفوية كما يرى الغرباوي أن تقف إلى جانب الدولة العثمانية لصد العدوان الأوربي الصليبى على الدول الإسلامية.

التحفظ الثاني: إقامة الدولة الصفوية اتفاقيات اقتصادية وسياسية وعسكرية مع أوربا، التي هي في حرب مع المسلمين . فشددت تلك الاتفاقيات الخناق كما يرى الغرباوي على الدولة الإسلامية، بينما الموقف الشرعي يقتضي مقاطعتها لأنها في حرب مع المسلمين.

التحفظ الثالث: عندما لجأت الدولة الصفوية إلى التشيع في محاربة الدولة العثمانية المرتكزة إلى التسنن الأموي، أعاد الصفويون كما يرى الغرباوي بمساعدة رجال الدين صياغة التشيع وبناء منطومة من الأفكار المرتكزة إلى الخرافة والميثولوجيا والتضليل والاستغفال والاستحمار، وتغير التشيع من مذهب مناضل منافح عن قيم الإسلام عبر التاريخ إلى تشيع كما يرى الغرباوي يدعم الاستبداد السياسي والتخلف الفكري ويتمسك بتقاليد وعادات خرافية ويتبنى خطاباً دينياً مضللاً . وصار في ظل الدولة الصفوية كما يرى الغرباوي يستبيح قتل الإنسان السني كما يستبيح التسنن الأموي قتل الإنسان الشيعي، ولم يستيقظ إلا بعد أن ترك نقطة سوداء في تاريخ التشيع الناصع، وبعد أن شطر التشيع إلى علوي وصفوي.

بيد أن سياسة الدولة الصفوية كما يرى الغرباوي قد فرضت على رجل الدين بالمنطق القرأني أن يشكل تحدياً صارخاً للاستبداد والتعسف السياسيين، غير أن بعض رجال الدين كما يرى الغرباوي بدلاً من ذلك وقف إلى جانب السلطان المستبد وتسلم مقام مشيخة الإسلام في مقابل مشيخة الدولة العثمانية . وصار الفقيه يستمد وجوده كما يرى الغرباوي من السلطان، والسلطان يستمد شرعيته من الفقيه، واحداهما يشرعن ممارسة الآخر ويدعم موقفه ومكانته في المجتمع.

ولما كان الدجل السياسي يفرض على السلطان الصفوي ممارسات تمويهية كما يرى الغرباوي، كالسير مشياً على الأقدام لزيارة الإمام الرضا والأماكن المقدسة الأخرى عند الشيعة مثلاً، ويشارك في مراسم عزاء الإمام الحسين ويدعم الخطاب الطائفي من أجل تأكيد ولاءه المذهبي، ارتفع رجل الدين في مقابل ذلك بالسلطان إلى درجة الإلهة، ويكفي للتأكد من صحة هذا الكلام كما يرى الغرباوي أن تراجع مقدمات الكتب المؤلفة في العصر الصفوي لتقف على مقام السلطان في نظر الفقيه . وهذه المواقف وغيرها كما هو الحال بالنسبة إلى رجل الدين الذي وقف إلى جانب الدولتين القاجارية والبهلوية كما يرى الغرباوي دعت شريعتي وغيره من المثقفين إلى نقد تلك الممارسات وتمزيق جدار الصمت المطبق تحت ما يسمي ما يسمي بالبروتستانتية الإسلامية والإصلاح الديني4.

وهنا نجد الأستاذ الكبير ماجد الغرباوي يؤكد لنا حقيقة هامة ألا وهي أن البروتستانتية والإصلاح الديني هو أحد مشاريع شريعتي، ثم يقدم الغرباوي بعض الأمثلة والنماذج من أقواله ؛ نذكر منها قوله: ".. على المفكر في هذا المجتمع وفي هذه اللحظة أن يبدأ من الدين لتحرير الناس وهدايتهم وإيجاد عشق وإيمان وفوران جديد وتنوير للأذهان والأفكار، وإطلاع الناس على قوى الجهل، والخرافة والظلم والانحطاط في المجتمعات الإسلامية . يبدأ من الدين بمعني هذه الثقافة الدينية الخاصة، وهذا الفهم والتفسير الصحيح والمباشر، لا ما هو موجود وما ترونه أمامكم، بل ما يناقضه تناقضاَ تاماً، ويسعي علي القضاء ما ترونه أمامكم"5.

ويري الغرباوي أن شريعتي يعتقد أن الإصلاح إنما يطال القوالب والأشكال دون جوهر الدين، القوالب التي تشكلت ضمن طرف محدد وفي عصر له خصائصه وضروراته، فينبغي إعادة صياغة الإسلام ضمن أطر تناسب العصر، وتنسجم مع المتغيرات الزمانية والمكانية . ومن ثم فالإصلاح في مشروع شريعتي كما يري الغرباوي يكون من داخل الدين، ولا يتنصل عن الدين، كما هي دعوات المتغربين، ولا يلتف على الدين، كما هو ديدن رجال الدين المنتفعين بالدين كما يري الغرباوي، وبالتالي فهو إصلاح يطال القوالب والأشكال دون البني الأساسية التي يرتكز عليها الدين. إسلام ينهي التطاحن الطائفي والتخلف والانكفاء، ويعيد للإنسان دوره الحقيقي في الوجود بعد أن استغل واستحمر باسم الدين. إسلام يصنع مجتمعاً تسوده القيم والأخلاق وروح المودة والتحرر من عبودية الشرك وعبادة غير الله تعالي، ونبذ الأرباب المختلفة تحت مسميات شتي.

إذن المشروع الأساسي لشريعتي في نظر الغرباوي قائم على شعار العودة إلى قيم الإسلام ومبادئه .. بل مشروعه الحقيقي الذي عمل طوال حياته من أجله هو العودة للإسلام ديناً يرتقي بالإنسان إلى وعي الذات، وتحصينها من خلال الارتكاز إلى القيم والمبادئ الإسلامية.

ومن هنا يؤكد الغرباوي أن شريعتي قدم نظرية إسلامية تمثل رؤيته الكونية والتي تعتمد على أصول وأسس عقيدة الإسلام، وعلى رأسها التوحيد الذي يمثل العماد الأساسي للعقيدة الإسلامية، وكذلك كل الأسس التي قام عليها بناء مشروع شريعتي (التشيع العلوي)، ولذلك الرؤية التي قدمها حول هذا المعتقد، كانت مختلفة عن التفسيرات التقليدية التي قدمها الفقهاء الشيعة حول معتقد التوحيد، فقد اعتمد على وعيه بتاريخ تطور مجتمعه الإيراني والمجتمع الغربي في تقدي تفسير لهذا المعتقد بما يحقق الرؤية الكونية التي تلبي احتياجات الإنسان بشكل عام وتتفوق على كافة الايديولوجيات المطروحة في الفكر الإنساني، وتقدم حلاً لمجتمعه الإيراني الذي يعيش حبيساً داخل الرؤية الكونية التي نسجها ورسخ لها الفقهاء الصفويون، والتي جعلت مجتمعه يمتلك أيديولوجيا أضعف من الايديولوجيات الخارجية، ولا تستطيع أن تقف في مواجهة قوتها.

وفي ظل القمع البهلوي تبلور كما يري الغرباوي وعي أوسع أفقاً وأكثر طموحاً ساهم في تكوينه جيل عكس قراءة جديدة للدين، وحاول الإفلات من قبضة الأطر والقيود والأشكال القديمة، بغية الحفاظ على حقيقة الدين والارتفاع به إلى مستوي يتناسب مع العصر، وفي الوقت ذاته هي حركة ثورية مناهضة للاستبداد السياسي بقدر مناهضتها للاستبداد الديني، وغن لم تعلن عن ذلك صراحة.

وعندما تفجرت الثورة الإسلامية التي قادها أية الله الخميني ضد الشاه في عام 1979م كان هناك وعي كما يذكر الغرباوي ساهم في مراكمته عمل جاد وشخصيات عديدة غير أن بعضها قد تميز في جهوده كما ونوعا كالإمام الخميني على الصعيد السياسي، وعلي شريعتي على المستوي الفكري والثقافي6، ويكاد يجمع رجال الثورة على دور الشهيد الدكتور علي شريعتي وفضله في خلق جيل كامل من الشباب خاض فيما بعد تجربة الثورة بنجاح فائق؛ حيث استقطب شريعتي الطبقة المثقفة والتف حوله الشباب واقتطف الواعين من طلبة العلوم الدينية وعلماء الحوزة العلمية وتقدمت الإشارة إلى بعض آراء رموز الثورة من العلماء بشريعتي7، وتسلل إلي فئات المجتمع رغم العمل الجاد والمتواصل للحيلولة دون ذلك حتى صرح بعض رجال الثورة بأنه لولا جهود شريعتي الفكرية لما حصلت الثورة في هذا الوقت، أي أنه في نظر الغرباوي استطاع أن يرفع مستوي الشعب إلي درجة عالية من الوعي وتأليبهم على السلطان المستبد .

وعندما اندلعت الثورة الإيرانية عام 79 حمل المتظاهرون صورتين واحدة لروح الله الخمينى والثانية لـ«شريعتى»، الأول اعتبر ولاية الفقيه فريضة دينية تخلص الشعب من شرور الشاه، بينما كان الثانى يدعو إلى إسلام لا مركزى يتجاوز سلطة رجال الدين ويحرر المؤمن من سلطة الوسيط بينه وبين ربه.

حارب نظام الخمينى «شريعتى» ونعتوه بالوهابي، وحاربه جهاز المخابرات الإيرانية «السافاك» وقتله غيلة في لندن، وأقصاه أهل السنة لاعتقاده بالمذهب الاثنا عشرى، وآمن به فقط شباب «مجاهدى خلق» الذين رأوا أن الاشتراكية لا تتنافى مع الإسلام.

ورغم أن علي شريعتي إيرانى فارسى العرق، إلا أنه انتقد النزعة الشعوبية لدى رجال التشيع الصفوي، ويعد كما يري الغرباوي واحدًا من القلائل الذين استطاعوا التجرد بعيدا عن هوى المذاهب والتمذهب. حيث انتقد ما سماه «التشيع الصفوي» و«التسنن الأموي»، ودعا إلى التقارب بين «التشيع العلوي» و«التسنن المحمدي»، ما أدى في النهاية إلى مقتله بلندن.

فتحية إلى للدكتور علي شريعتي والذي أقول له أرقد بسلام سيدي، وتحية للأستاذ ماجد الغرباوي على هذا العرض الرائع والممتع على توضيح المشروع التغييري لدى علي شريعتي.

 

أ.د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.......................

1- الغرباوي، ماجد، الضد النوعي للاستبداد، استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني، مؤسسة المثقف ودار العارف، 2010م، ص196.

2- المصدر نفسه، ص 205.

3- المصدر نفسه، ص185.

4 – حيث نقل الغرباوي نصوصا صدرت عن كبار العلماء تثني وتمجد السلطان الصفوي، أنظر مثلا، ص 187. واستشهد بما كتبه المجلسي صاحب موسوعة البحار (110مجلدات) في مقدمة كتابه زاد المعاد.

5- المصدر نفسه، ص190.

6 – المصدر نفسه، ص 199.

7- المصدر نفسه، ص 202، حيث استشهد المؤلف بمجموعة شهادات عن شريعتي لكبار الرموز الايرانية، كبهشتي وبازركان وخامنئي.

 

 

قراءة تحليلية - نقدية في كتاب المفكر العربي ماجد الغرباوي "تحرير الوعي الديني" (*)

ذكرنا في المقالات السابقة بأن كتاب "تحرير الوعي الديني" لكاتبنا المبدع ماجد الغرباوي يهدف إلي تصحيح الوعي العربي - المسلم بعد أن بلغ تزييف الإسلام مداه بفكر مغلوط عن دين جاء رحمة للعالمين، عاون عليه طلاب الحكم من جماعات التطرّف والعنف، الذين اختطفوه وحرفوه بممارسات خاطئة، وبخطط خارجية من قوى غربية تبغي تركيع المسلمين، ووظفوا الإخوة الأعداء لبلوغ مآربهم الخبيثة؛ فروجوا فكر التكفير بأباطيل وأوهام ليس لها سند صحيح.

والسؤال الآن هو: هل نجح المؤلف ” ماجد الغرباوي” في تحقيق هذا الهدف الذي نذر كتابه له؟

في اعتقادي أن المؤلف تمكن – إلى حد كبير – من تحقيق هذا الهدف، إذ يلحظ القارئ – المنصف- أن المؤلف ظل يطرح الأسئلة الكبرى، ثم يقدم الإجابة عنها بطريقة المحاججة العقلية البعيدة عن التعسف والاتهام، كما ظل يتكئ على أكثر من شاهد وأكثر من دليل حتى يجلو الفكرة ويؤكدها، دون الاعتماد على الشوارد من الشواهد أو المفرد من الأدلة، وخير مثال أنه حين سئُل الغرباوي: هل تعد الحضارة الإسلامية الآن نداً للحضارة الغربية، ولو في بعض جوانبها ولماذا، فأجاب الغرباوي قائلاً: ” الندية تحتاج إلى تكافؤ بين الطرفين، أو يكون الفارق الحضاري من الضآلة ما يسمح بالتناد بينهما فهل تعتقد أن واقع المسلمين الآن يصلح أن يكون ندا للحضارة الغربية؟ .. لا أحد يرى ذلك حتى المسلمين أنفسهم فمنذ الصدمة الحضارية وما زلنا عيالا على الحضارة الغربية في كل شيء، ونحن بدون الغرب كما يقول أدونيس صحراء وجمل. وعندما أقول لا ندية بينهما أعي جيدا ما أقول. نحن نحتاجهم في كل شيء ونفتقر لمنجزاتهم حتى النظريات في مجال العلوم الإنسانية، بل وحياتنا الآن تتوقف على تلك المنجزات خاصة العلمية منها، والغرب راهنا يستعمر الدول الإسلامية إلا القليل من خلال حاجتها وافتقارها له. ولو قطع الغرب إمداداته العلمية لتوقفت الحياة في كثير من الدول الإسلامية. الغرب هو المركز ونحن الهامش والأطراف ندور من حوله، وهذا ليس انسحاقا أو شعورا بالدونية. إنما هو واقع نعيشه كل يوم، فنحن لم نحقق نهضتنا ولم نتقدم ما فيه الكفاية بحيث نتخلص من تبعيتنا للحضارة الغربية، ونكون ندا لها. تصور حتى في المجال الأدبي نحن نقلدهم في تطورهم على مستوي الأداء والنظريات النقدية. غاية الأمر أن بعضا يحاول أن يجد جذورا إسلامية لها، كما بالنسبة لقصيدة النثر، وهي احدى عُقدنا لا نعترف بالخطأ ونجيد التبرير والبكاء على الأطلال. إذن نحن مدعوون لاستكمال نهضتنا وتقديم نموذجنا أولا ثم نطرح أنفسنا للتناد مع الحضارات الأخرى (48).

كذلك يحسب للمؤلف قوله: “.. وما لم تختف مظاهر التخلف، بمعالجات جذرية حقيقية، لا يكتب النجاح لنهضتنا المرتقبة، ويعني أننا وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح وكلما اختفت ظاهرة كلما سجل المجتمع تطوراً ملحوظاً. وهذا يتطلب تحولا ثقافياً ومعرفياً، وعليه يجب البدء من الثقافة من أجل وعي جديد للحياة، وعلاقتنا بالماضي والحاضر والمستقبل. ويجب التحرر من كل السلطات التي تعيق حركة الفرد والمجتمع.. الفرد عندنا مشدود للوراء، يلتفت إلى الخلف حتى وهو يمشي إلى الأمام، بينما شروط الحياة تغيرت، ولكل عصر حاجاته ومتطلباته (49).

كما نجد ” الغرباوي” يجمل آراءه باختصار شديد وهدوء لافت، مدافعاً عن منهجه، مبرزاً حقه في الجدل والنقاش ليس بغرض التجريح الشخصي، بل بحثاً عن الحقيقة العلمية، وفي إشارة من إشاراته الدالة النادرة يكبر المؤلف في صاحب المشروع اعتداده برأيه والجهر فيه بلا مواراة أو تمويه، مؤشراً إلى ضرورة أن علماءنا المعاصرين عن بنية معرفية تبني ولا تهدم، ومن ذلك قوله: ” نحن بحاجة ماسة لمراجعة ثوابتنا ومقولاتنا وتراثنا وفكرنا وثقافتنا، بحثاً عن مصادر قوتها وتشخيص نقاط ضعفها، ومطالبون بتجديد رؤيتنا للحياة والآخرة، وعلاقة الإنسان بما حوله، والعودة إلى مصادر وعينا وتفكيرنا، في ضوء الواقع، وتحكيم العقل في قراءة التراث ومصادره (50).

96 majedalgharbawi600

ويسرني في نهاية هذه القراءة أن أبارك للأستاذ “ماجد الغرباوي” صدور هذا الكتاب الرائع عن “تحرير العقل الديني”، وهذا يدل على أنه مثقف تنويري، ومفكر مضيء، ونجم فكري، وثقافي نقدي لامع، يتجدد كل يوم في فضاءات العلم، والثقافة، والسياسة، والمعرفة، ويقف ضمن طليعة المفكرين والمثقفين العرب المستنيرين، والنقديين المشتغلين على نقد الفكر الديني، والحركات الإسلامية، ومسائل النهضة، والإصلاح، والتجديد، والمعاصرة، والتنوير، والعنف، والتسامح بين الأديان والعقائد والمذاهب.

كما كشف لنا هذا الكتاب كيف أعاد “ماجد الغرباوي” كتابة العلوم الدينية في صيغة عصرية، وكيف أعاد أيضا تأويل موقف الشريعة من قضايا تطور العقائد، القلق المصيري، فلسفة الخلق، سؤال الوجود، المعرفة البشرية، منطق الخطيئة، فلسفة الخلق بين نظريتين، التأويل الموضوعي، سياقات التأويل، محددات القراءة، التداخل بين الأسطوري والديني، تشابه السرد، العناصر المشتركة، المعرفة الدينية، النهوض الحضاري، مواضيع غيرها متعددة؛ علاوة على أنه صاحب رأي معلن بجرأة ووضوح في قضايا الدولة والمجتمع المدني وحرية الرأي والديمقراطية ومواجهة الفساد والتطرف، خاصة في كتابيه الحركات الإسلامية.. قراءة نقدية في تجليات الوعي، وجدلية السياسة والوعي.. قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق. ويؤسس فلسفيا للتعايش بين الأديان والثقافات.

علاوة على أن كتاب “تحرير العقل الديني” يمثل مشروعًا جديدًا لتجديد الفكر الديني مرتكزًا فيه المؤلف على العقلانية النقدية – البوبرية، حيث يري ضرورة تطوير علوم الدين، وليس إحياء علوم الدين القديمة، نظرًا لتجمدها الذي يحوِّل القرآن من نص ديناميكي يواكب الحياة المتجددة إلى نص إستاتيكي يواكب زمنًا مضي وانتهى، ويُؤسس الغرباوي لتفسير جديد ينتقل من الوعظ والإدهاش والتخويف إلى تفسير من أجل التعقل والتفكير؛ حيث وجدناه يدعو إلى تكوين خطاب ديني جديد في كتابه ” إشكاليات التجديد “، وافتتح مشروعه بالتأكيد على أن الإسلام الذي نعيشه اليوم خارج التاريخ ومنفصل عن واقع حركة التقدم، ومن ثم بات من الضروري العودة إلى “الإسلام المنسي”، ولذلك رأى الغرباوي تكوين خطاب ديني جديد وليس تجديد الخطاب الديني القديم، بإقامة بناء جديد بمفاهيم جديدة ولغة جديدة ومفردات جديدة وتهجينها بلغة ومفردات العلوم الاجتماعية والإنسانية وفق متغيرات العصر وطبيعة التحديات التي تواجه الأمة، ونشر ممارسة مفاهيم التنوع والتعددية وقبول الآخر.

وفي النهاية لا أملك إلا أن أقول بأن كتاب ” تحرير العقل الديني”، كشف لي بأنني إزاء نموذج نادر يصعب أن يتكرر، لمثقف واسع الثقافة، وكذلك لمفكر حر نزيه لا يقيم وزناً ولا يحسب حساباً إلا للحقيقة العلمية وحدها، وفوق ذلك وأهم من ذلك بالنسبة لنا، أنه كان يقدم مادته العلمية في أسلوب بالغ الجاذبية والتشويق تجعلها أشبه ما تكون بالعمل الفني الممتع دون أن تفقد مع ذلك شيئا من دقتها الأكاديمية، ولهذا لم أكن مبالغاً حين قلت عنه في أحد مقالاتي بأن ماجد الغرباوي نموذج كبير لـ “مجدد العقل الديني ” (51)

فتحية خالصة لماجد الغرباوي لابن أرض الرافدين، وحفيد هارون الرشيد، الذي كان وما يزال رمزاً من رموز المعرفة الموسوعية الفريدة، وواحداً من أصحاب الرؤية الفكرية والثقافية الشاملة.. بارك الله فى ماجد الغرباوي، وأفاد تلاميذه وقراءه بعلمه ووطنيته، بفكره وموضوعيته، بنقائه وطبيعته.

 

الأستاذ الدكتور / محمود محمد على

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

...............

* هذا هو العنوان الأصلي للمقال.

48- ماجد الغرباوي: تحرير الوعي الديني (متاهات الحقيقة 5)، مؤسة اللمثف في سيدني، استراليا ودار أمل الجديدة، دمشق، سوريا، ط1، 2021، ص 367

49- نفس المصدر، ص 403

50- نفس المصدر، ص 402

51- محمود محمد علي: تجديد العقل الديني في مشروع ماجد الغرباوي، صحيفة المثقف، العدد: 4608، المصادف 18-04-2019.

https://www.almothaqaf.com/a/tanweer/936248

 

 

قراءة تحليلية - نقدية في كتاب المفكر العربي ماجد الغرباوي "تحرير الوعي الديني" (*)

لا شك أن أزمة العالم العربي والإسلامي المعاصرة أصبحت رهينة فك الالتباس حول الحقيقة الغائبة بين رسالة السماء الإلهية لإخراج الإنسان من الظلمات إلى النور، وبين رسالة الدين الموازي الذي اخترعته أهواء البشر، ولكي ندرك تلك الحقيقة المغيَّبة بفعل تزييف الوعي الديني من خلال تسطيح العقل وإقصائه وحجبه وراء أستار التقليد والاتباع والسمع والطاعة للتعصب والعصبية، لابد من البيان والتبيين لأصول الخطاب الإسلامي وكذلك لمعالم طريق الخطاب الإرهابي.

من هذا المنطلق وجدنا ماجد الغرباوي ينطلق في كتابه "تحرير الوعي الديني" ليفصل لنا أحاديثه حول أهم قضايا أخرى مهمة تتعلق بتحرير الوعي الديني ونبذ الجمود والتقليد ؛ مثل: الخلق والحقيقة (من ص 111- 113)، ولغة الدين (من ص 114- ص 117 ثم من 120 – 123)، وفلسفة الخلق والتأويل (من ص 118- ص 119)، والتأويل الموضوعي (من ص 124- 126)، وقصص القرآن (من ص 127- 129)، والمنهج القرآني (من ص 130- 131)، ونموذج تأويلي (من ص 132- 135)، وسياقات التأويل (من ص 135-138)، وشروط المنهج (من ص 138-140)؛ وفي تلك القضايا السابقة توصل المؤلف إلى أن النص ليس منقطعا عن سياقاته التاريخية، ولا يتعإلى على تاريخيته، لكن ثمة نظرة خاطئة، واضحة في المنهج الفقهي حينما يتعامل مع النصوص منفصلة عن سياقها القرآني والتاريخي، فلا يخرج عن التقليد دون الاجتهاد، لأن الثاني لا يقف على حدود المعنى اللغوية الذي يعني بذل الجهد لفقه النص ضمن سياقه التاريخي وظروف نزوله. النص جاء ليقدم رؤيته عن الواقع الموضوعي، فهو استجابة لسؤال واقعي أو مقدر، ولذا لا يمكن فهم قصة الخلق وتحريرها من سجون اللفظ إلا بهدر الفهم التراثي والسلفي، وتوظيف المناهج الحديثة لفهمه (37).

كذلك يكشف لنا الغرباوي عن قضايا أخري مهمة لتحرير الوعي الديني مثل: محددات القراءة (من ص 145- 148)، والمدونة الأساسية للدين (من ص 148- 152)، ومنهج القراءة (من ص 153-155)، والوحي ثانياً (من 156- 158)، والبيئة الثقافية (من ص 159-160)، ومفهوم الحق (من ص 161- 163)، والقصص الحق (من ص 164-196)، واستفهامات الحقيقية (من ص 170-172)، ومشاهد الخلق (من ص 172 – 176)، وتأملات في فلسفة الخلق (من ص 176-177)، والتداخل بين الأسطوري والديني (من ص 178-179)، والعنصر المشترك الأول: أسئلة الوجود (من ص 180-186)، وتشابه السرد (ص 187)، والعنصر المشترك الثاني: أسئلة الوجود (من ص 188-193)، وهنا نجد المؤلف يؤكد لنا أن القرآن جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل، وقصة الخلق جزء من اسطورة الخلق التوراتية، حيث تخصص يوما لخلق آدم وحواء وإسكانهما الجنة، مجرد حدث تاريخي لا يشي بمعان رمزية أو قيم إنسانية وأخلاقية. والأسطورة تاريخيا سابقة عليها، تحكي سؤال الوجود الملازم لشغف الإنسان بالخلود، لمعرفة أصل وجوده ومصيره. يبحث دائما عن إجابات لظواهر الحياة والموت وما بعد الموت، وهي أسئلة وجودية، تعبر عن قلق عميق يستبد بالإنسان لا شعوريا. فقصة خلق آدم جزء من قصة الخلق، وهي قصة أسطورية في جذورها التاريخي، وردت في الألواح السومرية والبابلية. قصة خاوية، تؤرخ لبداية حياة الإنسان، وغاية وجوده خلاصتها أن الآلهة قد طلبت من كبيرها أن يخلق من يقوم مقامها في الأرض بعد ان تعبت، وأرهقها السعي وراء تحصيل أرزاقها، فخلق الإنسان من دمها وعلى شاكلتها، وهو أقصى ما بلغته المخيلة البشرية آنذاك. وفي التوراة حصلت قفزة نوعية في قصة خلق الإنسان، ابتداء من توحيد الآلهة، وانتهاء بدوره في الأرض، مروراً بالجنة وكيف أغرته الحية، فارتكب خطيئته، عندما أكل من الشجرة المحرمة. فثمة تشابه بين التوراة وأساطير الأولين (38).

ثم يؤكد الغرباوي بأن فلسفة خلق الإنسان في الأساطير القديمة تقوم على اختزال الإنسان، وتكريس عبوديته للآلهة، التي خلقته مطبوعا على الطاعة والانقياد، تستعين به لتأمين قوتها وغذائها، بعد متاعب الأرض التي أنهكتها، فتكون العبودية جوهره وحقيقته، وليست عارضة أو طارئة عليه، فهو كائن مستلب الإدارة والحرية، متقوم بغيره، وهو ذات المنطق العبودي الذي ينفي استقلالية الإنسان ويكرس تبعيته الوجودية، حدا يبيح هدر إنسانيته. والأمر لا يختلف مع الأسطورة التوراتية، فالإنسان سيكون حارسا على الأرض ومسيطرا على الأسماك والبحار، أو ليذهب وحشه الأرض كما في بعض نسخ التوراة، فلم يكن مخلوقا لذاته، مستقلاً بإرادته، بينما يعطي القرآن الإنسان قيمة مغايرة حينما جعله خليفة، على الأرض، ومنحه العقل والإرادة والحرية، ليتحمل مسؤولياته ويؤدي وظيفته الوجودية، وليس عبدا وخادما للآلهة، ولا متسلطاً على الأسماك والطيور. بهذا نفهم أن الله أراد أن يخلق إنسانا تتجلى إنسانيته من خلال مشاعره وأحاسيسه وسلوكه. فالقرآن صدق فكرة الخلق وأعاد تشكيلها وفقا لمفاهيم إنسانية، ليضع فاصلاً بين مرحلتي الأساطير والوحي الإلهي، في ضوء الإطار العام للكتاب القائم على وحدانية الخالق فيتفق مع التوراة في الوحدانية ويختلف معها حول هدف الإنسان في الحياة، كما استعاد إنسانية الناس، التي سلبتها أساطير الأولين، باعتبارها نتاج مجتمع، يكرس عبودية الفرد دينيا، ويسلب إرادته وحريته (39).

في الكتاب أيضاً يكشف لنا “الغرباوي” عن قضايا أخرى مهمة لتحرير الوعي الديني مثل: مداخل التأويل (من 194-195)، وآيات الخلق (من ص 196-197)، ورمزية قصة الخلق (من ص 198-205)، ورمزية الآيات (من ص 206-210)، وصدقية التناص (من ص 211- 213)، والعنصر المشترك الثالث: لحظة الخلق (من ص 214-216)، والعنصر المشترك الرابع: حوار الخلق (من ص 216-217)، والعنصر المشترك الخامس: موضوع الخلق (ص 218)، والعنصر المشترك السادس: استطلاع الملائكة (من ص 219-220)، والعنصر السابع السجود (من ص 221- 222)، والعنصر المشترك الثامن: خلق حواء (من ص 223-224)، ومفاهيم لغوية (من ص 225-227)، والمرأة ومشهد الخلق (من ص 228- 231)، والعنصر المشترك التاسع: وعلم آدم الأسماء (من ص 232-234)، والعنصر المشترك العاشر (من ص 235-237)، والعنصر المشترك الحادي عشر: الخطيئة (من ص 238-242)، وفوارق جوهرية (من ص 243-245)، والخطيئة العقيدة الدينية (من ص 246-247)، والعنصر المشترك الثاني عشر: قصدية الخلق (من ص 248-249)، والتشابة مرة أخرى (من ص 250-252). وهي مشتركات قام المؤلف بتقصيها من خلال مقارنة موضوعية بين أسطورة الخلق في أساطير حضارة ما بين النهرين، السومرية والبابلية، مقارنة بالتوارات من جهة، ومن ثم مقارنتهما مع قصة الخلق في القرآن، وقد كشف الغرباوي عن موارد التشابه والاختلاف، خاصة تشابه السرد، غير أنه كشف عن دلالات رمزية في قصة الخلق غير موجودة في أسطورة الخلق.

ومن خلال ما سبق عرضه من قضايا أكد المؤلف أنه لم يلجأ طوال البحث في فلسفة الخلق للتبرير والبحث عن أعذار للدفاع عن القرآن والوحي، وما قدم به من تقديم رؤية مغايرة لقصص الكتاب، وفق تقنيات اللغة والاستفادة من معطيات العلوم الإنسانية الحديثة. كل هذا كما يقول المؤلف في إطار الهدف العام للكتاب، باعتباره خطابا للإنسان، فيكون هو مجرد محوره وقصديته، ثم أن هدف القرآن ربط جميع الظواهر الكونية والحياتية بالعلة الأولى، مباشرة، أو ضمن سلسلة العلل، وهذا يؤثر في فهمه. وسلسلة العلل لا تنفي العقل ولا تسلب إرادة الإنسان، بل تضبط حركته ضمن القوانين الكونية والسنن التاريخية والاجتماعية. فالهدف النهائي من قصة الخلق ربط وجود الإنسان بخالقه، وبيان طرق الخلاص، وسبل النجاة وفق رؤيته الدينية. ولا علاقة لقصة الخلق بكيفية خلقه سوى التصديق الرمزي لما جاء في التوراة. وأما خلق الإنسان واقعاً فهو خاضع كغيره من الموجودة لأسباب خلقه وبالتالي لا تقاطع بين الدين والعلم حول ما يطرحه العلم، وتبقي النظريات العلمية مرتهنة لصدقيتها، وقدرتها على تقديم تفسيرات وأجوبة مقنعة لجميع الإشكالات وهو اختصاص علمي، لا يتداخل مع الديني (40).

كذلك يكشف لنا “الغرباوي” عن قضايا أخرى مهمة لتحرير الوعي الديني مثل: تقنية إدراك المعني (من 253-258)، والخلق بين الدين والعلم (من ص 259-262)، والإنسان الكامل (من ص 263-264)، ودلالات مضمرة (من ص 273-276)، الخلافة (من ص 277-280)، ودور الإمامة (من ص 281-282)، والشيعة والإمامة (من ص 283-286)، والمشرع السماوي (من ص 287-290)، والسياسة والتأويل (من 291-293)، والمعرفة الدينية (من ص 294-296)، وقيم الفضيلة (من ص 297-320)، ومن كل ما سبق يعلن المؤلف أن استمرارية الفضيلة لا تتوقف على وجود قيادة صالحة، ما دامت تنبثق تلقائيا، بل تتوقف على وجود مقومات ذاتية وبيئة كفيلة بحمايتها، وهذا ما حرصت عليه الأديان السماوية وأكدتها النصوص المقدسة، من خلال وجود: رقابة ذاتية وقانونية، وثالثة رمزية، كل واحد تؤثر من زاوية خاصة، وتارة تستقل وثانية تتداخل، باتجاه هدف واحد، فيكون تأثيرها مشتركا، خلاصته تعبئة الفرد والمجتمع أخلاقيا، لحماية قيم الفضيلة وتبنيها سلوكا (41).

ومن القضايا الأخرى المهمة لتحرير الوعي الديني والتي يناقشها “الغرباوي” هنا في هذا الكتاب، مثل: مثالية المجتمع (من ص 321- 322)، ومفهوم الفضيلة (من ص 323- 326)، والمجتمع المدني (من ص 327- 332)، وفلسفة الخلق والتسامح (من ص 332- 333)، ومجتمع المدينة (من ص 334- 335)، وحقيقة الإقصاء الديني (من ص 336-342)، وفلسفة الخلق وتداعيات السلطة (من ص 343-344)، والسلطة والاستبداد (من ص 345-346)، والتجربة التاريخية (من ص 347-348)، والأخطاء التاريخية (من ص 349-351)، ومسؤولية الانحراف (من ص 352-354)، فلسفة الخلق ومعاجيز الأنبياء (من ص 355- 358)، منهج فهم القصص (من ص 359-362)، والطابع الغرائبي (من ص 363-364)، والفارق الحضاري (من ص 365- 366)، وندية الحضارة الغربية (ص 367)، والتحرر والتفاعل والنكوص الحضاري (ص 368-371)، حضارة المسلمين (من ص 372-373)، والتثاقف الحضاري (ص 374)، والعلاقة مع الغرب وكذلك الغرب والآخر (من ص 378-379)، والتطرف الديني (من ص 380-381)، والقرآن والتطور الحضاري (من ص 382-383)، والوحدة الإسلامية (من ص 384-385)، والتخلف الحضاري (من ص 386-390)، والنهوض الحضاري (من ص 391-394)، وإشكالية الفكر التكفيري (من ص 395-396)، واليقين السلبي (من ص 397-398)، والتجديد ضرورة حضارية (من ص 399-403)، وهنا نجد المؤلف يتوصل لحقيقة مهمة وهي أننا: ” بحاجة ماسة لمراجعة ثوابتنا ومقولاتنا وتراثنا وفكرنا وثقافتنا، بحثا عن مصادر قوتها وتشخيص نقاط ضعفها، ومطالبون بتجديد رؤيتنا للحياة والموت والآخرة، وعلاقة الإنسان بما حوله، والعودة إلى مصادر وعينا وتفكيرنا، في ضوء الواقع، وتحكيم العقل في قراءة التراث ومصادره (42).

ثم يؤكد “الغرباوي” فيقول بأن: ” صرامة الأجواء، وكثرة المحرمات والخطوط الحمراء، تفرض على المصلحين الحذر في مقاربة  ما يمت للعقيدة والطقوس بصلة، لذا تجد أكثر المقاربات سطحية تنأى عن الإشكاليات الأكثر عمقا. فمن يروم التجديد عليه أن يضع مصلحة الإسلام والأمة فوق كل شئ. ويتسلح بالعلم والمعرفة، ويقتحم كل ممنوع ومحرم، ويمارس النقد بأقصى مدياته، فلم يعد التمسك بالعادات والتقاليد، والتشبث بالماضي خيارا مقبولا، ونحن أمام مد حضاري هائل على جميع المستويات، وليس من المعقول أن نبقي متفرجين، لا نحرك ساكنا بدعوى القداسة واحترام التراث والسلف الصالح، وأبناؤنا يواجهون شتي الإشكالات، ويتعمق شكهم بدينهم وحضارتهم وتحاصرنا الشبهات والتهم (43).

لقد استطاع “الغرباوي” الوصول إلى نتائج ترفع من مستوي القارئ، وتجعله يقترب بسهولة من الكتاب إلى درجة الألفة والاستئناس، ويمكن إيجاز هذه الجوانب الإيجابية من المؤلف ما يلي:

أولاً: الجانب المعرفي: لقد جاء الكتاب مفعماً بالجانب المعرفي من حيث أن المؤلف وقف في الوصول إلى المعارف الضرورية لإنجاز هذا الكتاب، فقد تتبع المسار التطوري للفهم الصحيح لخلافة الإنسان على الأرض وحديث المؤلف عن الفهم هنا هو حديث عن المعرفة، وعن نظرية المعرفة؛ لأن المعرفة والبناء المعرفي لا يمكن أن يتحققا إلا بقاعدة ثابتة من الفهم، ومن الأمثلة على ذلك قول ماجد الغرباوي: ” كان سؤال الوجود وراء استعراض قصة الخلق في الكتب المقدسة، ذلك السؤال الذي لا زم الإنسان، يستفزه بدهشة، ويطرح عليه أسئلة مصيرية، تارة تكرس التشاؤم والعدمية واللاجدوي حد اليأس والانكفاء. وأخرى تدفع باتجاه التأمل والبحث والتنقيب، لمعرفة حقائق الأشياء، فكان ينبغي للخطاب الديني تقديم رؤية وافية تبدد شكوكه، وتجيب على أسئلته، حول حقيقة الوجود والإنسان والموت وحياة ما بعد الموت والخلود، مبدأ الخلق ونهايته وغايته، وغيرها، فهو قلق يعبر عن نفسه بأسئلة واستفسارات فلسفية (44).

ثانياً: التتبع الدقيق للحقائق التاريخية، ويتضح لنا ذلك من خلاله حديثه عن الجذر التاريخي لشعار الإسلام هو الحل؛ حيث يقول ماجد الغرباوي: “ليس الشعار غريبا على الوعي الديني، بل أن من صميم العقيدة تطبيق الشريعة، والكفاح من أجل اعتبارها مصدرا وحيدا للتشريع في دساتير الدول الإسلامية. وإذا كان تنظيم الإخوان المسلمين أول من طرحه بهذه الصيغة (الإسلام هو الحل)، فهذا لا ينفي جذره التاريخي، بل يؤكد ما تبناه الفقه الإسلامي، أن الإسلام دين شامل لكل الحياة، وما من واقعة إلا ولله فيه حكم. ومعناهما أن الإسلام حل لكل معضلة حياتية ودستورية، ومن هنا أفتوا بحرمة التشريعات الوضعية؛ وعندما رفعت الحركات الإسلامية هذا الشعار، فثمة ما يعزز ثقتهم بإمككانية تطبيقه تاريخيا إضافة لما حصل في إيران، كتجربة الخلفاء، التي تعتبر نموذجا للدولة العادلة التي أقامت شريعة السماء (45).

ثالثا: الإحاطة الجيدة لحدود الموضوع المدروس، لقد أبان المؤلف عن حسن تبصر، وعن رؤية واضحة للموضوع المدروس، مما جعله متمكناً من المعلومات التي يعرضها، حتى استطاع أن يوجهها لخدمة الغرض الديني الذي وُضع من أجله الكتاب، ويتضح لنا ذلك من خلال مناقشة ماجد الغرباوي لفلسفة الخلق بين نظريتين حيث يقول الغرباوي: ” إن الفهم التراثي للقرآن، والجمود على ظواهر الآيات، بات عبئا على الوعي العقلاني، وتسبب في كوارث دموية نسبت للدين؛ مثاله تمسك الحركات الإسلامية المتطرفة بآيات القتال، رغم عدم فعلية موضوعاتها، وانصرافها لقضايا خارجية محددة، فاهلكوا الحرث والنسل (46).

ثم يستطرد “الغرباوي” فيقول: ” وقديما استغل مفهوم الجبر من قبل الحكومات الاستبدادية القديمة التي تري في الملوك آلهة أو ظلا لها أو خيارها. ثم استغل الحكم الأموي ومن جاء من بعده، الجبر لتبرير سلوك الخليفة، والارتفاع به فوق النقد والمحاسبة، في الدنيا والآخرة، بعد أن أصل له المتكلمون، وغدا من مؤسسات العقل التراثي لطيف واسع من المسلمين، فالتراث المثقل بالتبعية والاستبداد ليس أقل خطرا حينما يعطل العقل، ويشل إرادة الفرد والمجتمع، ويكرس التخلف باسم الدين وآيات الكتاب (47).... وللحديث بقية.

 

الأستاذ الدكتور / محمود محمد على

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

..............

* هذا هو العنوان الأصلي للمقال

37- ماجد الغرباوي: تحرير العقل الديني (متاهات الحقيقة 5)، دار أمل الجديدة، دمشق، سوريا، ط1، ص 140

38- نفس المصدر، ص 170-171

39- نفس المصدر، ص 176

40- نفس المصدر، ص 251

41- نفس المصدر، ص 219

42- نفس المصدر، ص 402

43- نفس المصدر، ص 402

44- نفس المصدر، ص 81.

45- نفس المصدر، ص 42

46- نفس المصدر، ص 101

47- نفس المصدر، ص 101

 

 

قراءة تحليلية - نقدية في كتاب المفكر العربي ماجد الغرباوي "تحرير الوعي الديني" (*)

نعود ونستأنف حديثنا عن قراءة كتاب الغرباوي "تحرير الوعي الديني" لأستاذنا الكبير "ماجد الغرباوي" وهنا في هذا المقال نقدم شهادة للتاريخ فنقول:" إن كتاب الغرباوي "تحرير الوعي الديني" ليس رواية من نسيج الخيال، ولا سرداً لأحداث تاريخية، وإنما حصيلة مراجعة لعدد كبير من المصادر والمراجع إضافة لخبرته في العمل الفكري، لذا نجح في تقديم تفسير رمزي لقصة الخلق تفادى فيه إشكالية وقائعية القصص القرآني، لرفع التعارض المعروف بين نظريتي الخلق والتطور. وقد توغل في استعراض مشاهدها وتفصيلاتها، فجاء استعراضها منسجما مع فلسفة الخلق والهدف الحقيقي من وجود الإنسان. ويأتي هذا ضمن مشروعه لتحرير الوعي الديني وتقديم فهم مغاير للدين يضع مصلحة الإنسان أولا".

وهنا الأستاذ ” ماجد الغرباوي” أراد أن يطبع كتابه بخصائص جعلته يرقي إلى مستوي علمي رفيع، ومكنته من الوصول وبذلك يمكن قراءة أهداف المؤلف في هدفين أساسيين، أو جعلهما في دافعين:

الدافع الأول: نظري معرفي، يقوم على ضم الفروع والجزئيات بعضها إلى بعض، والتماس الروابط بينها، وصياغتها في صيغة نظرية فلسفية، وهو ما لا يعلم ” ماجد الغرباوي” أن أحدا قام به من قبل، لا في شيء محرر، ولا في كتاب مصنف، بل لم ير أحداً حام حوله طائر فكره، أو جعله غاية بحثه ونظره، فرسخ في ذهنه أن هذا أمر مستحسن إظهاره، وإبراز تعم فائدته، وبيان خفيت معالمه، وهذا الدافع قد نصفه بالهدف الأول لتأليف الكتاب، أو الدافع الظاهري أيضاً.

الدافع الثاني: واقعي دعوي، يقوم على ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، ومن خلال قراءة متجددة للنص الديني على اساس النقد والمراجعة المستمرة من اجل فهم متجدد للدين كشرط أساس لأي نهوض حضاري وعصري متقدم وجذري يساهم في تأصيل قيم الحرية والتسامح والعدالة في اطار مجتمع مدني خال من العنف والتنابذ والاحتراب؛ علاوة على أنه في هذا الكتاب كثيرا ما يدعو إلى ترسيخ حس ثقافي وفكري تقدمي وعقلاني يهدف الى توعية العقل العربي من خلال تقديم قراءة متأنية لأسس وأصول التسامح السائدة في واقعنا العربي المزري، قراءة واعية وحقيقية مبنية على قاعدة متينة تشكل قفزة نوعية في  إخراج المجتمع العربي المعاصر من محنه  وأزماته المتراكمة، وتقوده للخلاص من الجهل والتخلف والامية (8).

وننتقل إلى الكتاب مباشرة حيث يتصدى الغرباوي في مقدمته للإجابة على سؤال مفاده: هل يؤثر تفاقم العقائد على مستوى الإيمان الروحي بالخالق؟ وهل هو تأثير سلبي أم إيجابي؟

فأجاب: (العقيدة شأنها شأن أي كائن تبدأ صغيرة، بسيطة، وربما ساذجة ثم تتطور، بعضها يموت، وبعضها يقاوم، عندما تجدد العقيدة خطابها، وتصد تحدياتها، أو تتبناها سلطة دينية أو سياسية، تساهم في انتشارها، وتأصيلها، والذب عنها) (9).. ومن هنا تصبح العقيدة إطارا نظريا للإيمان وضربا من الهيام الروحي بفعل خصوبة الخيال (10). هذا من ناحية ومن ناحية أخرى تصبح العقيدة أيضا منظومة فكرية توجه وعي الفرد، إذ يتأتى الإيمان بها عبر تراكمات لا شعورية نفسية – ثقافية، هي سر تفاوته من شخص لآخر، فتؤثر في تكوينه جميع المؤثرات النفسية والسلوكية والاجتماعية والسياسية، والعلمية، والثقافية، والتربوية (11).

إن ما يريد الغرباوي أن يقوله هنا هو أن: ”جملة آثار موضوعية وروحية تلازم كل تطور عقدي، يشهد لذلك تطور الطقوس والشعارات تبعا لتطورها، حد التشوه والانحراف أحياناً، لأنها شرط لقوام التجربة الدينية (12)، ومن ثم تشكل العقيدة في نظر المؤلف ”جوهر الإيمان، تتولي تقديم رؤية كونية تؤطر العمل الإيماني، وتمنحه مشروعية كاملة، من خلال ضوابطها ومقاييسها (13).

ثم ينتقل الغرباوي للحديث عن انضباط العقيدة، حيث يرى أن العقيدة تشكل خطرا حقيقيا على الدين وأهدافه، عندما تنحرف عن غاياته وقاصده، كأن تبرر الشرك بدواع مختلفة، بينما التوحيد جوهر الدين (14).. على نحو جامع، يكرس وحدانيته تعالى، ويمنع جميع الأغيار، مهما كانت شائبة الشرك، وعليه بما أن العقيدة الموازية، تستظل بالعقيدة الأم، فإن إيجابياتها وسلبيتها مرتهن لأدائها التصوري، ومدى قربه وبعده من جوهرها (15).

وهنا كما يقول الغرباوي سنكون أمام تنوع عقدي، لكل واحد أحكامه، ويمكن في هذا الخصوص تحديد مصاديقها والموقف منه من خلال الدليل العقلي، والذي من خلاله يكون العقل دليلاً على صدقية العقيدة كما هو الحال بالنسبة لوجود الخالق (أصل وجوده)، الذي يمكن للعقل الاستدلال عليه من خلال بعض البديهيات كامتناع التسلسل، وقانون العلية والمعلول، وبطلان الدور (16)؛ وتارة يكون كما يرى المؤلف بالنقل الذي يمثل مصدر جميع تفصيلاتها؛ حيث هنا ستكون العقيدة مرتهنة للنص وشروطه وارتهاناته، وهو بالذات سيكون مقياساً لإيجابية وسلبية التأثير، فيقُتصر على النصوص التأسيسية، التي هي موضوع للفهم والتفسير، وما يتلو النص التأسيسي، نصوص ثانية، شارحة ومبينة، تعكس قبليات مؤلفها، وتخضع لإملاءاتها، وضروراتها (17).

ثم يؤكد الغرباوي المؤلف بأنه من خلال الدليلين العقلي والنقلي تبني العقائد، حيث يقول: ”إن العقيدة جزء مقوم للدين، وتلعب دوراً أساساً في تأسيس مقولاته، وربطها بهدفه الأساسي، وليس ثمة فوضى، يُفتح بموجبها الباب للاستزادة من عقائد تستدعيها ضرورات أيديولوجية أو سياسية؛ خاصة العقائد التي تترتب عليها آثار دينية وعقدية، ولها انعكاسات على الفرد والمجتمع (18).

وثمة نقطة مهمة جديرة بالإشارة يتطرق الغرباوي لمناقشتها ضمن أجوبته على ما طُرح من أسئلة، ألا وهي شعار: هل الإسلام هو الحل؟

وهنا نجد الغرباوي يجيبنا فيقول بأن هذا الشعار قد رفعه جماعة الإخوان المسلمين خلال تحالفهم الانتخابي مع حزب العمل والأحرار في حقبة ثمانينات القرن المنصرم لاستقطاب الشارع المصري، وضمان صوته الانتخابي، على خلفية دلالاته التي تحيل على المقدس والدين في مقابل ما تطرحه المشاريع السياسية والوضعية (19). . وكان للثورة الإسلامية في إيران دور محفز، حيث أثار انتصارها دهشة الحركات الإسلامية، وكسر حاجز الخوف، وشجع على الثورة ضد حكوماتهم، ولهذا تبنت جميعها بشكل مباشر، شعار ” الإسلام هو الحل” (20).

ثم يؤكد الغرباوي بأن هذا الشعار كانت له دلالات منطقية، منها أنه يؤكد كمال الشريعة، وشمولها لجميع مناحي الحياة، علاوة على أنه يستبطن إدانة غير مباشرة لمناوئيه، لعدم تطبيقهم الشريعة (21). . بيد أن شعار ”الإسلام هو الحل” في نظر المؤلف كغيره من الشعارات، حيث يتمتع بزخم عاطفي، وقدرة على تعبئة الناس لكونه يستجير بالمقدس الديني، ويفرض الاعتراف بقدسيته مهما كانت بشريته (22). . عبر توظيف اللغة، وإيحاءات الخطاب، فلم يكن شعارا بريئا، يروم تطبيق الشريعة لأجل الدين، بل يكمن خلفه مشروع سياسي يطمح لإقامة دولة دينية.. تختزن بداخلها صورة مشرقة مبالغ فيه عن دولة الخلافة، وهي صورة كما يقول المؤلف: صورة ساذجة، كتب بأقلام السلطة، دون نقدها وفضح بشريتها وعدم مثاليتها، بل وعدم شرعية سلوكها، وتصرفات حكامها في أحيان كثيرة ” (23).

ثم ينتقل الغرباوي في هذا الكتاب إلى قضية أخرى تتعلق بالنهضة والوعي؛ حيث قال: كان لسؤال النهضة دور كبير في تحريض الوعي، والبحث عن إجابات تفسر ظاهرة التخلف الإسلامي في مقابل التطور الحضاري الغربي الذي فاجأهم في عقر دارهم، بعد وصول جملة نابليون إلى مصر (1798م) مجهزة بأحدث الأسلحة والمعدات. فتوزعت الأجوبة بين من أدان الدين واعتبره المسؤول الأول عن تخلف المسلمين، فدعا إلى قطيعة تامة مع التراث والدين واللحاق بالغرب وحضارته لانتشال واقعنا الحضاري المتخلف. وآخر ارتد سلفياً طالب بتكريس التراث والسيرة لتدارك الوضع متهما المسلمين بخطأ التطبيق. وثالث قاده رواد النهضة كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وآخرين، الذين عادوا للتراث بحثا عن مصادر قوته الملائمة للعصر، ثم جاء التيار الإسلامي المنظم (الإخوان المسلمين) امتدادا لخط الوعي الإسلامي الأول. وبالتالي فجميع التيارات الحديثة جاءت ردة فعل بعد الصدمة الحضارية الهائلة، وطبيعة ردود الفعل تكون متسرعة مرتبكة، تنقصها الدراسة والتخطيط وجهل بالواقع واشراطاته رغم أنها جزء منه (24).

ومن هذا المنطلق راحت جماعة الإخوان المسلمين كما يقول الغرباوي تتحرك سياسياً باتجاه السلطة باعتبارها شرطا لتطبيق النظام الإسلامي، الذي هو وجهات نظر اجتهادية، صاغتها عقول المفكرين الإسلاميين لسد النقص (25). . الأمر الذي جعلهم يدمون الوهم، ويدورون في حلقة مفرغة، تحكم تصوراتهم مغالطة مفادها: بما أن النظام الإسلامي نظام رباني فينبغي أن يكون الأفضل والأصح (26).

ثم انتقل الغرباوي بعد ذلك للحديث عن فلسفة الخلق وأصل الإنسان ومنشأه ووجوده وبيان هدفه في الحياة الدنيا، باعتباره كائناً بشرياً تميز بعقله وقدرته على تطوير حياته، أو بامتياز بعقل خلاق مبدع فتكون الحرية والإرادة والمساواة لوازم وجودية في ضوئها يواصل مسيرته، ويرسم هدفه (27)؛ وهنا نجد المؤلف يعرض لنا تفسير ذلك من خلال النظريتين الدينية والنظرية الوضعية، فالنظرية الأولي تؤكد استقلالية البشر في أصله الترابي (الكتب المقدسة) (28)، بينما الثانية تعول على ” نظرية التطور والتي تعتقد أن أصل الإنسان من القرد (دارون) وثمة من يعتقد بانحدارهما من أسلاف سابقة (29).

وعندما انتهي الغرباوي من مناقشة هذه المسألة انتقل بعد ذلك للحديث عن مفهوم الخلافة، حيث رأى أنه ليس في مفهوم الخلافة الربانية سلب لإرادة الإنسان، ولم يكن مجبرا، سوى ما تفرضه القوانين الكونية باعتباره بشرا محكوما بها، فيخضع للجبر التكويني بفعل قوانين الكون، وهذا خارج عن إرادته. ولا يصدق السلب على التفويض، حيث فوض الله للإنسان حريته وإرادته وجعلهما لوازم لوجوده من وحي عقله وقدرته على التحكم بسلوكه، فيكون مسؤولا أمام اختياراته، وعلى هذا الأساس يمارس الفرد حريته. وحينما يلتزم بشريعة السماء أو يتمرد عليها بفعل ذلك بكامل إرادته (30).

وحول سؤال الوجود والمتعلق بقصة الخلق في الكتب المقدسة؛ فنجد الغرباوي يناقش قضية الخطيئة ضمن دراسة مقارنة بين أساطير الأولين والكتب السماوية؛ حيث رأى أن التوقف عند حدود الخطيئة لا ينسجم مع مفهوم الخلافة. إذ قال ربك إني جاعل في الأرض خليفة. والخليفة هو آدم الإنسان، بكل ما تعنيه كلمة الإنسان واستعداده لعمل الخير والشر (31)، وليس لآدم تصور عن الموضوع سوى ما أخبره به الخطاب الإلهي، بما في ذلك الإيمان الذي كان هشا بسيطا، لم يصل حد الجزم واليقين الذي يحول دون معصيتهما للأوامر الإلهية. ولو لم يخرجا من الجنة لم يعرفا شيئاً عن معنى العقوبة، فقد هبطا للأرص بتجربة غنية جدا رغم بساطتها، حدها الأدنى أن هناك حسن وقبح، خير وشر، ثواب وعقاب. فكانت تجربة ضرورية عاشها آدم مع هواجسه، التي وصفت بالشيطانية لسلبيتها في مقابل هواجس الخير (32).

ثمة بعد آخر تحدث عنه الغرباوي في قصة الخلق متعلق بالمعرفة يمكن رصدها من خلال سياق حركة آدم، فتعلم آدم للأسماء كلها، تعبير آخر عن استعداده التكويني للتعلم واكتساب المعرفة، التي هي عملية مركبة، ليست بسيطة تقف عند حدود التلقي والطاعة المطلقة. فهي تلق وإدراك لمعاني الأسماء، وطريقة استخدامها، مما يتطلب تشخيص الواقع وتحديد اللفظ المناسب. أو تحديد المفهوم كصورة ذهنية، وتخصيص لفظ منتزع من ذات الصورة، قياسا بغيرها من الصور الذهنية الأخرى، وهس عمليات تلقائية لا شعورية، تقف وراء معرفة الإنسان وطيفية توظيفها، وهذه هي مرحلة وعي الذات كما يري المؤلف (33).

وعن علاقة الخطيئة بالفكر الديني، حيث أكد أن الديانتان اليهودية والمسيحية لا تختلف عن القرآن حول قضة الخلق، فآدم والخطيئة عناصر أساسية فيها، غير أن الخطاب الكنسي شيد قاعدة الاعتقاد المسيحي على مفهوم الخطيئة، وأن البشر قد توارثو خطيئة آدم، وارجعوا ضمن متبنياتهم العقدية كل شيء للخطيئة (34).

وهنا يعلن الغرباوي قائلا: ” للأسف لم أجد من يهتم بآيات الخلق التي ترسم معالم هدف الرسالات والأديان، وهذا خطا كبير في فهم الدين، بل وأحد أسباب جميع الانحرافات العقائدية والسلوكية، خاصة ما تمارسه الحركات الإرهابية باسم الدين والقرآن وما تبثه حركات الغلو من ثقافات تكريس الجهل والأمية والتكاسل في الحياة الدنيا (35).

ويستطرد المؤلف فيقول “: لسنا بحاجة للروايات إلا بشكل محدود، وعلينا الاقتصار عليه، وعدم التمادي في التمسك بجميع الروايات، لأنها تعكس فهما للدين والكتاب المبين في ضوء ظرفها، وحاجات وتطلعات زمن الرواية. ثم لا يوجد نص عدا القرآن، وبعض الأحاديث النبوية الصحيحة فوق التاريخ، أو عابرة للتاريخ والأزمان، فلماذا التمسك بالتراث في فهم الكتاب، وهو نص مفتوح للقراءة والتأويل، وهذه ليست دعوة للقطيعة التامة مع التراث، بل التخلي عن التراث غير المنتج، الذي يكرس التبعية والانقياد والتخلف، ويغلق آفاق التأمل في الكون والنفس البشرية (36)... وللحديث بقية.

 

الأستاذ الدكتور / محمود محمد على

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

..............

* هذا هو العنوان الأصلي للمقال.

8- ماجد الغرباوي: تحرير العقل الديني (متاهات الحقيقة 5)، إصدار مؤسسة  المثقف في سيدني – أستراليا ودار أمل الجديدة، دمشق، سوريا، ط1، ص 6.

9- نفس المصدر، ص 9.

10- نفس المصدر، ص 9.

11- نفس المصدر، ص 9-10.

12- نفس المصدر، ص 10.

13- نفس المصدر، ص 11.

14- نفس المصدر، ص 15.

15- نفس المصدر، ص 17.

16- نفس المصدر، ص 17.

17- نفس المصدر، ص 18.

18- نفس المصدر، ص 20.

19- نفس المصدر، ص 22

20- نفس المصدر، ص 22.

21- نفس المصدر، ص 23

22- نفس المصدر، ص 23

23- نفس المصدر، ص 27

24- نفس المصدر، ص32

25- نفس المصدر، ص 33

26- نفس المصدر، ص 35

27- نفس المصدر، ص 63

28- نفس المصدر، ص66-72.

29- نفس المصدر، ص 64-65.

30- نفس المصدر، ص 80.

31- نفس المصدر، ص 86

32- نفس المصدر، ص84-85

33- نفس المصدر، ص 88.

34- نفس المصدر، ص 93

35- نفس المصدر، ص 106

36- نفس المصدر، ص 106

 

 

قراءة تحليلية - نقدية في كتاب المفكر العربي ماجد الغرباوي "تحرير الوعي الديني" (*) 

مقدمة: ما زلت أومن بل ربما أكثر من أي وقت مضي، بأن الإشكاليات المعرفية التي يعاني منها الوعي الديني تنعكس مباشرة على الوسط الذي يعيش فيه الفرد، وعلى كيفية رؤيته له تفاعلاً وانفعالاً معه، فلما كان هذا الوعي منقسما ومتشتتا ومتأزما أثر هذا في الفكر الإجرائي، أي في أسلوب العيش في جماعة، أي في النظام الاجتماعي وفي مستوياته المختلفة؛ ففشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد الإسلامية، هو كما يري البعض من الباحثين، هو نتيجة عدم انشغال الفرد بمثل هذه السياسات من جهة، لأنها مفروضة من فوق، ومن جهة أخرى لأن الفرد نفسه لا يدرك أهمية التحدي الاقتصادي والاجتماعي الذي يواجهه، لأن زمنه الفكري زمن مضى أولاً، ولأن حضور الوعي والتميز في العمل، والفاعلية في الإدارة، يربطهم الفرد بمعاني فكرية فوقية لا بنتائج واقعية محسوسة ثانياً، وهذا ما أدي إلى كل المظاهر السلبية في الحياة العامة، والتفكك الاجتماعي، والتسيب الإداري، والاستقالة المحسوسة في كل الميادين. انفصام الوعي وانقسامه جعل الحياة الاجتماعية للأفراد تفقد معناها، فلم يعد هناك ذلك التلاحم بين أجزاء المجتمع، ولم يعد المخيال الاجتماعي يغذي تطلعات الأفراد إلى جدوي تحسين واقعهم، فالآفات التي طرأت على الواقع، كالانتحار، والهروب عبر الحدود، وعدم وجود رابط بين عدي رابط القهر، والعنف، والتشدد، ثم التبرم من كل وضع قائم، وانسداد الآفاق، واللجوء إلى الحلول الانتحارية، كل هذا يدل على أزمة في الوعي رداها خطورة هذا الخطاب الديني السياسي الذي يستغل كل الأزمات ليؤجج بذور الصراع والاختلاف بطرحه  الإيديولوجي البعيد عن كل أسلوب حواري متسامح (1).

وعندما ننظر لديننا الحنيف، نجد أنه كان أهم معاني خاتمية الرسالة الإسلامية وخلودها، هو الإيمان ببلوغ العقل الإنساني درجة من النضج تسمح له بالاستقلال باستنباط الأحكام استقلالاً تاماً، أو تأسيساً على ما ورد في التشريع الإسلامي من أصول وقواعد وأحكام (2)

ومن ثم ظل سؤال “تحرير الوعي الديني ” هو أهم الأسئلة المحورية لنهضة الأمة من وهدتها، وبعثها من سباتها العميق على مدى  عصورها المتطاولة.

وموضوع الوعي والتوعية الدينية من الموضوعات القديمة الجديدة، والتي تتجدد الحاجة إليه في كل عصر منذ عصر النبي صلي الله عليه وسلم، إلى عصرنا الحاضر. وتزداد الحاجة إليه في هذا العصر لما تشهده الساحة العربية من غزو إرهابي وتفش للجهل، وحين تعيش الأمة على هامش الأحداث وتتخلي عن دورها الريادي، وحين تفقد مصداقيتها فلا يحسب لها حساب، وحين تُضيع مبادئ دينها السمحة وقيمه العليا، فإن ذلك مؤذن بوجود خلل ما يتمثل في جملة منها: موجات الإرهاب الدامي التي تُفرض علينا، وحفلات القتل الجماعي باسم الدين، وضرورة استعادة الإسلام العظيم من قبضة التطرف اللعين. إنها مهمة الأمس التي تأخرت إلى اليوم، ولا يجب أن ننتظر للغد.

وأكثر هذه الإشكاليات أهمية فيما يخص تحرير العقل الديني تتمثل في المفاهيم، وتتعلق بقضية الخطاب نفسه، عموماً، يعني استراتيجية ما في القول عن الشيء، أي نمطاً للإفصاح الشامل عن واقع بعينه، ومن ثم فهو نتيجة مترتبة على واقع سائد بالفعل، لا يمكن تقديم صورة عنه ولا تؤيدها معطيات الواقعية وإلا افتقد الخطاب منطقه وتحول إلى محض صياغات بلاغية ومزايدات كلامية لا تقنع أحداً (3).

ويعني الخطاب الديني، خصوصاً، بكيفية عرض الدين، أو الدعوة إليه، أو الدفاع عنه ضد منتقديه، حيث يهيمن الطابع السجالي، على الأقل، إن لم يكن الطابع التبشيري. وهكذا يبقي مفهوم الخطاب الديني مهجوساً بالآخر، خصوصاً الغربي، وبتلك الرغبة الدفينة في الدفاع عن أنفسنا في مواجهاته، وتزويق صورة التدين الإسلامي القائم فعلياً لدينا، بينما المطلوب الآن لا يقل عن تجديد الفكر الإسلامي، في مكونه القيمي والإنساني، بإلهام المكون الاعتقادي المتسامي على التاريخ؛ أي تجديد (تديننا) وأفكارنا عن (إسلامنا)، وذلك عن طريق إعادة تعريف ماهية النص نفسه، قبل الولوج إلى مساءلته على مستويات مختلفة من العمق الجذرية تتوافق على مستويات إحكامه وتساميه، تطويراً لواقعنا نحو الأفضل (4).

قصدت أن أقدم هذه المقدمة عن الوعي الديني، لأمهد للحديث عن تحليلي للكتاب الشيق الذي بين يدي، وهو كتاب بعنوان ” تحرير الوعي الديني ” للأستاذ ماجد الغرباوي، وقد صدر الكتاب في سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة في دمشق – سوريا، ضمن سلسلة متاهات الحقيقة التي يشتغل عليها المؤلف (5).

أما المؤلف فهو الأستاذ ماجد الغرباوي باحث في الفكر الديني، ومتخصص في علوم الشريعة والعلوم الإسلامية، وهو عراقي مقيم في أستراليا.. مؤسس ورئيس مؤسسة المثقف العربي في سيدني.. كان رئيساً لتحرير مجلة التوحيد (الأعداد: 85- 106)، وكان عضو الهيئة العلمية لكتاب التوحيد، وقد مارس التدريس ضمن اختصاصه في المعاهد العلمية لسنوات عدّة، والحائز على عدد من الجوائز النقدية والتقديرية عن أعماله العلمية، وقد كتب عن منجزه الفكري والثقافي والأدبي عدد من النقّاد والباحثين، عرب وأجانب، وله أكثر من ثلاثين عملاً مطبوعاً: تأليفاً، وتحقيقاً، وحواراً، وترجمة، إضافة الى عدد كبير من الحوارات والدراسات والبحوث والمقالات في مجلات وصحف ومواقع الكترونية مختلفة. اشتغل على موضوعات نقد الفكر الديني، التسامح، العنف،  الإصلاح والتجديد، فكر النهضة.

96 majedalgharbawi600

وقبل أن أتحول لقراءة هذا الكتاب دائماً ما أقول: لقد علمتني التجارب البحثية أن هناك أكثر من طريق لقراءة الأعمال الفلسفية قراءة نقدية، وأكثرها عفوية وسذاجة أن نلخص العمل الفلسفي أبواباً وفصولاً ثم لا شيء، وأعمقها أن نحاول تحديد مقولات العمل أولاً حتى نضع المتلقي معنا على أرضية واحدة مشتركة، ثم نخلص من ذلك إلى تجسيد رؤيتنا النقدية لهذه المقولات وإحالة هذه الرؤية النقدية في النهاية إلى قضايا وظاهرات.

وقد اخترت في قراءتي النقدية لكتاب الأستاذ ماجد الغرباوي (تحرير الوعي الديني)، تلك الطريقة الأخيرة التي ترفض الهشاشة وتكابد في طريقها إلى محاولة التنظير والتأصيل. . أولاً: لأن هذا الكتاب عمل علمي جاد يستحق بالفعل أن يعاني الناقد في قراءته وتقويمه، وأزعم أن هذا الكتاب سوف يضيفه التاريخ إلى أمهات الكتب الخوالد، لأن هذا المضاف يفتح السبُل أمام النظر، وإعمال العقل، وأمام البحث ومناهج العلم. . وثانياً الميزة التي يتميز بها الكاتب ” ماجد الغرباوي ” في هذا الكتاب، وهي هذه الجدية في النظر، وهذه الصرامة في المنطق، وهذا العكوف في العمل، وهذا الاحترام للنفس كاتباً وللغير قارئاً هو ما في نظري ما تعودت عليه أنا شخصياً مع ماجد الغرباوي (في هذا الكتاب)، يحتشد للموضوع الذي يبحثه من جوانبه التي تخصص فيها، ويتقدم للقارئ لا بالموضوع الذي يبحثه فقط، ولكن بالأدوات المنهجية التي يتعامل مع موضوعه بها، فيعرضها واضحة بما تستدعيه من منطق، ومن أسلوب تدليل ومن ترتيب سياق.

والسؤال الذي أود أن أسأله للأستاذ” لماجد الغرباوي: لماذا اختار لكتابه عنوان تحرير العقل الديني، ولم يختار له اسم “تجليات الوعي الديني”، أو “تنوير العقل الديني”، أو ” بؤس الوعي الديني في دارنا العربية كما ذهب د. برهان زريق، أو أزمة الوعي الديني كما ذهب فهمي هويدي. . الخ؟

وهنا يجيبنا ماجد الغرباوي ضمن ملاحظة سجلها في الصفحة الرابعة في جميع كتب متاهات الحقيقة: (قد لا ينطبق عنوان الكتاب مع تمام موضوعاته، لكنها تنتظم جميعاً ضمن حوارات متاهات الحقيقة). فيكون الوعي الديني جوهر موضوعاته، وهو ما يسعى له ضمن مشروعه الفكري والتنويري. والكتاب كما جاء في الإعلان عنه عند أول صدوره: (يقع في” 418″ صفحة من الحجم الكبير، وقد زينت لوحة الفنان التشكيلي الكبير أ. د. مصدق الحبيب غلاف الكتاب الجميل. وهو الكتاب الخامس ضمن سلسلة متاهات الحقيقة. حيث حمل الكتاب الأول عنوان: الهوية والفعل الحضاري. والثاني: مواربات النص. والثالث: الفقيه والعقل التراثي. والرابع: مضمرات العقل الفقهي).

تناول الكتاب مجموعة قضايا قاربها الكاتب ضمن الحوار المفتوح، منها: تطور العقائد، القلق المصيري، فلسفة الخلق، سؤال الوجود، المعرفة البشرية، منطق الخطيئة، فلسفة الخلق بين نظريتين، التأويل الموضوعي، سياقات التأويل، محددات القراءة، التداخل بين الأسطوري والديني، تشابه السرد، العناصر المشتركة، المعرفة الدينية، النهوض الحضاري، مواضيع غيرها متعددة.

من هنا جاءت الأجوبة في هذه الموسوعة الحوارية (متاهات الحقيقة)، تقارع حصون الكهنوت وتحطّم أسيجة تراثية تستغرق الذاكرة، وتطرح أسئلة واستفهامات استفزازية جريئة.. بحثا عن أسباب التخلف، وشروط النهوض، ودور الدين والإنسان في الحياة. فتوغّلت عميقا في بنية الوعي ومقولات العقل الجمعي، واستدعت المهمّش والمستبعد من النصوص والروايات، وكثّفت النقد والمساءلة، وتفكيك المألوف، ورصد المتداول، واستنطقت دلالات الخطاب الديني، بعد تجاوز مسَلَّماته ويقينياته، وسعت إلى تقديم رؤية مغايرة لدور الإنسان في الحياة، في ضوء فهم مختلف للدين، وهدف الخلق. فهناك تواطؤ على هدر الحقيقة لصالح أهداف أيديولوجيات – طائفية. ومذهبية – سياسية.

في هذا الكتاب اعتمد المؤلف على منهج نقدي – تحليلي – تاريخي قائم على استقدام مشاهد حية من الماضي في تاريخيتها وشخوصها، لتخليص الحقيقة الدينية كما يقول أستاذنا الدكتور “علي محمد اليوسف ” في النص القدسي من براثن مجاهيل التضليل والتشويه والانحرافات والأكاذيب على التاريخ في جنبة التنظير التوعوي، وفي تعرية النفاق الديني الذي اخذ بحكم تداوليته المجتمعية صفة البديل القار الثابت في اكتسابه الحقيقة الدينية الزائفة التي يعتقدها ويمارسها المجموع، وفي  إعلان هذا التزييف نفسه فكراً مضللاً، وممارسة منافقة وحيدة في امتلاكها الحقيقة لوحدها لا من اجل تصحيح علاقة العبد بالخالق ولكن بعلاقة تقديم الطاعة والمبايعة العمياء لمن يدعي ان حكمه مستمد من روح وجوهر دولة الخلافة الإسلامية في عهد النبوة (6).

لقد أراد المؤلف لمشروعه أن يكون مشروعاً نقدياً مضمونياً، أشبه ما يكون بمحاكمة فكرية لتطور العقائد، التي جنحت عن الاجتهاد والفهم الصحيح، ففي نظر المؤلف أنه في كل الديانات القديمة، وبمرور الوقت تنشأ عقائد جديدة، نابعة من الأساطير التي يتحتم بها الموروث الشعبي لهذه المجتمعات، وبحكم الفلسفات التي يتداولها معتنقو هذه الديانات. . وقد تكون هذه الأفكار والعقائد كما يري المؤلف باعثاً على التجديد وعدم الركون لفكر ثابت (7).. وللحديث بقية.

 

الأستاذ الدكتور / محمود محمد على

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

..............

* هذا هو العنوان الأصلي للمقال.

1- سعدي الهادي: الفكر الديني بين إشكالياته المعرفية ومشكلاته الواقعية، مجلة التربية والابستيمولوجيا، المدرسة العليا للأساتذة بوزريعة – مخبر التربية والابستيمولوجي، العدد الثالث، 2012، ص 80.

2- عمرو عبد الكريم: معركة الوعي: سؤال التجديد، الوعي الإسلامي، وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية، س52 ,ع600، 2015، ص 84.

3- صلاح سالم: الوعي العربي بين الإصلاح الديني والتنوير العقلي، شؤون عربية، جامعة الدول العربية، العدد 164، 2015، ص 170.

4- نفس المرجع، ص 171.

5-أنظر ماجد الغرباوي: تحرير العقل الديني (متاهات الحقيقة 5)، دار أمل الجديدة، دمشق، سوريا، ط1، 2012.

6- أنظر على محمد اليوسف: منهج النص في سؤال الحقيقة.. قراءة في فكر ماجد الغرباوي، صحيفة المثقف العدد: 4466 المصادف: 2018-11-16.

7- شاكر فريد حسن: ماجد الغرباوي المثقف التنويري والمفكر المضيء، العدد: 5652 – 2017 / 9 / 27 – 11:54.

 

 

 

من خلال المقالات الثلاث السابقة تبين لنا أن صالح الطائي يمثل واحداً من المجددين الكبار، فالرجل استطاع أن يرسم لفلسفته الإصلاحية هدفاً واحدا، وهو إخراج الفكر الإسلامي عامة، والشيعي خاصة من عالم التخلف والانحطاط، والسير به نحو النماء والازدهار، في معترك حضاري وصراع ثقافي بين عالم متخلف فكرياً وحضارياً .

ودعوة صالح الطائي إلى الإصلاح والتجديد ارتبطت بمخطط ارتبط فيه الهدف بالمبادئ والأصول وبالوسائل والمنهج، فكان ذلك عبارة عن استراتيجية تقوم أساساً على فكرة النقد، وفكرة إعادة البناء. أي إعادة بناء الفكر الإسلامي على النقد والتمحيص . فالنزعة الفلسفية والفكرية التي تقوم على النقد والتمحيص قادرة على الإلمام بالحقيقة التي تتطور معالمها وتتغير أوجهها من وقت لآخر، بفعل التفكير الفلسفي النقدي، وعلى ضوء هذا التفكير يمكن بناء فهوم ومواقف جديدة من الأشياء والحياة والوجود، تتجلي فيها الحقيقة، وينبني منها التفكير الإنساني في مرحلة من مراحل تاريخه .

أما ثقافة السكوت والسكون في القديم والتقوقع فيه، والقبوع فيما تركه الأسلاف بحلوه ومره فقط، أو الانغماس في الجديد بحلوه ومره، كل هذا يُفضي إلى الجمود والتحجر في الفكر، والضعف، والانحطاط في الحياة عامة، وتلك هي حال المسلمين في العصر الحديث . وفي جميع الأحيان ثبت المسلمون ما هو في أصله وطبيعته متحرك ومتغير ومتجدد باستمرار، كما عدلوا ما هو في أصله وطبيعته ثابت، وهذا مرده إلى غياب نظره نقدية فاحصة إلى الذات، وإلى الغير وحضارته .

ومن الغير نجد الحضارة الأوربية المعاصرة، والتي أعلن من خلالها "فريدريك نيتشه" عن نظرية موت الإله وموت الأديان، ومن خلال هذه النظرية ذكر صالح الطائي في كتابه ص 46-47، أنه وقع بين أيدينا نص من مداخلة لأحد القراء على مقال الغرباوي، بعنوان "دعوة لإنقاذ الدين من سطوة الفقهاء" الذي مر الحديث عنه، أوضح فيه بأنه: (لا يكفي أن تقول داعش وانحراف داعش هي الأعراض الواضحة على مرض الخرف الإسلامي إيذانا بالموت المحتم أسوة بموت المسيحية واليهودية والهندوسية وغيرها من شرائع عصور الإقطاعية . الإسلام بمذاهبه يعاني من مرض تصلب شرايين، وما الإفراط في الطقوس والشعائر إلا دليل استفحال المرض في جسم المريض الذي أدمن فهو يكثر من الطقوس المهدئات دون رصدي أخلاقي حقيقي لهذه الطقوس التي لم تردع سارقا ولا قاتلا ولا مزورا . حين اختفت الحضارة الرومانية كان ثلثا شعوبها قد مات في الحروب وسيختفي الإسلام أيضا بعد ان يأتي على معتنقيه فيمسحهم بحروبه (الهلالية) على وزن (الصليبية) وبعدها فلكل حادث حديث).. ثم يعقب الباحث صالح الطائي فيقول: "إذن يتضح من هذا القول أن هناك من يتنبأ بموت الإسلام إسوة بالأديان التي اعتقد بموتها، وهذا تصور قاصر مبعثه الخلل في بنية العقيدة الإسلامية المتداولة بين الناس، والذي أراه أن هؤلاء واهمون وأن الدين . ليس دين الإسلام وحده – وإنما كافة الأديان، لا زالت تلعب دوراً ملموساً في حياة المجتمعات المعاصرة، ولا زال تأثيرها على القوانين وسلوك الناس وعلاقة أتباع الأديان ببعضهم في أنحاء العالم كله فاعلا ومؤثراَ!

وهنا أحببت إضافة شيء، أن كلام الغرباوي في مقاله: "دعوة لانقاذ الدين من سطوة الفقهاء"، كان يؤكد على قضايا خطيرة ومهمة تهدد مستقبل الدين، وليس شرطا موته. ولا علاقة لماجد الغرباوي بكلام المعلق على مقاله، فعندما راجعت المقال وجدت الغرباوي يؤكد أن: "ثمة أزمة حادة تواجه الشريعة الاسلامية، بل تواجه الدين بأسره، لا تنفع معها تبريرات الفقهاء ومكابراتهم .. أزمة حقيقية، تضغط باتجاه مراجعة نقدية تطال الفكر الديني، وفق قراءة معاصرة تواكب مسار الحضارة، وتُعيد النظر في ثوابت الشريعة، بعيدا عن سلطة التراث والسلف والتراكمات التأويلية التي تكرّس اللامعقول وتحرّض باستمرار ضد الآخر، حتى صار الدين إما يدفع باتجاه العنف والارهاب، او يستقطب باتجاه الخرافة والسحر والشعوذة وجلد الذات، وتصديق هلوسات وأكاذيب بعض رجال الدين، وتقديس الماضي والتراث، وأسطرة الشخصيات التاريخية، واستبدال العبادة بطقوس فلكلورية، انقلبت معها مفاهيم الخير والعمل الصالح، وبات الارهاب دينا، والخداع دينا، والتبست المفاهيم حد الاحتراب فضلا عن الكراهية والتنابذ والاقتتال".

ويستطرد الغرباوي فيقول: ان مسؤولية التجديد ستخرج من يد الفقهاء، اذا تمادوا في تكاسلهم ولا مبالاتهم تجاه ما يجري. لقد صار الدين مع جمودهم وتخلّف الدعاة شبحا يطارد احلامنا، وباتت شعارات تطبيق الشريعة والاسلام هو الحل والحاكمية الالهية وولاية الفقيه تستفزنا، خاصة مع تمادي بعض الحركات الاسلامية في تطرفها، وارتكابها مجازر يندى لها جبين الانسانية. بل نَسَفَ سلوكهم أغلب ما كتبه المفكرون الاسلاميون عن الاسلام وحضارته ومستقبله في بناء الدولة والمجتمع، وسفّه جميع احلامهم، بل كذّب جميع التأويلات التي اعتادها الكاتب الاسلامي في تبريره لأحكام الاسلام وتشريعاته ونظمه، لكثير من القضايا كـ: المرأة والرق ونظرته للآخر، مما حدا بنا العودة لمراجعة أصل التشريع، واستدعاء ذلك السؤال الخطير، الذي نهرب من مواجهته دائما: (هل الخطأ في التشريع أم في التطبيق؟ أم الخطأ في تعميم الأحكام واطلاقاتها؟.

وهنا يجيبنا الغرباوي فيقول :" للامس القريب كنا نردد ما تردده الحركات الاسلامية وجميع الدعاة المخلصين، حينما نواجه اي خطأ سلوكي: (ان الخطأ في التطبيق)، حتى راحت بعض المذاهب والفرق الاسلامية تعوّل على ظهور (المهدي المنتظر)، لتعذر تطبيقها من قبلنا. ولا ادري ما فائدة تشريعات ودين لا يمكن تطبيقه من قبلنا، حتى يظهر المهدي ويرعى تطبيقه بنفسه!! .. وماذا نفعل اذا لم يظهر او تأجل ظهوره آلاف أخرى من السنين؟ ثم ماذا يريد ان يقدّم المهدي من حلول اسطورية لهذه المشكلة؟ هل سيُشرّع لنا أحكاما جديدة؟ وهذا مستحيل، لتعذّر التشريع بعد الوحي. أم سيوظّف عقله وفقاهته؟، اذاً فلماذا لا نوظّف نحن عقولنا بدلا من انتظاره؟. لا ادري هل نعي شيئا من سلوكنا ام نخدع انفسنا ونحسب اننا على حق وغيرنا على باطل!!!. لا اخفيكم، أجد هروبا في فكرة الانتظار، بل اجد فيها إدانة لنا من حيث لا نشعر، والفقهاء قادرون على فقه الشريعة وتقديم قراءة اخرى للدين. فأرى من الأفضل مقاربة المشكلة في بعدها التشريعي، مع مراجعة مكثّفة لآرائنا وفتاوانا، وفق رؤية علمية، واقعية، ترتكز لمنطق القرآن الكريم في اطار مقاصد الشريعة وغاياتها، سنكتشف حينئذٍ حجم الهوّة بين التشريع والواقع".

إن استعراض مقال الغرباوي كان نافعا، لنعرف عن قرب كيف يفكر؟ وكيف يشخص الإشكاليات الفكرية؟ ففهم الإشكالية أهم من حلها، وطرح السؤال أولى من الإجابة. فالمسألة ليس مسألة موت الدين، بل أن تزوير وعي الناس باسم الدين أخطر بكثير، لأنهم سيعيشون في حالة ضلال. أن الدين، خاصة ما يتمسك به الإرهابيون والتكفيريون، هو الذي جعل المعلق يتنبأ بموت الأديان، ولا تكفي الرهانات على بقائها، الأهم تشخيص المشكلة، وهذا ما فعله الغرباوي في هذا المقال، وكان جريئا جدا، وربما مثيرا، فقد كتب د. صالح الطائي في نفس الصفحة: (بت على قناعة تامة أنه حتى في أسلوبه [أي الغرباوي] الجاف الجريء المشاكس الهجومي الصراعي إنما يعمل على الدفاع عن الدين أمام آراء تسيدت الساحة اليوم). هل حقا هذا هو أسلوب الغرباوي؟. أعتقد أن المنهج العقلي هو الذي يجعل الآخرين يصفونه بهذه الصفات، فإنه يحاصر المقابل بأدلته وتحليلاته، وكشفه للمستور.

***

الكتاب الذي قدمه الدكتور صالح الطائي ملئ بالقضايا والإشكاليات التي لا حصر لها، ولكن في نهاية هذا المقال أود أن أبرز حقيقة هامة هناك اختلاف بين فكر صالح الطائي وفكر ماجد الغرباوي في قضايا مهمة، خاصة القضايا العقدية، ومثاله مناقشة صالح الطائي لقضية "الإمامتين الدينية والسياسية؟ (من ص 48-60)؛ وفي هذه النقطة بالذات كانت النتيجة متوقعة، وهو : اختلاف المنهج يفضي لاختلاف النتائج. غير أن صالح الطائي لم يستعرض كافة أدلة الغرباوي حول الإمامة، كي يقارن القارئ بينهما. فمثلا  يعتبر الغرباوي مفاهيم مثل الإمامة، العصمة الصطفاء، مناصب إلهية. يقول في كتاب الفقيه والعقل التراثي، ص244: (فنفهم أن الوزارة والإمامة والاصفطاء كلها مناصب مرتبطة بالمشيئة الإلهية، ولم يفوضها لغيره. وبما أنها كذلك فتتوقف على وجود نص قرآني صريح. ولو كانت شأنا نبويا لاتخذ موسى قرارا شخصيا دون الرجوع إلى ربه. لكنه يعلم أن الله لا يشرك بقرارته وأحكامه أحدا: (مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا). أما لماذا يشترط هذا في هذه العناوين وتضاف لها المعاجز والخوارق فهو يجيب في نفس الكتاب، ص34: (وقد قررت قاعدة في كتاب مدارات عقائدية ساخنة.. حوار في منحنيات الأسطرة واللامعقول الديني. القاعدة تقول: "الممتنع عقلا، لا يُحتمل وقوعه خارجا، سواء كان الامتناع ذاتيا، كشريك الباري، أو لعدم تحقق شرطه كاقتراب النار من الورقة شرط لاحتراقها، او لطبيعة الشيء وتكوينه، كامتناع صدور المعجزات والخوارق الكونية على يد الإنسان حسب طبعه وتكوينه. وما أكد القرآن وقوعه، يُقتصر فيه على مورده").

وأما لماذا لا يقدم الروايات والأحاديث، ويشترط وجود آية قرآنية، يقول: (ولا يمكن رفع اليد عن هذه القاعدة لأن أحكام العقل لا تخصص، وبالتالي نشترط وجود نص قرآني، نرفع به اليد عن القاعدة، لنفهم أن المعجزة قد جرت وفقا لقانون آخر نجهله. وأمثلة هذه القاعدة كثيرة خاصة العقيدة الشيعية وأسطرتها لرموزها التاريخية والدينية. نرجئ الحديث عنها).

برأيي كان ينبغي استعراض أدلته العقلية، المطابقة لمنهجه. وعليه نفهم أن الغرباوي لا تعنيه الروايات والأقوال التي سردها الباحث الطائي، مادام موضوعها مناصب إلهية ممتنعة في ذاتها، كما يقول الغرباوي في ص360 من الكتاب: (لأن كل منصب إلهي، هو ممتنع بذاته، ما دام مفارقا للطبيعة البشرية، فيبقى حتى القاعدة العقلية، ولا يمكن رفع اليد عنها إلا بآية صريحة، لا لبس فيها، تورث العلم واليقين، فحينئذٍ، لا نخصص القاعدة العقلية، لأنها لا تخصص، بل نعيد النظر في فهمنا لتلك الظاهرة التي نحسب أنها مخالفة للطبيعة البشرية، وعندما نعيد النظر فيها سنكتشف مدى صدقيتها وحقيقتها ومدى مطابقتها للواقع).

فهناك اختلاف جوهري حول المفردات العقدية. كل منهما له أدلته، لكن النتائج مختلفة بين من يثبت أو ينفي العصمة والإمامة وفقا لأدلته.

وقد أكد الدكتور صالح الطائي في كتابه، ص 49: (وإي إضافة تفتقر لدليل صريح يدل عليها لا قيمة لها يمكن التعويل عليها خارج اتباعها ومعتنقيها). وهذا كلام دقيق وعلمي لكن الأصل عند الغرباوي كما تقدم، عدم ثبوت الإمامة والعصمة ما لم يدل الدليل القرآني عليها. فالاستدلال الصحيح إقامة الحجة على الغرباوي وفقا لمتبنياته كي يصدق النقد. وأما استعراض الروايات لاثبات ضعف رأيه فغير صحيح. وعليه امام الباحث الجليل ان يقدم روايات وفقا لشروط الغرباوي في الرواية.

من الأدلة التي ذكرها الطائي دليلا على العصمة مثلا آية:

1- (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)، وهذا حقه، ومناسب مع منهجه. لكن كان يفترض أن يذكر للقارئ أن ماجد الغرباوي له رأي آخر في هذه الآية، تجده في كتاب الفقيه والعقل التراثي، ص244 – 245. فهو لم يفهم العصمة من الآية وفهم منها شيئا آخر.

كما استدل الطائي بروايات على العصمة، ضمن منهجه:

2- قول الإمام علي: " إنّ الله طهّرنا، وعصمنا، وجعلنا شهداء على خلقه، وحجته في أرضه، وجعلنا مع القرآن، وجعل القرآن معنا، لا نفارقه ولا يفارقنا". والروايات بالنسبة للغرباوي لا تكون حجة ما لم تكن صحيحة، والصحيحة تورث اليقين فتخرج جميع روايات الآحاد، يقول في كتاب الفقيه والعقل التراثي، ص268: (وقد استعانوا لإثبات دعواهم بروايات لا نعرف عن حقيقتها شيئا لكنها تبقى محتملة وفقا للتصنيف الذي اعتمده للتمييز بين الروايات الصحيحة والمحتملة الصدور).

***

وبرغم الاختلاف العقائدي أو الايديولوجي كما أحب أن اسمية بين الطائي والغرباوي، إلا أنهما اتفقا على استعمال العقل وتحكيمه في أمور كثيرة (لا حصر لها)، كما اتفقا على أن المثقف القادر على توليد مقولات ثقافية عقلانية تساهم في تطوير مختلف جوانب المجتمع هو بالضرورة مثقف حر، تزود بثقافة عصرية لا تتعارض مع قيم المجتمع الأصيلة الموروثة بل تحميها من التشويه، فالمثقف الحر في نظرهما لا يتوقف من إنتاج تراث جديد من الثقافة يضاف إلى الماضي الذهبي ويغنيه بثقافة عصرية يحتاج إليها المجتمع في تبدلاته المستمرة في عصر العولمة.

كما اتفقا على أن السياسة وأنماط الحكم والتدبير في المرجعية العربية الإسلامية، لم تكن في يوم من الأيام شأنا دينياً أو شأنا للدين به صلة مباشرة، وإنما هي غرض دنيوي صرف موكل للفرد والجماعة للتفكير فيه، والعمل على إيجاد الصيغ والأشكال والنظريات القمينة بتحقيق الكرامة والسعادة الإنسانيتين للأفراد والجماعات، بناء على الاجتهاد العقلي والاستفادة من تجارب الأمم المتقدمة في هذا المجال، أخذاً في الحسبان معطي الزمان والمكان واستحضاراً للمصلحة العامة غاية أسمى.

وفي نهاية هذا المقال أقول تحية طيبة للأستاذ الدكتور صالح الطائي الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر المبدع الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

نواصل قراءة كتاب الدكتور صالح الطائي: (الإلهي والبشري والدين التراثي.. رؤية نقدية في مشروع ماجد الغرباوي). بمقدمة تمهيدية:

لقد قطع الفكر الإسلامي المعاصر في إيران شوطاً كبيراً في معالجة قضايا منهجية وأساسية كان لها دور في تجديد الفكر الديني، حيث لعب المفكرون الإصلاحيون هناك دوراً كبيراً في إعادة صياغة العقلية الإسلامية الشيعية، وربما كان زوال الشعور بالأقلية الإسلامية الشيعية في إيران من أكبر أسباب نضح العقلية النقدية في المجتمع الإيراني، حيث يمثل الشيعة أغلب سكان إيران خلافاً للشيعة العرب حيث وجود هذا النقد خوفاً من تفكك الأقلية، الأمر الذي يؤدي إلي بطء مسارات الإصلاح.

ومحاولات إصلاح الفكر الشيعي في إيران أخذت لدى البعض مسار إصلاح أدوات المعرفة الدينية، وطرق الاجتهاد إلي جانب تنقية التراث؛ ومن بين الوجوه الإصلاحية التي ظهرت في تلك الفترة مهدي بازرجان (1905-1995م)، ومرتضى مطهري ( 1920-1979م)، وعلي شريعتي (1933-1979م). ثم جاء من بعدهم عبد الكريم سروش (1945- ....)، مجتهد شبستري، ملكيان وآخرون مازال فكرهم ونظرياتهم تحظى باهتمام كبير.

ومع اختلاف مناهجهم بين العلمي والعرفان والاجتماعي والفلسفي والأصولي إلا أنهم استطاعوا أن يقدموا نهضة فكرية، فالمهندس مهدي بازرجان يعد من أهم المفكرين والمصلحين المعاصرين  في إيران فقد اهتم منذ شبابه بإعادة التفكير في صياغة الفكر الديني وبذل جهداً كبيراً لإظهار جدية الوفاق بين الفكر الإسلامي والمفاهيم العلمية الحديثة.. وأما علي شريعتي فيعد نموذجاً فريداً من مفكري إيران، فعلى الرغم من أنه فارسي العِرق لكنه لا يتوقف عن نقد النزعة الشعوبية لدى الإيرانيين، كما أنه يعتبر من المفكرين القلائل الذين استطاعوا التجرد من هوى المذاهب والتمذهب فانتقد ما أسماه التشيع الصفوي، والتسنن، ودعا إلى التمسك بما يعرف بالتشيع العلوي والتسنن المحمدي .. كما يعد عبد الكريم سروش الذي ظهر منذ أوائل الثمانينات واحداً من أهم الكتاب البارزين في إيران، حيث عالجت كتاباته النظريات الماركية وموضوعات فلسفة العلم، وأثارت كتاباته وخاصة ما يعرف بنظرية (القبض والبسط للشريعة) جدلاً واسعاً ونقاشاً حاداً بين مؤيد ومعارض لها، كما تميز سروش بجمعه عددا من العلوم حيث درس الكيمياء والصيدلة وأحب الشعر وقرأ كثيراً عن العرفان بالإضافة إلى ذلك هو ناشط ثقافي، وسياسي ومتبحر في علم الكلام .. وأيضا تشهد للشيخ مجتهد شبستري جهوده الفكرية في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد.

وكل هؤلاء وغيرهم من أصحاب المشاريع الفكرية العربية استفاد منهم صالح الطائي ونهل منهم، واتضح ذلك حين رأيناه يتحدث عن فلسفته في التصحيح والإصلاح، حيث يقول صالح الطائي: "ليس من قبيل المصادفة أن تعطي اللغة الإنكليزية لمصطلحات (التصحيح) و(التصليح) و(التعديل) معني مشتركاً واحداً (correction)، وتعطي لمصطلح الإصلاح الذي هو من سنخها معني مغايراَ (repair)، فالتصحيح والتصليح والتعديل تجتمع سوية لتعطي معني : محاولة تقويم حالة دون النظر إلى أصولها، فهو من حيث الشمول يعني تصليح الشئ العاطل، كأن يكون سيارة، أو جهاز كهربائي في المنزل أو أوراق امتحان، وهو يحتاج إلى الخبرة والتخصص والممارسة العملية . على خلاف الإصلاح، الذي يشمل عدة تغييرات وإجراءات وقوانين لإصلاح قطاع معين، أو إصلاح منهج، أو جيل من شئ خطأ ملازم له، بمعني أنه يسعى إلى إعادة الأمور إلى نصابها وأصلها الصحيح، أي التغيير نحو الأحسن والقضاء على المساوئ التي تنشأ نتيجة خلل في أنساق الفهم ومناهج التطبيق، وهو بالتالي يحتاج إلى الفهم، والوصف، والإبداع، والإرادة، واستراتيجيات مبتكرة، وسعة الأفق، والقدرة على اتخاذ القرار الجرئ، والقدرة علي تحمل النقد". الكتاب: ص 23.

ويستطرد صالح الطائي فيقول: .. وهدف الإصلاح هو إحداث تغيير نوعي في نمط الإستجابة للمؤثرات المحيطة بالفرد سواء كانت المؤثرات داخلية أم خارجية، وهذا التغيير النوعي في الإستجابة يتبعه تغيير في نمط سلوك الفرد وتصرفه حيال المثيرات والمحذورات، ويتحدد نوع هذا التغيير في نمط الإستجابة، وفي نوعية السلوك، وفي مقاييس وقواعد الآداب والسلوك المتبعة في المحيط الاجتماعي، فإصلاح سلوك الفرد وتقويمه في نطاق علم الإجرام يتحدد في أحداث تغير يتحول في نمط الإستجابة وبالتالي نوعية السلوك، من السلوك المضاد للمجتمع إلى السلوك المنسجم مع قوانين المجتمع وقواعد السلوك والآداب السائدة فيه". الكتاب: ص23.

والسؤال الذي أود أن أتساءل عنه هنا: هل صحيح كما يقول صالح الطائي ص 20 أن مشروع التنويري عند ماجد الغرباوي، والذي يدعو إلي الإصلاح لا يمكن أن يتحقق على الأرض أو في حياتنا؟: (والمدهش في الأمر أن الباحث الغرباوي كان يتحدث عن فرضيات من وحي الرغبة في الإصلاح، فهو مثلنا على يقين أن ذلك لا يمكن أن يتحقق على أرض الواقع، ويعلم أن ذلك هو المستحيل بعينه مهما كانت مبرراته، لكن الأمل يحدوه عسى أن تتحقق المعجزات، معتقداً أن هذه الاستحالة لا تمنع مقاربة وإعادة النظر في هاتين المسألتين من أجل وضعٍ فكريٍ أفضل لعالمنا الإسلامي). وكان هذا تعقيبا على قوله: (وأنا من خلال تفكيكي لنتاجه [الغرباوي] وجدته يتحرش بالممنوع الحقيقي والأسطوري بشكل لا يصدق، ويقتحم الخطوط الحمراء دون سابق إنذار، ولا يخشى لومة لائم حينما يحمل سيفين واحد باليمين وآخر بالشمال، فيطلب من السنة ـ على سبيل المثال ـ أن يعيدوا النظر بنظرية عدالة الصحابة؛ التي تسببت بالكثير من الشغب التاريخي، ويطلب من الشيعة أن يعيدوا النظر بموضوع عصمة الأئمة؛ الذي سبب الكثير من الخلاف). وهذا مبرر قوله الأول وهو محق كباحث مثابر، يعرف أن هذا مستحيلا، والقضية ليست أماني، خاصة بالنسبة للمذاهب الدينية، لكن الرجل طرحه كمثال. وهنا بودي أن أعقب:

إن المشاريع التنويرية وفقاً لمناهج العلوم الانسانية الحديثة ومعطيات العلوم الأخرى مشاريع جديدة نسبياً على الساحة، خاصة أن بلادنا المسكونة بالغيب والمقدس والدين (كما يؤكد الغرباوي في كتاباته دائما)، تتوجس من كل جديد وتشكك بمعطيات العلوم، ومازال هناك من يعتبر الفلسفة هرطقة، والتنوير جريمة أو خيانة للتاريخ. الناس تخشى مقاربة مقولاتها العقدية والأخلاقية، اعتزازا بدينها وخوفا على عقيدتها. وهذا يشمل جميع المشاريع الفكرية، وآراء الغرباوي تمس المحظور والمقدس، فتارة تجدها مرعبة بالنسبة لبعض الناس، ويتقبلها أخرون، والمسألة عادية. لكن هذا لا يفرض علينا الكف عن مقاربة العقيدة ونقد مقولاتها، والاكتفاء بالاصلاح والتجديد والترميم. وأقصد بالنسبة للغرباوي، الذي بات مشروعه واضحا، وراح صداه يلفت الانتباه. وما تأليف كتاب من قبل باحث بوزن الدكتور صالح الطائي سوى شاهد على ما أقول. وعندما أعلنت مؤسسة المثقف عن صدور طبعة ثانية خلال سنة من الطبعة الاولى لكتاب مدارات عقائدية ساخنة، لفتت انتباهي في حينها، خاصة مع كساد سوق الكتاب وخمود الاقبال على قراءة الكتاب الورقي. فلم أجد ما يفسر هذا سوى تقبل الناس لأفكار الكتاب، وتقبلهم فكرة مناقشة المقدس، وهو تطور. أو وجدوا فيه آراء جديدة جذبتهم. وعليه هذا مؤشر لا على أهمية الكتاب بل مؤشر على وجود تقبل للكتابات النقدية الحديثة، وتقبلهم لتفسير النصوص بمناهج جديدة، وهذا ما أتوقعه لكتاب الدكتور صالح الطائي: (الإلهي والبشري والدين التراثي.. رؤية نقدية في مشروع ماجد الغرباوي). من خلال متابعتي أجد هناك تعطش لمعرفة الحقيقة في عصر الانترنيت. بينما كانت مناقشة المقدسات خطا أحمر، فالمراحل القادمة سيتقبلون كل شيء. وعليه ربما يحصل انقلاب جذري في العقائد وفهم الاديان. فالأمر عندي يتوقف على وعي المسؤولية الدينية، ومدى علمية وقوة الطرح البديل. واستشهد هنا بنص في كتاب الفقيه والعقل التراثي، ص199: (.. التحرر العقلي إذاً يتطلب مرانا على النقد والمراجعة وطرح الأسئلة والاستفهامات وتقويض المألوف والمتعارف ومطاردة ألاعيب الخطاب. من هنا ينزعج الناس حينما يستفز الخطاب النقدي عقائدهم ومورثاتهم، ويربك استقرارهم النفسي القائم على تلك الموروثات الدينية. فهي أساس وجوده وكينونته الاجتماعية، يستميت في الدفاع عنها والتضحية في سبيلها، عندما يتعلق الأمر بالهوية والانتماء الذي يزعزع الاستقرار والطمأنينة. فالدفاع عنها دفاع عن وجوده وهويه وانتمائه، فلا يسمح بهدرها ما لم يتولى نقد الذات بنفسه، ويبدأ بمراجعة قبلياته، ويسمح للعقل بالنقد وفقا لمبادئه. أي أنه يرتكز لأنساق عقلية ومعرفية مغايرة تتصدى لنقد مقولاته الأساسية. في هذه الحالة فقط تبدأ عملية التنوير).

لا شك أن الأمر يختلف عندما ادعى الغرباوي استحالة التخلي عن عدالة الصحابة من قبل أهل السنة والتخلي عن العصمة بالنسبة لأهل الشيعة، وهو ما أكده الباحث الطائي أيضا، فلان كلا المذهبين سينهار بانهيارهم، ولا معنى لوجودهما، فهي قضية حياة وموت بالنسبة لهما، وغن كان في الحقيقة ليس كذلك. لكن الأمر بالنسبة لى على الأقل ليس مستحيلا. وأنا مع مواصلة النقد، وإعلان النتائج مهما كانت خطيرة. فليس المهم مشاعر الناس، فإنها مؤقتة وتذوب، وهذا هو العقل الجمعي. المهم نأمل في مشاريع تساهم في تحريك عجلة النهضة التي انتظرناها طويلا. ماجد الغرباوي كتب كثيرا في كتبه القديمة عن الاصلاح والتجديد ككتاب إشكاليات التجديد، لكن وجدناه في حواراته يدعو لرؤية مغايرة للدين. وهو يقصد إعادة النظر بما يسمه: (النسق العقدي المألوف). يقول صريحا في كتاب: الفقيه والعقل التراثي، ص111: (ما لم تجدد عقيدتك باستمرار، سيركنك التاريخ في إحدى زوايا الغلو. وبالتالي ينبغي لنا مغادرة النسق العقدي المألوف، واستبداله بنسق معرفي له قدرة على مواكبة الحياة وفهم الدين وحاجات الإنسان). ويقول أيضا في ص302: (نؤكد لا أمل في الاصلاح للوضع الإسلامي عامة، والوضع الشيعي خاصة سوى إعادة النظر في النسق العقدي المألوف والمتداول، وبناء مبادئ عقدية تنسجم مع فهم متجدد للدين، وتأخذ بنظر الاعتبار مركزية الإنسان، ودوره الاستراتيجي في الحياة الدنيا).

ولا يخفى على القارئ اللبييب أن إعادة النظر في النسق العقدي المألوف كما يدعو لذلك الغرباوي، يعني إعادة النظر في العقيدة ذاتها، بدءا من صفات الخالق، وعلاقته بالمخلوق (كما في ص15 من كتاب الفقيه والعقل التراثي)، معنى الوحي والنبوة ووظيفة النبي، وتمتد على الرأي الشيعي للإمامة وأدلتها ودورها ومدى قدسيتها، فمشروع الغرباوي مشروع فكري وعقدي شامل. لا يتوقف على الاصلاح روبما لا يؤمن بالاصلاح، ويطالب بفهم جديد للدين. وهو ما يرددها بكثرة: (فهم جديد للدين يأخذ بنظر الاعتبار دور الإنسان في الحياة)، كما يطالب في مشروعه الفكري بمركزية الإنسان. وهو وإن لم يصرح لكن العبارة واضحة، يريد طرح مركزية الإنسان في مقابل مركزية الله. التي هي أساس الفكر الديني عامة، بلا استثناء. ومن يخرج على هذه الفهم يرمى بالانحراف وربما الكفر. وعليه فمشروع الغرباوي يقع في موازاة المشاريع الاصلاحية والتجديدية، ولا يمثل امتدادا لها. يضع العقل فوق النقد، ويركن للبرهان والدليل، ويحد من دائرة حجية السنة، وغير ذلك كثير بحاجة الى دراسات مفصلة. فمنهجه يختلف جذريا عن منهج الدراسات الدينية والحوزوية التي تتمسك بالنص وحجيته مادامت سند الرواية صحيحا.

ولكي نكون موضوعيين، لا ننفي عن مشروع الغرباوي الاصلاح والتجديد نهائيا، لكنه كما مركوز في ذهني من خلال مطالعاتي يعتقد أن مشاريع الاصلاح والتجديد بات بلا جدوى، ويعتقد بضرورة تقديم فهم جديد للدين والنص الديني ودور الإنسان في الحياة. فهو ليس مع التصليح ولا الإصلاح، وإنما هو مع تقديم فهم مغاير للدين، يأخذ بنظر الاعتبار دور الإنسان في الإرض. ولازمه مركزية الإنسان ومصالحه، لذا طرح الغرباوي اتجاه الخلافة / الإنسان في مقابل اتجاه العبودية، وقد بين معالمه وركائزه في كتاب الفقيه والعقل التراثي، بهذا أخرج الإنسان من كونه كائنا مخلوقا للطاعة والانقياد، يملي عليه الفقيه ما يريد إلى كائن عاقل، يعي ذاته، يشهد لذلك كتاب الله: وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة. فالإنسان خليفة في هذه الأرض، لاستخلاف الأرض وإعمارها. فرؤيتته للدين تختلف عن الرؤية المتداولة، التي تختزل الإنسان. وعلى هذا الأساس أصل الغرباوي للاتجاه العقلي. ارجو الاطلاع على نظريته في ص 63 من كتاب الفقيه والعقل التراثي، فيه من المعلومات ما يكفي لبيان كل شيء.

وبالتالي فثمة اختلاف منهجي على جميع الأصعدة بين الرؤيتين وهذا ما أريد قوله والتأكيد عليه من خلال الشواهد والأمثلة. هو ذات الفارق بين التحرر من الأحكام المسبقة والإنقياد المطلق لها. لذا وجدنا الغرباوي قد ناقش مقولات النسق العقدي المتداول كحجية السنة في أكثر من كتاب، خاصة كتاب الفقيه والعقل التراثي. وعدالة الصحابة في كتاب: النص وسؤال الحقيقة. العصمة في كتاب الفقيه والعقل التراثي. الإمامة في كتاب مضمرات العقل الفقهي، والمهدي في كتاب مدارات عقائدية ساخنة، إضافة للشفاعة وغيرها من مفردات عقائد المسلمين. فاكتشف كما يقول الغرباوي بشريتها وتاريخيتها، وتعامل معها على هذا الأساس. وبذلك انهارت أمامه كثير من اليقينيات والمقدسات السابقة. وهذا لا يفعله باحث ديني أو إسلامي ما لم يتسلح بمشروع تنويري متكامل، وقد تستفزه هذه الطريقة جدا. كما أن انهيار تلك اليقيانيا لم يؤثر على تماسك الغرباوي، وهو يطرح بدائل قائمة على الدليل والبرهان والتأمل العقلي، وعدم الانصياع للخرافة والطائفية والبحوث الكلامية القديمة.

***

سجل الباحث الدكتور صالح الطائي ملاحظة منهجية على كتابات الغرباوي، هي صعبة خاصة كما يقول في ص 21 (ونظرا لكثرة نتاج الباحث الغرباوي لا ضير في أن تتكرر الرؤية الواحدة من رؤاه في أكثر من كتاب وبحث ولقاء ودراسة ومقال، ولكن هذا سيزيد من صعوبة تقسيم الكتاب على فصول أو مباحث او الاكتفاء بالعنوانات الرئيسية والفرعية). وهي ملاحظة صحيحة بشكل عام، غير أن الكتب الحديثة باتت لا تعتني كثيراً بالتبويب الأكاديمي رغم أن بعض كتب الغرباوي مبوبة على أبواب وفصول. أو فصول وحدها. ولعل العناوين الرئيسية تكفي لمن يريد الاشتغال في مشروعه الفكري.

ثم ضرب لنا الباحث الطائي مثالا على ذلك من دراسة للغرباوي عن الشيخ محمد حسين النائيني منظر الحركة الدستورية. لم أفهم ما هو الربط بين كلامه والشاهد، لكنها التفاتة ذكية من باحث دقيق لهدف الغرباوي من الكتابة منذ كتاباته الأولى، وهي نقطة يشكر عليها الاستاذ الدكتور صالح الطائي. قال: (للوهلة الأولى وكأن الباحث الغرباوي أراد من خلاله التحدث عن الشيخ النائيني حاله حال المؤلفات الأخرى التي تكتب عادة عن أشخاص أحياء أو متوفين، وعن مشاريعهم ورؤاهم، بينما استغل الباحث الغرباوي الفكرة العامة للكتاب لتمرير الكثير من رؤاه الفكرية وتحليلاته المنطقية والبحثية، وقد أشار في المقدمة إلى ذلك بشكل غير مباشر من خلال قوله: "وفي حياة الشيخ محمد حسين النائيني كثير من المواقف والظواهر المفتوحة على أكثر من تفسير ورأي، ولكن تجد كل باحث يختص برؤية مستقلة. بل هو تحدث صراحة وبوضوح عن الهدف الحقيقي من وراء مثل هذه الكتابات بقوله: "تتلخص فكرة مشروع رواد الإصلاح في تلمس المشروع الإصلاحي لكل رمز من الرموز للتواصل معه، والبحث عن نقاط الضعف لتداركها، وتأسيس وعي جديد يرتكز إلى العقل ضد الخرافة والقداسة، وضد الاستبداد بنوعيه السياسي والديني، فهذا الكتاب في واقعه يمهد للدخول إلى المنهج العام للباحث. والظاهر أن الكتاب صدر ضمن سلسلة (رواد الإصلاح) التي تعنى بدراسة مشاريع الإصلاح التي نهض بها الرواد المسلمون، وتطمع إلى رقي وعي الفرد والأمة إلى مستوى المسؤولية الرسالية، وهذا يدل على وجود فكرة مسبقة هدفها التمهيد لمشروع كبير، لم تكن غايته تمجيد الرواد، وإنما استغلال عملهم للتأسيس لمنهج إصلاحي جديد، وحسنا فعل الباحث، فهو فتح الباب على مصراعيه وسمح لكل من يرغب بالدخول أن يدخل بلا استئذان). (الكتاب: الصفحتان: 20 – 21). إضافة لكلام الباحث الطائي لقد ذكر الغرباوي في مقدمة الطبعة الاخيرة من كتاب النائيني انه كان محاطا بظروف لا تسمح بأي حديث، فكان النائيني وسيلة للحديث عن الاصلاح وضروراته وفضح الاتجاه السلطاني لدى الفقهاء، وما أفرز تعاون الاستبداديين الديني والسياسي.

وهنا ملاحظة قد يواجه القارئ صعوبة في فهم آراء الغرباوي، وهذا واضح، غير أن  كتاباته بشكل عام واضحة، ولغته مشرقة، تنساب على الورق، ويرق لها السمع، غير أن طبيعة الأفكار تفرض مصطلحاتها ومفاهيمها فتتطلب خلفية تساعد على فهمها. كما أنه طرح افكار جديدة، تحتاج لتأن في فهمها وإدراك مقاصدها. وأما الجرأة فتتسم بها جميع كتاباته وفقا لمبدئه: الحقيقة تستدعي النقد الجريئ.

***

ملاحظة أخرى سجلها د. صالح الطائي في ص 41: حيث قال:

السؤال المهم: اين نضع المفكر ماجد الغرباوي وتجربته في نقد الفكر الديني في هذه المعادلة الصعبة جدا؟ والجواب على هذا السؤال يدفعنا للبحث في مشروعه والتنقيب في رؤاه، طالما أنه يعتقد أن ثمة أزمة حادة تواجه الشريعة الإسلامية، بل تواجه الدين بأسره، لا تنفع معها تبريرات الفقهاء ومكابراتهم، أزمة حقيقية تضغط باتجاه مراجعة نقدية تطال الفكر الديني وفق قراءة معاصرة تواكب مسار الحضارة، وتعيد النظر في ثوابت الشريعة أي أنه يريد التعامل مع الثوابت، والثوابت تُقَرُ بنص، وقاعدة الفقه المتفق عليها بين المدارس الإسلامية تقول: "لا اجتهاد قبالة النص". وهو في نيته هذه يسعى إلى التحرش بالحافات الخطيرة جدا). وأضاف: (وأؤكد هنا أن غايتي القصوى هي الإيضاح والنقد البناء لبعض جزئيات مشروعه، وليس التخريب والهدم، فما قدمه الغرباوي للدين وللأمة كثير جدا ولا يمكن انكاره تحت أي تعليل، بل هو قد يفوق كثيرا ما قدمه رجال يرتدون الزي الديني، وينهجون نهج الدعاة للدين. والجزئيات التي سننقدها قد يكون هو الذي أثارها، أو أن ما طرحه شجع الآخرين على إثارتها، أو أن هناك من استغل إثارته لها ليدخل من خلالها ويدلي برأيه الذي قد يكون في منتهى الغرابة). بهذا النص يوضح الباحث صالح الطائي منطلقه في تفكيك وفهم مشروع الغرباوي الفكري. وهي نقطة مهمة تبعد عن الناقد الشك والتأويل البعيد، فالأمر بات واضحا، وقد بين رأيه عندما قال: (أي أنه [الغرباوي] يريد التعامل مع الثوابت، والثوابت تُقَرُ بنص، وقاعدة الفقه المتفق عليها بين المدارس الإسلامية تقول: "لا اجتهاد قبالة النص").

بما أن الحديث عن الشريعة فيقصد الباحث الطائي من الثوابت ثوابتها. وهي: النسق العقدي، إضافة إلى النص المقدس، الآيات والروايات، وعند الشيعة روايات أئمة أهل البيت أيضا. فهل الغرباوي مؤهل لهذا العمل؟ يقول د. صالح الطائي في بداية الكتاب، كما أشرت له سابقا: (نقف اليوم أمام شخص رسم لنفسه منهجاً نقدياً إصلاحياً، تبنى فيه نقد الفكر الديني تحت شعار الإصلاح الجريء؛ بعد أن درس الدين وأصوله وفروعه ومناهجه على مدى أكثر من ثلاثة عقود، وكوَّن رؤية أصيلة عما يريد التحدث عنه، إنه الباحث والمفكر العراقي المقيم في أستراليا الأستاذ ماجد الغرباوي، الذي سنتولى نقد تجربته بعلمية وحياد). إضافة لما هو مدون في سيرته العلمية، فهو إذا يمتلك الأدوات اللازمة لاستنباط الأحكام الشرعية، وتقديم أدلة تدعم آرائه. وما دونه من آراء تكشف عن آراء اجتهادية واضحة، وهو يناقش الأصوليين مثلا. فالرجل مؤهل لهذا. بقي ما هو منهجه؟

يخالف الغرباوي الفقهاء حول مفردات العقيدة. يقدم القرآن على الروايات. الصحيح من الرويات بالنسبة له كما ذكر في كتاب الفقيه والعقل التراثي، شروطها صعبة. وتاتي في طول القرآن، وليس في عرضه. كما يقدم العقل في فهم النصوص الدينية، وهم يتعبدون بها مطلقا. له رأي مخالف في حجية السنة والعصمة والإمامة وغير ذلك. وعليه هو يختلف معهم في الاصول والمتبنيات. ويتحفظ على مقولة لا اجتهاد مقابل النص للاسباب التي ذكرتها سابقا. وهو يفهم القداسة بشكل مختلف عما هو متعارف. ويرفض الاحتجاج بالنصوص بعيدا عن تاريخها وفلسفة صدورها. ودأب منهجه على تقديم الدليل العقلي ثم القرآني. او القرآني بجانب الدليل العقلي. فهو لا يجتهد أمام النص بمعنى رفض النص، ولكن يناقش في حجيته وفهمه في ضوء الظروف المحيطة به والإطار العام لرؤيته ونظريته. وهذا مرفوض بالنسبة للاتجاهات التقليدية، فنعود ونقول ان الخلاف سببه المنهج والمباني التي يؤمن بها كل طرف. وأقول وهذا رأيي الشخصي ان: لا اجتهاد مقابل النص، كانت عبارة صلبة لا يمكن مخالفتها، لكن فهمت من تفاصي لمشروع لغرباوي ان فعلية كل حكم منصوص تتوقف على فعلية موضوعه. لا اعيد ما تقدم.

وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

من الواضح جدا الجهد الفكري للدكتور صالح الطائي في كتابه: (الإلهي والبشري والدين التراثي.. رؤية نقدية في مشروع ماجد الغرباوي)، وقد تناول بالنقد مجموعة آراء لماجد الغرباوي، كما قارن بين رؤيتيهما حول جملة موضوعات. وسلط الضوء على أبعاد مجموعة ثالثة، إضافة لمقدمة وافية عن نقد الفكر الديني وتاريخيه وأهميته. ولا يخفي المؤلف مشاعره واحترامه وتقديره لجهد الغرباوي، يقول في ص19 من الكتاب: (أما من حيث العموم فيبدو أن الأستاذ الباحث ماجد الغرباوي يحمل مشروعا لا يتبناه سوى من يحمل صليبه على ظهره ويجول بين صحارى الفكر يبحث عمن يُعلقه عليه، وهو لا يملك سوى إيمانه بنفسه ومشروعه، فالرجل رفع شعار إسقاط الساتر الفاصل بين الأمة ووقائع التاريخ ونقوله، ودعا إلى تحطيم أسطورة المعبد ليكتشف الناس وجه الله ويهتدوا إلى طريق الصواب). لهذه الأسباب وغيرها، استحق الكتاب الإشادة والمراجعة والنقد. فالطائي كما تقدم باحث قدير في مجال تخصصه، وجاء كتابه بالمستوى المطلوب. ويمكن الإشارة لجهد الكتاب بمايلي:

- قدم المؤلف استعراضا لمساحة واسعة من أفكار ماجد الغرباوي، وهو أمر يتطلب جهدا ومتابعة، لكثرة كتاباته وتعدد موضوعاتها. وبات لدينا الآن كتاب يعرف بمشروع الغرباوي، ووجهات نظره، قد يكتف به القارئ. وهذه مهمة بحثية يشكر عليها المؤلف، أكيد كلفته جهدا كبيرا لمراجعة كتبه وحواراته ومن ثم استعراض آرائه ونقدها.

- قدم لنا الكتاب وجهتي نظر حول بعض الموضوعات، وباتت لدينا أكثر من زاوية نظر، نستطيع بهما تقييم الآراء المطروحة. وإذا كان كل من الطائي والغرباوي ينتمي للفكر الإسلامي فتزداد أهمية الكتاب. فقد يعتقد البعض أن الانتماء الواحد ينتهي إلى نتائج واحدة. لكن بعد مراجعة الكتاب يجد القارئ اختلافا حول بعض الموضوعات.

- سلط الدكتور صالح الطائي في كتابه: (الإلهي والبشري والدين التراثي.. رؤية نقدية في مشروع ماجد الغرباوي)، الضوء على قضايا مهمة في مشروع ماجد الغرباوي، وبين مدى عمقها وقوتها، ولولا هذا الجهد قد تفوتنا ونحن نتابع ما يطرحه الغرباوي من أفكار. فنجده يتوقف عندها ويتأملها.

- استطاع المؤلف المحترم لملمة جهد الغرباوي بعد اتساعه، وقد اتضح من الكتاب سعة مشروع الغرباوي على مستوى الاصلاح والتجديد والتسامح، إضافة لمشروعه الفكري العميق في موسوعة متاهات الحقيقية. وهذا بحد ذاته جهد مهم يشكر عليه، وعملية ليست سهلة لولا أنه باحث ممارس.

- فتح الدكتور صالح الطائي آفاقا واسعة لنقد المشروع الفكري لماجد الغرباوي من خلال تسليطه الضوء على آرائه. وباتت لدى الباحثين فرص جديدة لمتابعة النقد والقراءة. وهذا يدل لا على سعة الباحث فقط بل على قدراته في البحث والنقد.

أعود لمتابعة قراءتي للكتاب، وهو الأهم في هذه المقالات، والغاية منها التكامل والإثراء، وبيان أسباب الاختلاف والتباين بين الآراء، في ضوء خبرتي واطلاعي على المشروع الفكري لماجد الغرباوي، وما هي أهدافه. وكيف يمكن لنا مقاربتها من خلال متبنياته النظرية. فهو يسر وفق رؤية متكاملة، وإطار نظري يحكم آراءه.

ما زلت أومن بل ربما أكثر من أي وقت مضى بأن السلطة السياسية تلعب الدور الأساس في إطلاق أي مشروع نهضوي؛ إذ لم يسجل التاريخ الحديث ولمعاصر ولادة حركة تحديثة ناجحة في أي من المجتمعات البشرية لا تنسب إلى شخصيات سياسية متنورة شكلت مركز استقطاب للغالبية الساحقة من المثقفين المبدعين الذين وضعوا عصارة أبحاثهم؛ ولا تستقيم إشكالية الحرية والإبداع في علاقاتها المتشابكة والمعقدة بالدولة والمجتمع إلا عن طريق مؤسسات ثقافية عصرية أو مناخ ثقافي حر يساعد على الإبداع بمختلف أشكاله، ويقيم تواصلاً ما بين الثقافة والمثقفين المبدعين من جهة، ومع الدولة العصرية الديمقراطية والعادلة من جهة أخرى.

انطلاقاً من هذه الرؤية المنهجية يمكن القول بأن القراءة التي أقدمها لكتاب صالح الطائي (السالف الذكر) لا تدعي الشمولية، ولا الإحاطة، بل هي قراءة اجتزائية، وربما كانت أحياناً مبتسرة، لكن الغاية المتوخاة منها هي إثارة الفضول لدى قراءنا الأعزاء في الشرق والغرب، واقتراح أرضية للنقاش علي هامش هذا المؤلف الهام؛ شعارة "الاختلاف لا يفسد للود قضية" .

وهنا أستطيع أن أقول (كما تبين لي من قراءتي العميقة للكتاب) أن ما فعله "صالح الطائي" في كتابه، إضافة لما تقدم من نقاط مهمة، أنه دافع عن معتقداته من جهة، وهذا حق مشروع، ومكفول لكل شخص، وكان ينبغي له أن يفعل ذلك. وأكد في ذات الوقت أنه في ذات المسار الفكري للغرباوي، ولهما  نفس التطلعات، وهذا أيضا سيدلنا على نقاط الالتقاء والافتراق، يدلنا عليها نفس الكتاب.

بيد أن الحقيقة كما ذكرنا في المقال السابق بأن الدكتور صالح الطائي باحث إسلامي، كما هو مثبت في سيرته، وأكده في هذا الكتاب ص13. ولكل باحث متبنياته العقدية ومنهجه العلمي. ولا ريب أن اختلاف المنهج قد يفضي لاختلاف النتائج.. كما أن الأطر الفكرية، وأفق المعرفة، وطبيعة الوعي تفرض محدداتها. واعتقد أن قراءة الباحث الإسلامي، أياً كان،  منحازة بالضرورة، يقتصر فيها على اقتناص مداليل تجدد رؤيته وفهمه، والبحث عن مبررات كافية لمواجهة التحديات.

من هنا يصدق أن وعي الباحث الديني / الفقيه / المفكر وعي مغلق، دائري، يستفزه نقد المقدّس. ويرابط داخل مدارات النص، مهما كانت قصية، إلا أنه لا يخرج عليه، ولا يشك بصدقيته. فالمعرفة الدينية محدودة الخيارات، لا تخضع للتجربة ومحاكمات العقل. وهذه هي قوة المقدّس وقوة سلطته المعرفية، فهو مجموعة تابوهات، تحد من حرية القراءة. وعندما يعلن أي باحث اتجاهه الفكري، يمكننا فروا التعرف على منهجيته، بل وربما نتائج مقارباته، لأنه سيكون محكوما لانتمائه. وهذا لا يعني التشكيك، والكلام حول سعة الأفق ومددات القراءة، التي ستكون خارج محكومة لخلفياته، خاصة النص المقدس. فتارة رهاب القداسة يحول دون التعرف على تاريخ النص وفلسفته وشروط فعليته، مخافة المساس بقدسيته، فَيُؤثر الباحث التمادي بالتبرير على خدش حصانة النص. ويغفل أن النصوص جاءت لمعالجة الواقع، وفعليتها ترتبط بفعلية ظروفه، وليست أحكاماً مطلقة تتعالى على شروطها التاريخية وفلسفة تشريعها. (أنظر: كتاب النص وسؤال الحقيقة لماجد الغرباوي، ص33 – 34). لا يمكنه مغادرة منظومته العقدية فضلاً عن نقدها. وهذا ما أكده صالح الطائي: أن ما طرحه ماجد الغرباوي من أفكار جاء منسجماً مع منهجه ومتبنياته الفكرية والعقدية، التي أشار لها في أكثر من موضع، لكنه تحدث عن منهجه في كتاب الفقيه والعقل التراثي كثيراً، ولاسيما موضوع التأصيل العقلي. أو المنهج في تصحيح الروايات وتبني الفهم بدلاً من التفسير في فهم النص الديني، وتوظيف الفلسفة ومعطيات العلوم الإنسانية الحديثة كالتفكيك، الإركيولوجيا، الأنثربولويجا، السيسيولوجيا، وعلم النفس، والأهم الهرمنيوطيقيا، (كتاب: الإلهي والبشري والعقل التراثي للدكتور صالح الطائي: ص13. فثمة اختلاف جوهري في المنهج. وهذا يعني أن كل باحث أيديولوجي يبقى سجينا داخلها، إلا إذا تحلل من قيودها وسلطتها. فالباحث الديني محكوم لقدسية النص مثلا، ولعقيدته. وهذا حقه خاصة عنما يبنعي على عقيدته على الدليل والبرهان. وكلامنا عن الفارق بين الباحث المتحرر، بلا قيود، وكل شيء أمامه قابل للنقد والمراجعة دائما، وبين باحث ملتزم بيقينياته. فالمسألة في دائرة المعرفة، وحدودها وآفاقها.

وفي اعتقادي أن ماجد الغرباوي (كما أعرفه شخصياً وعشته فكرياً) يشعر بحرية تامة بلا أي تحيز في قراءته للنص، والنص المقدس خاصة، لأن مفهوم القداسة عنده يختلف في معناها: القداسة تعني عنده، صدور النص عن مصدر متعالٍ محيط بكل شيء، فيشرّع ويهدي وفقا لملاكات ومصالح، يمكن للإنسان إدراكها لتحديد مدى فعلية النص المقدس. وقد ذكر تفاصيل، كيف يمكن تحديد الملاك من خلال مبادئ الجعل، والقضية تخصصية، والتفصيل في محله. فالقداسة عنده ثراء النص وتعاليه، وهذا يختلف عن معنى هدر القداسة (أنظر الحلقة 154 من الحوار المفتوح). وهذا يعني كما أفهم من منهجية الغرباوي في قراءة النص المقدس، حرية النقد والمراجعة، بمعنى فهم كل الظروف المحيطة بصدور النص، مهما كان مقدسا، وسياقاته الفكرية والثقافية والاجتماعية المحيطة به. فيكون الواقع شريكا في فهمه، لذا يختلف فهم النص باختلاف الواقع، وهذا ما أشار له مرات عدة، خلال كتاباته. فهو يشترط في استباط الحكم الشرعي دراسة تاريخ الحكم وفلسفة صدوره، كما في تعريفه لمفهوم الفقه: (هو إدراك فلسفة التشريع في ضوء فهم متجدد لدور الدين والإنسان في الحياة، وتحري مقاصد التشريع، وغايات الشريعة خلال عملية استنباط الحكم الشرعي). (كتاب: الفقيه والعقل التراثي: ص79) لتحديد مدى فعلية الحكم الشرعي، حينما يفقد الموضوع صدقيته أو بعض شروطه. لأنه يؤمن بقاعدة أصولية: أن فعلية الحكم الشرعي ترتهن لفعلية موضوعه، التي تتوقف على تمام شروطه وقيوده، ومع عدم فعليتها، فلا فعلية للحكم الشرعي. وهذا ليس خروجا على قدسية النص، قدر فهمه واستنباط رؤى جديدة. (وهذه القاعدة طالما ارتكز لها الباحث، أنظر على سبيل المثال، المصدر السابق، ص113). مما يعني، مهما كانت قداسة النص لا يمنع من مقاربتها بمناهج علمية حديثة، حينما اعتبر اشترط على الفقيه فهم تاريخ الحكم وفلسفة صدوره، وتاريخ الحكم يتطلب تقصي سياقاته التاريخية.

بينما القداسة في المفهوم المتداول، دوغمائية، وجمود على حرفية النص، تقتصر مهمة الباحث اتجاهها على الشرح والتبرير. فالمنهج النقدي بالنسبة للغرباوي منهج موضوعي يأخذ بالدليل والبرهان، ومناقشة الأفكار بعيداً عن قدسيتها، وطالما صرح الغرباوي أن العقل فوق النص. فكيف نفهم كلام صالح الطائي في الصفحة 13 من الكتاب: (وهذا لا يعني أننا نجتهد قبالة النص المقدس بقدر كوننا نريد لهذا النص أن يحافظ على قدسيته بعد أن تعرض للتشويش بسبب الآراء الجامدة والفهم الأسطوري التراثي)؟. شخصيا ومن خلال متابعتي لكتابات الغرباوي، لا يتفق مع هذا الكلام، كليا، رغم اتفاقهما حول قدسية النص، لكن كما تقدم يختلفان حول مفهوم القدسية، والغرباوي يذهب بعيدا، عندما يضع العقل فوق النص، ويظهر بنتائج مختلفة وفقا لما حدده من شروط استنباط الأحكام الشرعية، والتي بناها وفقا لمنطق الخلافة في مقابل منطق العبودية، والذي فصله كثيرا في كتاب الفقيه والعقل التراثي.

والنتيجة هل الغرباوي يجتهد قبال النص، الذي نفاه عنه الطائي؟. الاجابة ليست جاهزة، وصريحة، وتتطلب فهم منهج النقد واستنطاق الحقيقة عند الغرباوي، وقراءة كتاب الفقيه والعقل التراقي بإمعان وتدبر. فالنص عندما يفقد الموضوع فعليته، بناء على رأيه، ستنتفي فعلية الحكم الشرعي. فكم من حكم شرعي سيفقد فعليته وفقا لرأي الغرباوي؟ وهل هذا اجتهاد مقابل النص أم لا؟. الباحث أكد على نقطة مهمة. ان عدم فعلية الحكم لا تعني إلغاءه. وهي نقطة مهمة في نظري، لنفهم نحن أمام اجتهاد جديد، ورؤى عميقة تتطلب التاني والتأمل في قراءتها. فأتحفظ على التعميم في كلام الاستاذ صالح الطائي ليشمل رؤية الغرباوي حول قدسية النص للأسباب المتقدمة. لكن أيضا يجب التأكيد على موقفهما الموحد من النص المقدس.

لقد استطاع الغرباوي  التحرر من قبلياته وأحكامه المسبقة والتحرر من كل سلطة فوقية تتحكم بتفكيره، وهو يقارب النص الديني، وهو واضح للجميع، وهذا سر ما توصل له من نتائج خاصة على صعيد العقيدة، يشهد لذلك كتابه: "مدارات عقائدية ساخنة"، وكتابه "الفقيه والعقل التراثي"، وكتابه "مضمرات العقل الفقهي". حيث قارب قضايا تعد محرمة، واخترق مقولات على درجة عالية من القداسة، ليكشف لنا عن بشرية مجموعة مقدسات عقدية. بينما لا يمكن التحرر من النسق العقدي المتداول، ولا يمكن للباحث الإسلامي أن يخرج بذات النتائج. فالاختلاف في المنهج وزاوية النظر، وهذا يضع مسافة بين الرؤيتين.

المسألة ليست صوابا وخطأ بقدر ما هو اختلاف في المنهج والمتبنيات العقدية والفكرية. وعندما ينقد صالح الطائي آراء  ماجد الغرباوي وفقا لمتبنياته، فهو يعرض وجهة نظر مقابل وجهة نظر أخرى، ولا يصدق حينئذ مفهوم النقد. وهو حق مكفول له. النقد أن يشترط مناقشة الكاتب وفقا لمتبنياته، واثبات خطئها أو خطأ الاستنتاجات وفقها. وأما استعراض الأفكار فهو مقارنة بين رؤيتين حول موضوع واحد من زاويتين ومنهجين مختلفين. للأسف لم أجد في كتاب صالح الطائي أية مقاربة نقدية بهذه المواصفات؛ فأغلب الكتاب هي دفاعاً عن متبيناته العقدية والفكرية والإيمانية، وهذا حقه، ومقارنته بين فكرين.. إن ما يوجه عقيدة الغرباوي تمثل موقف الباحث المتأمل لمعرفة الحقيقية، بينما صالح الطائي ينبري لا شعورياً للدفاع عن عقيدته ومتبنياته فلا يصدق النقد، ويبقى محكوما لمنهجة وزاوية نظره.

ثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة وهي تتعلق بما ذكره صالح الطائي في كتابه (ص 16) من أنه تابع أحد المواضيع التي نشرها ماجد الغرباوي حول مفهوم النقد الثقافي في مشروع المفكر العراقي، فوجد أنه يبيح له ولغيره من الباحثين مهمة دراسة وتفكيك ونقد فكره؛ خاصة عندما رأى الغرباوي أن النص الديني ليس بريئاً، واتهمه بالمراوغة، وأنه يخفي أكثر مما يُظهر، ويضمر أكثر. كما استشهد صالح الطائي بمقطع من المقال: "القراءات التأويلية تطورت مستفيدة من التراكم الدلالي للنصوص خلال تفكيكها وفقاً لمنهج التفكيك الذي يحفر داخل طبقات النص ومخاتلاته في رحلة لاستكشاف أنساقه التي تتداخل تارة وتتعارض تارة أخري أو تتكامل وقد تشكل دوائر داخلية فنتنج معرفة جديدة حتي باتت المعرفة التأويلية واستنطاق النصوص أهم حينما تكشف مرجعياتها وطريقة أدائها داخل النص".

وأظن أن هذه حقيقة يعتقد بها الغرباوي، وبالضرورة ستشمل نصوصه.  وهي خاصية النصوص (ونحن خبراء بذلك تماما)؛ لكن ينبغي بيان نقطة مهمة وهي: أن تحيز الباحث لقبلياته تارة تحيز تفرضه قوانين المعرفة البشرية، وقوانين اللغة، وهذا لا جدال حوله، مادام يتوقف عليه ذات الفهم- (أقصد فهم النص)؛ أي نص كان يتوقف على قبليات المتلقي والقارئ. بل لولا هذه القبليات لا يمكن التفاهم بين بني البشر، فهذه قبليات تفرضه ضرورة الفهم.

وأما الانحياز المفروض أو الذي يقلب البحث إلى بحث أيديولوجي ممالئ، فهو الانحياز لقبلياته العقدية والفكرية التي يعتبرها نهائيات لا يطالها النقد والمراجعة؛ وقد ذكر ماجد الغرباوي في حواراته: "ثمة تأويل متاح شريطة أن يكون تأويلاً موضوعياً، غير متحيز، رغم استحالة عدم التحيز، وهي قضية مرتبطة بنظام اللغة، وكيفية إنتاج المعرفة، وكل إنسان يتأثر بقبلياته وثقافته. وما قصدته بالموضوعية هنا هو التأويل الناتج عن تدبّر وتأمل في أعماق النص، وتحري أنساقه وامتداداته ومضمراته، بعيداً عن أي اسقاطات عقدية أو فكرية. فيكون الفرق بين التأويل الموضوعي والأيديولوجي" (أنظر الحوار المفتوح للغرباوي الحلقة: 156).

وأنتقل إلي نقطة أخرى ذكرها صالح الطائي في كتابه (ص 19)، وهي أنه من خلال تفكيكه لمشروع ماجد الغرباوي أكتشف أن هذا المشروع يتحرش بالممنوع الحقيقي والأسطوري بشكل لا يصدق، ويقتحم الخطوط الحمراء دون سابق انذار، ولا تخشي لومة لائم، (خاصة) حينما يحمل سيفين واحد باليمين وآخر بالشمال، فيطلب من أهل السنة أن يعيدوا النظر بنظرية عدالة الصحابة، ويطلب من الشيعة كذلك أن يعيدوا النظر في عصمة الأئمة!

وهنا أقول عندما يمارس "ماجد الغرباوي" النقد على النص، فهو لا يتوقف عند حدود المقدس، بناء على مفهومه الذي تقدم بيانه، ويغور عميقا في أعمقه.. هو يدرس تاريخه ومبررات صدوره، وما يظهر ويخفي، وما هي مضمراته بالتحليل، والتفكيك، والحفر الإركيولوجي، والفهم الهرمنيوطيي.. ولا شك أنه عرف بكثرة استفزازاته للمتلقي؛ خاصة حينما يتوغل في أعماق المقولات العقدية، لاكتشاف بشريتها، مهما كانت مقدسة.. ولديه قناعة تامة ذكرها الغرباوي في موارد عدة من كتاباته وحواراته، بأنه :" لا تجديد ولا اصلاح ما لم نخرج من النسق العقدي المألوف، وذلك من خلال نقد مقولاته، وبيان بشريتها وحقيقتها ومدى قدسيتها".. وهذا أحد أسباب تخلفنا (كما يقول الغرباوي)، فهو يريد "النهوض حضارياً دون المساس بيقينياتنا ومقدساتنا، بينما ثمة تخلف خفي سببته تلك اليقينيات؛ فمثلا عدالة الصحابة عند السنة، وعصمة الائمة عند الشيعة كم أرهقت المسلمين ومازالت"، وحينما ينقد (الغرباوي) مقولاتهما فإنه يكتشف بشريتها، ومن ثم فإنه ( كثيراً ما يقول) بأنه "سيقوم بمراجعة شاملة لكل المقولات والآراء والأفكار والعقائد القائمة على هاتين المقدمتين. فالنقد العقائدي يوفر رؤية جديدة، تستمد شرعيتها من الأدلة والبراهين العقلية" ... وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

كلما سُئلت عن أهم كتاب قرأته حتى الآن تكون إجابتي كتاب "الفقيه والعقل التراثي" للأستاذ "ماجد الغرباوي". ثمة أسباب كثيرة تقف وراء تلك الإجابة. أو بالأحرى، وراء الحضور الدائم للكتاب في الذاكرة كأنه يتحين الفرص المناسبة للبزوغ أو الطفو على سطحها، إنه كتاب ضد النسيان، وبعيداً عن التفصيلات الشخصية، يمكننا تقصي عدة أسباب موضوعية تجعل من "الفقيه والعقل التراثي" واحداً من أهم الكتب "الفكرية" في العقود الأخيرة.

في هذا الكتاب طرح المؤلف اتجاه الخلافة / الإنسان في مقابل اتجاه العبودية، كإطار لفهم مغاير للدين ودور الإنسان في الحياة. يقوم على مركزية الإنسان ومصالحه، ويساهم في تجديد منهج استنباط الأحكام الشرعية. وتقديم رؤية كونية وفق أفق جديد لمفهوم الإله. كما قدم الكتاب تعريفا جديدا للسنُة النبوية وحدود حجيتها وفق ضابطة قرآنية، ودور الواقع في تشريع الأحكام. كما طرح المؤلف ماجد الغرباوي اتجاه التأصيل العقلي بديلا عن الاتجاهات المتداولة، والتي فشلت في تحقيق نقلة نوعية لفهم الدين، ودور التشريع. وأيضا طرح ما أسماه "مقاصد الجعل الشرعي" لتحديد ملاكات الأحكام والتعرف على مدى فعلية الأحكام الشرعية من خلال "مرتكزات مبادئ الحكم". وهو طرح غير مسبوق نظّر له الكاتب عبر منظومة مفاهيم جديدة، وإعاد النظر بمفاهيم النسق العقدي المألوف، فكانت نتائج البحث انقلابا في فهم الدين ومقاصد التشريع، ونظرة جديدة للإنسان ودوره في الحياة، وأثر الواقع في تحديد فعلية الأحكام. وقد أسس ماجد الغرباوي في كتابه الفقيه والعقل التراثي لمجموعة مفاهيم استدعتها فلسفة الدين وفقا لرؤيته الفكرية.

هذا الكتاب هو التجلي الأمثل للطريقة التي يمكن للفقيه من خلالها مواجهة العقل التراثي المستبد، وهو في نفس الوقت تحليل فذ للعلاقة بين الفكر والسياسة. وكتاب "الفقيه والعقل التراثي" هو درس في الاستقلالية، استقلالية المفكر وانحيازه للمعرفي على حساب الإيديولوجي وممارسته للفاعلية النقدية بلا توفيق أو تلفيق، أو تطويع الفاعلية في خدمة أي اتجاه من اتجاهات الخطاب الديني، سواء كان رسمياً أو معارضاً، يمينياً أو يسارياً، سلفياً أو تجديدياً.

وأسوأ قراءة ممكنة لكتاب "الفقيه والعقل التراثي"، ولمنجز "ماجد الغرباوي" عموماً، هي قراءته بوصفه " مانفيتسو"، نوع من القراءة الأيديولوجية المباشرة بهدف توظيفها في السجال المحتدم مع الخصوم الفكريين.

قد تشجع طبيعة الكتاب السجالية مقترنة بكتب أخرى لماجد الغرباوي، مثل تلك القراءة في هذا المقال، لكن تحويل الكتاب إلى "مانفيستو"، أو بيان، أو إنجيل شخصي، عملية لم يسع إليها ماجد الغرباوي بكل تأكيد. فالغرباوي هو الساعي إلى تحقيق وعي تاريخي بالعقل التراثي وتقديم نوع من القراءة العلمية للتراث دون اختزال أو تلفيق. تحليل ونقد الخطابين التنويري والديني، ودراسة الدينية في ضوء مستجدات الواقع المعاصر.

إن ما يعزز قيمة وأهمية كتاب " الفقيه والعقل التراثي"، هي الدراسة التي نشرت في الأيام الماضية للدكتور صالح عب حسن الطائي، وذلك في كتابه: "الإلهي والبشري والدين والتراث قراءة نقدية في مشروع ماجد الغرباوي" والذي صدر عن مؤسسة المثقف العربي، في سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة، في دمشق – سوريا.

تأتي أهمية القراءة التي قدمها الدكتور صالح الطائي لكتاب الإلهي والبشري والدين والتراث في مشروع ماجد الغرباوي في سعيها إلى احتلال مكانة خاصة، تميزها عن القراءات الحديثة الأخرى في الفكر العربي المعاصر، وذلك عبر اختزالها الإشكالية المطروحة ذات الصلة بنقد العقل الإسلامي. فمحور المشروع الغرباوي يتبنى العقل الإسلامي وكيفية تشكله، وهو يخترق كل المتن الغرباوية، ولا ينحصر في واحد من مؤلفاته كما يرى صالح الطائي (مع حفظ الألقاب) بهدف نقده، أي نقد ذلك الفهم الديني الجامد للنصوص الدينية التي لا تزال تسيطر على الفكر الإسلامي، والتي عادت اليوم بقوة لتشغل حيزاً مهماً من النقاش الفكري في الساحة العربية.

و"صالح الطائي" باحث وكاتب في الفكر الإسلامي ومقارنة الأديان، حيث نجد أن له في مجال تخصصه (57) كتاباً ورقياً مطبوعاً ومنشوراً، تولت طباعتها دور نشر عراقية وعربية، فضلا عن عدة كتب إلكترونية. ولديه مؤلفات مخطوطة.. اعتمدت بعض مؤلفاته مناهج مساعدة في الجامعات.. له اهتمامات أدبية ونقدية، وأصدر في المحور الأدبي عدة مؤلفات منها مجموعة شعرية.. له اهتمام في المناهج التربوية، وصدر له في هذا المجال كتاب إليك فقط just for you موجه إلى الشباب من الجنسين.. اشترك في العديد من المؤتمرات العلمية والتخصصية والفكرية والدينية داخل العراق وخارجه. ونشرت بحوثه ومقالاته في المجلات المحكمة والمجلات التخصصية والمجلات والصحف الورقية والمواقع الإلكترونية داخل العراق وخارجه. وله آلاف المقالات الدينية والتربوية والسياسية المنشورة في الصحف والمجلات العراقية والعربية والمواقع الإلكترونية.. كتبت عن تجربته البحثية والأدبية عدة دراسات تخصصية، منها: البحث الموسوم “صالح الطائي وآثاره في الفكر الإسلامي” مشروع تخرج الباحث سجاد ماجد، وإشراف الدكتور فوزي خيري التدريسي في كلية الإمام الكاظم الجامعة/ أقسام واسط، ونشر بتاريخ 1 نيسان/ 2018 في الجزء الثاني من العدد التاسع والعشرين من مجلة لارك للفلسفة واللسانيات والعلوم الاجتماعية المحكمة، التي تصدرها كلية الآداب في جامعة واسط. والبحث الموسوم “دراسة سوسيولوجية في مجموعة نوبات شعرية للدكتور صالح الطائي” للدكتور رسول بلاوي التدريسي في جامعة خليج فارس/ بوشهر/ إيران، ونشرت الدراسة في مجلة لارك للفلسفة واللسانيات والعلوم الاجتماعية ـ العدد الثاني والثلاثون / الجزء الأول ـ 28 تشرين الثاني 2018. ورسالة ماجستير للطالب جمال غافلي مقدمة لجامعة إيلام في إيران، ورسالة ماجستير للطالبة مينا غانمي مقدمة إلى جامعة خليج فارس في الأهواز ـ إيران.. حاز الكثير من الجوائز الدولية، وكرم من قبل جامعات ومؤسسات ووزارات وهيئات داخل العراق وخارجه.. ترجمت الكثير من دراساته ومقالاته إلى اللغات الأخرى مثل اللغة الإنجليزية، والفرنسية، والصينية، والفارسية.. ناشط في تحليل وحل النزاعات، واشترك في المؤتمر الذي نظمه معهد السلام الدولي الأمريكي في إسطنبول.

و"صالح الطائي" من الباحثين الإسلاميين الذين انطلقوا، من الإسلام؛ وخصوصاً المذهب الشيعي في رؤيته الكونية، وتفسيره للتاريخ والظواهر الاجتماعية. يدعو للوحدة والتسامح الشكلي، يدافع عن العقائد الشيعية كالعصمة والامامة والمهدي. ينتقد مواقف وسلوك الخط المعادي لأهل البيت، وكل من سلبهم حقهم في الخلافة..  تعرض للسجن في زمن صدام حسين بسبب تدينه كما تقرأ في أرشيفه. وتم اختطافه من قبل المليشيات المسلحة.. لا أدري إذا أي مليشيات في توجهها، هل سنية أم شيعية. ونجى من الموت بأعجوبة. وعيه جيد جداً.. توجد مقالات كثيرة في ارشيفه بإمكان معرفة توجهه الفكري.

94 salehaltaie600

ويعد كتاب (الإلهي والبشري والدين التراثي.. رؤية نقدية في مشروع ماجد الغرباوي) لمؤلفه: "صالح الطائي" من أهم وأشهر الكتب المعاصرة في مجال نقد نقد العقل المستنير من وجهة نظر باحث  معروف بانتمائه الإسلامي، وذلك لأهمية موضوع الكتاب وجدته من جهة، وسعة اطلاع باحثه على الفكر والعلوم الإنسانية والقضايا المعاصرة من جهة أخري.

يقع الكتاب في 254 صفحة، حجم كبير، بغلاف جميل معبّر من تصميم دار أمل، وقد اشتمل على مقدمة وهي ست مباحث، هي: محاولة فتح الأبواب، جزئيات مشروع الغرباوي الإصلاحي، صفحات مشروع ساخن، التعميم والوعي التراث، مراجعة ثوابت الدين، خواتيم الكلام.

يلخص "صالح الطائي" مشروعه في هذا الكتاب، قائلا: نقف اليوم أمام شخص رسم لنفسه منهجاً نقدياً إصلاحياً، تبنى فيه نقد الفكر الديني تحت شعار الإصلاح الجريء؛ بعد أن درس الدين وأصوله وفروعه ومناهجه على مدى أكثر من ثلاثة عقود، وكوَّن رؤية أصيلة عما يريد التحدث عنه، إنه الباحث والمفكر العراقي المقيم في أستراليا الأستاذ ماجد الغرباوي، الذي سنتولى نقد تجربته بعلمية وحياد.

والمؤلف لم ير ضيراً في ذلك طالما أن العالم بدأ يتقبل النقد بفعل التغيرات التي طرأت على الحياة، بما فيها العقائد والسلوكيات، فالمجتمعات كما يرى الطائي لم تعد كما كانت عليه من قبل، وقد انفتح الإنسان المعاصر على واقع جديد فيه الكثير من الغرابة، فلغاية عشرين عاماً قبل هذا التاريخ كان المجتمع العراقي على سبيل المثال ينبذ الشاذ جنسياً ويحتقره، والشاذ نفسه كان يغطي على سوء فعله، ولا يظهره للعلن أو يتفاخر به، أما المجتمع فكان يستقذر هذا العمل ويعده منقصة في السلوك والتهذيب والأخلاق.

ثم يؤكد "صالح الطائي" بأن وصول التبدل إلى هذه المرحلة، يعنى أن على الجميع الإصغاء للجميع، وعدم الاستهانة بأي طرح يدخل في باب النقد، سواء كان تحت مسمى الإصلاح أو تحت أي مسمي آخر، فالمهم أن لا تكون هناك قطيعة حتى مع وجود التقاطع بالأفكار، ولا أظن أننا سنتقاطع في الأفكار، فما طرحه ماجد الغرباوي من أفكار جاء منسجماً مع منهجه ومتبنياته الفكرية، التي أشار لها في أكثر من موضع، لكنه تحدث عن منهجه في كتاب الفقيه والعقل التراثي كثيراً، لا سيما موضوع التأصيل العقلي أو المنهج في تصحيح الروايات وتبني الفهم بدلا من التفسير في فهم النص الديني، وتوظيف الفلسفة ومعطيات العلوم الإنسانية الحديثة كالتفكيك، والإركيولوجيا، والأنثربولوجيا، وعلم النفس، والهرمنيوطيقا.

وفائدة هذه الملاحظة كما يري صالح الطائي هي لمعرفة أسباب اختلاف وجهات نظرينا حول المسألة الواحدة، رغم انتماء كلينا. هو وأنا. للفكر الإسلامي أو الديني العقلاني، فإن مناهج العلوم الدينية المتعارف لم تعد تشبع فضولنا المعرفي، للبحث عن الحقيقة وتقديم فهم جديد للدين، لا يصادر العقل ويساعد على تعزيز قيم الفضيلة.. لكن الاختلاف في المنهج يفضي إلى اختلاف الآراء والاختلاف لا يعني التهور أو التعميم غير المحسوب وهدم القداسة، أو الاعراض عن الدين. لكن طبيعة هذه العلوم منفتحة لا تقف عند أفق محدد، ولذا تثير بعض الحساسيات لدى التقليديين عادة. ونأمل كلينا، أنا لكوني باحث في الفكر الإسلامي، ولي أكثر من خمسن كتاباً في هذا التخصص، والأستاذ ماجد الغرباوي الذي يمتلك الأدوات اللازمة للبحث العلمي والتأمل الفلسفي بحكم دراسته، ومارسته الطويلة في هذا الاختصاص.

وبعد أن فرغ "صالح الطائي" من مقدمته للكتاب نراه في بداية الفصل المبحث الأول والذي عنوانه " محاولة فتح الأبواب، يعلن عن موقفه النقدي من مشروع ماجد الغرباوي فيقول: كنت قد عرفت الأستاذ ماجد الغرباوي منذ أقل من عقدين من الزمان، ولطالما تابعت طروحاته وآرائه ورؤاه التي تناول من خلالها نقد الفكر الديني، لأن موضوع الفكر الديني ونقده يشغلني بالذات، وهو من أكبر اهتماماتي البحثية، أمارسه من خلال مؤلفاتي، فاتفقت مع بعض ما تحدث عنه، وسكت عن بعضه، واعترضت بشدة على بعضه، وتغافلت عن بعضه، وكل ذلك لم يخدش علاقتي الأخوية به، وقد حاولت الكتابة عن هذا الموضوع، وهذا الاتجاه في البحث والأسلوب في العمل أكثر من مرة، وفي كل مرة كان هناك عارض طارئ يعرقل مشروعي، لكن لما تجمعت لدي أغلب مؤلفات الغرباوي، فضلاً عن مسلسل الحوار الطويل المفتوح معه على صحيفة المثقف، وجدت الفرصة سانحة لأمارس (نقد النقد) على ما بين يدي من عصارة فكره وأصول منهجه، طالما أنه منهج مثير للاهتمام والجدل.

ثم يؤكد "صالح الطائي" أن منهج نقد النقد الذي سيتبعه في تقييم مشروع ماجد الغرباوي يعتمد على مراجعة بعدية، وتحول معرفي لمفهوم قديم جعل من النقد نفسه موضوعاً للتفكير والتحليل، والتفكير، والمراجعة، أي جعله موضوعاً للنقد هو الآخر النقد. وهو يتقاطع في مباحثه مع جملة من السياقات المتصلة بالبحث في ميدان الإبداع بصورة عامة، مثل النظرية والتنظير النقدي. هدفه مراجعة القول النقدي ذاته، وفحصه...

وللحديث بقية...

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

صدر عن مؤسسة المثقف العربي، في سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة، في دمشق – سوريا، كتاب جديد للدكتور صالح الطائي، بعنوان:

الإلهي والبشري والدين التراثي

رؤية نقدية في مشروع ماجد الغرباوي

يقع الكتاب في 254 صفحة، حجم كبير، بغلاف جميل معبّر من تصميم دار أمل، وقد اشتمل على مقدمة و(6) مباحث،هي: محاولة فتح الأبواب، جزئيات مشروع الغرباوي الإصلاحي، صفحات مشروع ساخن، التعميم والوعي التراث، مراجعة ثوابت الدين، خواتيم الكلام.

يلخص المؤلف مشروعه في هذا الكتاب، قائلا:

نقف اليوم أمام شخص رسم لنفسه منهجاً نقدياً إصلاحياً، تبنى فيه نقد الفكر الديني تحت شعار الإصلاح الجريء؛ بعد أن درس الدين وأصوله وفروعه ومناهجه على مدى أكثر من ثلاثة عقود، وكوَّن رؤية أصيلة عما يريد التحدث عنه، إنه الباحث والمفكر العراقي المقيم في أستراليا الأستاذ ماجد الغرباوي، الذي سنتولى نقد تجربته بعلمية وحياد.

 

ويضيف: ولا أظن أننا سنتقاطع في الأفكار، فما طرحه ماجد الغرباوي من افكار جاء منسجما مع منهجه ومتبنياته الفكرية والعقدية، التي أشار لها في أكثر من موضع، لكنه تحدث عن منهجه في كتاب الفقيه والعقل التراثي كثيرا، ولاسيما موضوع التأصيل العقلي. أو المنهج في تصحيح الروايات وتبني الفهم بدلا من التفسير في فهم النص الديني، وتوظيف الفلسفة ومعطيات العلوم الإنسانية الحديثة كالتفكيك، الإركيولوجيا، الأنثربولويجا، السيسيولويجا، وعلم النفس، والأهم الهرمنيوطيقيا، 

وفائدة هذه الملاحظة هي لمعرفة اسباب اختلاف وجهات نظرينا حول المسألة الواحدة، رغم انتماء كلينا ـ هو وأنا ـ للفكر الاسلامي أو الديني العقلائي، فإن مناهج العلوم الدينية المتعارف لم تعد تشبع فضولنا المعرفي، للبحث عن الحقيقة وتقديم فهم جديد للدين، لا يصادر العقل ويساعد على تعزيز قيم الفضيلة. 

الكتاب سيتوفر في دار أمل الجديدة، وجميع المعارض والمكتبات التي تتعامل معها.

في الختام نبارك للأستاذ الدكتور صالح الطائي صدور كتابه الجديد، نتمنى له دوام العافية والعطاء، وألف مبروك.

 

مؤسسة المثقف – قسم الكتاب

11 – 2 – 2021م

 

لا شك أن المفكر العراقي الأستاذ ماجد الغرباوي، شكل ظاهرة مثيرة للجدل على مر السنوات الماضية، فلطالما فاجأ الجمهور (عامته وخاصته) بتأويلاته للعقل الفقهي الإسلامي تختلف بشكل كبير، وربما تناقض تلك السائدة، والمتعارف عليها، (كتأويله الحاجة إلى الفقيه، تداعيات تفاقم الفتوى، قداسة الفقيه، فهم النص الديني، نقد العقل الفقهي، مقدمات الاجتهاد، الفقيه ومضمرات الوعي، المسكوت عنه، الإمامة الدينية، التعارض بين العقل والنقل، العقل وملاكات الأحكام، شمول الشريعة، الفقيه واحتكار التفسير، وغير ذلك)، ورغم ما عُرف عن ماجد الغرباوي (مع حفظ الألقاب) من مواقف رآها البعض ثورية كموقفه من حرية المرأة، والحجاب، إلا أنه غالبا ما يُصنف كمفكر مجدد من خارج المؤسسة الفقهية (أي حداثياً من خارجها)، وكذلك هناك من يراه أيضاً (مثل كاتب هذا المقال) بأنه مجدد في الفكر الديني، يسعي من خلال مشروعه التجديدي إلي ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، وذلك من خلال قراءة متجددة للنص تقوم على النقد والمراجعة المستمرة، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، وفي إطار مجتمع مدني خال من العنف والتنابذ والاحتراب.

والسؤال الآن الذي أود أن أطرحه: تُرى كيف تنبأ ماجد الغرباوي لتأويلات لم تخطر على بال أحد غيره تقريبا للعقل الفقهي ؟.. هل نحن أمام مفكر حداثي؟ .. أم مجدد؟ .. وكيف يمكن فهم موقفه من تأويل مضمرات العقل الفقهي في تراثنا العربي- الإسلامي في ظل مواقفه المتقدمة في كثير من القضايا الفقهية؟ .. وكيف يمكن قراءة كتابه الأخير "مضمرات العقل الفقهي"، من خلال توجهات الغرباوي نفسه التي نقرأها له صباحاً ومساءً من خلال صحيفة المثقف الزاهرة؟

وسأرجئ الإجابة على تلك الأسئلة لنهاية المقال، وأكتفي هنا في هذا المقال بالإجابة على السؤال الأخير؛ فأقول : لقد كتب كثير من المفكرين العرب عن أزمة العقل العربي، معتبرين أنه عقل قديم، وغير متفاعل مع العصر، ولا ينتج المعرفة، رغم استهلاكه وتعاطيه لمنتجاتها وإنجازاتها، وقد ظل العقل العربي منذ أفول الحضارة العربية الإسلامية، خاضعاً لسلطة التراث، وربما الأصح أن نقول لسلطة تراث بدون ألف ولام التعريف، فتراثنا الفكري والديني فيه المستنير، كما فيه الظلامي، المارد المتحرك وكذلك الجامد الثابت .. أخذنا من التراث كل ما يصلح لتثبيت وتمكين حالة التخلف، واستبعدنا كل ما من شأنه التأسيس لحالة نهضة .. ما الذي جعل العقل العربي سجين الماضي؟ .. غير تواق للحرية والانعتاق؟ .. بل قانم بقيوده؟ .. ومدافع شرس عن تلك القيود؟ .. ما الذي يمنع العقل العربي من التفكير والتفكر ويكتفي بالنقل والحفظ؟ .. هل الأموات يحكمون الأحياء في مجتمعاتنا؟.. لماذا ما زلنا ننتمي عقليا وفكريا ونحكم من المقابر؟.. ما السبيل لعقل عربي مفكر؟.

هذه الأسئلة وغيرها نناقشها من خلال هذا الكتاب الذي بين أيدينا، وهو كتاب "مضمرات العقل الفقهي" لماجد الغرباوي، حيث يعد هذا الكتاب امتداداً للحركة العلمية المعاصرة التي يشهدها علم مقاصد الشريعة، والمقاصد هي مجموعة من الغايات الإلهية والمفاهيم الخلقية التي يقوم عليها التشريع الإسلامي، مثل مبادئ العدل، وكرامة الإنسان، والإرادة الحرة والمروءة، والعفاف، والتيسير على الناس، والتعاون الاجتماعي . فمثل هذه المفاهيم والغايات تشكل جسراً بين التشريع الإسلامي والمفاهيم السائدة اليوم عن حقوق الإنسان، والتنمية، والعدالة الاجتماعية.

وقد كانت مقاصد الشريعة تمثل الحركة التي قادها ورفع لواءها من قبل عدد من رواد الإصلاح والنهضة في عصرنا الحاضر، مثل الإمام محمد عبده،، ثم محمد الطاهر بن عاشور، وعلال الفاسي، وغيرهم من قادة الإصلاح في مشرق العالم الإسلامي ومغربه؛ إذ كانت العناية بمقاصد الشريعة من أبرز مقومات ومرتكزات دعوتهم الإصلاحية . وقد كان الأثر الأكبر في تتابع الكثير من الدراسات والأبحاث العلمية المعاصرة في علم مقاصد الشريعة، وهي التي آذنت بدخول هذا العلم حقبة جديدة، يمكن أن نطلق عليها حقبة "الإحياء والتميز" .

أما الإحياء؛ فلأنه قد مضى على علم المقاصد حين من الدهر توقفت فيه حركة العطاء والبحث؛ فبعد كتاب أبي إسحاق الشاطبي الموافقات، مرت على علم المقاصد حقبة طويلة من الزمان ساد فيها الركود والتراجع، وتعطلت عملية الاجتهاد والبحث، وقد امتدت هذه الحقبة ما يقارب ستة قرون!.. وأما التميز؛ فلأن مقاصد الشريعة قد أصبحت اليوم علماً قائماً بذاته، له مقو ماته وخصائصه الذاتية التي يستقل بها عن بقية علوم الشريعة الأخرى، كأصول الفقه، والفقه، والتفسير، والعقيدة، بعد أن كان هذا العلم منثورا في مضامين، ومفردات غيره من علوم الشريعة الأخرى.

ولعل غياب الفكر المقاصدي عن مجالات: التعليم، والتصنيف، والبحث، والتوعية، والدعوة، والاجتهاد، كان من أبرز أسباب تردي أحوال الأمة وتراجعها، ووصولها إلى ما صارت إليه اليوم، من عجز عن أن تنهض بمسؤوليتها الحضارية التي أناطها الله بها في الشهود على الناس وقيادة الأمم نحو الخير والعدل والحرية . واليوم تتابع الدراسات العلمية المقاصدية مبشرة بنهضة مقاصدية معاصرة، تشكل بمجموعها ركيزة أساسية من ركائز مشروع نهضة الأمة، واستئناف دورها، وإصلاح أحوالها، عن طريق إبراز القيم العليا التي يجدر بجميع المخلصين من أبناء الأمة العمل على تفعيلها، والجهاد في سبيل تحقيقها وإقامتها.

وتأتي هذه الدراسة التي قدمها الأستاذ ماجد الغرباوي عن " مضمرات العقل الفقهي"، حلقة في سلسلة هذه الحركة المباركة، ومواصلة للجهود الفكرية الأصيلة التي يقدمها المخلصون من أبناء الأمة؛ لإظهار ريادة الإسلام في تحقيق مصالح الإنسان، وسبقه في إرساء القيم الإنسانية التي تمثل أعظم مقاصد الشارع وأهم أهداف التشريع، حيث جاء الكتاب مكملا للكتاب السابق (الفقيه والعقل التراثي)؛ حيث يحفر داخل البنية المعرفية للفقيه وما تشتمل على مضمرات عقدية تساق كمسلمات ينحاز لها الفقيه لا شعوريا في فتواه ومواقفه.

90 majedalgharbawi 600

يقع الكتاب في 236 صفحة من الحجم الكبير، وقد زينت لوحة الفنان التشكيلي الكبير ا. د. مصدق الحبيب الجميلة غلاف الكتاب.

وقد جاء الكتاب كما يقول الغرباوي في سياق الكتاب السابق: الفقيه والعقل التراثي، لمواصلة نقد بنية العقل الفقهي ودور النسق العقدي والاتجاه الأيديولوجي للفقيه في انحياز الفتوى، والموقف السياسي، وتكريس قيم العبودية والانقياد. فثمة مضمرات خطيرة تتوارى في ظل مفهوم الاجتهاد الذي يعني منهجا علميا في استنباط الأحكام الشرعية، غير أن الكلام حول يقينياته التي يستند لها في استنباط الأحكام، فثمة نهائيات هي ليست كذلك، وهناك بداهات لا يصدق عليها عنوانها.

لذا تناول الكتاب مجموعة قضايا أخرى قاربها الكاتب ضمن الحوار المفتوح، منها: الحاجة إلى الفقيه، تداعيات تفاقم الفتوى، قداسة الفقيه، فهم النص الديني، نقد العقل الفقهي، مقدمات الاجتهاد، الفقيه ومضمرات الوعي، المسكوت عنه، الإمامة الدينية، التعارض بين العقل والنقل، العقل وملاكات الأحكام، شمول الشريعة، الفقيه واحتكار التفسير، وغير ذلك.

من هنا جاءت الأجوبة في هذه الموسوعة الحوارية (متاهات الحقيقة)، تقارع حصون الكهنوت وتحطّم أسيجة تراثية تستغرق الذاكرة، وتطرح أسئلة واستفهامات استفزازية جريئة.. بحثا عن أسباب التخلف، وشروط النهوض، ودور الدين والإنسان في الحياة. فتوغّلت عميقا في بنية الوعي ومقولات العقل الجمعي، واستدعت المهمّش والمستبعد من النصوص والروايات، وكثّفت النقد والمساءلة، وتفكيك المألوف، ورصد المتداول، واستنطقت دلالات الخطاب الديني، بعد تجاوز مسَلَّماته ويقينياته، وسعت إلى تقديم رؤية مغايرة لدور الإنسان في الحياة، في ضوء فهم مختلف للدين، وهدف الخلق. فهناك تواطؤ على هدر الحقيقة لصالح أهداف أيديولوجيات – طائفية. ومذهبية - سياسية.

ويستهل المؤلف الكتاب بالحديث عن الفقيه والفتوي، حيث رأى أنه بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم انتهى عصر التشريع واكتمل الدين، ثم غدا كتاب الله وسيرة نبيه مرجعية لمعرفة الأحكام الشرعية، تخللتها بشكل تدريجي بعض الآراء الاجتهادية، ثم يؤكد المؤلف بعد ذلك إلى أنه مع تجدد الحاجة للفتوي بناء على مرونة الشريعة وقدرتها على تلبية الحاجات الفعلية للفرد والمجتمع، بدأت مرحلة الاجتهاد، واستنباط الأحكام الشرعية؛ ففتاوى الفقهاء وجهات نظر اجتهادية، ليست ملزمة باستثناء من ألزم نفسه بها (المقلد)، وبالتالي الفقيه في نظر المؤلف لن يكون له دور واحد، ألا وهو تبليغ رسالات السماء، وبيان الأحكام للناس، وتعليمهم من الحكمة ما لا يعلمون؛ وأما في مجال التشريع في نظر المؤلف، فالواقع متجدد، ومتغير، وملاكات الأحكام واضحة بينة ومقاصد الشريعة يمكن إدراكها .

ومن هذا المنطلق وجدنا المؤلف يتوجه لاستخدام منهج الحفر الأركيولوجي عند ميشيل فوكو داخل الينية المعرفية للفقيه وما تشتمل على مضمرات عقدية تساق كمسلمات ينحاز لها الفقيه لا شعوريا في فتواه ومواقفه؛ فوجدنا المؤلف يحفر في هذا الكتاب لمناقشة قضايا كثيرة مثل : تداعيات تفاقم الفتوي (12-14)، وقداسة الفقيه (15-18)، وفهم النص الديني (19-20)، ونقد العقل الفقهي (21- 22)، ومقدمات الاجتهاد ( 23-25)، والفقيه ومضمرات الوعي (26-33)، وإفرازات البعثة (34-35)، وحديث الغدير وملابسات الصدور ( 36- 39)، وحديث الغدير (40-58)، وآية التبليغ ( 59- 68)، ومعنى المولى ( 69- 74)، ودلالات الإمامة ( 75- 94)، والدولة بين ضرورتين ( 95- 123)، والصحابة والبيعة ( 140- 157)، والمنطق القبلي للحاكم (158-167)، والإمامة ولاية الفقيه (168-179)، والعترة والرسالة ( 180-193)، ومرجعية الإمام (194-197)، والتعارض بين العقل والنقل (198-200)، والعقل وملاكات الأحكام (201-204)، وشمول الشريعة (205-209)، والخلافة والاستخلاف (210-214)، والفقيه واحتكار التفسير ( 215-219)، والمنجز البشري (220-223)، والرق ومبررات التشريع ( 224-230)، وخطابات التبرير (231-232).

ومن خلال تلك القضايا المتشبعة التي ناقشها الأستاذ الغرباوي، يمكن أن نستنبط بعض النتائج التالية :

1- إن الدين نفسه في نظر الغرباوي لا يتجمّد، لكن الذى يتجمد هو عقول فسرت النصوص القرآنية والنبوية الواضحة والمباشرة، بأيديولوجيات عقيمة تجمدت معها المنظومة العقائدية والتشريعية فى كهنوت بشرى يتخفى فى ثوب إلهى.

2-لقد كان التأويل – والتأويل النقدي تحديداً – هو منهج الأستاذ الغرباوي في هذا الكتاب، ولكنه لم يكن تأويلا خالصاً، ولكنه كان تأويلاً خاصاً اصطنعه الغرباوي لنفسه وسار به – فيما بعد- في معظم كتاباته، إنه التأويل المفتوح على المناهج الأخري، الذي يستطيع أن يستخدم أي منهج في أي موضع من أجل خدمة أغراض الغرباوي البحثية؛ وبهذا المعنى يمكننا أن نقول أن التأويل عند الغرباوي هو منهجه الأوحد، إذا فهمناه على أنه القدرة على التلاعب الحر بالمناهج.

3- لقد كشف لنا الغرباوي على أننا لا نستطيع أن نبنى بناء جديداً على بناء قديم، وبالتالي فلا بد قبل الشروع فى تكوين وبناء خطاب دينى جديد، أن نقوم أولاً بعملية تفكيك علمى للخطاب الدينى القديم الذى أوصل أمتنا إلى ما وصلت إليه من خلل فى التصورات والرؤى الحاكمة، ليس للوجود والعالم فقط، وإنما للواقع المعيش وحركة التاريخ ومنطق التقدم.

4- إن التفكيك الذى يحتاجه الخطاب الدينى في نظر الغرباوي كما ظهر لنا في هذا الكتاب، ليس تفكيكاً يتنكّر لكل «مركز» مثل التفكيك الجذرى فى مرحلة «ما بعد الحداثة»، وإنما هو تفكيك يريد العودة للمراكز الأولى للعلم والفكر والدين، وبهذه العودة سوف يتم الالتقاء مباشرة مع الدين الأول الخالص فى نقائه وخصوبته الأولى.

5- إن الغرباوي في هذا الكتاب لم يدخر وسعاً في الإسراف في القول بأن الفقيه إذا أراد أن يساير مستجدات واقعنا المعاصر، فعليه التخلص من كل التأويلات المغرضة والجهولة بطبيعة النص، والتى حوّلت القرآن عن معناه الأصلى إلى أداة سياسية أحياناً وإلى غطاء للأساطير أحياناً أخرى، وهذه التأويلات -سواء كانت مغرضة أو جهولة- فى «بعض» كتب التفسير الذائعة تجدها مستندة إلى إسرائيليات ومرويات موضوعة أو ضعيفة.

6- إن مضمرات العقل الفقهي عند الغرباوي كشف لنا بما لا يدع مجالا للشك أن أغلب الفقهاء في تعاملهم مع النص يعطون له معانى لا تعكس مقاصده، ولا تبالى بسياق آياته، ولا تفسر الكتاب بالكتاب، ولا تراعى قواعد اللغة والأساليب العلمية لفهمها واستنباط الأحكام منها. إنهم يختزلون النص فى مجموعة من آياته معزولة عن مجموع النص، ويأخذون حرفياً بالحدود والغنائم، عازلين السياق التاريخى والثقافى، ضاربين بالمقاصد العامة للنص عرض الحائط.

7- لقد كشف لنا كتاب مضمرات العقل الفقهي عند الغرباوي أنه ينطلق من مشكاة واحدة من نفس المشكاة التي انطلق من خلالها الدكتور محمد عثمان الخشت في كتابه "نحو تأسيس خطاب ديني جديد"، فكلاهما يسعيان إلى تجاوز “عصر الجمود الديني” الذي طال أكثر من اللازم في تاريخ أمتنا العربية، من أجل تأسيس عصر ديني جديد، وتكوين خطاب ديني من نوع مختلف.

8- أجمل ما في كتاب مضمرات العقل الفقهي عند الغرباوي هو الدعوة إلي العودة إلى “الإسلام النقي المنسي”، لا الإسلام الذي نعيشه اليوم بسبب الجماعات الارهابية ومجتمعات التخلف الحضاري، وبالتالي فإن المشكلة في نظر الغرباوي ليست في الإسلام، بل في عقول المسلمين وحالة الجمود الفقهي والفكري التي يعيشون فيها منذ أكثر من سبعة قرون.

9- إن أهمية محاولة الغرباوي في كتابه مضمرات العقل الفقهي؛ هو كونه يمثل نقلة نوعية في الدراسات العربية حول الدين ومقاصده، ولا تنبع أهمية هذا الكتاب من كونه يمثل فتحاً جديداً للدراسات في هذا المجال المعرفي المهم الذي تندر فيه الكتابات العربية؛ بقدر ما تتمثل في الأساس العقلاني المتين الذي اعتبره الغرباوي أساساً يمكن إقامة هذا الصرح، أعني الدين عليه.

10-إن كتاب مضمرات العقل الفقهي كشف لنا على أن الأستاذ الغرباوي هو واحد من مفكري العربية القلائل الذين تعاملوا مع التراث الفقهي بروح تجديدية متفتحة، وهو من الفلاسفة الذين لا يثيرون الجدل بكتاباتهم بقدر ما يثيرون الإعجاب ويدفعون إلى التأمل . للغرباوي شخصية أريحية متصالحة مع نفسها ومع الآخرين ومع العالم.

وحتى لا يطول بنا السرد في إبراز النتائج، إلا أنني في نهاية هذا المقال لا أملك إلا أن أعود لأجيب بنفسي وباختصار عن تلك الأسئلة التي أرجأتها في بداية هذا المقال؛ فأعود هنا فأقول : لقد كان للغرباوي مواقفه الفكرية والعقدية الواضحة التي تمثل سنداً قوياً استند إليه في تحليل مختلف الآراء والأفكار الدينية والفلسفية والسياسية التي انتهجها .. لقد أراد الأستاذ الغرباوي فلسفة بنكهة تنويرية تقوم على القضاء على الاستبداد في الحكم، والقضاء على الاستبداد في الرأي، مع الاستناد إلى مراعاة الظروف والمتغيرات التي طرأت على عصرنا والقضايا وثيقة الصلة بالعصر، والتي تعد من المستحدثات التي طرأت على الساحة الفقهية، وفي حاجة إلى ردود شافية تمنع الناس من التخبط، كل ذلك في إطار التمسك بأصول الإيمان، وهي تلك الدعوة الفقهية التي اصطدمت بما هو عليه واقع المسلمين من : ضعف الأخلاق وانتشار الرذيلة، والاختلاف، والشقاق بينهم، والتخلي عن مبادئ الإسلام الخالصة بالنظر الفكري والأخذ بأسباب العلم أياً كان مصدره النافع، كذلك اصطدمت بما عليه المسلمين من أمراض نفسية تتمثل في اليأس والجبن والتواكل وغيرها من الصفات الذميمة والمنهي عنها في الإسلام.

لقد كان الأستاذ الغرباوي في كل دراساته يحاول – موفقاً-نقدها على أسس عقلية امتدحها القرآن والسنة النبوية؛ إذ ما تزال مسألة العقل والتنظير العقلي من أهم المبادئ التي يستند إليها الإسلام في حواره مع الأديان الأخري، ونحن نستطيع بسهولة اكتشاف علاقة واضحة بين النقل والفلسفة على كافة مستوياتها العقدية منها الميتافيزيقية والسياسية.

وفي نهاية هذا المقال أقول مع الدكتور صالح الرزوق بأن الأستاذ الغرباوي هو بحق يمثل : نموذج للمفكر الموضوعي الذي لا يخرج على دائرة وعيه بأهمية الروح. فهو يحاول بكل ما أوتي من عزم أن يتحرى حقائق الذهن البشري وطرق الاستجابة للواقع، وبشرط لا يحيد عنه وهو أن يكون داخل شبكة العلاقات الإسلامية. ويمكن أن تقول إنه ليس باحثا في المعرفة وفي أصول التشريعات التي تتحكم بسلوك الإنسان، وبالمسموح له أو بنطاق الحريات الوجودية المتاحة كالحال عند عابد الجابري. ولا هو أيضا باحث لا ديني يتابع مشكلة المعرفة بالانطلاق من وظائفها أو أساليب عملها كشأن طيب تيزيني. وإنما يحمل هم العقيدة نفسها.

فتحية طيبة للأستاذ ماجد الغرباوي الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر المبدع الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

..........

1- ماجد الغرباوي: مضمرات العقل الفقهي، مؤسسة المثقف ودار أمل الجديدة، 2020.

2-الكيلاني، عبدالرحمن إبراهيم زيد: قراءة في كتاب مصالح الإنسان : مقاربة مقاصدية، تأليف عبدالنور بر، إسلامية المعرفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي - مكتب الأردن، المجلد 14، العدد 55، 2009.

3- د. صالح الرزوق: موت الحقيقة.. الإسلام والتأسلم في فكر ماجد الغرباوي.. مقال منشور بصحيفة المثقف، على الرابط أدناه .

https://www.almothaqaf.com/a/tanweer/952065

 

 

لا أعتقد أن الأستاذ ماجد الغرباوي باحث في الدين ولكنه مفكر إسلامي. وهناك فرق واسع بين الدروس والعظات الدينية وبين تحليل أساليب واتجاهات المعرفة. وهذا لا يعني أنه مفكر محايد. فأي إنسان مرتهن لمعتقدات معرفية جاهزة وهي على أنواع.

جزء منها ينتقل بالتلقين وأساليب التربية والبيئة أو كل ما يعرف عادة باسم القانون والسلطة. وغالبا ما يأخذ شكل رهاب يفرض نفسه على الوعي. ولهذا المستوى من المعتقدات عدة أسماء اقترحها الغرباوي خلال محطات مشواره الطويل مع تحليل النص ومنها: الأنساق الثقافية المضمرة، قبليات الكاتب، مخزونه الثقافي اللاواعي وسوى ذلك. وكما قال في مستهل كتابه “مضمرات العقل الفقهي” هي المسؤولة بشكل مباشر عن انحياز التشريعات والأحكام. ويعزو لها كل أشكال النشاط السلبي في الاجتهاد والقضاء (مضمرات العقل / ص 6). بالإضافة لعدم التفريق بين البشري والإلهي (مضمرات العقل / ص 6 أيضا).

وما تبقى يتشكل بالاختيار والإرادة الذاتية. ويعبر بنفس الوقت عن متطلبات الوعي الباطن والرواسب التي تعمل فيه بتوجيه مباشر من صراع الرغبات والضرورة. وإذا كنت أفضل أن أسمي هذا الجانب بـ “الإدراك”، يسميه الغرباوي “ثقافة الفرد”. ويرى أنه تعبير عن نزاع بين الحياة وأساليب تجلياتها. ويقصد بذلك: اتصال المتشابهات في حقل الإدراك رغم الاختلاف بالجذور المعرفية. فالثقافة، برأيه، نتيجة معارف ميتافيزيقية وأحكام. (ص 22/ الفقيه والعقل التراثي).  

ولطالما كنت أعتقد أن الغرباوي نموذج للمفكر الموضوعي الذي لا يخرج على دائرة وعيه بأهمية الروح. فهو يحاول بكل ما أوتي من عزم أن يتحرى حقائق الذهن البشري وطرق الاستجابة للواقع، وبشرط لا يحيد عنه وهو أن يكون داخل شبكة العلاقات الإسلامية. ويمكن أن تقول إنه ليس باحثا في المعرفة وفي أصول التشريعات التي تتحكم بسلوك الإنسان، وبالمسموح له أو بنطاق الحريات الوجودية المتاحة  كالحال عند عابد الجابري. ولا هو أيضا باحث لا ديني يتابع مشكلة المعرفة بالانطلاق من وظائفها أو أساليب عملها كشأن طيب تيزيني. وإنما يحمل هم العقيدة نفسها. ومن المعروف أن قراءة الإسلام تنطوي على تيارين.

بالإضافة للمبشرين بالشريعة (بمعنى قوانين تفسير وعينا بمفهوم وهوية الإيمان)، هناك محور تكويني يتابع ظواهر المعرفة بالمقدس من خلال الوعي بها. ومحور ديالكتيكي يطبق نتائج الوعي بالتاريخ على  تطوير أساليب وقوانين المعرفة. وربما لذلك هو ينظر بعين الشك للانتقائية في تأويل المعنى، وبالأخص بعد هذا الفاصل التاريخي بين أسباب النزول والواقع الراهن. ففقد بلغ ما يزيد على خمسة عشر قرنا تراكمت خلالها عمليات إلغاء وتثبيت، وعلى الأرجح أنها أدت في النهاية لعزل الأسباب عن النتائج وزيادة مساحة الإجبار أو الإكراه في الدين. ومن الطبيعي أن يسيء أنصار الظاهراتية فهم معنى الحرية أو ضرورته. فلا حرية في الاختيار أمام أوامر الخالق. لكن هذا لا يعني أن الخير مطلق والفضيلة ثابتة على الدوام. فالغايات هي الثابتة لكن أدواتها دائما تتعرض للتطوير والتعديل. وغني عن القول أنه لا يوجد معنى دون أساليب للتعبير عنه. وفي هذه المساحة يبدأ النزاع التقليدي بين النص وخطابه. وتجد تفصيلات وافية عن أهمية الحرية في الخطاب الديني عند برديائيف وكركيغور. فبالبديهة أنت تنحاز للخير، ولكن بملء إرادتك. لأن الخير هو العلة الأولى لاستمرار الحياة. ولا يمكن لأحد أن ينكر أنه يفضل البقاء على العدم. وهذا وحده يحسم مسألة الجهاد والسياق الطبيعي لاستعمال العنف في الإسلام كما وضح الغرباوي في كتابه “تحديات العنف” ثم في “مدارات عقائدية ساخنة”. فقد بذل في هذه المؤلفات ما بوسعه لينظر إلى الفكرة الإسلامية من خارج ثقافة الحداد والقطيعة مع الشريعة (بتعبير رجاء ابن سلامة)، ولكن من داخل شبكة العلاقات بين الإنسان و دينه الاجتماعي (هذا إذا قبلنا أن الدين موجود لكن بصور تشبه التخزين السحابي). بلغة أوضح ضمن تيار متصل خارج البنية الفردية.  ولقد رأى أن التحديات تتكاثر وتتوسع يوما بإثر يوم، ولا سيما بعد اتساع رقعة الاحتكاك مع بقية أرجاء العالم، وما يمثله ذلك من تحديات في تعيين مجال أشياء تبدو متشابهة، لكن لكل منها مساره الخاص كالضمير والوعي والروح والإحساس والعاطفة إلخ...

وهذا يعني أنه اهتم بالسياق والظواهر. وليكون لكلامنا معنى لا بد من أمثلة. لقد درس حروب الردة بالانطلاق من الأسئلة والمنغصات التالية:

ما هي الدواعي؟.

ومن أشعل الفتيل؟.

وكيف كانت طبيعة العلاقة بين الأطراف المتنازعة؟.

ووضع هذه المشكلة ضمن إطارين. داخل دورات التاريخ، وفي سياق أساليب التعبير. وقد أولى كل عنايته للمدونة وللنص. بتعبير آخر نظر للمشكلة كأزمة طرأت على علاقة الحاكم بالمجتمع، أو المركز بالأطراف. وخلص إلى نتيجة مفادها أنها فتنة عسكرية. وكانت الغاية منها أن يفرض الخليفة أبو بكر سطوته على كل أجزاء شبه الجزيرة العربية. بمعنى أنها حرب للسلطة ضد الشعب، ولإسكات أصوات المعارضة، ولإخضاع الجميع لتوجهات القيادة الجديدة. واستطاع الغرباوي بهذا المنهج أن يرسي الأساس لحدود أو معرّفات تفرز الإلحاد والكفر من الخلافات السياسية. واختار لهذه الحدود عنوانا عريضا هو (فعلية النص). وشرحه كما يلي: مادامت أسباب النزول قائمة النص واجب، وبزوالها يجب تعطيله، أو اعتباره في عداد المنسوخ بوجوب تبدل الأسباب. وأصلا إن فكرة إبطال الأحكام والأوامر الإلهية، التي جاء بها الوحي، كانت تهدف إلى الارتفاع بالواقع إلى واقع أفضل منه. وهذا يختلف عن الإلغاء والإزالة. وله معنى التكيف والتطوير كما قال أحمد عبدالرازق في كتابه (فلسفة المشروع الحضاري بين الإحياء الإسلامي والتحديث الغربي – ج2). فالنبوة وسيلة وليست غاية، والوحي أسلوب أو طريق كما يقول عبد الرازق أيضا (ص943)*.

وقد ناقش الغرباوي باقة من الأحكام التي تندرج في هذا المضمار. بالإضافة لحروب الردة (التي أنكرها في وقت مبكر الشيخ علي عبد الرازق) توقف عند الجزية والفتوحات الإسلامية. ثم أعاد التأمل في حدين من حدود المذهب الشيعي وهما فريضة الخمس والإمام الغائب. بالإضافة لدور الشفاعة وكيف انتشرت بين البسطاء حتى أنها سيطرت على أفكارهم، ولعبت دور قيد أو رباط بشري يحل محل العناية الإلهية. وبالتالي عطلت الثواب الذي يمكن أن يناله المؤمن من التفكير والاجتهاد. وكأن هؤلاء الوسطاء نسوا أن الإسلام هو دين معرفة وثقافة أولا. وأن العقيدة في عصر العلم وفلسفة التنوير لا تبنى بالتأويلات ومراكمة الخرافات والاستجارة بالتراث كما ورد بالحرف الواحد في كتابه الإشكالي (مدارات عقائدية ساخنة) (ص88)** والذي اتصف بقدر لا يستهان به من الشغب والممانعة. وأعتقد أن هذا الكتاب، الذي أصدره بالاشتراك مع طارق الكناني، مخصص بمعظمه لتفنيد الأساطير والخرافات التي دخلت على المذهب الشيعي، وتسببت له باختناقات اجتماعية. وكانت حجته الأساسية أن الإسلام جاء لينظم علاقة الإنسان بالله أولا (معرفة) ثم علاقة الفرد بالمجتمع (سياسة). والدين لم يأت ويبذل كل تلك التضحيات ليضع الإنسان المسلم في زاوية تمنعه من التفاهم مع واقعه ومع العالم الذي يحيط به. وقد استطرد لاحقا لموضوعة الصلاة، باعتبار أنها ركن أساسي من أركان التثبيت، أو العقيدة (إن استعملنا مفردات كاتب لاهوتي هو الشيخ علي الطنطاوي). و لا جدال بوجود فرق واسع بين المنهجين.

88 majedalgharbawi600

فالطنطاوي يوجب الأداء أولا ثم التفكير ثانيا. مثل القانون المعمول به في الجيش: نفذ ثم اعترض. لكن الغرباوي يستحسن بيان حقائق الأشياء أولا قبل فرضها. ويؤكد أن خصائص الأشياء، وهي موضوع الإيمان، عبارة عن نشاط ذهني سواء كان للشيء وجود خارجي أم لا. ويترتب على ذلك أن مصادر الأحكام سابقة على النص. وأي نص لا يمكن أن تفسر مضمونه دون العودة لمصادره أو علته. وهذا لا يمكن أن ينطوي على أي شبهة بالممانعة لأن العلة شمولية والمصادر متحققة بالعلة الأولى وهو الخالق (كما ورد في موسوعته: متاهات الحقيقة/ فصل العبادات والأخلاق). ولا يوجد في الإسلام تشريع جامد. ويذكر مثالا عمليا وهو الصلاة. ويشترط أن تكون صلة روحية مع الخالق من طرف ومع جماهير المؤمنين من طرف آخر. بمعنى أنها ذات وجهين، روحي ومادي. أو أنها جسر للعبور من الذات الإلهية نحو الذات البشرية، وإلا لاكتفى الله بفرض حركات رياضة أو جمباز. والصلاة أيضا بتعبير القرآن “كتاب موقوت”. بمعنى أنها نشاط له علاقة بدورة التاريخ، أو كما يمكن أن تجد في معاجم اللغة: هي عمل تتصل به الحقيقة المكتوبة مع الحقيقة المطلقة. وبلغة أوضح: هي إسقاط للحقيقة على الكون (بلغة محمد شحرور). ففي كل نشاط ديني لا بد من أن يتصل الجسم وحركاته مع الذهن وتفكيره ثم مع الروح واستعداداتها. وهكذا تستكمل الروح دورتها الفطرية: بين الطبيعة والعقل والله.  أو المادة والوعي والذات الكلية. وكان بودي لو أضاف حسين مروة لكتابه (النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية) فصلا خاصا عن المعنى الدرامي للصلاة. فهي الفقرة الوحيدة من بين كل مدونات أركان الإسلام والتي يمكنها أن تتأقلم مع الواقع المعاش. ومن المؤكد أنها لم تكن في بواكير ولا فجر الإسلام تفرض نفسها على الواقع. بل العكس هو الصحيح. كانت تضطر للاستسلام لتيار الحياة الجارف في الحرب وفي السلم. ويمكن أن تقول كانت حريصة على تسهيل معاناة الإنسان وتخفيف درجة إحساسه بضغط الحياة من خلال إجراءات تطبيقية كالاختصار وتبديل الموعد لو أنك مسافر أو حتى بعدد الركعات ونوع التلاوة. 

ويلاحظ على الغرباوي أن أمثلته بمعظمها تهتم بنفي الحدود الوضعية. وبرأيه إن معظم الممارسات في الوقت الحالي لا تكلف نفسها نفض غبار السنوات، من جهة، ولا تحاول التعالي على سياسة التبرير لخدمة مآرب الحكام. ويؤكد أن مبدأ ولاية الفقيه هو مبدأ إيديولوجي وضعي (بمعنى إجرائي)، ونجم عنه انحدار مستوى فهمنا للشورى، وعدم إمكانية تحويلها إلى ديمقراطية متطورة حسب سلم القيم والمعايير الغربية. وفيما أرى اشترط الغرباوي على الدولة الإسلامية والحاكم الصالح عدة شروط استمدها من أحكام وفقه الشريعة (الكتاب والسنة). وهي نشر روح التكافل الاجتماعي والنفسي بين كل الفئات. ونزع الفتيل من الشكل العسكري للدولة.  بمعنى آخر، على الحاكم أن يكون مدنيا، وعلى الحكومة أن تتحلى بالوعي الإداري. ودون هذين البندين كان لا بد من تفكك الدولة وانحدارها لشكل متخلف وبدائي من أشكال الهيمنة والتسلط. وعليه إن تعويم فكرة الجهاد واعتبارها فرضا والتمسك بمفهوم الجزية والنظر إليها كأنها ركن سادس في الدين قاد إلى تسريع تحويل الإسلام من دين إلى إدارة. ومن علاقة مع الوحي لعلاقة بين المركز والأطراف. ويبدو أن هذا الضرر بدأ من انقلاب السقيفة الذي تورط بعدة أخطاء.

الأول هو الاقتراع العلني على الخليفة وتشكيل لوبي ضاغط.

الثاني اقتصار التمثيل على حفنة من الصحابة.

والثالث هو إهمال الأقليات والتقليل من شأن الأنصار.

ولا يمكن لأحد أن ينكر غياب أي تمثيل للعشائر النائية، ومنها عشائر عسير ونجران بالإضافة لمناطق قريبة من الرياض (أو حجر اليمامة حسب الحفريات والتي تعود لأيام طسم وجديس). ولنأخذ مدينة اليمامة كمثال حيث انتشرت أولى حركات التمرد. أيضا لم يتم دعوة مراقبين عن الديانات الأخرى. فالدولة ليست خاصة بأكابر قريش، والشعب لم يكن كله من عرب الحجاز. إن عدم وجود مثل هذه الضمانات مهدت الجو لتقليص الاختيارات المتاحة أمام المسلمين، ثم لإقامة ثيوقراطية ملكية ظالمة، وانتهت بكونتونات هيمن عليها الجيش، وتبعها أوليغارشيات لا ترتبط بالخليفة. وقد رأى الباحث خليل أحمد خليل في كتابه الكلاسيكي (العرب والقيادة) أن معيار الولاء كان يقتصر على رفد خزينة الدولة بالنقود السائلة والثروات، ثم على بروتوكول شكلي بحت.

وأنا لهذه الساعة لا أفهم كيف تنازل الأنصار عن السلطة للمهاجرين. ناهيك عن غياب أي مؤسسة وطنية يشاركون بمجلس الإدارة فيها. ولنأخذ مخيمات الفلسطينيين في لبنان كمثال. لقد نجم عنها أكبر فتنة دمرت بيروت ورسمت خطين في أنحاء البلاد. خط بالطول قسم لبنان إلى دويلتين، وخط بالعرض أعاد رسم الخريطة الطبقية بين السكان. بمعنى آخر انطلقت الشرارة من الكامبات وأدت لتحول سياسي واقتصادي. والآن يواجه حزب الله نفس الحالة الوجودية بالرغم من التضحيات في حرب 1996. فهل كان مجتمع المدينة طوباويا ويعيش فوق المنطق الذي يقبل به البشر؟. بالمنطق إن تدفق المهاجرين على المدينة أدى إلى اختناقات يمكن أن تسميه اقتصاد الحرب. وإذا أضفت لذلك الزيادة غير المسبوقة باليد العاملة، تستطيع تصور الأزمة التي أتت، كما تشير المصادر، في فترة من الركود والبطالة. فكيف تسنى لهؤلاء الضعفاء أن يكسروا شوكة مكة؟..

حتى الجهاديين الذين تدفقوا على سوريا في أزمة الربيع العربي، تحولوا لقوة احتلال، واغتصبوا بيوت السكان الفارين من أذى الحرب. وقد تصرفوا لاحقا على أساس أن الأرض وما عليها هي غنيمة حرب. ويشمل ذلك المتعلقات المادية والمعنوية، يعني الممتلكات والنساء.

وأن تخلو كل السجلات من صورة واضحة للمدينة جعلها أشبه بفانتازيا لأنه لا يعقل أن لا تتبلور في تلك الفترة الحاسمة أية دائرة أو مؤسسة أو دار لفض النزاعات. ولو كانت موجودة ما هي هيكليتها؟. وبالأخص أننا نتكلم عن حكومة طوارئ تحارب على أكثر من جبهة.

في الداخل الأحياء اليهودية. وفي الخارج طبقة النبلاء ومن يواليهم من المشركين. حتى أن عثمان، أحد المبشرين بالجنة، لاقى حتفه لاتهامات طبقية، وتحول لاحقا لمنعطف أساسي بدّل وجه التاريخ. ناهيك عن دور أبي بكر الضعيف والذي أشبهه بدور محمد نجيب في ثورة يوليو. لقد دامت له مقاليد الحكم لسنتين ثم اضطر للتنحي، ولو لا وفاة أبي بكر لكبر سنه لأجبره الصحابة على التقاعد.

لم يناقش الغرباوي هذه الحلقات الضعيفة من التاريخ الاجتماعي لبواكير الإسلام، غير أنه أسهب في الولاية التكوينية (حسب المفهوم الذي استشرى في السنوات الأخيرة)، وأنها تعني التصرف بالكون. وأكد أن هذه المهمة ربانية صرف، وإلا دخلنا في الشرك (ص 300 / مدارات)، فالله ليس كمثله شيء، وهو متفرد بالوجود، ولا يقبل أية شراكة أو نيابة (المصدر السابق).

90 majedalgharbawi 600

وبرأيي إن ما تعرضت له حركات التنوير والإصلاح، وبلغة أوضح: المذاهب والفرق الباطنية، من دس وتحوير وتحريف وإضافات، يحتاج لعمل شاق في سبيل التنقية وتقريب وجهات النظر. فقد تحولت هذه الاتجاهات إلى حضارة جريحة، ولا سيما بسبب الاستبعاد المقصود من المشاركة في بناء كيان الدولة. وتهمة التكفير والإشراك التي تعرضوا لها في عدة عهود، منذ تأسيس الدولة الأموية وليومنا الحالي، هي المسؤولة عن رابع أزمة عسكرية تعصف حاليا بالخليج (وهي حرب اليمن). ولدي شبهات أن الإبادة الجماعية التي طاردت حركات الإصلاح (كالشيعة والمتصوفة والأدباء المستنيرين)، في غضون حرب المائة عام، لا تختلف بشيء عن المحرقة النازية. ويمكنني أن أرى في عقوبة الصلب والحرق التي اتبعها الأمويون والعباسيون لتصفية خصومهم محرقة يندى لها الجبين. وقد وصل التشويه ذروته في عصر التنوير والنهضة، واتهم كل صاحب رأي جريء أو مستنير بتهم كاريكاتورية تدعو للهزء. وبهذا الخصوص تساوى المتنبي والحلاج والنفس الزكية وزرادشت وقرة العين الداعية لسفور المرأة.  وأقرب مثال على ذلك كتاب (العقائد) لعمر عنايت (صدر عن دارالعصور عام 1928). وكتاب (الدعاة) لوجيه فارس الكيلاني (صدر عن دار المطبعة العربية عام 1923). فقد اعتبر الكيلاني أن زرادشت (ص 38) ومسيلمة (ص 50) والحسين (ص 92) وجان دارك (ص 95) كانوا على قدم المساواة، ومن بين الشخصيات التاريخية الشاذة أو المارقة.

وطاردت تهمة مماثلة الإمام الأفغاني، وأدانته بالانحراف عن أصول الدين. ولا تزال كل الأدبيات الإسلامية الكلاسيكية تطعن بتفسيره للقرآن وتشوه أهدافه السياسية، وترى أنه لا يجد فرقا بين مفهوم الوحدة ومفهوم الأمة، أو بين الجامعة الشرقية والجامعة الإسلامية، كما ورد في (الدرر السنية) بتحريرعلوي بن عبدالقادر السقاف.

وبناء على ذلك أصبحت أمام الغرباوي مهمة مزدوجة.

وهي الكشف عن المبالغات الدينية التي يرعاها الوعي الباطن، وإعادتها إلى مكانها في سياق تطور التاريخ والأحداث. وهكذا تطور أسلوبه من مجرد الوصف والتحليل إلى التفكيك وإعادة التركيب. ويتضح ذلك في كتابه (مضمرات العقل الفقهي، 2020)***. فقد واتته الجرأة ليقول عن كثير من العتبات الدينية أنها رواسب من التخلف والجهل وسوء التربية. ثم ليردف إنها منحنيات أسطورية تثقل على وعي الإنسان المسلم وتخنقه وتكبت حرية السلوك والتصرف الإيماني النابع لديه من الفطرة والبديهة . ولا يسعني أن لا أرى أن جهود الغرباوي تشير بجلاء وبكل وضوح لموت وجه آخر من وجوه تاريخ المعرفة وهو الحقيقة. لقد تحولت لقطاع صامت نغتاله يوميا بإضافاتنا الأسطورية غير المنزهة عن أغراض الإيديولوجيا وأطماعها في السلطة.  وتبدو لي أن هذه المشكلة تؤزم ذهنية الغرباوي مثلما أزمت سابقا تفكير رائد من رواد نقد المعرفة وهو جلال صادق العظم. فأن تموت الحقيقة على يد من سبقها بالموت، وهو الإيديولوجيا السلطانية، يضعنا أمام عالم غامض لا يمكن التعامل معه إلا بمقاربة جرئية لا تخشى من بنية الوعي الراهن ومقولات العقل الجماعي (كما ورد في كلمة الناشر على غلاف كتابه: مضمرات العقل الفقهي). 

 

د. صالح الرزوق

......................

* المعهد العالمي للفكر الإسلامي. د. محمد أحمد جاد عبدالرازق. فرجينيا. الولايات المتحدة الأمريكية. 1981.

** دار الأمل الجديدة. ماجد الغرباوي وطارق الكناني. دمشق. 2017.

*** دار الأمل الجديدة. ماجد الغرباوي. دمشق. 2020.

 

 

لا شكّ إنّ الذي ينعم النظر في نصوص الكاتب ماجد الغرباوي يجد أنّ هناك مساحةً واسعةً من الجذب الجمالي بين النصّ والقارئ، وخير مثال على ذلك القصة القصيرة جدّا التي بين أيدينا، والجذب الجمالي يتحقق في أمرين:

الأوّل أنّك يمكن أن تقرأها بصفتها نصّا قصصيا، فهي على وفق المقاييس الأدبيّة قصة قصيرة جدا.

الثاني: أنك يمكن أن تقرأها بصفتها خاطرة أدبية أو فكرة جاءت بهذا الشكل الفني الرفيع.

الثالث: يمكن أيضا أن تُقْرَأَ بكونها مزيجا بين القصة والخاطرة حسب ذوق القارئ.

أي أن الكاتب وضع المتلقّي بين أمرين وخيّره أيهما يفضّل، قصة اللمحة أم النصّ وتخيير القارئ معناه مشاركته الجماليّة وتحفيزه على التفاعل مع النص بعدّ المفهوم الوارد فيما هو مكتوب يُعدّ همّا مشتركا بين المؤلّف والمتلقي.

لقد ورد في البداية: تمرّدت ذاكرتي فساورتني شكوك بلهاء.. جملتان جاءتا بتفاوت واسع مركزه ضمير المتكلّم

الذاكرة + التمرد + ياء المتكلّم

في البدء كان التمرد الذي يأتي هو السبب وهو النتيجة. والذاكرة مركز وسبب للشكوك. والشكوك تتساوى في قوتها الوجودية مع أسلها الأوّل التمرد فهي قوة فاعلة موازية

شكوك + تساور + بلهاء + ياء المتكلّم

أربع كلمات تقابل ثلاثة في حركة متوازية ليكون عدد الكلمات في التركيبة المتوازية سبعا  والكلمة التي صاغت التفاوت وميّزت الحركة القادمة هي الصفة (بلهاء) والحقّ أنها ليست تُعنى بالبله إنها صفة إيجابية وردت بصيغة سلبية فلو وضعنا بعدها أية صفة لصحت أن تكون:

شكوك عارمة

شكوك خلاقة

شكوك صامتة قديمة.. ناطقة.. لماحة..

لأنها احتلت قمة الرقم الهرمي وحرّكت الحدث الذي هو التمرد. إنّ التمرد حدث فاندفعت الشكوك التي ترتدي ثوب البله بعنف وبلهها هو عين الذكاء والتخمين والعبرة والاستنتاج والتأمل والتفاعل.

لكن كيف حدث التمرد؟

من خلال عمق النص وتراصّه المتين ندرك أن التمرد حصل في اليقظة والمنام وفي النهار والليل وفي الحاضر والماضي في الوقت نفسه يصبح الفرد ذاته هو الكون في لحظة انفجاره العميقة وقد استند النص الى الترادف الفعلي المتمركز بقوة عند الحركة وتداعياتها

وتسللتُ خلسة أطوف

أتصفح عوادي

عبر هذه الأفعال الثلاثة وهي التسلل والطواف والتصفح  يصل إلى هدفه حيث بدأ بحركة بطيئة يتطلبها واقع التسلل ثمّ تزداد الحركة شيئا ما بالطواف وهو أسرع لتحلّ بعدئذ حركة موضعية أبطأ من الفعلين السابقين وهي حركة التصفّح التي لا تعني أن نقلّب كتابا أو ورقة بل تحتلّ محل التأمّل العميق والتفكّر والبحث عن خلق وابداه وهو ما حدث من أجله التمرد الذي بدأ به النص

حتى نجتاز تلك المرحلة إلى مرحلة جديدة نعرفها ولا نعرفها:

دنوت حذرا يستبد،

باغتني

 حاولت تناثرت رمادا بين أناملي الذابلة

الأفعال السابقة تثبت نفسها من دون حرف عطف فلا الواو ولا الفاء ولا ثمّ الترتيبية إنها تترادف وتتوالى كأنها تكمل بعضها بعضا بشكل دوائر وهنا يأتي هذا الفعل الرابع ليصل بنا إلى القمّة. لاشك أن هناك أفعالا أخرى تداخلت لكنها أفعال مساعدة اشتركت لتضفي على تلك الحالة بعدا أعمق حتى نجد أنفسنا عتد ذروة الحدث. إن نفس المتكلّم تناثرت في دوائر ورسمت ذاتها  فانقسمت إلى عدد والمعرفة الحق تكون حين نتذكّر أن الدائرة هي الشكل المتكامل لذلك نجد أن الكون نفسه يتخذ وضعا دائريّا فقد انشطرت تلك النفس أو الذات على وفق الفعل الأخير بالرسم إلى سبع دوائر، ونذكّر أن أجدادنا السومريين اكتشفوا علّة الكون في الرقم (7) بينما يرى الفيثاغوريون أن العالم عدد ونغم والذي يطّلع على الديانات التوحيدية يجد أن العوالم السبعة من أراضٍ سبع وسماواتٍ سبعٍ تكاد تشغل مساحة واسعة من الفكر القلسفي والروحي والصوفي لأتباع هذه الديانات.

أقول الذي  يطلع على ذلك يدرك من النصّ أنّ الانشطار حدث في الواقع وفي الحلم أي في الزمن واللازمن هو ليس بواقع ولا حلم فقد تجردت الحالة عن كلّ مدلول ولم تته ولم نته فيها لأن المتكلّم بوعيه تجاهل الدوائر الأخرى وانشغل بالدائرة السابعة. فهل كانت الدوائر بمستوى أفقي واحد أم أنها عموديّة مثل برج بابل أو القبالة اليهودية أم بعموديّة إسراء النبي محمد (ص)

أيضا في هذه الحالة يتحقق التوازن

ممكن جدا أن تتبادل الدوائر حسب الترتيب من الرقم (1) إلى الرقم (7) في الموقعين الأفقي والعموديّ من غير ما نشعر بالزمن نفسه والمكان، أهم ما يميّز الحالم الواعي النائم الصاحي أنه لم ينشغل قط بالدوائر من (1) إلى (6) بل كان مشغولا ومندمجا بالدائرة السابعة (ربما وفق القراءة الصوفية تلك التي عندها سدرة المنتهى) ومن خلال هذه العبارة عبارة الانشغال ندرك أن الدوائر انقلبت بعد عمليّة الرسم من وضع أفقٍ متساوٍ إلى وضع ٍعمودي فالضمير المتكلّم في حالة ارتقاء لقد تركنا نحن المتلقين في أية دائرة كانت وغادر إلى الأفق الواسع حيث الدائرة الأخيرة التي تتموضع في القمّة. تأتي بعد ذلك أفعال التفاعل مع المرحلة السابعة. لقد كانت ثلاثة أفعال تمثل في البدء الاقتراب وهناك أفعال الاندماج التي تتحقق بأربعة فنجد التفاعل وفق الترتيب التالي:

 شغلتني السابعة ..

راحت تطوف ببطء،

 تأخذني نحو عوالم غريبة،

ثم تقودني الى نفق مجهول،

تسرح فيه بقايا ذكريات،

 تُومئ نحو أفق بعيد حيث مطلع الشمس،

 فاستدير برأسي لعلي أتذكر أين التقيتها

كلها أفعال منسوبة إلى الضمير المؤنّث التي راحت تنشطر إلى أشلاء والتي رسمت دوائر فكان الجزء السابع أو الأخير وفق التسلسل الرقمي هو المحرك كونه دائرة احتلت رقما خلّاقا فحركت الأشياء، الدوائر بلغتنا أناث وأقواهن أثرا وفق الموروث الديني والفلسفي السابعة ولعل الدوائر درجات ولعلهن أرواح لكن الذي يميّز الأخيرة هو تلك الحركة الفعالة أنها تستأثر بالخلق الفعلي والأبداع لتترك لنا أثرا يخص نمط حياتنا المادية والروحية:

تسرح مادة

الذكريات معنى

وتسرح مضارع ومستقبل

والذكريات ماض، اسم ماض

وفي ذلك جمع للتناقض وهو دمج الفعل بالاسم والماضي بالحاضر وفق ما ترتأيه حركة الكون الأفقية والعموديّة.

هناك ملاحظة مهمّة بقيت حول النص وهي أنني قلت :

إننا يمكن أن نقرأه كونه قصة قصيرة جدّا لها مقومات الومضة الجميلة. ويمكن أيضا أن نقرأه بصفته نصا مركبا من أنواع أدبية مندمجة مع بعضها أما أنا فأنصح القارئ أن يقرأ هذا النص قراءتين: الأولى قصة لمحة والثانية قراءة نص مفتوح .

***

د. قصي الشيخ عسكر

................................

تمرّد

ماجد الغرباوي

 تمرّدت ذاكرتي، فساورتني شكوك بلهاء، أناخت بأحلامي المتعبة .. ليلا عقدتُ العزمَ وتسللتُ خلسة أطوف في أرجائها .. أتصفح عوادي الأيام حتى عثرت على أشلاءٍ موشّاة بحمرةٍ، أو بقايا بقع دمويةٍ .. أشلاء تعلوها ابتسامةٌ بليدة، بينما تَمَوَّجَ ظلُها فوق أرض رخوة، تصافح مطرا غاضبا.

كأني أعرفها، او التقيتها على قارعة الحياة. لا أدري أين؟ .. حاولت جاهدا لعلي أتذكر أطراف الحكاية.. هل قابلت تلك الأشلاء حقا؟ متى وكيف؟

دنوت حذرا يستبد بي رعبٌ مزلزلٌ، كأني على مشارف كابوس باغتني وأنا في نشوة حلم جنوني. حاولت ألمس تلك الأشلاء، تناثرت رمادا بين أناملي الذابلة، ثم رَسَمَتْ سبعَ دوائر تدور حول بعضها .. شغلتني السابعة .. لماذا راحت تطوف ببطء، تأخذني نحو عوالم غريبة، ثم تقودني الى نفق مجهول، تسرح فيه بقايا ذكريات، تُومئ نحو أفق بعيد حيث مطلع الشمس، فاستدير برأسي لعلي أتذكر أين التقيتها .. أي حزن يراود عينيها؟ كيف تجمّدت فوق شفتيها الباردتين ابتسامة باهتة؟ أي خطب ألمّ بها؟ أي فقدٍ أصاب أوصالها الممزقة؟.

حالت ظلمة الليل دون معرفة تفاصيلها، وظلت دوائرها السبع لغزا محيرا، أقترب في حلها تارة وأخرى أتيه في دلالاتها. وكلما دَنوتُ من السابعة شعرتُ بثقل جسدي يترنح على أرصفتها، حتى نفد صبري، وخارت قواي، وتبددت طاقتي، فرحتُ أندب حظي، لعل أحدا ينتشلني .. لكن أين التقيت تلك الأشلاء؟.

فقت قليلا ، أو كدت ..

ثم تذكرت فصرخت في عمق الليل

.

.

.

إنها أشلائي !!!!!

***

5 – 12 0 2013

سيدني – أستراليا

.................

يمكنكم الاطلاع على القصة والتلعيقات على الرابط أدناه

https://www.almothaqaf.com/ac/nessos-10/81802

 

        

        

العديد من الموبقات تُرتكب تحت ستار الدين، بدءًا من موجة الإرهاب التى تضرب العالم وتتخذ من نصوص دينية ذريعة لجرائمها ومرورًا بقدسية تُضفى على شخصيّات تتحدث باسم الإله ووصولًا إلى التشبث بقراءات دينية تجافى الواقع ومتغيراته. لتلك الأسباب مجتمعة ولغيرها يصير البحث فى الفكر الدينى السائد وتفكيك مُسلماته حاجة يفرضها العصر.

عبر سلسلة من الكتابات جاءت بعنوان «متاهات الحقيقة»، عمد الباحث والكاتب الأسترالي من أصل العراقى ماجد الغرباوى إلى مساءلة تلك الأنساق الدينية الراسخة.

يوضح الغرباوى فى حديثه مع «الدستور» أنه عمد من خلال تلك السلسلة إلى «التوغل عميقًا فى بنية الوعى ومقولات العقل الجمعى، واستدعاء المُهمّش والمُستبعد من النصوص والروايات، وتكثيف النقد والمساءلة، وتفكيك المألوف، ورصد المتداول، واستنطاق دلالات الخطاب الدينى، بعد تجاوز مسلَّماته ويقينياته، والسعى إلى تقديم رؤية مغايرة لدور الإنسان فى الحياة، فى ضوء فهم مختلف للدين.

يأتى كتاب «الفقيه والعقل التراثى» الصادر حديثًا عن «مؤسسة المثقف العربى بأستراليا ودار أمل الجديدة» لتفكيك منطلقات العقل الفقهى القائمة على العديد من المغالطات، فى إطار سلسلة كتابات تهدف إلى نقد النسق العقدى المألوف وسلطة القداسة وغيرها الكثير من الموضوعات بدأت بكتاب «الهوية والفعل الحضارى» ثم «مواربات النص».

يقول الغرباوى لـ«الدستور»: السلسلة تنتمى إلى تراكم معرفى امتد لأربعين عامًا، سبقته أسئلة أبت مغادرة الوعى تبحث عن أجوبة تعالج إشكالية التخلف برؤية مغايرة تمارس النقد وتكف عن منطق التبرير، بعيدًا عن رهاب القداسة ويقينيات العقل الدائرى.

جهود عدة فى الإصلاح والتجديد للفكر الدينى لم تؤتِ ثمارها فى ظل سطوة العقل التراثى الذى جعل الدين دافعًا باتجاه العنف والإرهاب تارة والخرافة والسحر تارة أخرى، وظل السؤال حول إمكانات النهوض من كبوة أبقت المسلمين فى كنف الماضى دون القدرة على مسايرة العصر وإشكالياته مستمرًا مع بقاء اتجاهات إسلامية قابعة فى سجون معرفية مرتهنة لسلطة التراث ومنطق العبودية.

ونظرًا لأن الخطوة الأولى لإصلاح تلك الحالة تبدأ من النقد الجذرى لمرجعيات التفكير الدينى، يسعى الكاتب فى هذا الكتاب إلى تفكيك العديد من المقولات التى اكتسبت قدسية على مدار عقود الممارسة الدينية ليشدد عبر ذلك على أهمية بناء معرفة مؤسسة على الدليل والبرهان ومرجعية العقل، وهو ما يمكن من خلاله التغلب على التحديات التى تواجه الدين على صعيد حقوق الإنسان والتطور الحضارى.

89 majed 600

يرى «الغرباوى» فى كتابه أن ربط الإرادة الإلهية بالمرجعية الدينية للفقيه من أبرز النقاط التى تحتاج إلى مراجعة جادة وجريئة، فالوعى الجمعى للمسلمين احتفظ بصورة مثالية للفقيه، جعلته فوق النقد والمُساءلة باعتباره مصدرًا للمعرفة الدينية وأحكام الشريعة وموضع أسرارها، وأسهم الصراع السياسى فى ترسيخ علاقته بالسلطة وتعزيز خطاب رسمى عزز من الالتباس لدى قطاعات جماهيرية بين أحكام الشريعة وأحكام الفقه التى هى اجتهادات ووجهات نظر وفهم للنصوص المقدسة.

ويشير الكاتب إلى أن «الفتوى تجل لوعى الفقيه وانحيازه اللاشعورى لقبلياته ومصالحه، ومن الخطأ وصفها بالموضوعية والتجرد التام بل ولا علاقة لها بالتقوى ومراعاة القواعد العلمية والمنطقية دائمًا، لأن المعرفة البشرية تخضع لنظام اللغة، وآلية اشتغالها داخل فضائه المعرفى، وفهم النص يتأثر بثقافته ومستوى وعيه ويقينياته، لذا يتعين تحرى بدايات وعيه ونقد مقولاته التى ترسبت لا شعوريًا ضمن أنساق مضمرة يصعب اكتشافها وتقويضها إلا بالنقد والتفكيك».

تسهم تلك النظرة النقدية لحدود دور الفقيه وعلاقته بالنص الدينى فى نزع القداسة التى تضفى على مقولات فقهية بالية هى بالأساس انعكاس لاستقبال الفقيه الخاص للنص الدين بما يتماهى مع بيئته الثقافية والاجتماعية، فقد يأتى العقل الفقهى ازدواجيًا فى معاييره، أو منغلقًا على نسقه العقدى بما ينتج فقهًا مُستلبًا يفرض قناعاته على النص الدينى، ومن هنا تأتى خطورة الانقياد الأعمى للأطروحات الفقهية وإضفاء القداسة عليها.

ويلفت الكاتب إلى أن «التباس القبلى بالفقهى والسياسى بالشرعى الذى كان الفقيه وراءه كان السبب الأساسى وراء تزوير الوعى الدينى وتكريس الاستبداد والعبودية والطاعة والانقياد، فالنظام الدينى للمسلمين مهما اختلفت صيغه هو حكم ثيوقراطى يكرس سُلطة الحاكم الأعلى ويُحرِّم الخروج عليه ويمنحه سلطات واسعة، وهو نظام ينسجم مع القيم القبلية ويتناغم مع وعى الفرد فى نظرته وتقديسه بشيخ العشيرة».

يُشدّد الكاتب على أهمية إعادة النظر فى الأحكام المتعلقة بقضايا المرأة والجهاد والقتال، وتحرى أسباب العنف وجذوره وكوامنه فى الفكر والفقه. فرغم أن الأحكام الشرعية لا تلغى ما دام مصدرها النص القرآنى، إلا أنه من الممكن ألا تكون فعلية بسبب عدم فعلية موضوعها فتسقط عن التكليف استنادًا لكون الأحكام الشرعية جاءت لتحقيق المصالح وليس المفاسد.

ويُبيّن الغرباوى أن «صدقية العقائد التى ظهرت بعد وفاة الرسول تتطلب معرفة ظروف نشأتها ومسارها التاريخى وفلسفتها والأجواء الثقافية والسياسية والدينية والفكرية المحيطة بها، فالعقائد والمفاهيم لم تأت من فراغ بل مهدت لها ضرورات مذهبية وسياسية»، وذلك بهدف نزع قدسية مقولات فقهية جاءت لتحقيق مكاسب وقتيّة لا يمكن أن تكون مطابقة لكل واقع.

وينطلق الكاتب من حديثه فى تلك المسألة من خلال نقطة ارتكاز مُحددة، إذ يشير إلى أن ثمة قاعدتين أصوليتين: الأولى حق الطاعة والثانية قُبح العقاب بلا بيان.

تعتقد القاعدة الأولى بشمول الشريعة لكل صغيرة وكبيرة وتسمح للفقيه بتشريع أحكام واسعة النطاق، وتنعدم فيها مساحة الحرية. أما القاعدة الثانية فهى: قبح العقاب بلا بيان، والتى تنطلق من قناعة بأن الحكم الشرعى الصادر عن الله يواكب حركة الإنسان والمجتمع ضمن دور الدين فى الحياة، وعليه لا يجوز تقديم الرواية على الآية.

وحسب رأى الكاتب، التعامل مع النص الدينى يخضع إما إلى منطق العبودية أو منطق الخلافة. ففى منطق العبودية، تأتى فتاوى الفقهاء مُتخمة بالتحريم والاحتياط الوجوبى بما يختزل دور الإنسان بالفتنة والاختبار ويقتصر فيه دور الفرد على تطبيق الأحكام الشرعية وسلبه حرية الحركة خارج ما هو مشرع منها، فى اتجاه يضع النص فوق العقل ولا يؤمن بأى فلسفة وراء الأحكام الشرعية.

فى مقابل منطق العبودية، هناك منطق الخلافة الذى يختلف فى رؤيته للإنسان والدين وأحكام الشريعة، فيعزز من مركزية الإنسان ودوره فى استخلاف الأرض، وتأتى الغاية من تشريع الأحكام وفق هذا الاتجاه لتحقيق مصالح الاجتماع البشرى وليس لقياس درجة طاعة الإنسان ومستوى عبوديته.

وانطلاقًا من تلك الرؤية، يشير الكاتب إلى أن معالجة «روح العبودية» سيحد من تضخم الفتاوى والأحكام، «فما جاء فى القرآن من تشريعات تكفى حاجة الإنسان ليواصل حياته اعتمادًا على عقله وقيمه ومبادئه الإنسانية التى تحفظ له كرامته وتحقق شروطه الحياتية، فهو فهم مختلف لا يسمح بتضخم الأحكام الشرعية، لكن الفقهاء لم يلتزموا به لأنه لا يحقق سلطتهم ومركزيتهم، فالأحكام الشرعية الزائدة عما هو مدون فى الكتاب الكريم مشكوك فى حجيتها وشرعيتها ما لم يكن لها جذر قرآنى، وعند الشك فالأصل حاكم وهو الأحكام الشرعية القرآنية».

وفى إطار نقده الأحكام المُطلقة التى ترسخها فتاوى دينية بالية، يتحدث الكاتب عن كثير من نقاط الالتباس المتعلقة بالسنة النبوية ليشدد على أن الشرط فى حجية السنة هو وجود جذر قرآنى للحكم النبوية، وهو ما يفترض توظيف مناهج حديثة فى دراسة حيثيات الحكم الشرعى قرآنيًا وتفكيك المنهج النبوى فى التفصيل والبيان لمعرفة خلفياته ودوافعه والكشف عن بشريته.

ورغم أن «علم الجرح والتعديل» فى السنة جاء لتدارك الضعف فى فرز الأحاديث وتمييزها، فإن الكاتب يرى أنه كرّس الاستبداد السياسى والدينى وتمت صياغته بما يخدم الفرق الدينية المتصارعة، ومن ثم جرى أدلجته بما يوافق رؤية الفقيه وأهدافه السياسية، ولكن فى الآن ذاته ثمة حاجة لدراسة الأحكام النبوية ذات الجذر القرآنى ومعرفة دوافعها وضروراتها.

ويوضح: «ثمة ضرورات موضوعية لتجديد مناهج علوم الحديث تفرضها نظرة مغايرة للدين تحد من إطلاقات الأحكام عندما ترتهن فعلية الحكم بفعلية موضوعه، وهذه الضرورات هى عدم الاعتناء بحديث يخالف العقل والمنطق والقوانين الكونية والقيم الإنسانية أو يُكرّس الظلم والاستبداد والاستهانة بالإنسان وعقله ووعيه أو يؤسس لمذاهب تنأى عن هدف الدين».

ويشدد «الغرباوى» على أن علوم الحديث «لا يمكن التعويل عليها مطلقًا»، لا سيّما بعد أن اختلف المسلمون حول القيم العلمية لأحاديث الصحاح وحول عدالة أو وثاقة عدد كبير من الرواة وشروط التحديث، فضلًا عن تسقيط بعض الرواة لأسباب طائفية، «فحينما تتحكم منطلقات الفقيه الأصولية والفقهية بهذا العلم وتتأثر بخلفيته العقيدية فلا يمكن الاعتماد عليه فى جميع الأحوال، مما يبعث الريبة فى قيمته المعرفية».

 

حنان عقيل - القاهرة

نقلا عن صحيفة الدستور المصرية

 ليوم 26 – 11 – 2020م

https://www.dostor.org/3272279

 

 

نعود ونكمل عوصنا في بحار كتاب الفقه والعقل التراثي لماجد الغرباوي، وليسمح لي عزيزي القارئ أن أستأنف غوصي في رياض هذا الكتاب القيم؛ فهو بلا شك من الكتب التي تركت بصمة واضحة في فكرنا الفلسفي المعاصر، حيث يشرع الغرباوي في هذا الكتاب بمقدمة عامة تتناول العناصر الخمسة لضوابط الرواية الدينية: معرفة الروايات، وشواهد الوضع، ومناهج التوثيق، وحجية السنة، ثم أخيراً القيمة المعرفية.

ومن المفيد – قبل عرضنا لهذا الكتاب ومحتواه – أن نشير في عجالة إلي أهم التوجهات الضابطة في مسيرة المؤلف الفكرية عبر فصول الكتاب العديدة .

وأبرز هذه التوجهات وهو ما ظهر له أنه ليست المسألة هي رغباته أيديولوجية أو مذهبية، فقد كان أحد أهداف الجهاد أن يكون الدين كله لله (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) بمعنى تحريره، وسلب شرعية الأديان التي تتحكم بمصائر الإنسان ولو بالقوة . والدين هو العقيدة والشريعة . فالرهان على ما طرحته يتوقف على تسوية إشكاليات، ترتبط بفهم الدين، ودور الإنسان في الحياة، وتحديد مهمة الأنبياء الرسالية، وحدود تأثر الفقه بالمتغيرات الزمكانية. ومدى وعيه بها، وقدرته على التحرر من قبلياته التي تفرض محدداتها وسلطتها. فرغم دعاوى الإجتهاد، غير أن الفقيه أسير قواعد تم تأصيلها عقلياً لضبط منهجه في استنباط الأحكام الشرعية، فهو يخضع لها ويقدسها وينسى أنها صنيعته، المرتهنة في صدقيتها لقبلياته، وما يؤمن به من يقينيات دينية وعقلية وفلسفة . فهي قواعد تم تأصيلها لتلبي رغباته التي تنسجم مع عقيدته وفهمه للدين والتشريع، يظهر هذا واضحاً من خلال استدلاله عليها، فبعض يميل بطبعه للاحتياط فينعكس على موقفه الأصولي من القضايا المشكوكة، بينما يميل الثاني للبراءة والسعة .

وثمة توجه آخر للمؤلف يتمثل في أن الرهان في بعده الآخر، يتوقف على نقد المرجعيات الفكرية والعقيدية والأصولية للفقيه، وتشكيل وعي جديد وفق فهم مختلف للدين، وإعادة النظر بالمقدس، وقدسية التراث والسلف الصالح، والعودة المباشرة للكتاب الكريم، نتدبره وفقا لحاجاتنا وتطلعاتنا، كمرجعية نهائية في مجال تخصصه . فهو " تبيان كل شئ"، وفيه " تفصيل كل شئ"، و" وما فرطنا في الكتاب من شئ" . وهو أمر ممكن، رغم وجود روايات تشترط وساطة التراث والسلف في فهمه وتفسيره . لكنها روايات ضعيفة، لأنه بيان للناس، فلا يمكن احتكار فهمه وتفسيره، فيكون القرآن حاكماً عليها حتى وإن كان بعضها صحيحاً .

أما التوجه الثالث فيتمثل في نظر المؤلف على أنه ثمة فرق جوهري بين اتجاهين ومنطقين في فهم الدين وفلسفة الأحكام الشرعية، منطق العبودية، ومنطق الخلافة . يتوقف عليهما فهم أسباب تضخم الأحكام، وطوفان الفتاوى الشرعية. إن فلسفة الحكم تكشف عن سبب التشريع وحكمته ودواعيه وطريقة تأثيره، كما أن تاريخ الحكم يكشف عن البيئة الاجتماعية والدينية والثقافية التي انبثق عنها السؤال . حيث جاءت الأحكام الشرعية في الكتاب الكريم ردا على أسئلة السائلين، ولا يوجد حكم ابتدائي أو لم يكن مسبوقا قبل البعثة، كالعبادات وتفصيلاتها، سوى بعض الاختلافات. فالحكم مرتبط بموضوعه . غير أن جل الفقهاء إن لم يكن جميعهم يعتقدون أن فعلية الأحكام منقطعة عن اسباب تشريعها، فلا يدرسون تاريخها وفلسفتها . بينما تاريخ التشريع يؤكد وجود أسباب وراء تشريعها، وقد تنتقي فعليتها بانتقائها.

على أن هذه التوجهات قد صاحبها ثلاث نزعات للمؤلف: احداها نفسية والثانية أخلاقية، والثالثة عقلية . أما الأولى من هذه النزعات، فتتمثل في إفراط المؤلف في القول بأن: الأحكام الشرعية الزائدة عما هو مدون في الكتاب والسنة مشكوك في حجيتها وشرعيتها ما لم يكن لها جذر قرآني، وعند الشك فالأصل حاكم، وهو القدر المتيقن منها، أي الأحكام الشرعية القرآنية، وعند الشك فالأصل حاكم، وهو القدر المتيقن منها، أي الأحكام الشرعية القرآنية . غير أن الفقهاء اضطروا لشرعيتها من خلال قواعد عقلية، يمكن مناقشتها وتفنيدها . وليس هذا محلها . كما وظف الفقهاء خطاباً أيديولوجياً صارماً، يقمع أي تمرد على سلطتهم . بشكل أصبح الفرد لا يفرق بين الحكمين الشرعي القرآني، والحكم الشرعي الفقهي. فالجميع بالنسبة له مقدس، رغم تداعياتها على حرية الفرد .

وأما التوجه الثاني فتتبدى لنا بجلاء في مواضع عديدة من الكتاب في دعوته لإنقاذ الدين من سطوة الفقهاء، حيث يقول الغرباوي:" ثمة أزمة حادة تواجه الشريعة الإسلامية، بل تواجه الدين بأسره، لا تنفع فيها تبريرات الفقهاء ومكابراتهم .. أزمة حقيقية، تضغط باتجاه مراجعة نقدية تطال الفكر الديني، وفق قراءة معاصرة تواكب الحضارة، وتُعيد النظر في ثوابت الشريعة، بعيداً عن سلطة التراث والسلف والتراكمات التأويلية التي تكرس اللامعقول وتحرض باستمرار ضد الآخر، حتى صار الدين إما يدفع باتجاه العنف والإرهاب، أو يستقطب باتجاه الخرافة والسحر والشعوذة وجلب الذات، وتصديق هلوسات وأكاذيب بعض رجال الدين، وتقديس الماضي والتراث، وأسطرة الشخصيات التاريخية، واستبدال العبادة بطقوس فلكورية، انقلبت معها مفاهيم الخير والعمل الصالح، وبات الإرهاب ديناً، والخداع ديناً، والتبست المفاهيم حد الاحتراب فضلاً عن الكراهية والتنابذ والاقتتال " .

وأما النزعة العقلية فتبدو لنا واضحة في نظرته وأفكاره النقدية واحتفائه بالعقل في كل ما يطرح من قضايا وما يثيره من إشكاليات، سواء كانت هذه الأطروحات مستقاة من لمحات تراثية أو مستمدة من وقائع وطواهر فكرية وثقافية معاصرة . ونعتقد بيقين أن المؤلف بنزعته هذه يحقق درجات عالية من المصداقية في كل ما يقدمه لنا في هذا الكتاب من حيث تنطلق هذه النزعة أساساً من رفضه للثقافة السائدة لكونها في مجملها مدفوعة بالسطحية، داعمة للفكر الرجعي، داعية إلى الجمود والانغلاق، ومن ثم فإنها لم تثمر إلا تخلفاً ونكوصاً في مجملها مدفوعة بالسطحية، داعمة للفكر الرجعي، داعية إلى الجمود والإنغلاق . ومن ثم فإنها لم تثمر إلا تخلفاً ونكوصاً يضاعف أبعاد المسافة بيننا وبين الحضارة والفكر العالمي المعاصر، ويند آمالا وأحلاماً لنا مشروعة في التغيير إلى ما هو أفضل .

إن هذه النزعات وما صاحبها من توجهات قد أسهمت في تشكيل رؤى المؤلف وتنظيراته التي ضمنها كتابه الذي بين أيدينا.

وينهج ماجد الغرباوي في معالجته لقضية "الفقه والعقل التراثي" خلال محاور وقضايا هذا الكتاب، منهجا تحليلياً – نقدياً في كل محاور وقضايا الكتاب، حيث ارتكز المؤلف في كتابه إلى دراسة النصوص الفقهية، وفلسفة أخرى في فهم الحقيقة الفقهية التراثية. وتعمـّد المؤلف طوال البحث إلى تفكيك العقل الفقهي، الفقيه ومنطق العبودية والخلافة، غير مكترث لأى ممنوع أو محرم. ولا ينسى التأشير على الدوافع الشخصية والايدولوجية في فهم النصوص الفقهية. والمحاولات المتكررة من قبل المذاهب والأديان ورجال الدين لاحتكار الحقيقية وتوظيفها لخدمة العقل التراثي، بعد تكفير المختلف والمعارض.

1912 الفقيه والعقل التراثي

يقع الكتاب الذي بين أيدينا في 408 صفحة موزعة على مجموعة من القضايا والمحاور، وذلك على النحو التالي: بدأ المؤلف بالحديث عن الفقيه ومنطق العبودية، حيث تناول منطق العبودية بأنه ضد الحرية والاستقلال، وأن منطق العبودية دينياً هو اتجاه يختزل دور الإنسان بالفتنة والامتحان والاختبار ويقصر فيه دور الفرد على تطبيق الأحكام الشرعية، مع سلبه حرية الحركة خارج ما هو مشروع منها . ثم تحدث المؤلف عن بعد ذلك عن ملاكات التشريع، فلا يحق في نظره لأي شخص كائن من كان تشريع الأحكام سوى الله تعالى لأنه القادر على إدراك الملاك الحقيقي، وليست الملاكات الظاهرية، كالفوائد الاجتماعية مثلاً. كذلك يتحدث المؤلف عن الفقيه ومنطق الخلافة الذي يختلف جوهرياً في رؤيته للإنسان وللدين وأحكام الشريعة، حيث يؤكد هذا الاتجاه على مركزية الإنسان، ودوره في استخلاف الأرض، وبقيم علاقته بالخالق، وفق ثنائية الخالق والمخلوق، فتاتي علاقته مع الله منسجمة مع فهم مختلف للدين والحياة، بشكل يشعر الإنسان باستقلاليته، وتمكنه من وعي الذات.

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للحديث عن مهام الرسالة قرآنياً، حيث رأى أن رسالات السماء تواكب مسيرة الإنسان حتى بلوغ هدفه، فهي من جهة تربطه بالخالق، ومن جهة أخرى تخوله خلافة الأرض، فدور الأديان هو دور حاضن للإنسان، حتى يتقوم عوده، فلا يعقل أن يطارده من خلال الفقيه وفتاواه التي تنأى من المشاعر الإنسانية حينما تتعامل معه كآلة تقتصر مهمته على تطبيق ما يملي عليه من فتاوى وأحكام اجتهادية . وهذا دليل آخر على عدم حجية أي حكم ليس له جذر قرآني، ما لم يدل الدليل الشرعي الصريح، وهو مفقود بالضرورة.

كذلك ينتقل الغرباوي للحديث عن كون " الحرية قدر الإنسان "، حيث إن الحرية في نظره بمعنى الاستعداد فتكون سابقة على التفكير بمعنى وعي الذات، ولو من حيث الرتبة لا من حيث تعدد العلل، أي أن لحظة وعي الإنسان لذاته هي لحظة وعيه لإرادته، فتكون الأصالة لحريته دائماً .

ومن جهة أخرى يتحدث الغرباوي عن الفقيه والعقل التراثي من خلال قضايا كثيرة يطول شرح تفاصيلها هنا في هذا المقال؛ مثل: الأحكام والاعتقادية وشمول القاعدة، والإيمان والعقيدة، والعقيدة الضابطة، والعقيدة والمعجزات، ثم ينتقل بعد ذلك للحديث عن تجديد مناهج التوثيق، ومصداقية علوم الحديث، وتجديد المنهج، وخشية الراوي وضعف الرواية، كما يناقش أيضا الفارق بين العقدية والدين، وتعدد الأديان، واتجاهات الإصلاح، حيث يرى أن تلك الاتجاهات تحتوي علي ما هو سلفي وإصلاحي، وسياسي وتجديدي وتنظيري، ثم التأصيل العقلي .. ثم يتحدث عن مقاصد الشريعة فيبين أنها تشمل مركزية العدل، والسعة والرحمة، والواقع الموضوعي .. مقتضيات الحكمة في التشريع .. ملاكات الحكام .. مبادئ الحكام الشرعية .. مقاصد مرحلة الجعل الشرعي .. علاقة الواقع بالتشريع .. حدود الشريعة في القرآن .. مفهوم الحدود .. ملاكات الأحكام القضائية.. الاجتهاد تاريخياً .. والتشريعات الإلهية وخصائصها .. الفقيه وجذور الاستبداد .. والفقيه واستلاب الوعي.. والفقيه والتكوين العاطفي .. الفقيه وقيم التفاضل.. الفقيه والاصطفاء.. الفقيه والولاء.. الفقيه ومبادئ الحكم.. الفقيه ومفهوم العصمة .. تفكيك العقل الفقهي .. النص والاستبداد .. وهلم جرا..

وفي نهاية عرضنا يمكن القول بأن كتاب " الفقه والعقل التراثي" لماجد الغرباوي، سياحة عقلية خالية من أي تعصب، بعيدة عن أي إسفاف، مجردة من أي هوي، واعية متأنية في ذاكرة تاريخ الفكر الفلسفي الإسلامي نقف من خلالها مع الغرباوي على تلك الأجوبة التي جاءت من خلال موسوعته الحوارية المسماه بـ (متاهات الحقيقة)، التي تقارع حصون الكهنوت وتحطّم أسيجة تراثية تستغرق الذاكرة، وتطرح أسئلة واستفهامات استفزازية جريئة.. بحثا عن أسباب التخلف، وشروط النهوض، ودور الدين والإنسان في الحياة. فتوغّلت عميقا في بنية الوعي ومقولات العقل الجمعي، واستدعت المهمّش والمستبعد من النصوص والروايات، وكثّفت النقد والمساءلة، وتفكيك المألوف، ورصد المتداول، واستنطقت دلالات الخطاب الديني، بعد تجاوز مسَلَّماته ويقينياته، وسعت إلى تقديم رؤية مغايرة لدور الإنسان في الحياة، في ضوء فهم مختلف للدين، وهدف الخلق. فهناك تواطؤ على هدر الحقيقة لصالح أهداف أيديولوجيات – طائفية، ومذهبية - سياسية.

فتحية طيبة للأستاذ ماجد الغرباوي التي كان وما يزال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي استطاع أن يعيد لنا كتابه العلوم الدينية في صيغة عصرية، كما أعاد لنا أيضا تأويل موقف الشريعة من قضايا المرأة، خاصة فيما يتعلق بحقها في تولي القضاء والفتوى والشهادة، والمساواة بينها وبين الرجل في الحقوق السياسية والمدنية؛ علاوة على أنه صاحب رأي معلن بجرأة ووضوح في قضايا الدولة والمجتمع المدني وحرية الرأي والديمقراطية ومواجهة الفساد والتطرف، خاصة في كتابيه الحركات الإسلامية.. قراءة نقدية في تجليات الوعي، وجدلية السياسة والوعي.. قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق. ويؤسس فلسفيا أطر جديدة لمفهوم الفقيه والعقل التراثي من خلال مشروعه الفكري في تجديد "العقل الديني" والقائم على مجموعة من المهام العاجلة التي شكلت رؤيته نحو عصر ديني جديد، مثل تفكيك الخطاب الدينى، وتفكيك العقل المغلق، ونقد العقل النقلي، وفك جمود الفكر الدينى المتصلب .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

في عصر جديد وايقاع التجديد فيه سريع، وفي زماناً مختلفاً عن زمن الفقهاء الأوائل الذين كتبوا وأبدعوا مدونات فقهية بلغة عصرهم وأولوياتهم . في زمناً مختلفاً في المأكل والمشرب، والملبس، وفي علاقات الإنتاج، وفي نمط التعليم، والخدمات الصحية، والعلاقات الاجتماعية، في السفر والمواصلات، حيث إيقاع الزمان اختلف، فهل اختلف فهمنا للزمان وأحواله؟، وهل نحن بحاجة إلي فقه جديد غير ما كُتب وُدون في القرون الماضية؟، وإذا اعتمدنا علي ذلك وحده فكيف، نجيب عن أسئلة زماننا التي لم يعرفها راود تلك العصور ولم يشهدوها؟ .

إن سؤال الفقه الجديد سؤال قديم جديد كلما مر الزمان ظهرت أسئلة جديد، وأحوال جديدة وتحديات جديدة، وليس أكثر من زماننا اختلافاً عن أزمنة القدماء، وليس أكثر من إجاباتنا على هذه الاختلافات تنوعاً واختلافاً قد يصل إلى حد التضاد .

في هذا المقال نحاول أن نعرض إجابة الأستاذ المبدع "ماجد الغرباوي" من خلال كتابه الذي صدر خلال الأيام القليلة الماضية وهو بعنوان " الفقه والعقل التراثي"، وفي هذا الكتاب أراد ماجد الغرباوي أن يجيب عن إجابة أبناء الفقه القديم على أسئلة العصر الجديد لنرى مدى استجابة ذلك الفقه لتحديات العصر والمتمثلة في : هل التجديد يكون في القوالب والأساليب والأمثلة ؟، أم أنه تجديد في مناهج النظر والاستنباط ؟

في هذا الكتاب وجدنا الغرباوي يحاول أن يقيم فرضية مهمة كما اعتقد، تعول على أن الفقه هو الفهم، ومنذ لحظة الوحي الأولى بدأ الفقه ومعه الخلاف . بيان النبي صلوات الله وسلامه عليه واجتهاده، وفقه أصحابه وتابعيه وتابعيهم، أجيال من العظام، تركوا لنا ميراثاً ضخماً من الفهم والوعي، ثروة من التجارب، وتفاعل فريد بين النص والواقع، حيث تغير الزمان، وتغيرت لغته ومفرداته، فماذا نفعل بميراثنا، هل نجدده أم نبدده؟!، نتجاوزه أم نتجاوز به؟! .

في القرن التاسع عشر كان أول لقاء بين الحضارة العربية والحضارة الغربية، حيث الصدمة الأولى عندما اكتشف العرب أنهم بعيدون عن زمانهم، غارقون في ماضيهم، كانت البداية عند الشيخ "حسن العطار"- ( شيخ الأزهر الشريف وشيخ المجددين ورائدهم )، أول من نادى بتجديد الخطاب الديني، وأول من نادى بتجديد العلوم الإسلامية، كما ساهمت علاقته الوطيدة بمحمد علي باشا، في أن يكون أول صحفي في تاريخ مصر، والمؤسس الأول لتاريخ أول جريدة رسمية؛ وهي جريدة "الوقائع المصرية"، والدافع الرئيس لمحمد علي لتبني حركة التحديث والترجمة عن الغرب في كل العلوم ؛ يقول حسن العطار :" إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها، ومن سمت همته به، إلى الامتناع عن غرائب المؤلفات وعجائب المصنفات، انكشفت له حقائق كثيرة، من دقائق العلوم، وتنزهت فكرته إن كانت سليمة في رياض الفهوم .

أودع العطار ثورته في تلاميذه، وكان أشهرهم وأقربهم إليه " رفاعة الطهطاوي"، الذي سافر بدوره إلى فرنسا، وألف عنها، واهتم بتجديد منظومة التعليم، ثم تلاه آخرون في شتى أرجاء الأمة العربية والإسلامية من أمثال : جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الحميد بن باديس، وعبد الرحمن الكواكبي، وشكيب أرسلان، ومحمد البشير الإبراهيمي، والطيب العقبي، وإبراهيم بيوض، والعربي التبسي، وأبي اليقظان .. وغيرهم كُثر؛ جميعهم تركوا سؤال التجديد والتحديث، وحاولوا فهم دينهم بدنياهم، وإصلاح دنياهم بديهم، سواء بسواء .

والآن فالقرن الحادي والعشرين ما زال السؤال مطروحاً، فقهاً جديداً لعالم جديد ولكن كيف؟!

البعض يرى قراءة توفيقية بين زماننا وأزمنة القدماء، يعتمد أصولهم، ويجدد في فروعهم ( يوسف القرضاوي ومحمد عمارة )؛ وآخرون ينتقلون مباشرة من النص إلى الواقع بلغته وتحدياته ومناهجه العديدة (حسن حنفي ونصر حامد أبو زيد)، وفريق ثالث يحاول التوسط بين هؤلاء وهؤلاء والإجابة أيضاً في ضوء مستجدات واقعنا المعاصر (ماجد الغرباوي) .

89 majed 600

حاول ماجد الغرباوي في كتابه الذي بين أيدينا، وهو كما قلت كتابه الأخير الذي صدر منذ أيام قليلة وهو كتاب " الفقيه والعقل التراثي"، الذي صدر في سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة في دمشق – سوريا، 2020م، حيث يقع الكتاب في 408 صفحة من الحجم الكبير، وقد تناول الكتاب مجموعة قضايا قاربها الكاتب ضمن الحوار المفتوح، منها: الفقيه ومنطق العبودية، فلسفة التشريع، منهج التأصيل العقلي، الذي طرحه الكاتب بديلا للاتجاهات الاصلاحية الخمسة المعروفة، والتي لم تحقق شيئاً ملموساً. مقاصد مرحلة الجعل الشرعي، وهي رؤية للباحث لمعرفة ملاكات الأحكام ومدى فعليتها للخلاص من جمود المدونات الفقهية. علاقة الواقع بالتشريع، والأهم دور مضمرات العقيدة، والنسق العقدي المألوف في استنباط الأحكام الشرعية، حيث ركز البحث على مجموعة مقولات كالعصمة، والولاية، وغيرها للخروج من متاهات العقل الفقهي وتداعياته الخطيرة، إلى رحاب العقل، واشراقة الدين بآفاقه الإنسانية والرحمانية.

وقد جاءت إجابة ماجد الغرباوي في هذا الكتاب ليؤكد أنه ما كان للفقيه أن يحقق مركزيته، ويحتكر سلطته لولا تداخل الديني بالسياسي، والمقدّس بغير المقدس، والإلهي بالبشري، فالتبس على الناس التمييز بين أحكام الشريعة وأحكام الفقه، التي هي اجتهادات ووجهات نظر، وفهم للنصوص المقدسة، وقراءة تتأثر بقبلياته ومرجعياته وثقافته وبيئته ومصالحه. فتسبب انعدام الفواصل بين المتعالي والمحايث في تعميق مركزية الفقيه وفرض سلطته، باعتبارها تجلٍ لسلطة الدين أو سلطة الشريعة التي هي سلطة إلهية، فترى المكلّف هلعا يخشى مخالفة الفقيه حتى وهو يستهزئ بعقله، ويسلب إنسانيته. فهيمنة الفقيه التفصيلية تركت تداعيات خطيرة، نشير لها لاحقا. تداعيات لا يمكن تداركها ما لم نتحرَ أولاً مدى صدقيته وحدود شرعيته. وما لم نتقصَ جميع العوامل التاريخية والسياسية والطائفية التي ساعدت على تعضيد مركزيته وفرض سلطته .

وهنا يتساءل ماجد الغرباوي : هل الفقيه ضرورة؟، وهل يتوقف على وجوده شيء من الدين ومصير الإنسان؟، ومن أين استمد شرعيته وشرعية سلطته وولايته؟، ومن أضفى صفة القداسة على فتاواه وآرائه؟، وأساسا هل من حقه أن يصف الشيء بالحلية والحرمة أو الجواز وعدم الجواز، ونحن نعلم أن الأحكام توقيفية. أي تتوقف على وجود دليل صريح من الله تعالى؟. وهل صدر ما يؤكد سلطة الفقيه، واحتكاره للحقيقة الفقهية؟. وأسئلة جديرة تمس واقعه، ضمن سياقاته التاريخية والمعرفية. فنبدأ بتفكيك العقل الفقهي لتقصي جذوره، ويقينياته، ومدى تأثره بنظام القيم، ومنظومة الأخلاق التي كانت سائدة قبل وبعد البعثة. فثمة سياق تاريخي مهّد لدوره الخطير يجب مقاربته لفهم الحقيقة.

لم يكتف الغرباوي بذلك، بل أخذ يلح في السؤال فيقول فمن هو الفقيه إذن؟

وهنا يجيبنا فيقول الفقيه، بدأ من الصحابة، سليل نظام اجتماعي، يكرّس روح التبعية والانقياد لشيخ القبيلة، ويمنحه سلطات مفتوحة، فهو نظام طبقي بامتياز، يصادر حرية الفرد ويختزل وعيه إلى طاعة مطلقة للقبيلة وشيخها. فهو يلغي خصوصية الفرد، ويمنح الأب / الشيخ ولاية وقيمومة، يعتبره الجميع ضرورة لضمان وجود القبيلة ككيان يخضع الجميع لقوانينه وأعرافه وتقاليده. فثمة تماهٍ تام بين الفرد ومنظومة القيم القبلية، وهناك أخلاق تستبد بوعي الفرد وتلازم سيرورته، تمهّد لقبوله، مهما اختلفت تمظهراته. فالنظام القبلي ساعد لا شعوريا، على قبول النظام الديني، المتمثل بالنبوة آنذاك، حيث فرض الكتاب الكريم للرسول سلطات، أعادت لمنظومة القيم الجاثمة في أعماق الفرد العربي توازنه واستقراره. فثمة ولاية مطلقة للنبي هي ذات ولاية شيخ العشيرة وفقا لنظامها، وكرست روح التبعية والانقياد في نفوس المسلمين، وهو جوهر النظام القبلي. لذا حسمت رواية الأئمة من قريش الموقف السياسي لصالح قريش نهائيا وإلى الأبد بمساعدة قيم النظام القبلي، وقد مرّ بنا مفصلا بيان هذا النظام ودوره الخطير في مصادرة القيم الإنسانية والأخلاقية التي تجلت بإقصاء الأنصار من السلطة رغم مكانتهم في الإسلام وعند رسول الله. ولا ميزة للشيعة عن السنة فكلاهما ينشدان نظاما قبليا قائما على قدسية شيخ العشيرة. ويؤمنان بالوراثة نظاما للسلطة والحكم، هذه هي الحقيقة التي يتستر عليها الجميع بواسطة مصفوفة روايات لا يمكنه الاستدلال على صحة صدورها، أو يلزم منها الدور، فتفقد قيمتها الاستدلالية .

ثم يستطرد الغرباوي فيقول : فالفقيه يحمل في أعماقه نواة النظام القبلي، ويقوم بتعزيزه لا شعوريا بعد اكتسابه صفة دينية وقدسية. وطبيعة النظام القبلي نظام عبودي، سيّد يخطط ويأمر، وعبد يتلقى وينفّذ. وكلاهما لا يحقق وجوده إلا من خلال الآخر، فيكون بالنسبة له ضرورة يتوقف عليها وجوده وتحققه خارجا، بمعنى رسم حدوده من خلال وعيه ومشاعره. لا من خلال كينونته. فلا يوجد صراع طبقي، ولا توجد إمكانية للثورة على أساسه، لتوقف تحقق وجوده على الآخر / السيد / الشيخ. فأغلب قادة الانتفاضات عبر التاريخ الإسلامي شخصيات قبلية قوية، لا تنتمي لطبقة العبيد. ولا أقصد بالعبيد العبودية الظاهرة أو الرق، وإنما أقصد به روحا ووعيا ونظاما أخلاقيا جاثما في أعماق الفرد، ومهيمنا على العقل الجمعي. فلا وجود لقاعدة (ما من واقعة إلا ولله فيها حكم) فعلا، بل الأحكام محدودة، غير أن متطلبات النظام القبلي يستدعي الاستغراق في التشريع، لضبط سلوك الفرد، والإمساك بوعيه، مع تعزيز مكانة الشيخ / الخليفة / الإمام / السلطان / الفقيه. وبالتالي فدراسة جذور الوعي لدى الفقيه، وتحديد منحدراته يساعد على فهم سيرورة سلطته. فالدين الجديد استبدل الاسماء من شيخ القبيلة إلى نبي / خليفة / إمام / فقيه. وهذا قد لا يكون واقعا بالنسبة للنبي، لكنه استقر في وعي الناس، أن سلطة النبي هي سلطة شيخ القبيلة زائدا قدسية إلهية وأسطورية. لأن معنى الشيخ في الوعي الجمعي، هو صاحب السلطة، المتسلط، الذي يحتكر الامتيازات بفعل خصائصه العنصرية، فهو من طينة أخرى، ومن أقوام وسلالات بشرية خلقوا ليكونوا أسيادا على العالمين، وبهذا المنطق خضعت جميع القبائل لسلطة قريش، وتسيد رجالها على مقدرات المسلمين، بذات السلطة هيمنة الخلافة الراشدة ومن بعدها سلطة الخلفاء في الدولتين الأموية والعباسية، ولما وصلت النوبة للسلطة العثمانية استعانت بالفقيه ومنصب مشيخة الإسلام. ولعل هدف الآية الآتية تذكير الشخص العربي بقيمه التي على أساسها منح شيخ قبيلته ولاء مطلقا، فأرادت أن تقول له أن الأنبياء أحق بالولاء إذا كنت تنظر لنقاء العنصر البشري: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) .. وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

ما زلت أؤمن بل ربما أكثر من أي وقت مضي مع أستاذي الدكتور حسن حنفي بأن التواصل بين الأجيال أحد مكونات الوعي التاريخي؛ حيث إن كل جيل يبدأ من الجيل السابق ويتجاوزه؛ فلا يوجد جيل بلا أساتذة إيجاباً أم سلباً؛ وكل جيل يواصل الجيل السابق ويقطع معه؛ ولا أحد يبدأ من الصفر حتى يحدث التراكم التاريخي الضروري لبلورة الوعي التاريخي الفلسفي كنواة للوعي التاريخي العام. ولا يعني تواصل الأجيال التكرير؛ تكرير الجيل اللاحق للجيل السابق أو المديح والتقريظ الذي يصل إلى حد التملق والتفخيم والتقديس والتأليه طلبا للشهرة الإعلامية والذي ينقصه الصدق نظرا لأنه يتوجه للكل وفي كل المناسبات بلا استثناء . بل يعني القدرة علي الإكمال وإعادة القراءة من الزمن الأول؛ زمن كتابة النص؛ إلى الزمن الثاني؛ زمن قراءته والذي قد يصل إلى حد نصف قرن؛ قل أو كبر؛ وهو عمر الجيل . يعني إعادة كتابة النص الأول ونقله من ظروفه الأولي إلى ظرفه الثاني؛ وكأن الجيل السابق قد بعث من جديد في روح الجيل الحالي؛ وأخذ يتكلم بلسانه؛ فالروح تتواصل في التاريخ؛ والتاريخ يتراكم في الروح؛ والمراحل تتوالى علي الأمد القصير والدورات تبدأ وتنتهي علي المدي الطويل

وإذا كانت لكل عصر من العصور سماته وقضاياه؛ فإن الكثير من قضايا العصر الحديث مرتبط بالمرأة؛ فالحديث لا يتوقف ولا يهدأ عن تحرر النساء وحقوقهن السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ وعن إزالة كافة أشكال التمييز عنهن؛ كثر الحديث عن المرأة في التاريخ وعند الفلاسفة والمفكرين.

 ولقد ظهرت فلسفة حديثة أطلق عليها الفلسفة النسوية أو الفلسفة الأنثوية أخذت علي عاتقها أن تري الوجود كله بعيون الأنثي؛ حتى العلوم الطبيعية أخذت نصيبها من الفلسفة؛ ومع بداية العصر الحديث ومع قيام الثورة الصناعية والحاجة للمزيد من الأيدي العاملة؛ ومع حروب عالمية استهلكت البشر كما استهلكت البيئة؛ كان التدشين لعصر جديد للنساء يدخلن آلة العمل بقوانينها الجبارة؛ وكان لا بد من قيام أفكار وفلسفات جديدة لخدمة هذا التوجه؛ فكانت حرية المرأة؛ وحرية الجسد؛ والبحث عن دور جديد للنساء ... الخ (وذلك حسب ما ذكرته الباحثة سلوى محمد نصره في مقدمة كتابها الفلسفة النسوية في فكر الإمام محمد عبده).

 ومع دخول القرن التاسع عشر ظهر الفكر النسوي في شكل ثورة تطالب خلالها بحقوق المرأة نتيجة الاضطهاد الذي عانت منه عبر العصور وفي مختلف الديانات، انطلاقا من نقدها للسلطة الكلية للرجل على المرأة من خلال تغيرها لعدة مفاهيم، فتعتبر أن الأبوية ذريعة اتخذها الرجل للسيطرة على المرأة، باستغلاله لطبيعة جسدها الضعيف أمام جسده، فليكون هناك توازن على المرأة أن تحقق هويتها وذاتها بأن تكون عنصر فعال في المجتمع، لتظهر خلال هذا كله موجات وتيارات نسوية، فالموجات النسوية تمثلت في ثالث موجات ابتداءً من الموجة الأولى التي كانت تبلوراتها خلال سنة 1792م كتمهيد للموجة الثانية التي كانت بين سنة 1960م حتى نهاية القرن 20م، لتأتي الموجة الثالثة كآخر موجة التي كانت بداياتها من التسعينيات لتمتد إلى يومنا هذا؛ حيث عملت النسوية خلال هذه الموجات إعادة الحقوق للمرأة مهتمة بكل قضايا المرأة. نفسها. لنجد التيارات على تحقيق العدالة والنسوية التي تبدأ بالتيار النسوي الماركسي، ثم التيار النسوي الليبرالي، فالتيار النسوي الاشتراكي، أخيراً نجد التيار النسوي الراديكالي. لتبرز الفلسفة النسوية الغربية وحتى العربية في كافة المجالات العلمية والفكرية.

 ومن أهم المفكرين الذين أولوا قضية المرأة عناية فائقة والمنظرين لأسس الفلسفة النسوية بمفهوم ورؤية خاصة تستحق الدراسة والتحليل هو الأستاذ ماجد الغرباوي؛ ذلك الرجل الذي يمثل (كما قال الأستاذ شاكر فريد حسن في مقاله ... ماجد الغرباوي المثقف التنويري والمفكر المضيء): رمز ونجم فكري وثقافي نقدي لامع يتجدد كل يوم في فضاءات العلم والثقافة والسياسة والمعرفة؛ ويقف ضمن طليعة المفكرين والمثقفين العرب المستنيرين والنقديين المشتغلين على نقد الفكر الديني والحركات الاسلامية ومسائل النهضة والاصلاح والتجديد والمعاصرة والتنوير والعنف والتسامح بين الاديان والعقائد والمذاهب؛ وقضية المرأة ومسألة تحررها المرتبطة بتحرر المجتمع كله . فهو يتمتع بموهبة أدبية ابداعية وخلاقة وآفاق علمية واسعة؛ ويتصف بالذكاء والفطنة والبصيرة الثاقبة وبعد النظر والرؤية الواضحة والوعي المتجدد المتوهج المتوقد ... وهو المفكر المتواضع الثري بالثقافة الاسلامية والفكر الانساني والوعي النقدي؛ والانسان العصامي؛ الصلب؛ المقاتل والمحارب بالكلمة والقلم؛ والثورة لديه فصل حب وعشق كوني شمولي ... هو كذلك المفكر المتمرس المتبحر في التراث الاسلامي؛ يملك الأسس العقلية المنفتحة والأدوات الفنية التي يعتمدها اسلوبه الكتابي النقدي ومقارباته الفكرية والثقافية؛ التي تعد اهم ركائز واوليات الاستنساخ للمثقف المبدع الخلاق المبتكر المجدد... وهو أيضا كاتب وباحث عميق وجاد؛ صاحب مشروع فكري نهضوي معاصر يسعى من خلاله الى ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي؛ ومن خلال قراءة متجددة للنص الديني على اساس النقد والمراجعة المستمرة من اجل فهم متجدد للدين كشرط أساس لأي نهوض حضاري وعصري متقدم وجذري يساهم في تأصيل قيم الحرية والتسامح والعدالة في اطار مجتمع مدني خال من العنف والتنابذ والاحتراب .

والسؤال الآن: ما هي رؤية ماجد الغرباوي لأفكار الفلسفة النسوية من مكانة المرأة؟ والمساواة؛ والحرية؛ وحقوق المرأة وأيضا موقفه من الفلسفة النسوية الغربية والفلسفة النسوية العربية؟ ما وماهي المنطلقات الفكرية في نظر الأستاذ لنسوية ما بعد الكولونيالية؟ وهل يعد القهر الذي تتعرض له المرأة موضوعا عالميا وليس موضوعا عربيا؟؛ وكيف تقهر المرأة من وجهة ماجد الغرباوي؟ وما هو مفهوم النظام الأبوي وما ماصدقاته؟ وماهي الأصول الفلسفية لتبعية المرأة في هذا النظام؟ وما فلسفة النظام الأبوي في تربية المرأة؟ وذلك من وجهة نظر الأستاذ انطلاقا من الايدلوجية التي يتبناها ماجد الغرباوي؟ وأسئلة كثيرة أخري صاغها كاتب تلك السطور وأجاب عنها بإفاضة الأستاذ ماجد الغرباوي .

إن رؤية ماجد الغرباوي تتضح من خلال مشروعه التنويري والذي يقول عنه: أما عن مشروعي، فسأبداء ببيان الخطوط العريضة لرؤيتي حول النسوية، معززة بالمبادئ التي اؤمن بها:

أولاً - أسعى في مشروعي إلى إقامة مجتمع مدني متحضر، يأخذ بأسباب العلم والمعرفة، ويعزز قيم الدين والفضيلة، باعتبارهما قيما إنسانية أصيلة تكافح الظلم والعنف وتعضّد روح التسامح والسلم الأهلي. وتقوض مشاريع الهيمنة والتوسع والسيطرة، وخطط إذلال الشعوب ونهب ثرواتهم. وتساهم في التحرر من سطوة المؤسسات الدينية والأفكار المتطرفة والهدامة. وعلى هذا الأساس أقارب موضوعات النسوية تارة باعتبارها فردا، وثانية باعتبارها جزءا من المجتمع.

ثانياً- تعريفي لمفهوم النسوية - Feminism، وفقا لمفهوم الفلسفة المعاصرة، القائمة على النقد والعقلانية، هو: (تحرير وعي المرأة وإعادة تشكيله وفق رؤية إنسانية عادلة). ليكون موضوعها: (نقد مكونات الوعي وارتهانات تشكيله). وقد تمت الإشارة له سابقا، أذكر به للمناسبة.

ثالثاً - تبدأ الخطوة الأولى على طريق تحرير المرأة، واستعادة حقوقها، من استرداد إنسانيتها، واستعادة ثقتها بنفسها، وبعقلانيتها وحكمتها وقدراتها العقلية والنفسية، بعد تحرير الوعي من تراكمات التربية والبيئة وسطوة التراث والعادات والتقاليد، وعقد النقص والدونية.

رابعاً - توظيف الخطاب الديني العقلاني، وقيم الحضارة الحديثة، والقيم الأخلاقية والإنسانية، لإعادة تشكيل وعي الرجل بالمرأة، وانتزاع اعتراف حقيقي بإنسانيتها، يضعها على قدم المساواة معه. للتخلص من منطق المنّة والشفقة والتكرّم والتفضّل المستوطن وعي الذكر في تعامله معها.

خامساً - ما لم يكن اعتراف المجتمع بإنسانية المرأة اعترافا حقيقيا يبقى التسامح معها تسامحا شكليا، ويواصل الرجل نظرة الازدراء، يضع نفسه فوقها، ويتعامل معها بتعالٍ ذكوري.

سادساً - تستمد حقوق المرأة مشروعيتها من إنسانيتها. تبقى تدافع عنها على هذا الأساس، وتشعر بالظلم والإهانة عند الاستهانة بها. أما المرأة المنهزمة فتبقى مشروعية حقوقها مرتهنة للرجل وإرادته. فتتعرض للاضطهاد والظلم، دون التمرد عليه باعتباره قدرها. وهذا فارق جوهري اؤكد عليه دائما في مسألة النسوية، وأعتبر جميع الحقوق بناء فوقيا، ينبغي أن يؤسس على أسس إنسانية وعقلية وأخلاقية. ينبغي للمرأة أن تحدد حقوقها بنفسها، بعيدا عن سطوة الرجل وسلطته. وهو ما نراه الآن، حيث الذكر هو الذي يحدد حقوق المرأة.

سابعاً - أؤمن من حيث المبدأ بحرية المرأة ومساواتها مع الرجل، ما لم تمسا قيم الفضيلة، التي هي أساس تماسك الشعوب. لذا أميل للحرية العادلة، والمساواة العادلة. والعدالة قيمة نسبية، تحددها مصالح الشعوب ومرتكزاتها الفكرية والعقدية إضافة إلى التزاماتها الاجتماعية (عادات، تقاليد، تعليمات دينية، لوائح قانونية، مقررات) التي تستمد شرعيتها من شرعية تعاقد مضمر بين أبناء الشعب، أو عقد اجتماعي، وجود الفرد يؤكد قبوله به، فيفرض عليها الالتزام به. ومن يعش داخل مجتمع، يلتزم بما يلتزم به أفراده. التزام يحيل على عقد اجتماعي يستمد شرعيته هو الآخر من عدالته والالتزام به. وقد يحد المجتمع من حريات أفراده، شريطة أن تكون قيودا عقلانية، تصب في مصلحة الجميع، وينتفي عنها صفة الاعتداء والظلم. أي أن تحديد الحرية التي هي صفة وجودية للإنسان، لا يعتبر اعتداء، مادام له مردود إيجابي على الجميع والمرأة جزء منه. فهي تتنازل عن بعض حريتها لأجل تعزيز قيم الفضيلة التي تعضد تماسك الشعب. وهكذا بالنسبة للمساواة، فهي حق للمرأة أصالة، لكن لا ينبغي للرجل استغلالها لإقحام المرأة باسم المساواة إلى سلوك يضر بمصداقيتها، كأن يجبرها على عمل شاق فوق طاقتها وقابلياتها، باسم المساواة فيوجب عليها ذلك، لذا اشترطت في المساواة العدالة، كشرط أساس لتحقيق توازن قيمي، يراعي خصائص المرأة، خاصة البايلوجية. والعدالة تحفظ حقوق الجميع، دون غَبن أو ظلم. فثمة فرق بين الحرية والمساواة باعتبارهما لازمين لوجود المرأة. وبين الحرية والمساواة كممارسة اجتماعية خاضعة لشروط العقد الاجتماعي.

ثامناً - الدين تجربة روحية تروي ظمأ الإنسان المتعطش للمطلق، والمرتهن للغيب والمقدس. يغمره قلق مصيري لا شعوري، وتوق جنوني للسمو يستبد به وهو يعيش تجربته، فتنعكس آثارها على سلوكه ومشاعره ومواقفه. والدين بهذا الفهم الصوفي يساهم في تعميق قيم التسامح والسلم الأهلي، حينما يضفي الدين معنى لحياته وتضحياته، ويرفد المجتمع بقيم المحبة والسلام، ويساهم في تماسك الأواصر الاجتماعية، والحث على العمل الصالح. وعدم التآمر ضد مصالح شعبه ووطنه. لا يسود الاستقرار والأمن، ولا تحقق المواطنة أهدافها من خلال القوانين وقوة القضاء، بل ينبغي وجود ثقافة موازية تثقف الشعب على القيم والمبادئ الكفيلة باستقرار الشعب. والدين بالمعنى المتقدم يلعب دورا إيجابيا عندما يخلق وازع التقوى، وحب الخير، وحينئذ سيلتزم بالأنظمة والقوانين حتى في خلواته بعيدا عن عدسة الرقيب الأمني. وهذا النمط الديني يعارض منطق الفرقة الناجية، ويفتح باب النجاة أمام الجميع، ويحول دون دعوى احتكار الحقيقة، وسيادة منطق التكفير.

تاسعاً - الأحكام الشرعية، أحكام نسبية، ترتهن فعليتها لفعلية موضوعها، وبعد أربعة عشر قرنا، حصلت تحوّلات حقيقية، ينبغي أخذها بنظر الاعتبار، إذا أن الشريعة قائمة على أساس ملاكات ومصالح ومقاصد، ويمكن اعادة النظر بجملة منها، باستثناء بعض العبادات.

عاشراً - أهم إشكالية تواجه المرأة عامة والمرأة المثقفة خاصة، تحرير العقل الجمعي من ذكوريته وسلطويته واستخفافه، ليرقى إلى مستوى إنسانيته في تعامله معها. مع تعميق ثقتها بذاتها وبمنجزها، بعيدا عن تاء التأنيث، تحاشيا لإعادة انتاج الذكورة من خلال تكريس الأنوثة. وهذه اشكالية مركبة، تتطلب من المرأة عملا مزدوجا. تنقية العقل الجمعي من قيم التمايز الجنسي، وتأكيد إنسانيتها، من خلال مواقفها ومنجزاتها بعيدا عن التكريس اللاشعوري للأنوثة. فتارة تكرّس المرأة الذكورة وهي تقاوم تحدياتها، فتعيد انتاجها بصيغ مختلفة. وهذا ما يحصل حينما تصرّ المرأة على تأنيث منجزها تفاخرا أو تحديا، أو تكريسا لخصوصيتها، ليبقى المجتمع العربي في دوامة ثنائية المرأة / الرجل. الذكر / الأنثى. وتبقى نبرة الرجل تعلو صوت المرأة، رغم حضورها الكبير على المستوى العلمي والأكاديمي والاجتماعي والثقافي والأدبي والفني. بل ونافست الرجل في أعلى مناصب القيادة عندما مارست السلطة والحكم (رئيسة دولة أو رئيسة وزراء)، أو كوزيرة ومستشارة، ومديرة، ورائدة فضاء، وبرلمانية.

***

ا. د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة، وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

....................

* مقدمة كتاب: الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي، د. محمود محمد علي، ط 2020 م، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا ودار الوفاء لدنيا، الاسكندرية – مصر.

 

النظرية الغرباوية في الميزان "نماذج"

ماجد الغرباوي قامة إعلامية وإبداعية في ساحة الفكر والثقافة العربية دون منازع، فقد استطاع بفكره أن يخصص له مساحة واسعة لنشر أفكاره والمتتبع لكتاباته يقف على أن الغرباوي مفكرا، مُنَظِّرًا وناقدًا في نفس الوقت فقد ارتكزت ابحاثه على الخطاب الديني وتحرير العقل البشري، مسلطا الضوء على كثير من القضايا التي نالت حظا من النقاش لدى النخبة المثقفة متخذا في ذلك مسارا جديدا في عالم الفكر والإستبصار، كما تناول قضايا تتعلق بمرجعيات الفكر الديني، حاول من خلالها إبراز سبب إخفاق الوعي الديني ولماذا انتصر الآخر علينا، كما تناول قضايا المرأة من وجهة نظر فلسفية تحررية، وما يمكن تقديمه من حلول مخاطبا في ذلك النخبة المثقفة من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأيّ نهوض حضاري، ويمكن القول أن ماجد الغرباوي قد أشبع طرحا مستفيضا في كتبه وأبحاثه متتبعا الواقع الراهن.

في هذه الورقة المتواضعة نقف على "النظرية الغرباوية" وما قدمته من أفكار ورؤى حول الإنسان في تقدمه تارة وتأخره تارة أخرى وفق ما تقتضيه الظروف، وماهي عوامل تراجعه عن مواكبة العصر والحداثة، فكتاباته تأتي لتدعم جميع توجهاته في المجالات السياسية والفكرية، لامس من خلالها الوضع العربي وما يعانيه من مشاكل تعيق ازدهار الحركة الفكرية والسياسية والثقافية، فجل كتابات الغرباوي تدعو إلى تنوير العقل البشري وتحريره من القيود عن طريق الحوار مع الآخر وممارسة النقد بأسلوب عقلاني حضاري، من أجل تقارب الأفكار بين الرأي والرأي المخالف/ المختلف، وبالأخص الصراع الدائر حاليا من جهة بين الحركات الإسلامية التي تبنت العنف كحل سياسي، ومن جهة أخرى حول مسألة الطائفية، وفي كل إصدار له نجده يغوص في إشكالية الأنا والآخر، الثابت والمتغير، المقدس والغير مقدس، يراجع فيها المفاهيم والأفكار حتى لا يُعَرِّضَ الوعي للإخفاق، خاصة حين ينفعل الوعي بالعالم الخارجي فيحوله ويُكَيِّفُهُ ويُغَيِّرُهُ، جعله ينتقل من مرحلة إلى مرحلة أبعد منها، إلى أن وصل إلى المرحلة الراهنة التي لم يستطع تعدّيها أو تجاوزها، لأن الأنظمة تغيرت وقوانين النظام الإجتماعي لم تعد ثابتة.

 وقد شهد فكره الكثير من الباحثين الأكديميين الذين أشادوا بمشروعه الفكري الذي أثرى الساحة الفكرية والثقافية العربية، ورغم ان اسلوبه يتميز أحيانا بالتعقيد، لأنه لا يعتمد أحيانا على الخطاب المباشر أي المصارحة، إلا أن أفكاره تتفق في مجملها مع الكثير من المفكرين التنويريين، فقد حرص الغرباوي على تقديم أفكاره ورؤاه وفق معطيات منطقية لامس فيها روح الواقع بنظرة علمية متفتحة، ما يعني قدرته على "المناظرة" والتحدي من أجل كشف الحقيقة ورفع اللبس عن القضايا المعقدة، في سبيل الإرتقاء بمشروعه الفكري، كما نرى ذلك في كتاب د. صالح الرزوق (جدلية العنف والتسامح في المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي)، الذي ناقش فيه كتب الغرباوي: "إشكاليات التجديد"، و"جدلية العنف والتسامح " خاطب فيها الإنسان، هذا الإنسان الذي تطور في تمثله حركة العالم، بحيث ينظر إليه نظرة تاريخية، باعتبار أن التاريخ مادة متحولة متحركة، وفي كل حركة تاريخية يتحرك معها الإنسان، يظهر ذلك في عمله الجماعي، يتكون وينمو، فيضفي على نفسه صفة الواعي المدرك لمسؤوليته في العالم المعاصر، وقد يتأخر لظروف إجتماعية تؤثر عليه ومحيطه والبيئة التي يعيش فيها، فتجده يمشي بخطى مترددة كما أنه يتأهب لخوض معركة مريبة الخاتمة، فمن خلال ما وقفنا عليه من إصدارات آلينا أن نقرأ الغرباوي وما تحويه نظرياته من أطروحات.

التجديد عند الغرباوي هل هو ضرورة حضارية؟

1853 اشكلات التجديدفكتاب "إشكالية التجديد" كان عبارة عن اسئلة طرحها ماجد الغرباوي، هي اسئلة فرضتها حالة التخلّف والانحطاط الذي بلغته البشرية، فكانت موضع اهتمام الدارسين والمفكرين رفدت أقلامهم الوعي بكل جديد، من أجل نهضة حضارية تعيد للمسلمين مجدهم الضائع وأبقتهم في دوامة السؤال والبحث كمنتج فكري عن سبل كفيلة بانجاز نهضة تمثل هويتهم، وتجسّد قيمهم ومبادئهم، وكما جاء في الصفحة رقم 11 من الكتاب يرى ماجد الغرباوي ان التبعية إحدى مظاهر التخلف لأننا نعتمد على الغرب في كل ما نحتاجه، حتى ثرواتنا التي يحتاجها الغرب يصعب علينا فرض شروطنا عليه إلا بصعوبة، ومكمن الخطر أن الشعوب لا تعي مخاطر التبعية، ويشير ماجد الغرباوي إلى ما تعانيه الشعوب من استبداد سياسي صعب عليها تقرير مصيرها بنفسها، سواء التي تعيش تحت نير الإستعمار، أو التي تمارس حكوماتها التسيير الإستبدادي الدكتاتوري، من خلال مصادرة الرأي وقمع المعارضة وتلجأ إلى تكميم الأفواه عن طريق الإعتقالات.

 ويربط ماجد الغرباوي الإستبداد الديني في العالم العربي والإسلامي بانتشار الفكر التكفيري، الذي قادته حركات إسلامية متطرفة وهذا بسبب القراءات الخاطئة للقرآن وتأويلاته والفتاوي التي أباحت قتل الآخر، وهتك عرضه وحرمته، ومما زاد في تفافم الحالة تعدد الخطابات، بين الدينية، الطائفية والقومية، ولا ينفك ماجد الغرباوي ان يقحم المرأة في أطروحاته، كما جاء في الصفحة 19، عندما اعتبر المرأة مقياسا لتطور المجتمع، وقمعها يعتبر أحد علامات تخلفه، حيث تعيش المرأة مسلوبة الإرادة والإختيار، بينما تعيش المرأة في الغرب إنسانا كاملا في الحقوق والواجبات، ولذا يرى ماجد الغرباوي أن التجديد ضرورة حضارية، منبثقة عن حركة الأشياء، الملاحظ أن الغرباوي يربط التجديد بالحداثة التي باتت ضرورة حضارية، رغم الهجوم الكاسح ضد المجددين، وصل إلى حد القذف والإتهام والطعن في الأعراض.

والتجديد في نظر الغرباوي لا يعني إلغاء الآخر أو إبعادة ووضع آخر في مكانه، وإنما يعني به تحديث أدوات التفكير عبر مناهج ونظريات حديثة خاصة في المسائل الدينية من أجل فهم الدين ومقاصده وغاياته ..الخ، في ضوء تكون وعي الإنسان، وهذا يحتاج إلى مراجعة الثوابت والفكر والثقافة، رفع الجمود على النص وتقليد السلف، والإنتقال من أسلوب التلقي الأعمى إلى البحث فلا يجب ان ننساق وراء حمايات لا نعرف عنها شيئا، أو نشارك من حيث لا نشعر بطقوس وممارسات تمتص طاقتنا ولا تساهم في إثراء النهضة، للإشارة أن كتاب إشكاليات التجديد طبع مرتين، الأولى في سنة 2000 ضمن سلسلة كتاب قضايا إسلامية معاصرة والثانية سنة 2001 ضمن نفس السلسلة في بيروت، وهذه الطبعة الثالثة، مع مقدمة بعنوان: التجديد والفعل الحضاري في ضوء التحول الثقافي والفكري.

و قد تحدث ماجد الغرباوي عن دور الثقافة في تحديد اتجاه الوعي، وقارن بين الثقافة المنغلقة والثقافة النقدية الجادة (المنفتحة)، الأولى كما يقول هو تفضي إلى واقع سلبي يغيب الوعي، وينتقد ماجد الغرباوي الحكم الأموي الذي مارس تزييف الوعي، إذ اتخد بعض علماء السوء بطانة تزور الحقائق وتضلل الأمّة التي هي بحاجة إلى وعي رسالي، ويشير ماجد الغرباوي في الصفحة 24 كيف واكبت الدراسات سير الرجال والإهتمام بأئمة أهل البيت في مكافحة الغلو والتطرف الفكري، في إطار مبني على منهج صحيح بعيدا عن الخطابات التحريضية من أي جهة صدرت ما دامت المسألة قابلة للبحث والدراسة، من وجهة نظر غرباوية فإن تخلف المسلمين سببه انقسامهم أمام النهوض الحضاري، الأول منبهر بالغرب وصل به الأمر إلى حد التبعية، الثاني أصولي متعصب للتراث ولا يرى غيره رافضا معطيات الحضارة الحديثة، والثالث عاد لمراجعة التراث يستنطقه دون التغلغل في اعماق الوسط الإجتماعي مهملا الجانب المعرفي، ولذا ترى النظرية الغرباوية أن الوعي يشكل نقطة انطلاق في مهام التجديد، والوعي عند الغرباوي يعني إدراك الواقع وتشخيص أخطائه، وإعادة النظر في إشكالية الحوار مع الآخر المختلف وفق مبدأ قرآني، دون أن ينسى دور المثقف في تكوين بنية المجتمع فكريا وفي تجديد هويته الثقافية.

تحديات العنف

1854 تحديات العنفوتشكل ثقافة العنف عند الغرباوي تحديات خطيرا لوجود الانسان منذ القدم، ولا يزال العنف من أخطر التحديات وأكثرها تعقيدا، وبات من الصعب العثور على طريقة تهدي إلى تشخيص الحلول الناجحة لتسوية الازمات، التي تفاقمت في العقود الاخيرة من القرن المنصرم وهذا القرن حتى تحول العنف الى سلسلة أعمال ارهابية وموجة تفجيرات وعمليات انتحارية طالت مناطق واسعة من العالم، اتهمت الرسالة السماوية بالدموية، حتى بات العنف علامة فارقة تتصف بها الحركات الإسلامية جميعا، ما يلاحظ أن ما داء في هذا لكتاب عبارة عن تقرير، تحدث فيه تحدث ماجد الغرباوي عن التكثيف الاعلامي المضاد لوسائل الاتصال الحديثة، بطريقة متهورة أحيانا، ليست أقل خطر من الأعمال الإرهابية ذاتها التي يرتكبها البعض باسم الدين، بل بات المسلم في نظر هذه الشعوب حيوانا مفترسا لا يستحق الحياة، بعد تجرد الإرهابيين من قيمهم الإنسانية وارتكابهم أعمالا مخزية ضد البشرية، أو ضد التطور الحضاري، فصار العنف يشكل تحديا كبيرا للمشروع الإسلامي الحضاري.

يطرح الغرباوي مسألة العنف من وجهة نظر فلسفية، هل هو حقيقة أم هو استعداد قابل للتطور والتفاقم؟ وهل هو حاجة غريزية؟ أو فعل إرادي يمكن السيطرة عليه؟ أم أمرا عارضا على الإنسان يمكن التخلي عنه؟، يقول الغرباوي أنه صعب الإجابة على هذه الأسئلة، لأن هناك اختلاف في الرؤى والتصورات بين الفلاسفة والإنتروبولوجيين، مستعينا بحوار الإنتربولوجي المغربي عبد الله حمودي وذكر رد هذا الأخير في الصفحة 96، إذ يؤكد في الصفحة الموالية للكتاب أن مشكل العنف مشكل شائك وحضوره قائم، بمعنى أنه لن يكون مآله الزوال ومن ثمّ القضاء عليه مستحيل، في البداية انطلق الغرباوي من تاريخ نشأة العنف عندما تحدث في الصفحة 32 عن حادثة ابني آدام (قابيل وهابيل) التي عكست طبيعة العلاقات التي مر بها الإنسان خلال مراحل حياته، وهذا يعني كما يقول الغرباوي أن تاريخ البشرية بدأ بالعنف في أول خطواته، كما يقدم الغرباوي صورة واضحة لفكرة "الجهاد" إن كانت تعني قتل الأبرياء الذين يختلفون معهم دينيا أو مذهبيا أو تعني تفجير الساحات العامة والمباني والمؤسسات ومحطات النقل؟ وهل من الجهاد قتل الذين يمارسون شعائرهم الدينية باسلوب انساني مسالم؟ وهل من الاخلاق قتل النساء والاطفال وذبح الاسير، من الوريد الى الوريد؟ انها أعمال لا انسانية فكيف يرتضيها دين الاخلاق والقيم الانسانية.

 يقول الغرباوي أنه حان الوقت لمقاربة الاسئلة الممنوعة واستنطاقها والتنقيب عنها في اعماق التراث بحثا عن مكوناته وآليات تكوّنه، اذ ما زال التراث يتحمل القسط الاكبر من مسؤولية التخلف الحضاري للمسلمين ذلك يكون عن طريق فتح حوار مع الذات عن الخلفية التي ينطلق منها الأصولي والمتطرف في ارتكابه ممارسات إرهابية وإقدامه على عمليات انتحارية ضد الناس الأبرياء، فالتمادي في ممارسة الارهاب المسلح دون مناقشات علمية للبنى العقدية القائمة عليها، سيجعل من الاخيرة مرجعية يرتكز اليها كل من يبغي محاربة الآخر ممن يختلف معهم دينيا أو فكريا أو عقديا، ويقارن الغرباوي بين ما تمارسه الجاليات العربية والاسلامية التي تعايشت مع الآخر ونشأت بينهما علاقة مفعمة بالتسامح والاعتراف بالتعدد الثقافي والديني في الوقت الذي مارست فيه بعض شرائح المجتمع، كل أشكال العنف المسلح حتى صار العنف سلوكا يوميا عندها بل تحول إلى ثقافة وفكر وعقل ومنهج في التفكير؟ ويرجع الغرباوي السبب إلى تسلط الأنظمة على شعوبها وتدميرها القيم الانسانية، واستنبات قيم جديدة اعتمدت العنف واستباحت المحرمات الانسانية والدينية.

جدلية العنف والتسامح في المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي

 هل الغرباوي رجل إصلاح؟ ومن ثم يمكن ضمه إلى قائمة الإصلاحيين مثل الكواكبي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني، هذه الأسئلة تقودنا إلى تحديد مفهوم الإصلاح عند الغرباوي، فهو يرى أن الإصلاح واقع مادي جوهري وله قيمة فوق تجريدية وهو مرتبط بالتجديد، حتى الذين تابعوا كتاباته أجمعوا على أن ماجد الغرباوي لم يذكر الإصلاح إلا وأردفه بالتجديد وفي جميع حواراته، لم يكن يفصل التجديد عن الإصلاح والعكس، كما أن جل رجال الإصلاح من المشرق العربي إلى المغرب العربي ركزوا في دعوتهم على مصطلحات تشمل التجديد والإصلاح والتسامح والتعايش، اكتسبوا من خلالها درجة من التقديس أبعدت عنهم كل الشبهات والتهم، وهذا الكتاب يعتبر متمما أو مدعما لما سبقه، ولذا اهتم الغرباوي من بين كل الإصلاحيين بالأفغاني، إذ يرى الأفغاني في إصلاحه أنه إصلاحي نهضوي وكان مجددارغم أن العاطفة الإسلامية تغلبت على انبهاره بالحداثة، يقول الغرباوي ان إسلاميات الأفغاني كانت موضع تشكيك من السلفيين.

1855 التسامح ومنابع اللاتسامح

أما مسألة النهضة فالغرباوي يعرضها كأطروحة ثابتة تشمل مفهومين: الأولى إحياء وبعث الدين بلا انحرافات، والثانية ربط السياسة والأفكار بالعقائد، كما يرى الغرباوي أن شيخ الإصلاح محمد حسن النائيني يشترك مع رواد الإصلاح بنفس الإستراتيجية، فهو مثلا يرفض الجهاد ضد الحاكم المسلم في المقابل يقبل بالأعمال الحربية ضد الإستعمار، ويلاحظ أن الغرباوي كما جاء في القراءة التي أجراها الدكتور صالح الرزوق في مشروع الغرباوي أن هذا الأخير في حديثه عن الإصلاح والإحياء الديني كان أكثر وعيا بالسياسة عند أئمة الشيعة الإصلاحيين ومنهم باقر الصدر وروح الله الخميني وأفرد لهما مساحة خاصة للتدليل على أن الإصلاح هو نهضوي فعلا، له غاية تتلخص في إحياء الدولة الإسلامية، ولذلك لا يختلف الإصلاح عن التجديد في مفهوم الغرباوي حيث يدعو إلى فتح باب الإجتهاد حتى في الثوابت، ومن هنا تنعكس فلسفة الإصلاح عند الغرباوي عن باقي المصلحين أو الإصلاحيين إن صح التعبير، حيث يجعل التسامح في مقدمة أطروحاته، من باب ان التسامح أمر الهي وعقيدة وطنية، إلا أنه يرى ان الحرية شرط أساسي للتسامح فهي ضمان من التخلص من الأبوية، فهو يرى الحرية مطلب ديني وحاجة غريزية.

 

متابعة علجية عيش

 

حينما يكون حاضرنا محتلاً من قبل الماضي السحيق، بكل ثقله الدموي وإرثه العنيف وانشقاقاته البغيضة، لابد أن يتكرس هذا الاحتلال أغلالاً فكرية تلجم العقل وتجمده وتجعله من تبعيات ذلك الماضي. ولهذا فإن العقل قد يعيش في عصره الحاضر وفي ألفيته الثالثة إلّا أن أدواته الفكرية وأساليبه التحليلية لازالت خاضعة إلى ذلك الماضي. ذلك الماضي الذي لاينفك يجر العقل إليه ويسحره بسحر الطهورية الافتراضية والمجد الخادع. ومن هنا فإن العقل يعيش مأسوراً مصفداً في ظلمات الإنجماد التأريخي بعد أن ضلّ طريق التنوير (السير مع التاريخ) فاقداً لبوصلته الفكرية رازحاً تحت تخدير عام يسلبه كل قواه ويمنعه من الحركة. في حين تمكنت عقولٌ أخرى مماثلة، مرّت بذات التجربة، من الإنعتاق من ماضيها الثقيل والإنفكاك من إرثها وتراثها الدموي فانطلقت في مسيرات التنوير الفكري تكسب الوقت وتتماشى مع التأريخ لكي تتناغم فكرياً مع عمر العقل الإنساني، ولو نسبياً.

إن الظلمات الفكرية التي تتولد من زواج العقل مع الماضي السحيق وعشقه له واقترانه به وذوبانه الأبدي فيه كثيرة لا تعد ولا تحصى. وهي ظلمات ينتج بعضها بعضاً تفرّخ وتنتعش وتتكاثر وتزدهر وتترعرع وتتفرّع في متواليات هندسية، خصوصا في بيئات الجهل. تلك البيئات التي لاينكرُ منكرٌ أنها أطبقت على الواقع الإسلامي لمدة ألف عام على أحسن التقادير. ومن أبرز نتاجات هذه الظلمات هو التيه العام؛ تيه العقل وتيه الفكر وتيه الهوية وتيه الذات وتيه الموقع الحضاري وتيه النظرة الى المستقبل.

ومن هنا فإن حجم التنوير المطلوب لتبديد هذه الظلمات، أو لكشفها على الأقل، يكون بحجم الجبال ويحتاج إلى همم عالية ونفوس كبيرة وشجاعة فائقة وفروسية منقطعة النظير. ذلك إن سحر الظلمات الواهم وما ألقاه من رعب في قلوب المسلمين، أو ما صنعه من ألفة وحميمية نتيجة طول فترته معهم، عطّل عقولهم وجمد أفكارهم وأقفل أذهانهم بأقفال القداسة المتمددة على عرض الفكر الإسلامي. ومن ذا الذي يحطّم تلك الأقفال غير المقتدرين من ذوي الهمم العالية ومن فرسان الفكر والشجعان والمصلحين الذين لا يقدسون غير الحقيقة؟

وفي هذا الصدد يمثل كتاب إخفاقات الوعي الديني شمعةَ ضوءٍ وضياءٍ يحملها الأستاذ المُتنور والمُنوّر ماجد الغرباوي في محاولة جريئة لكشف الطريق نحو الخروج من التيه العام. وأولُ ما يُسجَّلُ فيه للغرباوي في هذا الكتاب هو قدرته الواضحة على التحلل والإنفكاك أو الإنعتاق من عُقد الخوف والحذر من مناقشة مواضيع حرجة وحساسة ربما تجنبها غيره لاعتبارات معروفة. هذا بالإضافة الى إيمانه، الذي يبدو متزايداً، بالنقد الذي يعتبره الغرباوي من أبرز مقومات التغيير والنمو والتطور الفكري‘ الذي من شأنه أن يحقق طفرات باتجاه المشروع الحضاري.

1628 اخفاقات الوعييتكون الكتاب من مجموعة من الأسئلة القوية والمهمة والجريئة وهي في مجموعها كانت ستة وعشرين سؤالاً. هذا بالإضافة الى كم وفير من التعليقات لمجموعة من الكُتّاب والباحثين والناقدين والأدباء والشعراء والقاصّين والمتابعين الذين أطْرَوا على الكتاب وأثنوا على مؤلفه، كما قدّموا نقوداتهم عليه أيضاً. ويشعر القارئ للكتاب بسلاسة كبيرة وهو ينتقل من سؤال إلى سؤال في حوارية فكرية موضوعية عميقة وهادئة تمكّنَ فيها المحاور السيد سلام البهية السماوي من أداء واجبه الحواري بشكل ملحوظ تمثل في إستخراج مكنونات الغرباوي ومتبنياته الفكرية بشكل واضح دون لبس وكامل من غير نقص. ولقد تنوعت المواضيع والأفكار في خضم الأسئلة التي طرحها السماوي على الغرباوي لتشمل التاريخ والسياسة الفكر والعقيدة والفقه المجتمع والمرأة بالإضافة الى مواضيع أخرى.

يجيب  الغرباوي على سؤال فيما إذا كان الإسلام يشكل نداً للغرب في الوقت الراهن بقوله (النديّة تحتاج إلى تكافؤ بين الطرفين. أو يكون الفارق الحضاري من الضآلة ما يسمح بالتناد بينهما. فهل تعتقد أن واقع المسلمين الآن يصلح أن يكون ندا للحضارة الغربية؟ لا أحد يرى ذلك حتى المسلمين أنفسهم. فمنذ الصدمة الحضارية وما زلنا عيالا على الحضارة الغربية في كل شيء)1. وهو بهذا يشير بوضوح إلى غياب القابلية الإسلامية الآنية على الوقوف بِنِدّية حقيقية مع الطرف الحضاري الآخر (الغرب) بعد أن فقد العالم الإسلامي مقومات الندية والتكافئ. فما عدا وجود البنية القيمية الأخلاقية النظرية عند المسلمين، لا يملك المسلمون اليوم شيئاً من مقومات الحضارة التي تؤهلهم لخوض الصراع مع الغرب بتكافئ نسبي مقبول. وهو واقع يصعب دحضه إذا ما لاحظنا التبعية المخجلة، بل المهينة، التي تكبل العالم الإسلامي من أقصاه الى أقصاه وتجعله تابعاً للغرب ومعتمداً عليه في أبرز الإحتياجات وفي كل مناحي العلوم بما فيها العلوم الإنسانية. لذلك يقول ماجد الغرباوي: (لا أنكر أن بعض الدول الإسلامية حققت نهضتها بالاستفادة من المنجز الغربي، ثم بناء حاضرة تفاعلية، كما بالنسبة إلى ماليزيا، حيث تعد من الدول المتقدمة الآن. لكن هذا لا يكفي، ونحن بحاجة إلى مزيد من العمل بعد ممارسة النقد والمراجعة والاعتراف بالخطأ، بعيدا عن أي تحيز طائفي أو أثني)2. فهو يرى إن جزءاً كبيرا من عملية إصلاح هذا الخلل وفك التبعية والإعتماد على النفس يتمثل في الإعتراف بالحقيقية والإجابة على الأسئلة التي أطلقها المفكرون المسلمون، كجمال الدين الأفغاني والكواكبي وغيرهم، في البحث عن أسباب تخلف المسلمين وفشل النهضة عندهم. ولا يجب أن يخاف المسلمون، إن أرادوا الإصلاح، من نقد تراثهم و الإعتراف بأسباب الفشل مهما كانت لأنها السبيل الوحيد للتشخيص قبل تقديم العلاج. وعندها سيكونون قادرين على فهم ما أسماه الغرباوي ب "الفاجعة الحضارية" التي تتمثل في إمتلاك المسلمين لثروات هائلة وطائلة فوق الأرض وتحتها بينما تتصاعد في بلدانهم معدلات الفقر والتخلف والبطالة والجهل والأمية وتنخر في أجسادهم آفات الحروب والأزمات وتفتتهم الصراعات والإنقسامات .

ولم يزل الغرباوي معتزاً معتداً بتراثه الإسلامي بما يمثله من قيم حضارية إيجابية يمكنها أن تشكل علامة فارقة في الصراع الحضاري مع الند الغربي وبما تمثله من مناطق غنية لا تزال قابلة للكشف والإستثمار، خصوصا في حب العلم وطلبه والحث عليه وإعطائة منزلة الجهاد. ولا يهمل الغرباوي ولا ينسى ولا ينكر أيضا أن مشاعل النور الأولى ومنائر العلوم التي أهتدى بها الغرب لها صلات لا تنكر بجذور المسلمين الأوائل الذين ظلت كتبهم مراجعاً فكرية وعلمية في معاهد الغرب ومؤسساته العلمية والاكاديمية لقرون طويلة، (وتؤكد الوثائق أن الغرب بنى حضارته ونهضته على علوم المسلمين. وظل كتاب القانون لابن سينا مثلا يدرس في جامعاتهم لا سيما الفرنسية إلى وقت متأخر)3. ولكن التباهي اليوم والتفاخر بذلك الإرث لايجدي نفعاً والمسلمون فقراء في غناهم.

وفي ردٍ للغرباوي على السؤال العاشر صفحة 33 حول إمكانية حصول حوار حقيقي بين الإسلام والغرب، لا يستبعد الغرباوي إمكانية حصول هذا الحوار خصوصاً في ظل التطور الهائل للوسائل التقنية والثورة المعلوماتية العامة والشاملة التي تعززت وترسخت في أول عقدين من الألفية الثالثة. إلا أن الغرباوي يشترط وجود بعض الممهدات التي من شأنها أن تُفضي إلى إمكانية حصول الحوار. ومن بعض هذه الممهدات هو وجود جوٍ سياسي واجتماعي هادئ خالٍ من التقلبات والعنف والفوضى بالأضافة إلى وجود بيئة مستقرة نسبيا يمكن للحوار العقلي أن يكون فاعلاً ومسموعاً فيها. ومن أبرز ما يعكّر صفو هذا الحوار بحسب رأي الغرباوي هو انتشار موجات التطرف الفكري عند جماعات كثيرة من المسلمين ومن أبرزها حركات القاعدة وداعش ومن يسير على نهجهما. فلا يمكن للحوار العقلاني الهادئ أن ينطلق ضمن بيئات موبوئة يختفي فيها التسامح والمقبولية والتعايش و ينتشر فيها القتل والذبح والسبي التهجير والعنف والدماء.

كما ويعتقد الغرباوي بشكل قد يكون جازماً أن الغرب بشكل عام بات، وربما لا يزال، مهووساً بنظريات الصراع بين الحضارات ومنها ما أسس له الكاتبان صموئيل هنتغتون في كتابه الموسوم بـ (صراع الحضارات) وفرانسيس فوكوياما الذي كتب نظريته في ما أسماه بـ (نهاية التأريخ والرجل الأخير). فتراه يقول: (إن الغرب مسكون بنظرية هانتغنتون في صراع الحضارات، وأن نقاط اللقاء بين الطرفين ستكون نقاطا حمراء، وصراعا ثقافيا دمويا؟ أنا شخصيا ضد هذا التنبؤ إلا في حالة تمادي المتطرفين الإسلاميين. الشعوب الغربية باتت تعي حجم تداعيات الحروب والصدامات، وقرارات الدول الغربية رغم أنها قرارات مؤسساتية لكن تراعي مشاعر شعوبها وتوجهاتها. والشعوب ترفض الصدام)4.

 إن هذه المتبنيات الفكرية التي وجدت صدىً عريضا في المؤسسات الفكرية والأكاديمية وحتى السياسية والإقتصادية تشكل ساتراً كثيفا عند فئات غربية كثيرة وتحول دون إيمان حقيقي بمبدأ أو بقيمة الحوار الإنساني (أو حوار الحضارات كما أسماه الرئيس الإيراني السيد محمد مهدي خاتمي). وهو ما ينذر باستمرار التناوش والصراع الذي قد يفضي في لحظة ما إلى صدامٍ عنيف وربما يقود الى حرب كونية.

 ولا يقف الغرباوي معصوب العينين أمام تشخيص دقيق واضح وصريح للإزدواجية الفكرية والنفاق السياسي عند الغربيين في تبنيهم لخطين/ فكرين متناقضين في فهم وتطبيق القيم الديمقراطية والليبرالية. وتتمثل هذه الإزدواجية أو هذا النفاق في وجود خط/فكر محلي ختص ببلدانهم وفكر تسويقي خارج حدودهم. وهذه الإزدواجية في نظر الغرباوي تقف حاجزاً قويا متينا عند كثير من الجماعات والمجتمعات الإسلامية في مقبولية إستيراد وتبني الصالح من قيم الغرب الحضارية، في مختلف المجالات.

ولكن، وكعادته في توخي الموضوعية والواقعية، يميط الغرباوي اللّثام عن عقدة مشتركة تتميز بها الثقافتان الإسلامية والغربية، وإن كانتا متباينتين، تتمثل في تبني النظرة الدونية للآخر. إذ كانت إجابته تقييما حقيقيا للواقع بقوله: 

(للأسف ما زالت الأرضية غير مؤهلة لاحتضان الآخر، لا لهم ولا لنا. فهم يعتبروننا "أقصد الشعوب وليس الحكومات" شعوبا متخلفة تقتات عليهم في كل ما يحتاجون، وهم أرقى جنسا. هذا الشعور موجود لدى شريحة واسعة منهم، خاصة العنصريين منهم. ونحن أيضا ما زلنا نعتبر الآخر كافرا، نفتي بنجاسته، وتجنب الاختلاط به. وما زلنا نتحدث بلغة أرض الكفر وأرض الإسلام)5. ففي حين تعتبرُ الثقافة الغربية العنصر الأبيض عنصراً سامياً متفوقاً وتعتبر الآخر جاهلاً متخلفاً أمياً لا يستحق الا أن يكون تابعاً ومحكوماً، ينعكس ذات الشيء في أفكار المسلمين "وليس بالضرورة الإسلام" وخصوصا الأفكار الدينية التي تنجس الآخر وتكفره وتحط من قيمته الإنسانية. وفي ذات الوقع هناك طيف واسع من العرب والمسلمين يرى في الغرب النموذج / العدو. فهو العدو الذي تسبب في انحطاطنا وإقصائنا، وفي ذات الوقت هو النموذج الحضاري الذي يسعى الجميع للاقتداء به، بل والعيش في ظل نظامه الديمقراطي، ورفاهية مجتمعاته.

وعلى الرغم من ذلك يعترف الغرباوي بمتانة النظام الديمقراطي في كثير من الدول الغربية التي سخرته، في العموم، لتحقيق مصلحة الشعب وتحقيق منجزات الرفاه الإجتماعي للإنسان عن طريق إحترامه واحترام حاجاته وحرياته. فقد ترغب الحكومات الغربية أو تتمنى أن تستخدم سلطتها ونفوذها وتفوقها العسكري والعلمي والتكنولوجي من أجل إستغلال موارد الشعوب الفقيرة، إلا أن ذلك ليس ممكناً على الدوام خصوصاً إذا ما قوبل بمعارضة شعبية قوية عريضة وواضحة.

ثم يتناول الغرباوي مواضيعاً مهمة وأكثر جرأة لها مساس بالواقع المعاش قد انعكست آثارها وتأثيراتها على العامة في كل مجتمع إسلامي منذ العصور الأولى للإسلام من قبيل الجهاد العنفي ونقد السلف واهمية القرآن والوحدة الإسلامية. إذ يرى الغرباوي أن لا حاجة ولا ضرورة أصلاً للجهاد بمعناه القديم (حمل السلاح والغزو) خصوصاً بعد أن أعلن الوحي فتح مكة ودخول الناس أفواجاً في دين الله. فهو يعتقد أن (الجهاد لم يعد فعليا بعد انتصار الإسلام ودخول الناس في دين الله أفواجا.. وما بعد الرسالة مختلف لا يصدق عليه جهاد في سبيل الله. إنه دفاع عن النفس وردع العدوان. لكن فقهاء السلطة عبأوا الناس للجهاد إرضاء لهوى الخليفة والسلطان)6. فما بقي حينذاك هو بناء مادي ومعنوي وحماية بلدان والدفاع عنها ولا حاجة ولا ضرورة لاستمرار الغزو أو ما يعرف بالفتوحات. عوضاً عن عدم وجود تفويض أو تشريع يبيح هذه الأعمال التي أكسبت الإسلام صفة العنف (السيف). ولكن هذه الأعمال استمرت بمباركة فقهاء السلاطين إرضاءاً لشهوة الخليفة والأمير في كسب الشهرة وبسط النفوذ والتمدد الجغرافي فضلا عن جني المزيد من المغانم الإقتصادية من خراج ومداخيل وغلال ونساء وأراضٍ الخ.

ولقد تكرست هذه الصفات والمظاهر (الجهادية) في الفكر الإسلامي عند المسلمين بعد أن أعطوها غطاء شرعياً من خلال تأويلٍ مطاطٍ للآيات القرآنية والأحاديث النبوية وزادوه بإضفاء العصمة على السلف من الصحابة وآخرين حتى أصبحت جزءاً لا يتفكك من فكر المسلمين وتراثهم. يبقى القرآن عند الغرباوي مركزاً مهماً وفريداً من مراكز إعادة إنتاج وعي جديد للأمة الإسلامية من خلال البناء على ما تقدم أعلاه ومن خلال إيجاد أدوات وأساليب عصرية علمية جديدة ومختلفة يمكنها استخراج ما استودع فيه من فكر ووعي وثقافة وعلم وهذه الأشياء طبعاً تشكل المقومات والمكونات الأساسية لكل حضارة. يظهر ذلك جلياً  في إجابته حينما قال: (القرآن محور الفكر الإسلامي، ومرجعيته، فهو يدخل عنصرا أساسا في فكر المسلمين، من حيث وعيهم للحياة، ودورهم على الأرض. فقدم القرآن تصورات كافية، ورسم أهدافا مفتوحة، عززها بمحفزات مادية ومعنوية)7.

ومن أبرز الكنوز القرآنية ومستودعاتها القيمية والفكرية التي تحتاج التركيز عليها من أجل خلق الوعي الحضاري، كما يرى الغرباوي، هي قضية الوحدة الإسلامية، والتي تشكل حجر الزاوية في أي مشروح حضاري يهدف إلى البعث والنهضة. فبدون إعادة البحث والنظر في إيجاد فهم حقيقي وجديد لمفهوم الوحدة الإسلامية في القرآن لن يستطيع المسلمون من الإنطلاق في مشروع النهضة الحضاري. وكيف لهم ذلك وهم اليوم يمزق بعضهم بعضاً وينحرُ الأخ أخاه بدوافع مذهبية أو طائفية أو عرقية أو قومية أو مناطقية الخ؟ وكيف للوحدة أن تتحقق دون وجود فهم متبادل بين المكونات الإسلامية ودوت الإيمان بالمشتركات؟ يكثف الغرباوي من تركيزه على أهمية مفهوم الوحدة ويستشهد لذلك بالقرآن الكريم: (إذاً وفقا للمنطق القرآني التمسك بحبل الله يضمن وحدة المسلمين، بينما التنازع يمزقهم. وهذا منطق لا يستقيم إلا بشرطه، وشرطه هو التمسك وعدم التنازع. فالقرآن من حيث المبدأ قادر على تماسك الجماعة المسلمة، بمعنى أنه قادر على تأسيس وعي كامل لمسألة وحدة المسلمين، من خلال حثه على الأخوة، والإيثار، والتسامح، والعطاء، إلى آخره، وكلها عناصر تساهم في وحدتهم)8.

وبينما يسير الغرباوي بين ألغام الفكر الإسلامي ويحاول أن يفجرها عن بعد، أو عن قرب أحياناً، لا ينسى أن يحيل القارئ إلى المظاهر المدنية في الإسلام والتي يمكن اكتشافها وإعادة إنتاجها عن طريق تبني بعض القيم الحضارية التي يهتم بها المسلمون بكل أطيافهم، والتي لا تتعارض مع قرآنهم، وإن أخفوا ذلك الإهتمام. ومن بين تلك القيم قيمة الحرية التي يعتبرها الغرباوي من القيم الجوهرية للإنسان والتي يعدو الأنسان من دونها مسخاً دون روح. فقيمة الحرية تعتبر من القيم المهمة التي لا يستطيع الإنسان أن يكتشف مواهبه الذاتية التي يحتاجها في حياته العملية أو أن يطلقها من دون الحرية. وكذلك لا يمكنه أن يتعرف على ما أودع الله فيه من قابليات ومواهب وقدرات تتعلق بمسؤليته الكونية وهو يفتقر الى بيئة متحرررة من القيود بكل أنواعها. إن أهمية الحرية تكمن في كونها وسيلة يستطيع الإنسان من خلالها أن يتحمل مسؤوليته الكونية بإعتباره خليفة في الأرض يسعى إلى فك ألغاز الكون في الآفاق والأنفس، وهل تكون هناك مسؤولية دون حرية؟ وهل يكون هناك عقاب أو حساب أو ثواب دونما وجود الحرية؟

وبعد بلوغه الى هذه القمم، يصل الغرباوي إلى فصل الخطاب ويقترب من نهاية المطاف في رحلة "الإخفاقات" إذ يسعى جاهداً للمناداة بتحرير العقل الإسلامي من القيود التي تحاول شده الى قيمها البدوية والقبلية والعشائرية وإعادة إنشاء قيم بديلة تتمثل في الأيمان بالمجتمع المدني الذي يؤمن بسيادة القانون، والذي يمثل بدوره مدنية العقل ويضمن حريته وحرية أفكاره بغض النظر عن الإعتبارات العنصرية أو القبلية أو العرقية وغيرها. فهذه الحرية التي تكون في ظل هذا المجتمع تكون كفيلة بخلق جو عام تسود فيه القيم الإسلامية الكبرى التي تتمثل بالعدل والإنصاف والمساواة.

وكغيره من المفكرين المعاصرين، يدعو الغرباوي الى التوازن في فهم أسباب التخلف والتراجع (النكوص) الفكري ومن ثم الحضاري عند المسلمين وتشخيصها بشكل علمي تجريدي، كما ويدعوا الى التحلي بالعقلانية في ردود الأفعال لهذه الأسباب. فبين الإفراط في كره الذات وجلدها عند البعض ومن ثم الهرع الى الضفة الأخرى والإرتماء في أحضان الخصم وتبني قيمه عن طريق الإستنساخ الثقافي المطلق، وبين الإنكفاء على الذات وحجبها ومنعها وحرمانها من التواصل مع الآخر ورفضه كلياً، يقف الغرباوي موقفاً وسطياً يلتزم فيه بنداء العقل بالإضافة إلى ما يفرضه الواقع: (الاخلاق والممارسات العبادية لا تتنافى مع العلم والمعرفة، وانما تسددها وتؤطرها، كي لا توظف لتحقيق غايات دنيئة. وبهذا يكون الدين والأخلاق أمرين ضروريين للحد من تمادي استخدام التطور التكنلوجي، سيما على صعيد الاسلحة الفتاكة، ووسائل الاتصال الحديثة)9. إذ يرى الغرباوي إن الرصيد الأخلاقي القيمي الذي يمكن للعبادة الدينية أن تنتجه على المستوى العملي لاينبغي له أن يتنافر مع العلم وتطوره المتسارع وغزوه لمناحي الحياة وتشعبه في كل تفاصيلها. بل يشدد الغرباوي على أن للأخلاق ومنظومتها القيمية، المجمدة، في الفكر الإسلامي أهمية كبيرة في رفد الحضارة الإنسانية. فهذ المنظومة يمكنها أن تلعب دوراً مهما في ترشيد الطيش التكنلوجي والحد من تماديه الغريزي الذي يؤثر سلباً على المشروع الحضاري الكوني الكبير للإنسان ويجره بعيداً الى مناطق الذاتية والشخصانية والأنوية.

ويختتم الغرباوي الحوار مع السماوي بصوغه لمصطلح "اليقين السلبي" الذي يراد منه ما ينعكس من إعتقادات إسلامية مشوهة متراكمة نتيجة الفهم الخاطئ، أو الغير صائب للتعاليم الدينية. واليقين السلبي عند الغرباوي (ما يعيق الفعل الحضاري من جزميات وقناعات راسخة". ويقع على الضد من اليقين الايجابي. فايمان الفرد بوجود خالق ويوم حساب بعد الموت يعد يقينا ايجابيا لانه يعزز التقوى ويعضّد وازع الخوف، ويحول دون ارتكاب المحرمات والموبقات)10. هذه الإعتقادات، كالإعتماد المطلق على الغيب في مثلاً في صنع المستقبل دون السعي إلى كشف الأسباب، تقود الإنسان الى التعاسة بدلاً من أن توفر له الراحة والاطمئنان النفسي والسعادة. في حين إن اليقين الحقيقي الخالص هو الذي يقود الى السعادة وذلك بما يقدمه من فهم واقعي وعلمي للأشياء وبما يوفره من دافع روحي لتجنب الأخطاء والمضرات والآثام.

ألف شكر للأستاذ والمفكر ماجد الغرباوي والشكر موصول للسيد سلام البهية السماوي على هذه الحوارية التنويرية الممتعة.

 

إخفاقات الوعي الديني.. حوار في تداعيات النكوص الحضاري

حوار سلام البهية السماوي مع ماجد الغرباوي

عدد الصفحات: 120

الحجم: متوسط

الطبعة: 2016 م

اصدار: مؤسسة المثقف ودار العارف

***

قراءة: أحمد راضي الشمري 

........................

هوامش

1- كتاب إخفاقات الوعي الديني، ص: 18

2- المصدر نفسه، ص: 23

3- المصدر نفسه، ص: 26

4 - المصدر نفسه، ص: 33

5 - المصدر نفسه، ص: 34

6- المصدر نفسه، ص: 36

7- المصدر نفسه، ص: 39

8 - المصدر نفسه، ص: 41

9 - المصدر نفسه، ص: 54

10 - المصدر نفسه، ص: 58

 

 

يطرح نص الشاعر: ماجد الغرباوي مقولته انطلاقاً من الواقع الذي يبدو مثالاً يستقي  الشاعر منه معطيات قراءة بصرية تنعكس في لغته التي تتمرأى أبعاد التجربة بما فيها من آمال وآلام، وإذا  كان الأدب بشكل عام يبني اشتراط رؤيته بما يستطيع التعبير عنه؛ فإن الشعر يبدو وفق هذا الفهم أكثر قدرة على نقل الواقع، وتجلية إرهاصاته، ويظهر في شعر: ماجد الغرباوي  أنَّ النص الشعري يجسّد تمثلات الواقع وفق بعدين بعد الواقع الحقيقي، وبعد الواقع المثال، وهو ما يتبدّى في قصيدته الموسومة بــ: (يتهادى حُلماً) التي يعلن فيها العنوان عن أولى تبديات تلك العلاقة في بعدي الواقع المثال، الواقع الحقيقي، فقد جاء تريب العنوان على النمط الفعلي، وهذا البناء يرمي إلى تأكيد الحركة التي تتولّد عبر صيغة الزمن للفعل الحاضر يتهادى، وما يحمل هذا الفعل في بنيته الصرفية من إيحاءات دالة على الحركة التي تتشكّل وفق نمط يقوم على التدرّج والمتابعة وهو ما يتساوق دلالياً مع حالة الارتقاء التي تستبطن دال (حلماً)، والحلم هنا دال تعبيري على العلو، ورغبة في تحقيق مأمول بعيد المنال .وبهذا يُؤسّس العنوان لعلاقاته البانية للمتن في السياق النصي الذي يبدأ بالحالية يقول:

نافرةً هوتْ زنابقُ البحرِ

توقاً الى رَعشةِ اندهاشٍ

سَرَقَتها آلهةُ النارِ

فَطافَتْ بها سبعةً ..

تَتَهجد ...

تُرتّـلُ قداساً مكتومةً أنفاسهُ

وتَطوفُ حولَ مَدارٍ

مشدودٍ لذلك الفجر

لأولَ يومٍ تَمايلتْ فيه الريحُ

تُشاكسُ دَمدَمات المَطر

وتُدندنُ أغنياتٍ مهمَلةً

لا تُداعبُ زَغبَ العَصافير

يكشف عن  مثال الواقع  والواقع المثال؛ فمثال الواقع  يتمظهر بدوال: (البحر، النار، المطر، الريح، العصافير، جاءت هذه الألفاظ واقعية مرتبطة بالحالة الحسية للإنسان؛ فهي مما يرى ويُسمع) فيما يتجلى واقع المثال بدوال: (توق، اندهاش، طافت، تتهجد، الفجر، عشة، ترتل، قداس،) فهي ألفاظ ترتبط بالجانب المعنوي للإنسان ومشاعره السامية ، وفي هذا الجمع بين طرفي الواقع والمثال يبدو النص الشعري مرتهناً للحظة إبداعه التي تتشوّف إلى رؤية خاصة تُمكّن من الجمع بين الواقعين في إطار العاطفة التي تجمع الشاعر بالمرأة الحبيبة يُماهي بين الجسد والروح في لحظة توهّج عاطفي:

يبدو الواقع المثال والمثال الواقع واقعاً يمازج فيه الشاعر بين الممكن والمستحيل، والأمنية والحقيقة، وهو ما يتكشَّف بإظهاراته اللغوية التي جاءت في الزمن الحاضر عبر ترداد أربعة أفعال: (يتوهَّج، يُغازل، تراود، تُطارد) وإحالات هذه الأفعال غير خافية في دلالتها الزمنية التي تعني الاستمرارية في الحدث المستقبلي، وعلى الحركة المتنامية على المستويين الحسي الانفعالي  ولنتأمل قول الشاعر:

أَغدو وأنا المُتَيمُ ... شفقاً

يَتَوهجُ فوقَ شَفَتَيكِ

يُحيل الفعل الأول:  يتوهَّج على التألق والإشعاع، وإضفاء النور على المدى المؤطّر للحالة الموصوفة، وفي قوله:  حينما يُغازلُ دفؤكِ لهاثَ أنفاسي نلحظ أنَّ الفعل يُغازل يشير إلى اللغة، (كلام الحب)، وهذا الكلام هو من أجمل أنواع الحكي؛ لأنه من أكثر الفنون جاذبية للإنسان،وأكثرها قدرةً على منح المتحدّث طاقة خلَّاقةً مُضافةً، إنها تعبير عن تشظّي الدلالات القادرة على تطييف ألوان اللغة بإشاراتها الرامزة التي تنهض باللغة وفق مستويات من التشكيل الذي ينحرف عن مسارات اللغة بمواضعاتها المعجمية المألوفة إلى انزياحات تُسهم في توليد لغةٍ من اللغة:

تُراودُ أَحلامي جَمراتُ شَوقٍ

وحَفنةُ آهاتٍ تُطاردُ ظِلاً

يُسابقُ البَنَفسَجَ عطرُهُ

إنَّها لغة تنداح في مساقات لا متناهية من الرؤى والأخيلة التي تتفتّق عبر موشور رؤيا الباصرة والبصيرة، وقدِ اقتنصتْ منَ التَّزامن الحسيّ عبر تبادل وظائف الحواس، وأدوارها تقنيةً أسلوبيَّة فالبنفسج المرئي بالبصر يسبق رائحته، وهي من حاسة الشمّ، وحفنة الآهات، وهي من دائرة الصوت، وتقع في حيز حاسة السمع تطارد الظل، وهو من معطيات حاسة  البصر .

إنَّه الواقع المثال الذي يُحلّق الشاعر في آفاقه عبر مرجعية لغوية مستعادة على شريط الذاكرة التاريخية، وتراثية الحالة الواصفة، إذْ يستعيد عيون المها التي ذكرها الشاعر: علي بن الجهم  باستهلال قصيدة له:[1]

عيون المها بين الرصافة والجسر      جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

" ضاحكةً عيونُ المَها

تُلامسُ شغافَ قلبٍ

يَسهو في مِحرابهِ

يتبتلُ ساعةً وأخرى

يَعكفُ "

ترمز مرجعية تمّوز أو دموزي في الواقع المثال إلى الأساطير السومرية،، وهو إله الزراعة والرعاة والخصب، وتُشير الأسطورة إلى أنَ تمّوز أو دموزي هو خامس ملوك مدينة باد تييرا قبل الطوفان، وقد اقترن بفصل الربيع، ونمو  النباتات وإله الرعاة، وتروي الأسطورة أنَّ عشتار: (إلهة الحب والحرب) أحبَّتْه ثمَّ قتلته وأعادتْهُ إلى الحياة، وبهذا أصبح يُجسّد انبعاث الطبيعة في فصل الربيع، [2] " وتعتقد شعوب الشرق القديمة أنه مات في الصيف نظراً لجفاف الأرض، وزوال الخصب، ولهذا يُعلن الحداد في سومر على وفاة دموزي في شهر (تمّوز) الذي يقع في منتصف فصل الصيف؛ وتُشير القصيدة السومرية إلى المنافسة بين دموزي والفلاح أنكيمدو  لكسب ودّ عشتار التي فضّلت تمّوز في نهاية المطاف، وتنتهي القصة برغبتها بزيارة العالم السفلي، وتعرضها للموت هناك بمكيدة أختها التي تقبل بإحيائها بعد تدخّل إنكي  إله الحكمة والذكاء والحِرف ، وتوسّطه الذي ينتهي بإحيائها وإعادتها إلى عالمها بشرط  إيجاد بديل لها يحلُّ محلها في العالم السفلي، وهو ما وجدته في تمّوز الذي وجدته سعيداً بغيابها، وقد جلس على كرسيها ما أثار غضبها، ودفع بها إلى إنزاله مكانها إلى العالم السفلي، غير أنها تعود وتُشفق عليه؛ فتمنحه فرصة العودة إلى العالم الحي كل سنة مرة، وهكذا تتناوب دورة الطبيعة والفصول حسب الأسطورة بعودة تموز أو نزوله إلى العالم السفلي .

وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أنَّ أسطورة تمّوز قد حظيت باهتمام الشعراء كثيراً، ويأتي الشاعر: بدر شاكر السيّاب في طليعة شعراء الحداثة العرب احتفاءً بتوظيف الأسطورة التموزية إلى جانب الشاعر السوري أحمد علي سعيد إسبر  الذي لقَّب نفسه بأدونيس، وهو الاسم الإغريقي لـ: (تمّوز) في قصيدته البعث والرماد [3]  حتى إنه سُمّي به . وقد نوّع الشعراء في تكنيك استخدامهم الأساطير ما بين الرمز العام العابر، والرمز المستثمر للمغزى: " لما تتصف به الأسطورة من حيويّة قادرة على إكساب الشاعر مجالاً أوسع  للتعبير؛ ليُفصح عمّا يجول في ذهنه من فكر، وما يعتمل في نفسه من رؤى وأفكار في إطار جمالي، يُحلّق بالنصّ الشعري بعيداً عن التقريرية والسرد والمباشرة، ويعصم نفسه منَ المساءلة،  ويتجنّب أذى المتابعة  . ووفق هذا الوعي للأسطورة؛ فإنَّ إفادة الشعراء من تلك الأساطير تجعلنا نتلمَّس المنابع الأصلية لإنسانيتنا، إذْ إنهم ربطوا ماضي الإنسان بحاضره في حيويّة تحفّل بالتدّفق، وتتخطّى العادي؛ لتقيم علاقة مع الأبدي ". [4]

وهو ما يُشكّل علامةً فارقةً في نمطية التكنيك التي لجأ إليها الشاعر الحديث الذي   " يفترق عن الشاعر الكلاسيكي في استخدام الأسطورة؛ فالشاعر الكلاسيكي استخدمها لمجرد مغزاها الذاتي، أو كلصق استعاري في أدنى مراتبه، بينما نجد الشاعر الحديث يستخدم الأسطورة والدلالة الميثولوجية كنوع من التوحّد بين الرمز الذي تهيّئه الأسطورة وبين ما يرمز إليه " كما أنّ استغلال أسطورة تموز في الشعر العربي الحديث يُعدّ من أجرأ المواقف الثورية فيه، وأبعدها آثاراً حتى اليوم؛ لأنّها تٌؤسَّس على  استعادة للرموز الوثنية، وتوظّفها في مفهوماتها الإشارية للتعبير عن أوضاع الإنسان العربي في هذا العصر، أضف إلى ذلك أنَّ لهذه الأسطورة جاذبية خاصَّة، لأنّها تصل بين الإنسان والطبيعة، وحركة الفصول وتناوُب الخصب والجدب"[5]،

أما في المثال الواقع؛ فإنَّ لتموز ارتباطه بالزمن الذي يُحيل على استيلاء داعش على بعض مدن  العراق، وإعلان البغدادي نفسه خليفة للمسلمين في دولته الجديدة، وكان ذلك بتاريخ 29 يوليو 2014 م . وهو ما يقابل تسميته تموز في بلاد الشام والعراق،

كما يرتبط  الواقع المثال بالزمن الماضي الذي لا يُمكن أن يعود إلا بالذكرى،آية  ذلك أننا  نجد أفعال الحاضر التي احتشدت في لحظة الذكرى بكثافة: (يُلامس، يتبتل، يسهو، يعكف، يُرتّل) جاءت مُكتنزةً بإلماحاتها التعبيرية الفائضة بتجليات السموّ والتجلّي والتلّذذ، وسرعان ما تنداح في مثال الواقع الذي يُغيّر تلك الحالة  في واقعيّة المشهد الذي يُرجع الشاعر إلى أرض مثاله المُشاهَد، إذْ يبقى الواقع المثال مُجرّد قراءة مُستعادة يقوم بها الشاعر، وهو:

يُرتّلُ آياتٍ ..

مرَ بِها طيفُكِ ساعةَ سحرٍ

فظلّتْ مَركونَةً في زوايا ذكرياتٍ

وبقايا أُمنياتٍ تَسربلتْ

ويقوى المثال الواقع بكلّ ما فيه من عتمة، وانسداد أفق؛ فيأتي:

حُزناً سَرمدياً

جادَ به تَموز

فما عادَ لنا فرحٌ

والموتُ يَنشرُ راياتَهُ السود

فوقَ سحابات بلدٍ خانتْ به

نفوسٌ أدمنتْ الغدر

وفي هذه النهاية تتبدّى لنا قصيدة السيّاب: "أغنية في شهر آب" التي يقول فيها: في شهر آب يمّوز يموت على الأفق وتغور دماه على الشفق في الكهف المظلم والظلماء " [6]

فأية أقدار تلك التي تُعيد الزمن في دورته ؟! وكأنَّ التاريخ يُعيد دورته الزمنية من جديد؛ ليلتقي تاريخ السيّاب وتاريخ الغرباوي في إطار المأساة الجامعة الدامعة .

ويُوحّد اللون الأسود تلك الثنائية: بين الواقع المثال، ومثال الواقع؛ ليُصبح واقعاً أوحد؛ فاللون الأسود في إحالته المرجعية يشير إلى الرايات السود التي ترمز إلى قيام الخلافة العباسية على أنقاض الدولة الأموية، وما في هذا التحوّل من تغيير للتاريخ، والمصير العربي في تلك الحقبة من الزمن، ويُشير تموز الواقع المثال إلى الأسطورة المرتبطة بـ دموزي أو تموز، وهو إله الخصب او اللون الأسود في إحالته النصية ترميز إلى شعار دولة الخلافة الإسلامية في بلاد الشام والعراق التي عُرِفتْ باختصار: (داعش) وهو ما حوّل مصير الدول التي وقعت تحت سيطرتها في تلك المدة من التاريخ، وجعلها تعيش واقعاً يُمثّل أسوأ حقبة في تاريخها ربّما ــ رغم أنَّ الخلافة الداعشية الزائلة لم تختلف كثيراً عن الخلافة الداعشية اللاحقة لها إلا بالتسمية، والتوصيف، واكتسابها شرعنة؛ فالخلافة التالية لخلافة الداعشية لم تختلفْ عنها بالممارسة الأدائية إلا من حيث المظهر، إذ استبدلت العمامة والعباءة والكوفية بالبنطال والقبعة الأجنبية، وعلى ما تأسَّس نجد القصيدة التي كُتبتْ عام 2016 م إنما كانت بوصلةً حدَّدت سمت رؤية ورؤيا الواقع من خلال الحقيقة والرغبات، ولذلك بدا الواقع مُتشظّياً بين واقعين يُجسّدان: واقع الحال البشري ، وواقع الخيال الشعري .

للاطلاع على القصيدة في المثقف

يتهادى حُلماً / ماجد الغرباوي

 

د. وليد العرفي

  ............................

هوامش

[1] ــ ديوان:علي بن الجهم، تح: خليل مردم بك، دار صادر، بيروت، ط 3، 1996 م  .

[2] ــ يُنظَر: موسوعة المورد: منير البعلبكي،  دار العلم للملايين، بيروت، 2005 م، ص 167.

[3] ــ الأعمال الشعرية الكاملة: أحمد علي سعيد إسبر (أدونيس)،ج 2، ديوان أغاني مهيار الدمشقي، دار العودة، بيروت، 1988، ص  331.

[4] ــ يُنظَر: لغة الشعر  ــ قراءة في الشعر العربي الحديث ــ : رجاء عيد، منشأة المعارف، 1998 م، ص 229.

[5] ــ يُنظر: اتّجاهات الشعر العربي المعاصر: إحسان عباس، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، مايو / 1978 م،   ص 65.

[6] ــ  المجموعة الكاملة: بدر شاكر السيَّاب، دار العودة، بيروت، 1971 م،  1/ 328 .

 

 

ما زلت أؤمن بل ربما أكثر من أي وقت مضي مع أستاذي الدكتور حسن حنفي بأن التواصل بين الأجيال أحد مكونات الوعي التاريخي؛ حيث إن كل جيل يبدأ من الجيل السابق ويتجاوزه؛ فلا يوجد جيل بلا أساتذة إيجاباً أم سلباً؛ وكل جيل يواصل الجيل السابق ويقطع معه؛ ولا أحد يبدأ من الصفر حتى يحدث التراكم التاريخي الضروري لبلورة الوعي التاريخي الفلسفي كنواة للوعي التاريخي العام. ولا يعني تواصل الأجيال التكرير؛ تكرير الجيل اللاحق للجيل السابق أو المديح والتقريظ الذي يصل إلى حد التملق والتفخيم والتقديس والتأليه طلبا للشهرة الإعلامية والذي ينقصه الصدق نظرا لأنه يتوجه للكل وفي كل المناسبات بلا استثناء . بل يعني القدرة علي الإكمال وإعادة القراءة من الزمن الأول؛ زمن كتابة النص؛ إلى الزمن الثاني؛ زمن قراءته والذي قد يصل إلى حد نصف قرن؛ قل أو كبر؛ وهو عمر الجيل . يعني إعادة كتابة النص الأول ونقله من ظروفه الأولي إلى ظرفه الثاني؛ وكأن الجيل السابق قد بعث من جديد في روح الجيل الحالي؛ وأخذ  يتكلم بلسانه؛ فالروح تتواصل في التاريخ؛ والتاريخ يتراكم في الروح؛ والمراحل تتوالى علي الأمد القصير والدورات تبدأ وتنتهي علي المدي الطويل

وإذا كانت لكل عصر من العصور سماته وقضاياه؛ فإن الكثير من قضايا العصر الحديث  مرتبط بالمرأة؛ فالحديث لا يتوقف ولا يهدأ عن تحرر النساء وحقوقهن السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ وعن إزالة كافة أشكال التمييز عنهن؛ كثر الحديث عن المرأة في التاريخ وعند الفلاسفة والمفكرين .

ولقد ظهرت فلسفة حديثة أطلق عليها الفلسفة النسوية أو الفلسفة الأنثوية أخذت علي عاتقها أن تري الوجود كله بعيون الأنثي؛ حتى العلوم الطبيعية أخذت نصيبها من الفلسفة؛ ومع بداية العصر الحديث ومع قيام الثورة الصناعية والحاجة للمزيد من الأيدي العاملة؛ ومع حروب عالمية استهلكت البشر كما استهلكت البيئة؛ كان التدشين لعصر جديد للنساء يدخلن آلة العمل بقوانينها الجبارة؛ وكان لا بد من قيام أفكار وفلسفات جديدة لخدمة هذا التوجه؛ فكانت حرية المرأة؛ وحرية الجسد؛ والبحث عن دور جديد للنساء ... الخ (وذلك حسب ما ذكرته الباحثة سلوى محمد نصره في مقدمة كتابها الفلسفة النسوية في فكر الإمام محمد عبده).

ومع دخول القرن التاسع عشر ظهر الفكر النسوي في شكل ثورة تطالب خلالها بحقوق المرأة نتيجة الاضطهاد الذي عانت منه عبر العصور وفي مختلف الديانات، انطلاقا من نقدها للسلطة الكلية للرجل على المرأة من خلال تغيرها لعدة مفاهيم، فتعتبر أن الأبوية ذريعة اتخذها الرجل للسيطرة على المرأة، باستغلاله لطبيعة جسدها الضعيف أمام جسده، فليكون هناك توازن على المرأة أن تحقق هويتها وذاتها بأن تكون عنصر فعال في المجتمع، لتظهر خلال هذا كله موجات وتيارات نسوية، فالموجات النسوية تمثلت في ثالث موجات ابتداءً من الموجة الأولى التي كانت تبلوراتها خلال سنة 1792م كتمهيد للموجة الثانية التي كانت بين سنة 1960م حتى نهاية القرن 20م، لتأتي الموجة الثالثة كآخر موجة التي كانت بداياتها من التسعينيات لتمتد إلى يومنا هذا؛ حيث عملت النسوية خلال هذه الموجات إعادة الحقوق للمرأة مهتمة بكل قضايا المرأة. نفسها. لنجد التيارات على تحقيق العدالة والنسوية التي تبدأ بالتيار النسوي الماركسي، ثم التيار النسوي الليبرالي، فالتيار النسوي الاشتراكي، أخيراً نجد التيار النسوي الراديكالي. لتبرز الفلسفة النسوية الغربية وحتى العربية في كافة المجالات العلمية والفكرية.

ومن أهم المفكرين الذين أولوا قضية المرأة عناية فائقة والمنظرين لأسس الفلسفة النسوية بمفهوم ورؤية خاصة تستحق الدراسة والتحليل هو الأستاذ ماجد الغرباوي؛ ذلك الرجل الذي يمثل (كما قال الأستاذ شاكر فريد حسن في مقاله ... ماجد الغرباوي المثقف التنويري والمفكر المضيء): رمز ونجم فكري وثقافي نقدي لامع يتجدد كل يوم في فضاءات العلم والثقافة والسياسة والمعرفة؛ ويقف ضمن طليعة المفكرين والمثقفين العرب المستنيرين والنقديين المشتغلين على نقد الفكر الديني والحركات الاسلامية ومسائل النهضة والاصلاح والتجديد والمعاصرة والتنوير والعنف والتسامح بين الاديان والعقائد والمذاهب؛ وقضية المرأة ومسألة تحررها المرتبطة بتحرر المجتمع كله . فهو يتمتع بموهبة أدبية ابداعية وخلاقة وآفاق علمية واسعة؛ ويتصف بالذكاء والفطنة والبصيرة الثاقبة وبعد النظر والرؤية الواضحة والوعي المتجدد المتوهج المتوقد ... وهو المفكر المتواضع الثري بالثقافة الاسلامية والفكر الانساني والوعي النقدي؛ والانسان العصامي؛ الصلب؛ المقاتل والمحارب بالكلمة والقلم؛ والثورة لديه فصل حب وعشق كوني شمولي ... هو كذلك المفكر المتمرس المتبحر في التراث الاسلامي؛ يملك الأسس العقلية المنفتحة والأدوات الفنية التي يعتمدها اسلوبه الكتابي النقدي ومقارباته الفكرية والثقافية؛ التي تعد اهم ركائز واوليات الاستنساخ للمثقف المبدع الخلاق المبتكر المجدد ... وهو أيضا كاتب وباحث عميق وجاد؛ صاحب مشروع فكري نهضوي معاصر يسعى من خلاله الى ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي؛ ومن خلال قراءة متجددة للنص الديني على اساس النقد والمراجعة المستمرة من اجل فهم متجدد للدين كشرط أساس لأي نهوض حضاري وعصري متقدم وجذري  يساهم في تأصيل قيم الحرية والتسامح والعدالة في اطار مجتمع مدني خال من العنف والتنابذ والاحتراب .

والسؤال الآن : ما هي رؤية ماجد الغرباوي لأفكار الفلسفة النسوية من مكانة المرأة ؟ والمساواة؛ والحرية؛ وحقوق المرأة وأيضا موقفه من الفلسفة النسوية الغربية والفلسفة النسوية العربية؟ ما وماهي المنطلقات الفكرية في نظر الأستاذ لنسوية ما بعد الكولونيالية ؟ وهل يعد القهر الذي تتعرض له المرأة موضوعا عالميا وليس موضوعا عربيا؟؛ وكيف تقهر المرأة من وجهة ماجد الغرباوي ؟ وما هو مفهوم النظام الأبوي وما ماصدقاته؟ وماهي الأصول الفلسفية لتبعية المرأة في هذا النظام ؟ وما فلسفة النظام الأبوي في تربية المرأة ؟   وذلك من وجهة نظر الأستاذ انطلاقا من الايدلوجية التي يتبناها ماجد الغرباوي ؟ وأسئلة كثيرة أخري صاغها كاتب تلك السطور وأجاب عنها بإفاضة الأستاذ ماجد الغرباوي .

إن رؤية ماجد الغرباوي تتضح من خلال مشروعه التنويري والذي يقول عنه: أما عن مشروعي، فسأبداء ببيان الخطوط العريضة لرؤيتي حول النسوية، معززة بالمبادئ التي اؤمن بها:

أولاً - أسعى في مشروعي إلى إقامة مجتمع مدني متحضر، يأخذ بأسباب العلم والمعرفة، ويعزز قيم الدين والفضيلة، باعتبارهما قيما إنسانية أصيلة تكافح الظلم والعنف وتعضّد روح التسامح والسلم الأهلي. وتقوض مشاريع الهيمنة والتوسع والسيطرة، وخطط إذلال الشعوب ونهب ثرواتهم. وتساهم في التحرر من سطوة المؤسسات الدينية والأفكار المتطرفة والهدامة. وعلى هذا الأساس أقارب موضوعات النسوية تارة باعتبارها فردا، وثانية باعتبارها جزءا من المجتمع.

ثانياً- تعريفي لمفهوم النسوية - Feminism، وفقا لمفهوم الفلسفة المعاصرة، القائمة على النقد والعقلانية، هو: (تحرير وعي المرأة وإعادة تشكيله وفق رؤية إنسانية عادلة). ليكون موضوعها: (نقد مكونات الوعي وارتهانات تشكيله). وقد تمت الإشارة له سابقا، أذكر به للمناسبة.

ثالثاً - تبدأ الخطوة الأولى على طريق تحرير المرأة، واستعادة حقوقها، من استرداد إنسانيتها، واستعادة ثقتها بنفسها، وبعقلانيتها وحكمتها وقدراتها العقلية والنفسية، بعد تحرير الوعي من تراكمات التربية والبيئة وسطوة التراث والعادات والتقاليد، وعقد النقص والدونية.

رابعاً - توظيف الخطاب الديني العقلاني، وقيم الحضارة الحديثة، والقيم الأخلاقية والإنسانية، لإعادة تشكيل وعي الرجل بالمرأة، وانتزاع اعتراف حقيقي بإنسانيتها، يضعها على قدم المساواة معه. للتخلص من منطق المنّة والشفقة والتكرّم والتفضّل المستوطن وعي الذكر في تعامله معها.

خامساً - ما لم يكن اعتراف المجتمع بإنسانية المرأة اعترافا حقيقيا يبقى التسامح معها تسامحا شكليا، ويواصل الرجل نظرة الازدراء، يضع نفسه فوقها، ويتعامل معها بتعالٍ ذكوري.

سادساً - تستمد حقوق المرأة مشروعيتها من إنسانيتها. تبقى تدافع عنها على هذا الأساس، وتشعر بالظلم والإهانة عند الاستهانة بها. أما المرأة المنهزمة فتبقى مشروعية حقوقها مرتهنة للرجل وإرادته. فتتعرض للاضطهاد والظلم، دون التمرد عليه باعتباره قدرها. وهذا فارق جوهري اؤكد عليه دائما في مسألة النسوية، وأعتبر جميع الحقوق بناء فوقيا، ينبغي أن يؤسس على أسس إنسانية وعقلية وأخلاقية. ينبغي للمرأة أن تحدد حقوقها بنفسها، بعيدا عن سطوة الرجل وسلطته. وهو ما نراه الآن، حيث الذكر هو الذي يحدد حقوق المرأة.

سابعاً - أؤمن من حيث المبدأ بحرية المرأة ومساواتها مع الرجل، ما لم تمسا قيم الفضيلة، التي هي أساس تماسك الشعوب. لذا أميل للحرية العادلة، والمساواة العادلة. والعدالة قيمة نسبية، تحددها مصالح الشعوب ومرتكزاتها الفكرية والعقدية إضافة إلى التزاماتها الاجتماعية (عادات، تقاليد، تعليمات دينية، لوائح قانونية، مقررات) التي تستمد شرعيتها من شرعية تعاقد مضمر بين أبناء الشعب، أو عقد اجتماعي، وجود الفرد يؤكد قبوله به، فيفرض عليها الالتزام به. ومن يعش داخل مجتمع، يلتزم بما يلتزم به أفراده. التزام يحيل على عقد اجتماعي يستمد شرعيته هو الآخر من عدالته والالتزام به. وقد يحد المجتمع من حريات أفراده، شريطة أن تكون قيودا عقلانية، تصب في مصلحة الجميع، وينتفي عنها صفة الاعتداء والظلم. أي أن تحديد الحرية التي هي صفة وجودية للإنسان، لا يعتبر اعتداء، مادام له مردود إيجابي على الجميع والمرأة جزء منه. فهي تتنازل عن بعض حريتها لأجل تعزيز قيم الفضيلة التي تعضد تماسك الشعب. وهكذا بالنسبة للمساواة، فهي حق للمرأة أصالة، لكن لا ينبغي للرجل استغلالها لإقحام المرأة باسم المساواة إلى سلوك يضر بمصداقيتها، كأن يجبرها على عمل شاق فوق طاقتها وقابلياتها، باسم المساواة فيوجب عليها ذلك، لذا اشترطت في المساواة العدالة، كشرط أساس لتحقيق توازن قيمي، يراعي خصائص المرأة، خاصة البايلوجية. والعدالة تحفظ حقوق الجميع، دون غَبن أو ظلم. فثمة فرق بين الحرية والمساواة باعتبارهما لازمين لوجود المرأة. وبين الحرية والمساواة كممارسة اجتماعية خاضعة لشروط العقد الاجتماعي.

ثامناً - الدين تجربة روحية تروي ظمأ الإنسان المتعطش للمطلق، والمرتهن للغيب والمقدس. يغمره قلق مصيري لا شعوري، وتوق جنوني للسمو يستبد به وهو يعيش تجربته، فتنعكس آثارها على سلوكه ومشاعره ومواقفه. والدين بهذا الفهم الصوفي يساهم في تعميق قيم التسامح والسلم الأهلي، حينما يضفي الدين معنى لحياته وتضحياته، ويرفد المجتمع بقيم المحبة والسلام، ويساهم في تماسك الأواصر الاجتماعية، والحث على العمل الصالح. وعدم التآمر ضد مصالح شعبه ووطنه. لا يسود الاستقرار والأمن، ولا تحقق المواطنة أهدافها من خلال القوانين وقوة القضاء، بل ينبغي وجود ثقافة موازية تثقف الشعب على القيم والمبادئ الكفيلة باستقرار الشعب. والدين بالمعنى المتقدم يلعب دورا إيجابيا عندما يخلق وازع التقوى، وحب الخير، وحينئذ سيلتزم بالأنظمة والقوانين حتى في خلواته بعيدا عن عدسة الرقيب الأمني. وهذا النمط الديني يعارض منطق الفرقة الناجية، ويفتح باب النجاة أمام  الجميع، ويحول دون دعوى احتكار الحقيقة، وسيادة منطق التكفير.

تاسعاً - الأحكام الشرعية، أحكام نسبية، ترتهن فعليتها لفعلية موضوعها، وبعد أربعة عشر قرنا، حصلت تحوّلات حقيقية، ينبغي أخذها بنظر الاعتبار، إذا أن الشريعة قائمة على أساس ملاكات ومصالح ومقاصد، ويمكن اعادة النظر بجملة منها، باستثناء بعض العبادات.

عاشراً - أهم إشكالية تواجه المرأة عامة والمرأة المثقفة خاصة، تحرير العقل الجمعي من ذكوريته وسلطويته واستخفافه، ليرقى إلى مستوى إنسانيته في تعامله معها. مع تعميق ثقتها بذاتها وبمنجزها، بعيدا عن تاء التأنيث، تحاشيا لإعادة انتاج الذكورة من خلال تكريس الأنوثة. وهذه اشكالية مركبة، تتطلب من المرأة عملا مزدوجا. تنقية العقل الجمعي من قيم التمايز الجنسي، وتأكيد إنسانيتها، من خلال مواقفها ومنجزاتها بعيدا عن التكريس اللاشعوري للأنوثة. فتارة تكرّس المرأة الذكورة وهي تقاوم تحدياتها، فتعيد انتاجها بصيغ مختلفة. وهذا ما يحصل حينما تصرّ المرأة على تأنيث منجزها تفاخرا أو تحديا، أو تكريسا لخصوصيتها، ليبقى المجتمع العربي في دوامة ثنائية المرأة / الرجل. الذكر / الأنثى. وتبقى نبرة الرجل تعلو صوت المرأة، رغم حضورها الكبير على المستوى العلمي والأكاديمي والاجتماعي والثقافي والأدبي والفني. بل ونافست الرجل في أعلى مناصب القيادة عندما مارست السلطة والحكم (رئيسة دولة أو رئيسة وزراء)، أو كوزيرة ومستشارة، ومديرة، ورائدة فضاء، وبرلمانية... وللحديث بقية !

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

................................

يمكنك الاطلاع على الكتاب من خلال الرابط أدناه 

 

الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري

 

بقي عنوان النظر والتجديد في التراث الديني من أبرز العناوين التي تتحرك في فضائها مشاريع وأعمال عدد من الباحثين من دعاة الإصلاح والنهضة، ولا تزال قرأتهم قائمة في تكشيف المرجعيات الإسلاميَّة، بمقرراتها واداواتها، وفك التباساتها التاريخية مع معطيات الزمن الذي ولدت فيه وأثرت به وتأثرت، لتنمية وإرساء معطيات ونصوص ورؤى حضارية تنسجم مع تحديات الزمن الراهن، المتدفق بكل عناصر التغيّر والسرعة.

والموقف من المرأة كما يرى الدكتور عبد المجيد الشرفي يعد اليوم أفضل معيار يمكّننا من تصنيف المفكرين والمشتغلين بالمعرفة الدينية، ومعرفة مدى بقائهم عالة على بعض القدماء من الذين يكرّسون التمييز الذي كانت النساء ضحيته، أو انخراطهم في مقتضيات عصرهم بالنسبة إلى سائر القضايا. وهذا المعيار هو الدليل في الحكم على المصداقية التي يمكن أن يتمتع بها أي موقف، باعتبار أن حقوق الإنسان كل لا يتجزأ ولا يجوز اختزالها. فإذا وجد من ينبذ الأحكام الفقهية التفصيلية التي تفرق بين المسلمين على أساس الانتماء المذهبي –مثلًا- ثم وجدتهم يقرّون بفرض أحكام فقهية ولدت ضمن الاشتراطات التاريخية بتعللات واهية، فلا نستبعد أن ذلك النبذ منقوص ومعتل، يحمل في طيّاته تناقضًا داخليًا، وأنه غير مبني على أساس متين.(1)

وقد شهد المسار التاريخي لموضوع المرأة سجالات فكرية حادة في داخل الوسط الديني، في العصر الحديث من رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وقاسم أمين، والطاهر الحداد ومرتضى مطهري، ونصر ومحمد مهدي شمس الدين وو.  وقد تمخضت عنها اتجاهات معرفية متعددة، يمكن حصرها في ثلاثة، لنتلمس من خلالها مشروع الأستاذ ماجد الغرباوي في مقاربته لهذه القضية الحرجة، وأين يمكن أن يصنف؟ وما هي أبرز محدداته وأدواته؟

وبإيجاز، فان هذه الاتجاهات الثلاثة، هي:

أولا: الاتجاه التقليدي النصوصي (الأصولي):

ومن أبرز معالمه الحفاظ على أصالة المعارف والتعاليم الإلهية، ومواجهة جميع الأفكار التي تستعين بالمعارف والمنهجيات الحديثة في فهم وتفكيك التراث الديني. فؤلاء يقدسون الماضي. حتى ان بعض اتجاهاته المفرطة، تعتقد أن الله يريد حفظ الظروف الموضوعية والعلوم والفنون التي كانت موجودة في ذلك العصر، ويعدون كل التحولات اللاحقة بعيدة عن المجتمع الإسلامي المرجوّ. (2)

الاتجاه الثاني: الاتجاه الكلامي (العقلاني):

وهو اتجاه برزت فيه شخصيات كبيرة في القرن العشرين كالشيخ محمد عبده، ومحمد رشيد رضا، ومحمد حسين الطباطبائي، ومرتضى مطهري، ومصطفى السباعي، وغيرهم، وقد ركز هذا الاتجاه نشاطه على صعيدين(3):

أحدهما: تقديم صياغة علمية داخلية لموضوعات المرأة غلبت عليها، سمة إعادة إنتاج من دون تغيير في النتائج غالبا، أي إعادة صياغة وتشكيل للنظم المفاهيمية مع الأخذ بعين الاعتبار ثبات النتائج.

ثانيهما: تقديم تفسيرات عقلية للنتائج المفروغ منها، يمكنها عقلنة معطيات النصوص، أي تقديم تفسيرات لقضايا الحجاب وعلاقته بالحرية، وتعدد الزوجات وعلاقته بالحقوق وو. وقد ساعدت التركيبة الذهنية – الاجتماعية في المجتمعات الإسلاميَّة، على نجاح هذه التفسيرات ومعقوليتها لدى الرأي العام، وهو ما قد ينذر بفشل الديمومة، نتيجة التغيرات التي حدثت في العقديين الأخيرين.

الاتجاه الثالث: الاتجاه الفقهي الحضاري:

 وقد تبلور هذا الاتجاه في كتابات الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله، والشيخ يوسف صانعي، والشيخ مهدي مهريزي، والشيخ مجتهد الشبستري، غيرهم. ويحكي عن نمط من التفكير والتعاطي مع النص (القرآن والصحيح من السنة) المحتكم إليه في القراءة والتأويل، تمثل في أمرين(4):

الأمر الأول: آلية الحفر خلف الجانب الصدوري للنص، وهو أمر يتسنى في السنة الشريف، ويستحيل في القرآن الكريم. إن هذا الحفر الذي يهدف إلى تقويض النص من خلال نفي صدوره، وجد لنفسه في هذا الاتجاه فرصة ملائمة جدًا. والسبب في ذلك هو ان مجموعة تصورات اجتماعية عن المرأة لم يعمد الفقهاء والمتكلمون المسلمون السابقون إلى تحقيقها اتكالًا على الوضع العام في الوعي والعقل الجمعي المسبب عن بنية خاصة للمجتمع القديم.

الأمر الثاني: إلية تكوين قراءة جديدة للنص تدخل في الحساب التاريخي، والمكسب الذي سيتحقق حينئذ يقوم على محاولة عزل النص عن الواقع الاجتماعي الحالي من خلال وصله ببنى وهيكليات اجتماعية – سياسية سابقة لم يعد بالإمكان تحققها اليوم.

هذه هي أبرز الاتجاهات الدينية التي عاشت السجالات الفكرية لوضع المرأة الحقوقي والحضاري، وقدمت تصورتها وقناعاته فيه، ولكل منها كما شاهدنا أدواته المعرفية وسماته وتجربته.

ومن ثَّم، نعود ونسأل أين يمكن أن نصنف مجهود وعمل ماجد الغرباوي من هذه الاتجاهات من خلال كتاب (المرأة والقرآن) ؟ علمًا ان كتابه عبارة عن حوار أجرته معه الدكتورة ماجدة غضبان، وكان الحديث في عمق التشريع وفلسفته ومرجعياته وأصوله، والواقع ودلالاته في النص وفهم النص. مع النظر في المنهج البحثي والعقل الاجتهادي الإسلاميَّ في محاولات التأصيل والتعميق.

ويبدو لنا من خلال المطالعة انّه ينتمي إلى الاتجاه الحقوقي الحضاري، الذي يسعى إلى قراءة مضامين الأدلة الشرعية من جديد، وفك النصوص من اشتراطاته الزمانية. ويمكن تلمس أبرز أدواته في الفهم والتفكيك والمعالجة بالاتي:

أولًا: التفريق بين النص وفهم النص وتفسيره، فهو يرى ان القداسة أو الحجة الشرعية-كما يسميها- لا تتجاوز القرآن والصحيح من السنة، وحتى هذا السنة فبعضها تدبيري (أو ولائي، تقتضيه المصلحة العامة)، والآخر مطلق يحمل على نحو القضية الحقيقية. فهو يقول: (اذاً الحجة الشرعية هي الكتاب المبين والحديث الصحيح الذي يفسّر النص "في تفصيلاته التشريعية وبعض جوانبه". وما عدا ذلك يقبل النص الديني أي تفسير ضمن ظرفه وشروطه. ولا شك ان النفوس الذكورية والاعراف والتقاليد، لعبت دورا في تفسير النص لصالح الذكر ضد الانثى، وهي تفسيرات وليدة عاداتها وتقاليدها وفهمها، وليست بحجة علينا. ويجب ان يكون لنا تفسيرنا ضمن ظرفنا التاريخي. وهذا الكلام لا يعني الشمول ابدا، فهناك كثير من التفاسير الموضوعية، لكن قد نراها تجافي المرأة على خلفية فهم المفسّر، ومبناه في توثيق الروايات، ومدى قبوله لها. او مدى تأثّره بالتراث او بواقعه. او بسبب خلفيتنا نحن، واختلاف الزمان، ورؤية الرجل مطلقا للمرأة ودورها في المجتمع. فالقياس هو القرآن وليس قول المفسر او الفقيه، ومتى ما انتابنا الشك في اقوالهم نعود للقرآن نستنطقه كي نتعرّف على الحقيقة.."(5) وعلى ذلك فهو يرفض النصوص والتفسيرات التي تصف النساء بناقصات العقول، أو ما ينسب  للإمام علي(ع) من : " كن من خيرهن على حذر"

ويعتقد انها نشأت في ظروف سياسية خاصة، كحرب الجمل وخروج السيدة عائشة على الإمام علي (ع) وتزعمها لجماعة من المسلمين. (6) ووفقًا لذلك لا يمكن أن يشكل ذلك مدركًا للأحكام الشرعية أو لرسم صورة عن المرأة. نعم هي رأيٌ سياسيٌ شخصيٌ، لا رأيٌ اجتماعي عام تبنى عليه الأحكام.

ثانيًا: ان حصر مقاصد الله بالدلالة الحرفية للنص، وعدم مراعاة الدلالات الأخرى كالدلالة العقلية أو الدلالة المقاصدية، أو الدلالة الواقعية (التاريخية) قد أثر سلبا في تفسيرها، وجرد النصوص من قرائن مهمة قد تقلب العام إلى خاص، أو المطلق إلى مقيد والعكس صحيح. وعليه، فان الحل يكمن في تتبع المجتهد واستقرائه لجميع الدلالات الداخلية والخارجية لخلق وعي أعمق وأشمل للنص.

ثالثًا: من خلال إيمانه بلزوم فهم الأسبقيات والقبليات التي ينطلق منها المجتهد في معالجاته فانه يرى ان الفرضيات المعرفية المسبقة عن هوية المرأة وقدراتها هي من أثرت بشكل كبير في استنباط العديد من الأحكام المتعلقة بالرجل والمرأة. فيقول في ذلك: "لا إشكال في ان الحس الذكوري هو بوصلة الفهم والتفسير لدى بعضهم.. فكانت الذكورية حائلًا بينهم وبين التفسير والقراءة الصحيحة، حتى ان بعض الآراء الفقهية ما زالت قاصرة وقد تصنف جائرة بحق المرأة، وسببها كما تقدم النظرة الذكورية." (7)

رابعًا: فحصه للنصوص وإعادة قراءة مضامين الأدلة لا تمنعه من قبول مسوغات فكرية قدمها علماء الإسلام بخصوص تعدد الزوجات- مثلًا-، وصلته بالحقوق من أجل مجتمع نظيف، عفيف، ما دامت هذه المسوغات أو العلل لا تصطدم مع الواقع الضاغط بضرورياته ، مثل: كون الرجل لا يكتفي جنسيًا بزوجته، أو أن زوجته لا تطيقه جنسيًا، أو ان التعدد قد يساعد في القضاء على مشاكل العوانس، وقلة الرجال بسبب الحروب، أو الأرامل في ريعان الشباب، ونحو ذلك. والتعدد عنده من حقوق المرأة وليس الرجل فقط.

خامسًا: من الأدوات المنهجية عنده هو معيارية الفهم القرآني، وحاكميته على مجمل النصوص الأخرى، ولا يتأتى ذلك إلَّا من خلال النظر إلى القرآن ككل لا إلى جزء منه فقط.

وتشير الدراسات القرآنية الحديثة إلى ما يقارب من مئتي آية تتناول المرأة وعلاقتها بالرجل. ومن هذه النقطة في ينطلق إلى رفض الآراء التي تجيز زواح البنت بتسع سنوات!! معتمدًا على علامات البلوغ التي ذكرته النصوص كـ " بلوغ الحلم "، أو " بلوغ الرشد " فلا يمكن استفادة إطلاق الحكم بتسع سنوات من دون أن تكون حائضًا وبمستوى الرشد.

سادسًا: تحت عنوان "الإسلام والرق" يكشف ماجد الغرباوي عن أبرز أدواته المعرفية وهي التمييز بين الأحكام التدبيرية الزمنية التي تصدر من النبي (ص)، وبين الأحكام التبليغية التعبدية، فكما ان النبي يمارس أحكام التبليغ فانّه يمارس أحكام الولاية العامة في إدارة شؤون المسلمين، وهذه الأخيرة توقيتية لا تلزم المجتمعات اللاحقة. وعليه، فان أحكام الرق ومشروعيته إذا كان لها ما يبررها في ظروف وقواعد الصراع التاريخي، فان هذه القواعد قد تبدلت بعد أن اتفقت جميع المجتمعات على نبذ الرق بإشكاله المختلفة.

وأخيرًا، من حقي أن أسجل ملاحظة نقدية يمكن أضعها بصفه سؤال أمام منهج وتعاطي الأستاذ ماجد الغرباوي في تفريقه بين النص وفهم النص، وقد ذكرتها في كتابي:" مسألتان شائكتان في قضايا المرأة " وهي: ان معالجة القرآن لقضايا المرأة هل قائم على أساس تكويني في طبيعة المرأة بحيث يتصف بالثبات، أم قائم على أسس وحيثيات اجتماعية متبدلة ؟ وبالتالي يخضع النص القرآني للتبدل في معالجاته؟.

 

سُميَّة إبراهيم الجنابي/ باحثة إسلاميَّة.

الحلة/ العراق.

.............................

(1) ينظر: عبد المجيد الشرفي، عبثية الصراع المذهبي، كتاب: الصراع المذهبي فصول في المفهوم والتاريخ، الناشر: جامعة الكوفة، الطبعة الأولى- بيروت-2018م، 65.

(2) ينظر: الشيخ محمد تقي سبحاني، شخصية المرأة – دراسة في النّموذج الحضاري الإسلامي، ترجمة: علي بيضون- شاكر كسرائي، الناشر: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي- الطبعة الثانية - 2013م، 29-33.

(3) الشيخ حيدر حب الله، المرأة في الفكر الإسلامي المعاصر، الناشر: دار الهادي- بيروت، 2008م، 14.

(4) الشيخ حيدر حب الله، المرأة في الفكر الإسلامي المعاصر،12.

(5) المرأة والقرآن- حوار في إشكاليات التشريع، الناشر: العارف للمطبوعات، الطبعة الأولى- 2015م، 16.

(6) ينظر: المرأة والقرآن- حوار في إشكاليات التشريع، 24.

(7) ماجد الغرباوي، المرأة والقرآن- حوار في إشكاليات التشريع، 25-26.

 

أهدي هذا المقال لكل قراء صحيفة المثقف احتفالا بمرور العام الثالث عشر من تاريخ صدورها

يعلم كل من يتابع كتاباتي ومقالاتي وكل من هو قريب لشخصي إنني متحرر تماماً من أية تبعية تقودها أهوائي لمصلحة ذاتية أرغب في تحقيقها، فقلمي متجرد من كل قيود ولا يستقي كلمته إلا من محبرة تراب الوطن فقط، ومن ضمير الحق الذي يسكن بداخلي ويقود كل كلماتي.

ومن تلك المحبرة وضمير الوطن والحق الذي يسكن بداخلها، غمست قلمي لأكتب عن ماجد الغرباوي الوطني والإنسان.. وما دفعني لذلك هو تلك المناسبة العطرة وهو الاحتفال بالعيد الثالث عشر لإصدار صحيفة المثقف والتي من خلالها تمكن ماجد الغرباوي أن يجمع العديد من الكتاب والمثقفين في مؤسسة فكرية ثقافية فتحت قلبها لكل الأقلام بمختلف جنسياتهم، ورحبت بالذين يحملون بداخلهم طاقة ذهنية وفكرية وإنسانية متوقدة يحطمون بها كل التناقضات ويواجهون بها  الزيف الثقافي (حسب ما أخبرتنا الأستاذة الفضلة "علجية عيش" في مقالها الصادر بعنوان في عيدها الثالث عشر.. المثقف نافذة تطلُّ على العالم).

ولذلك بسبب هذه المناسبة انتفض قلمي لأكتب عن ماجد الغرباوي للمرة الثانية، وهذه المرة بمناسبة وما أحلاها من مناسبة، فهي مناسبة شكر له علي ما تفضل به من خلال إنشائه لتلك الصحيفة الموقرة والذي لولاها  لما استطاع الكثير من الكتاب والمفكرين أن يحلقوا بعيدا عن أوطانهم أو يقفزوا إلى ما وراء البحار (هنا في أستراليا)  ليصنعوا ذواتهم، بعد أن مُورست عليهم ثقافة الإقصاء في بلادهم وليقولوا بصوت مرتفع "نحن هنا" في صحيفة المثقف نعبر عما يجيش في صدورنا وقلوبنا وعقولنا .

ومن هنا كان اللجوء الإعلامي.. الإبداعي والثقافي (في صحيفة المثقف)، والتي وجد فيها العديد من الكتاب والمثقفين ملجأ لهم،  ففتحت قلبها لكل الأقلام بمختلف جنسياتهم، ورحبت بالذين يحملون بداخلهم طاقة ذهنية وفكرية وإنسانية متوقدة يحطمون بها كل التناقضات ويواجهون بها  الزيف الثقافي، وهي تجربة مرت مع كل من تواصل مع مؤسسة المثقف برئاسة الاستاذ ماجد الغرباوي، ليس كمسؤول، وإنما كمبدع يعيش الواقع الثقافي العربي ويغوص في أعماقه،  فقد استطاعت المثقف أن تفتح آفاقا جديدة أمام كل الأقلام بمختلف جنسياتهم من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، وتحقق الانفتاح، واستطاعت بفكرها الواسع أن تقضي على الفوارق الثقافية، فلا تفرق بين كاتب كبير وكاتب مبتدئ، بل جعلت من الصغير كبير، واحتلت مساحات جديدة في النفوس بعمق وحرية من أجل إيصال الفكرة وتوضيح الرؤية، وتنوير العقول، فكانت نافذة تطل على العالم، وهذا هو الوعي الثقافي في كل تجلياته. (حسب قول الأستاذة "علجية عيش" في مقالها السابق).

كتاب: تحديات العنف

967 tahadiyatalonf

كما قلت في الفقرات السابقة انتفض قلمي لأكتب عن ماجد الغرباوي ولكن بشكل مختلف عن المرة الأولي، حيث أخترت إحدى كتاباته المهمة والتي تعالج الواقع الحالي، وهو كتابه الشهير " تحديات العنف"؛   لأعرض له وأحلله وأنقده،  وهذا الكتاب كان قد صدر للمرة عن دار الحضارة للأبحاث ودار العارف في عام 2009م، وفي هذا الكتاب قدم لنا المؤلف من خلاله خلاصة مقطرة ومركزة لكنها بالغة التعبير والدلالة لحقيقة اكتشاف البنية المعرفية للممارسة العنف من قبل المتطرفين الإسلاميين، أي محاولة اكتشاف المفاهيم والمقولات والفضاءات الفكرية والعقيدية التي تدفع المتطرف نحو قتل الإنسان لا لشئ سوي إنه يختلف معه عقدياً أو دينياً أو فكرياً، كما يحاول المؤلف التعرف علي الخطاب الديني التكفيري الذي يمارسه الفقهاء المتطرفون ضد الآخر المختلف دينياً أو عقدياً .

لقد أراد ماجد الغرباوي في هذا الكتاب أن يعطينا خطاباً تجديدياً، حيث حاول أن يحرر الفكر الإسلامي من قيود القراءات التقليدية والأيديولوجية وإعادة تفسيره وتأويله من منظور واقع الحداثة ونقله إلى فضاء معرفي جديد. من مفارقات السجالات الفكرية المعاصرة حول ضرورة تجديد الفكر الإسلامي وتطوير آليات علمية جديدة لدراسة فقهه وتوظيفه من أجل مواكبة مسار الحضارة والتجاوب مع متطلبات العولمة وتعقيدات الحداثة، أن معظم المفكرين الإصلاحيين والتجديديين المسلمين يحظون باهتمام عامة الجمهور في دول العالم الإسلامي وباهتمام الرأي العام الغربي ليس بسبب اجتهاداتهم الفكرية وإنجازاتهم العلمية المميزة، بل بالدرجة الأولى لأنهم يعايشون محنة العالم الإسلامي وعواقب العنف، حيث حاول الغرباوي أن يحدد شروط ممارسة القوة في الإسلام، فليس العنف مرفوضا مطلقاً، وإنما له مبرراته الموضوعية، ولاسيما مع المعتدي الرافض للحوار أو في حالات الدفاع عن النفس أو غير ذلك بامتلاك القوة أمراً ضرورياً جداً، لأن تمسك بزمام الحياة في عملية إدارة وقيادة المجتمع.

لقد تناول " تحديات العنف " بعض الحركات الأصولية المتطرفة التي مارست العنف بشكل مريب ومكثف، متخطين بذلك كل القيم الدينية والخطوط الحمراء التي أرستها الشريعة المحمدية، ولم يتوقفوا عن إرتكاب مجازر العنف حتى مع المسلمين، ممن يختلف معهم مذهبياً أو فكرياً أو عقدياً، كما يكشف كذلك علي أن وتيرة العنف والعمليات الارهابية في العالم في تصاعد ما دامت بؤر التوتر لم تلامس حلولاً موضوعية ولا يقابل العنف إلا بعنف مضاد، سرعان ما يتحول هو الآخر إلى سلطة فوقية تمارس العنف والاضطهاد . ولذلك يعالج الكتاب طبيعة الصراع بين الأديان والمذاهب علي حقيقة العنف، حيث يتساءل المؤلف : ما الهدف من هذه الممارسات؟ هل هي حرب ضد إرهاب الدول الكبرى كأمريكا وحلفائها، فلماذا يقتل الأبرياء؟ هل هي جهاد في سبيل الله، فلماذا يتقاعس العلماء؟ هل هناك ما يبرر أعمالهم شرعاً فلماذا لا تستجيب لهم الشعوب المسلمة؟ من الذي يجيز لهؤلاء قتل الرجال والنساء في كل مكان؟ ومن المسؤول عن فتاوى التكفير ورمي الآخر بالردة والانحراف؟ وهل الرأي الآخر مبرر للقتل والعدوان؟ ولماذا لم يقتل الرسول صلي الله عليه وسلم جميع اليهود والنصارى بل من لا دين له من العرب وغيرهم؟ وهل الحرب والسيف الوسيلة الوحيدة لنشر الإسلام وبيان الحقيقة؟ لماذا لا يتمكن المسلمون مقارعة الكلمة بالكلمة؟ وهل صحيح إن الإسلام عاجز عن ممارسة الديموقراطية واقناع الآخر بوسائل وآليات حديثه؟ هل حصلت للمتطرفين شبهة عقدية؟ هل يتلقون توجيهاتهم من جهات أعلى؟ من هي هذه الجهات؟ هل هم فقهاء؟ وأي فقهاء؟ هل يفقهون الحياة؟ وهل يدركون مقاصد الشريعة وغاياتها؟ وهل يعترفون بدور الزمان والمكان؟ أم فقهاء متحجرون، متغطرسون؟.

ولعل من المفيد – قبل عرضنا لهذا الكتاب ومحتواه – أن نشير في عجالة إلي أهم التوجهات الضابطة في مسيرة المؤلف الفكرية عبر فصول الكتاب العديدة .

وأبرز هذه التوجهات وهو ما ظهر له من أن دراسة "تحديات العنف " يمثل أمراً هاماً، لدراسة اسباب العنف واكتشاف بنيته المعرفية، من مقولات ومفاهيم وفضاءات فكرية وعقيدية، ومحاولة للتعرّف على الخطاب الديني التكفيري الذي يمارسه الفقهاء المتطرفون ضد الاخر المختلف دينياً وعقيدياً. واكتشاف الأدلة التي تبرر للإنسان منطق العنف والاقصاء والكراهية والتنابذ، وفهم طبيعة الثقافة التي تشبع بها الإرهابيون الدينيون فاستساغوا الموت وكرهوا الحياة، وامتلأت قلوبهم حقداً وبغضاء.

وثمة توجه آخر للمؤلف يتمثل في أنه إذا أمكن تحديد وسائل العنف، حيث يقول في مقدمة كتابه:" ليس العنف طارئاً، أو غريباً على سلوك الانسان، فماضي البشرية حلقات متواصلة من الحروب، وتاريخها مشهد تراجيدي موشح بالدماء، ونكبات الموت ترسم صورة قاتمة لمستقبل الحضارة الانسانية. وليس في الحياة سوى نكبات متوالية، وكوارث مرعبة. إنها ثقافة العنف الذي شكل تحدياً خطيراً لوجود الانسان منذ القدم، فراح يهدد أمنه وسلامته واستقراره. ويهوي به عميقاً في لجة التوحش والانحطاط. وهو اليوم أحد أخطر التحديات وأكثرها تعقيداً، وقد امتدت تداعياته إلى أغلب المدن فسلبتها أمنها واستقرارها. واختلطت الأوراق بشكل متشابك وملتبس بسبب ما أحدثته تلك العمليات من رعب واستفزاز إجتاح الساحتين الدولية والاقليمية، وبات من الصعب العثور على واحات سلام تسمح بالمراجعة والنقد، وتحري الخطأ وتشخيص الحلول الناجحة لتسوية الازمات، إذ ارتكز الجميع إلى فوهات البنادق لتصفية الحسابات، والتشبث بالعنف لتسوية الخلافات.

أما التوجه الثالث فيتمثل في ربط المؤلف دراسة العنف بالإعلام، حيث يقول :" إن التكثيف الإعلامي المضاد لوسائل الاتصال الحديث، بطريقة متهورة  أحياناً، ليس أقل خطر من الأعمال الإرهابية ذاتها التي يرتكبها البعض باسم الدين، أو هكذا يحلو لتك الوسائل أن تصفها. حتى تنبـّه ساسة بعض الدول إلى خطورة النتائج المترتبة على الأسلوب الاستفزازي للإعلام المضاد. فمثلاً دعا توني بلير رئيس وزراء بريطانيا في حينه وقبله جورج دبل بوش الرئيس الامريكي إلى توخي الحذر في إثارة حفيظة المسلمين والتمييز بين ما هو إسلامي ينتسب للدين الحنيف وما هو إرهابي يرتكبه بعض المتطرفين باسم الدين، مخافة أن ينقلب المسلمون أشد عنفاً إذا ما تمادت وسائل الإعلام في سياسة الطعن والتشويه، وتجاهل الحقوق المشروعة للشعوب في صراعها مع الدول المتسلطة، وحقها في التعبير عن ارادتها. وهكذا وضع الإسلام في قفص الاتهام حتى في حالات الدفاع الشرعي عن الذات والهوية.

علي أن هذه التوجهات قد صاحبها ثلاث نزعات للمؤلف: إحداها نفسية، والثانية أخلاقية، والثالثة عقلية . أما الأولي من هذه النزعات، فتتمثل في إفراط المؤلف في القول بأن :" ويكفي لتأكيد ذلك مسلسل الاعمال الطائفية التي ارتكبها هؤلاء في باكستان والعراق وأفغانستان ضد إتباع المذاهب الإسلامية، بل وابناء المذهب الواحد والدين الواحد والوطن الواحد كما في كثير من البلدان الإسلامية مثل الجزائر ولبنان حتى (أدى التوسع العنيف لادعاءات الهوية التي تستبعد الآخرين إلى كثير من المعاناة والتضحيات. ويقدر أن الصراعات بين الدول داخل العالم العربي تسببت بين 1948 و 1991 في مقتل ما لا يقل عن 1.29 مليون نسمة وتهجير نحو 7.3 مليون نسمة) . ناهيك عما حدث بعد هذا التاريخ من مجازر في المنطقة ذاتها. فقد كان ضحية الموجات الإرهابية (نفذها الإسلاميون ام غيرهم) في مصر بين 1992- 1995 مالا يقل عن 984 شخصاً، كما عاشت الجزائر اضطرابات إرهابية دامية، وقد اعتبر جل الملاحظين أن حصيلة الهجمات بلغت ما لا يقل عن أربعين ألف وربما أكثر . كما حصدت الأعمال الإرهابية في أفغانستان وباكستان والهند والسعودية ودول أخرى الآلاف من الضحايا، وعندما نصل إلى العراق نجد الاعمال الإرهابية حولته بعد سقوط التمثال حتى موعد تشكيل الحكومة الانتقالية الى لوحة متشحة بدماء الاطفال والنساء، ومطرزة بجماجم العزّل والابرياء. فلم يبق جزء بما فيها الأماكن المقدسة لدى الشعب إلا واستباحته الموجات الإرهابية المعادية للسلام والحرية...الخ.

وأما التوجه الثاني فتتبدي لنا بجلاء في مواضع عديدة من الكتاب يعزف فيها المؤلف لحن عظمة الإسلام في شجب العنف، حيث  يقول الغرباوي :" إن ممارسة العنف واستخدام القوة في الإسلام تجري وفق ضوابط خاصة تطوقها خطوط حمراء ومساحات محرمة واسعة، فهي قوة للدفاع عن النفس والحقوق المشروعة، لا يسمح معها بالاعتداء والتجاوز على العزّل والأبرياء من الناس، أو الإطاحة بالممتلكات العامة، تحت أي عنوان كان ما لم يجد العنف مبرره الشرعي. كما أن القوانين الدولية الرافضة للإرهاب تلتقي مع الإسلام في استخدام القوة دفاعا عن النفس وردعاً لتجاوزات المعتدين، وترفض أيضاً استخدام العنف اللامبرر.

وأما النزعة العقلية فتبدو لنا واضحة في نظرته وأفكاره النقدية واحتفائه بالعقل في كل ما يطرح من قضايا وما يثيره من إشكاليات، سواء كانت هذه الأطروحات مستقاة من لمحات تراثية أو مستمدة من وقائع وطواهر فكرية وثقافية معاصرة . ونعتقد بيقين أن المؤلف بنزعته هذه يحقق درجات عالية من المصداقية في كل ما يقدمه لنا في هذا الكتاب من حيث تنطلق هذه النزعة أساساً من رفضه للثقافة السائدة لكونها في مجملها مدفوعة بالسطحية، داعمة للفكر الرجعي، داعية إلي الجمود والانغلاق، ومن ثم فإنها لم تثمر إلا تخلفاً ونكوصاً في مجملها مدفوعة بالسطحية، داعمة للفكر الرجعي، داعية إلي الجمود والإنغلاق . ومن ثم فإنها لم تثمر إلا تخلفاً ونكوصاً يضاعف أبعاد المسافة بيننا وبين الحضارة والفكر العالمي المعاصر، ويند آمالا وأحلاماً لنا مشروعة في التغيير إلي ما هو أفضل.

إن هذه النزعات وما صاحبها من توجهات قد أسهمت في تشكيل رؤي المؤلف وتنظيراته التي ضمنها كتابه الذي بين أيدينا.

وينهج ماجد الغرباوي في معالجته لقضية "تحديات العنف" خلال أبواب وفصول هذا الكتاب، منهجا تاريخياً- نقدياً  - مقارناً في كل فصول الرسالة، مع استخدام منهج تحليلي تركيبي، بمعني أنه كان معنياً بتحليل أقوال توجهات القائلين بالعنف، حيث ارتكز المؤلف في كتابه إلي دراسة النصوص الدينية، وفلسفة أخرى في فهم الحقيقة. وتعمـّد المؤلف طوال البحث إلى استفزاز الوعي، وفتح الأضابير المحرمة، غير مكترث لأي ممنوع او محرم. ولا ينسى التأشير على الدوافع الشخصية والايدولوجية في فهم النصوص. والمحاولات المتكررة من قبل المذاهب والأديان ورجال الدين لاحتكار الحقيقية وتوظيفها لخدمة التبشير الديني، بعد تكفير المختلف والمعارض.

كما اعتمد الباحث ماجد الغرباوي في دراسته لهذا الموضوع علي المصادر الأصلية التي اشتملت علي تعريف العنف وتاريخه وفلسفته وانواعه، ثم التحديات الكبيرة للعنف على جميع الأصعدة. إضافة إلى دراسة مسيرة الحركات الإسلامية المتزامنة مع ممارسة العنف. وقراءة في الآيات والاحاديث التي يرتكز لها خطابها التكفيري، ومناقشة الفتاوى الدموية وفقه الكراهية الذي يتشبث به بعض الفقهاء لاستباحة دماء الناس. ولم يقتصر العنف على الحركات الإسلامية وحدها فهناك عنف الدولة والسلطة وعنف الفرد والقبيلة وغيرها من الأنواع.

يقع الكتاب الذي بين أيدينا في 417 صفحة موزعة علي مجموعة من القضايا والمحاور وذلك علي النحو التالي : بدأ المؤلف العنف تاريخياً، حيث تناول دلالاته الاصطلاحية، ثم عرض بعد ذلك للحديث عن القوة كمفهوم مغاير، حيث تناول القوة والعنف، القوة .. التسليح والتعبئة، القوة .. المدويات والأهداف، القوة .. المحددات والضوابط . كما تناول بعد ذلك فلسفة العنف من خلال العنف ومصداقية السلم وسيكولوجياً العنف، ولم يكتف بذلك بل راح المؤلف يتناول التحديات المختلفة للعنف سواء فيما يتعلق بمشروعه الحضاري أو وحدة المجتمع والأمة، أو الحوار بين الحضارات، أو أمن واستقرار الجاليات الإسلامية، أو قيام المجتمع المدني . ثم انطلق المؤلف عقب ذلك للحديث عن أشكال العنف من خلال : عنف الدولة، وإشكالية الفكر السياسي، أزمة السلطة، فخ العنف، أو الشعب ضد الدولة أو الدولة ضد الدولة . ثم تطرق بعد ذلك لموضوع مهم جداً وهو الحركات الإسلامية والعنف، وذلك من حيث التعريف بها، والركائز الفكرية، والإنجازات، والنشأة، كما تناول في ذات الموضوع لحركات إسلامية أخري، مثل الإخوان المسلمون في مصر، وحزب الدعوة الإسلامية في العراق وحركات إسلامية أخري ببعض الدول العربية، حيث تمكن المؤلف من أن يكشف أسباب ظهورها من خلال حركة الإصلاح الديني وسقوط دولة الخلافة، والاستعمار، والاستبداد، وفشل المشاريع الوطنية...الخ. كما تناول المؤلف لقضية مهمة بعد ذلك ألا وهي التطرف الديني والعنف، حيث أوضح لنا بداية العنف وأسبابه وذلك من خلال : الحاكمية الإلهية، وجاهلية المجتمع، والجهاد وفتاوي الفقهاء وعنف السلطة وأمور أخري. ثم تناول المؤلف بعد ذلك للسيرة النبوية والعنف مع قراءة لبعض آيات القتال في القرآن الكريم كما جاء في سورتي (الأنفال ويوسف) مع تحليل لأدلة القائلين بالحرب الابتدائية : سواء فيما يتعلق بحكم المشرك غير المعاهد، أو حكم المشرك المعاهد الناقص للعهد، أو حكم المشرك المعاهد الذي لم ينقض العهد، أو حكم أهل الكتاب. وأخيراً تناول أهم المصادر والمراجع التي عول عليها.

وفي نهاية عرضنا يمكن القول بأن كتاب " تحديات العنف" لماجد الغرباوي، سياحة عقلية خالية من أي تعصب، بعيدة عن أي إسفاف، مجردة من أي هوي، واعية متأنية في ذاكرة تاريخ الفكر الفلسفي الإسلامي نقف من خلالها مع المؤلف علي استقصاء دوافع العمل الإرهابي، إلا أنها تأمل أيضاً في تحديد شروط ممارسة القوة في الإسلام. فليس العنف مرفوضاً مطلقاً، وإنما له مبرراته الموضوعية سيما مع المعتدي الرافض للغة الحوار ولا يفهم سوى منطق القوة والعنف. أو كما في حالات الدفاع عن النفس أو مباغتة العدو المتأهب لقتال المسلمين خشية الاحاطة بهم إذا كانوا قادرين على ذلك. إذن فامتلاك القوة أو أن تكون قوياً أمراً ضرورياً جداً، لأن امتلاك القوة لا يعني العنف وإنما ( أن تكون نفسك لا غيرك ... وأن تمسك بزمام الحياة في عملية إدارة وقيادة .. أن تعطيك الحياة طاقاتها وثروتها لتسخرها كما تريد، وتفجرها كما تشاء، وتصنعها كما يروق لك. إما أن تفقد القوة ..فتكون ضعيفاً ..  تفقد القدرة على الصراع وعلى الحركة ..  فمعناها أن تكون صورة غيرك.. وظله، كمثل الشبح الذي يبدو، ويزول، ليعود في بعض اللمحات، باهت اللون، ضائع الملامح .. وأنك لا تشارك في الحياة إلا من بعيد تماماً، كاللمحة الخاطفة من الضياء الخافت الآتي من مسافات شاسعة على خجل واستحياء، من أجل أن يخترق سواد الليل فلا يخدش إلا بعض حواشي الظلام، بكل هدوء) .

وأخيراً وليس آخراً أقول إنني استمتعت بقراءة هذا الكتاب الجاد الذي رجع صاحبه لكل الأصول المتاحة، وهي هائلة كماً وكيفاً وتقصت حقيقة كل ما له علاقة بتحديات العنف في تراثنا العربي – الإسلامي، واجتهد في التأويل والتفسير، ونقل إلينا دهشته وشغفه فشاركناه مشواره، وأحسب أن هذا الكتاب فريدا في منحاه ومنهجه في كتاباتنا العربي، فهو ليس تأريخاً سردياً، وإنما هو تأريخ لحقبة من الفكر في تراثنا العربي – الإسلامي من خلال التحديات التي تواجه الجاليات العربية والمسلمة بسبب العنف، مستحضراً أمثلة كثيرة واجهت العرب والمسلمين كردود فعل سلبيه من قبل المتطرفين، كما قارن المؤلف في كتابه حال الجاليات قبل موجة العنف وبعدها، والإجراءات التي باتت تواجه العربي والمسلم في المطارات والأسواق، وتوجس الشعوب الأخرى من العرب والمسلمين تحديدا.

وفي النهاية لا أملك إلا أن أقول بأن هذا الكتاب كشف لي بأنني إزاء نموذج نادر يصعب أن يتكرر، لمثقف واسع الثقافة وكذلك لمفكر حر نزيه لا يقيم وزناً ولا يحسب حساباً إلا للحقيقة العلمية وحدها، وفوق ذلك وأهم من ذلك بالنسبة لنا أنه كان يقدم مادته العلمية فى أسلوب بالغ الجاذبية والتشويق تجعلها أشبه ما تكون بالعمل الفني الممتع دون أن تفقد مع ذلك شيئا من دقتها الأكاديمية، ولهذا لم أكن مبالغاً حين قلت في عنوان الكتاب بأن ماجد الغرباوي - مؤلف الكتاب يعد بالفعل في مرحلتنا الراهنة "أيقونة التسامح في زمن العنف".

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

قليلون أولئك الرجال الذين يعيشون وفق ما يكتبون، ويظهرون ما يضمرون، ويعملون بما يؤمنون، ولا ريب في أن ماجد الغرباوي، والذي لم أعرفه شخصياً إلا من خلال عدة أسابيع فقط، حين طلبت من أخي الدكتور مجدي إبراهيم (أستاذ الفلسفة بجامعة العريش) أن يتوسط لي عنده بالنشر في صحيفة المثقف، وبدأت علاقتي به من خلال الماسينجر، حيث أهديته أول نسخة الكترونية من كتابي " حروب الجيل الثالث ونظرية تفتيت الوطن العربي"، ومنذ ذلك الوقت بدأت أتابعه عن كثب من خلال ما كتبه أو ما كُتب عنه، وسعدت كثيراً بالتكريم الذي حظي به في يوم الأحد الماضي من قبل منتدى الجامعيين وجمعية الاكاديميين بأستراليا.

وماجد الغرباوي من خلال قراءاتي له في تلك الفترة الوجيزة اكتشفت أنه مفكر جدير، إذ يُعدّ أحد القامات الفكرية العراقية - العربية التي آلت على نفسها الجمع بين النظرة العقلية الغربية والتراث الإسلامي في معالجة القضايا الفكرية، وهي تلك النظرة التي كشفت له عن العديد من الأفكار المهجورة في الفكر الإسلامي، وفي علاقة الإسلام بالآخر والقضايا الفكرية الآنية، ويحسب له أنه موسوعي الثقافة مستنير الفكر، فهو الذي كتب عن نقد الفكر الديني، والتسامح، والعنف، والحركات الاسلامية، والمرأة، والاصلاح والتجديد، وهو متخصص في علوم الشريعة والعلوم الإسلامية.

علاوة علي أنه متعدد المواهب فهو كاتب، وشاعر، وباحث دؤوب؛ حيث يسعي من خلال مشروعه في تجديد العقل الديني إلى ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، وذلك من خلال قراءة متجددة للنص الديني تقوم على النقد والمراجعة المستمرة، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب.

وقد بلغت إنجازاته العديدة في ميادين البحث والعقل والتنوير حوالي أكثر من ٢٥ عملاً ومؤلفاً، إضافة إلى عدد كبير من الدراسات والبحوث والمقالات التي نشرها في الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية المختلفة المتعددة، فمن أعماله علي سبيل المثال لا الحصر : إشكاليات التجديد (3 طبعات)، 2000م،2001م و2017م، فرص التعايش بين الأديان والثقافات (طبعتان)، 2006م و2008م، تحديات العنف، 2009م، الضد النوعي للاستبداد .. استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني، 2010م.، الحركات الإسلامية.. قراءة نقدية في تجليات الوعي، 2015م، جدلية السياسة والوعي.. قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق، 2016م، الشيخ المفيد وعلوم الحديث، 1992م، ترجمة كتاب الدين والفكر في شراك الاستبداد، 2001م.، تحقيق كتاب نهاية الدراية في علوم الحديث.. وهلم جرا.  وقد نال الاستاذ ماجد الغرباوي عدداً من الجوائز التقديرية عن أعماله الفكرية والعلمية البحثية.

وتتميز كتاباته بالوسطية والعقلانية، وتكشف عن تعمق كبير في العلوم الإنسانية والعلوم الشرعية، ويتميز أسلوبه بالوضوح والمنطقية؛ ولقد شهد له كل من كتب عنه من الباحثين بالدقة، والأمانة العلمية، والثقافة الواسعة ..إلي جانب ما يتمتع به من خلق رفيع، وتمسك بتعاليم الدين الحنيف . ولا غرو في ذلك فهو يمثل منظومة حافلة بالعطاء العلمي الجاد، والشموخ الإنساني المتميز، باحثا ومنقبا، محققا ومدققا، مخلفا وراءه ثروة هائلة من الكتب العلمية، والبحوث الاكاديمية الرصينة، وطائفة كبيرة من المريدين والاتباع الذين أعطاهم خلاصة فكره وعلمه.

ولقد أعجبني وصف الأستاذ "شاكر فريد حسن" في مقاله له بعنوان " ماجد الغرباوي المثقف التنويري والمفكر المضيء"، عندما قال :" ماجد الغرباوي: مثقف تنويري ومفكر مضيء"، (فهو يمثل) نخلة عراقية باسقة وشامخة في الفكر العربي الإسلامي، عانق نور الحياة في مدينة قلعة سكر، النائمة على نهر الغراف، وتتوشح بجمال طبيعتها وانسياب نهرها. نشأ بين أزقتها وحواريها، وتعلم الابتدائية في مدارسها، ثم انتقل وهو صغير السن مع أفراد أسرته إلى العاصمة العراقية بغداد، وفيها أكمل دراسته في إعدادية الكاظمية ثم الثانوية، لكنه تعرض للسجن مع ثلة من رفاقه، وبعدها واصل دراسته خارج حدود وطنه بموضوع الشريعة والعلوم الإسلامية، واستقر به الحال والمطاف في سيدني بأستراليا .

كما وصفه أيضاً بأنه يمثل رمز ونجم فكري وثقافي نقدي لامع يتجدد كل يوم في فضاءات العلم والثقافة والسياسة والمعرفة، ويقف ضمن طليعة المفكرين والمثقفين العرب المستنيرين، والنقديين المشتغلين على نقد الفكر الديني، والحركات الإسلامية، ومسائل النهضة، والإصلاح، والتجديد، والمعاصرة، والتنوير، والعنف، والتسامح بين الأديان والعقائد والمذاهب، وقضية المرأة ومسألة تحررها المرتبطة بتحرر المجتمع كله .

وإذا ما انتقلنا للحديث عن مشروعه في تجديد العقل الديني نجد أنه أعاد كتابة العلوم الدينية في صيغة عصرية، كما أعاد أيضا تأويل موقف الشريعة من قضايا المرأة، خاصة فيما يتعلق بحقها في تولي القضاء والفتوى والشهادة، والمساواة بينها وبين الرجل في الحقوق السياسية والمدنية؛ علاوة علي أنه صاحب رأي معلن بجرأة ووضوح في قضايا الدولة والمجتمع المدني وحرية الرأي والديمقراطية ومواجهة الفساد والتطرف، خاصة في كتابيه الحركات الإسلامية.. قراءة نقدية في تجليات الوعي، وجدلية السياسة والوعي.. قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق. ويؤسس فلسفيا للتسامح في كتابه" التسامح ومنابع اللا تسامح .. فرص التعايش بين الأديان والثقافات".

ولما كان مقالي يدور حول جهود ماجد الغرباوي في تجديد العقل الديني، فلا أملك إلا أن أقول عنه من خلال ما قرأته في كتاباته ؛ وبالأخص كتابيه " إشكاليات التجديد"، و" تحديات العنف"، بأنه أحد أبرز المفكرين في الفترة الحالية الذين جمعوا علوم الدين من ناحية، والفلسفة من ناحية أخرى، وتقديمه المعلومة بلغة عصرية مفهومة عبر رحلة طويلة من الفقه إلي الفلسفة، حتى تؤدى إلي تكوين خطاب ديني جديد، رافضًا تجديد الخطاب الديني القديم.

لا شك في أن كتابا " إشكاليات التجديد"، و" تحديات العنف" لماجد الغرباوي يبرزان لنا كيف قدم الرجل مشروعًا جديدًا لتجديد الفكر الديني مرتكزًا علي العقلانية النقدية، حيث يري ضرورة تطوير علوم الدين، وليس إحياء علوم الدين القديمة، نظرًا لتجمدها الذي يحوِّل القرآن من نص ديناميكي يواكب الحياة المتجددة إلي نص إستاتيكي يواكب زمنًا مضي وانتهي، ويُؤسس الغرباوي لتفسير جديد ينتقل من الوعظ والإدهاش والتخويف إلي تفسير من أجل التعقل والتفكير؛ حيث وجدناه يدعو إلي تكوين خطاب ديني جديد في كتابه " إشكاليات التجديد "، وافتتح مشروعه بالتأكيد علي أن الإسلام الذي نعيشه اليوم خارج التاريخ ومنفصل عن واقع حركة التقدم، ومن ثم بات من الضروري العودة إلي "الإسلام المنسي"، ولذلك رأي الغرباوي تكوين خطاب ديني جديد وليس تجديد الخطاب الديني القديم، بإقامة بناء جديد بمفاهيم جديدة ولغة جديدة ومفردات جديدة وتهجينها بلغة ومفردات العلوم الاجتماعية والإنسانية وفق متغيرات العصر وطبيعة التحديات التي تواجه الأمة، ونشر ممارسة مفاهيم التنوع والتعددية وقبول الآخر.

هذا بالإضافة إلي النظرة الشاملة لماجد الغرباوي من أجل الدخول بالأمة "إلي عصر ديني جديد"، يدعو فيها إلى العودة إلى أصول الفكر الإسلامي، من قرآن كريم وسنة نبوية صحيحة، ويدعو إلى التفاعل العقلاني لهذه الأصول مع الواقع.

وثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة وهي أن الاستاذ ماجد الغرباوي من خلال بقية كتبة الأخري اكتشفت أنه كان يسعي جاهدا من خلال مشروعه الفكري في تجديد "العقل الديني" علي مجموعة من المهام العاجلة التي شكلت رؤيته نحو عصر ديني جديد، مثل تفكيك الخطاب الدينى، وتفكيك العقل المغلق، ونقد العقل النقلي، وفك جمود الفكر الدينى المتصلب ؛ حيث أوضح لنا في فقرات كثيرة من كتاباته إلي أن ما نعيشه في العالمين العربي والإسلامي من انتشار ظاهرة الإرهاب والطائفية التي مزقت الكثير من مجتمعاتنا العربية، مرجعه إلي الفكر المتعصب الذي يرفض الآخر، ويتعصب لوجهة نظر سياسية توظف الدين لتحقيق غايات سياسية.

ولهذا سعي ماجد الغرباوي إلي تجاوز "عصر الجمود الديني" الذي طال أكثر من اللازم في تاريخ الأمة العربية من أجل تأسيس عصر ديني جديد، وتكوين خطاب ديني من نوع مختلف، ويرفض الغرباوي تجديد الخطاب الديني التقليدي، فهو يري أنه عملية أشبه ما تكون بترميم بناء قديم، والأجدى هو إقامة بناء جديد بمفاهيم جديدة وبمفردات جديدة، وتفكيك كل التأويلات المغرضة.

والاستاذ ماجد الغرباوي في مشروعه لتجديد العقل الديني أكد علي ضرورة تفكيك الفكر المتطرف، وهذا التفكيك يحتاج لخطاب ديني جديد وعلوم جديدة لمواكبة المناهج العلمية»، مشيراً إلى أهمية التمييز بين المقدس والبشري، ولفت إلى جهود السلف والعلماء من أهل الفقه والتشريع، موضحاً أنها جهود بشرية قابلة للصواب والخطأ.

وأوضح الغرباوي أن الفقهاء المسلمين أكدوا على فكرة الموائمة والنسبية وملائمة العصر والمكان والزمان، مؤكداً أن العمل البشري لا يمكن اعتباره مرجعية مقدسة كالقرآن والسنة، وأن من أساسيات الخطاب الديني الجديد تعددية الصواب، وأن الخطاب الديني الجديد يجب أن يقوم على العقلانية النقدية والتفكير النقدي بما يلاءم ظروف العصر»، مشيرًا إلى أن «مقياس الحقيقة وفق التفكير الديني الجديد، الصواب هو ما ينتج في الواقع؛ بمعني أن الحق ليس حق في ذاته ولكن الحق بالنتائج المترتبة عليه في أرض الواقع الخارجي».

وشدد الغرباوي على ضرورة توجيه النقد الشامل لكل التيارات أحادية النظر، سواء كانت إرهابية أو غير إرهابية، وأن ذلك لن يحدث دون تفكيك العقل الديني التقليدي وتحليله للتمييز بين المقدس والبشري في الإسلام.

وأخيرا أكد الغرباوي أن تجديد العقل الديني، مشكلته ليست في الإسلام، بل في عقول المسلمين وحالة الجمود الفقهي والفكري التي يعيشون فيها منذ أكثر من سبعة قرون؛ لذلك يقترح الرجل «روشتة» لتأسيس خطاب ديني جديد منها الهدف منه: تفكيك الخطاب الديني الحالي، وتفكيك العقل المغلق، ونقد العقل النقلي، وفك جمود الفكر الإنساني الديني المتصلب والمتقنع بأقنعة دينية.

وفي نهاية مقالي لا أملك إلا أن أقول : تحية خالصة لماجد الغرباوي لابن أرض الرافدين، وحفيد هارون الرشيد، الذي كان وما يزال رمزاً من رموز المعرفة الموسوعية الفريدة، وواحداً من أصحاب الرؤية الفكرية والثقافية الشاملة.. بارك الله فى ماجد الغرباوي، وأفاد تلاميذه وقراءه بعلمه ووطنيته، بفكره وموضوعيته، بنقائه وطبيعته.

 

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

حظي كتاب مدارات عقائدية ساخنة.. حوار في منحنيات الأسطرة واللامعقول الديني، للأستاذ الصديق ماجد الغرباوي، ومحاوره الاستاذ طارق الكناني، على اهتمام بحثي ونقدي من قبل المهتمين بالشأن الديني حاله حال اغلب الدراسات التي تتخذ من اللامعقول الديني محورا لها في محاولة منهم لإيجاد فهمٍ اكثر واقعية لموضوعات الدين او المذهب، وكونه بحثا شموليا يجيب على تساؤلات تحمل الكثير من الهمً الشيعي المعاش كقضية المهدي ونوابه الأربعة وما يتوقف على ذلك من مسألة الخمس وولاية الفقهاء .

ولعلنا نجد قارئا للكتاب مطلعا على محتوياته لا يرى فيه ايً جديد يستحق الإشادة  او حتى استعراض بعض من فقراته دراسة او نقدا، اذ ان الحديث عن الولاية التكوينية او الرجعة او الشفاعة او حتى قضية المهدي هو اجترار للكلام دون جدوى .

وقد اتفق مع هذا القارئ فيما ذهب اليه، نعم هو اجترار للكلام دون جدوى، فعقيدتي ان بعض مما يسمونه عقائدا و متبنيات او حتى أصول مذهبية لا تناسب فكر وتطلعات المتلقي اليوم، وانها كانت تحاكي عقلية وسذاجة أبناء ذاك الزمان، ولذا النقاش في العقائد لا يستهويني كثيرا واراه مضيعة للوقت والجهد. غير أن الكتاب يعالج قضايا هي من صميم العقيدة، والناس بأمس الحاجة لمعرفة الحقائق الدينية، فاكتسب من هذه الجهة أهمية خاصة. كما أن الغرباوي كان بصدد الإجابة على أسئلة محاوره الاستاذ طارق الكناني.

لكن ما دعاني الى تسجيل بعض الملاحظات على كتاب مدارات الصديق ماجد الغرباوي رغم انه يدور في ذاك المدار هو بعض ردود الأفعال المتشنجة على الكتاب واتهام الكاتب بركوب موجة الإصلاح، وان كتابه يفتقر الى المنهج في دراسة الثوابت العقائدية .

ليس انتصارا للكاتب كصديق ونصرته ظالما اومظلوما، وانما لألفات النظر الى المنهج الذي اتبعه الأستاذ ماجد الغرباوي في مناقشته قضية المهدي والسفراء الأربعة الذي يجعل من الوقائع التاريخية حاكمة على صحة الواقعة وليس الرواية والخبر رغم ان قصة النواب الأربعة لا تسعفها لا رواية ولا خبر.

وهذه من أمهات المصائب التي ابتلي بها الفقهاء سنة وشيعة؛ اذ جعلوا استدلالاتهم مبتنية على الروايات واستنطاقها وقصر النظر عليها دون غيرها؛ فكل ما يحتاجونه يجدونه مسطورا في الروايات، حتى تعدى ذلك الاحكام الشرعية الى العقائد والتفسير، ودليل ذلك: ان القرآن لو اختفى عن الوجود  سوف لن يختفي الفقه بل يبقى كما هو بتفاصيله وتفريعاته طالما البخاري والكافي بين أيديهم .

ينقل الدكتور سروش حوارا دار بين الشيخ الصادقي ـ وهو من دعاة الاستناد الى القرآن في الاستدلال على الاحكام الشرعية ـ وبين السيد الخميني ، يعترض فيه الشيخ الصادقي على فتوى الخميني حول جواز الزواج بالمرأة الزانية وانها لا تناسب  الآية ٢٦ من سورة النور وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ، وفي الجواب يقول السيد الخميني انه لم يلحظ هذه الآية اثناء الفتوى .

وهذا الامر واضح جدا لمن خبر مجالس الفقهاء فالكتاب الوحيد الذي بين أيديهم هو وسائل الشيعة للحر العاملي .

وعلى الرغم من ان المنهج التاريخي في مناقشة ما تسالم عليه في العقائد على الخصوص في الوسط الشيعي ليس بالأمر الجديد، فقد دعى اليه الدكتور على شريعتي في الستينيات واتخذه منهجا في دراسة الاثمة الاثني عشر تحت عنوان "الامام التاريخي لا الروائي" فكان ينظر الى الامام من خلال الوقائع التاريخية وليس من خلال بحار الانوار، فالإمام التاريخي بشر ضمن حقبته الزمانية، وامام بحار الانوار كائن خارق للعادة، يتمتع بمعجزات تفوق معجزات الأنبياء.

وبقي منهج شريعتي هو السائد لمن جاء بعده فتبناه عبد الكريم سروش ودافع عنه اشد الدفاع وكذلك شبستري وملكيان وغيرهما من المفكرين الإيرانيين، وذهبوا به بعيدا حتى أصبحت الدراسات المذهبية لا تعنيهم كثيرا بقدر ما تعني رجال الدين ووعاظ المنبر ممن يعتاش على تلك التصورات ، فالمهدي انما يعني شيئا لرجل الدين وحده ولا يعني شيئا للفرد الشيعي.

وعليه فلإصلاح في المذهب الذي رفع لوائه شريعتي اصبح عند المفكرين المنتمين الى خطه مجرد ديكور على نافذة الاطلال .

يذكر أن المعروف عن ماجد الغرباوي أنه يوظّف مجموعة مناهج نقدية في بحوثه ودراساته، قد يغفل عنها غير الخبير، كالمنهج التحليلي، المقارن، الوصفي، والتأمل الفلسفي، ويرتكز دائما للتفكيك والحفر المعرفي. اضافة للمنهج التاريخي، وارتكازه للعقل قبل النقل، والقرآن دون الحديث في الاستدلال على آرائه في هذا الكتاب. 

75 madarat2 600

احمد الكناني

 

المهيمن الرمزي: في الفصل الخامس من الباب الثاني يتطرق الباحث الغرباوي إلى مسألة (المهيمن الرمزي) في النص التراثي، وهي مسألة على درجة عالية من الأهمية والخطورة معاً، على اعتبارها تشكل البعد السياسي في الخطاب التراثي منذ وفاة الرسول حتى اليوم. ممثلة في قضية الإمامة والخلافة. متكأً في رؤيته هذه على مقولة للشهرستاني في كتابه (الملل والنحل)، حيث يقول: (وأعظم خلاف بين الأمة هو خلاف الإمامة، إذ ما سُل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُل على الإمامة في كل زمان.). (33). وهو الخلاف الذي مزق الأمة كما يقول الباحث، وقطع أشلاءها، حتى ضمرت معالم الدين، وتعددت قراءاته وفهمه تبعاً لهذا الانقسامات. علماً أن هذه الانقسامات والصراعات لم تزل حتى هذا التاريخ تحكم سلوكهم وثقافتهم وموقفهم من الحياة والدين معاً. بل وستبقى الفرقة الناجية بعد أن اكتسى هذا الصراع لباس الدين، وانقلبت وجهته من صراع سياسي على السلطة إلى صراع ديني، بكل مفرداته الطائفية والمذهبية، كدليل على صحة هذا الصراع أولاً كونه مشروعاً ضد من حرف الدين برأي كل فرقة اتجاه الأخرى، وثانياً كدليل على احتكار الحقيقة عند من يدعي الحقيقة من هذه الفرق، مهما تظاهر المختلفون وعقدوا الندوات لتجاوز هذا الخلاف في عصرنا الحاضر. وبناءً على هذه المعطيات سيظل النقد العقلاني وحده هو من يستطع مواجهتها وتحطيم بنيتها الملغومة بكل مبررات الصراع وعرقلة تقدم هذه الأمة وإعادة بنائها من جديد على أسس الدولة المؤسساتية والمواطنة، أو ما يمكن تسميته بالدول المدنية.

كما يتطرق الباحث في هذه الفصل إلى مسألة (الرسالة والسلطة) محاولاً أن يبين عجز الدين بكل ما يحمل من قيم إنسانية نبيلة أن يحطم سلطة العشيرة والقبيلة، التي باسمها تجلت إشكالية من هو الأحق بالخلافة، فقبيلة قريش وانتساب الرسول لها، أخذت السلطة أو الخلافة لها. وباسم الدين نفسه فيما بعد انشقت قريش إلى بيوت وكل بيت يدعي بأنه هو الأحق بها، كالبيت الأموي والعباسي والعلوي. وهكذا يتبين لنا كيف أن السلطة بُررت دينياً وبالنص الديني، وباسم الدين نفسه ظهرت الصراعات الطائفية والمذهبية، وكل الحروب التي بدأت مع حروب الردة وصولاً إلى الحروب التي تجري اليوم على الساحة العربية في العراق واليمن وسورية. وإن الإسلامي السياسي المعاصر نفسه في أحزابه وفرقه قام على الدين والحاكمية الله بدل حاكمية الكفر الوضعية. (34).

النص وأدلجة الخطاب:

في الباب الثالث من الكتاب يتناول الباحث والمفكر الغرباوي قضية (النص وأدلجة الخطاب) حيث يرى هنا: بأن (الطقوس ممارسة رمزية تجري في أجواء خاصة، تعبيراً عن مشاعر تضيق بها اللغة، فتلجأ إلى حركات وإيقاعات، ترافقها انفعالات رمزية، تعطي للحدث قيمة قدسية، وهي إحدى تجليات الروح الاجتماعية عند الإنسان، ابتدأت عفوية، ثم مع مرور الأيام اكتسبت دلالات دينية واجتماعية وثقافية، وراحت تؤدي وظيفتها من خلال رمزيتها وايحاءاتها. ثم ترسخت بقوة حضورها، وحجم التفاعل الشعبي والرسمي معها. وهي في أحد أبعادها الدينية ملاذ خلاص، والمعنى الذي يضفي الطمأنينة والاستقرار النفسي، ويعمق شعور الانتماء.). (35).

يقوم الباحث هنا بتفكيك حمولة هذا المفهوم إلى مفرداته الروحية والاجتماعية والبيسكولوجية، وإلى دلالاته وأهدافه وتأثيراته على الفرد والمجتمع عندما يوظف أيديولوجيا من قبل السلطة، أو من قبل قوى اجتماعية محددة تجد فيه مصالحها، أو إلى تنوع الطقوس ورمزيتها لدى الشعوب. وذلك يأتي كله في مطالب عدة حازها هذا الفصل مثل: (العمق الروحي للطقوس) و(الآثار الدلالالية للطقوس) و(الخطاب الطقوسي) و(الطقس والمعبد)، حتى يقف أخيراً في هذا الباب عند (طقوس عاشوراء) وما لها من دلالات سياسية واجتماعية ومذهبية، دون أن يغفل ما لبعض الطقوس من تأثيرات على اللحمة الاجتماعية والوطنية، كونها تحمل بين طياتها روح التمايز عن الآخر، ومحاولة استفزازه، وهذا ما جعل الباحث يطلق على مثل هذه الطقوس إسم: (طقوس الكراهية). (36).

في الفصل السابع من الباب الثالث يبحث المفكر الغرباوي في (أدلجة الخطاب). فبعد أن يعرف الأيديولوجيا على أنها (منظومة أفكار ومفاهيم منحازة يراد بها تفسير جميع الظواهر، وإعادة صياغة الواقع وفق قناعاتها وتصوراتها كحقائق ثابته لا يمكن التراجع عنها.). (37). إلا انه منذ البداية يحاول أن يفرق ما بين الأيديولوجيا كموقف معرفي ذا بعد إيجابي على اعتباره علم الأفكار ودراسة مساراتها وتطورها والأهداف التي ترمي إليها الأيديولوجيا ممثلة بحواملها الاجتماعيين. وبين الأيديولوجيا في بعدها السلبي عندما تتحول النظريات إلى بنى فكرية مغله على نفسها مفارقة للواقع المعيوش ومتعالية عليه، وعاملة دائماً على لي عنقه كي ينسجم معها.

وبعد أن يبين الباحث خطورة الأيديولوجيا في اتجاهها السلبي على المتلقي، عقلاً وسلوكا في بعد العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية، كونها تقوم على اعتبار الحقيقة واحدة ومطلقة وليست نسبية، الأمر الذي يساهم في خلخلت البنية الاجتماعية وفرض صراعات بين مكونات المجتمع غالباً ما تعمل على تدمير الأخضر واليابس، وهذا ما يجعلنا نؤكد في المحصلة على إدانة الأيديولوجيا السلبية في أي صيغة كانت، وضعية ام دينية، من هذا التشويه للحقيقة وممارستها في الواقع. نقول: بعد تناول الباحث لهذا الدور الذي تتركه الأيديولوجيا السلبية على المجتمع، ينتقل الباحث لدراسة الأيديولوجيا الدينية، مركزاً على مسألة (مرونة النص الديني)، فمرونة النص الديني الذي اتكأت عليه الأيديولوجيا قد فتحت آفاق النص على التفسير والتأويل تبعاً لتعدد المقاربات الفكرية والعقيدية، ولتأثر قراءة أي نص بقبليات المقاربة وقدرة القارئ على استنطاقه وتأويل كما يقول الباحث. وهنا يعود بنا الباحث مرة أخرى إلى العقل النقدي ودوره في إعادة قراءة النص والأيديولوجيا معاً بحيادية، والبحث في حمولتهما عن القضايا الايجابية التي يتقبلها العقل ومصالح المجتمع، محاولاً بهذا العقل النقدي إقصاء كل القضايا اللاعقلانية التي تحاول الايديولوجيا السلبية الاشتغال عليها من الناحية الأسطورية كانت أو الخيالية أو التحريضية التي تساهم في خلق الفتن والصراعات داخل مكونات المجتمع وتغييب مصالح الناس. وبالتالي ضرورة العمل من خلال النص القرآني ذاته على تعزيز كل ما يساهم في ترسيخ السلم الأهلي، والتسامح والمحبة والوحدة الوطنية ونبذ الطائفية والمذهبية كما بشر بها النص التراثي العقلاني. (28).

إن هذا الموقف العقلاني النقدي، ينسحب على بقية مفردات هذا الفصل أيضاً مثل: (الموقف من الآخر).ص (29).

أما في مطلب (جاهلية المجتمع): فيتناول الباحث في هذا الجانب كتاب سيد قطب (معالم في الطريق)، نقداً وتفنيدا. إن كان على مستوى الموقف الأيديولوجي الذي يعتبر فيه قطب أإن الواقع للدين وليس الدين للواقع، حيث يريد قطب هنا أن يجعل من أيديولوجيا الحاكمية نصاً مقدساً صالحاً لكل زمان ومكان، وعلى الواقع أن يرتقي للنص دائماً، مع رفض لأي فكر أخر وضعي يضعه الإنسان من عنده للوصول إلى الحقيقة. كما ينتقد الباحث وفق هذا العمق النقدي مواقف قطب في مسائل الجهاد والطليعة المسلمة المعول عليها تفسير النص والعمل به .. الخ. (30).

النص وفتاوى الفقهاء:

في الفصل الثامن من الباب الثاني للكتاب يتناول المفكر الغرباوي النص وفتاوى الفقهاء، مبيناً في البداية مفهوم الفتوى وعلاقتها بالنص حيث يقول: (إن علاقة النص بالفتوى علاقة مرجعية، وما الفتوى سوى فهم للنص وتطبيق لكلياته. ورفع ما يبدو متعارضاً بين نصوصه، وتحديد ما هو عام وخاص ومطلق ومقيد. وما أخذ من أحكامه على نحو القضية الحقيقية أو الخارجية، وتحديد شروط فعلية الحكم وموضوعه. والتمييز بين الأوامر والنواهي المولوية والإرشادية. هذا من حيث علاقتها بالنص. وأما اصطلاحاً فيراد بالفتوى رأي الفقيه المستند إلى دليل. حيث يعمل رأيه في استنباط وبيان الحكم الشرعي بناءً على مصار التشريع المعترف بها عندهم.) (31). أما مصادر التشريع فهي الكتاب والسنة والاجماع والقياس كمصادر أساسية عند السنة، إضافة للمصادر الثانوية كالاستحسان وسد الذرائع والمصالح المرسلة وقول الصحابي وغير ذلك. علماً أن للشيعة مصادر تشريعهم أيضا إضافة للقرآن والحديث المتواتر والمشهور المتعالق بآل البيت، هناك ما روي عن علي وآل البيت .

بيد أن ما يميز الباحث هنا هو موقفه العقلاني من هذه المراجع من حيث مشروعيتها وصدقها وطريقة الحصول عليها، ومن المناهج المتبعة للحصول على الحكم من خلالها. وهو في المحصلة يؤمن بدور العقل النقدي في تحليل هذه المرجعيات أو المصادر، فالعقل عنده هو الحكم في ذلك، ولكنه ليس العقل الذي يعمل على تثبيت النص كما يفعل الأشاعرة، وإنما النص الذي يحكم على النص من حيث صحته او خطئه ومدى استجابته لقضايا الواقع، وهذا كله يرجع عنده إلى جوهر النص الديني المقدس وهو القرآن.. فكثيراً ما يعود الباحث في عرضه لرؤيته العقلانية هذه إلى الآيات القرآنية التي تقر بالعقل والتطور والتبدل في هذه الحياة، إي إلى النص الديني بعد أن يفتح على كل مخزونه المعرفي الذي يسمح بمواكبة التطور والتبدل في حياة الإنسان. وعلى ذلك فالدين أو النص الديني عنده ليس ثابتاً أو جامداً ووثوقياً، بل هو متحرك في دلالاته، وقابل لمجاراة قضايا العصر. (32).

وعل هذا الموقف العقلاني من النص التراثي يطرح الباحث أسئلته المشروعة هنا وهي: من أين اكتسبت فتوى الفقيه سلطتها ومشروعيتها؟. ومدى علاقتها بالنص المقدس تحديداً. وهو يعتبر هذه الأسئلة محرمة ومسكوت عنها في جميع المذاهب الإسلامية. (33).

فعلى هذه الأسئلة يبين الباحث كيف أخذ النص الفقهي قدسيته أيضاً وتحول إلى مقدس راح الناس ينجرون وراءه كالأنعام. ويقول المفكر الغرباوي: إن الفقها اعتمدوا في تحقيق شرعية فتاواهم على قول مشهور مفاده: (ما من واقعة إلا ولله فيها حكم.) وهذا يتنافى مع صريح القرآن كما يقول الباحث: (اليوم أكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً.) سورة المائدة الآية 3. ولكن من يطلع على تفسير الآية عند الباحث يرى أن الباحث يؤكد تلك المقولة التي اعتمد عليها الفقهاء في اعتبار القرآن أو الدين لم يفرط في شيء. هذا مع اعترافنا للباحث في إقراره بأن المصالح الأنانية الضيقة لدى الناس هي التي دفعتهم لوضع أحاديث كاذبة على لسان الرسول، وهي التي دفعتهم لتأويل النصوص القرآنية كما يشتهون.. وبالتالي التلاعب بالنص المقدس كما يريدون. وهذه المسائل كلها يتناولها الباحث وبشكل دقيق في مطالب هذا الفصل مثل: (سلطة الفقيه) و(يقينيات الفقيه)، (أسباب تفاقم الفتوى) و(أسيجة القداسة). (34).

النص وميثيولوجيا التراث:

في الفصل التاسع يقف الباحث عند مسألة النص وميثيولوجيا التراث، حيث يقول: إن للتراث فهم بشري يمكن تفكيكه وتحليل مكوناته، أو مقولاته، لكن الضرورات المرجعية للمذاهب المتصارعة نأت عن النقد والمراجعة والتشكيك، عندما احاطته بأسيجة مثيولوجية (أسطورية) ورسخته في اذهان الناس عبر هذه الأسطورية والغرائبية. وبذاك حولته إلى أيديولوجيا متعالية على الواقع حازت على التعالي والوثوقية والقداسة بعد أن جردت التراث من بشريته وتاريخيته.

إن هذا الموقف من الثقافة التراثية الذي رمز الأحداث وأسطرها ومنحها القداسة، خلق حالة لا شعورية تجاه الحداثة ومعطياتها، فمع عملية الانحياز هذه نحو الماضي ضد الحاضر، فقدت المعرفة العقلانية حضورها ومكانتها أمام الايمان والتسلم المطلق .. فالمعرفة العقلانية لا تقوم عند الباحث إلا على الشك للوصول إلى اليقين، والشك لا يمكن أن يستكين ويهدأ إلا مع نسبية الحقيقة، فالحقيقة لا تعطى كاملة، بل هي تقوم دائماً على معرفة ناقصة، والشك هو من يساهم في خلق استمرارية البحث عنها: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي). البقرة 260.

إن العقل العلمي القائم على البرهان والاستدلال والاستنباط والاستقراء، هو المنطلق الأساس عند الباحث للوصول إلى الحقيقة المعنية هنا بصدقية النص التراثي من جهة، وهو المنطلق الأساس أيضاً في الوصول إلى الايمان الحقيقي بهذا النص بعد الكشف عن كل دلالاته الإنسانية أو مقاصده الخيرة التي هي في الأساس جوهره وهدفه .

إن كل ما جاء في هذا الفصل لا يخرج في قراءته أو دراسته ونقده عن عملية البحث والنظر وفقاً للمنهج العلمي الذي يتكئ عليه الباحث، وهو المنهج القائم على البرهان ورفض الاستسلام للواقع أو الفكرة معا. وهذا نجده هنا في مطلب (قوة حضور النص) التراثي لدى كلا المذهبين الشيعي والسني معاً. حيث استطاع الباحث أن يقدم أدلة قاطعة على وجهة نظره وموقفه المنهجي العلمي تجاه ما جاء من أوهام وأساطير وإطلاق في الرأي والممارسة، فرضتها قوة النص وحضوره. محاولاً الاثبات في المنهج ذاته، أن التراث تراكم بشري، ينفع في دراسة العقل وتطوره تاريخياً، وهو نتاج محترم لا يتعالى على النقد والمراجعة، وليس لديه أية سلطة معرفية، ولا يستطيع أن يكون مصدراً معرفياً إلا بحدود. والغرباوي في موقفه الرؤيوي هذا يصل بنا إلى درجة عالية من النقد العقلاني للتراث، فهو لم يسخف التراث ولم ينل من مكوناته سخرية أو استهزاءً، بل هو يريد الوصول بنا إلى أن كل ما جاء في هذا النص التراثي هو من جهة شكل أو درجة من درجة تطور العقل العربي والاسلامي في تلك المراحل التي وجد أو أنتج فيها هذا النص عبر سيرورته التاريخية، وهو نص لم ينكر الباحث أيضاً بأن السياسة والمذهبية والمصالح الأنانية الضيقة أدخلت فيه الكثير من الكذب والتزوير والتشويه للحقيقة. من (35).

النص وشرعية السلطة لأليات التأسيس:

في الباب الرابع من الكتاب يبحث المفكر الغرباوي في طبيعة النص وشرعية السلطة لأليات التأسيس. حيث يقول: إن ثمة أسباب ودوافع وراء تدفق النصوص والروايات في القرون الأربعة الهجرية الاولى، ويأتي في مقدمتها إشكالية مشروعية السلطة أو أزمة مشروعية السلطة، ممثلة بالدولتين الأموية والعباسية، اللتين اشتغلتا على ظلم الناس والاستهتار بمصالحهم، واضطهاد كل من يعارضها، والعمل على تصفيته جسدياً أفراداً كانوا أم جماعات. وعلى أساس هذا الاضطهاد استمرت الخلافة. فهذا الخلافة الأموي ممثلة هنا بـ "مروران بن عبد الملك" على سبيل المثال لا الحصر، يقول مخاطباً رعايا الخلافة: (أما بعد فلست بالخليفة المستضعف، ولا الخليفة المداهن، ولا الخليفة المأمون، ألا أني لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم...ألا أن الجامعة (القيد) التي جعلتها في عنق عمرو بن سعيد عندي والله لا يفعل أحد فعله إلا جعلتها في عنقه، والله لا يأمرني بتقوى الله أحد بعد مقامي هذا إلا قطعت عنقه.) (36). وعلى هذا الأساس استمرت ولاية السلطان مباركة من مشايخ السلطان الذين شرعوا ولاية الفاسق منهم، ومن يأتي بالغلبة، وأن الخليفة لا يسأل يوم القيامة ولا يحاسب، وأنهم سكتوا على فساد الحاكم ودعارته، واعتبروا الرضوخ للحاكم المستبد أمراً أقره الله كونه خيراً من الوقوف ضده وحدوث الفتنة بين المسلمين.

كل هذه المبررات وجدوا لها أحاديث عن الرسول وروايات وإن استطاعوا تفسير النص المقدس لمصلحة الحاكم لما توانوا في ذلك. وعلى هذا الأساس رسخت أيضاً هذه النصوص التراثية تاريخياً ونال بعضها صفة التقديس، كأقوال وأحوال أهل السلف والصحابة الذين قيل فيهم بأنهم كالنجوم بأي منهم اقتدينا اهتدينا.

يحاول البحث في هذا الباب أن يبين إشكالية السلطة ما بين الشورى والنص من جهة، وما بين الملك العضوض الذي كرسه معاوية من جهة ثانية، معطياً الكثير من الأمثلة والأدلة على هذه القضية التي ظلت محط صراع مادي وفكري بين المسلمين طوال تاريخ الخلافة الإسلامية منذ السقيفة حتى سقوط الخلافة. وما جرى من قمع وتشويه للحقيقة الدينية من أجلها.

ولا يفوت الباحث أن يقف من الناحية السياسية عند النظريات السياسية التي وضعت عبر تاريخ الخلافة حيث قسمها إلى:

1- النظرية الثيوقراطية، التي تحيل السلطة إلى أمر متعالي عن الواقع وخارج نطاق البشر، وتشمل:

آ- الطبيعة الإلهية للحكام.

ب – الحق الإلهي المباشر.

ج – الحق الإلهي غير المباشر.

2- النظريات الديمقراطية. التي تحيل مرجعية السلطة إلى الشعب. (37).

وعلى هذا الأساس تأتي دراسة الباحث في كل مفردات هذا الباب هي للنظر في طبيعة السلطة الاستبدادية عبر الخلافة الإسلامية، وآلية عملها وحواملها الاجتماعيين وشرعية وصولهم إليها، وبالتالي الصراعات والدسائس والمؤامرات التي حيكت حولها وداخلها، وتوظيف النص الديني المقدس وأدلجته من أجلها.. وغير ذلك نجده في مفردات هذا الباب ونصوصه مثل: (النص والتاريخ) و(الدين والسلطة)، (الإسلام السياسي). و(رواية الإمامة أو الخلافة في قريش. والتطور التاريخي لهذه الرواية)، و(من بدل دينه فاقتلوه)، و(تاريخية النصوص)،. و(النص ومراوغات المفهوم)، و(مفهوم الخلافة)، و(مصداقية القداسة)، و(مفهوم الخلافة)، و(مفهوم الرشد)، و(الدلالات السلبية لمفهوم الخلافة لدى الدولتين الموية والعباسية)، و(مفهوم العصمة)، و(الألقاب)، (38).

النص واتجاهات المعارضة:

في الباب الخامس من الكتاب يقف الباحث والمفكر الغرباوي عند النص واتجاهات المعارضة. فهو يرى أن وضعية النص التراثي بالنسبة للمعارضة السياسية لا تختلف في الحقيقة عن وضعيته عند القوى السياسية الحاكمة. حيث يقول في هذا الاتجاه: إن ما جرى على النص من تزوير وتأويل وتفسير ساهم في إعادة صياغة هذا النص بصورة تخدم مصالح القوى السياسية المعارضة، وذلك كله جرى منذ وفاة الرسول مروراً بالخلافتين الأموية والعباسية، وصولاً إلى سقوط الخلافة الاسلامية.

إن كل ذلك جرى من أجل تبرير الوصول إلى السلطة، أو دعم بقائها. وهذا الذي جرى على النص استطاع في الحقيقة أن يساهم في خلق وعي كاذب، راح ينتشر كالسيل الجارف عند اطراف المعارضة، كما راح يتجذر شيئاً فشيئاً في وعي وسلوكيات الناس الذين تحولوا إلى شيع وفرق ومذاهب، اتخذت من الدين ذاته هذه الوضعية الاجتماعية المأزومة والملغومة بكل أشكال التناقضات والصراعات والكره والحقد بين مكوناتها، وصولاً إلى تأسيس الفرقة الناجية وامتلاك الحقيقة المطلقة التي على أساسها قامت حروب راح ضحيتها الكثير من المسلمين منذ صراع السقيفة حتى اليوم. كل هذه القضايا نجدها قائمة أيضاً في مضامين مفردات هذا الباب مثل: (اتجاهات المعارضة)، و(عناصر المعارضة الناجحة).، و(الاتجاه التنظيري – لدى المعارضة)، أو (النص وفتنة الشعار)، و(النص والتأصيل الكلامي – علم الكلام القديم). (39).

النص والغلو:

في الباب السادس يتناول الباحث النص والغلو. حيث جاء تعرف الغلو عنده بأنه: المبالغة والخروج عن الحد... والتعصب والتطرف والارتفاع.. وفي التاريخ الإسلامي لازم مغالات الناس بأنبيائهم ورموزهم حد التأليه عند البعض بشكل مباشر أو غير مباشر. وهو في بعض معانيه أيضاً سلب بشرية الإنسان ومنحه قدرات خارقة. (40). هذا وقد بين الباحث أيضاً الموقف الحقيقي للدين من الغلو، وهو موقف رافض له بناء على نص الآية: (لا تغلوا في دينكم غير الحق). (وما جعل عليكم في الدين من حرج).

إن هذا الغلو جاء أساساً كما يرى المفكر الغرباوي للتعبير عن مواقف تخدم قوى اجتماعية محددة سياسية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية. والغلو اشتغل عليه كتاب التاريخ الإسلامي مثلما اشتغل عليه الفقهاء وعلماء الكلام، وهو لم يترك مسألة في حياة المسلم إلا وكان له حصة فيها. لذلك نجده في التشريع وفهم العقيدة، الأمر الذي أوجد من يقف ضد هذا الغلو من فقهاء وعلماء دين. فالكثير من مصادر التشريع الفرعية كسد الذرائع والمصالح المرسلة والاستحسان وغيرها، كلها جاء خدمة للخروج من هذا الغلو. وكذلك التأكيد على أن الأصل في الأشياء الإباحة. وتغير الأحكام بتغير الأحوال .. الخ.

إن كل هذه المصادر التشريعية جاءت أصلاً لهذه الغاية. هذا وقد اتكأ الذين يمارسون التطرف (الغلو)، أو ممن يدعون إلى تشغيل العقل ومراعاة خصوصيات تطور أحوال الناس في مواقفهم الفكرية على النص التراثي بشكل عام، والنص المقدس بشل خاص، من خلال البحث في الآيات المحكمات الواضحات التي تدعوا إلى التسامح والمحبة وقبول الرأي والرأي الاخر، أو الأخذ بالآيات المتشابهات التي غالباً ما أولت وفسرت من قبل الذين في قلوبهم زيغ .

في المحصلة في هذا الباب ومفرداته، لا يخرج الباحث في موقفه المنهجي العقلاني الذي يشتغل عليه، من الاستناد على العقل وحريته وعلى العلم وقوانينه وطرق وصوله إلى الحقيقة عبر الاستنتاج والقياس والاستدلال والبرهان إلخ. فالباحث هنا يعمل بجهد عال المستوى في تقصي أسباب هذا الغلو ومراجعه وأسبابة ونتائجه المدمرة على الدين والدنيا معاً، مؤيداً في ذلك كل من حارب الغلو في تاريخنا الإسلامي وعلى مستوى الطوائف والمذاهب والفرق.، مبيناً بالمثال النتائج المدمرة في التاريخ الإسلامي لهذا الغلو.

نجد كل ذلك في مفردات هذا الباب مثل: (الغلو والنص.)، و(اتجاهات الغلو المذهبي)، و(الغلو السني)، والغلو الشيعي والولاية التكوينية.) (41).

معرفة الروايات) في التراث العربي الإسلامي:

في الفصل الساس ذاته وهو الأخير في كتابه، يقف الباحث الغرباوي عند مسألة على غاية من الأهمية أيضاً وهي (معرفة الروايات) في التراث العربي الإسلامي، حيث اعتبرها تمثل قوام مرجعيات التفكير لدى المسلمين، لأنها تكتسب أهمية كبيرة لدى المتلقي. كما يرى الباحث مرجعيات التفكير هذه، ليست سوى نصوص متراكمة تتحكم بمرجعيات الوعي وضبط أداء العقل، لذا يجد الباحث من الضروري والمناسب إضافة ضوابط علمية لتمييز الصحيح من الغلط في هذه الروايات للتخلص من ثقل التراث وتبعات النصوص، وذلك بسبب ما حققته هذه النصوص لنا من إرهاق، وخاصة الأحاديث الصحيحة منها قبل الضعيفة، لأن النصوص في ثقافة المسلمين تمثل مرجعية نهائية لجميع تفصيلات حياتهم. بدءاً من النظر إلى الطبيعة في كيفية خلقها وإلى نجومها وكواكبها، وصولاً إلى النظر في حياة الفرد والمجتمع من إدارة أمور حياتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وصولاً إلى دخول بيت الخلاء. وهنا يقدم في هذا الفصل الكثير من الأدلة والوثائق على ما جاء إليه في هذا الاتجاه من حيث سيطرة النص التراثي بشكل عام والمقدس منه بشكل خاص على حياة العرب والمسلمين حتى اليوم بكل مكوناتهم الطائفية والمذهبية. وهذا ما نجده في مفردات هذا الفصل مثل: (شواهد الوضع)، (مناهج التوثيق)، و(حجية السنة)، وأخيراً في (القيمة المعرفية) (42).

في نهاية الكتاب يصل الكاتب والباحث والمفكر الغرباوي إلى نتائج على درجة عالية من الأهمية في كيفية التعامل مع التراث وما هي القضايا التي يجب على الباحث أن يتكئ عليها كي تخرج الأمة من هذا المأزق التراثي والتاريخي معاً، وذلك من خلال المنهج العلمي الذي أشرنا إلى العديد من مفرداته عند قراءتنا السريعة لهذا الكتاب، والتي أهم ما فيها هو اعتماد العقل وبرهانه أولاً، ثم الدليل القائم على الشك والاستنتاج والاستقراء والاستدلال ثانياً. فالغرباوي بالرغم من محاولة ابتعاده عن البعد الطبقي في قراءة التراث إلا أن تركيزه على العدل والمساوة والمحبة والتسامح من خلال إعادة قراءة النص التراثي يدخله هذا التركيز بهذا الشكل أو ذاك في البعد الطبقي. وانطلاقاً من موقفه هذا، فهو يقول: لا يمكن الوثوق بنص تاريخي سوى القرآن الذي تعهد به جميع المسلمين، على أن يقرأ ضمن شروطه التاريخية ومنطقه الداخلي، ومنهجه في المحكم والمتشابه من الآيات، ومعرفة تاريخ الآية وأسباب نزولها وظروفها، وما علاقتها بالهدف الأساس من الدين وبخلق الإنسان. ثم ما رسبته الروايات والأحاديث من مفاهيم كرست الجهل والتخلف وروح التنابذ والانقياد والتبعية، وشوهت معالم الدين وهدف الإنسان في الحياة. وهذا كله يتطلب إعادة النظر في منظومة القيم المعرفية والأخلاقية، وجميع قَبْلِياتِ الفرد ويقينياته بما يتيح تأسيس العقل بأسس جديدة. (43).

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سورية

.......................

المرجع.

1- النص وسؤال الحقيقة – نقد مرجعيات التفكير الديني، تالف ماجد الغرباوي، الطبعة الاولى 2018 إصدار مؤسسة المثقف العربي، سيدني – استراليا. نشر وتوزيع دار الأمل الجديدة، دمشق سورية: ص7.

2- المرجع نفسه ص8.

3- المرجع نفسه. ص 8.

-4 المرجع نفسه.ص 9.

5- المرجع نفسه .ص 13.

6- المرجع نفسه. ص13.

7- المرجع نفسه. ص13.

8- المرجع نفسه . ص 13.

9- المرجع نفسه. ص 13.

10 – المرجع نفسه. ص 15.

11- المرجع نفسه. ص 16.

12- المرجع نفسه. ص 16.

13- المرجع نفسه. ص 16.

14- المرجع نفسه.ص 18.

15- المرجع نفسه.ص 19.

16- المرجع نفسه. ص 20.

17- المرجع نفسه.ص 22.

18 – المرجع نفسه. ص 23.

19- المرجع نفسه. ص 33.

20- المرجع نفسه. ص 35.

21- المرجع نفسه. ص من 40 إلى 43.

22- المرجع نفسه.ص من 43 الى 48.

23- المرجع نفسه. ص من 49 الى 56.

24- المرجع نفسه. ص 56.

25- المرجع نفسه. ص. 59 وما بعد.

26- المرجع نفسه.ص 64.

27- المرجع نفسه.ص 65.

28- المرجع نفسه. ص 67.

29 – المرجع نفسه.ص 72.

30- المرجع نفسه. ص 72.

31- المرجع نفسه. من ص 76 الى 78.

32- المرجع نفسه. ص 79.

33- المرجع نفسه. ص 83.

34- المرجع نفسه. من ص 79 الى 102.

35- المرجع نفسه. ص 105.

36- المرجع نفسه. نت ص 105 الى 122.

37- المرجع نفسه. ص 123.

38- المرجع نفسه. ص 124.

39- المرجع نفسه. من ص 128 الى 133.

40- المرجع نفسه. من ص 133 الى 134.

41- المرجع نفسه. ص 135.

42- المرجع نفسه. من ص 135 الى 139.

43- المرجع نفسه. ص 139.

44- المرجع نفسه. من ص 139 الى 150.

45- المرجع نفسه. من ص 150 الى 160.

46- المرجع نفسه. ص163.

47- المرجع نفسه. من ص 165 الى 2006.

48- المرجع نفسه.من ص 167 الى 184.

49- المرجع نفسه. من ص2007 الى 236.

50- المرجع نفسه. ص242.

51- المرجع نفسه. من ص 237 غلى 286.

52- المرجع نفسه. ص 297.

53- المرجع نفسه.296.

ماجد الغرباوي باحث في الفكر الديني، ومتخصص في العلوم الشرعية والإنسانية، يسعى من خلال مشروعه الفكري هذا إلى ترشيد الوعي عبر تحرير العقل من سطوة سلبيات التراث وتداعيات العقل التقليدي، وذلك عبر قرأة متجددة للنص الديني المقدس بشكل خاص والنص التراثي بشكل عام، تقوم على النقد والمراجعة المستمرة، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري يساهم في ترسيخ قيم الحرية والعدالة والمساواة، بغية التأسيس من وراء ذلك إلى إقامة مجتمع مدني خالٍ من العنف والتناحر والاحتراب. وهذا ما يجعله من أحد كبار مفكري النهضة في تاريخنا الحالي الذين يشتغلون على الفكر النهضوي العربي، من خلال تركيزه على نقد الفكر الديني، والتسامح، والعنف، والحركات الإسلامية، والمرأة والإصلاح والتجديد. وهي من القضايا الأكثر أهمية وحساسية في الخطاب الفكري السائد حالياً.

صدر للغرباوي العديد من الكتب وبطبعات متعددة، منها:

إشكاليات التجديد، والتسامح ومنابع اللاتسامح، وتحديات العنف، والضد النوعي للاستبداد، والشيخ محمد سعيد النائيني، والحركات الإسلامية.. قراءة نقدية في تجليات الوعي، وجدلية السياسة والوعي.. قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق، والنص وسؤال الحقيقة، والشيخ المفيد وعلوم الحديث، وترجمة الدين والفكر في شراك الاستبداد، وتحقيق كتاب نهاية الدراية في علوم الحديث.

كما صدرت عنه مجموعة من الدراسات والبحوث والكتب تتعلق في فكره ودور هذا الفكر في إمكانية تجديد النص التراثي وإعادته إلى طريق الصواب. أي طرق تحقيق النهضة.

بوب الكاتب والمفكر الغرباوي كتابه بستة أبواب، وستة عشر فصلاً، والعديد من المطالب في كل فصل من فصول الكتاب.

أما عناوين أبواب الكتاب فهي:

الباب الأول:النص والخطاب .. المفهوم والدلالة.

الباب الثاني: النص والحقيقة.

الباب الثالث: النص وأدلجة الخطاب.

الباب الرابع: النص وشرعية السلطة – الآليات والتأسيس.

الباب الخامس: النص واتجاهات المعارضة.

الباب السادس: النص والغلو.

قراءة اولية في مضمون الكتاب:

تطرق الكاتب والمفكر الغرباوي في مطلع كتابه عن أهمية الجهود الفكرية والفلسفية التي طُرحت على الساحة الفكرية العربية من أجل معالجة التفكير الديني والعقل التراثي. وما تمتعت به هذه البحوث والدراسات من حيوية في المناهج، وطرح الأسئلة واختراق الممنوع واللامفكر فيه، حيث شكل ما اشتغل عليه هؤلاء تراكماً معرفيا ورغبة في ترشيد الوعي، بغض النظر عن اتفاق الغرباوي أو عدمه اتفاقه مع ما كتب في هذا الاتجاه، مسترشدا كدليل على هذا الموقف أو الرأي مما كُتب، من حالة الجدال الذي دار بين محمد عابد الجابري في كتابه مشرع (نقد العقل العربي)، ورد جورج طرابيشي ونقده لمشروع الجابري في كتابه (نقد نقد العقل العربي). (1).

منذ البداية يؤكد الغرباوي بأن مشكلة التخلف عنده لا تعتبر في الدين كوحي إلهي. ولا لكونه إيمان يثري التجارب الروحية. بل المشكلة في تحري وفهم مقاصد هذا الدين وغاياته ووظيفته. وبالتالي دور العقل في الاشتغال على توظيف هذا الدين خدمة للإنسان ومصالحه في حالات تطوره، والوقوف ضد الفهم الوثوقي الاستسلامي من هذا النص التراثي، والمناهج الفكرية الجمودية واللاعقلانية التي تعاملت مع هذا النص عبر التاريخ الإسلامي حتى جردته من إيجابياته، لعدم تمييز من اشتغل على هذه المناهج بين الثابت والمتحول فيه، وبين الخاص والعام، وبين الايجابي والسلبي، وبين النسبي والمطلق. وهذا ما ساهم في تجريد النص من مقاصده الحقيقة المشبعة بالقيم الإنسانية النبيلة وتاريخيته، ثم تحويل ما توصل فهمهم له من النص الترثي بمجموع مفرداته إلى أيديولوجيا دوغمائية تسلط السيف على عقول ورقاب المختلف. (2)

كما يؤكد الكاتب والباحث على علاقة الفكر في حالات تطوره بالإشكاليات القائمة .. دون أن يبين طبيعة هذه الاشكاليات، عدا إشكالات الفكر الديني ومرجعياته ومناهج التفكير فيه، حيث يقول بأن مرجعيات التفكير الديني ليست سوى مصفوفة تتولى عملية التفكير وإنتاج المعرفة. ومن خلالها يفسر ظواهر الأشياء ويفرز الحق عن الباطل حتى لو كانت هذه الروايات ضعيفة وهي الأكثر قدرة على تزييف الوعي وتكريس الجهل والأمية. مستغلين قوة بيان النص المرجع ومجازيته الموظفة داخل النسق اللغوي، إضافة إلى تعدد الاحالات المرجعية وقدرتها في السيطرة على عقل القارئ او المتلقي للنص، وهذا ما يعطي النص صرامة وقوة ليس من السهولة اختراقه وتفكيكه ثم إعادة تركيبه. إن كل ذلك يعطي النص الترثي قداسته وصلابته وعدم القدرة على نقده أو مراجعته أو تعديله. (3)

إن الاشتغال خارج وعي المتلقي في مثل هذه الحالة يعني بالنسبة للباحث والمفكر الغرباوي، أن الفرد سيتأثر بالنص الملقى عليه، وهذا يتطلب إعادة دراسة النص بالضرورة إعادة معرفية والقدرة على التفكيك والتنقيب ومراعاة قابليات المتلقي، وكيفية وعيه للنص، ومدى تأثير البيئة الثقافية عليه. وهذا ما قام عليه كتاب (النص وسؤال الحقيقة.. نقد مرجعيات التفكير الديني).(4)

وظيفة الكتاب: (يمثل مشروعاً نهضوياً لاستعادة وعي الفرد بعد نقد العقل الديني ومرجعياته المرتهنة لقدسية التراث وأوهام الحقيقة التي ابتعدت عن المناهج العلمية والكشوفات الحديثة، وكذلك الحفر بعيداً في بقع معرفية مستبعدة ومهشمة تقع ضمن المتواري واللامفكر فيه. وبالتالي مدى مطابقة البنية المعرفية لهذا النص التراثي والمنهج الذي اشتغل عليه رجال الدين تاريخياً للعقل وللواقع معاً.

إن هدف الكتاب في المحصلة هو الطموح لرؤية مغايرة وفق مبادئ عقلية متحررة من سطوة الخرافة والأسطورة وأوهام الحقيقة بإسم المقدس من أجل فهم متجدد للدين كشرط أساس لأي نهضة حضارية لهذه الآمة المفوّته حضارياً، قد يساهم في رسم ملامح عالم جديد يطمح للحرية والعدالة والمساواة، ضمن إطار مجتمع يرفض العنف وإقصاء الاخر .(5)

في الباب الأول من الكتاب (النص والخطاب – المفهوم والدلالة)، وعبر كل عناوين فصوله وأبوابه يبدأ الفصل الأول من الكتاب بتعريف النص بشكل عام لغة ومجازاً، حيث يأتي النص لغة عند الغرباوي على أنه: (ما لا يحتمل إلا معنى واحداً أو لا يحتمل التأويل) أي هو كما يشير إليه علم الفقه بأنه: (ما كان نصاً في معناه، في مقابل ما كان ظاهراً). (6)

اما النص اصطلاحا او مجازاً فهو عنده: (ما تعددت دلالاته بتعدد قراءته وتأويلاته المتعددة).

فالنص هنا ثري في دلالاته أو ايحاءاته، ويتوقف الكشف عن هذه الايحاءات إن كان في الظاهر او المخفي او المضمر بناءً على مرونته وأسلوبه في التعامل معه. أي المنهج المتبع في قراءة النص. فالنص ليس أكثر من حقل معرفي قابل للحرث والتنقيب المعرفي في أعماقه .

أما السلطة فهي عنده لغة: (تأتي من التسلط والسيادة، والحكم ويراد بها اصطلاحا، السلطة المعرفية). (7). كما يراد بها هيمنة النص ومحدداته حينما يحتكر الحقيقة أو جزءاً منها. ضمن آلية التفكير وإنتاج المعرفة سواء كان النص موافقاً للواقع أم لا، المهم قيمة النص الذي يتعامل معه المتلقي بغض النظر عما يحمله هذا النص من أوهام وحقائق مطلقة يخضع لها عقل المتلقي. (8)

يؤكد الكاتب والمفكر الغرباوي على أن المراد بحثه أو التركيز عليه هنا، هو النص الديني خصوصاً، والروايات الموضوعة. ومدى تأثير الظروف المحيطة بالنص والمتلقي معاً على سلطة النص، وكيف أثبتت النصوص والروايات الموضوعة سلطتها حاضراً رغم تأريخيتها وتقادمها الزمني؟.(9)

أما أهم العوامل أو العناصر المؤثرة بالنص والتي يستمد منها سلطته، فهي متعددة ومختلفة قوة في تأثيرها النسبي من قارئ لآخر، وعلى هذا الأساس يجد الغرباوي أن النص يستمد سلطته ومركزتيه وتأثيره من مؤلف النص أولاً وأسلوب الخطاب ومضامينه). (10). كما يرى الغرباوي في الوقت نفسه إمكانية إهمال مصدر النص عندما يتعلق بمسائل أخلاقية ما دامت هذه القيم إنسانية مطلقة، كقولنا (النجاة في الصدق). ولكن لا يمكن تجاهله عندما يتعلق الأمر في حالات التعدد القيمي بين أصحاب الحضارات والديانات والثقافات المختلفة، فالقضية هنا نسبية. كما لا يمكن تجاهل مصدر النص عندما يؤسس لأية سلطة دينية كانت أو سياسية أو ثقافية أو معرفية. لآنه المعني بتحديد مستواها، فيكون المصدر هنا جزءاً من النص ذاته. كآية قرآنية أو حديث. كقول الحديث (الخلافة في قريش)، أو (إن الإمامة نص وتعيين) حيث ترتب على هذين النصين تأثير على مجرى التاريخ وصراعاته بين السنة والشيعة لم تزل حتى اليوم قائمة. (11)

إن ما يدلي به النص القرآني أو الحديث أو أي فرمان سلطوي، يعتبر عند الباحث الغرباوي إلزاميا إذا كان يتعلق بقضايا ذات طابع سلطوي. وما عدا ذلك فيعتبر النص حتى لو كانت هذه مصادره فهو نص إرشادي لا أكثر.

أما بالنسبة للنص وأهمية مصدره في عصرنا الحالي، فيجد الباحث أن مسألة التطرق للمصدر منذ العقد السابع من القرن الماضي، راحت تخف، وخاصة مع أدب وفلسفة وفن ما بعد الحداثة. حيث بدأت تطرح نظرية موت ا(المؤلف). (12). بل أننا نرى في نظرية الواقعية الجديدة في صيغتها الأمريكية برأيي هي من أخذ يمثل هذا التوجه المعاصر الذي أشار إليه الغرباوي، حيث تأخذ هذه المدرسة الحداثوية النص من مصدره وتقوم بنقد مضمونه دون التطرق إلى كاتبه. فما يهمها هنا هو دلالات النص وليس مصدره أثناء نقده. فيكون النقد أقرب للموضوعية والحيادية.

أما الأكثر خطورة هنا بالنسبة للنصوص كما يراها الباحث، فهي النصوص التي تخاطب العواطف الإنسانية أكثر من مخاطبتها عقولهم. كونها خطابات تعبويه تثويريه طقوسية تلهب حماس المتلقين من قوى اجتماعية معينة. كالخطابات الطائفية والأيديولوجية أو الاحتفالية سياسية كانت أم دينية (13)

إن النص كما يقول الغرباوي يظل: (مستغرقاً في صمته. يخفي دلالاته وأسراره ورمزيته، لا تستنطقه سوى القراءة الموغلة في نقدها وتفكيكها لتراكم طبقاته المتوارية. والنص الميتافيزيقي يخشى فضيحته المعرفية حفاظا على سلطته وهيمنة مفاهيمه). (14)

والنص الديني يرتكز في أدائه وسلطته على بنيتين هما: ظاهرية تستمد وجودها من تعدد دواله، وأسلوبه اللغوي كلمة وتعبيراً ومجازاً ورمزاً وتمثيلاً، وبنية مضمرة يرتكز عليها النص لتمرير ما يريده دون البوح بها.

74 majed600

أهمية قراءة النص ودلالات هذه القراءة:

يقول الباحث والمفكر الغرباوي: (لا توجد سلطة للنص ومصدره خارج فعل القراء، والمتلقي هو الذي يخرجها من القوة إلى الفعل من خلال منظومته المعرفية القابعة خلف قابلياته ويقينياته). (15). والمؤمن أو من يمتلك عقلاً تراثياً يخضع للنص الديني المقدس أو لنصوص مشبعة بالغيبيات، (أساطير وكرامات وغيرهما) دون مراجعة أو نقد، إنما هو يستسلم له، في الوقت الذي نجد المحايد والمتمتع بعقل برهاني يقرأ النص المقدس وغيره من نصوص التراث قراءة تحليلية وتركيبية، ويتوغل فيه معتمداً على العقل والمنطق والاستنتاج والاستقراء والقياس الجمعي. والسبب في وجود هذين الموقفين هو درجة وعي وثقافة المتلقي، وطبيعة المنهج الفكري الذي يشتغل عليه، والبيئة والعادات والتقاليد والشعائر والطقوس والخطاب الديني والنفسي والتراثي والظروف التربوية التي يعيش فيها، إضافة إلى طبيعة ودرجة وعيه واستعداده لتقبل ما يقدم له من نصوص دون أي رد فعل نقدي.

ينتقل الباحث بعد ذلك إلى دراسة النص والخطاب: حيث يأتي عنده الخطاب: (مخاطبة بين طرفين، وحديث موجه يحمل رسالة بقصد إقناع المتلقي بها مباشرة أو عبر تقنيات لغته أو أساليب تعبيره،. ساعياً لفرض سلطته على مشاعر المتلقي.). (16)، معتمداً عبر حوامله على المتلقي وظروفه ودرجة وعيه وثقافته وانتمائه الديني، أو الطائفي والمذهبي، .. الخ . وهو يتكئ على علاقاته بالعلوم الأخرى من أدب وفن وموسيقى وغناء وأخلاق ورموز.. الخ. والخطاب التراثي عادة هو خطاب قراءاته كما يقول الكاتب مواربة ومليئة بالرمزية والأسطورة المجردة العابرة للزمان والمكان، ويسلم نفسه بسهولة للمتلقي الحاذق.

أما الخطاب الأيديولوجي فهو خطاب تعبوي يقوم على إثارة مشاعر المتلقي، والتغلب على وعيه من أجل تحقيق أهدافه أو رسالته. وبالتالي نجاح الخطاب العلمي يعتمد على الاستدلال والبرهان والقياس المنطقي والاقناع، كما يعتمد على ثقافة واسعة وموقفاً منهجياً صارما لا يدخل العواطف والأهواء. (17)

وتظل المشكلة قائمة عند الباحث بالنسبة لعلاقة العقل بالخطاب. حيث يجيب عن هذه العلاقة بقوله: (كما أن الخطاب يتحرى وعياً ملائماً لدى المتلقي، كذلك العقل يطمح في خطاب ينسجم مع ثقافته وقابلياته، وبناءً على ذلك تنشأ علاقة جدلية بين الخطاب والعقل..).(18)، كل منهما يغني الاخر من أجل التأثير على المتلقي. فالنصوص وخاصة التراثية منها التي يعمل الخطاب على إغفال مرجعياتها ويتعامل الناس معها كحقائق ثابته، نهائية ومطلقة، تساهم في توجيه العقلين المتلقيين الفردي والجمعي وتستنزف طاقاتهما، كما تستنزف طاقات حواملهما الاجتماعيين وثرواتهم وتعطل جهدهم الحضاري وتعمق الشعور بالتفوق والعزلة والتعالي وكراهية الآخر المختلف.

من هنا يأتي النقد العقلاني كي يعري النص والخطاب معاً ويفضح دورهما وأهدافهما.

النص وحرية النقد:

في الفصل الثاني من الباب الأول يتطرق الباحث إلى (النص وحرية النقد). وهي قضية على درجة عالية من الأهمية والحساسية لما لها من نتائج تدميرية علي وعي الحامل الاجتماعي للخطاب وعلى المتلقي معاً. فالغرباوي يعالج مسألة قدسية النص (قرآن وحديث) ومدى قدرة نقده أو تعديله أو مراجعته. فالنص المقدس يفرض نفسه على الفقيه بشكل خاص ويقيد إمكانيات النقد العقلاني لديه. فالفقيه يعتبر النص عنده حالة مقدسة، وكل الذي يستطيع عمله هنا هو إعادة تفسير النص وتأويله كما ورد في العقل التراثي. وإذا كان النص القرآني يفرض قداسته ورهابه على الجميع، فإن المشكلة هنا تكمن بالحديث، وكتب التاريخ تبين كيف وضع الحديث خدمة للسلطة السياسية الحاكمة وخاصة في العصرين الأموي والعباسي حتى عصر التدوين. فالحديث في العقل التراثي وحتى في عقلنا المعاصر هو نص مقدس كما يقول الباحث متكئاً هنا على نصوص قرآنية (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب). (سورة الحشر الآية 7.). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ). (النساء – الآية 59.). وبالتالي (ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.). وعلى هذا الأساس فعقل الفقيه يظل هنا عقلاً مغلقاً غير قادر على الخروج من قدسية النص وسحره. وهذا سينعكس سلباً على الخطاب وتأثيره اجتماعيا وسياسياً وقيمياً وأخلاقياً ونفسياً، وعلى المتلقي أيضاً الذي غالباً ما يدخل في صراعات دامية مع الآخر المختلف معه في مرجعياته الفقهية. (19).

القراءة والسلطة:

يريد الباحث أن يقول في هذا الاتجاه بأن للنص التراثي المقدس سلطته على الفقيه أو المفكر أو المفسر، وهو محكوم بقداسته. على عكس القارئ المتحرر من قداسة النص، حيث يتعامل معه بشكل محايد، وهو قادر أن يعيد قراءته من جديد، واخضاعه لمختلف المناهج الحديثة والمعاصرة تفكيكاً وتركيباً ونقداً بغض النظر عن قائله بغية الوصول إلى فتح كل دلالاته الإنسانية والوصول إلى مقاصده المضمرة أو المسكوت عنها بعقلية حيادية. هذا وقد جئنا على هذه المسألة في موقف سابق من قراءتنا للكتاب. (20).

الموقف من الحريات:

يتناول الباحث في هذا الفصل ايضاً الموقف من الحريات. فثمة أسئلة يطرحها الكاتب تتوقف عليها حدود حرية الاعتقاد والتعبير في الإسلام. مثل هل الدين يعتبر نموذجاً نهائياً، يصادر حرية الرأي والاعتقاد والتعبير؟. ويفرض رؤية أحادية تلازمه مدى الحياة؟. أم الدين نسق قيمي يستجيب لمتطلبات الزمان والمكان ويتجدد مع كل قراءة له في شروطها الموضوعية؟.

يقول الباحث الغرباوي مجيباً على اسئلته بأن الإسلاميين (وأعتقد يقصد السلفيين السكونيين منهم)، من فقهاء ومفكرين يقولون في الرأي الأول. حيث يعتبرون أن أي قراءة أو مراجعة أو تعديل على أي ضرورة من ضرورات الدين، أو النص التراثي هو خروج على قيم الدين وأسس عقيدته. وبالتالي من يقوم بذلك هو زنديق أو كافر أو محرف لنصوصه.

أما الكتاب الإسلاميون والمحايدون بشكل عام، فيقولون عكس ذلك، بناءً على نصوص القرآن بالذات، وهم فقهاء وعلماء علم الكلام الذين آمنو بالعقل ودوره في قراءة النص الديني وتفسيره وتأويله.. (21). فهم يعترفون بأن في القرآن آيات محكمات (بينات) وآيات متشابهات (غامضات / متشابهات). والله نهانا عن الأخذ بها، مثلما نهانا عن تأويل النص القرآني كونه وحده هو الذي يعلم تأويله.. كما آمنوا بأن الدين للواقع، وبالتالي علينا أن نخضع دلالات النص ومقاصده الخيرة لهذا الواقع في حالات تطوره وتبدله، ولم يكن الناسخ والمنسوخ في القرآن إلا تأكيداً على ذلك. كما قالوا بأن (الأصل في الأشياء الاباحة) وبالتالي علينا أن لا نحرم ما حلل الله ولا نحلل ما حرم)، والحياة دائما تطرح علينا الجديد من الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية امتحاناً للنص المقدس، ولا بد من النظر فيها وفقاً لمقاصد الدين العامة وليس وفقاً لموافقة هذه الظواهر مع ظواهر عصر السلف الصالح. لقد أراد الله في سورة الكهف أن يعلمنا أن كل شيء يتغير ويتبدل، ولكن تظل المقاصد الإنسانية العامة في الدين ثابته، كحق الحياة والرأي والعقيدة والدفاع عن العرض والأرض والمال. وكل ما يتعلق بذلك من مفردات التطبيق والوصول إلى تحقيق هذه المقاصد، هي من اختصاص الإنسان.. كونها شؤون حياة، والناس أدرى بشؤون دنياهم كما يقول حديث الرسول الكريم.

النص وخطابات النفي:

في الفصل الثالث ذاته يشير الباحث هنا إلى تعدد الخطابات الموجهة للجمهور، دينية وغيرها، ولكن الهم الذي يركز عليه الباحث هنا هو الخطاب الديني. هذا ويعتبر هذا الخطاب من أهم الخطابات التي تساهم في التأثير على المتلقي، وخاصة مع تطور الوسائل التي يستخدمها هذا الخطاب، بعد أن تطورت وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة ودور المواقف السياسية في توظيف هذا الخطاب على الوعي الجمعي، فإضافة لوسائل إعلام الدولة ومؤسساتها الدينية، هناك منابر المساجد وحلقات الذكر والمناسبات الدينية، ومواقع التواصل الاجتماعي على الأنترنيت وغير ذلك الكثير. فالعقل الجمعي هنا تؤثر فيه الكلمة، حيث يصبح للكلمة سحرها وللرواية مفعولها، فلكل مكان قدسيته ودوره في تأثير الخطاب، حتى يتعذر على المتلقي تمييز وفرز الضعيف من هذا الخطاب نصاً أو رواية بفعل روحانية الأجواء وتأثير الكلمة على العقل الجمعي الذي هو جاهل بالأصل، وبالتالي هو يتعامل مع الخطاب بعاطفته أكثر من عقله، خاصة وأن الواعظ يعتمد على روايات أسطورية في الغالب، يصعب عليه تحديد مرجعياتها، فيعطي كما يقول الباحث إشارات بسيطة لإقناع المتلقي بما يقال له، وغالباً ما تكون هذه الاشارات لها مرجعية مقدسة في النص التراثي، لا يمكن الشك في مصداقيتها. وهي بالغالب ذات طابع مذهبي، وهي أيضاً مصادر شوهت الدين في الحقيقة وقسمت المسلمين وأضعفت انتماءهم للدين الحقيقي، دين الوحدة والمحبة والعدالة والمساواة واحترام الرأي والرأي الآخر وغير ذلك من مقاصد إنسانية يدعو إليه الدين. (22).

خطاب التنافي:

على هذا الموقف المذهبي والفرقي في الخطاب التراثي الديني، يبرز مفهوم الفرقة الناجية كما يقول الغرباوي، فالمذاهب والفرق في الحقيقة تكفر بعضها، وتصنف من هي الفرقة النارية، ومن هي المرضى عنها يوم الحساب، وعلى أساس هذا الموقف يدخل المجتمع والعقل الجمعي معاً في صراعات تعمق الاختلاف والتفرقة والكره والضغينة، وهذا ما حدث عبر التاريخ، حيث لم تزل الصراعات الدينية القائمة على مفهوم الفرقة الناجية حتى الآن. وعل هذا الأساس راح الكاتب انطلاقاً من هذه المواقف التراثية العدائية يعمل على إعادة قراءة النص الديني نفسه (قرآن وحديث)، إضافة لدراسة كتب من اشتغل على هذا النص المقدس من فقهاء وعلماء كلام مرتبطين بهذه المذاهب والفرق لتبيان مواقع الكراهية والحقد فيها اتجاه المختلف، وتبيان المقاصد الحقيقية للدين، كما جاء في كتابه (التسامح ومنابع التسامح) وغيرها من كتبه التي أشرنا إليها في بدء هذه الدراسة.(23).

الباب الثاني: النص والحقيقة:

في الباب الثاني من الكتاب يتناول الباحث موضوعاً على درجة عالية من الأهمية والحساسية معاً، وهو موضوع (النص والحقيقة)، حيث (يعتبر النص الديني طريقاً للحقيقة، وكاشفاً لها. وهو يستقل بوجوده وكينونته وقيمته. بينما تتوقف صدقية النص على دليله ومدى كاشفيته).(24) وعلى هذا المنطلق تكون مصداقيته أمراً عقلانياً عندما يرتبط بالواقع. أو يرتبط بصحة المصدر أو المرجع كالحديث المتواتر مثلاً. أما عندما تكون صدقية النص الديني قائمة على الظن، فغالباً ما نجد من يرفضه في الوقت الذي نجد فيه أيضاً من يأخذ به من باب التدين. وهذا ما نجده عند فقهاء السنة مثلاً، فالحديث الظني عند ابن حنيفة لا يعتد به كثيراً، بينما هو عند الحنابلة حتى ولوكان ضعيفاً له مصداقيته المطلقة، وهو عند ابن حنبل أهم من الرأي. وإذا كانت قضية القبول أو الشك أو الرفض، واردة في قضايا الشريعة عند المتدينين، فهي غير مقبولة في العقائد، كما يقول الباحث. أما عند الباحث العقلاني المحايد. فالحقيقة نسبية مالم يبرهن على صحتها الواقع.

إن المنهج الديني في تقصي الحقيقة لا ينتج حقيقة كاملة، فالحقيقة تظل نسبية مالم يبرهن عليها. وما دامت مقررة سلفاً في ذات النص، فهو منهج قائم على الايمان والتسليم لا على الدليل والبرهان. (25).

الحقيقة والايمان:

يقول الباحث في هذا الاتجاه: (ثمة نتيجة مهمة تترتب على ثقافة المتلقي وقابلياته في وجود الحقيقة النسيبة). (26) . بل إن النتيجة هذه تترتب على درجة إيمان المتلقي والظروف المحيطة به، والموقف المذهبي والسياسي الذي ينتمي إليه. ومع ذلك فوحدة الايمان لا يمكن أن تشكل دليلاً على صدق الايمان ومطابقته للواقع. بل تكشف عن بنية العقل ومشتركاته في مدى صدق هذه القضية أم لا. فالإيمان المشترك لا يدل على مطابقته للواقع. بل تحتاج صدقيته كما أشرنا أعلاه إلى أدلة وبراهين. وهذا ما يؤكد الفهم العقلاني للآية الكريمة. (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) الفرقان – 73.

إن القرآن في جوهره يحث على البرهان والنظر وتحكيم العقل واستدلالاته. (27).

الحقيقة الدينية ونسبية الهداية:

ما أكد عليه الباحث إذن، هو أن إطلاق الحقيقة بشكل عام يتوقف على مدى مطابقتها للواقع ووجود الأدلة وبراهين حسية وعقلية عليها.

أما الحقيقة الدينية فتستمد وجودها من إيمان الفرد ومستوى وعيه وثقافته التي تختلف باختلاف منشئها. ومع ذلك هي نسبية باستثناء ما دل الاستنتاج المنطقي على وجود خالق لهذا الكون. وكل ما عدا ذلك كعوالم الغيب والمعاد . والكرامات. ويقدم الكاتب الكثير من النماذج الروائية دعماً لموقف الفكري والمنهي هنا. (28).

إن إيمان الباحث بنسبية الحقيقة، يدفعه لتأكيد نسبية الهداية. والهداية عنده (تعني الإرشاد. هديته أي أرشدته. دون تحديد الغاية او القصد) .(29). وقد جاءت الهداية في النص الديني مطلقة (إهدنا الصراط المستقيم)، وهي توحي بدلالات خطيرة في الكثير من مواقعها في العقل التراثي. كقول الحديث: (فإنما أصحابي مثل النجوم، فبأي اقتديتم اهتديتم). فالرواية هنا أعطت مصداقية تصل إلى درجة العصمة للبشر، والنص القرآني لم يمنحها لأحد. وعلى هذا الأساس جاء الموقف السلفي من التراث فيما بعد، حيث اعتبرت المرحلة التاريخية للصحابة هي مرحلة مقدسة وصادقة بكل ما فيها فكراً وممارسة، وبالتالي كل جديد يخرج عن معطيات هذه الفترة هو بدعة، وكل بدعة ضلالة، وهذا الموقف القائم على الهداية المطلقة نجده عند الشيعة أيضاً عندما اعتبروا أن الولاية بالنص اولاً، وإن آل البيت معصومون ثانياً.

الحقيقة العقائدية ودور التراث في ترسيخها:

بقول الباحث والمفكر الغرباوي لقد لعب التراث دوراً هاماً وخطيراً في تشييد وبنا الهيكل العام للمسألة الطائفية والمذهبية الدينية بشكل عام، والإسلامية منها بشكل خاص. حيث انتشرت وبعمق في بنية السلطة والمعارضة معاً. (30).

إن النص القرآني واضح في مقاصده العقيدية والتشريعية. فهي مقاصد عامة ترتكز كما بينا في موقع سابق على الايمان بالله وكتبه ورسله واليوم الاخر ونشر العدل والمساواة وإحقاق الحق في الدفاع عن العقيدة والأرض والعرض والنفس والملكية. بيد أن هذا النص عبر وجوده التاريخي راح يؤول ويفسر وفقاً لمصالح السلطة والمعارضة معاً، وهنا راح النص يميل في دلالاته كما يريده ألذين في قلوبهم زيغ. حيث لم يتوان الكثير من الذين اشتغلوا على الدين أن يضعوا الكثير من الأحاديث التي تمجد هذا الخليفة أو ذاك، أو هذه القبيلة أو تلك. بل إن الكثير من الآيات القرآنية راحت تؤول وتفسر للخدمة ذاتها. بل تفاقم الأمر عند بعض المذاهب إلى اعتبار قول الإمام ذاته نصاً مقدساً (العصمة) لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه. وعلى هذا الأساس يركز الباحث على أهمية إعادة قراءة التراث ونقده والعودة به إلى مربعه الأول بعد أن استطال وأصبح وسيلة أكثر من كونه غاية تهدف إلى مقاصد الدين الحقيقة. وعلى هذا الأساس خصص الباحث عنوانا خاصاً بأهمية النقد العقلاني ودوره في الوصل إلى حقيقة التراث وغربلته من كل الشوائب التي علقت به تاريخياً بسبب مصالح الفئات الحاكمة أو المعارضة معاً. (31).

ونظراً لخطورة التأويل في النص التراثي يركز الباحث على خطورة هذه المسألة منطلقاً من منهجه الفكري العقلاني النقدي الذي يعتبر أن القراءة التأويلية للنص تقيم علاقة جدلية بين معرفة النص ذاته بكل حمولته ودلالاته، وبين القارئ لهذا النص، أو المؤول لهذه الحمولة المعرفية ودلالاتها. وعبر هذه العلاقة لا يستطيع النص التراثي أن يحافظ على مركزيته وقوته وسيطرته ومعرفته المطلقة، وإنما أمام سلطة معرفة القارئ أو الناقد تنهار هذه السلطة المركزية للنص، وتتفتت كما يقول الباحث الغرباوي، وبالتالي أمام هذا التحطيم لمركزية النص المعرفية، تتشكل معارف جديدة ربما تناقض تلك المعارف الكامنة في النص أو جزءاً منها بما يتفق ومصالح المؤول والمتلقي معاً وفقاً للمرحلة التاريخية المعيوشة. وهذا هو دور النقد في الحقيقة للنص التراثي ووظيفته. فالنقد العقلاني المحايد وحده هو الذي سيعيد قراءة النص التراثي وتخليصه من كل الشوائب التي علقت به تاريخيا، من أوهام وأساطير واحتكار للحقيقة وتقديس، وبالتالي تحرير كل العلقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية وخاصة في شقها الديني المتعلقة به.(32).

يتبع في الحلقة القادمة

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سورية

الغرباوي والتنظير التجديدي: من خليط اشكالية معقدة طرح ماجد الغرباوي مشروعه النقدي الجريء كما لم يفعل من سبقه، في اصلاح الفكر الديني التنظيري المعتمد على المرتكز المنهجي التالي: (لست مع متاهة التفكيك) - يقصد بمعناه الفلسفي الذي يعتمد تفكيك النص لغويا تجريديا صرفا - غير اني والقول للغرباوي، (أسعى لأقصى ممكنات الغوص في أعماق الظواهر الاجتماعية والدينية لإدراك الحقيقة، وتقديم قراءة موضوعية، تنأى عن المراكمة فوق ركام الخراب المعرفي ودوامة التخلّف. وأطمح لرؤية مغايرة وفق مبادئ عقلية متحررة من سطوة الخرافة واللامعقول وأوهام الحقيقة) – التي اضفاها عليها الفهم السطحي الجمعي في اداء طقوس التدين، وفي تلقيهم الايمانية الدينية في منتهى التسليم العفوي وما يرافقه من سلوك خاطيء تضليلي وتجهيلي زائف يأتي ضخّه الدائم من بعض رجالات الدين، الذين يرتبط عندهم المفهوم التضليلي الديني باجندة يقف على راسها توجيهات ومصالح السياسيين والحكام – (ورهاب النص وقدسيته، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب. يتمثل قيم التسامح والمواطنة، ويعترف بالآخر اعترافا حقيقياً. فالمشكلة الأساس تتعلق ببنية العقل، والنظام المعرفي، ونوع المفاهيم والمقولات المؤسسة لها، وطبيعة الثقافة التي تنتمي لها. فنحن بحاجة مستمرة لنقد جميع الثوابت والقناعات. فالفهم المبتسر للدين أحد الأسباب الرئيسية وراء التخلّف الحضاري) ص9. وهذا يتطلب نقد مرجعيات الفكر الديني بمنهج عقلاني جريء. "الاضافات المحصورة بين شارحتين نسبتها لي وليس الاستاذ الغرباوي".

 هذه المعلومة المعقّدة كنا اشرنا مناقشتها في الجزء الاول من قراءتنا في فكر الاستاذ الغرباوي، وهي تحتاج جهود باحثين متخصصين يعملون جاهدين فك ارتباط التخلف المجتمعي الحياتي على الارض، عنه في المسايرة المطردة المعاكسة في جعل التنظير الاصلاحي الديني في الكتب والمؤلفات معلقا في السماء، وتعويضا وهميا لما هو مطلوب تنفيذه في اصلاح مناحي الحياة اليومية التي نعيشها عصريا، وعزل وتعقيم مجهودات الفكر التنظيري في التاثير بواقع الحياة ومحاربة التخلف على الارض.

لاحظنا وقاسينا بما يتعذر وصفه ان اعمال سطوة السيف في اعناق الابرياء من قبل حثالات التطرف والتكفير والارهاب في ابشع اشكال الذبح الهمجي الوحشي تسبق الف باء اية معلومة علمية او حضارية او تحاورية بالضد من تفكيرهم المتدني الى اسفل درجات الانحطاط والغباء، وكل ذلك يمارس بقوة السيف على ان ما يقومون به هو تجديد الدين وبناء دولة الخلافة على منهاج النبّوة. فهل منهاج النبوة اصبح لا يحتاج غير السيف وسيلة لتجديده في جزّ رقاب الابرياء؟.

التحديث النقدي في الفكر الديني الذي نعيد تداوله العقيم باستمرار، لا يستهدف النص القدسي الثابت بل يستهدف في اكثر حسن الظن به تنظيف النص القدسي من جميع المتراكمات التحريفية حوله التي اضاعت صدقيته المقدسة في النص الديني كفكر حيوي في الممارسة، ليكون زيف النص ياخذ مكانة المقدس الحقيقي في اصالته الدينية ان يكون التدين الهمجي فيه لا في غيره يمثل عندهم رضا الباري الخالق دنيا واخرة، والى كسب زائف في ارضاء حاشية المنتفعين من الدين والمتاجرة باسمه. بمعنى ان الاصلاح الديني التنظيري المزعوم لا يحقق تنظيف حقيقة الدين مما علق به من خرافات واكاذيب ووحشية وتخلف في ميادين الحياة، على الاقل في الفترة الممتدة لقرن كامل من صحوة اهمية مواكبة الحياة المعاصرة في تعالقها مع الديني، وفي وجوب مراجعة ونقد الفكر الديني، الذي سادت خلاله دعوة الاصلاح تنظيرا في الكتب والمؤلفات المركونة فقط .

ان منهج الغرباوي كما اشرنا له بسطور سابقة في نقده و دراسته الحقيقة الدينية بمنهج عقلي علمي وتدعيم افكاره في استقدامه مشاهد حية من الماضي في تاريخيتها وشخوصها، لتخليص الحقيقة الدينية في النص القدسي من براثن مجاهيل التضليل والتشويه والانحرافات والاكاذيب على التاريخ في جنبة التنظير التوعوي، وفي تعرية النفاق الديني الذي اخذ بحكم تداوليته المجتمعية صفة البديل القارالثابت في اكتسابه الحقيقة الدينية الزائفة التي يعتقدها ويمارسها المجموع، وفي اعلان هذا التزييف نفسه فكرا مضللا، وممارسة منافقة وحيدة في امتلاكها الحقيقة لوحدها لا من اجل تصحيح علاقة العبد بالخالق ولكن بعلاقة تقديم الطاعة والمبايعة العمياء لمن يدعي ان حكمه مستمد من روح وجوهر دولة الخلافة الاسلامية في عهد النبوة.

هذه النكبة التضليلية الدينية التي يسيّجها نفاق الرعب والخوف في تداوليته القطيعية وتعطيل فاعلية العقل في نقد ابسط المظاهر التي يرفضها المنطق الفكري السليم، هي دعوة جوهرية، وطرحها اشكالية تركيبية زائفة في رواج تضليل الانسياق العاطفي المتزمت الجمعي. اشكالية يقر بتخطيئها بعد مرارة الواقع التطبيقي لها في العراق وفي سوريا ومصر وليبيا، وفي بلدان عربية واسلامية افريقية اخرى، المجموع المتدين الذي في قرارة نفسه يقر ان هذه الخلافة المزعومة هي والدين الحقيقي السماوي لم ولن يلتقيا ابدا، لكنه يتعامل بها المجموع في غالبيته في ازدواجية تدينه مع الله، ونفاقه مع ضميره، ونفاقه في تدينه، ونفاقه مع امثاله في مجتمعه.

السؤال هل يصح الدين في صلاح القلة الذين يفهمون الدين على حقيقته في مسؤوليتهم عن الفرد دنيا واخرة ايضا، في تامين احتياجاته المنوطة بالتدين على الاقل، ويعجزون هؤلاء القلة عن اصلاح المجموع وتخليصهم من ضلالهم؟ ام يتركون حقيقة الامور يحسمها بالآخرة رب العالمين الذي لو شاء لجعلهم جميعا امة واحدة مؤمنين على الصراط المستقيم في فهمهم دينهم في دنياهم وفي آخرتهم.

هل من الصحيح ان مرضاة الله يمكن ان تكون في ايمان قلة قليلة تفهم حقيقة الدين وتترك المجموع الضال يسير مسار القطيع في ممارستهم انحراف الدين باسم التدّين الباطل؟ هذا التفسير الحربائي ينسف الاقرار بقدسية تكليف الله للانبياء في القيام بمهامهم الارشادية وابطالها في حياتهم. اذ لو ارتبط فهم الدين من غير تكليف الانبياء والرسل بمسؤوليتهم الاصلاحية الهادية، لما كان فهم الانسان الدين غير مكتمل، ولا كانت هناك طقوس دينية خاصة ومتباينة بكل ديانة في زمن ومكان ظهور الانبياء على الارض. وهذه النظرة لو كانت صحيحة لترتّب عليها ان الدين سابق على وجود الانسان على الارض، ويرتّب ايضا ان التوحيد الديني سابق ايضا على تدرج الدين وفق نظريات التطور الطبيعي في ان الدين مرّ بمراحل من التدين السحري والخرافي والطوطمي والوثني وتعدد الالهة الى مرحلة وصول التوحيد بظهور الديانات السماوية الثلاث .

ليس الاستاذ الغرباوي وحده وجد نفسه امام الاشكالية في تغييب حقيقة الدين باسم تفكير وممارسة التدين الخاطيء، قال كلمته التي كما فعل غيره قبله في محاولة اقناع النخبة، و بذل في مؤلفاته وكتاباته اقصى ما يستطيعه ان تصل حقيقة ما يكتبه الى الجمع الضال باسباب يحتاج شرحها مؤلفات من ذوي الاختصاص كل في مجاله لنزيد في رفوف المؤلفات والكتب العاجزة عن تغيير حالنا او حتى مجرد الرغبة بذلك.

عندما يكتب المفكر الملتزم بدينه ونظافة ضميره ان يقول كلمته بما يرضي الله، فهو ليس مسؤولا عن نتائج تفكيره في هداية الناس من عدمها في مهمة عجز الانبياء عن تحقيقها (وما انت عليهم بمسيطر) (ومن يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا). وكان عقاب الله حسب الديانات قاسيا لمن لم يفهم التدين على حقيقته كما جاء بها الرسل والانبياء.

بعض معوقات الاصلاح الديني

ان عدم سهولة تحمل مسؤولية نقد الفكر الديني الاسلامي وليس الدين بثوابته كما اشرنا له، وانما نقد واصلاح بعض مناحي الانحراف ومنطلقاته التي تدور حول حقائق الامور الدينية، وتحجبها وتحجمّها وتمنعها من الحراك التوعوي في وجوب ان يكون النقد الزائف في الدين، هو نقد الجمود والتخلف وتراجع الحياة في جميع مناحيها المتعالقة بالتدين. ان في افتراض تحقيق الاصلاح الديني من معرقلات وتشويه قدسيته الالهية المعصومة، لا يجدي ولا يكون فاعلا مالم يؤثر في تغيير مجمل مناحي الحياة في السياسة والمجتمع والاخلاق والقيم والاقتصاد وغيرها. المرتبطة جميعها في تحقيق نقلة اصلاحية في الوصول الى حقائق الدين في انسانيته غير المحدودة. ان تعالق الدين بالحياة عندنا لايختلف عن تعالق الدين بتدهور الحياة في اوربا العصور الوسطى. ومرحلة الاصلاح الديني عندهم ارست بداية نهضة اوربا علميا وعلمانيا ثم في وصول مرحلة كتابة الدساتير وتشريع قوانين تنظيم الحياة على اساس من الديمقراطية والعدل والمساواة وكفالة الحريات الشخصية السائدة في تطور مستمر مع ضرورات ومستجدات الحياة عندهم الى اليوم.

لقد اكتسبت عندنا المخادعة الدينية التزييفية حسب مقتضيات توظيف الدين بمرور الوقت وتوالي العصور، اكتسبت يقينيات التزييف الديني الجمعي، صفة اليقينيات المسّلم بها جماعيا استسلاميا لمنطقها المنحرف، بمعنى ابطال اعمال العقل في مراجعتها ونقدها لاستجلاء حقيقتها، قبل التسليم يقينيا بزيفها ومقولاتها الخرافية، على نطاق جماهيري مسطّح الفهم النقدي العقلاني. وتمييز حقائقها المغيبة بالدخيل الذي اكتسب صفة القداسة والتبجيل والتسليم بها، بحكم العادة وغلبتها في تبني المتوارث السهل الاستيعاب في تغييب العقل النقدي.

من المقر المسلم به ان تتحاشى نقد مرتكزات الدين الثابتة المعروفة، بقدر حاجتنا نقد ظواهر التدين الزائفة وتعديل مفاهيمها الكاذبة المضللة. وهناك من يرى مصالحه كفرد او جماعات، هو في بقاء نفاقه على الناس في خلط الاوراق بالغاء الفروقات البينية بينهما، بين الدين القدسي والتدين المصلحي المؤدلج سياسيا.

ان مرتكزات الدين تمتلك خصائص المقدس والاصالة التي تقود الى ارساء التدين الذي لا يطاله التحريف ولا تنال منه نوايا النفاق، الذين ارادوا ان يجعلوا من الاصل الدين في صفائه، ومن التدين بكل صفاته وممارساته الخرافية المنحرفة كلاهما شيء واحد، واسطة مشتركة لتكريس حكم الطاغية السياسي وسفك الدماء بلا وازع اخلاقي ولا مانع من ضمير. هكذا جرى في الماضي ويجري اليوم خلط اصول الدين وحقيقته الايمانية مع مخطوء التدين في الفكر والممارسة.

الغرباوي كغيره من المفكرين واجه اهم مشكلة في محاولة التنظير للاصلاح الديني كوقائع تاريخية لها ترابط في الحياة المعاصرة نتيجة تعميق التثقيف التناحري في امتلاك الحقيقة الدينية لطرف واحد دون غيره، انه كما ذكرنا في سطور سابقة يريد معالجة كم كبير جدا من المتراكم الخرافي المخطوء الذي اصبح وقائع تاريخية اكتسبت على مر الايام والعصور كل قطائع التخلف الاسطوري في تداولياته، واصبح يمثل ويحتكر لنفسه كامل الحقيقة الدينية في زيفها وتداوليتها الساذجة البعيدة عن الايمان الصحيح. فاصبح لدى عامة الناس ان حقيقة التدين في استمرارية تداولية المخطوء السطحية الساذجة التي لا يتعدى فهمها ان الدين هو في اداء اركان الدين الخمسة في اسقاط فرض التدين وليس في اسقاط فروض الدين. وليس مهما ان الدين في جوهره وربما لايعرف البعض او لا يريد ان الدين في جوهره واصالته ليس ما ابتدعه ويبتعده رجال الدين، بشر لا يختلفون عن غيرهم من البشر، وانه يتوجب على المؤمن الحق ان يحاكم كل اجتهاد في عصمة وقدسية الدين وليس في عصمة وقدسية افكار وفتاوى اناس مثلنا. لا يمتلكون ادنى عصمة ان افكارهم حقائق دينية صحيحة يجب التسليم بها والانقياد الاعمى لها من دون احتكامها مع اصول الدين.

ان الاحترابات الدينية المذهبية بين المسلمين او الطائفية مع غير المسلمين باتت تحمل صفة القداسة الزائفة التي لا رصيد حقيقي لها في فهم الدين وانما تستمد كل مقومات وصايتها على امور الدين من التسليم القطيعي الذي تحركه اما العواطف، واما جعل افكار الاجتهاد الديني في منزلة المقدس الذي لا يخطأ. وجعل الدين المسيس في خدمة ووصاية انحرافات وتسويقات رجال الدين للحاكم.

اذن بمختصر العبارة ان مهمة الاصلاح في الفكر الديني كما فهمته من كتابات الاستاذ الغرباوي، هي في اصلاح التدين الخاطيء المصادر عليه سياسيا بما يخدم شلة من الناس على حساب ضخ التخدير في وجوب الصبر على مكاره الحياة بانها امتحان ونتيجة الصبر ليس في هذه الدنيا الفانية بل في جنان الخلد السماوية . وليس هناك مايجيز عدم اطاعة اولي الامرمنكم او محاولة الوقوف في الضد من فساده في الارض وخيانته في توّلي امر المسلمين.

امام هذه الاشكالية التراكمية المعقدة والحساسة والصعبة التي تحفّها وتدور في فلكها منزلقات وممارسات تقف امام كل رغبة، تحاول اجتثاث كل متراكمات التدين غير الحقيقي. في وجوب ان تاخذ مدياتها بلوغ نوع من التحديث في مناحي الحياة. وفي اجتثاث التدين المخطوء الذي اكتسب اليقينية الدينية الزائفة بحكم العادة والتوريث التضليلي جيلا بعد جيل.

الاصلاح الديني بين الممكن والمستحيل

ان مهمة اي مفكر اسلامي منذ بدايات القرن 19 والى يومنا هذا، وصعوبة بل واحيانا استحالة تحقق وعي ديني مجدد له فاعلية او يمتلك حضورا، كما يشير الغرباوي يتطلب ضرورة اعمال ووجوب حضور العقل النقدي في كشفه حقائق الامور الدينية من زيفها، وتعرية الفكر الديني الطاريء في انحرافاته السياسية الخطيرة في تعطيل، اي نوع من نهضة حضارية، ويدعو الغرباوي اهمية : نقد مرجعيات الاعاقة امام علمنة وديمقراطية الحياة، ولكن مع كل هذه الاجتهادات التنويرية فان المهمة شاقة وصعبة وتنطوي على جملة معيقات ليس سهلا تجاوزها. وجميعها مبثوثة في ثنايا كتابات الغرباوي :

1- ان المتراكم الفكري التديني المخطوء التداولي عبر الاجيال اكتسب ممارسات يقينية وفكرية راسخة، لا يسمح بسهولة مرور الفكر التنويري التحديثي عبره، الكشف عن حقائق هذا الموروث، وتعرية الدخيل الطاريء المضلل المتقاطع مع حقيقة الدين الانسانية ومنطلقاته في خدمة الانسان ووجوده على الارض وليس ان يعيش جميع حرماناته وعدم تحقيقها في الموعود به الحصول عليه في السماء. وهي اعاقات نجدها في السياسة وفي رجال الدين وفي المجتمع الذي اعتاد الاملاءات.

2- لا بد من الاقرار باصعب اعاقة تجديدية يواجهها الفكر الديني في وقوف ما يسمون رجال الدين القائمين على امور الناس في دنياهم، المتمسكين بالاجتهاد في تضليل الناس ان دينهم هو في مرضاة سياسييهم اولي الامر. وهذا التزييف الايديولوجي التديني السياسي، يتم في وضع التدين المساق بهيستريا العاطفة في خدمة بقاء الحاكم الفاسد والنظام المنحرف عن حقوق وتلبية احتياجات الناس.

3- تضليل رجال الدين للناس ان اي اقتراب من قدسية الفكر الديني المسيس، مرجعيته الحادية تنفي الايمان بالخالق الذي ليست بحاجة الى اثبات، لذا تكون كل المتعالقات الطقوسية انما تفترض اولوية الحفاظ على النص الفكري الديني من تشويهات واكاذيب العلمانيين والملاحدة والكفرة، من التجديديين التنويريين.

4- ان اعمال العقل في نقد ومراجعة الزيف في النص الديني الذي بات مسلمات يقينية لا تقل عصمتها عن المقدس الالهي، لا يعني ضمنا، تجديدا في الوعي الديني المتخلف المتناسل زمنيا في توارث الضلالة، وفي بعض الاحيان يصل الايمان الخرافي المضلل ان ينسب لنفسه امكانية حتى تحقيق خرق قوانين الطبيعة باشبه بالمعجزات، بوجوب التسليم ان لا حرمة دينية في البحث عن حقائق الظواهر الدينية كما تدعو منهجية الغرباوي او غيره من المفكرين الاسلاميين.

5- لذا يكون لا حقيقة دينية فاعلة جديدة تاتي نتيجة نقد النص الديني، كما يمارس الغرباوي نقده العقلي في حقائق التدين المتوارثة، ومحاولاته وضع هذه الحقائق تجديدا بوجوب فهم الحقيقة الدينية بما يجمع ولا يفرق، ويبني لا يهدم، لاصطدام هذا التجديد كما ذكرنا في اكثر من موضع في هذه الدراسة، هيمنة سلطة التدين السياسي، وسلطة التخلف الاجتماعي والمعرفي والديني لدى المجموع.

6- ما يشتغل عليه الغرباوي هو السعي لبلوغ حقائق دينية في تغيير قناعات دينية خاطئة ليس على صعيد الفكر، بل وايضا على صعيد الممارسة الحياتية، وفي تاكيد هذه الحقيقة يقول الغرباوي (نامل ان تكون افكار هذا الكتاب اضافة حقيقية تساهم في فتح افاق رحبة لمعرفة مستنيرة تزعزع يقينيات العقل الدوغمائي، وتجريد رجل الدين من سطوته، ليستعيد الفرد وعيه ومكانته الحضارية) ص10.

7- ان المتراكم التديني المخطوء الموروث التداولي جيلا بعد جيل حول محاولة الابانة والكشف عن حقائق هذه الاشكاليات والقضايا الدينية، في تعرية الدخيل المتقاطع مع الدين كجوهر انساني ثابت، لا يتقبله التفسير الذي يتماشى مع تطور الحياة جماهيريا، التي يقوم تفكيرها الديني على يقينيات خادعة تقاطع نزعة التجديد خاصة في مجال التدين. وتصطدم حتما مع ايديولوجيات سياسية لا مصلحة لها بالتغييرالحداثي .

خلاصة

اشرت في مقالاتي الاربع المنشورة في المثقف، اني لم اتناول الجهد الفكري للاستاذ الغرباوي الذي يتضمنه كتابه (النص وسؤال الحقيقة) في محاولة نقدية تناقش تفاصيل مواضيع الكتاب النظرية، التي يقرنها هو في تطبيق ميداني لافكاره مأخوذ ليس من التاريخ المدون الموروث وحسب، وانما ربط جهده النقدي في محاججة الوضع المعاصر دينيا فكريا سياسيا. وان اطلاعه المتمكن في معالجة اشكاليات دينية تاريخية او معاصرة يختارها استشهادات لتنظيره الفكري، لا تجعل القاريء للنص يستطيع التعليق عليها باكثر مما هي تعرض نفسها في الكشف والتوضيح، واستدراج القاريء الى تفعيل النقد عنده، ومن المتعذر اعطاء كتاب فكري مميز في عرض مقالات لايتسنى لها تغطية العديد من مواضيعه .

من خلال متابعاتي لسلسلة اجوبة الغرباوي على اسئلة الاساتذة الكتاب على صفحات المثقف، خلصت بنتيجة مباشرة انه رغم كل الجهود الصعبة التي بذلها، والامكانات المتاحة له التي استخدمها بتدعيم حججه الاقناعية في هدف تحقيق اهدافه في نقد الحقيقة الدينية، يمكن ان نطلق عليها اقصى ما يستطيعه مفكر لا يمتلك غير فكره وقلمه وضميره ان يقول كلمته للتاريخ ويمضي غير منتظر ما تحققه من نتائج او لا تحققه فهي ليست من مهامه فهو لا يمتلك الهدف والوسيلة معا.

ان عدم سهولة مهمة نقد الفكر الديني واصلاحه من خلال نصوصه التي اخذت طابع اليقينيات المتوارثة في الغائها نقد العقل وفاعليته الواقعية التحديثية، في تصحيح تاريخ تديني اكتسب كل قطعياته التداولية عبر العصور بانه يمثل كامل الحقيقة الدينية التي تدعمه كامل القداسة الوهمية.

ان ازدواجية التنظير الفكري الديني الاصلاحي كنموذج مثالي لا صلة له بالتاثير الواقعي في كل محمولاته التصحيحية في توافق المادي مع الروحي، في عطالة او تعطيل تطبيق حتى الجزئي بعيدا عن الانحراف والفساد الذي اشار له الغرباوي في تداخل التبادل التوظيفي بين الدين والسياسة في نشر التجهيل الممنهج المدروس بعيدا عن فهم حقائق الامور، وفي تسييس الدين يكمن الخطر الاكبر في الغاء تحديث الحياة.

العقبة الثانية التي اشرنا لهاعلى انها مرتكز تغييب العقل النقدي الجمعي التديني، الذي يتغاضى عن اقصاء التدين السياسي لحياة التجديد وتلبية احتياجات الانسان الضرورية العصرية، بارجاع حسب توجيهات رجال الدين كل الاشياء ومسبباتها الى ابسط التاويلات التي تعفي العقل عن التفكير الصحيح بانها حادثة بقدرة الله ومشيئته وما على المتدين غير الصبر. وليس الى ظلم وجبروت السلطة السياسية في غبن حقوق الانسان. اشرنا مرات عديدة ان المتراكم المخطوء الذي تلبّس كيان الدين الصحيح، من قبل اناس لا تمتلك افكارهم واجتهاداتهم الدينية وفتاواهم اية عصمة لا توضع تلك الاجتهادات تحت مجهر المراجعة النقدية وابطال زيفها في خداع الناس.

انه من التبسيط المخل ان نتصور ان المتراكم المخطوء الذي يدور في تسييج الحقيقة الدينية، لا يمتلك ادوات مقاومة وبقاءه في وجه تيارات الاصلاح وتحديث الحياة. كما ان نص الفكر الديني المجتهد هو من صنع انسان لا يمتلك هو وافكاره اية معصومة قدسية تبطل مساءلته. ومررنا ايضا الى ان الانحراف الفكري ليس اعزلا من امتلاكه تنظيمات سياسية تدعمه ايديولوجيا وتضع كل امكاناتها الحزبية تحت تصرفه، كما ان المجتمع المعبا بايديولوجيا التجهيل الممنهج يستهدف اية بادرة اصلاحية بشعارات وممارسات قمعية باسم الوصاية على الدين والحفاظ عليه.

 

علي محمد اليوسف – باحث فلسفي / الموصل

 

 

تعريف وتقديم اولي: ان قراءة تفكيك النص الديني عند المفكر الغرباوي سواء في عرضه، او في محاولة توضيح منهجه التاريخي بوقائعه في التفكيك لاستخلاص نتائجه الحقيقية، اجدها شخصيا وربما لأني غيرمتابع متخصص في الامور الدينية وقضاياها المعقدة تاريخا موروثا او عصريا، حيث اصبحت مجتمعاتنا العربية والاسلامية تتقاذفها الاختلافات الدموية التصفوية جسديا في فهم الفكر الديني ليس على اساس محاورة ونقاش في رغبة التوصل الى حلول تلتقي بجوهر الدين في انسانيته وتعايشه مع الاخر، التي يلعب الاجتهاد المذهبي او الافتاء الشرعي الصادر عن رجال الدين كمسلمات دينية مجتمعية مذهبية لا تقاطع القوانين الوضعية وحسب، وانما التشريع والافتاء يكون ملزما العمل به حتى لو كان الغاءا لقوانين تنظيم الحياة المستمدة من الدستور الوضعي او مايعبّر عنه اختصارا قوانين فصل السلطات الثلاث المدنية، لا ان تحميها هي ومصدرها، كذلك الافتاء الديني والاجتهاد الذي يمارسه البعض كمسلمة دينية لا نقاش يطالها، مستمدة من قدسية الهية تمتلك العصمة من الخالق ان لا تكون خاطئة ولا وجوب نقدها او تخطئتها، حتى وان جاءت بالانابة القدسية الانسانية غير المرخصة ولا المؤهلة ان تتكلم باسم الدين كله، او اختصاره في جنبة خلافية مذهبية اجتهادية واحدة ترى حقيقة الدين فيها وحدها.

كنت طرحت سابقا ان الغرباوي يختلف بمسألة جوهرية لم يتأكد لي يسبقه غيره بها هو التطرق لها بهذا الاسلوب الذي لا يتناول مسائل الاصلاح الفكر الديني (المعاصر) بالدوران حول المشكلة المصيرية الهامة، أو عدم الجرأة في تفكيك الحقيقة الدينية وتعرية معصوميتها ان كانت حقيقية ام زائفة منتحلة مهما كانت درجة حساسيتها التي يتجنب العديدين الخوض بمشاكلها والاجتهاد بطرح حلول مجدية لها. تجدها في مرتكزات لا يخطأها القاريء لدى الغرباوي :

- المنهج الفكري النقدي التاريخي، هو الذي يحدده موضوع البحث وليس العكس، ولا سبق منهجي مذهبي عقائدي يحكم الموضوع او القضية وناقدها كما يحصل اغلب الاحيان وفي مختلف القضايا. او سبق منهجي فلسفي لا يستمد حيويته من موضعة اية اشكالية لمنهج التناول التاريخي بصدقية تثبيت وقائعها الحقيقية وشخوصها،لاعلى حساب ابراز القدرات الفكرية الاستشراقية الغربية للكاتب، ام تكون الغاية هي في تعرية زيفها وقدسيتها المنتحلة باسم الدين من منطلق الاخلاص للحقيقة الدينية، وليس هناك من وقائع تاريخية تراثية تستمد مشروعية الاخذ بها في تناولها الاسلوبي المذهبي او الفلسفي المعاصر الذي يملأ مكتبات لا نفع له سوى ان تكون مراجع منح شهادات جامعية او حوزات دينية او اقسام دينية جامعية تطبع وتصطف مع الاصل في كسب العيش والاعتياش على نص الدين، هذا النهج القاصر اصبح مصدرا مهما في عدم تناول الفكر الديني بالنقد البناء، كما اصبح سببا متعذرا تطبيقه في نقد ومراجعة تراثنا الذي يمتلك خصائصه التاريخية واللغوية وحيثيات بروزها الاجتماعية او الاقتصادية، من نقطة شروعه في اتباع اسلوب الانحياز المذهبي او التجريدي الفلسفي بنيويا ولا تفكيكيا ولا عدميا الخ.

المذهبية في المنهج او الفلسفة المستمدة استشراقيا ان تناقش وتبحث عن حلول دينية بوسائل فلسفية تجريدية يحكمها منطق اللغة وليس منطق اهمية حقائق تاريخية الموضوع كوقائع بما لا يزال يمتلكه من حيوية في تحريك الحاضر و في ترسيم مستقبل وجودي حياتي تعيشه الناس.، بات امرا لا فائدة منه.فاليوم لا نشكو قلة التاليف في قضايا الدين لكنا نشكو من انعدام التطبيق على الارض.

يستطيع اي قاريء احالة نفسه لاحصائية مئات المؤلفات من المفكرين المحدثين والمعاصرين الذين ورطّوا انفسهم وقراءهم معهم في مراجعة مؤلفات تراثية بمجلدات بمنطق الصح والخطأ المنحاز اجتهاديا، او كذلك في استعراضه تطويع وقائع التاريخ العربي الاسلامي بمنطق واسلوب التفلسف المعاصرالتي لا رابط لها مع قضايا تراثنا الديني او اللاديني.، وانا متقبّل اي قاريء لتلك المؤلفات ان يقول لي انها خدمت او تخدم واقعنا العربي الحضاري البائس باسم مراجعتنا تصحيح تراثنا وبعثه من جديد وغالبيتها حشو سردي لم يساهم في حل بعض اشكالياته كموروث.وتصفيف كلام متراكم بعضه يعيش على بعضه الاخر في مجلدات !!

علينا الان التنبيه ان خلل موروثنا الجامد المعاصر اليوم ليس مصدره وقائع التاريخ المتوارث الزائفة الكاذبة التي نقلها لنا الموروث التدويني. انما يكمن الخلل الاكبر في مناهج التوثيق والتدوين في مراجعة تلك الوقائع و تورخة الموروث على وفق مصالح وامزجة وغايات رخيصة حتى في منظور كتابة التاريخ، وانما يمتد بنا النقد في وجوب ازاحتها عن الطريق، كل المؤلفات التي جعلت من هرائها التراثي مهزلة بحجة تحصّل الشهادة الجامعية الذي لا يعرف حاملها المشكوك بتزويرها كتابة مقالة مقبولة في التاريخ.مكاتب ومئات الالوف من العناوين التي تعنى بنقد ومراجعة موروثنا الحضاري العربي الاسلامي لا تساوي ثمن الورق والحبر الذي كتبت به. وليس لها وقع تغيير قناعة خمسة قراء مضللين.

نفهم ان بناء امجاد تاريخية زائفة لسياسيين عرب ومسلمين هو عار، وامر مفروض بقوة سلطة الحكم الجائر وفساد الدولة بكل مفاصلها، لكني لا اجد مقبولية ان يكون تاريخنا المعاصر في اشكالياته هو لغاية بناء امجاد فكرية او فلسفية فارغة او غيرهما بذريعة كتابة مؤلفات تتبعها اطاريح جامعية ورقية توضع على رفوف المكتبات وعزوف واشمئزاز المثقف الجاد منها، اصنام لم يعد امرعبادتها او التسليم بها مقبولا، وبقاء تناسلها مرحبا به مسكوتا عنه لانه وسيلة ارتزاق مالي وخواء ثقافي. فهي بلا فائدة تفيد بناء تجديد او اقامة صرح حداثي، نتشدق في السير الحثيث من اجل تحقيقه.هذه الحقيقة تتجنب طرحها حتى النخب الثقافية او الفكرية وحتى بعض النخب السياسية المعتاشة على متناقض قطباه شخص دعي في كل اختصاص فارغ من جهة، وشعب لا يهمه من امر تراثه ولا حاضره الا توفير لقمة العيش لعائلته واطفاله.

مسخرة بطلها اسطورة ملابس عاهل الامبراطور الجديدة لا تبوح بها براءة صرخة طالب جامعي لئلا يلبسوه ثوب الجنون الجاهز قبل ان يبوس اللحى متعهدا ان لايعود لمثلها، ويتناسى الجميع من رعاع الاعتياش باسم الشهادة الجامعية الدينية او الحوزوية ولا اقصد الشيعية منها فقط، غباءهم ان الجميع عراة والامبراطور في ملابسه الانيقة. وليس المقصود هنا الملك الامبراطور الواحد كما في الاسطورة وانما كل شلّة الاعتياش الثقافي الاكاديمي باسم امتلاك شهادة لا قيمة لها اكثر من قيمة غباء حاملها، وان كانت تحمل رصيدا فهي مجموعة من المؤلفات المستنسخة مئات المرات عن الاصل الجامد غير المتغير الثابت في محافظته على الزيف. .

- يوجد فرق كبير بين مناقشة مسائل تراثية خاطئة لا فرق بها اليوم ان يحدث تصحيحها تاثيرا تحتاجه الحياة وانت تعيش ومحاط بحضارة القرن 21 بكل مشاكلها العصرية، مثلا ما أهمية تصحيح اخطاء بني امية ومعاوية في تصحيح واقعنا التاريخي الذي يقوم اليوم على المنازعة والاختلاف المذهبي الذي لا يتوقف بمجرد تصحيح خلاف او خلافات عمرها مئات السنين لا من اجل اللقاء في تصحيح الاوضاع بل من اجل ادامة الاحتراب المذهبي الى يوم القيامة او احتراب العلماني مع الديني السياسي الى اجل يريده الحاكم ويرفضه الخالق. ما تأثير مناقشة واقع حال تاريخي لم يعد مهما ان يكون فيه اليوم المعتزلة على حق والاشاعرة على باطل، في وقت مثلا تحضر فيه مسالة مناقشة اهمية توحيد المذاهب الاسلامية وجعلها على السكة الصحيح في اختلافاتهم المعاصرة وليس في اعادة قراءة تاريخهم الموروث في نزاعاتهم التي ورثناها من كتب التراث والتاريخ الذي كتبه مجهول النسب في صدقية التوثيق او التدوين ونواياه. هل في حل مثل هذا الاشكال تنحل قضايا اختلافاتنا المعاصرة؟ افضل واكثر قيمة واهمية لمستقبل اجيال من بعدنا؟، اكتفي بمثل مئات من مشاكل موروثنا التي تحفظها بطون الكتب سواء اكانت منحازة لهذا الطرف او ذاك لا يتوقف حلها على حل مشاكل تهم حاضرنا ومستقبل اجيالنا وينطبق عليها ان تاريخ الاموات يصنع تاريخ الاحياء. ما اهمية ان تكون افضلية منهج السلفية او منهج القومنة العروبية او منهج الماركسية،او منهج الاستشراق التي ملأت كتبهم ومؤلفاتهم مكتبات ربع الكرة الارضية وتتداولها اجيال من الطلبة والمثقفين وغيرهم ولم تسهم في حل اشكالية اختلافية واحدة على صعيد الواقع والتطبيق في حياتنا، اوتنقل الامة العربية خطوة واحدة الى امام.باسم قراءة التراث ونقده وتجديده.

- لنلاحظ فرق الطرح الغرباوي لقضيا اشكالية متصارعة هي ابنة وزمان تاريخيتها التي نعيشها بما يتوقف على حلها صراع اجيال في مستقبل حياتهم قوله، (تكيّف المجتمع مع ارادة الفقيه ورجال الدين عامة من الاسلاميين، وانصياعه لتعاليها، تكون الاخطر في علاقة الفرد بالفقيه، هي روحية الانقياد والتبعية التي اختزلت حرية المجتمع، واعادت تشكيل وعيه على الضد من قيم المجتمع المدني الذي نطمح اليه).- في تعقيب اراه مفيدا، هل ان مراجعتنا ونقدنا وقائع التاريخ القديمة الموروثة في سمات صراعية واختلافات لا نهاية لها، هي الطريق الوحيد امامنا لنقد فكرنا الديني المعاصر الذي نعيش اشكالياته الجديدة، وهل يكمن حل كل قضية خلافية في تراثنا القديم كفيلة ان تجعل كل خطوة في حاضرنا تسير على الطريق التحديثي التقدمي وتخدم مستقبل اجيالنا؟ ان الذي يسترشد طاعته عن الفقيه قوله ان هارون الرشيد الذي قتل احد اأمة الشيعة (ابو جعفر الصادق) او غيره يجب ان يكون سببا كافيا كما يجري اليوم في اختلافاتنا المذهبية على ابسط من هذه الامور التي تحرك الاحياء من قبورها في تاجيج خلافاتهم. وهل على حل مثل هذه الاشكاليات البسيطة، التي نترك التاريخ المنصف يقول كلمته بها وكفى وتكف ان تكون سببا نتطاحن من اجله مذهبيا اليوم . هذا غباء حضاري عندما يطلب نائبا بالبرلمان العراقي ازالة نصب الحرية من وسط العاصمة بغداد، وآخر يأمر اتباعه قص يد تمثال الشاعر ابي نؤاس التي تمسك بكاس الخمرة وآخر يريد قلع تمثال الشهيد من بغداد او تمثال ابو جعفر المنصور، او تمثال عبد الكريم قاسم، هذا تخلّف وغباء حضاري وليس تديّن يخدم وحدة العراق واجياله، ومسخرة ان يخلو تاريخ امة من الامم او الشعوب من الاخطاء القاتلة التي يعني عندنا الحفاظ على نظافة تاريخنا اليوم منها هي لانصاف تاريخ كتبت حوادثه قبل سبعة قرون اكثر او اقل لم ينصف المذهب الفلاني. ما مدى تخلف المانيا اليوم عندما تحتفظ بتمثال هتلر وتعتبره رمز مرحلة تاريخية انتهى تاثيرها على الاجيال الحاضرة الالمانية، ومثلها في وجود تمثال ستالين في جورجيا او موسكو مثلا، وامثلة بالمئات كلها تشيرعلى قذارة تاريخ تلك الامم وادعاءنا نظافة تاريخنا الذي يجب علينا استكمال نظافته في ازلة تمثال الرصافي او ابي جعفر المنصور من بغداد ونضع تمثال قرد بدلا عنها كي يقف تاريخنا العراقي على رجل من ذهب واخرى من فضة في ادعاءاتنا المسخرة.

- يقول تجديد الغرباوي: عندما يكون الفرد تابعا لفقيه الدين ورجاله الموكيلين انهم وحدهم يمتلكون حقيقة الدين .فان في هذا تصبح استحالة اصلاح الدين بادوات مرتهنة في جعلهم مرجعية وفتاوى الدين ثوابت لا يحق ولا يجوز للفرد الاخذ بغيرها او من غير مصدرها. ان في تحنيط الدين عند المجموع حين يكن بيد رجال الدين في كل المذاهب الاسلامية، وبهذا تتراجع هيبة القانون المدني والقوانين الاخرى المستمدة من الدستور الوضعي.كما تصبح مثل هذه القوانين لا اهمية واقعية تطبيقية لها، عندها يصبح الدين ووصاياه المستمدة مذهبيا او اجتهاديا بديلا عن قوانين تنظّم المجتمع والحياة .

- كما ان الغرباوي يشخص اخطر اسباب انحراف الدين في قصديته الايمانية، وبذلك يصعب علينا اصلاح الدين قوله: انه لم يكن للفقيه او رجل الدين ان يحقق مركزيته ويحتكر سلطته لولا تداخل الديني بالسياسي، التي تجعل من الاجتهادات ووجهات النظر الخاصة، لها فهمها الخاص للنصوص المقدسة وخدمة اغراضها السياسية .

- ويقول الغرباوي ايضا : ولكي نجعل من الاصلاح الديني اصطلاحا حقيقيا، ابن زمانه ومكانه، هو في كشف الزيف وكشف الحقيقة في محاكمة الافتاء الشرعي المتعدد المذاهب، والمتعدد ايضا بوجهات النظر المختلفة مذهبيا في وجهات النظر الانفرادية ودوافعها.

تنظيرات الاصلاح الديني وعقبات التغيير الواقعي

اشكالية منهج معالجة النص الديني الاسلامي يتوزعه تقاطع مرجعية و مركزية قطبين فقط، المقدس الالهي الثابت (القران والحديث المسند منه والسنة النبوية)، وبين نصوص الديني الدنيوي المدني الوضعي المتغيّر حسب مصالح الحكام السياسيين المهيمنين على تديّن المجموع المساق بهيستيريا العاطفة الدينية الخرافية. الفكر الديني والاجتهاد الفقهي المذهبي وانتحال الحديث والقصص الخرافية والفتاوى، في مجمل تفاصيل الحياة العربية الاسلامية التي يحكمها ويمنعها زيفها التدينّي من الوصول الى ادنى مراتب التحديث في حياة الناس.

وبقيت هذه الاشكالية تحكم الدين في قدسيته المتقاطعة مع الفكر التديني الزائف منذ وفاة النبي محمد، اشكالية مستحكمة بدايتها خلافات السقيفة، غير محسومة خاصة عندما فرضت هذه الاشكالية المتناقضة نفسها على الامة العربية الاسلامية طيلة الفي عام من بعد تاريخ ظهور الاسلام، وبالحاح شديد ضاغط على الحياة العربية المعاصرة منذ اكثر من قرنين في العمر التاريخي للامة العربية الاسلامية المعاصر. عندما اصبح تقاطع التراث الديني ضد المعاصرة العلمانية وتاثيراتهما على منع تقدم الحياة بما لا يطاق. في وجوب مراجعة ونقد النص الديني الزائف الطاريء على حقيقة الدين. لكني استدرك ان تاريخ مدوّن يحمل كل سلبياته التي ندينها بحجة وجوب اصلاحها، ولا يعطل تقدمنا الحضاري افضل من كتابة مجلدات تملأ مكتبات تمجد تراثنا بكل سماجة عاطفية، وتكون سببا في تردي احوالنا لاسباب سياسية تتباهى بمجد زائف كاذب ولا يهمها اعدام حياة الناس على الارض في دنياهم.لم يعد اليوم الغني يستغل الفقير في بشاعة غياب الضمير والتفاوت الطبقي، وانما الاهم من كل هذا الاستغلال هو اضطلاع الجامعات بتخريج مئات الالوف من الخريجين في علوم الانسانيات والتاريخ واختصات دينية وغيرها مختلفة ورميهم امام الحكومة يملاون الشوارع في ايجاد وظائف حكومية لهم.؟

ورغم غياب المعالجة الواقعية اليقينية العقلية القطعية الحضارية في حسم هذه الاشكالية الملازمة كظل ظلامي معرقل يغذّي وجود الامة المتخلف حضاريا، تشعبت عنه المذاهب و المناهج والاجتهادات التي رغم الجهود الجبارة الكبيرة في تنظير مفكرين ومصلحين بذلوا محاولاتهم في وضع حلول الاصلاح الديني موضع التفكير الاصلاحي وليس التطبيق التحديثي على وجوب حضوره واهميته في تحديث وتقدم حياة الناس، في هدف وضع رؤى التنظير الاصلاحي تطبيقا علاجيا على ارض الواقع لتغييره نحو الاحسن والافضل، وفي عدم تطابق اشكالية التنظير في تقاطعها مع اشكالية انعدام الاثر والتطبيق على الواقع، وجدت رؤى الاصلاح التنظيري نفسها مغيبّة تماما و غائبة طيلة قرون وعاجزة في ملامسة وتوظيف تنظيراتها الدينية اصلاح الواقع المعيشي العياني المتردي في تراجعه المستمر.،لانها تنقد وتراجع مجلدات من كتب التراث التي عفا عليها الزمن، في محاولتهم استغفال الناس ان في تصحيح تلك المجلدات من قبل العلامة او الفيلسوف الفلاني كفيل في جعل الامة العربية الاسلامية تنافس حضاريا كوريا الجنوبية او اليابان ونترك الصين من الاستشهاد لئلا نتهم بالترويج للبروليتاريا العالمية .

هنا اجد كم كانت عبارة ماركس في منتهى العبقرية والذكاء قوله متهكّما على الفلاسفة والمفكرين الذين يريدون تغيير واقع الشعوب بالافكار العزلاء عن مهمتها الحقيقية في واقع الحياة :( لقد عمد جميع الفلاسفة قبلي تفسير العالم فقط، في حين عملت على تغيير العالم وتبديل الحياة). ونفس هذا المنطق تبنته البراجماتية الواقعية العملية الامريكية حين نادت لا قيمة حقيقية للافكار مهما كانت مقنعة ومتسقة نظريا، مالم تحقق لنا منفعة بالحياة وتقدما في المسار التاريخي الحضاري.

واجهت اساليب الاصلاح الديني التنظيرية، اساليب وموجات العداء الاجتماعي المتخلّف، ضد اصلاح الفكر الديني الذي كانت تحمله النخبة المفكرة على اكتافها وهمومها الفكرية الثقافية التي تثقل كاهلها وحدها فقط، ولا يناصرهم سوى قلة قليلة من المثقفين والمتنورين، الذين كانوا منفردين يتلقون وحدهم نتائج افكارهم التجديدية في شتى انواع الاعتقالات والسجون والنفي والتعذيب والصاق التهم التكفيرية والشائنة بهم التي تثبط هممهم وتبعد الناس اتباعهم. وكل هذا الاحتراب نتيجة وهم ان التنظير الاصلاحي الديني الفكري سيحل مشكلاتنا على الارض. المفكر الحقيقي ليس ذاك الشخص الذي يرغب تبديل قناعة مفكر او مثقف مثله مهما كانت اهميتها يقدر حاجتنا الى مفكرين يجهدون في تغيير قناعات المجتمع الضال .

تمّثلت هذه المعضلة الاشكالية بحقيقة صادمة ان الفكر النخبوي التنظيري لوحده حتى على افتراض توفير حرية التعبير له وصواب وصحة منطلقاته، لا يمكنه تغيّير الواقع ولا اصلاح الامة في تدينّها الساذج السطحي الذي تسوقه عاطفة التدين الوهمي وليس عقلية واقع التدين النقدي، بل بقي الواقع الاجتماعي المتردي المنحدر باستمرار نحو الجمود والتخلف، يجعل الفكر التنظيري عاجزا وعقيما عن احداث التغيير وايقاف تراجع او حتى سبقه التراجع الاجتماعي الغارق بالتخلف الثقافي والسلوك القطيعي المذعن لتلبية المخطوء بالحياة، ولو بالفكر التنظيري الثقافي وحده، وتحشيد محاربة جهود الاصلاحيين، بما يماشي الواقع المتراجع باستمرار رغم كل جهود التنظير التحديثي له في الكتب والمؤلفات ومنح الالقاب والشهادات فقط.

لا اعتقد كقاريء ليس اكثر ان قرأت عن سابقة في نهضة الامم والشعوب، انها اكتفت نهضتها وقامت بمن كتب لها من الاختصاصيين مؤلفات ورقية نهضوية، من دون وضع كل نظرية او اجتهاد تحت مجهر التجربة العلمية والتطبيق على الارض وفي حياة الناس وفي التاكد جيدا من قراءات النتائج المطلوبة المتوخاة متحققة ام لا .ان الحقيقة التاريخية قبل وبعد الدينية اكدت ان الاصلاح الديني على امتداد التاريخ لم يكن يمتلك سيفا في نشر افكاره التجديدية الاصلاحية في اصطدامه بجدار التخلف الاجتماعي المستمسك بالقديم الخاطيء، بل كان يمتلك كلمة الحجّة والموعظة الحسنة الى جانب اعمال القانون المدني في تنفيذه الاصلاح بدلا من السيف. ماجعل برنارد شو يصرخ بعبارته الميكافيلية: الانبياء غير المسلحين يخفقون دوما. وتنبه دعاة التديّن الزائف في فرض الواقع المتخلف القديم المطلوب امام فكرة التجديد بالعودة الى سلاح السيف والعنف والرعب والذبح والتكفير وقتل النفس البشرية بدم بارد وروح شيطانية لا تمتلك الحد الادنى من الرحمة وحصل من الوحشية الدموية مايأنف التاريخ تدوينه، وتأبى الانسانية المعاصرة تسجيله وتذكير الناس بمآسيه، باسم فرض وصاية الدين على كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس في ابسط معانيها.

ما حصل لدينا في انفصالية و انفصامية الاجتهادات الاصلاحية الدينية الحقيقية، عن الواقع الميداني المجتمعي الحياتي المتخلف ومنظّريّه الذي ظل محتفظا بثباته الرجعي المتردي، ما جعل من التحديث النظري فكرا مدونا بالكتب متعالقا بالتضاد مع سلوك الحداثة في الحياة في انفصال واستقلالية كلا منهما، يشتغلان بالتضاد كلاّ على جنبة وحده ولا تربطهما علاقة جدلية في التاثير المتبادل في التغيير المستمر نحو الامام في قيادتهما الحياة الاجتماعية ومجمل تكويناتها المتخلفة في قبول وتقبل الصحيح التديني ليعقبه الصحيح في التقدم الحياتي كما هو شان غيرنا من الامم في تجاربها، التي وجدت ومنذ بداية القرن التاسع عشر، انه بعد الاصلاح الديني يجب ان يعقبه الاصلاح المدني في الديمقراطية، لا كما هو الحال عندنا انه لا تجديد يكتب له النجاح الا بعد مروره من تحت قنطرة المهيمن الديني ووصايته على ختم جواز مرور كل نزعة اصلاحية .

وجدنا ان الفكر التنظيري المتقدم تحديثيا على السائد المجتمعي في اشتمالاته ومحاولاته تغيير الواقع والحياة في عدد قليل من المتنورين، انه لا تاثير له مطلقا في تبديل الواقع المتردي الذي يستمد كل تخلفه من مسارات الحياة المادية والاجتماعية والثقافية العامة من فكر ديني يقاطع اي فكر تحديثي يستمد مقوماته من اختلالات الفكر الديني في النص الزائف المعادي لكل شيء ينطوي على علمانية حداثية ومتابعيه ومناصريه في مجتمع يمارس فهمه الدين طقوسيا ويستبعده ممارسة وفهم معاصر للحياة.. بل نجد العكس ان ظاهرة فهم الحداثة في مجتمعاتنا العربية مقلوبه معكوسة، فهي بدلا من قابليتها المفترضة الثورة على الواقع المتخلف و تغييره في اعتماده اصلاح التنظير الديني للواقع الحياتي المتخلف، نجد عوامل الاعاقة وتردي الاوضاع تخدم واقع التراجع وتغذّية التخلف في توظيفها مكامن الجمود العقائدي في الديني. بدءا من محاربة تحديث النظام التربوي والتعليمي في مجمل مراحله وصولا الى منع اشاعة فكر ثقافي تنويري يشكل حصيلة وعي ثقافي ديني متعايش مجتمعيا بكل تياراته الدينية، ويتقبل تبديل جميع نواحي التردي بالحياة. وكانت اسباب هذه الانفصامية بين التنظير الاصلاحي الاعزل في غير المؤلفات والكتب وافتقادها وسائل التغيير الواقعي الميداني اجتماعيا، تكمن وراءه عوامل سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية.يمكننا التدليل مثالا بسيطا عليها ان الوضع التربوي التعليمي الابتدائي ومراحله التدريسية وصولا الى التعليم العالي في الجامعات العراقية، كانت قبل اكثر من 70 سنه افضل مما هو عليه الحال اليوم في العراق تربويا ومناهج علمية حديثة واساليب وطرق تدريس، وقس على مثله في كل جوانب الحياة..ان من الثابت ان مصدر ضخ الفكر التديني التعصبي التكفيري الى اليوم يكون في بعضه يصدر من الكليات والجامعات التي يقوم عليها اساتذة ينعتون انفسهم والى اليوم حملة شهادات دكتوراه او بروفيسور يجاهر على تلاميذه وسط قاعات التدريس الجامعية بفكر ديني (ملائي) كما كنا نتلقاه قبل فتح مدارس التعليم الحكومية من قبل اوصياء الاستعمار القديم على مقدراتنا !!!، في هذا المثل لا يكون مرتع تنامي الفكر الديني الرجعي هو تدني مستوى قبول الوعي التحديثي في الوسط الاجتماعي وانما في وسط ما يطلق عليها وسائل تدريس العلم والتنوير وطرق ومضامين رجعية المواد التي يتلقاها التلميذ والطالب. ونتيجة ذلك لم يتبق كفاءة علمية واحدة الا وهاجرت وعادت تقدم خدماتها العلمية للبلد الذي يستحقها، وفي تركها تفشي الرجعية الدينية في الجامعات من حملة كتب التدين الذي يجعلنا نضحي بالدنيا في كل مرارتها وعذاباتها من اجل جنة موعودين بها في السماء.

هنا يتبادر الى الذهن عن مصدر تغذية التطور الحاصل في السلوك الاستهلاكي المجتمعي تقدميا لما يطلق عليه البعض حداثة من نوع استهلاكي بدءا من السيارة الى اخر تسريحة شعر، مصدّرة لنا امريكيا واوربيا ومن مختلف دول العالم التي تقايضنا تصديرها لنا هذه الصرعات التافهة في تقليد استهلاك كل ماهو هابط ولا قيمة حقيقية له تربطه بالحداثة العصرية التي تنقل الشعوب من وهدة سقوطها المتخلف. نشتريه بعملة صعبة توظفها الدول المصدرة في الكسب الاستغفالي وفي العائد المالي والتجاري لها، بما يبقينا على سذاجتنا الفكرية، باننا لسنا بحاجة الى بذل مجهود اصلاحي يأتينا على طبق جاهز بحكم اننا نعيش من حولنا في عالم متحضر يتوجب علينا تقليده استهلاكيا بمدفوع الثمن وشرائه، بما ينفعه لا بما ينفعنا اكثر من سلة المهملات. والى متى نستطيع شراء قشور الحضارة التي لانساهم بخلق ادنى صفحة منها؟؟ 

يتبع لاحقا ج4

 

الباحث الفلسفي علي محمد اليوسف /الموصل

 

الجابري كما قلت صاحب مشروع عربي نهضوي افنى عمره في الاشتغال عليه، وقال كلمته للتاريخ بضمير نقي وقلب نظيف، ولم يكن ناقدا ادبيا او ثقافيا مثل طرابيشي الذي لم يتحمّل اية مسؤولية فكرية نهضوية في معاداته الجابري كمفكر موسوعي وليس مشروع الجابري فقط، ولا بد لي مضطرا ان اعرض بعض السمات الفكرية لمشروع الجابري التي سبق وان ذكرتها في مقال نشرته لي المثقف بعنوان (نحن وسؤال الحداثة في الفكر العربي المعاصر، الغرباوي نموذجا) اعرضه هنا في تلخيص شديد بالتالي ارجو ان لا يكون مخّلا :

 مرتكزات مشروع الجابري الثلاث هي:

1- المراجعة النقدية الصارمة للمشروع العربي الذي بدأه جمال عبد الناصر بداية عقد الخمسينات من القرن20، وانتهى سياسيا في ثورات ماسمي بالربيع العربي 2011م الذي بعد التخلص من الدكتاتورية تم تسليم الحكم في البلدان العربية المحررة من الاستبداد الفردي الى منظمات الارهاب الاسلامي على طبق من ذهب، لتقوم بكل وحشية في تجميد الفكر الديني اكثر واذاقة الشعوب العربية من الظلم ما لم تره عين ولا سمعت به اذن التي تنفذت فيها قوى الظلام والتكفيرالارهابي ولا تزال في بعض الاقطار العربية تامل في اقامة دولة خرافة تقوم على جماحم الابرياء وسبي النساء، وترمل النساء وتشرد العوائل والايتام والكثير بما لايسعه المقال.

الجابري في العودة الى مراجعة ونقد تجارب ايديولوجيا المشروع العربي القومي الفاشل الذي بدأه عبد الناصر وقامت عليه القيامة ولم تقعد في التآمر الامريكي – الصهيوني عليه ومعهم غالبية الحكام العرب، لم يكن يتطلع الجابري الى نشر الغسيل المؤلم في التاريخ العربي ولم يتشفّ بتذكير العالم بنكسة المشروع العربي النهضوي في العام 1967، كما فعل معظم مفكري و ادباء ومثقفي وشعراء الشام سوريا ولبنان بلا استثناء، ان يلعب الجابري لعبتهم ويبني لشخصه امجادا زائفة كغيره، في التلاعب بمشاعر الناس وعواطفهم القومية في محاولة تعميق نقمة لاتجدي او تمجيد حقبة تاريخية مدانة في حكامها وسياسييها وليس في مبادئها واهدافها، وكان الجابري يرى اكثر مما لا يعدّون انه لا مشروع نهضوي حقيقي غير افتعالي ولا استهلاكي لا يقوم على نهضة الامة العربية الاسلامية في مجمل خصوصياتها ومميزاتها، الا بالتسليم بحقيقة تاريخ العرب المسلمين، انه كما كان فيه مكامن ضعف وعيوب كبيرة ومتعددة، كان هناك ولا يزال ايضا فيه تاريخيا وتراثيا مكامن قوّة ومخزون حضاري يصلح اعتماده في تحقيق نهضة عربية معاصرة.وان المشروع العربي الاستبدادي اذا ما انتهى كتجارب حكم فاشلة فهو لم ينته كطموح عربي شامل في وجوب تحقيق نهضة عربية رشيدة حتى ولو بعد اجيال من تاريخ نضوب النفط العربي وانتهاء التمايز والتفاوت المالي بين اقطار عربية متخمة واخرى تتضور جوعا، ولا بد ان يعود العرب الى تحقيق نهضة تقدمية تجمعهم بحكم التاريخ اكثر من فرض تنفيذ رغبة او عدم رغبة الحكام العرب في مستقبلهم المنظور او غير المنظور، فلا يشهد تاريخ شعوب العالم موت تطلعات امة تريد العيش بكرامة ان دفنت احلامها، بدفن بعض قادتها ممن لم يحسنوا قيادة امتهم واضاعوا عليها فرص اقامة نهضة حداثية خاصة بهم .

1- دعوة الجابري في مشروعه النهضوي العودة الى التراث العربي تحدوه غاية وهدف انصافه لا زيادة تجريحه واماتته لما يحتويه من ذخائرحيّة فيه لم تمت بعد ولن تموت لان هذه المميزات تمثل الوجود المادي للامة قبل الوجود المعنوي الحضاري لها، وقال الجابري في احد عباراته الشهيرة ما معناه :علينا ان نكون اصحاب تراث نملكه و نقوده نحن ونعدّل به ونضيف له، وان لا نكون كائنات تراثية يسحبها الدين وراءه تابعين في تمجيده والسير خلفه كعبيد . اراد الجابري تأكيد ان الامة العربية تمتلك ارثا حضاريا واسعا جدا، ولا يمكن ان تفقد ثقتها بنفسها، وليس الاسلام عماد ذلك التراث الغني وحده، بل تصل جذوره الى حضارة وادي الرافدين في العراق، وفي مصر الفرعونية وحضارة سبأ في اليمن ودلمون في البحرين. ونحن مع كل هذا وكما يذهب له الغرباوي لاننقد الدين بما هو مجرد تكوين اصيل في تشكيل الوجود العربي، لكننا نركز اهتمامنا بنقد وتخليص الاسلام مما الحق به بعض المنحرفين من عنف وهمجية وتدمير هي ليست من صنع فكر النص الديني المقدس، وانما هي من تراكمات الانحرافات الموروثة المتجذرة في العقلية والسلوك الفكري الديني المنحرف، ومثلها في الاجتهادات المتزمتة التي عفا عليها الزمن وحان وقت تنظيف الجسم الاسلامي منها.

2- دعا الجابري في مشروعه النهضوي الاستفادة من مناهج الحداثة الفلسفية الغربية المعاصرة، و كيف استطاعت اوربا الخروج من ظلمات القرون الوسطى، لكن دونما اهمال الحذر ان لنا خصوصيات كأمة عربية اسلامية، ربما يجهلها الغربيون او يتجاهلون عنها، وفي خير تحذير طبقه الجابري على نفسه قبل غيره هو رفضه البنيوية ان تكون منهجا فلسفيا ومعرفيا مسعفا وملائما لنا في مراجعة ونقد تراثنا، وبقي امينا حريصا في كل مؤلفته على الاصالة العربية الاسلامية كجوهر لا يندثر ولا يموت في ضمير ووجدان العرب يتوحب عليهم وحدهم ايجاد حلول مشاكلهم الكبيرة التي تعيق وجودهم العصري الحضاري.

جورج طرابيشي ونقد النقد

ارى ان مصطلح نقد النقد في كل مجالات الادب والمعارف هو وسيلة ارتزاق ثقافي لمن لايمتلك شيئا جديدا يغني اصل النص المنقود برؤى تضيف له تخليقا ابداعيا يثريه. فنقد النقد ليس تفنيدا سلبيا لمقولات نصّية بحيث لا يجشم الناقد نفسه اكثر من تسجيل هوامش سطحية في تخطئة بعض فقرات النص الاصل وسحب سلبيتها التلفيقية على الكل.واجد في نقد النقد المتطّفل المتسوّل على من كتب وقال الكثير مثل المفكر الجابري، وهذا مدخل ينطبق على جورج طرابيشي الذي لا يمتلك شيئا غير النقد الادبي، وسوى اعادة قراءة الجابري ومؤلفاته من مصطلح نقد النقد في بناء امجاد فكرية زائفة لم يفلح النقد الادبي تحقيقها له.، وهو غائب في محل اقامته بباريس متناسيا هموم سوريا ولبنان ولا نقول هموم الوطن العربي الذي ربما كان تمذهبه الديني المسيحي يجعله خارج الانتماء الوطني العروبي بعكس الملايين من المسيحيين الشاميين وغيرهم من الذين وجدوا وطنيتهم العربية الحقيقية في تعايشهم مع جميع اديان وطوائف الوطن العربي معتبرين انفسهم اصحاب وطن لهم ماعليه وله ماعليهم سواء مع المسلمين او الدروز او غيرهم.

على كل حال ماقام به طرابيشي في التطفل الكتابي على مؤلفات الجابري يدخل في باب الاعتياش السلبي على مؤلفات وكتابات الجابري تعليقا وتجريحا في استعراضه قوة ليس في وقتها ولا في مكنها ولا حتى في ادنى اهدافها الوطنية، وليس لديه اي اضافة فكرية تحسب له في باب النقد على النقد، اوالتجديد وتقديم الافضل في نقده مؤلفات الجابري في نقد النقد. وفي مثال كتاب طرابيشي (نقد نقد العقل العربي) جال وصال طرابيشي في استعراضه عضلات النقد الاعتياشي التسوّلي في محاولته تهديم المشروع النهضوي العربي الذي وضعه الجابري في مؤلف واحد من سلسلة مؤلفاته تجاوزت خمسين مؤلفا هو (نقد العقل العربي) تناولت جميعها محورا مركزيا غاية في الحيوية هو مراجعة مسؤولة وثقافة بحثية موسوعية يعود الفضل لمن ابتكرها وقدمها في مجلدات في التاليف هو الجابري وليس كتّاب هوامش نقد النقد.

 ان الذي يضع على النقد نقدا اولى به ان يعطي البدائل التي تفتح امام القاريء افاقا او رؤى اهملها المؤلف صاحب النص المنقود وليس صاحب النص الهامشي لناقد نقد الاصل النصّي، ولا يهدينا غير معاول الهدم لكل بنيان مهما كان كبيرا او حتى متواضعا يضعه المفكرون العرب للخروج من حجرهم الحضاري الغربي الاستشراقي عليهم، و في محاولة الافادة من اخطائهم وبناء مرتكزات نهضوية لهم.

ادعو كل مثقف عربي اطلع على خرابات معاول الهدم الطرابيشية في مؤلفاته النقدية وكتابته هوامش استهدافه مشروع الجابري العربي النهضوي، وتسخير كل امكانات داعميه من دار نشر الساقي الى الداعمين خلف الستار في تجييشهم كل الامكانات المتاحة لديهم في النيل من الجابري كمفكر ولمشروعه العربي النهضوي، كمشروع تحديث عقلاني متزن بطروحاته التي أجمل الجابري في بحوثه ومؤلفاته ومقالاته وندواته كل مناحي التردي في الحياة العربية، مع اعطاء بدائل حلول للمشاكل التي يطرحها.الجابري في مجموع انجازاته الفكرية الموسوعية والفلسفية كان صاحب رسالة تاريخية اراد توصيلها بكل مسؤولية ونظافة ضمير لكل عربي على الارض العربية، الجابري لم يكن مثل غيره يتفلسف على لا شيء في محاولة استعراض سعة فكره والمامه بالتاريخ العربي ودقائق الفلسفة العربية الاسلامية.

من يقرأ مؤلفات طرابيشي في ممارسته التهديمية نقد النقد في استهدافه تقويض وتشويه ما اراد الجابري اقامته وتشييده، يجد ان مرجعية منهج الهجوم على منجز الجابري يغتذي من خلفية استشراقية تبناها والى اليوم من المفكرين العرب غير المسلمين العديدين، في دأبهم الذي لا يكل ولا يمل من تأجيجهم عقدة النقص التي تلازمهم انهم اقليات دينية مهمّشة، مظلومة وينبري من بينهم المتشّفين في انتكاسات العرب التي سببها نعرة اسيادهم المستعمرين من الفرنسيين والانكليز واخيرا الامريكان واسرائيل، الذين يجعلوهم يضعون قدما على الارض العربية، واخرى في بلاد المهجر الوطن الام وخدمة مراميه واهدافه الخبيثة المريبة بكل راحة ضمير وانتساب يقوم على دعارة الفكر والجسد.

ان ابسط مقارنة بين الرجلين الجابري وطرابيشي، وان كنت اراها مجحفة بحق الجابري تظهر مدى قوة وايمان وصبر الجابري في عدم الرد على جورج طرابيشي في ممارسته نقد النقد الاستفزازي له شخصيا كمفكر، نقد تجريحي تهكمي غير منصف بحق مفكر لم يستجد الاقامة السياحية لافي فرنسا ولا في اي بلد عرضت عليه استقباله بتكريم، ورفض كل الجوائز المالية من البلدان العربية وغير العربية وعاش الرجل الفيلسوف ومات ودفن في بلده المغرب العربي، ليكون بذلك من قلة من المفكرين العرب الذين تطابقت حياتهم مع افكارهم في ضمائرهم وفي سلوكهم المشرّف الممتليء عزة نفس وكرامة، ليس كما فعل جورج هو وامثاله من عرب الكدية والتسوّل في مسح اكتاف من يذكرهم عند ولي نعمة يكرمهم بزاد المهانة، وسلخ معظمهم اكثر من ربع قرن من اعمارهم مغتربين بعيدين يسمعون اخبار وكوارث بلدانهم كغيرهم من الاجانب. وينظّرون من اجل انقاذهم من مرابع الحضارة الاوربية.

بين اركون والغرباوي

كنت اشرت في مقالة لي على صحيفة المثقف، ان المفكرين محمد اركون وماجد الغراوي يلتقيان في معالجتهما اشكالية الفكر الديني الاسلامي وتعالقه المعيق المعرقل لحداثة عربية منشودة، وان الاصلاح الديني يعتبر المرتكز والمحور الاساس، في اقامة نهضة عربية اسلامية مستدامة ارادها الغرباوي كما سلفه الجابري عربية اليد واللسان.

لا شك ان الاصلاح الديني كان الشغل الشاغل لرواد مفكري عصر النهضة العربية منذ القرن التاسع عشر، في التزامن مع الانبعاث العروبي القومي للتخلص من هيمنة الاستعمار الكولونيالي الغاشم وقبله الهيمنة العثمانية التركية على حكم الوطن العربي والنزاع بينهما للسيطرة على ثرواته.من هؤلاء المفكرين الاصلاحيين نذكر : (الافغاني، الطهطاوي، محمد عبدة، علي عبد الرازق، رشيد رضا وغيرهم من مفكري مصر لوحدها) يشاركهم مفكري المغرب والمشرق العربيين بما لايمكن حصر اعدادهم من القدماء والمحدثين المعاصرين.

اركون كمفكر معاصر وضع اصبعه على الجرح القديم الجديد في وجوب اعطاء الاصلاح الديني الاولوية في وضع نقطة ارتكاز انطلاقة نهضة عربية حضارية واسلامية في الوطن العربي. واشتغل بخلاف الجابري على اهمية (نقد العقل الاسلامي) وليس العربي، في تحقيق انبعاث نهضوي. وبحكم الاقامة الدائمية لاركون في باريس على العكس من الجابري طرح اركون مبتدأه في الاصلاح الديني كما فعلت اوربا في سلسلة ومراحل بناء نهضتها بداية القرن الثامن عشر لتحصد اولى ثمار نهضتها في القرن التاسع عشر بفصل وصاية الكنيسة الكاثوليكية عن التدخل في الحكم والعلم وشؤون الحياة المجتمعية للناس. بمعنى ادق ان اركون اراد تطبيق التفكير الاستشراقي الاوربي وتحديدا الايطالي في ارهاصات النزعة الانسانية التي انطلقت منها في القرن الرابع عشر قبل انتقالها الى فرنسا ومن ثم دول اوربا قاطبة. وكذلك منهج الاستشراق الفرنسي ايضا كمنهج دلالي تاريخي متدرج مرت به انطلاقة الحضارة الاوربية في الثورة الفرنسية 1789م. في محاولة اركون معالجة اشكالية الفكر التراثي الديني عندنا وتقاطعه في كل شيء تقريبا مع معطيات العصر والحضارة العالمية.

في هذا التمّفصل طرح الغرباوي مشروعه في نقده الفكر الديني واصلاحه كمحور ارتكاز في تحقيق انطلاقة تحديثية لكنه باختلاف ان المنهج الاستشراقي لا يقود الى اصلاح فكري ديني عربي مشبّع باشكاليات تدفن معها منهج الاستشراق والهدف الفلسفي منه في مقبرة المحاذير العدائية الاجتماعية والفكرية المتجذرة عند العرب نتيجة مممارسات الاستعمار القديم بحقوق شعوبهم الانسانية المشروعة. ومن جهة اخرى ان شعار علمنة الحياة العربية برمتها سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، ليست من السهولة مقارنتها مع علمانية الغرب التي حققتها فرنسا منذ عام 1905م. لذا وجد الغرباوي نفسه وكذلك مؤهلاته الفكرية الدينية التخصصية بحثيا واكاديميا اقرب الى اتباع منهج يقوم على (اهل مكة ادرى بشعابها) في نبذه المنهج الاستشراقي في تنفيذ نقده الفكري، وفي تحاشيه اللقاء غير المجدي مع مشروع الجابري القومي العربي الذي تمليه على الغرباوي مشروع الاسلامية الحضارية من خلال اصلاح الفكر الديني اولا وقبل كل شيء. بعيدا عن كل من نزعتي القومنة العروبية ونزعة التمذهب الديني السياسي.

 من الحقائق التي ارساها اركون بوضوح ان بداية النهضة العربية تنطلق من انجاز مهمة الاصلاح الديني، كانت موفقة في تشخيصه الداء ولم يوفق في ايجاد منهجا سليما يحقق به غرضه. هذه فرادة فكرية تحسب لاركون لكنه اعدم هدفه الحضاري النهضوي في تمسّكه بمنهج ومصطلحات الفلسفة الفرنسية في البنيوية والتفكيكية في محاولته الباسها مشكلات الوطن العربية بهدف معالجتها. بل اركون كان مخلصا ومقتنعا ضرورة مرور الامة العربية بنفس المسار التاريخي المتدرج الذي مرت به اوربا وحققت بالتالي نهضتها الحضارية بداية القرن19. وهو ما افاد الغرباوي منه كثيرا في تقاطعه مع اركون في هذه النقطة تحديدا.

 الغرباوي وتفكيك النص

على العكس من متبنيات عديد من المفكرين العرب المعاصرين الذين يتلقفون منتجات الفلسفة الاوربية في معالجة النص العربي عموما فلسفيا، وتحديدا في تكريسهم ما يطلقون عليه اشكالية اصل النص في تكريس البنيوية له كسلطة ومرجعية لا قيمة لها من بعدها لأية مرجعية انسانية او ميتافيزيقية او تاريخية وغيرها، بخلاف ذلك جاءت تفكيكية دريدا مصادرة ان اصل النص الذي عماده (اللغة) لا يمتلك اية مرجعية تجعله مصدرا في محاكمة الافكار الفلسفية والجدوى المعرفية منها.

عمد الغرباوي كي لا تكون منهجيته في تفكيك النص الدينية نتيجته الخروج كما في التفكيكية عن اية حالة ثبات مرجعية يتطلبها البحث في تكريس منطلقات فكرية جديدة واجب اعتمادها. لذا اعلنها صريحة: (اني لست مع التفكيك – يقصد في مفهومه الفلسفي- غير اني اسعى لاقصى ممكنات الغوص في اعماق الظواهر الاجتماعية والدينية لا دراك الحقيقة، وتقديم قراءة موضوعية تناى عن المراكمة فوق ركام الخراب المعرفي ودوامة التخلف) ص10 من كتابه.

المتابع لكتابات الغرباوي يجد ان فهمه لتفكيك النص الديني لا تقوم عنده على التزام فلسفي سوى دأبه المتواصل وتنقيباته الحفرية في بطون التراث الاسلامي لوصول هدف حقيقة الاشياء والحوادث التاريخية، لا كما حدث ووصلنا تاريخيا مدرسيا تراثنا العربي الاسلامي خاليا غالبيته من كل صدقية يحكمها العقل النقدي التاريخي، وكذلك نقد الفكر الديني الحصيف، ولا من حيث كان يتوجب ان تكون معظم مواريثنا الحضارية في مسارها الصحيح وتجنيبها المجتمعات الاسلامية تبعات الاخطاء المتراكمة المبنية على وقائع زائفة كلفتنا دماءا وكوارث لم تكن لتحدث لو كانت الشخصيات المسؤولة عنها تاريخيا التزمت حقيقة الدين وليس شهوات الحكم والسلطة، وتغليبها امور دنياها على موعود دينها.

الوجه الّآخر الذي ابتغاه الغرباوي في نقده النص الفكري الديني وتفكيكه ليس في الوصول الى فائض قناعات اخرى بديلة تمتلك مصداقية قبولها العقلاني والمنطقي حاضرا بما يلغي اصل النص بالتعبير الفلسفي، وانما كان اهتمام الغرباوي منصبا لاعادة حضور جوهر النص الديني في قدسية بكارته من التحريف، قبل تدنيسه وتشويهه بالاكاذيب والدسائس والحيل التي جعلت من اصل النص مدفونا بالحياة قبل الممات مجردا من كل فاعلية او حضور ديني مجتمعي اخلاقي .اراد الغرباوي اعادة حرمة وقدسية النص الديني المستمدة من وحي النبوة المؤمن بها، الى حضوره الفاعل في الحياة العربية الاسلامية التي تفهم التدين اليوم اسلاميا قائما بالاسم، ومغيّبا غائبا في التجنّي عليه في ممارسة العنف والقتل والذبح والسبي والهمجية التي تغذي الاختلالات العقيدية والدينية والاخلاقية التي تسوس و تسود مجتمع قطيعي لا يفهم من الحياة اكثرمن مفردتي جنة ونار.

الغرباوي لم يقم بتفكيك النص الديني من اجل تحقيق غايات فكرية فلسفية تضاف الى اصل النص، وتكون قراءة جديدة تضيف هوامش عليه لا في رغبة محاولة تفكيك النص من اجل كشف اللامعلن المستور فيه، كما ان اختلاف تفكيك النص عنده، في التزامه حكمية النص الديني عليه دون النص الادبي ولا الايديولجي او الفلسفي لا تماهيه رغبة اعدام النص الاصل كما في فلسفة التفكيك. بل يعمد تفكيك الغرباوي للنص الديني ليس كتابة هوامش نقدية له ولا في محاولة اغتيال اصل النص كما في الفلسفىة في تعطيل مرجعيته الفكرية التداولية، بل في محاولة تثبيت اصالة النص الديني المقدس بيقينيات عقلانية نظيفة، وليس محاولة تفكيك النص فلسفيا بغية تضييعه في تضاعيف الالغاءات المتتالية عليه.

ان مشكلة الغرباوي مع الفلسفة في التفكيك ان النص الادبي او الفلسفي او المعرفي يتقبل القراءات الصعبة اللغوية التجريدية التفكيكية التي تتربص به في تعطيل فاعليته التداولية كمرجعية وثوقية ثابتة. بينما يكون تفكيك النص الديني لا يلتقي مع هذا النهج من الالغاء الفلسفي، لان الناقد هنا تحجّمه قدسية النص الديني موضوع البحث امامه، بانه نص غير وضعي يطاوع الالغاءات المستهدفته.

هنا التفكيك في مفهومه العابر للتفلسف تنحصر كل محولاته ومجهوداته في الوصول الى قراءة جديدة للنص له بعد تخليصه وتشذيبه من جميع المراكمات التي استهدفته بالتغييب ليس اللغوي كما في الفلسفة، بل بتغييب وعطالة دوره في الفهم العقلاني الصحيح غير المّحرف له، في فهم المسيرة التاريخية الدينية في حقائقها المغيّبة.

مشكلة النص الديني الذي يتأبى على التفكيك الفلسفي تتأصل مرجعيته التي يرفضها التفكيك اللغوي، من طبيعة النص الديني المضمونية كمقدس ديني وليس في مشكلته الشكلانية اللغوية فيه، النص الديني قدسيته المستمدة من معصومية القران لغة ومضمونا تحديدا، لا يمكن ان يطاله التفكيك بالتغيير او التلاعب به لغويا ولا مضمونيا، بل يطاله التفكيك بمعنى حاجته الى التحرر من سجن الخرافات والاوهام والانحرافات التي طرأت عليه باسم الحفاظ عليه.ولا اعتقد هذه الحقيقة البحثية غابت عن تفكير الغرباوي وفهمه لمعنى واختلاف التفكيك في النص الديني عنه في النص الادبي او اوالفلسفي السردي.

استطيع الجزم ان تطبيق هذا المفهوم البجثي الفكري عند الغرباوي حاضرا، انه ليس سهلا نقد النص الفكري الديني من دون استحضار حذر مبدئي ان هذا النص يمتلك خصوصية او اكثر، فهو يمتلك (قدسية) الهية لا يمكن للباحث الاقتراب من النيل منها، لكن الاهم هو ان النص الديني استقطب يمرور الوقت وتوالي العصور، تراكمات من الخرافة والتشويه والانحراف الايديولوجي القصدي، في تداول المخطوء الدخيل عبر عصور التحقيب الزمني الطويلة في مرافقة اصل النص الديني الصحيح مع التنامي الذي اصبح تنامي هذا المتراكم الطاريء المضلل يخلع على نفسه يقينيات كاذبة على انه اصل ومرجعية النص الديني الواجب تقديم الطاعة العمياء له في تغييب وتناسي استحضار واحياء حراك النص القدسي الحقيقي في تصحيح المسار التاريخي المخطوء. ببسيط العبارة لم يعالج الغرباوي فكر النص الديني من منطلقات فلسفية تفرض نفسها على النص وهو في عدم حاجته لها لا شكلانيا نقديا ولا مضمونا فلسفيا كموضوع.بقدر حاجة الغرباوي كباحث نفض جميع المتراكمات الزائفة المغيبّة لاصالة النص الديني.

تجديد الفكر الديني لدى الغرباوي، ليست غايته خلق تنظير نسقي فكري ديني متجدد، لا يعتبر اصل النص الحقيقي وقدسيته مرتكزا محوريا وحيدا في ايجاد تفكير ديني محايث العصر والحداثة، ولا علاقة لهذا الفكر غير دوره في تحرير المنطلقات الفكرية القدسية الاصيلة من راهنية الحجر عليها بالزائف والخرافي والايديولوجي.

ان الاتيان بفكر تجديدي ديني يتحاشى المساس اصل النص المقدس، وانما التجديد كان عند الغرباوي التجديد في استهداف موروثات التداول الانسي الذي اتخذ صفة المقدس، لابل احيانا اخذ يزاحم التنزيل النصي المعصوم، وعن هذه الحقيقة يقول الغرباوي ص 16.

(لا يمكن اهمال مصدر النص عندما يؤسس لأي سلطة سياسية او دينية او اجتماعية او معرفية، لانه هو المعنى حقيقة لتحديد مستواها، فيكون جزءا من النص، وليس خارجا عنه، اي يجب قراءة النص بما انه كلام الله او قول النبي ليستمد منها حقيقته وسلطته. كما بالنسبة لرواية الخلافة في قريش او الامامة في قريش. التي غيرت مجرى الحداث يوم السقيفة، فما كان لها ان تؤثر كل هذا التاثير لولا نسبتها للرسول، لذا قلبت موازين القوى باعتبار قدسية النبي ووجوب طاعته قرآنيا).

والتاكيد الاهم في ذلك على لسان الغرباوي: (ان سلطة النص المؤسسة تتوقف على مصدرها ومدى صلاحيتة الوثوقية وقدسية ووجوب طاعته). ص17

اكتفي بهذا القدر على امل تناوله في مقال لاحق.

 

علي محمد اليوسف – باحث فلسفي / الموصل

 

 

تلخيص وتعريف اولي: كتاب المفكر الاسلامي ماجد الغرباوي (النص وسؤال الحقيقة / نقد مرجعيات التفكير الديني) هو من سلسلة كتب المرحلة العربية الضاغطة على حياتنا المعاصرة في وجوب استنطاق النص الديني من اجل الوصول الى الحقيقة المغيّبة وراءه في مراكمة التخلف عبر العصور والتاريخ، ومن قراءتي غير التخصصية الدينية في قضايا الفكر الديني الاسلامي مضمون الكتاب، استوحيت الملاحظات التوضيحية التي ارجو ان اكون موفقا بها، وابدأها بالتالي:

1- لا اعتقد اكون مصادرا متسرعا أن لا اشير الى جهد الكاتب المميز، ان الكتاب هو واحد من سلسلة مؤلفات بدأها الغرباوي في تأسيسه مشروعا منهجيا نهضويا عربيا اسلاميا نقديا جريئا، يفرضه واقع الامة العربية والاسلامية المتراجع باستمرار. ويبتعد المؤلف في نسبة كل تلفيق وهمي يبّرز تاريخنا الموروث والديني تحديدا انه نموذجيا في معالجته كل مشاكلنا المعاصرة في الحياة. وكذلك في دأب غالبية كتابنا الاسلاميين في اعادة وتكرار سرديات التاريخ التراثية في نقد الفكر الديني الذي اعتاد ملامسة قشرة الاختلالات الواقعية التاريخية فيه، بعيدا عن تسمية الاشياء بمسمياتها الحقيقية، وطرح الاشكاليات التناقضية فيها على بساط المناقشة الجادة في تعرية الاكاذيب وابراز حقائق الامور المغيّبة.

كما استبعد- الغرباوي في كتابه - الشد والجذب المذهبي الطائفي المتوارث المتجّذر في عمق الخلافات الطائفية اليوم، في نقده الفكر الديني وقضاياه، لا بما يتوخاه غيره ويسعى له من المؤلفين الاسلاميين الايديولوجيين في تأجيج صراع الاجيال المذهبي الديني والطائفي وتعميقه اكثر، والذي بات معه التعطيل المذهبي للحراك الديني المطلوب خارج التطرف المذهبي، مغيّبا في صرف النص عن مهمته حراكه التجديدي الى امام، ومنذ زمن ليس بالقصير يأخذ هذا المنحى التصادمي صفة الانفرادية القسرية التي تحاول فرض هيمنتها السلطوية او الايديولوجية في احتكارها الدين والفكر الديني بها ولها من جانب المذهب الاسلامي الواحد، الذي يصادر اصل النص الديني في جوهره و براءته الموحى به تنزيلا مقدسا، في رفض كل قراءة نقدية مغايرة تجديدية للنص الديني، وفي تغييب اجلاء عصمتة المذهبية الوحيدة الروحية المستمدة من احتكار اصالة الايمان السماوي، وتمذهبه المتزمت في المذهب الواحد أوفي فئة ممن يطلقون على انفسهم الفرقة الناجية في تكفير اجماع المسلمين المدينين لضلالهم، وفي اغتيالهم هذه الاجماعية الايمانية الطبيعية البعيدة عن الكراهية والعنف، المترعة بحقيقة ارتباط العابد بالخالق بعلاقة روحانية متفردة في قيمتها الدينية، فقاموا بالتحريف العمد والانحراف المقصود، في نزع أصالة هذه الحقيقة الايمانية من عصمتها الالهية واستبدالها بفكر ديني بديل وتفكير ايديولوجي سياسي متخلف مخادع كاذب محتواه وقوامه المغالطات في ازاحة اصل النص الديني الموحى به واضاعتهم قداسته خلف حجب المتراكم من الاكاذيب و الخرافات والاجتهادات الفقهية الدخيلة، والتعصّب الاعمى في الاختلافات السائدة في تحريف الفكر الديني سياسيا، وتبني العنف واقصاء المسلمين من غير المذاهب في مصادر الحقيقة الدينية لحسابه وحده دون غيره، وتكفير غير المسلمين ومنع حقهم بالمشاركة في وطنهم . ومنع مهمة الاسلام المتعدد المذاهب من التعايش الديني مع الاخر، والاسهام المشترك في تحديث الحياة العربية الاسلامية. كل هذا وغيره وراءه دوافع ايديولوجية سياسية جعلت من النص الديني سلعة تباع وتشترى في اسواق ومزادات التخلف والتجهيل العام، وفي جعل هذا المتداول الفكري الديني الخرافي المتخلف العابر لانسانية جوهر وصدقية الدين في انسانيته ونقائه، المصدر الغالب والمعتمد في تعميم هذا التفكير الديني الضال والمضلل ايديولوجيا سياسيا في لجمه اية محاولة مراجعة ونقد وتصويب له تقتضيه الحياة العصرية بما يجعل من التديّن يماشي روح الحداثة ويبعث التجديد المتحضر في مناحي اجتهاداته التكفيرية العقيمة .

2- ان سلسلة المفكرين العرب والاسلاميين من الذين تنبهوا اهمية معالجة انحرافات الفكر الديني الايديولوجي وتكبيله ومنعه لأي تقدم في الحياة العربية الاسلامية، كانت بداياتهم مع مفكري بداية القرن التاسع عشر، مع العشرات من مفكري مصر القدامى والمحدثين، وغيرهم على امتداد الوطن العربي بما لايمكن حصرهم، ومن مفكري المغرب العربي خير الدين التونسي، ومحمد عابد الجابري، والجزائري محمد اركون، وعشرات آخرين ولن يكون مشروع الغرباوي آخرهم او الوحيد مع مفكري العراق وبلاد الشام، من الذين وجدوا ان تحقيق نهضة الامة مبتداها ومنتهاها يكمن بتحقيق معالجة اعاقة الفكر الديني الوضعي الرجعي واصلاحه امام تغييبه انطلاقة نهضوية علمية حضارية تنشدها الامة العربية الاسلامية. وفي هذا المنهج نجد الغرباوي يلتقي مشروع محمد اركون وعدد كبير من المفكرين الاسلاميين قبله الذين اجمعوا على اهمية واولوية الاصلاح الديني كبداية ومحور ارتكاز تقوم عليه حلول عوائق التخلف الاخرى المتفرعة عنه والمرتبطة به.واعتبارهم اعادة نقده و كتابته وتجديد النهج الاصلاحي الديني خط شروع اولي في تحقيق نهضة عربية حداثية. هنا يلتقي الغرباوي مع اركون في اولوية الاصلاح الديني كمرتكز نهضوي اصلاحي كما فعلت اوربا، لكن باختلاف (المنهج) الذي كان دعا له العديد من المفكرين الاسلاميين، في انجذابهم نحو منهج الاستشراق ربما كان ابرزهم اركون من المفكرين المحدثين، والذي لم يعتمده الغرباوي واستبعده في جميع كتاباته ومؤلفاته.

3- هل نحن محقّون في تساؤلنا لماذا لم يطرح الغرباوي النص وسؤال الحداثة بديلا عن النص و سؤال الحقيقة؟ وهل يوجد فرق تحقيق اسبقية بين الاثنين؟ ام ان الوصول الى تحقيق قيم الحقيقة يعني استيعابا ضمنيا في تحقيق قيم الحداثة على اعتبارهما اهم افصاحات العصر عن ذاتيته الحقيقية وترسيخ حقائق الامور في حداثة الحياة وفي معاصرة حقائقها العلمية السائدة عالميا. اجد ان لا اختلاف بين تحقيق الحداثة وتحقيق كشف الحقيقة انهما مرتكز واحد يجمعهما الهدف الواحد المنشود في تحقيق المشروع النهضوي، لكن يبقى الاختلاف في منهجية التناول وفي أسبقية هدف التحديث مجتمعيا في تخّلف تحققه عندنا قرونا طويلة بسبب تغييب الحقائق العلمية التاريخية والحقيقة الدينية حصرا.

الغرباوي كرّس جهده البحثي في التزامه منهجا (تاريخيا) يفرضه عليه هدف البحث وموضوعه لا وسيلته الثانوية التي اعتبرها بعض المفكرين العرب والمسلمين (هدفا ووسيلة) معا في كتاباتهم. وبما يفرضه مصدر النص القدسي كموضوع بحث ودراسة ومراجعة نقدية، يختلف عن مصدر النص الفلسفي في معالجته مباحثه فلسفيا منطقيا تجريديا مختلفا عنه في منهجية معالجة الفكر الديني، في ابتعاد المنهج الفلسفي عن منهجية التفكير الواقعي التاريخي الذي فرض نفسها على الغرباوي، فالمنهج عند الغرباوي لم يعد يشكل طموحا او هاجسا يراوده امام مهمة سعيه تحقيق تغييرا مفاهيميا في فكر ديني بات لا يماشي العصر ويتقاطع معه، وليس في اهتمامه مناقشة مباحث فلسفية يقتضيها ويفرضها منهج منطقي تجريدي يعتمد مركزية اللغة، ولا يعير اهتماما لحقيقة مشكلاتنا، ولا لمصدرية ثيولوجيا النص او تاريخيته، ولا مبتغى نقده فلسفيا، فما يعنى به نقد الفكر الديني تاريخيا عندنا يمثل بالنسبة لقيم الحداثة الغربية التي ارستها الفلسفة المعاصرة، مع تعاون تداخل العلم وايديولوجيا التحديث الديمقراطي عندهم منذ عصر النهضة والانوار، لم تعد تمثل عندهم اشكالية ذات حضور مصيري هام يهّم حياتهم كما هي حالنا.

فالبحث عن الحقيقة الدينية المفروضة علينا حداثيا عصريا لا تشكل لدينا ترفا فلسفيا يقبل المناقشة الزمنية الطويلة وتاجيل حسمها، انما هي عندنا تقوم على تصحيح مسار تاريخ خاطيء زمني طويل للفكر الديني لدينا كوقائع واحداث ومعارف موثقّة تاريخية تشكل ركيزة مفصلية مهمة من تراثنا العربي الاسلامي، وهذه الحقيقة التي نحياها وتؤرقنا لا تشكل مشاكلها اي اهتمام في مباحث الفلسفة الغربية المعاصرة فلا التاريخ ولا الديني ولا الحضاري ولا حتى العلمي يهم شعوبها اليوم كمشاكل تدخل صميم حياتهم المعيشية او مستقبلهم الحضاري في تقدم الحياة، فلكل من هذه المسارات المصيرية في حياة شعوبهم اخذت طريقها الصحيح المستقر الذي لا تحيد عنه ولا تسمح للانحرافات النيل منه واستهدافه.

4- اننا حسب ما اعلنه المفكر الغرباوي يهدف تحقيق (قيمة الجهود المبذولة المكرسة لنقد مرجعيات التفكير الديني واشكاليات العقل التراثي.). ص8

بضوء ما اشرنا له سابقا الغرباوي في مفارقة منهجية لا تقاطع هدفه التحديثي النهضوي، يعتمد المنهج الفلسفي البنيوي واحيانا التفكيكي في مراجعته النقدية الصارمة للنص بغية تصحيح اخطاء الفكر الديني واعاقاته الحضارية، وقراءته قراءة جديدة معاصرة كنص تاريخي وليس نصا فلسفيا لغويا مجردا، ولا يستحضرالغرباوي امامه كشف وتصحيح ونقد مسارات ومباحث الفلسفة المعاصرة في محاكمتها النص تجريدا (لغويا)، فالفلسفة وقضاياها لا تشكل عند الباحث العربي التاريخي اولوية بحثية قبل اولوية وتراتيبية هدفه المنشود في نقده الفكرالتراثي بضمنه الديني كتاريخ وتجارب واقعية، وكمعرفة واساليب حياة متجذرة مجتمعيا فقط، التي أخرجت عدم الاهتمام الغربي بها منذ استبعاد الميتافيزيقا عن مباحث الفلسفة المعاصرة في القرن السابع عشر. باختصار شديد جدا لا يصبح المنهج او الاسلوب الفلسفي غاية في ذاته لدى الغرباوي الذي لم يستغن عن الفلسفة كمنهج بحثي في نقده نص الفكر الديني، واصلاح يقينياته الزائفة المهيمنة والمكبلة لكل مناحي حياتنا ومنعها من التقدم الى امام بفارق جوهري مهم انه لم يطوّع حقائق الفكر الديني لمنطق الفلسفة.

من اهمية المشار له سريعا ان الغرباوي الذي وجد الفلسفة المعاصرة اليوم تقوم على محورية واولية دراسة النص (لغويا) تجريديا، من غير موضوع او محتوى متعّين واقعيا يفرض حضوره واهمية معالجته فلسفيا لا سرديا فكريا، نجد الغرباوي لجأ قسرا مضطرا بحكم واقعية النص الديني التاريخية التقديسية، الواجب مراجعته في تغليب اولوية مراجعته النص الفكري الديني ونقده تاريخيا في مضامينه كاحداث واقعية تاريخية حدثت وشكلت موروثنا الحضاري او جزءا مهما منه اختلط فيه الديني والسياسي والمجتمعي.اي انه لم تستهوي الغرباوي تفريغ مبحثه الفكري الديني تاريخيا فلسفة محورية اللغة الغربية المعاصرة.

ما فعله الغرباوي في مؤلفه بخلاف غيره، وحضور هدف التحديث المجتمعي امامه، وجد ان مناهج الفلسفة المعاصرة التي يقوم مرتكزها على معطيات واهتمامات هي غيرها عندنا، فاستبعد الفشل الذي كان ينتظره لو انه اعتمد منهج التجريد الفلسفي القائم على مركزية محاكمة النص لغويا التي اوقعت العديد من المفكرين العرب في حبائل المنهج الفلسفي الذي يدور حول المشكلة ولا يقترب من تصحيحها او حلّها، وعلى حساب اضاعة الموضوع، كي لا يتهموا بالكلاسيكية التنظيرية فابتلع جهودهم الفكري الافتتان بمناهج الفلسفة تاركين معالجة المواضيع والاشكاليات التاريخية في تراكمها الاعاقي تضيع خلف ظهورهم في ركضهم التمّكن من التفلسف المعرفي غاية بذاتها وليست اداة معرفية لتغييرمشاكل الحياة العربية، اذ ان هذا النوع من الآلية الفلسفية القائمة على تحليل وتفكيك النص لغويا، كان ممكن ان يسقط جهد الغرباوي النقدي التاريخي ويضيّعه في حال استهواه المنهج الفلسفي قبل هدف نقد النص موضوعيا وتاريخيا للخروج بنص متجدد يخدم غرضه البحثي، ولوقع كما اشرنا في فخ مباحث الفلسفة التي تتعامل بتجريد لغوي وليس مع وقائع تاريخية تفرض معالجتها كنصوص يحكمها التاريخ والجغرافيا والزمان والمكان، ويستشهد الغرباوي بشخوصها ودورهم في صناعة وكتابة التاريخ التديني الاسلامي الصالح او الطالح، وهذه جميعها لا تشكل اليوم اهتماما فلسفيا وبخاصة دراسة النص الديني والكشف عن تخلفاته وانحرافاته القاتلة بضوء مدارس التفلسف الغربية. من الملاحظ في دراسة اشكالية التراث العربي الاسلامي مع المعاصرة والحداثة ان غالبية المفكرين العرب الاسلاميين يبتعدون نهائيا عن تدعيمهم الافكار التنظيرية الفكرية باستشهادات يستحضرها الغرباوي من بطون التاريخ بشخوصها المتنغذة ويضعها بكل جرأة وشجاعة امام محاكمة النص الحداثي وكشف حقيقته كما هي تاريخيا وليس كما تلقيناها تلقينيا كمسلمات يقينية لا تحمل ادنى درجات المناقشة.

هذه المباحث الفلسفية الغربية التي يضيع فيها الموضوع في الركض وراء المنهج الفلسفي الشكلاني حتى المدارس والتيارات الفلسفية الغربية المعاصرة بدأت التململ للخلاص من شراك اللغة التي اصطادت مباحث الفلسفة وادخلت الفلسفة في نفق التجريد اللغوي العدمي والضياع الذي يستطيع قول كل شيء ولكنه لا يعطيك نتيجة اي شيء. لان الاسلوب او المنهج لا يحدد لك ولا يعطيك موضوع البحث، وانما العكس هو الصحيح فالموضوع هو الذي يحدد لك اسلوب وطريقة معالجته. في النقد التاريخي الوثائقي الواقعي لا يستطيع الباحث الدوران في فلك التجريد في اضاعته الموضوع، في وقت يتسنى مثل هذه المراوغة المخاتلة في الدوران التجريدي في المنهج الفلسفي الذي يهتم بالاسلوب في الصيغة اللغوية الشكلانية في محاولة معالجته امورا لا علاقة لها بالتاريخ ولا تجد من يسأل الباحث ماذا حقق من جديد في تغيير القناعات الفكرية قبل تغيير واقع الحال.

واذا كان الغرباوي يلتقي الفلسفة انه بحسب قوله (يسعى وراء اختراق الممنوع واللامفكر به، اذ جميعها تراكم معرفي لمقاربة الحقيقة وترشيد الوعي ضمن مشاريع هادفة فاعلة) ص9. من هنا جاء انشداد الغرباوي كما ذكرنا الى محاكمة النص الفكري الديني الاسلامي تحديدا بمنهج تاريخي محدد الهدف واسلوب واقعي مباشر في المعالجة وفي جرأة استقدامه شخوص اسلامية تاريخية لعبت دورا مصيريا في صناعتها تاريخا عربيا اسلاميا منحرفا و مفاهيم خاطئة كانت ادوات تنفيذها شهوة الحكم وتسمية اشخاصها وتحميلهم مسؤولية الانحرافات التي عمقت الفجوة المذهبية الاختلافية التي وصلت ومنذ العصر الراشدي الى حدود التكفير وشن الحروب والاقتتال والدسائس في الدين الواحد. هذه الانحرافات الخطيرة والتي كانت سابقا تسيّجها اسلاك شائكة من الاضاليل السياسية الباطلة، أو خطوط حمراء في دواخلها ونواياها تحريم وتجريم يصل الى حد التكفير والزندقة. تناولها الغرباوي ووضعها تحت حكمة ومنهج القراءة العقلانية الجديدة، بغية الوصول الى قناعات يقينية لوقائع تاريخية تحمل حراكها التضليلي، وتشكل موروثا فاعلا في صنع العقل المستقيل والمغّيب عن فهمه واقعية الامور وحقائقها المطمورة تحت تراكم تداول المخطوء المكتسب قدسيته الزائفة المستمدة من لا اصالته المغيّبة قسرا وحسب، بل من معالجة تراكماته التي ضاع معها الكثير من الحقيقة والاصالة التي لا غنى لنا عنها الا في احيائها ان تاخذ دورها الحقيقي في بناء نهضة عربية اسلامية حضارية معاصرة.

5- اشار الغرباوي في لمحة سريعة للفيلسوف محمد عابد الجابري، انحيازه، للعقل المغربي ضد العقل المشرقي في مشروعه نقد العقل العربي، مما اضطر جورج طرابيشي – والكلام للغرباوي –تاليف كتاب(نقد نقد العقل العربي) او (رهان مشاريع انسنة المقدس على اقصاء مطلق الدين كشرط اساس للنهضة في مجتمع يستأثرالتراث بمعظم مرجعياته العقيدية والثقافية، بل وحتى السياسية في رهانات خاسرة). مقدمة كتاب الغرباوي.

لا اريد مناقشة الاستاذ الغرباوي، رأيه في الجابري، التي عالجها بذكاء ليس ادانته الجابري في تكملة عبارته رفض (انسنة المقدس على اقصاء مطلق الدين كشرط اساس للنهضة ) وهو مانجده اهتماما محوريا في فلسفة وفكر الجابري.

الجابري عنده العقل العربي الاسلامي في المغرب هو امتداد النزعة العقلية التي اخذها بن رشد عن ابن سينا والفارابي والكندي والمعتزلة، وارساها في المغرب العربي كعقل نقدي انصار بن رشد في الاندلس والمغرب من الذين جاؤوا بعده مثل ابن ماجة وابن طفيل، الذين اعتمدتهم اوربا دعاة العقل في الحضارة العربية الاسلامية. واتهم الجابري في انحيازه البحثي هذا ابو حامد الغزالي في مناوئته لابن رشد في الدعوة الى الصوفية وفي كتابه تهافت الفلاسفة التي ناصره به الاشعرية ضد المعتزلة، في معاداتهم العقل الايماني، بدلا عن الايمان الصوفي المعتمد وجدانية القلب قبل العقل. كما ان الجابري برر اتخاذه مثل هذا الموقف الموضوعي المناويء، ان الغزالي لم يفت (يفتي) في الجهاد ابان الحروب الصليبية، وقد اتخذ جورج طرابيشي موقفه المضاد لما ذهب اليه الجابري في منحى لا يخلو من تأليب مبطن ضد عقلانية المغرب العربي القريب من اوربا بما ساوضحه لا حقا.

لا اعتقد جازما ان الجابري اراد تحميل عطالة نهضة التاريخ العربي الحضاري ومنع امتداده التقدمي على عاتق فلاسفة اهل المشرق العربي وتقصيرهم انهم ورثة التاريخ الصوفي في الدين وقضايا الحياة العربية الاسلامية، ناعتا اياهم انهم كانوا بلا (عقل) حضاري وبغداد ملأت الدنيا وشغلت الناس ومثلها حاضرة البصرة والكوفة وسامراء. الجابري مفكر وفيلسوف نهضة عربية اسلامية عاشها في ضميره وحملها في فكره وقلبه، تعتمد قواها الذاتية ومخزونها من التراث الحضاري، اما جورج طرابيشي فهو ناقد ادبي متشفّي في مراوحة العرب المسلمين في اماكنهم التاريخية المتخلفة، ولم تستطع جعجعة طرابيشي في (نقد النقد) الذي استهدف الجابري ومشروعه من تقديم ادنى اسهام حقيقي بديل يساعد الامة على نهوضها الحضاري، ومتابعاته النقدية حملت الكثير جدا من التجّني التيئيسي ليس في محاولته الاجهاز على مشروع الجابري النهضوي، وانما تشفّيه وهو مقيم مخضرم بباريس على تضييع العرب مراحل تاريخية زمنية في تأخير نهضتهم المنشودة وتخبطهم في تاريخ من الضلال الذي يقوده المهيمن الفكري الديني الاسلامي بكل تسمياته ومذاهبه ومخرجاته. وهو ما ساوضحه اكثر لا حقا على قدر اهميته.

التمس العذر من المفكر الغرباوي ارجائي عدم التركيز عرض بعض افكاره في كتابه تفصيلا فهو خارج اهتماماتي في الكتابة الدينية ومباحث الاجتهاد الفقهي لها، قبل مغادرتي هذا التوضيح الاشكالي الذي اراده طرابيشي في محاولة النيل من الجابري كمفكر و من الجابري كصاحب مشروع نهضوي عربي، لا ضير في مناقشته وفي اعطاء البديل لما ذهب الجابري له في مؤلفاته اذا وجدنا فيه تقصيرا او ضلالة، استطيع القول ان قراءة طرابيشي للجابري ليست بريئة لا في شرح حمولة النص الفكري الديني الاسلامي، ولا في مغالطاته التاريخية الفلسفية والمعرفية التي الصقها بالجابري.كما اهمل طرابيشي دراسة النص الجابري في تشخيص الخطأ فيه وتقديم البديل ان كان يتمكن منه، اراد طرابيشي اغتيال التفكير الجابري وحلمه بمشروع عربي نهضوي يكون الاسلام فيه فاعلا داخل منظومة عربية حداثية، يمكن للعرب تحقيقها، الجابري نقد الفكر الديني من خلال نقده العقل العربي عامة، وهو بهذا يقاطع اركون في اقتصاره على نقد الفكر الاسلامي، وتناول الجابري نقد العقل العربي من خلال انضواء الدين كمكّون اساس داخل المنظومة العقلية الحضارية العربية الاسلامية الذي يبدو طرابيشي يرغب استئصال مبحث الاسلام منها حتى من دلالتها كعنوان يهم امة عربية اسلامية. كما تناول الجابري كل مفردات الحضارة العربية الاسلامية وتكوينها ومكوناتها، وليس الدين وحده بمسؤولية تاريخية حضارية لم تقفز فوق الواقع ولا في منهجه النقدي المتزن، بينما بقي طرابيشي ينبش التاريخ الاسلامي بحثا عن كل مواطن الاعاقة والانحراف والتخلف فيه، بصيغة الدفاع عنه وتبيان عجز الجابري صياغة مشروعه العربي النهضوي، ما اضطر الجابري اصدار كتابين له (نحن والتراث) والاخر عن (القران) قبل وفاته، معتبرا وبتاكيد سليم ان الدين الاسلامي في جوهره واصالته وقيمه ليس من السهل ابدا على احد شطبه من تكوين وجود العرب كأمة من تاريخهم الحضاري ماضيا ولا حاضرا او مستقبلا باسم انه يتقاطع مع علمانية الدولة المعاصرة العربية الاسلامية الحديثة المنشودة المرغوب بها في ابتداء سلوك طريق نهضة جديدة للامة، تبدأ من رفض الفكر الديني لا في اصلاحه.

يتبع في القسم الثاني

 

علي محمد اليوسف – باحث فلسفي / الموصل

 

 

الصفحة 3 من 5