بأقلامهم (حول منجزه)
تفكيك العقل التراثى.. قراءة في كتاب ماجد الغرباوي
العديد من الموبقات تُرتكب تحت ستار الدين، بدءًا من موجة الإرهاب التى تضرب العالم وتتخذ من نصوص دينية ذريعة لجرائمها ومرورًا بقدسية تُضفى على شخصيّات تتحدث باسم الإله ووصولًا إلى التشبث بقراءات دينية تجافى الواقع ومتغيراته. لتلك الأسباب مجتمعة ولغيرها يصير البحث فى الفكر الدينى السائد وتفكيك مُسلماته حاجة يفرضها العصر.
عبر سلسلة من الكتابات جاءت بعنوان «متاهات الحقيقة»، عمد الباحث والكاتب الأسترالي من أصل العراقى ماجد الغرباوى إلى مساءلة تلك الأنساق الدينية الراسخة.
يوضح الغرباوى فى حديثه مع «الدستور» أنه عمد من خلال تلك السلسلة إلى «التوغل عميقًا فى بنية الوعى ومقولات العقل الجمعى، واستدعاء المُهمّش والمُستبعد من النصوص والروايات، وتكثيف النقد والمساءلة، وتفكيك المألوف، ورصد المتداول، واستنطاق دلالات الخطاب الدينى، بعد تجاوز مسلَّماته ويقينياته، والسعى إلى تقديم رؤية مغايرة لدور الإنسان فى الحياة، فى ضوء فهم مختلف للدين.
يأتى كتاب «الفقيه والعقل التراثى» الصادر حديثًا عن «مؤسسة المثقف العربى بأستراليا ودار أمل الجديدة» لتفكيك منطلقات العقل الفقهى القائمة على العديد من المغالطات، فى إطار سلسلة كتابات تهدف إلى نقد النسق العقدى المألوف وسلطة القداسة وغيرها الكثير من الموضوعات بدأت بكتاب «الهوية والفعل الحضارى» ثم «مواربات النص».
يقول الغرباوى لـ«الدستور»: السلسلة تنتمى إلى تراكم معرفى امتد لأربعين عامًا، سبقته أسئلة أبت مغادرة الوعى تبحث عن أجوبة تعالج إشكالية التخلف برؤية مغايرة تمارس النقد وتكف عن منطق التبرير، بعيدًا عن رهاب القداسة ويقينيات العقل الدائرى.
جهود عدة فى الإصلاح والتجديد للفكر الدينى لم تؤتِ ثمارها فى ظل سطوة العقل التراثى الذى جعل الدين دافعًا باتجاه العنف والإرهاب تارة والخرافة والسحر تارة أخرى، وظل السؤال حول إمكانات النهوض من كبوة أبقت المسلمين فى كنف الماضى دون القدرة على مسايرة العصر وإشكالياته مستمرًا مع بقاء اتجاهات إسلامية قابعة فى سجون معرفية مرتهنة لسلطة التراث ومنطق العبودية.
ونظرًا لأن الخطوة الأولى لإصلاح تلك الحالة تبدأ من النقد الجذرى لمرجعيات التفكير الدينى، يسعى الكاتب فى هذا الكتاب إلى تفكيك العديد من المقولات التى اكتسبت قدسية على مدار عقود الممارسة الدينية ليشدد عبر ذلك على أهمية بناء معرفة مؤسسة على الدليل والبرهان ومرجعية العقل، وهو ما يمكن من خلاله التغلب على التحديات التى تواجه الدين على صعيد حقوق الإنسان والتطور الحضارى.
يرى «الغرباوى» فى كتابه أن ربط الإرادة الإلهية بالمرجعية الدينية للفقيه من أبرز النقاط التى تحتاج إلى مراجعة جادة وجريئة، فالوعى الجمعى للمسلمين احتفظ بصورة مثالية للفقيه، جعلته فوق النقد والمُساءلة باعتباره مصدرًا للمعرفة الدينية وأحكام الشريعة وموضع أسرارها، وأسهم الصراع السياسى فى ترسيخ علاقته بالسلطة وتعزيز خطاب رسمى عزز من الالتباس لدى قطاعات جماهيرية بين أحكام الشريعة وأحكام الفقه التى هى اجتهادات ووجهات نظر وفهم للنصوص المقدسة.
ويشير الكاتب إلى أن «الفتوى تجل لوعى الفقيه وانحيازه اللاشعورى لقبلياته ومصالحه، ومن الخطأ وصفها بالموضوعية والتجرد التام بل ولا علاقة لها بالتقوى ومراعاة القواعد العلمية والمنطقية دائمًا، لأن المعرفة البشرية تخضع لنظام اللغة، وآلية اشتغالها داخل فضائه المعرفى، وفهم النص يتأثر بثقافته ومستوى وعيه ويقينياته، لذا يتعين تحرى بدايات وعيه ونقد مقولاته التى ترسبت لا شعوريًا ضمن أنساق مضمرة يصعب اكتشافها وتقويضها إلا بالنقد والتفكيك».
تسهم تلك النظرة النقدية لحدود دور الفقيه وعلاقته بالنص الدينى فى نزع القداسة التى تضفى على مقولات فقهية بالية هى بالأساس انعكاس لاستقبال الفقيه الخاص للنص الدين بما يتماهى مع بيئته الثقافية والاجتماعية، فقد يأتى العقل الفقهى ازدواجيًا فى معاييره، أو منغلقًا على نسقه العقدى بما ينتج فقهًا مُستلبًا يفرض قناعاته على النص الدينى، ومن هنا تأتى خطورة الانقياد الأعمى للأطروحات الفقهية وإضفاء القداسة عليها.
ويلفت الكاتب إلى أن «التباس القبلى بالفقهى والسياسى بالشرعى الذى كان الفقيه وراءه كان السبب الأساسى وراء تزوير الوعى الدينى وتكريس الاستبداد والعبودية والطاعة والانقياد، فالنظام الدينى للمسلمين مهما اختلفت صيغه هو حكم ثيوقراطى يكرس سُلطة الحاكم الأعلى ويُحرِّم الخروج عليه ويمنحه سلطات واسعة، وهو نظام ينسجم مع القيم القبلية ويتناغم مع وعى الفرد فى نظرته وتقديسه بشيخ العشيرة».
يُشدّد الكاتب على أهمية إعادة النظر فى الأحكام المتعلقة بقضايا المرأة والجهاد والقتال، وتحرى أسباب العنف وجذوره وكوامنه فى الفكر والفقه. فرغم أن الأحكام الشرعية لا تلغى ما دام مصدرها النص القرآنى، إلا أنه من الممكن ألا تكون فعلية بسبب عدم فعلية موضوعها فتسقط عن التكليف استنادًا لكون الأحكام الشرعية جاءت لتحقيق المصالح وليس المفاسد.
ويُبيّن الغرباوى أن «صدقية العقائد التى ظهرت بعد وفاة الرسول تتطلب معرفة ظروف نشأتها ومسارها التاريخى وفلسفتها والأجواء الثقافية والسياسية والدينية والفكرية المحيطة بها، فالعقائد والمفاهيم لم تأت من فراغ بل مهدت لها ضرورات مذهبية وسياسية»، وذلك بهدف نزع قدسية مقولات فقهية جاءت لتحقيق مكاسب وقتيّة لا يمكن أن تكون مطابقة لكل واقع.
وينطلق الكاتب من حديثه فى تلك المسألة من خلال نقطة ارتكاز مُحددة، إذ يشير إلى أن ثمة قاعدتين أصوليتين: الأولى حق الطاعة والثانية قُبح العقاب بلا بيان.
تعتقد القاعدة الأولى بشمول الشريعة لكل صغيرة وكبيرة وتسمح للفقيه بتشريع أحكام واسعة النطاق، وتنعدم فيها مساحة الحرية. أما القاعدة الثانية فهى: قبح العقاب بلا بيان، والتى تنطلق من قناعة بأن الحكم الشرعى الصادر عن الله يواكب حركة الإنسان والمجتمع ضمن دور الدين فى الحياة، وعليه لا يجوز تقديم الرواية على الآية.
وحسب رأى الكاتب، التعامل مع النص الدينى يخضع إما إلى منطق العبودية أو منطق الخلافة. ففى منطق العبودية، تأتى فتاوى الفقهاء مُتخمة بالتحريم والاحتياط الوجوبى بما يختزل دور الإنسان بالفتنة والاختبار ويقتصر فيه دور الفرد على تطبيق الأحكام الشرعية وسلبه حرية الحركة خارج ما هو مشرع منها، فى اتجاه يضع النص فوق العقل ولا يؤمن بأى فلسفة وراء الأحكام الشرعية.
فى مقابل منطق العبودية، هناك منطق الخلافة الذى يختلف فى رؤيته للإنسان والدين وأحكام الشريعة، فيعزز من مركزية الإنسان ودوره فى استخلاف الأرض، وتأتى الغاية من تشريع الأحكام وفق هذا الاتجاه لتحقيق مصالح الاجتماع البشرى وليس لقياس درجة طاعة الإنسان ومستوى عبوديته.
وانطلاقًا من تلك الرؤية، يشير الكاتب إلى أن معالجة «روح العبودية» سيحد من تضخم الفتاوى والأحكام، «فما جاء فى القرآن من تشريعات تكفى حاجة الإنسان ليواصل حياته اعتمادًا على عقله وقيمه ومبادئه الإنسانية التى تحفظ له كرامته وتحقق شروطه الحياتية، فهو فهم مختلف لا يسمح بتضخم الأحكام الشرعية، لكن الفقهاء لم يلتزموا به لأنه لا يحقق سلطتهم ومركزيتهم، فالأحكام الشرعية الزائدة عما هو مدون فى الكتاب الكريم مشكوك فى حجيتها وشرعيتها ما لم يكن لها جذر قرآنى، وعند الشك فالأصل حاكم وهو الأحكام الشرعية القرآنية».
وفى إطار نقده الأحكام المُطلقة التى ترسخها فتاوى دينية بالية، يتحدث الكاتب عن كثير من نقاط الالتباس المتعلقة بالسنة النبوية ليشدد على أن الشرط فى حجية السنة هو وجود جذر قرآنى للحكم النبوية، وهو ما يفترض توظيف مناهج حديثة فى دراسة حيثيات الحكم الشرعى قرآنيًا وتفكيك المنهج النبوى فى التفصيل والبيان لمعرفة خلفياته ودوافعه والكشف عن بشريته.
ورغم أن «علم الجرح والتعديل» فى السنة جاء لتدارك الضعف فى فرز الأحاديث وتمييزها، فإن الكاتب يرى أنه كرّس الاستبداد السياسى والدينى وتمت صياغته بما يخدم الفرق الدينية المتصارعة، ومن ثم جرى أدلجته بما يوافق رؤية الفقيه وأهدافه السياسية، ولكن فى الآن ذاته ثمة حاجة لدراسة الأحكام النبوية ذات الجذر القرآنى ومعرفة دوافعها وضروراتها.
ويوضح: «ثمة ضرورات موضوعية لتجديد مناهج علوم الحديث تفرضها نظرة مغايرة للدين تحد من إطلاقات الأحكام عندما ترتهن فعلية الحكم بفعلية موضوعه، وهذه الضرورات هى عدم الاعتناء بحديث يخالف العقل والمنطق والقوانين الكونية والقيم الإنسانية أو يُكرّس الظلم والاستبداد والاستهانة بالإنسان وعقله ووعيه أو يؤسس لمذاهب تنأى عن هدف الدين».
ويشدد «الغرباوى» على أن علوم الحديث «لا يمكن التعويل عليها مطلقًا»، لا سيّما بعد أن اختلف المسلمون حول القيم العلمية لأحاديث الصحاح وحول عدالة أو وثاقة عدد كبير من الرواة وشروط التحديث، فضلًا عن تسقيط بعض الرواة لأسباب طائفية، «فحينما تتحكم منطلقات الفقيه الأصولية والفقهية بهذا العلم وتتأثر بخلفيته العقيدية فلا يمكن الاعتماد عليه فى جميع الأحوال، مما يبعث الريبة فى قيمته المعرفية».
حنان عقيل - القاهرة
نقلا عن صحيفة الدستور المصرية
ليوم 26 – 11 – 2020م
https://www.dostor.org/3272279