بأقلامهم (حول منجزه)

الغرباوي والتنظير التجديدي: من خليط اشكالية معقدة طرح ماجد الغرباوي مشروعه النقدي الجريء كما لم يفعل من سبقه، في اصلاح الفكر الديني التنظيري المعتمد على المرتكز المنهجي التالي: (لست مع متاهة التفكيك) - يقصد بمعناه الفلسفي الذي يعتمد تفكيك النص لغويا تجريديا صرفا - غير اني والقول للغرباوي، (أسعى لأقصى ممكنات الغوص في أعماق الظواهر الاجتماعية والدينية لإدراك الحقيقة، وتقديم قراءة موضوعية، تنأى عن المراكمة فوق ركام الخراب المعرفي ودوامة التخلّف. وأطمح لرؤية مغايرة وفق مبادئ عقلية متحررة من سطوة الخرافة واللامعقول وأوهام الحقيقة) – التي اضفاها عليها الفهم السطحي الجمعي في اداء طقوس التدين، وفي تلقيهم الايمانية الدينية في منتهى التسليم العفوي وما يرافقه من سلوك خاطيء تضليلي وتجهيلي زائف يأتي ضخّه الدائم من بعض رجالات الدين، الذين يرتبط عندهم المفهوم التضليلي الديني باجندة يقف على راسها توجيهات ومصالح السياسيين والحكام – (ورهاب النص وقدسيته، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب. يتمثل قيم التسامح والمواطنة، ويعترف بالآخر اعترافا حقيقياً. فالمشكلة الأساس تتعلق ببنية العقل، والنظام المعرفي، ونوع المفاهيم والمقولات المؤسسة لها، وطبيعة الثقافة التي تنتمي لها. فنحن بحاجة مستمرة لنقد جميع الثوابت والقناعات. فالفهم المبتسر للدين أحد الأسباب الرئيسية وراء التخلّف الحضاري) ص9. وهذا يتطلب نقد مرجعيات الفكر الديني بمنهج عقلاني جريء. "الاضافات المحصورة بين شارحتين نسبتها لي وليس الاستاذ الغرباوي".

 هذه المعلومة المعقّدة كنا اشرنا مناقشتها في الجزء الاول من قراءتنا في فكر الاستاذ الغرباوي، وهي تحتاج جهود باحثين متخصصين يعملون جاهدين فك ارتباط التخلف المجتمعي الحياتي على الارض، عنه في المسايرة المطردة المعاكسة في جعل التنظير الاصلاحي الديني في الكتب والمؤلفات معلقا في السماء، وتعويضا وهميا لما هو مطلوب تنفيذه في اصلاح مناحي الحياة اليومية التي نعيشها عصريا، وعزل وتعقيم مجهودات الفكر التنظيري في التاثير بواقع الحياة ومحاربة التخلف على الارض.

لاحظنا وقاسينا بما يتعذر وصفه ان اعمال سطوة السيف في اعناق الابرياء من قبل حثالات التطرف والتكفير والارهاب في ابشع اشكال الذبح الهمجي الوحشي تسبق الف باء اية معلومة علمية او حضارية او تحاورية بالضد من تفكيرهم المتدني الى اسفل درجات الانحطاط والغباء، وكل ذلك يمارس بقوة السيف على ان ما يقومون به هو تجديد الدين وبناء دولة الخلافة على منهاج النبّوة. فهل منهاج النبوة اصبح لا يحتاج غير السيف وسيلة لتجديده في جزّ رقاب الابرياء؟.

التحديث النقدي في الفكر الديني الذي نعيد تداوله العقيم باستمرار، لا يستهدف النص القدسي الثابت بل يستهدف في اكثر حسن الظن به تنظيف النص القدسي من جميع المتراكمات التحريفية حوله التي اضاعت صدقيته المقدسة في النص الديني كفكر حيوي في الممارسة، ليكون زيف النص ياخذ مكانة المقدس الحقيقي في اصالته الدينية ان يكون التدين الهمجي فيه لا في غيره يمثل عندهم رضا الباري الخالق دنيا واخرة، والى كسب زائف في ارضاء حاشية المنتفعين من الدين والمتاجرة باسمه. بمعنى ان الاصلاح الديني التنظيري المزعوم لا يحقق تنظيف حقيقة الدين مما علق به من خرافات واكاذيب ووحشية وتخلف في ميادين الحياة، على الاقل في الفترة الممتدة لقرن كامل من صحوة اهمية مواكبة الحياة المعاصرة في تعالقها مع الديني، وفي وجوب مراجعة ونقد الفكر الديني، الذي سادت خلاله دعوة الاصلاح تنظيرا في الكتب والمؤلفات المركونة فقط .

ان منهج الغرباوي كما اشرنا له بسطور سابقة في نقده و دراسته الحقيقة الدينية بمنهج عقلي علمي وتدعيم افكاره في استقدامه مشاهد حية من الماضي في تاريخيتها وشخوصها، لتخليص الحقيقة الدينية في النص القدسي من براثن مجاهيل التضليل والتشويه والانحرافات والاكاذيب على التاريخ في جنبة التنظير التوعوي، وفي تعرية النفاق الديني الذي اخذ بحكم تداوليته المجتمعية صفة البديل القارالثابت في اكتسابه الحقيقة الدينية الزائفة التي يعتقدها ويمارسها المجموع، وفي اعلان هذا التزييف نفسه فكرا مضللا، وممارسة منافقة وحيدة في امتلاكها الحقيقة لوحدها لا من اجل تصحيح علاقة العبد بالخالق ولكن بعلاقة تقديم الطاعة والمبايعة العمياء لمن يدعي ان حكمه مستمد من روح وجوهر دولة الخلافة الاسلامية في عهد النبوة.

هذه النكبة التضليلية الدينية التي يسيّجها نفاق الرعب والخوف في تداوليته القطيعية وتعطيل فاعلية العقل في نقد ابسط المظاهر التي يرفضها المنطق الفكري السليم، هي دعوة جوهرية، وطرحها اشكالية تركيبية زائفة في رواج تضليل الانسياق العاطفي المتزمت الجمعي. اشكالية يقر بتخطيئها بعد مرارة الواقع التطبيقي لها في العراق وفي سوريا ومصر وليبيا، وفي بلدان عربية واسلامية افريقية اخرى، المجموع المتدين الذي في قرارة نفسه يقر ان هذه الخلافة المزعومة هي والدين الحقيقي السماوي لم ولن يلتقيا ابدا، لكنه يتعامل بها المجموع في غالبيته في ازدواجية تدينه مع الله، ونفاقه مع ضميره، ونفاقه في تدينه، ونفاقه مع امثاله في مجتمعه.

السؤال هل يصح الدين في صلاح القلة الذين يفهمون الدين على حقيقته في مسؤوليتهم عن الفرد دنيا واخرة ايضا، في تامين احتياجاته المنوطة بالتدين على الاقل، ويعجزون هؤلاء القلة عن اصلاح المجموع وتخليصهم من ضلالهم؟ ام يتركون حقيقة الامور يحسمها بالآخرة رب العالمين الذي لو شاء لجعلهم جميعا امة واحدة مؤمنين على الصراط المستقيم في فهمهم دينهم في دنياهم وفي آخرتهم.

هل من الصحيح ان مرضاة الله يمكن ان تكون في ايمان قلة قليلة تفهم حقيقة الدين وتترك المجموع الضال يسير مسار القطيع في ممارستهم انحراف الدين باسم التدّين الباطل؟ هذا التفسير الحربائي ينسف الاقرار بقدسية تكليف الله للانبياء في القيام بمهامهم الارشادية وابطالها في حياتهم. اذ لو ارتبط فهم الدين من غير تكليف الانبياء والرسل بمسؤوليتهم الاصلاحية الهادية، لما كان فهم الانسان الدين غير مكتمل، ولا كانت هناك طقوس دينية خاصة ومتباينة بكل ديانة في زمن ومكان ظهور الانبياء على الارض. وهذه النظرة لو كانت صحيحة لترتّب عليها ان الدين سابق على وجود الانسان على الارض، ويرتّب ايضا ان التوحيد الديني سابق ايضا على تدرج الدين وفق نظريات التطور الطبيعي في ان الدين مرّ بمراحل من التدين السحري والخرافي والطوطمي والوثني وتعدد الالهة الى مرحلة وصول التوحيد بظهور الديانات السماوية الثلاث .

ليس الاستاذ الغرباوي وحده وجد نفسه امام الاشكالية في تغييب حقيقة الدين باسم تفكير وممارسة التدين الخاطيء، قال كلمته التي كما فعل غيره قبله في محاولة اقناع النخبة، و بذل في مؤلفاته وكتاباته اقصى ما يستطيعه ان تصل حقيقة ما يكتبه الى الجمع الضال باسباب يحتاج شرحها مؤلفات من ذوي الاختصاص كل في مجاله لنزيد في رفوف المؤلفات والكتب العاجزة عن تغيير حالنا او حتى مجرد الرغبة بذلك.

عندما يكتب المفكر الملتزم بدينه ونظافة ضميره ان يقول كلمته بما يرضي الله، فهو ليس مسؤولا عن نتائج تفكيره في هداية الناس من عدمها في مهمة عجز الانبياء عن تحقيقها (وما انت عليهم بمسيطر) (ومن يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا). وكان عقاب الله حسب الديانات قاسيا لمن لم يفهم التدين على حقيقته كما جاء بها الرسل والانبياء.

بعض معوقات الاصلاح الديني

ان عدم سهولة تحمل مسؤولية نقد الفكر الديني الاسلامي وليس الدين بثوابته كما اشرنا له، وانما نقد واصلاح بعض مناحي الانحراف ومنطلقاته التي تدور حول حقائق الامور الدينية، وتحجبها وتحجمّها وتمنعها من الحراك التوعوي في وجوب ان يكون النقد الزائف في الدين، هو نقد الجمود والتخلف وتراجع الحياة في جميع مناحيها المتعالقة بالتدين. ان في افتراض تحقيق الاصلاح الديني من معرقلات وتشويه قدسيته الالهية المعصومة، لا يجدي ولا يكون فاعلا مالم يؤثر في تغيير مجمل مناحي الحياة في السياسة والمجتمع والاخلاق والقيم والاقتصاد وغيرها. المرتبطة جميعها في تحقيق نقلة اصلاحية في الوصول الى حقائق الدين في انسانيته غير المحدودة. ان تعالق الدين بالحياة عندنا لايختلف عن تعالق الدين بتدهور الحياة في اوربا العصور الوسطى. ومرحلة الاصلاح الديني عندهم ارست بداية نهضة اوربا علميا وعلمانيا ثم في وصول مرحلة كتابة الدساتير وتشريع قوانين تنظيم الحياة على اساس من الديمقراطية والعدل والمساواة وكفالة الحريات الشخصية السائدة في تطور مستمر مع ضرورات ومستجدات الحياة عندهم الى اليوم.

لقد اكتسبت عندنا المخادعة الدينية التزييفية حسب مقتضيات توظيف الدين بمرور الوقت وتوالي العصور، اكتسبت يقينيات التزييف الديني الجمعي، صفة اليقينيات المسّلم بها جماعيا استسلاميا لمنطقها المنحرف، بمعنى ابطال اعمال العقل في مراجعتها ونقدها لاستجلاء حقيقتها، قبل التسليم يقينيا بزيفها ومقولاتها الخرافية، على نطاق جماهيري مسطّح الفهم النقدي العقلاني. وتمييز حقائقها المغيبة بالدخيل الذي اكتسب صفة القداسة والتبجيل والتسليم بها، بحكم العادة وغلبتها في تبني المتوارث السهل الاستيعاب في تغييب العقل النقدي.

من المقر المسلم به ان تتحاشى نقد مرتكزات الدين الثابتة المعروفة، بقدر حاجتنا نقد ظواهر التدين الزائفة وتعديل مفاهيمها الكاذبة المضللة. وهناك من يرى مصالحه كفرد او جماعات، هو في بقاء نفاقه على الناس في خلط الاوراق بالغاء الفروقات البينية بينهما، بين الدين القدسي والتدين المصلحي المؤدلج سياسيا.

ان مرتكزات الدين تمتلك خصائص المقدس والاصالة التي تقود الى ارساء التدين الذي لا يطاله التحريف ولا تنال منه نوايا النفاق، الذين ارادوا ان يجعلوا من الاصل الدين في صفائه، ومن التدين بكل صفاته وممارساته الخرافية المنحرفة كلاهما شيء واحد، واسطة مشتركة لتكريس حكم الطاغية السياسي وسفك الدماء بلا وازع اخلاقي ولا مانع من ضمير. هكذا جرى في الماضي ويجري اليوم خلط اصول الدين وحقيقته الايمانية مع مخطوء التدين في الفكر والممارسة.

الغرباوي كغيره من المفكرين واجه اهم مشكلة في محاولة التنظير للاصلاح الديني كوقائع تاريخية لها ترابط في الحياة المعاصرة نتيجة تعميق التثقيف التناحري في امتلاك الحقيقة الدينية لطرف واحد دون غيره، انه كما ذكرنا في سطور سابقة يريد معالجة كم كبير جدا من المتراكم الخرافي المخطوء الذي اصبح وقائع تاريخية اكتسبت على مر الايام والعصور كل قطائع التخلف الاسطوري في تداولياته، واصبح يمثل ويحتكر لنفسه كامل الحقيقة الدينية في زيفها وتداوليتها الساذجة البعيدة عن الايمان الصحيح. فاصبح لدى عامة الناس ان حقيقة التدين في استمرارية تداولية المخطوء السطحية الساذجة التي لا يتعدى فهمها ان الدين هو في اداء اركان الدين الخمسة في اسقاط فرض التدين وليس في اسقاط فروض الدين. وليس مهما ان الدين في جوهره وربما لايعرف البعض او لا يريد ان الدين في جوهره واصالته ليس ما ابتدعه ويبتعده رجال الدين، بشر لا يختلفون عن غيرهم من البشر، وانه يتوجب على المؤمن الحق ان يحاكم كل اجتهاد في عصمة وقدسية الدين وليس في عصمة وقدسية افكار وفتاوى اناس مثلنا. لا يمتلكون ادنى عصمة ان افكارهم حقائق دينية صحيحة يجب التسليم بها والانقياد الاعمى لها من دون احتكامها مع اصول الدين.

ان الاحترابات الدينية المذهبية بين المسلمين او الطائفية مع غير المسلمين باتت تحمل صفة القداسة الزائفة التي لا رصيد حقيقي لها في فهم الدين وانما تستمد كل مقومات وصايتها على امور الدين من التسليم القطيعي الذي تحركه اما العواطف، واما جعل افكار الاجتهاد الديني في منزلة المقدس الذي لا يخطأ. وجعل الدين المسيس في خدمة ووصاية انحرافات وتسويقات رجال الدين للحاكم.

اذن بمختصر العبارة ان مهمة الاصلاح في الفكر الديني كما فهمته من كتابات الاستاذ الغرباوي، هي في اصلاح التدين الخاطيء المصادر عليه سياسيا بما يخدم شلة من الناس على حساب ضخ التخدير في وجوب الصبر على مكاره الحياة بانها امتحان ونتيجة الصبر ليس في هذه الدنيا الفانية بل في جنان الخلد السماوية . وليس هناك مايجيز عدم اطاعة اولي الامرمنكم او محاولة الوقوف في الضد من فساده في الارض وخيانته في توّلي امر المسلمين.

امام هذه الاشكالية التراكمية المعقدة والحساسة والصعبة التي تحفّها وتدور في فلكها منزلقات وممارسات تقف امام كل رغبة، تحاول اجتثاث كل متراكمات التدين غير الحقيقي. في وجوب ان تاخذ مدياتها بلوغ نوع من التحديث في مناحي الحياة. وفي اجتثاث التدين المخطوء الذي اكتسب اليقينية الدينية الزائفة بحكم العادة والتوريث التضليلي جيلا بعد جيل.

الاصلاح الديني بين الممكن والمستحيل

ان مهمة اي مفكر اسلامي منذ بدايات القرن 19 والى يومنا هذا، وصعوبة بل واحيانا استحالة تحقق وعي ديني مجدد له فاعلية او يمتلك حضورا، كما يشير الغرباوي يتطلب ضرورة اعمال ووجوب حضور العقل النقدي في كشفه حقائق الامور الدينية من زيفها، وتعرية الفكر الديني الطاريء في انحرافاته السياسية الخطيرة في تعطيل، اي نوع من نهضة حضارية، ويدعو الغرباوي اهمية : نقد مرجعيات الاعاقة امام علمنة وديمقراطية الحياة، ولكن مع كل هذه الاجتهادات التنويرية فان المهمة شاقة وصعبة وتنطوي على جملة معيقات ليس سهلا تجاوزها. وجميعها مبثوثة في ثنايا كتابات الغرباوي :

1- ان المتراكم الفكري التديني المخطوء التداولي عبر الاجيال اكتسب ممارسات يقينية وفكرية راسخة، لا يسمح بسهولة مرور الفكر التنويري التحديثي عبره، الكشف عن حقائق هذا الموروث، وتعرية الدخيل الطاريء المضلل المتقاطع مع حقيقة الدين الانسانية ومنطلقاته في خدمة الانسان ووجوده على الارض وليس ان يعيش جميع حرماناته وعدم تحقيقها في الموعود به الحصول عليه في السماء. وهي اعاقات نجدها في السياسة وفي رجال الدين وفي المجتمع الذي اعتاد الاملاءات.

2- لا بد من الاقرار باصعب اعاقة تجديدية يواجهها الفكر الديني في وقوف ما يسمون رجال الدين القائمين على امور الناس في دنياهم، المتمسكين بالاجتهاد في تضليل الناس ان دينهم هو في مرضاة سياسييهم اولي الامر. وهذا التزييف الايديولوجي التديني السياسي، يتم في وضع التدين المساق بهيستريا العاطفة في خدمة بقاء الحاكم الفاسد والنظام المنحرف عن حقوق وتلبية احتياجات الناس.

3- تضليل رجال الدين للناس ان اي اقتراب من قدسية الفكر الديني المسيس، مرجعيته الحادية تنفي الايمان بالخالق الذي ليست بحاجة الى اثبات، لذا تكون كل المتعالقات الطقوسية انما تفترض اولوية الحفاظ على النص الفكري الديني من تشويهات واكاذيب العلمانيين والملاحدة والكفرة، من التجديديين التنويريين.

4- ان اعمال العقل في نقد ومراجعة الزيف في النص الديني الذي بات مسلمات يقينية لا تقل عصمتها عن المقدس الالهي، لا يعني ضمنا، تجديدا في الوعي الديني المتخلف المتناسل زمنيا في توارث الضلالة، وفي بعض الاحيان يصل الايمان الخرافي المضلل ان ينسب لنفسه امكانية حتى تحقيق خرق قوانين الطبيعة باشبه بالمعجزات، بوجوب التسليم ان لا حرمة دينية في البحث عن حقائق الظواهر الدينية كما تدعو منهجية الغرباوي او غيره من المفكرين الاسلاميين.

5- لذا يكون لا حقيقة دينية فاعلة جديدة تاتي نتيجة نقد النص الديني، كما يمارس الغرباوي نقده العقلي في حقائق التدين المتوارثة، ومحاولاته وضع هذه الحقائق تجديدا بوجوب فهم الحقيقة الدينية بما يجمع ولا يفرق، ويبني لا يهدم، لاصطدام هذا التجديد كما ذكرنا في اكثر من موضع في هذه الدراسة، هيمنة سلطة التدين السياسي، وسلطة التخلف الاجتماعي والمعرفي والديني لدى المجموع.

6- ما يشتغل عليه الغرباوي هو السعي لبلوغ حقائق دينية في تغيير قناعات دينية خاطئة ليس على صعيد الفكر، بل وايضا على صعيد الممارسة الحياتية، وفي تاكيد هذه الحقيقة يقول الغرباوي (نامل ان تكون افكار هذا الكتاب اضافة حقيقية تساهم في فتح افاق رحبة لمعرفة مستنيرة تزعزع يقينيات العقل الدوغمائي، وتجريد رجل الدين من سطوته، ليستعيد الفرد وعيه ومكانته الحضارية) ص10.

7- ان المتراكم التديني المخطوء الموروث التداولي جيلا بعد جيل حول محاولة الابانة والكشف عن حقائق هذه الاشكاليات والقضايا الدينية، في تعرية الدخيل المتقاطع مع الدين كجوهر انساني ثابت، لا يتقبله التفسير الذي يتماشى مع تطور الحياة جماهيريا، التي يقوم تفكيرها الديني على يقينيات خادعة تقاطع نزعة التجديد خاصة في مجال التدين. وتصطدم حتما مع ايديولوجيات سياسية لا مصلحة لها بالتغييرالحداثي .

خلاصة

اشرت في مقالاتي الاربع المنشورة في المثقف، اني لم اتناول الجهد الفكري للاستاذ الغرباوي الذي يتضمنه كتابه (النص وسؤال الحقيقة) في محاولة نقدية تناقش تفاصيل مواضيع الكتاب النظرية، التي يقرنها هو في تطبيق ميداني لافكاره مأخوذ ليس من التاريخ المدون الموروث وحسب، وانما ربط جهده النقدي في محاججة الوضع المعاصر دينيا فكريا سياسيا. وان اطلاعه المتمكن في معالجة اشكاليات دينية تاريخية او معاصرة يختارها استشهادات لتنظيره الفكري، لا تجعل القاريء للنص يستطيع التعليق عليها باكثر مما هي تعرض نفسها في الكشف والتوضيح، واستدراج القاريء الى تفعيل النقد عنده، ومن المتعذر اعطاء كتاب فكري مميز في عرض مقالات لايتسنى لها تغطية العديد من مواضيعه .

من خلال متابعاتي لسلسلة اجوبة الغرباوي على اسئلة الاساتذة الكتاب على صفحات المثقف، خلصت بنتيجة مباشرة انه رغم كل الجهود الصعبة التي بذلها، والامكانات المتاحة له التي استخدمها بتدعيم حججه الاقناعية في هدف تحقيق اهدافه في نقد الحقيقة الدينية، يمكن ان نطلق عليها اقصى ما يستطيعه مفكر لا يمتلك غير فكره وقلمه وضميره ان يقول كلمته للتاريخ ويمضي غير منتظر ما تحققه من نتائج او لا تحققه فهي ليست من مهامه فهو لا يمتلك الهدف والوسيلة معا.

ان عدم سهولة مهمة نقد الفكر الديني واصلاحه من خلال نصوصه التي اخذت طابع اليقينيات المتوارثة في الغائها نقد العقل وفاعليته الواقعية التحديثية، في تصحيح تاريخ تديني اكتسب كل قطعياته التداولية عبر العصور بانه يمثل كامل الحقيقة الدينية التي تدعمه كامل القداسة الوهمية.

ان ازدواجية التنظير الفكري الديني الاصلاحي كنموذج مثالي لا صلة له بالتاثير الواقعي في كل محمولاته التصحيحية في توافق المادي مع الروحي، في عطالة او تعطيل تطبيق حتى الجزئي بعيدا عن الانحراف والفساد الذي اشار له الغرباوي في تداخل التبادل التوظيفي بين الدين والسياسة في نشر التجهيل الممنهج المدروس بعيدا عن فهم حقائق الامور، وفي تسييس الدين يكمن الخطر الاكبر في الغاء تحديث الحياة.

العقبة الثانية التي اشرنا لهاعلى انها مرتكز تغييب العقل النقدي الجمعي التديني، الذي يتغاضى عن اقصاء التدين السياسي لحياة التجديد وتلبية احتياجات الانسان الضرورية العصرية، بارجاع حسب توجيهات رجال الدين كل الاشياء ومسبباتها الى ابسط التاويلات التي تعفي العقل عن التفكير الصحيح بانها حادثة بقدرة الله ومشيئته وما على المتدين غير الصبر. وليس الى ظلم وجبروت السلطة السياسية في غبن حقوق الانسان. اشرنا مرات عديدة ان المتراكم المخطوء الذي تلبّس كيان الدين الصحيح، من قبل اناس لا تمتلك افكارهم واجتهاداتهم الدينية وفتاواهم اية عصمة لا توضع تلك الاجتهادات تحت مجهر المراجعة النقدية وابطال زيفها في خداع الناس.

انه من التبسيط المخل ان نتصور ان المتراكم المخطوء الذي يدور في تسييج الحقيقة الدينية، لا يمتلك ادوات مقاومة وبقاءه في وجه تيارات الاصلاح وتحديث الحياة. كما ان نص الفكر الديني المجتهد هو من صنع انسان لا يمتلك هو وافكاره اية معصومة قدسية تبطل مساءلته. ومررنا ايضا الى ان الانحراف الفكري ليس اعزلا من امتلاكه تنظيمات سياسية تدعمه ايديولوجيا وتضع كل امكاناتها الحزبية تحت تصرفه، كما ان المجتمع المعبا بايديولوجيا التجهيل الممنهج يستهدف اية بادرة اصلاحية بشعارات وممارسات قمعية باسم الوصاية على الدين والحفاظ عليه.

 

علي محمد اليوسف – باحث فلسفي / الموصل

 

 

تعريف وتقديم اولي: ان قراءة تفكيك النص الديني عند المفكر الغرباوي سواء في عرضه، او في محاولة توضيح منهجه التاريخي بوقائعه في التفكيك لاستخلاص نتائجه الحقيقية، اجدها شخصيا وربما لأني غيرمتابع متخصص في الامور الدينية وقضاياها المعقدة تاريخا موروثا او عصريا، حيث اصبحت مجتمعاتنا العربية والاسلامية تتقاذفها الاختلافات الدموية التصفوية جسديا في فهم الفكر الديني ليس على اساس محاورة ونقاش في رغبة التوصل الى حلول تلتقي بجوهر الدين في انسانيته وتعايشه مع الاخر، التي يلعب الاجتهاد المذهبي او الافتاء الشرعي الصادر عن رجال الدين كمسلمات دينية مجتمعية مذهبية لا تقاطع القوانين الوضعية وحسب، وانما التشريع والافتاء يكون ملزما العمل به حتى لو كان الغاءا لقوانين تنظيم الحياة المستمدة من الدستور الوضعي او مايعبّر عنه اختصارا قوانين فصل السلطات الثلاث المدنية، لا ان تحميها هي ومصدرها، كذلك الافتاء الديني والاجتهاد الذي يمارسه البعض كمسلمة دينية لا نقاش يطالها، مستمدة من قدسية الهية تمتلك العصمة من الخالق ان لا تكون خاطئة ولا وجوب نقدها او تخطئتها، حتى وان جاءت بالانابة القدسية الانسانية غير المرخصة ولا المؤهلة ان تتكلم باسم الدين كله، او اختصاره في جنبة خلافية مذهبية اجتهادية واحدة ترى حقيقة الدين فيها وحدها.

كنت طرحت سابقا ان الغرباوي يختلف بمسألة جوهرية لم يتأكد لي يسبقه غيره بها هو التطرق لها بهذا الاسلوب الذي لا يتناول مسائل الاصلاح الفكر الديني (المعاصر) بالدوران حول المشكلة المصيرية الهامة، أو عدم الجرأة في تفكيك الحقيقة الدينية وتعرية معصوميتها ان كانت حقيقية ام زائفة منتحلة مهما كانت درجة حساسيتها التي يتجنب العديدين الخوض بمشاكلها والاجتهاد بطرح حلول مجدية لها. تجدها في مرتكزات لا يخطأها القاريء لدى الغرباوي :

- المنهج الفكري النقدي التاريخي، هو الذي يحدده موضوع البحث وليس العكس، ولا سبق منهجي مذهبي عقائدي يحكم الموضوع او القضية وناقدها كما يحصل اغلب الاحيان وفي مختلف القضايا. او سبق منهجي فلسفي لا يستمد حيويته من موضعة اية اشكالية لمنهج التناول التاريخي بصدقية تثبيت وقائعها الحقيقية وشخوصها،لاعلى حساب ابراز القدرات الفكرية الاستشراقية الغربية للكاتب، ام تكون الغاية هي في تعرية زيفها وقدسيتها المنتحلة باسم الدين من منطلق الاخلاص للحقيقة الدينية، وليس هناك من وقائع تاريخية تراثية تستمد مشروعية الاخذ بها في تناولها الاسلوبي المذهبي او الفلسفي المعاصر الذي يملأ مكتبات لا نفع له سوى ان تكون مراجع منح شهادات جامعية او حوزات دينية او اقسام دينية جامعية تطبع وتصطف مع الاصل في كسب العيش والاعتياش على نص الدين، هذا النهج القاصر اصبح مصدرا مهما في عدم تناول الفكر الديني بالنقد البناء، كما اصبح سببا متعذرا تطبيقه في نقد ومراجعة تراثنا الذي يمتلك خصائصه التاريخية واللغوية وحيثيات بروزها الاجتماعية او الاقتصادية، من نقطة شروعه في اتباع اسلوب الانحياز المذهبي او التجريدي الفلسفي بنيويا ولا تفكيكيا ولا عدميا الخ.

المذهبية في المنهج او الفلسفة المستمدة استشراقيا ان تناقش وتبحث عن حلول دينية بوسائل فلسفية تجريدية يحكمها منطق اللغة وليس منطق اهمية حقائق تاريخية الموضوع كوقائع بما لا يزال يمتلكه من حيوية في تحريك الحاضر و في ترسيم مستقبل وجودي حياتي تعيشه الناس.، بات امرا لا فائدة منه.فاليوم لا نشكو قلة التاليف في قضايا الدين لكنا نشكو من انعدام التطبيق على الارض.

يستطيع اي قاريء احالة نفسه لاحصائية مئات المؤلفات من المفكرين المحدثين والمعاصرين الذين ورطّوا انفسهم وقراءهم معهم في مراجعة مؤلفات تراثية بمجلدات بمنطق الصح والخطأ المنحاز اجتهاديا، او كذلك في استعراضه تطويع وقائع التاريخ العربي الاسلامي بمنطق واسلوب التفلسف المعاصرالتي لا رابط لها مع قضايا تراثنا الديني او اللاديني.، وانا متقبّل اي قاريء لتلك المؤلفات ان يقول لي انها خدمت او تخدم واقعنا العربي الحضاري البائس باسم مراجعتنا تصحيح تراثنا وبعثه من جديد وغالبيتها حشو سردي لم يساهم في حل بعض اشكالياته كموروث.وتصفيف كلام متراكم بعضه يعيش على بعضه الاخر في مجلدات !!

علينا الان التنبيه ان خلل موروثنا الجامد المعاصر اليوم ليس مصدره وقائع التاريخ المتوارث الزائفة الكاذبة التي نقلها لنا الموروث التدويني. انما يكمن الخلل الاكبر في مناهج التوثيق والتدوين في مراجعة تلك الوقائع و تورخة الموروث على وفق مصالح وامزجة وغايات رخيصة حتى في منظور كتابة التاريخ، وانما يمتد بنا النقد في وجوب ازاحتها عن الطريق، كل المؤلفات التي جعلت من هرائها التراثي مهزلة بحجة تحصّل الشهادة الجامعية الذي لا يعرف حاملها المشكوك بتزويرها كتابة مقالة مقبولة في التاريخ.مكاتب ومئات الالوف من العناوين التي تعنى بنقد ومراجعة موروثنا الحضاري العربي الاسلامي لا تساوي ثمن الورق والحبر الذي كتبت به. وليس لها وقع تغيير قناعة خمسة قراء مضللين.

نفهم ان بناء امجاد تاريخية زائفة لسياسيين عرب ومسلمين هو عار، وامر مفروض بقوة سلطة الحكم الجائر وفساد الدولة بكل مفاصلها، لكني لا اجد مقبولية ان يكون تاريخنا المعاصر في اشكالياته هو لغاية بناء امجاد فكرية او فلسفية فارغة او غيرهما بذريعة كتابة مؤلفات تتبعها اطاريح جامعية ورقية توضع على رفوف المكتبات وعزوف واشمئزاز المثقف الجاد منها، اصنام لم يعد امرعبادتها او التسليم بها مقبولا، وبقاء تناسلها مرحبا به مسكوتا عنه لانه وسيلة ارتزاق مالي وخواء ثقافي. فهي بلا فائدة تفيد بناء تجديد او اقامة صرح حداثي، نتشدق في السير الحثيث من اجل تحقيقه.هذه الحقيقة تتجنب طرحها حتى النخب الثقافية او الفكرية وحتى بعض النخب السياسية المعتاشة على متناقض قطباه شخص دعي في كل اختصاص فارغ من جهة، وشعب لا يهمه من امر تراثه ولا حاضره الا توفير لقمة العيش لعائلته واطفاله.

مسخرة بطلها اسطورة ملابس عاهل الامبراطور الجديدة لا تبوح بها براءة صرخة طالب جامعي لئلا يلبسوه ثوب الجنون الجاهز قبل ان يبوس اللحى متعهدا ان لايعود لمثلها، ويتناسى الجميع من رعاع الاعتياش باسم الشهادة الجامعية الدينية او الحوزوية ولا اقصد الشيعية منها فقط، غباءهم ان الجميع عراة والامبراطور في ملابسه الانيقة. وليس المقصود هنا الملك الامبراطور الواحد كما في الاسطورة وانما كل شلّة الاعتياش الثقافي الاكاديمي باسم امتلاك شهادة لا قيمة لها اكثر من قيمة غباء حاملها، وان كانت تحمل رصيدا فهي مجموعة من المؤلفات المستنسخة مئات المرات عن الاصل الجامد غير المتغير الثابت في محافظته على الزيف. .

- يوجد فرق كبير بين مناقشة مسائل تراثية خاطئة لا فرق بها اليوم ان يحدث تصحيحها تاثيرا تحتاجه الحياة وانت تعيش ومحاط بحضارة القرن 21 بكل مشاكلها العصرية، مثلا ما أهمية تصحيح اخطاء بني امية ومعاوية في تصحيح واقعنا التاريخي الذي يقوم اليوم على المنازعة والاختلاف المذهبي الذي لا يتوقف بمجرد تصحيح خلاف او خلافات عمرها مئات السنين لا من اجل اللقاء في تصحيح الاوضاع بل من اجل ادامة الاحتراب المذهبي الى يوم القيامة او احتراب العلماني مع الديني السياسي الى اجل يريده الحاكم ويرفضه الخالق. ما تأثير مناقشة واقع حال تاريخي لم يعد مهما ان يكون فيه اليوم المعتزلة على حق والاشاعرة على باطل، في وقت مثلا تحضر فيه مسالة مناقشة اهمية توحيد المذاهب الاسلامية وجعلها على السكة الصحيح في اختلافاتهم المعاصرة وليس في اعادة قراءة تاريخهم الموروث في نزاعاتهم التي ورثناها من كتب التراث والتاريخ الذي كتبه مجهول النسب في صدقية التوثيق او التدوين ونواياه. هل في حل مثل هذا الاشكال تنحل قضايا اختلافاتنا المعاصرة؟ افضل واكثر قيمة واهمية لمستقبل اجيال من بعدنا؟، اكتفي بمثل مئات من مشاكل موروثنا التي تحفظها بطون الكتب سواء اكانت منحازة لهذا الطرف او ذاك لا يتوقف حلها على حل مشاكل تهم حاضرنا ومستقبل اجيالنا وينطبق عليها ان تاريخ الاموات يصنع تاريخ الاحياء. ما اهمية ان تكون افضلية منهج السلفية او منهج القومنة العروبية او منهج الماركسية،او منهج الاستشراق التي ملأت كتبهم ومؤلفاتهم مكتبات ربع الكرة الارضية وتتداولها اجيال من الطلبة والمثقفين وغيرهم ولم تسهم في حل اشكالية اختلافية واحدة على صعيد الواقع والتطبيق في حياتنا، اوتنقل الامة العربية خطوة واحدة الى امام.باسم قراءة التراث ونقده وتجديده.

- لنلاحظ فرق الطرح الغرباوي لقضيا اشكالية متصارعة هي ابنة وزمان تاريخيتها التي نعيشها بما يتوقف على حلها صراع اجيال في مستقبل حياتهم قوله، (تكيّف المجتمع مع ارادة الفقيه ورجال الدين عامة من الاسلاميين، وانصياعه لتعاليها، تكون الاخطر في علاقة الفرد بالفقيه، هي روحية الانقياد والتبعية التي اختزلت حرية المجتمع، واعادت تشكيل وعيه على الضد من قيم المجتمع المدني الذي نطمح اليه).- في تعقيب اراه مفيدا، هل ان مراجعتنا ونقدنا وقائع التاريخ القديمة الموروثة في سمات صراعية واختلافات لا نهاية لها، هي الطريق الوحيد امامنا لنقد فكرنا الديني المعاصر الذي نعيش اشكالياته الجديدة، وهل يكمن حل كل قضية خلافية في تراثنا القديم كفيلة ان تجعل كل خطوة في حاضرنا تسير على الطريق التحديثي التقدمي وتخدم مستقبل اجيالنا؟ ان الذي يسترشد طاعته عن الفقيه قوله ان هارون الرشيد الذي قتل احد اأمة الشيعة (ابو جعفر الصادق) او غيره يجب ان يكون سببا كافيا كما يجري اليوم في اختلافاتنا المذهبية على ابسط من هذه الامور التي تحرك الاحياء من قبورها في تاجيج خلافاتهم. وهل على حل مثل هذه الاشكاليات البسيطة، التي نترك التاريخ المنصف يقول كلمته بها وكفى وتكف ان تكون سببا نتطاحن من اجله مذهبيا اليوم . هذا غباء حضاري عندما يطلب نائبا بالبرلمان العراقي ازالة نصب الحرية من وسط العاصمة بغداد، وآخر يأمر اتباعه قص يد تمثال الشاعر ابي نؤاس التي تمسك بكاس الخمرة وآخر يريد قلع تمثال الشهيد من بغداد او تمثال ابو جعفر المنصور، او تمثال عبد الكريم قاسم، هذا تخلّف وغباء حضاري وليس تديّن يخدم وحدة العراق واجياله، ومسخرة ان يخلو تاريخ امة من الامم او الشعوب من الاخطاء القاتلة التي يعني عندنا الحفاظ على نظافة تاريخنا اليوم منها هي لانصاف تاريخ كتبت حوادثه قبل سبعة قرون اكثر او اقل لم ينصف المذهب الفلاني. ما مدى تخلف المانيا اليوم عندما تحتفظ بتمثال هتلر وتعتبره رمز مرحلة تاريخية انتهى تاثيرها على الاجيال الحاضرة الالمانية، ومثلها في وجود تمثال ستالين في جورجيا او موسكو مثلا، وامثلة بالمئات كلها تشيرعلى قذارة تاريخ تلك الامم وادعاءنا نظافة تاريخنا الذي يجب علينا استكمال نظافته في ازلة تمثال الرصافي او ابي جعفر المنصور من بغداد ونضع تمثال قرد بدلا عنها كي يقف تاريخنا العراقي على رجل من ذهب واخرى من فضة في ادعاءاتنا المسخرة.

- يقول تجديد الغرباوي: عندما يكون الفرد تابعا لفقيه الدين ورجاله الموكيلين انهم وحدهم يمتلكون حقيقة الدين .فان في هذا تصبح استحالة اصلاح الدين بادوات مرتهنة في جعلهم مرجعية وفتاوى الدين ثوابت لا يحق ولا يجوز للفرد الاخذ بغيرها او من غير مصدرها. ان في تحنيط الدين عند المجموع حين يكن بيد رجال الدين في كل المذاهب الاسلامية، وبهذا تتراجع هيبة القانون المدني والقوانين الاخرى المستمدة من الدستور الوضعي.كما تصبح مثل هذه القوانين لا اهمية واقعية تطبيقية لها، عندها يصبح الدين ووصاياه المستمدة مذهبيا او اجتهاديا بديلا عن قوانين تنظّم المجتمع والحياة .

- كما ان الغرباوي يشخص اخطر اسباب انحراف الدين في قصديته الايمانية، وبذلك يصعب علينا اصلاح الدين قوله: انه لم يكن للفقيه او رجل الدين ان يحقق مركزيته ويحتكر سلطته لولا تداخل الديني بالسياسي، التي تجعل من الاجتهادات ووجهات النظر الخاصة، لها فهمها الخاص للنصوص المقدسة وخدمة اغراضها السياسية .

- ويقول الغرباوي ايضا : ولكي نجعل من الاصلاح الديني اصطلاحا حقيقيا، ابن زمانه ومكانه، هو في كشف الزيف وكشف الحقيقة في محاكمة الافتاء الشرعي المتعدد المذاهب، والمتعدد ايضا بوجهات النظر المختلفة مذهبيا في وجهات النظر الانفرادية ودوافعها.

تنظيرات الاصلاح الديني وعقبات التغيير الواقعي

اشكالية منهج معالجة النص الديني الاسلامي يتوزعه تقاطع مرجعية و مركزية قطبين فقط، المقدس الالهي الثابت (القران والحديث المسند منه والسنة النبوية)، وبين نصوص الديني الدنيوي المدني الوضعي المتغيّر حسب مصالح الحكام السياسيين المهيمنين على تديّن المجموع المساق بهيستيريا العاطفة الدينية الخرافية. الفكر الديني والاجتهاد الفقهي المذهبي وانتحال الحديث والقصص الخرافية والفتاوى، في مجمل تفاصيل الحياة العربية الاسلامية التي يحكمها ويمنعها زيفها التدينّي من الوصول الى ادنى مراتب التحديث في حياة الناس.

وبقيت هذه الاشكالية تحكم الدين في قدسيته المتقاطعة مع الفكر التديني الزائف منذ وفاة النبي محمد، اشكالية مستحكمة بدايتها خلافات السقيفة، غير محسومة خاصة عندما فرضت هذه الاشكالية المتناقضة نفسها على الامة العربية الاسلامية طيلة الفي عام من بعد تاريخ ظهور الاسلام، وبالحاح شديد ضاغط على الحياة العربية المعاصرة منذ اكثر من قرنين في العمر التاريخي للامة العربية الاسلامية المعاصر. عندما اصبح تقاطع التراث الديني ضد المعاصرة العلمانية وتاثيراتهما على منع تقدم الحياة بما لا يطاق. في وجوب مراجعة ونقد النص الديني الزائف الطاريء على حقيقة الدين. لكني استدرك ان تاريخ مدوّن يحمل كل سلبياته التي ندينها بحجة وجوب اصلاحها، ولا يعطل تقدمنا الحضاري افضل من كتابة مجلدات تملأ مكتبات تمجد تراثنا بكل سماجة عاطفية، وتكون سببا في تردي احوالنا لاسباب سياسية تتباهى بمجد زائف كاذب ولا يهمها اعدام حياة الناس على الارض في دنياهم.لم يعد اليوم الغني يستغل الفقير في بشاعة غياب الضمير والتفاوت الطبقي، وانما الاهم من كل هذا الاستغلال هو اضطلاع الجامعات بتخريج مئات الالوف من الخريجين في علوم الانسانيات والتاريخ واختصات دينية وغيرها مختلفة ورميهم امام الحكومة يملاون الشوارع في ايجاد وظائف حكومية لهم.؟

ورغم غياب المعالجة الواقعية اليقينية العقلية القطعية الحضارية في حسم هذه الاشكالية الملازمة كظل ظلامي معرقل يغذّي وجود الامة المتخلف حضاريا، تشعبت عنه المذاهب و المناهج والاجتهادات التي رغم الجهود الجبارة الكبيرة في تنظير مفكرين ومصلحين بذلوا محاولاتهم في وضع حلول الاصلاح الديني موضع التفكير الاصلاحي وليس التطبيق التحديثي على وجوب حضوره واهميته في تحديث وتقدم حياة الناس، في هدف وضع رؤى التنظير الاصلاحي تطبيقا علاجيا على ارض الواقع لتغييره نحو الاحسن والافضل، وفي عدم تطابق اشكالية التنظير في تقاطعها مع اشكالية انعدام الاثر والتطبيق على الواقع، وجدت رؤى الاصلاح التنظيري نفسها مغيبّة تماما و غائبة طيلة قرون وعاجزة في ملامسة وتوظيف تنظيراتها الدينية اصلاح الواقع المعيشي العياني المتردي في تراجعه المستمر.،لانها تنقد وتراجع مجلدات من كتب التراث التي عفا عليها الزمن، في محاولتهم استغفال الناس ان في تصحيح تلك المجلدات من قبل العلامة او الفيلسوف الفلاني كفيل في جعل الامة العربية الاسلامية تنافس حضاريا كوريا الجنوبية او اليابان ونترك الصين من الاستشهاد لئلا نتهم بالترويج للبروليتاريا العالمية .

هنا اجد كم كانت عبارة ماركس في منتهى العبقرية والذكاء قوله متهكّما على الفلاسفة والمفكرين الذين يريدون تغيير واقع الشعوب بالافكار العزلاء عن مهمتها الحقيقية في واقع الحياة :( لقد عمد جميع الفلاسفة قبلي تفسير العالم فقط، في حين عملت على تغيير العالم وتبديل الحياة). ونفس هذا المنطق تبنته البراجماتية الواقعية العملية الامريكية حين نادت لا قيمة حقيقية للافكار مهما كانت مقنعة ومتسقة نظريا، مالم تحقق لنا منفعة بالحياة وتقدما في المسار التاريخي الحضاري.

واجهت اساليب الاصلاح الديني التنظيرية، اساليب وموجات العداء الاجتماعي المتخلّف، ضد اصلاح الفكر الديني الذي كانت تحمله النخبة المفكرة على اكتافها وهمومها الفكرية الثقافية التي تثقل كاهلها وحدها فقط، ولا يناصرهم سوى قلة قليلة من المثقفين والمتنورين، الذين كانوا منفردين يتلقون وحدهم نتائج افكارهم التجديدية في شتى انواع الاعتقالات والسجون والنفي والتعذيب والصاق التهم التكفيرية والشائنة بهم التي تثبط هممهم وتبعد الناس اتباعهم. وكل هذا الاحتراب نتيجة وهم ان التنظير الاصلاحي الديني الفكري سيحل مشكلاتنا على الارض. المفكر الحقيقي ليس ذاك الشخص الذي يرغب تبديل قناعة مفكر او مثقف مثله مهما كانت اهميتها يقدر حاجتنا الى مفكرين يجهدون في تغيير قناعات المجتمع الضال .

تمّثلت هذه المعضلة الاشكالية بحقيقة صادمة ان الفكر النخبوي التنظيري لوحده حتى على افتراض توفير حرية التعبير له وصواب وصحة منطلقاته، لا يمكنه تغيّير الواقع ولا اصلاح الامة في تدينّها الساذج السطحي الذي تسوقه عاطفة التدين الوهمي وليس عقلية واقع التدين النقدي، بل بقي الواقع الاجتماعي المتردي المنحدر باستمرار نحو الجمود والتخلف، يجعل الفكر التنظيري عاجزا وعقيما عن احداث التغيير وايقاف تراجع او حتى سبقه التراجع الاجتماعي الغارق بالتخلف الثقافي والسلوك القطيعي المذعن لتلبية المخطوء بالحياة، ولو بالفكر التنظيري الثقافي وحده، وتحشيد محاربة جهود الاصلاحيين، بما يماشي الواقع المتراجع باستمرار رغم كل جهود التنظير التحديثي له في الكتب والمؤلفات ومنح الالقاب والشهادات فقط.

لا اعتقد كقاريء ليس اكثر ان قرأت عن سابقة في نهضة الامم والشعوب، انها اكتفت نهضتها وقامت بمن كتب لها من الاختصاصيين مؤلفات ورقية نهضوية، من دون وضع كل نظرية او اجتهاد تحت مجهر التجربة العلمية والتطبيق على الارض وفي حياة الناس وفي التاكد جيدا من قراءات النتائج المطلوبة المتوخاة متحققة ام لا .ان الحقيقة التاريخية قبل وبعد الدينية اكدت ان الاصلاح الديني على امتداد التاريخ لم يكن يمتلك سيفا في نشر افكاره التجديدية الاصلاحية في اصطدامه بجدار التخلف الاجتماعي المستمسك بالقديم الخاطيء، بل كان يمتلك كلمة الحجّة والموعظة الحسنة الى جانب اعمال القانون المدني في تنفيذه الاصلاح بدلا من السيف. ماجعل برنارد شو يصرخ بعبارته الميكافيلية: الانبياء غير المسلحين يخفقون دوما. وتنبه دعاة التديّن الزائف في فرض الواقع المتخلف القديم المطلوب امام فكرة التجديد بالعودة الى سلاح السيف والعنف والرعب والذبح والتكفير وقتل النفس البشرية بدم بارد وروح شيطانية لا تمتلك الحد الادنى من الرحمة وحصل من الوحشية الدموية مايأنف التاريخ تدوينه، وتأبى الانسانية المعاصرة تسجيله وتذكير الناس بمآسيه، باسم فرض وصاية الدين على كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس في ابسط معانيها.

ما حصل لدينا في انفصالية و انفصامية الاجتهادات الاصلاحية الدينية الحقيقية، عن الواقع الميداني المجتمعي الحياتي المتخلف ومنظّريّه الذي ظل محتفظا بثباته الرجعي المتردي، ما جعل من التحديث النظري فكرا مدونا بالكتب متعالقا بالتضاد مع سلوك الحداثة في الحياة في انفصال واستقلالية كلا منهما، يشتغلان بالتضاد كلاّ على جنبة وحده ولا تربطهما علاقة جدلية في التاثير المتبادل في التغيير المستمر نحو الامام في قيادتهما الحياة الاجتماعية ومجمل تكويناتها المتخلفة في قبول وتقبل الصحيح التديني ليعقبه الصحيح في التقدم الحياتي كما هو شان غيرنا من الامم في تجاربها، التي وجدت ومنذ بداية القرن التاسع عشر، انه بعد الاصلاح الديني يجب ان يعقبه الاصلاح المدني في الديمقراطية، لا كما هو الحال عندنا انه لا تجديد يكتب له النجاح الا بعد مروره من تحت قنطرة المهيمن الديني ووصايته على ختم جواز مرور كل نزعة اصلاحية .

وجدنا ان الفكر التنظيري المتقدم تحديثيا على السائد المجتمعي في اشتمالاته ومحاولاته تغيير الواقع والحياة في عدد قليل من المتنورين، انه لا تاثير له مطلقا في تبديل الواقع المتردي الذي يستمد كل تخلفه من مسارات الحياة المادية والاجتماعية والثقافية العامة من فكر ديني يقاطع اي فكر تحديثي يستمد مقوماته من اختلالات الفكر الديني في النص الزائف المعادي لكل شيء ينطوي على علمانية حداثية ومتابعيه ومناصريه في مجتمع يمارس فهمه الدين طقوسيا ويستبعده ممارسة وفهم معاصر للحياة.. بل نجد العكس ان ظاهرة فهم الحداثة في مجتمعاتنا العربية مقلوبه معكوسة، فهي بدلا من قابليتها المفترضة الثورة على الواقع المتخلف و تغييره في اعتماده اصلاح التنظير الديني للواقع الحياتي المتخلف، نجد عوامل الاعاقة وتردي الاوضاع تخدم واقع التراجع وتغذّية التخلف في توظيفها مكامن الجمود العقائدي في الديني. بدءا من محاربة تحديث النظام التربوي والتعليمي في مجمل مراحله وصولا الى منع اشاعة فكر ثقافي تنويري يشكل حصيلة وعي ثقافي ديني متعايش مجتمعيا بكل تياراته الدينية، ويتقبل تبديل جميع نواحي التردي بالحياة. وكانت اسباب هذه الانفصامية بين التنظير الاصلاحي الاعزل في غير المؤلفات والكتب وافتقادها وسائل التغيير الواقعي الميداني اجتماعيا، تكمن وراءه عوامل سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية.يمكننا التدليل مثالا بسيطا عليها ان الوضع التربوي التعليمي الابتدائي ومراحله التدريسية وصولا الى التعليم العالي في الجامعات العراقية، كانت قبل اكثر من 70 سنه افضل مما هو عليه الحال اليوم في العراق تربويا ومناهج علمية حديثة واساليب وطرق تدريس، وقس على مثله في كل جوانب الحياة..ان من الثابت ان مصدر ضخ الفكر التديني التعصبي التكفيري الى اليوم يكون في بعضه يصدر من الكليات والجامعات التي يقوم عليها اساتذة ينعتون انفسهم والى اليوم حملة شهادات دكتوراه او بروفيسور يجاهر على تلاميذه وسط قاعات التدريس الجامعية بفكر ديني (ملائي) كما كنا نتلقاه قبل فتح مدارس التعليم الحكومية من قبل اوصياء الاستعمار القديم على مقدراتنا !!!، في هذا المثل لا يكون مرتع تنامي الفكر الديني الرجعي هو تدني مستوى قبول الوعي التحديثي في الوسط الاجتماعي وانما في وسط ما يطلق عليها وسائل تدريس العلم والتنوير وطرق ومضامين رجعية المواد التي يتلقاها التلميذ والطالب. ونتيجة ذلك لم يتبق كفاءة علمية واحدة الا وهاجرت وعادت تقدم خدماتها العلمية للبلد الذي يستحقها، وفي تركها تفشي الرجعية الدينية في الجامعات من حملة كتب التدين الذي يجعلنا نضحي بالدنيا في كل مرارتها وعذاباتها من اجل جنة موعودين بها في السماء.

هنا يتبادر الى الذهن عن مصدر تغذية التطور الحاصل في السلوك الاستهلاكي المجتمعي تقدميا لما يطلق عليه البعض حداثة من نوع استهلاكي بدءا من السيارة الى اخر تسريحة شعر، مصدّرة لنا امريكيا واوربيا ومن مختلف دول العالم التي تقايضنا تصديرها لنا هذه الصرعات التافهة في تقليد استهلاك كل ماهو هابط ولا قيمة حقيقية له تربطه بالحداثة العصرية التي تنقل الشعوب من وهدة سقوطها المتخلف. نشتريه بعملة صعبة توظفها الدول المصدرة في الكسب الاستغفالي وفي العائد المالي والتجاري لها، بما يبقينا على سذاجتنا الفكرية، باننا لسنا بحاجة الى بذل مجهود اصلاحي يأتينا على طبق جاهز بحكم اننا نعيش من حولنا في عالم متحضر يتوجب علينا تقليده استهلاكيا بمدفوع الثمن وشرائه، بما ينفعه لا بما ينفعنا اكثر من سلة المهملات. والى متى نستطيع شراء قشور الحضارة التي لانساهم بخلق ادنى صفحة منها؟؟ 

يتبع لاحقا ج4

 

الباحث الفلسفي علي محمد اليوسف /الموصل

 

الجابري كما قلت صاحب مشروع عربي نهضوي افنى عمره في الاشتغال عليه، وقال كلمته للتاريخ بضمير نقي وقلب نظيف، ولم يكن ناقدا ادبيا او ثقافيا مثل طرابيشي الذي لم يتحمّل اية مسؤولية فكرية نهضوية في معاداته الجابري كمفكر موسوعي وليس مشروع الجابري فقط، ولا بد لي مضطرا ان اعرض بعض السمات الفكرية لمشروع الجابري التي سبق وان ذكرتها في مقال نشرته لي المثقف بعنوان (نحن وسؤال الحداثة في الفكر العربي المعاصر، الغرباوي نموذجا) اعرضه هنا في تلخيص شديد بالتالي ارجو ان لا يكون مخّلا :

 مرتكزات مشروع الجابري الثلاث هي:

1- المراجعة النقدية الصارمة للمشروع العربي الذي بدأه جمال عبد الناصر بداية عقد الخمسينات من القرن20، وانتهى سياسيا في ثورات ماسمي بالربيع العربي 2011م الذي بعد التخلص من الدكتاتورية تم تسليم الحكم في البلدان العربية المحررة من الاستبداد الفردي الى منظمات الارهاب الاسلامي على طبق من ذهب، لتقوم بكل وحشية في تجميد الفكر الديني اكثر واذاقة الشعوب العربية من الظلم ما لم تره عين ولا سمعت به اذن التي تنفذت فيها قوى الظلام والتكفيرالارهابي ولا تزال في بعض الاقطار العربية تامل في اقامة دولة خرافة تقوم على جماحم الابرياء وسبي النساء، وترمل النساء وتشرد العوائل والايتام والكثير بما لايسعه المقال.

الجابري في العودة الى مراجعة ونقد تجارب ايديولوجيا المشروع العربي القومي الفاشل الذي بدأه عبد الناصر وقامت عليه القيامة ولم تقعد في التآمر الامريكي – الصهيوني عليه ومعهم غالبية الحكام العرب، لم يكن يتطلع الجابري الى نشر الغسيل المؤلم في التاريخ العربي ولم يتشفّ بتذكير العالم بنكسة المشروع العربي النهضوي في العام 1967، كما فعل معظم مفكري و ادباء ومثقفي وشعراء الشام سوريا ولبنان بلا استثناء، ان يلعب الجابري لعبتهم ويبني لشخصه امجادا زائفة كغيره، في التلاعب بمشاعر الناس وعواطفهم القومية في محاولة تعميق نقمة لاتجدي او تمجيد حقبة تاريخية مدانة في حكامها وسياسييها وليس في مبادئها واهدافها، وكان الجابري يرى اكثر مما لا يعدّون انه لا مشروع نهضوي حقيقي غير افتعالي ولا استهلاكي لا يقوم على نهضة الامة العربية الاسلامية في مجمل خصوصياتها ومميزاتها، الا بالتسليم بحقيقة تاريخ العرب المسلمين، انه كما كان فيه مكامن ضعف وعيوب كبيرة ومتعددة، كان هناك ولا يزال ايضا فيه تاريخيا وتراثيا مكامن قوّة ومخزون حضاري يصلح اعتماده في تحقيق نهضة عربية معاصرة.وان المشروع العربي الاستبدادي اذا ما انتهى كتجارب حكم فاشلة فهو لم ينته كطموح عربي شامل في وجوب تحقيق نهضة عربية رشيدة حتى ولو بعد اجيال من تاريخ نضوب النفط العربي وانتهاء التمايز والتفاوت المالي بين اقطار عربية متخمة واخرى تتضور جوعا، ولا بد ان يعود العرب الى تحقيق نهضة تقدمية تجمعهم بحكم التاريخ اكثر من فرض تنفيذ رغبة او عدم رغبة الحكام العرب في مستقبلهم المنظور او غير المنظور، فلا يشهد تاريخ شعوب العالم موت تطلعات امة تريد العيش بكرامة ان دفنت احلامها، بدفن بعض قادتها ممن لم يحسنوا قيادة امتهم واضاعوا عليها فرص اقامة نهضة حداثية خاصة بهم .

1- دعوة الجابري في مشروعه النهضوي العودة الى التراث العربي تحدوه غاية وهدف انصافه لا زيادة تجريحه واماتته لما يحتويه من ذخائرحيّة فيه لم تمت بعد ولن تموت لان هذه المميزات تمثل الوجود المادي للامة قبل الوجود المعنوي الحضاري لها، وقال الجابري في احد عباراته الشهيرة ما معناه :علينا ان نكون اصحاب تراث نملكه و نقوده نحن ونعدّل به ونضيف له، وان لا نكون كائنات تراثية يسحبها الدين وراءه تابعين في تمجيده والسير خلفه كعبيد . اراد الجابري تأكيد ان الامة العربية تمتلك ارثا حضاريا واسعا جدا، ولا يمكن ان تفقد ثقتها بنفسها، وليس الاسلام عماد ذلك التراث الغني وحده، بل تصل جذوره الى حضارة وادي الرافدين في العراق، وفي مصر الفرعونية وحضارة سبأ في اليمن ودلمون في البحرين. ونحن مع كل هذا وكما يذهب له الغرباوي لاننقد الدين بما هو مجرد تكوين اصيل في تشكيل الوجود العربي، لكننا نركز اهتمامنا بنقد وتخليص الاسلام مما الحق به بعض المنحرفين من عنف وهمجية وتدمير هي ليست من صنع فكر النص الديني المقدس، وانما هي من تراكمات الانحرافات الموروثة المتجذرة في العقلية والسلوك الفكري الديني المنحرف، ومثلها في الاجتهادات المتزمتة التي عفا عليها الزمن وحان وقت تنظيف الجسم الاسلامي منها.

2- دعا الجابري في مشروعه النهضوي الاستفادة من مناهج الحداثة الفلسفية الغربية المعاصرة، و كيف استطاعت اوربا الخروج من ظلمات القرون الوسطى، لكن دونما اهمال الحذر ان لنا خصوصيات كأمة عربية اسلامية، ربما يجهلها الغربيون او يتجاهلون عنها، وفي خير تحذير طبقه الجابري على نفسه قبل غيره هو رفضه البنيوية ان تكون منهجا فلسفيا ومعرفيا مسعفا وملائما لنا في مراجعة ونقد تراثنا، وبقي امينا حريصا في كل مؤلفته على الاصالة العربية الاسلامية كجوهر لا يندثر ولا يموت في ضمير ووجدان العرب يتوحب عليهم وحدهم ايجاد حلول مشاكلهم الكبيرة التي تعيق وجودهم العصري الحضاري.

جورج طرابيشي ونقد النقد

ارى ان مصطلح نقد النقد في كل مجالات الادب والمعارف هو وسيلة ارتزاق ثقافي لمن لايمتلك شيئا جديدا يغني اصل النص المنقود برؤى تضيف له تخليقا ابداعيا يثريه. فنقد النقد ليس تفنيدا سلبيا لمقولات نصّية بحيث لا يجشم الناقد نفسه اكثر من تسجيل هوامش سطحية في تخطئة بعض فقرات النص الاصل وسحب سلبيتها التلفيقية على الكل.واجد في نقد النقد المتطّفل المتسوّل على من كتب وقال الكثير مثل المفكر الجابري، وهذا مدخل ينطبق على جورج طرابيشي الذي لا يمتلك شيئا غير النقد الادبي، وسوى اعادة قراءة الجابري ومؤلفاته من مصطلح نقد النقد في بناء امجاد فكرية زائفة لم يفلح النقد الادبي تحقيقها له.، وهو غائب في محل اقامته بباريس متناسيا هموم سوريا ولبنان ولا نقول هموم الوطن العربي الذي ربما كان تمذهبه الديني المسيحي يجعله خارج الانتماء الوطني العروبي بعكس الملايين من المسيحيين الشاميين وغيرهم من الذين وجدوا وطنيتهم العربية الحقيقية في تعايشهم مع جميع اديان وطوائف الوطن العربي معتبرين انفسهم اصحاب وطن لهم ماعليه وله ماعليهم سواء مع المسلمين او الدروز او غيرهم.

على كل حال ماقام به طرابيشي في التطفل الكتابي على مؤلفات الجابري يدخل في باب الاعتياش السلبي على مؤلفات وكتابات الجابري تعليقا وتجريحا في استعراضه قوة ليس في وقتها ولا في مكنها ولا حتى في ادنى اهدافها الوطنية، وليس لديه اي اضافة فكرية تحسب له في باب النقد على النقد، اوالتجديد وتقديم الافضل في نقده مؤلفات الجابري في نقد النقد. وفي مثال كتاب طرابيشي (نقد نقد العقل العربي) جال وصال طرابيشي في استعراضه عضلات النقد الاعتياشي التسوّلي في محاولته تهديم المشروع النهضوي العربي الذي وضعه الجابري في مؤلف واحد من سلسلة مؤلفاته تجاوزت خمسين مؤلفا هو (نقد العقل العربي) تناولت جميعها محورا مركزيا غاية في الحيوية هو مراجعة مسؤولة وثقافة بحثية موسوعية يعود الفضل لمن ابتكرها وقدمها في مجلدات في التاليف هو الجابري وليس كتّاب هوامش نقد النقد.

 ان الذي يضع على النقد نقدا اولى به ان يعطي البدائل التي تفتح امام القاريء افاقا او رؤى اهملها المؤلف صاحب النص المنقود وليس صاحب النص الهامشي لناقد نقد الاصل النصّي، ولا يهدينا غير معاول الهدم لكل بنيان مهما كان كبيرا او حتى متواضعا يضعه المفكرون العرب للخروج من حجرهم الحضاري الغربي الاستشراقي عليهم، و في محاولة الافادة من اخطائهم وبناء مرتكزات نهضوية لهم.

ادعو كل مثقف عربي اطلع على خرابات معاول الهدم الطرابيشية في مؤلفاته النقدية وكتابته هوامش استهدافه مشروع الجابري العربي النهضوي، وتسخير كل امكانات داعميه من دار نشر الساقي الى الداعمين خلف الستار في تجييشهم كل الامكانات المتاحة لديهم في النيل من الجابري كمفكر ولمشروعه العربي النهضوي، كمشروع تحديث عقلاني متزن بطروحاته التي أجمل الجابري في بحوثه ومؤلفاته ومقالاته وندواته كل مناحي التردي في الحياة العربية، مع اعطاء بدائل حلول للمشاكل التي يطرحها.الجابري في مجموع انجازاته الفكرية الموسوعية والفلسفية كان صاحب رسالة تاريخية اراد توصيلها بكل مسؤولية ونظافة ضمير لكل عربي على الارض العربية، الجابري لم يكن مثل غيره يتفلسف على لا شيء في محاولة استعراض سعة فكره والمامه بالتاريخ العربي ودقائق الفلسفة العربية الاسلامية.

من يقرأ مؤلفات طرابيشي في ممارسته التهديمية نقد النقد في استهدافه تقويض وتشويه ما اراد الجابري اقامته وتشييده، يجد ان مرجعية منهج الهجوم على منجز الجابري يغتذي من خلفية استشراقية تبناها والى اليوم من المفكرين العرب غير المسلمين العديدين، في دأبهم الذي لا يكل ولا يمل من تأجيجهم عقدة النقص التي تلازمهم انهم اقليات دينية مهمّشة، مظلومة وينبري من بينهم المتشّفين في انتكاسات العرب التي سببها نعرة اسيادهم المستعمرين من الفرنسيين والانكليز واخيرا الامريكان واسرائيل، الذين يجعلوهم يضعون قدما على الارض العربية، واخرى في بلاد المهجر الوطن الام وخدمة مراميه واهدافه الخبيثة المريبة بكل راحة ضمير وانتساب يقوم على دعارة الفكر والجسد.

ان ابسط مقارنة بين الرجلين الجابري وطرابيشي، وان كنت اراها مجحفة بحق الجابري تظهر مدى قوة وايمان وصبر الجابري في عدم الرد على جورج طرابيشي في ممارسته نقد النقد الاستفزازي له شخصيا كمفكر، نقد تجريحي تهكمي غير منصف بحق مفكر لم يستجد الاقامة السياحية لافي فرنسا ولا في اي بلد عرضت عليه استقباله بتكريم، ورفض كل الجوائز المالية من البلدان العربية وغير العربية وعاش الرجل الفيلسوف ومات ودفن في بلده المغرب العربي، ليكون بذلك من قلة من المفكرين العرب الذين تطابقت حياتهم مع افكارهم في ضمائرهم وفي سلوكهم المشرّف الممتليء عزة نفس وكرامة، ليس كما فعل جورج هو وامثاله من عرب الكدية والتسوّل في مسح اكتاف من يذكرهم عند ولي نعمة يكرمهم بزاد المهانة، وسلخ معظمهم اكثر من ربع قرن من اعمارهم مغتربين بعيدين يسمعون اخبار وكوارث بلدانهم كغيرهم من الاجانب. وينظّرون من اجل انقاذهم من مرابع الحضارة الاوربية.

بين اركون والغرباوي

كنت اشرت في مقالة لي على صحيفة المثقف، ان المفكرين محمد اركون وماجد الغراوي يلتقيان في معالجتهما اشكالية الفكر الديني الاسلامي وتعالقه المعيق المعرقل لحداثة عربية منشودة، وان الاصلاح الديني يعتبر المرتكز والمحور الاساس، في اقامة نهضة عربية اسلامية مستدامة ارادها الغرباوي كما سلفه الجابري عربية اليد واللسان.

لا شك ان الاصلاح الديني كان الشغل الشاغل لرواد مفكري عصر النهضة العربية منذ القرن التاسع عشر، في التزامن مع الانبعاث العروبي القومي للتخلص من هيمنة الاستعمار الكولونيالي الغاشم وقبله الهيمنة العثمانية التركية على حكم الوطن العربي والنزاع بينهما للسيطرة على ثرواته.من هؤلاء المفكرين الاصلاحيين نذكر : (الافغاني، الطهطاوي، محمد عبدة، علي عبد الرازق، رشيد رضا وغيرهم من مفكري مصر لوحدها) يشاركهم مفكري المغرب والمشرق العربيين بما لايمكن حصر اعدادهم من القدماء والمحدثين المعاصرين.

اركون كمفكر معاصر وضع اصبعه على الجرح القديم الجديد في وجوب اعطاء الاصلاح الديني الاولوية في وضع نقطة ارتكاز انطلاقة نهضة عربية حضارية واسلامية في الوطن العربي. واشتغل بخلاف الجابري على اهمية (نقد العقل الاسلامي) وليس العربي، في تحقيق انبعاث نهضوي. وبحكم الاقامة الدائمية لاركون في باريس على العكس من الجابري طرح اركون مبتدأه في الاصلاح الديني كما فعلت اوربا في سلسلة ومراحل بناء نهضتها بداية القرن الثامن عشر لتحصد اولى ثمار نهضتها في القرن التاسع عشر بفصل وصاية الكنيسة الكاثوليكية عن التدخل في الحكم والعلم وشؤون الحياة المجتمعية للناس. بمعنى ادق ان اركون اراد تطبيق التفكير الاستشراقي الاوربي وتحديدا الايطالي في ارهاصات النزعة الانسانية التي انطلقت منها في القرن الرابع عشر قبل انتقالها الى فرنسا ومن ثم دول اوربا قاطبة. وكذلك منهج الاستشراق الفرنسي ايضا كمنهج دلالي تاريخي متدرج مرت به انطلاقة الحضارة الاوربية في الثورة الفرنسية 1789م. في محاولة اركون معالجة اشكالية الفكر التراثي الديني عندنا وتقاطعه في كل شيء تقريبا مع معطيات العصر والحضارة العالمية.

في هذا التمّفصل طرح الغرباوي مشروعه في نقده الفكر الديني واصلاحه كمحور ارتكاز في تحقيق انطلاقة تحديثية لكنه باختلاف ان المنهج الاستشراقي لا يقود الى اصلاح فكري ديني عربي مشبّع باشكاليات تدفن معها منهج الاستشراق والهدف الفلسفي منه في مقبرة المحاذير العدائية الاجتماعية والفكرية المتجذرة عند العرب نتيجة مممارسات الاستعمار القديم بحقوق شعوبهم الانسانية المشروعة. ومن جهة اخرى ان شعار علمنة الحياة العربية برمتها سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، ليست من السهولة مقارنتها مع علمانية الغرب التي حققتها فرنسا منذ عام 1905م. لذا وجد الغرباوي نفسه وكذلك مؤهلاته الفكرية الدينية التخصصية بحثيا واكاديميا اقرب الى اتباع منهج يقوم على (اهل مكة ادرى بشعابها) في نبذه المنهج الاستشراقي في تنفيذ نقده الفكري، وفي تحاشيه اللقاء غير المجدي مع مشروع الجابري القومي العربي الذي تمليه على الغرباوي مشروع الاسلامية الحضارية من خلال اصلاح الفكر الديني اولا وقبل كل شيء. بعيدا عن كل من نزعتي القومنة العروبية ونزعة التمذهب الديني السياسي.

 من الحقائق التي ارساها اركون بوضوح ان بداية النهضة العربية تنطلق من انجاز مهمة الاصلاح الديني، كانت موفقة في تشخيصه الداء ولم يوفق في ايجاد منهجا سليما يحقق به غرضه. هذه فرادة فكرية تحسب لاركون لكنه اعدم هدفه الحضاري النهضوي في تمسّكه بمنهج ومصطلحات الفلسفة الفرنسية في البنيوية والتفكيكية في محاولته الباسها مشكلات الوطن العربية بهدف معالجتها. بل اركون كان مخلصا ومقتنعا ضرورة مرور الامة العربية بنفس المسار التاريخي المتدرج الذي مرت به اوربا وحققت بالتالي نهضتها الحضارية بداية القرن19. وهو ما افاد الغرباوي منه كثيرا في تقاطعه مع اركون في هذه النقطة تحديدا.

 الغرباوي وتفكيك النص

على العكس من متبنيات عديد من المفكرين العرب المعاصرين الذين يتلقفون منتجات الفلسفة الاوربية في معالجة النص العربي عموما فلسفيا، وتحديدا في تكريسهم ما يطلقون عليه اشكالية اصل النص في تكريس البنيوية له كسلطة ومرجعية لا قيمة لها من بعدها لأية مرجعية انسانية او ميتافيزيقية او تاريخية وغيرها، بخلاف ذلك جاءت تفكيكية دريدا مصادرة ان اصل النص الذي عماده (اللغة) لا يمتلك اية مرجعية تجعله مصدرا في محاكمة الافكار الفلسفية والجدوى المعرفية منها.

عمد الغرباوي كي لا تكون منهجيته في تفكيك النص الدينية نتيجته الخروج كما في التفكيكية عن اية حالة ثبات مرجعية يتطلبها البحث في تكريس منطلقات فكرية جديدة واجب اعتمادها. لذا اعلنها صريحة: (اني لست مع التفكيك – يقصد في مفهومه الفلسفي- غير اني اسعى لاقصى ممكنات الغوص في اعماق الظواهر الاجتماعية والدينية لا دراك الحقيقة، وتقديم قراءة موضوعية تناى عن المراكمة فوق ركام الخراب المعرفي ودوامة التخلف) ص10 من كتابه.

المتابع لكتابات الغرباوي يجد ان فهمه لتفكيك النص الديني لا تقوم عنده على التزام فلسفي سوى دأبه المتواصل وتنقيباته الحفرية في بطون التراث الاسلامي لوصول هدف حقيقة الاشياء والحوادث التاريخية، لا كما حدث ووصلنا تاريخيا مدرسيا تراثنا العربي الاسلامي خاليا غالبيته من كل صدقية يحكمها العقل النقدي التاريخي، وكذلك نقد الفكر الديني الحصيف، ولا من حيث كان يتوجب ان تكون معظم مواريثنا الحضارية في مسارها الصحيح وتجنيبها المجتمعات الاسلامية تبعات الاخطاء المتراكمة المبنية على وقائع زائفة كلفتنا دماءا وكوارث لم تكن لتحدث لو كانت الشخصيات المسؤولة عنها تاريخيا التزمت حقيقة الدين وليس شهوات الحكم والسلطة، وتغليبها امور دنياها على موعود دينها.

الوجه الّآخر الذي ابتغاه الغرباوي في نقده النص الفكري الديني وتفكيكه ليس في الوصول الى فائض قناعات اخرى بديلة تمتلك مصداقية قبولها العقلاني والمنطقي حاضرا بما يلغي اصل النص بالتعبير الفلسفي، وانما كان اهتمام الغرباوي منصبا لاعادة حضور جوهر النص الديني في قدسية بكارته من التحريف، قبل تدنيسه وتشويهه بالاكاذيب والدسائس والحيل التي جعلت من اصل النص مدفونا بالحياة قبل الممات مجردا من كل فاعلية او حضور ديني مجتمعي اخلاقي .اراد الغرباوي اعادة حرمة وقدسية النص الديني المستمدة من وحي النبوة المؤمن بها، الى حضوره الفاعل في الحياة العربية الاسلامية التي تفهم التدين اليوم اسلاميا قائما بالاسم، ومغيّبا غائبا في التجنّي عليه في ممارسة العنف والقتل والذبح والسبي والهمجية التي تغذي الاختلالات العقيدية والدينية والاخلاقية التي تسوس و تسود مجتمع قطيعي لا يفهم من الحياة اكثرمن مفردتي جنة ونار.

الغرباوي لم يقم بتفكيك النص الديني من اجل تحقيق غايات فكرية فلسفية تضاف الى اصل النص، وتكون قراءة جديدة تضيف هوامش عليه لا في رغبة محاولة تفكيك النص من اجل كشف اللامعلن المستور فيه، كما ان اختلاف تفكيك النص عنده، في التزامه حكمية النص الديني عليه دون النص الادبي ولا الايديولجي او الفلسفي لا تماهيه رغبة اعدام النص الاصل كما في فلسفة التفكيك. بل يعمد تفكيك الغرباوي للنص الديني ليس كتابة هوامش نقدية له ولا في محاولة اغتيال اصل النص كما في الفلسفىة في تعطيل مرجعيته الفكرية التداولية، بل في محاولة تثبيت اصالة النص الديني المقدس بيقينيات عقلانية نظيفة، وليس محاولة تفكيك النص فلسفيا بغية تضييعه في تضاعيف الالغاءات المتتالية عليه.

ان مشكلة الغرباوي مع الفلسفة في التفكيك ان النص الادبي او الفلسفي او المعرفي يتقبل القراءات الصعبة اللغوية التجريدية التفكيكية التي تتربص به في تعطيل فاعليته التداولية كمرجعية وثوقية ثابتة. بينما يكون تفكيك النص الديني لا يلتقي مع هذا النهج من الالغاء الفلسفي، لان الناقد هنا تحجّمه قدسية النص الديني موضوع البحث امامه، بانه نص غير وضعي يطاوع الالغاءات المستهدفته.

هنا التفكيك في مفهومه العابر للتفلسف تنحصر كل محولاته ومجهوداته في الوصول الى قراءة جديدة للنص له بعد تخليصه وتشذيبه من جميع المراكمات التي استهدفته بالتغييب ليس اللغوي كما في الفلسفة، بل بتغييب وعطالة دوره في الفهم العقلاني الصحيح غير المّحرف له، في فهم المسيرة التاريخية الدينية في حقائقها المغيّبة.

مشكلة النص الديني الذي يتأبى على التفكيك الفلسفي تتأصل مرجعيته التي يرفضها التفكيك اللغوي، من طبيعة النص الديني المضمونية كمقدس ديني وليس في مشكلته الشكلانية اللغوية فيه، النص الديني قدسيته المستمدة من معصومية القران لغة ومضمونا تحديدا، لا يمكن ان يطاله التفكيك بالتغيير او التلاعب به لغويا ولا مضمونيا، بل يطاله التفكيك بمعنى حاجته الى التحرر من سجن الخرافات والاوهام والانحرافات التي طرأت عليه باسم الحفاظ عليه.ولا اعتقد هذه الحقيقة البحثية غابت عن تفكير الغرباوي وفهمه لمعنى واختلاف التفكيك في النص الديني عنه في النص الادبي او اوالفلسفي السردي.

استطيع الجزم ان تطبيق هذا المفهوم البجثي الفكري عند الغرباوي حاضرا، انه ليس سهلا نقد النص الفكري الديني من دون استحضار حذر مبدئي ان هذا النص يمتلك خصوصية او اكثر، فهو يمتلك (قدسية) الهية لا يمكن للباحث الاقتراب من النيل منها، لكن الاهم هو ان النص الديني استقطب يمرور الوقت وتوالي العصور، تراكمات من الخرافة والتشويه والانحراف الايديولوجي القصدي، في تداول المخطوء الدخيل عبر عصور التحقيب الزمني الطويلة في مرافقة اصل النص الديني الصحيح مع التنامي الذي اصبح تنامي هذا المتراكم الطاريء المضلل يخلع على نفسه يقينيات كاذبة على انه اصل ومرجعية النص الديني الواجب تقديم الطاعة العمياء له في تغييب وتناسي استحضار واحياء حراك النص القدسي الحقيقي في تصحيح المسار التاريخي المخطوء. ببسيط العبارة لم يعالج الغرباوي فكر النص الديني من منطلقات فلسفية تفرض نفسها على النص وهو في عدم حاجته لها لا شكلانيا نقديا ولا مضمونا فلسفيا كموضوع.بقدر حاجة الغرباوي كباحث نفض جميع المتراكمات الزائفة المغيبّة لاصالة النص الديني.

تجديد الفكر الديني لدى الغرباوي، ليست غايته خلق تنظير نسقي فكري ديني متجدد، لا يعتبر اصل النص الحقيقي وقدسيته مرتكزا محوريا وحيدا في ايجاد تفكير ديني محايث العصر والحداثة، ولا علاقة لهذا الفكر غير دوره في تحرير المنطلقات الفكرية القدسية الاصيلة من راهنية الحجر عليها بالزائف والخرافي والايديولوجي.

ان الاتيان بفكر تجديدي ديني يتحاشى المساس اصل النص المقدس، وانما التجديد كان عند الغرباوي التجديد في استهداف موروثات التداول الانسي الذي اتخذ صفة المقدس، لابل احيانا اخذ يزاحم التنزيل النصي المعصوم، وعن هذه الحقيقة يقول الغرباوي ص 16.

(لا يمكن اهمال مصدر النص عندما يؤسس لأي سلطة سياسية او دينية او اجتماعية او معرفية، لانه هو المعنى حقيقة لتحديد مستواها، فيكون جزءا من النص، وليس خارجا عنه، اي يجب قراءة النص بما انه كلام الله او قول النبي ليستمد منها حقيقته وسلطته. كما بالنسبة لرواية الخلافة في قريش او الامامة في قريش. التي غيرت مجرى الحداث يوم السقيفة، فما كان لها ان تؤثر كل هذا التاثير لولا نسبتها للرسول، لذا قلبت موازين القوى باعتبار قدسية النبي ووجوب طاعته قرآنيا).

والتاكيد الاهم في ذلك على لسان الغرباوي: (ان سلطة النص المؤسسة تتوقف على مصدرها ومدى صلاحيتة الوثوقية وقدسية ووجوب طاعته). ص17

اكتفي بهذا القدر على امل تناوله في مقال لاحق.

 

علي محمد اليوسف – باحث فلسفي / الموصل

 

 

تلخيص وتعريف اولي: كتاب المفكر الاسلامي ماجد الغرباوي (النص وسؤال الحقيقة / نقد مرجعيات التفكير الديني) هو من سلسلة كتب المرحلة العربية الضاغطة على حياتنا المعاصرة في وجوب استنطاق النص الديني من اجل الوصول الى الحقيقة المغيّبة وراءه في مراكمة التخلف عبر العصور والتاريخ، ومن قراءتي غير التخصصية الدينية في قضايا الفكر الديني الاسلامي مضمون الكتاب، استوحيت الملاحظات التوضيحية التي ارجو ان اكون موفقا بها، وابدأها بالتالي:

1- لا اعتقد اكون مصادرا متسرعا أن لا اشير الى جهد الكاتب المميز، ان الكتاب هو واحد من سلسلة مؤلفات بدأها الغرباوي في تأسيسه مشروعا منهجيا نهضويا عربيا اسلاميا نقديا جريئا، يفرضه واقع الامة العربية والاسلامية المتراجع باستمرار. ويبتعد المؤلف في نسبة كل تلفيق وهمي يبّرز تاريخنا الموروث والديني تحديدا انه نموذجيا في معالجته كل مشاكلنا المعاصرة في الحياة. وكذلك في دأب غالبية كتابنا الاسلاميين في اعادة وتكرار سرديات التاريخ التراثية في نقد الفكر الديني الذي اعتاد ملامسة قشرة الاختلالات الواقعية التاريخية فيه، بعيدا عن تسمية الاشياء بمسمياتها الحقيقية، وطرح الاشكاليات التناقضية فيها على بساط المناقشة الجادة في تعرية الاكاذيب وابراز حقائق الامور المغيّبة.

كما استبعد- الغرباوي في كتابه - الشد والجذب المذهبي الطائفي المتوارث المتجّذر في عمق الخلافات الطائفية اليوم، في نقده الفكر الديني وقضاياه، لا بما يتوخاه غيره ويسعى له من المؤلفين الاسلاميين الايديولوجيين في تأجيج صراع الاجيال المذهبي الديني والطائفي وتعميقه اكثر، والذي بات معه التعطيل المذهبي للحراك الديني المطلوب خارج التطرف المذهبي، مغيّبا في صرف النص عن مهمته حراكه التجديدي الى امام، ومنذ زمن ليس بالقصير يأخذ هذا المنحى التصادمي صفة الانفرادية القسرية التي تحاول فرض هيمنتها السلطوية او الايديولوجية في احتكارها الدين والفكر الديني بها ولها من جانب المذهب الاسلامي الواحد، الذي يصادر اصل النص الديني في جوهره و براءته الموحى به تنزيلا مقدسا، في رفض كل قراءة نقدية مغايرة تجديدية للنص الديني، وفي تغييب اجلاء عصمتة المذهبية الوحيدة الروحية المستمدة من احتكار اصالة الايمان السماوي، وتمذهبه المتزمت في المذهب الواحد أوفي فئة ممن يطلقون على انفسهم الفرقة الناجية في تكفير اجماع المسلمين المدينين لضلالهم، وفي اغتيالهم هذه الاجماعية الايمانية الطبيعية البعيدة عن الكراهية والعنف، المترعة بحقيقة ارتباط العابد بالخالق بعلاقة روحانية متفردة في قيمتها الدينية، فقاموا بالتحريف العمد والانحراف المقصود، في نزع أصالة هذه الحقيقة الايمانية من عصمتها الالهية واستبدالها بفكر ديني بديل وتفكير ايديولوجي سياسي متخلف مخادع كاذب محتواه وقوامه المغالطات في ازاحة اصل النص الديني الموحى به واضاعتهم قداسته خلف حجب المتراكم من الاكاذيب و الخرافات والاجتهادات الفقهية الدخيلة، والتعصّب الاعمى في الاختلافات السائدة في تحريف الفكر الديني سياسيا، وتبني العنف واقصاء المسلمين من غير المذاهب في مصادر الحقيقة الدينية لحسابه وحده دون غيره، وتكفير غير المسلمين ومنع حقهم بالمشاركة في وطنهم . ومنع مهمة الاسلام المتعدد المذاهب من التعايش الديني مع الاخر، والاسهام المشترك في تحديث الحياة العربية الاسلامية. كل هذا وغيره وراءه دوافع ايديولوجية سياسية جعلت من النص الديني سلعة تباع وتشترى في اسواق ومزادات التخلف والتجهيل العام، وفي جعل هذا المتداول الفكري الديني الخرافي المتخلف العابر لانسانية جوهر وصدقية الدين في انسانيته ونقائه، المصدر الغالب والمعتمد في تعميم هذا التفكير الديني الضال والمضلل ايديولوجيا سياسيا في لجمه اية محاولة مراجعة ونقد وتصويب له تقتضيه الحياة العصرية بما يجعل من التديّن يماشي روح الحداثة ويبعث التجديد المتحضر في مناحي اجتهاداته التكفيرية العقيمة .

2- ان سلسلة المفكرين العرب والاسلاميين من الذين تنبهوا اهمية معالجة انحرافات الفكر الديني الايديولوجي وتكبيله ومنعه لأي تقدم في الحياة العربية الاسلامية، كانت بداياتهم مع مفكري بداية القرن التاسع عشر، مع العشرات من مفكري مصر القدامى والمحدثين، وغيرهم على امتداد الوطن العربي بما لايمكن حصرهم، ومن مفكري المغرب العربي خير الدين التونسي، ومحمد عابد الجابري، والجزائري محمد اركون، وعشرات آخرين ولن يكون مشروع الغرباوي آخرهم او الوحيد مع مفكري العراق وبلاد الشام، من الذين وجدوا ان تحقيق نهضة الامة مبتداها ومنتهاها يكمن بتحقيق معالجة اعاقة الفكر الديني الوضعي الرجعي واصلاحه امام تغييبه انطلاقة نهضوية علمية حضارية تنشدها الامة العربية الاسلامية. وفي هذا المنهج نجد الغرباوي يلتقي مشروع محمد اركون وعدد كبير من المفكرين الاسلاميين قبله الذين اجمعوا على اهمية واولوية الاصلاح الديني كبداية ومحور ارتكاز تقوم عليه حلول عوائق التخلف الاخرى المتفرعة عنه والمرتبطة به.واعتبارهم اعادة نقده و كتابته وتجديد النهج الاصلاحي الديني خط شروع اولي في تحقيق نهضة عربية حداثية. هنا يلتقي الغرباوي مع اركون في اولوية الاصلاح الديني كمرتكز نهضوي اصلاحي كما فعلت اوربا، لكن باختلاف (المنهج) الذي كان دعا له العديد من المفكرين الاسلاميين، في انجذابهم نحو منهج الاستشراق ربما كان ابرزهم اركون من المفكرين المحدثين، والذي لم يعتمده الغرباوي واستبعده في جميع كتاباته ومؤلفاته.

3- هل نحن محقّون في تساؤلنا لماذا لم يطرح الغرباوي النص وسؤال الحداثة بديلا عن النص و سؤال الحقيقة؟ وهل يوجد فرق تحقيق اسبقية بين الاثنين؟ ام ان الوصول الى تحقيق قيم الحقيقة يعني استيعابا ضمنيا في تحقيق قيم الحداثة على اعتبارهما اهم افصاحات العصر عن ذاتيته الحقيقية وترسيخ حقائق الامور في حداثة الحياة وفي معاصرة حقائقها العلمية السائدة عالميا. اجد ان لا اختلاف بين تحقيق الحداثة وتحقيق كشف الحقيقة انهما مرتكز واحد يجمعهما الهدف الواحد المنشود في تحقيق المشروع النهضوي، لكن يبقى الاختلاف في منهجية التناول وفي أسبقية هدف التحديث مجتمعيا في تخّلف تحققه عندنا قرونا طويلة بسبب تغييب الحقائق العلمية التاريخية والحقيقة الدينية حصرا.

الغرباوي كرّس جهده البحثي في التزامه منهجا (تاريخيا) يفرضه عليه هدف البحث وموضوعه لا وسيلته الثانوية التي اعتبرها بعض المفكرين العرب والمسلمين (هدفا ووسيلة) معا في كتاباتهم. وبما يفرضه مصدر النص القدسي كموضوع بحث ودراسة ومراجعة نقدية، يختلف عن مصدر النص الفلسفي في معالجته مباحثه فلسفيا منطقيا تجريديا مختلفا عنه في منهجية معالجة الفكر الديني، في ابتعاد المنهج الفلسفي عن منهجية التفكير الواقعي التاريخي الذي فرض نفسها على الغرباوي، فالمنهج عند الغرباوي لم يعد يشكل طموحا او هاجسا يراوده امام مهمة سعيه تحقيق تغييرا مفاهيميا في فكر ديني بات لا يماشي العصر ويتقاطع معه، وليس في اهتمامه مناقشة مباحث فلسفية يقتضيها ويفرضها منهج منطقي تجريدي يعتمد مركزية اللغة، ولا يعير اهتماما لحقيقة مشكلاتنا، ولا لمصدرية ثيولوجيا النص او تاريخيته، ولا مبتغى نقده فلسفيا، فما يعنى به نقد الفكر الديني تاريخيا عندنا يمثل بالنسبة لقيم الحداثة الغربية التي ارستها الفلسفة المعاصرة، مع تعاون تداخل العلم وايديولوجيا التحديث الديمقراطي عندهم منذ عصر النهضة والانوار، لم تعد تمثل عندهم اشكالية ذات حضور مصيري هام يهّم حياتهم كما هي حالنا.

فالبحث عن الحقيقة الدينية المفروضة علينا حداثيا عصريا لا تشكل لدينا ترفا فلسفيا يقبل المناقشة الزمنية الطويلة وتاجيل حسمها، انما هي عندنا تقوم على تصحيح مسار تاريخ خاطيء زمني طويل للفكر الديني لدينا كوقائع واحداث ومعارف موثقّة تاريخية تشكل ركيزة مفصلية مهمة من تراثنا العربي الاسلامي، وهذه الحقيقة التي نحياها وتؤرقنا لا تشكل مشاكلها اي اهتمام في مباحث الفلسفة الغربية المعاصرة فلا التاريخ ولا الديني ولا الحضاري ولا حتى العلمي يهم شعوبها اليوم كمشاكل تدخل صميم حياتهم المعيشية او مستقبلهم الحضاري في تقدم الحياة، فلكل من هذه المسارات المصيرية في حياة شعوبهم اخذت طريقها الصحيح المستقر الذي لا تحيد عنه ولا تسمح للانحرافات النيل منه واستهدافه.

4- اننا حسب ما اعلنه المفكر الغرباوي يهدف تحقيق (قيمة الجهود المبذولة المكرسة لنقد مرجعيات التفكير الديني واشكاليات العقل التراثي.). ص8

بضوء ما اشرنا له سابقا الغرباوي في مفارقة منهجية لا تقاطع هدفه التحديثي النهضوي، يعتمد المنهج الفلسفي البنيوي واحيانا التفكيكي في مراجعته النقدية الصارمة للنص بغية تصحيح اخطاء الفكر الديني واعاقاته الحضارية، وقراءته قراءة جديدة معاصرة كنص تاريخي وليس نصا فلسفيا لغويا مجردا، ولا يستحضرالغرباوي امامه كشف وتصحيح ونقد مسارات ومباحث الفلسفة المعاصرة في محاكمتها النص تجريدا (لغويا)، فالفلسفة وقضاياها لا تشكل عند الباحث العربي التاريخي اولوية بحثية قبل اولوية وتراتيبية هدفه المنشود في نقده الفكرالتراثي بضمنه الديني كتاريخ وتجارب واقعية، وكمعرفة واساليب حياة متجذرة مجتمعيا فقط، التي أخرجت عدم الاهتمام الغربي بها منذ استبعاد الميتافيزيقا عن مباحث الفلسفة المعاصرة في القرن السابع عشر. باختصار شديد جدا لا يصبح المنهج او الاسلوب الفلسفي غاية في ذاته لدى الغرباوي الذي لم يستغن عن الفلسفة كمنهج بحثي في نقده نص الفكر الديني، واصلاح يقينياته الزائفة المهيمنة والمكبلة لكل مناحي حياتنا ومنعها من التقدم الى امام بفارق جوهري مهم انه لم يطوّع حقائق الفكر الديني لمنطق الفلسفة.

من اهمية المشار له سريعا ان الغرباوي الذي وجد الفلسفة المعاصرة اليوم تقوم على محورية واولية دراسة النص (لغويا) تجريديا، من غير موضوع او محتوى متعّين واقعيا يفرض حضوره واهمية معالجته فلسفيا لا سرديا فكريا، نجد الغرباوي لجأ قسرا مضطرا بحكم واقعية النص الديني التاريخية التقديسية، الواجب مراجعته في تغليب اولوية مراجعته النص الفكري الديني ونقده تاريخيا في مضامينه كاحداث واقعية تاريخية حدثت وشكلت موروثنا الحضاري او جزءا مهما منه اختلط فيه الديني والسياسي والمجتمعي.اي انه لم تستهوي الغرباوي تفريغ مبحثه الفكري الديني تاريخيا فلسفة محورية اللغة الغربية المعاصرة.

ما فعله الغرباوي في مؤلفه بخلاف غيره، وحضور هدف التحديث المجتمعي امامه، وجد ان مناهج الفلسفة المعاصرة التي يقوم مرتكزها على معطيات واهتمامات هي غيرها عندنا، فاستبعد الفشل الذي كان ينتظره لو انه اعتمد منهج التجريد الفلسفي القائم على مركزية محاكمة النص لغويا التي اوقعت العديد من المفكرين العرب في حبائل المنهج الفلسفي الذي يدور حول المشكلة ولا يقترب من تصحيحها او حلّها، وعلى حساب اضاعة الموضوع، كي لا يتهموا بالكلاسيكية التنظيرية فابتلع جهودهم الفكري الافتتان بمناهج الفلسفة تاركين معالجة المواضيع والاشكاليات التاريخية في تراكمها الاعاقي تضيع خلف ظهورهم في ركضهم التمّكن من التفلسف المعرفي غاية بذاتها وليست اداة معرفية لتغييرمشاكل الحياة العربية، اذ ان هذا النوع من الآلية الفلسفية القائمة على تحليل وتفكيك النص لغويا، كان ممكن ان يسقط جهد الغرباوي النقدي التاريخي ويضيّعه في حال استهواه المنهج الفلسفي قبل هدف نقد النص موضوعيا وتاريخيا للخروج بنص متجدد يخدم غرضه البحثي، ولوقع كما اشرنا في فخ مباحث الفلسفة التي تتعامل بتجريد لغوي وليس مع وقائع تاريخية تفرض معالجتها كنصوص يحكمها التاريخ والجغرافيا والزمان والمكان، ويستشهد الغرباوي بشخوصها ودورهم في صناعة وكتابة التاريخ التديني الاسلامي الصالح او الطالح، وهذه جميعها لا تشكل اليوم اهتماما فلسفيا وبخاصة دراسة النص الديني والكشف عن تخلفاته وانحرافاته القاتلة بضوء مدارس التفلسف الغربية. من الملاحظ في دراسة اشكالية التراث العربي الاسلامي مع المعاصرة والحداثة ان غالبية المفكرين العرب الاسلاميين يبتعدون نهائيا عن تدعيمهم الافكار التنظيرية الفكرية باستشهادات يستحضرها الغرباوي من بطون التاريخ بشخوصها المتنغذة ويضعها بكل جرأة وشجاعة امام محاكمة النص الحداثي وكشف حقيقته كما هي تاريخيا وليس كما تلقيناها تلقينيا كمسلمات يقينية لا تحمل ادنى درجات المناقشة.

هذه المباحث الفلسفية الغربية التي يضيع فيها الموضوع في الركض وراء المنهج الفلسفي الشكلاني حتى المدارس والتيارات الفلسفية الغربية المعاصرة بدأت التململ للخلاص من شراك اللغة التي اصطادت مباحث الفلسفة وادخلت الفلسفة في نفق التجريد اللغوي العدمي والضياع الذي يستطيع قول كل شيء ولكنه لا يعطيك نتيجة اي شيء. لان الاسلوب او المنهج لا يحدد لك ولا يعطيك موضوع البحث، وانما العكس هو الصحيح فالموضوع هو الذي يحدد لك اسلوب وطريقة معالجته. في النقد التاريخي الوثائقي الواقعي لا يستطيع الباحث الدوران في فلك التجريد في اضاعته الموضوع، في وقت يتسنى مثل هذه المراوغة المخاتلة في الدوران التجريدي في المنهج الفلسفي الذي يهتم بالاسلوب في الصيغة اللغوية الشكلانية في محاولة معالجته امورا لا علاقة لها بالتاريخ ولا تجد من يسأل الباحث ماذا حقق من جديد في تغيير القناعات الفكرية قبل تغيير واقع الحال.

واذا كان الغرباوي يلتقي الفلسفة انه بحسب قوله (يسعى وراء اختراق الممنوع واللامفكر به، اذ جميعها تراكم معرفي لمقاربة الحقيقة وترشيد الوعي ضمن مشاريع هادفة فاعلة) ص9. من هنا جاء انشداد الغرباوي كما ذكرنا الى محاكمة النص الفكري الديني الاسلامي تحديدا بمنهج تاريخي محدد الهدف واسلوب واقعي مباشر في المعالجة وفي جرأة استقدامه شخوص اسلامية تاريخية لعبت دورا مصيريا في صناعتها تاريخا عربيا اسلاميا منحرفا و مفاهيم خاطئة كانت ادوات تنفيذها شهوة الحكم وتسمية اشخاصها وتحميلهم مسؤولية الانحرافات التي عمقت الفجوة المذهبية الاختلافية التي وصلت ومنذ العصر الراشدي الى حدود التكفير وشن الحروب والاقتتال والدسائس في الدين الواحد. هذه الانحرافات الخطيرة والتي كانت سابقا تسيّجها اسلاك شائكة من الاضاليل السياسية الباطلة، أو خطوط حمراء في دواخلها ونواياها تحريم وتجريم يصل الى حد التكفير والزندقة. تناولها الغرباوي ووضعها تحت حكمة ومنهج القراءة العقلانية الجديدة، بغية الوصول الى قناعات يقينية لوقائع تاريخية تحمل حراكها التضليلي، وتشكل موروثا فاعلا في صنع العقل المستقيل والمغّيب عن فهمه واقعية الامور وحقائقها المطمورة تحت تراكم تداول المخطوء المكتسب قدسيته الزائفة المستمدة من لا اصالته المغيّبة قسرا وحسب، بل من معالجة تراكماته التي ضاع معها الكثير من الحقيقة والاصالة التي لا غنى لنا عنها الا في احيائها ان تاخذ دورها الحقيقي في بناء نهضة عربية اسلامية حضارية معاصرة.

5- اشار الغرباوي في لمحة سريعة للفيلسوف محمد عابد الجابري، انحيازه، للعقل المغربي ضد العقل المشرقي في مشروعه نقد العقل العربي، مما اضطر جورج طرابيشي – والكلام للغرباوي –تاليف كتاب(نقد نقد العقل العربي) او (رهان مشاريع انسنة المقدس على اقصاء مطلق الدين كشرط اساس للنهضة في مجتمع يستأثرالتراث بمعظم مرجعياته العقيدية والثقافية، بل وحتى السياسية في رهانات خاسرة). مقدمة كتاب الغرباوي.

لا اريد مناقشة الاستاذ الغرباوي، رأيه في الجابري، التي عالجها بذكاء ليس ادانته الجابري في تكملة عبارته رفض (انسنة المقدس على اقصاء مطلق الدين كشرط اساس للنهضة ) وهو مانجده اهتماما محوريا في فلسفة وفكر الجابري.

الجابري عنده العقل العربي الاسلامي في المغرب هو امتداد النزعة العقلية التي اخذها بن رشد عن ابن سينا والفارابي والكندي والمعتزلة، وارساها في المغرب العربي كعقل نقدي انصار بن رشد في الاندلس والمغرب من الذين جاؤوا بعده مثل ابن ماجة وابن طفيل، الذين اعتمدتهم اوربا دعاة العقل في الحضارة العربية الاسلامية. واتهم الجابري في انحيازه البحثي هذا ابو حامد الغزالي في مناوئته لابن رشد في الدعوة الى الصوفية وفي كتابه تهافت الفلاسفة التي ناصره به الاشعرية ضد المعتزلة، في معاداتهم العقل الايماني، بدلا عن الايمان الصوفي المعتمد وجدانية القلب قبل العقل. كما ان الجابري برر اتخاذه مثل هذا الموقف الموضوعي المناويء، ان الغزالي لم يفت (يفتي) في الجهاد ابان الحروب الصليبية، وقد اتخذ جورج طرابيشي موقفه المضاد لما ذهب اليه الجابري في منحى لا يخلو من تأليب مبطن ضد عقلانية المغرب العربي القريب من اوربا بما ساوضحه لا حقا.

لا اعتقد جازما ان الجابري اراد تحميل عطالة نهضة التاريخ العربي الحضاري ومنع امتداده التقدمي على عاتق فلاسفة اهل المشرق العربي وتقصيرهم انهم ورثة التاريخ الصوفي في الدين وقضايا الحياة العربية الاسلامية، ناعتا اياهم انهم كانوا بلا (عقل) حضاري وبغداد ملأت الدنيا وشغلت الناس ومثلها حاضرة البصرة والكوفة وسامراء. الجابري مفكر وفيلسوف نهضة عربية اسلامية عاشها في ضميره وحملها في فكره وقلبه، تعتمد قواها الذاتية ومخزونها من التراث الحضاري، اما جورج طرابيشي فهو ناقد ادبي متشفّي في مراوحة العرب المسلمين في اماكنهم التاريخية المتخلفة، ولم تستطع جعجعة طرابيشي في (نقد النقد) الذي استهدف الجابري ومشروعه من تقديم ادنى اسهام حقيقي بديل يساعد الامة على نهوضها الحضاري، ومتابعاته النقدية حملت الكثير جدا من التجّني التيئيسي ليس في محاولته الاجهاز على مشروع الجابري النهضوي، وانما تشفّيه وهو مقيم مخضرم بباريس على تضييع العرب مراحل تاريخية زمنية في تأخير نهضتهم المنشودة وتخبطهم في تاريخ من الضلال الذي يقوده المهيمن الفكري الديني الاسلامي بكل تسمياته ومذاهبه ومخرجاته. وهو ما ساوضحه اكثر لا حقا على قدر اهميته.

التمس العذر من المفكر الغرباوي ارجائي عدم التركيز عرض بعض افكاره في كتابه تفصيلا فهو خارج اهتماماتي في الكتابة الدينية ومباحث الاجتهاد الفقهي لها، قبل مغادرتي هذا التوضيح الاشكالي الذي اراده طرابيشي في محاولة النيل من الجابري كمفكر و من الجابري كصاحب مشروع نهضوي عربي، لا ضير في مناقشته وفي اعطاء البديل لما ذهب الجابري له في مؤلفاته اذا وجدنا فيه تقصيرا او ضلالة، استطيع القول ان قراءة طرابيشي للجابري ليست بريئة لا في شرح حمولة النص الفكري الديني الاسلامي، ولا في مغالطاته التاريخية الفلسفية والمعرفية التي الصقها بالجابري.كما اهمل طرابيشي دراسة النص الجابري في تشخيص الخطأ فيه وتقديم البديل ان كان يتمكن منه، اراد طرابيشي اغتيال التفكير الجابري وحلمه بمشروع عربي نهضوي يكون الاسلام فيه فاعلا داخل منظومة عربية حداثية، يمكن للعرب تحقيقها، الجابري نقد الفكر الديني من خلال نقده العقل العربي عامة، وهو بهذا يقاطع اركون في اقتصاره على نقد الفكر الاسلامي، وتناول الجابري نقد العقل العربي من خلال انضواء الدين كمكّون اساس داخل المنظومة العقلية الحضارية العربية الاسلامية الذي يبدو طرابيشي يرغب استئصال مبحث الاسلام منها حتى من دلالتها كعنوان يهم امة عربية اسلامية. كما تناول الجابري كل مفردات الحضارة العربية الاسلامية وتكوينها ومكوناتها، وليس الدين وحده بمسؤولية تاريخية حضارية لم تقفز فوق الواقع ولا في منهجه النقدي المتزن، بينما بقي طرابيشي ينبش التاريخ الاسلامي بحثا عن كل مواطن الاعاقة والانحراف والتخلف فيه، بصيغة الدفاع عنه وتبيان عجز الجابري صياغة مشروعه العربي النهضوي، ما اضطر الجابري اصدار كتابين له (نحن والتراث) والاخر عن (القران) قبل وفاته، معتبرا وبتاكيد سليم ان الدين الاسلامي في جوهره واصالته وقيمه ليس من السهل ابدا على احد شطبه من تكوين وجود العرب كأمة من تاريخهم الحضاري ماضيا ولا حاضرا او مستقبلا باسم انه يتقاطع مع علمانية الدولة المعاصرة العربية الاسلامية الحديثة المنشودة المرغوب بها في ابتداء سلوك طريق نهضة جديدة للامة، تبدأ من رفض الفكر الديني لا في اصلاحه.

يتبع في القسم الثاني

 

علي محمد اليوسف – باحث فلسفي / الموصل

 

 

النص من نتاج مُبدعه، إن كان مُبدعه بشر مثلنا أو ما أوحى به المُبدع الأول لرُسله وأنبيائه، وسؤال الحقيقة هو سؤال الفلسفة في سعيها للبحث عن الحقيقة الضامرة خلف الوجود، أو في ميتا النص القُدسي، بل وحتى ميتا النص الابداعي للبشر.

في كتاب ماجد الغرباوي "النص وسؤال الحقيقة" جرأة قلَ نظيرها في البحث عن (المسكوت عنه) في تراثنا الإسلامي وتماهينا مع تفسيراته (الدوغمائية) وكأنها سُبل النجاة وسفينتها.

لا أدري لماذا يُحيلني الغرباوي في كتاباته ومنها كتابه هذا إلى تذكر كتابات (نصر حامد أبو زيد) لا سيما في كتابه (النص، السلطة، الحقيقة)، لربما لأنهما يشتركان في ذات الهم، ففي كتاب (أبو زيد) إشتغال على نقد القراءة الأيديولوجية (العقائدية) للتراث، وذات الهم في كتابات الغرباوي، وفي كتاب (أبو زيد) نزوع نحو تبني النزعة التاريخية، وكما عرفها أبو زيد أنها "تعني الحدوث في الزمن، حتى لو كان هذا الزمن هو لحظة إفتتاح الزمن وابتدائه، إنها لحظة الفصل والتمييز بين الوجود المُطلق المُتعالي ـ الوجود الإلهي ـ والوجود المشروط الزماني، وإذا كان الفعل الإلهي الأول ـ فعل إيجاد العالم ـ هو افتتاح الزمان فإن كل الأفعال التي تلت هذا الفعل الافتتاحي تظل أفعالاً تاريخية، بحكم أنها تحققت في الزمن والتاريخ، وكل ما هو ناتج عن هذه الأفعال الإلهية "مُحدث" بمعنى أنه حدث في لحظة من لحظات التاريخ"1 .

اشتغل الغرباوي على النص ومُشكلات السياق، وكذا الحال مع (أبو زيد)، فقد حاول الغرباوي الكشف عن الدال في النص الذي ظل يُستخدم في حقله الدلالي واللغوي الأصلي و"التاريخاني" بعبارة عبدالله العروي من دون المساس به، وكأنه نص لا يقبل التأويل، أو من غير المسموح لنا تأويله!.

شارك الغرباوي علي حرب في تمييزه بين النص والخطاب، فالنص بحسب علي حرب "لا يحمل دلالته في ذاته دلالة جاهزة ونهائية، بل هو فضاء دلالي، وإمكان تأويلي، ولذا، فهو لا ينفصل عن قارئه" (ص9، نقد الحقيقة).

"النص ـ بعبارة علي حرب ـ ينص على المعنى الجوهري الأصلي" (ص24، نقد الحقيقة)، و"الخطاب حجاب" (علي حرب: نقد النص، ص8) لأن "الخطاب يُمارس بطبيعته حجباً للواقع" (نقد النص، ص13)

كتب الغرباوي في نقد مرجعيات الفكر الديني في مُحاولة منه للعب على (المسكوت عنه) وكأنه لاعب سيرك يمشي على حبل شبيه بالأعراف، ألا وهو الخيط الرفيع الذي يمشي عليه بعض السالكين بين الجنة والنار، فم يُتقن منهم اللعب سيعبر ليكون من أهل الجنة.

مثل ماجد سينجو ونحن القراء الفقراء (المُشاهدين) نلحظ مهارته وقلوبنا تدق وكل منا يُخاطب نفسه بالقول: إنه سيقع، وحينما ينتهي العرض نجد أن الغرباوي سار على الحبل ولم يقع.

ربما يُنتقد وتلك من ميزات الكتابة المُميزة إن كان صاحبها مُتمكن من أدواته، ولا أظن أن هُناك من يختلف معي من الذين قرأوا كتابات الغرباوي فيقول غير ما أقول في أن الغرباوي ماهر في نقده وغوصه في مرجعيات الفكر الديني التي هي في الأصل مرجعياته.

يبحث الغرباوي في مقاصد الدين وغاياته، وينتقد توظيفه الرجعي (الآثم) وما يعيشه دعاة هذا التوظيف من العيش فيما أسماه الغرباوي "أوهام الحقيقة".

رغم أن الغرباوي يعترف بـ "أن لكل نص سلطته" إلَا أننا نجده مُتمرداً لا يرتكن لسلطة نصية بقدر ما يرتكن لسلطة العقل.

عودته للنص بوصفه نتاج معرفي يستمد منه رؤيته لفهم جديد يُقوض الفهم القديم أو السائد، لذا نجده لا يهمل النص حينما يؤسس الآخرون لهم سلطة يدعون أنها من أصل من أصول وجود النص.

لم يكن الغرباوي سوى قارئ للنص أو مُتلق يعي ما يقرأ، فضلاً عن وعيه بحيثيات نشوء النص وشروحه وهوامشه، لذا نجده يكتب في نقد النص بوصفه مُتلق واع يعرف أن قيمة النص تزداد أو تنقص بمقدار ثقافة ووعي قارئه.

إن كل فهم إرتكاسي أو نكوصي للنص إنما هو نابع من ثقافة القارئ (المُتلقي) وبيئته، وكذا الحال مع القارئ المُتلقي (التقدمي) وهنا نقصد بهذا المفهوم هو مقدار ما يمتلك القارئ من شغف في القراءة وقبول التنوع والإختلاف الفكري والعقائدي بوصفه إضافة معرفية لما تختزنه الأنا.

يُميز الغرباوي بين النص والخطاب، فالنص عنده "مُغلق على منطوقه مهما بلغ من ثراء في مداليله".

"وأما الخطاب، فمُتحرر نسبياً بما تقتضيه تقنيته، لكنه مُغلق حول رسالته، لا يُمكنه التلاعب بها، بل تقتصر مهمته على إقناع المُتلقي وترسيخ إيمانه".

وهنا نجد أن الغرباوي يرى أن مهمة الخطاب هي مهمة رسالية أو عقائدية، بل وحتى أيديولوجية، وينبغي لمن يؤمن رسالية الفكرة تصديرها والدفاع عنها لا نقدها وتحليلها.

أما النص فهو كما صرح بذلك من قبل أستاذنا حُسام الدين الآلوسي أنه نص (استاتيكي) وكل ما فيه من حيوية و "ديناميكية" إنما تأتيه من القارئ أو المُتلقي، فإن كان ذلك القارئ ذا ميول "دوغمائي" ستجد أن النص مُقفل لا مساحة فيه ولا قبول لكل مُختف أو مُغاير، ولكن إن كان القارئ (المُتلقي) يعيش في مُجتمع مدني ويمتلك ثقافة فيها قبول للآخر فستجد يفك إنغلاقية النص ليجعله ناطقاً بالمحبة والمودة والدعوة للتسامح والتعارف.

لا يدعو الغرباوي لنقد النص لأنه يرى أن النص القدسي عصي على النقد، ولكنه يدعو للكشف عن ثراء المعنى الظاهر للنص أو الكامن فيه.

حاول الغرباوي في كتابه هذا الدفاع عن حرية المُعتقد، ونقد الفهم الفقهي القاصر للنص.

يرى الغرباوي أن سبب ما نعيش فيه من بؤس وتخلف ثقافي وفكري إنما هو نابع من "إمعان المذاهب الإسلامية في تشويه معالم الدين".

إن الدين برأيه له حقيقة واحدة، ولكن سُبل الوصول لها تتعدد بعدد أنفاس الخلائق كما يقول ابن عربي.

لا يختلف الخطاب الديني عن الخطاب الطائفي أو المذهبي، لأن في طبيعة التكوين فيهما نفي واقصاء للآخر، والخطاب الديني ليس الدين، بل هو فهم الدين كما يرى (عبدالكريم سروش).

74 majed600

في باب الكتاب الثاني (النص والحقيقة) أحالني الغرباوي لكتابات علي حرب "نقد النص" و"نقد الحقيقة" ولا أدعي تطابقهما بقدر ما أرى تناغمها وإنسجامهما في تبني لازمة أثيرة في سمفونية النقد للنص والإنشغال في "سؤال الحقيقة".

فالغرباي يرى في الخطاب نزوع نحو تبني موقف عقائدي أو أيديولوجي ما والدفاع عنه والترويج له، فالخطاب فيه استحضار وتغييب، والنص أداة بيد من يرم استحضار أو تغييب.

يبحث الغرباوي في نص القرآن عن آيات بينات تدعونا للتعقل وتبني الإيمان وفق منطق عقلي برهاني، والجميل البهي في كتابه هذا أنه لم ينشغل بأقوال الصوفية والعُرفاء وصيغ كتاباتهم الإنشائية بقدر ما كان مُنشغلاً باثبات عقلانية النص الديني، أو ما قال عنه بأن "القرآن يطمح لإيمان برهاني"، ولا تقدير عندي لمقصده لأنني أعرف أن خطاب القرآن فيه مقبولية لمن آمن على الفطرة أو آمن وفق مُقتضيات الخطاب الجدلي، وهناك بعض من البشر خصهم القرآن بقولة "الراسخون في العلم" وربما يكون هؤلاء هم الفقهاء، أو ربما يكون الصوفية وبلحاظ الآية "وإدعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" ومن يدعو لسبيل ربه بالحكمة هم الفلاسفة، وربما يكونوا هم من قصدهم النص.

"الناقد هو الوحيد القادر على تحدي النص في مراوغته"، والمراوغة يعني بها الغرباوي "مراواغات الخطاب الديني" و "تزوير الوعي".

الإيمان خطاب عاطفي بحسب ما يرى الغرباوي، ومهمة "القراءة التأويلية" هي الحفر في "اللامُفكر فيه" ونقد ما أسماه الغرباوي "قبليات الوعي التراثي" وتجاوز تداعيات "المُهيمن الرمزي" الذي ظل عقلنا يستكين لمعطياته، وأظن أن في رؤيته هذه توظيف لمفهوم (بورديو) (الرأس مال الرمزي)، أو الإفادة من توظيف أركون لمقولات (بورديو).

"إن أزمتنا الحضارية أزمة عقل أولاً، فنحتاج لتفكيكه واعادة تشكيله وفق مبادئ ومناهج مُنتجة للمعرفة والقيم الحضارية".

كان جرأة الغرباوي في تفكيكه وتحليله وهو الخبير بمُضمرات النص وتفسيراته الفقهية تتجاوز في جراءتها بعض من أطروحات المُناهضين لسلطة النص والقبول بنزعته التسليمية.

في كتاب الغرباوي هذا كشف وتعرية للخطاب بوصفه "وعي زائف" بعبارة الماركسيين، ليحفر في (المسكوت عنه) في النص بوصفه (بنية معرفية) همهما نقد الوعي السائد للانتصار للوعي العقلاني المُضمر الذي لا تروم تفاسير المُفسرين الكشف عنه، ولا فقهاء الأزمان المُتعاقبة يرغبون بذلك.

من ميزات نتاج الغرباوي (العقلنة)، ونقصد بالعقلنة هنا هي محاولة الغرباوي مُقاربة النص مع الواقع، أو (التفسير الواقعي للنص) للخلاص من يقينيات التفسير الفقهي للنص.

سؤال الحقيقة هو سؤال الفلسفة التاريخي، ولكن هل تمت الإجابة عنه؟، بالتأكيد ستكون إجابتنا (كلا)، لأن في حال وجود إجابة يقتنع بها البعض سيتحول سؤال الحقيقة من كونه سؤال معرفي ليصير جواب لتفسير نزوع أيديولوجي، وذلك ما يبغيه الغرباوي.

كان جُل هم الغرباوي في كتابه هذا هو مُلاحقة سؤال الحقيقة وتشريح استفهاماته، كي لا تضيع في راكد القول، بقدر ما يُصيره أسئلة أخرى تستفز العقل النقدي وتفضح مراواغات النص.

رغم أن الغرباوي يرتكن بكتابه هذا لدحض الحجة بالحجة العقليق، وهو كتب في في تعلم طُرق (الحجاج)، إلَا أنه يرغب بأن يكون قوله شبيه برمية هدَاف في مرمى الخصم.

الخصم عنده ليس هو الحكم، لأنه يُفكك مقولات الفكر الديني بوصفه حكماً لاخصماً، فهو من نمت معرفته داخل فضاء هذا الفكر، ولا زال يعشقه ويرغب بالانتماء له، وإن صنفه من لا يفقه بأنه خارج عن النسق الموروث في تبني المُعتقد والدفاع عن مذهب.

ميزة الغرباوي أنه لا يخشى نقد ما سُميَ بـ "الخطوط الحمراء"، فهو يشتغل في الكشف والتعرية لخطاباتها لا لأنه يروم الكشف عن زيفها الضامر في أقوال وكتابات أصحابها، بل لأنه مُحب للحكمة، لذلك نجده يهيم في نقد الوعي (اللاتاريخي) السائد في فهم المُقدس سعياً منه لتصحيح مسار (المعرفة الدينية) وتجاوز أسطرته في المخيال (الشعبوي) والتغني بـ (اللامعقول الديني) لجعله مُنساباً ومُتسقاً مع الفهم (التاريخي) للنص في زمانيته ومكانيته.

لم يكن كما ظن بعض مُنتقدي الغرباوي أنه يبغي التقليل من قيمة المُقدس والديني في الإسلام (السُني أو الشيعي) اللذن نالا حظهما من نقد (الغلو) في دفاعهما الأعمى عن مُتبنيات يرتكنون إليه من دون دليل عقلي.

في كتابات الغرباوي جرأة المُفكر والكاتب الحُر الناقد للتمذهب بكل توجهاته المؤسطرة والمؤطرة، إسلامية كانت أم دينية مُغايرة، لأنه يرى أن جُلَ من يدَعون التدين لا يهمهم دين الله بقدر ما تهمهم مذاهبهم.

ما يخلص له الغرباوي في كتابه (النص وسؤال الحقيقة) هو أن كُل مُتبنيات التفسير الفقهي للدين إنما هي من مُتبنيات الفُقهاء، فلم يكن مُحمداً سوى بشر (وما أنا إلَا بشر مثلكم)، فكفى بنا فقداً لأنسنتنا ورمي أنفسنا ببراثن الجهل والأسطرة، ولنكف ولو قليلاً عن خُرافاتنا وإمعاننا في تجهيل من لا يعرف مضامين (النَص).

لينتهي بنا أن سؤال الحقيقة محاولة للتنشيط الفكر لا الاتيان بأجوبة جاهزة (مُعلبة)، وسيبق سؤال الحقيقة من مرامي من ينحو نحو الفلسفة، ولكن هذا لا يعني أن من ينحو نحو الإيمان أن يتخلى عن مساعي (النَص) في التماهي مع العقل وموافقته، وإن كان الإيمان أمراً شخصياً، فلا يعني ذلك تخلي العقل النقدي عن سعيه في كشف وتعرية المقول التسليمي المؤسطر (الخارج نصي) كما يفهمه دُعاة العقيدة من الذين لايقبلون سوى بتقبل النقل كما يراه من وثقوا به من أصحاب الدراية والرواية.

إنه استقالة العقل التي لا تنسجم وسؤال الحقيقة الذي يرنو للكشف عن زيف الخطاب ومراوغته في تجميل القول لخداع الآخرين من الذين لا يفقهون البنية اللغوية والحجاجية، بل وحتى البرهانية للنَص.    

 

 - الكتاب: النص وسؤال الحقيقة .. نقد مرجعيات التفكير الديني

- تأليف: ماجد الغرباوي

- 304 صفحات، حجم كبير

- الطبعة الأولى: 2018م

- إصدار مؤسسة المثقف – استراليا، ودار أمل الجديدة – سوريا

 

ا. د. علي المرهج – استاذ الفلسفة في الجامعة المستنصرية

.......................

1ـ نصر حامد أبو زيد: النص، السلطة، الحقيقة، المركز الثقافي العربي، بيروت ـ لبنان، ط1، 1995، ص71.

 

تعيش المجتمعات العربية والاسلامية المعاصرة حالة من الجمود والتخلف والركود الفكري والعلمي والمعرفي، الا ما ندر من صيحات حداثوية بسيطة هنا وهناك، واذا وجدنا بعضاً من مجتمعاتنا تمارس الحداثة في مجالات الحياة اليومية والبيت والمؤسسة فان ذلك لا يتعدى تلك الحدود ولا يمس العقل والتفكير بشيء، فتفكيرنا تقليدي بامتياز وعقولنا لا تتجرأ على طرح الأسئلة والنقد والتفكيك، لوجود موانع وتابوات تعيق التفكير وتحرمه، فأغلبنا يغادر التفكير الفاعل ويعيش التفكير المنفعل، نسلك طرق ببغاوية في طريقة تفكيرنا ونقلد الآباء والأجداد في ذلك الطريق.

لقد استطاعت المجتمعات الأوربية والغربية الحديثة الخروج من نفق الظلام والجمود والركود من خلال تغيير نمط التفكير السائد في مجتمعاتها، مما ساعدها على دخول عالم الحداثة والتجديد بشكل منتظم وسليم، أي ممارسة الحداثة والتحديث في نفس الوقت، على مستوى الفرد والمجتمع، مما جعل عملية الاصلاح والتغيير تمارس يومياً كسلوك فردي وجماعي يضمن النجاح للجميع، سواء في المؤسسة السياسية أو الاجتماعية أو التربوية والتعليمية أو الدينية، وهذا ما جعل لحظة الحداثة الغربية لحظة واقعية معاشة لا مجرد صيحات وشعارات فارغة يرفعها دعاتها بصورة فردية هنا وهناك. ولذلك كانت ثورة الاصلاح والتغيير في الغرب منذ قرون ثورة اصلاحية عامة شملت جميع المجالات الفكرية والحياتية والمؤسساتية والدينية والمعرفية، ثورة أقترنت بالنقد والتقويم والتفكيك، وهذا ما أدى الى نجاح تلك المجتمعات عملياً ورقيها وتقدمها في مجالات عدة بخلاف مجتمعاتنا العربية والاسلامية التي ترزح تحت أقدام الظلم والتعصب والكراهية والتخلف والجهل، مجتمعات لا تريد مغادرة تلك الأزمنة المتعفنة، وما يشجع على ذلك هو هيمنة السلطة السياسية من جانب والسلطة الدينية من جانب آخر، وبتزاوجهما وسطوتهما معاً على الفرد والمجتمع يحصل ما لا يحمد عقباه على أرض الواقع، وهذا ما لاحظناه على مر التاريخ البشري لكثير من المجتمعات، في حين أن العالم الغربي اليوم يسير بمنأى عن ذلك التفكير وتلك الهيمنة بنسبة ما تختلف عن طبيعة مجتمعاتنا المتشنجة، وهذا ما تكفله الحرية والتعبير عن الأفكار والآراء بصورة نقدية حرة لا تخضع لسلطة القمع والاستبداد والقتل والتعذيب.

74 majed600

ومن خلال تلك الأجواء الحداثوية والغربية الحرة نجد دعوات فكرية نقدية وثورية واصلاحية حرة ومتحررة تصدر من عقول مفكرين ومثقفين وكتاب عرب ومسلمين تنفسوا وعاشوا الحداثة بشكل يومي في الغرب، على مستوى البيت والمجتمع والمؤسسة والحياة والتفكير، وعلى أساس ذلك يحاولون نقل تلك الأجواء والأصداء الحرة الى مجتمعاتنا العربية والاسلامية، من خلال طرح مشاريع فكرية وثقافية تجديدية تحاكي الغرب وطريقته في التفكير والسلوك والنقد والثورة، ومن هذه الشخصيات والاسماء الفكرية المجددة يبرز المفكر والمثقف التنويري ماجد الغرباوي، رئيس مؤسسة المثقف العربي في أستراليا، وهو مفكر اسلامي تجديدي اصلاحي يبرز على الساحة الثقافية العربية والاسلامية اليوم، وذلك من خلال مشاريعه الفكرية الجديدة وطروحاته الفكرية المتنورة وكتاباته النقدية الجريئة، التي تحاول تفكيك التراث ونقده بآليات عقلية وفكرية حداثوية أقتبسها من محيطه وبيئته التي يعيشها في الغرب اليوم، وما كان للغرباوي أن يمارس النقد والتفكيك والتحليل والدعوة للإصلاح والتغيير لولا أجواء الحرية والحداثة والتغيير التي يتنفسها يومياً وهو في أرض الغربة، غربة عن وطنه وأرضه وأهله ومحبيه، ولكنه أستطاع بفكره ونقده وصبره تحويل تلك الغربة الى وطن، وتحويل هذا الوطن الى مؤسسة حرة وحيوية فاعلة يستظل فيها جمع من الكتاب والمثقفين والمفكرين التنويريين الذين يؤمنون بقيمة النقد ونقد النقد، والايمان بالآخر كقيمة الايمان بالانا والذات، وهذا ما أستطاع الغرباوي العمل عليه وتكريسه في مشروعه الفكري التنويري من خلال مؤسسة المثقف العربي الرائدة، التي استطاع من خلالها الغرباوي نشر طروحاته الفكرية من جانب، وتسويق فكره وكتاباته من جانب، وتأثيره على الكتاب والمثقفين من جانب آخر، وهذا ما يحسب له بصورة واضحة جداً، اذ كان بحق مؤسسة في رجل، واستطاع تجسيد تلك المؤسسة والافكار والنشاطات في سلوكه اليومي والثقافي ويشهد على ذلك الكثير، هذا من جانب غربة الوطن والمكان الذي أستطاع كسره وتجاوزه وتشييده لوطن يليق به ويعشقه، أما من حيث غربة الزمان والتاريخ، فأن الغرباوي لم يحاول الهروب من تاريخه وتراثه العربي والاسلامي والتمسك بتاريخ غربي جديد يريد تقليده وتمجيده، ولكن تاريخه ظل يرافقه طوال حياته منذ اللحظة الأولى لتشكيل وعيه وثقافته الى يومه هذا، ولكنه والحق يقال والذي يتضح من خلال سلسلة طروحاته وكتاباته الفكرية أنه نظر لذلك التاريخ والتراث بعين ثانية غير التي كان ينظر بها اليه وهو يعيش في البلاد العربية والاسلامية، فالفرد منا حين يفكر ويكتب يكون أسير المكان والزمان الذي يعيش فيه ولا يستطيع تجاوزه والقفز عليه بجرأة وجدية.

لقد استفاد الغرباوي من الأجواء الفكرية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي يعيشها في مجتمعه الغربي وحاول الاستفادة من تلك الأجواء للتفكير بهدوء في نقد المنظومة الفكرية والدينية الاسلامية ومحاولة تهذيب وتشذيب الكثير من الافكار والآراء التي علقت في فهم تراثنا، ونزع القداسة مما لا يستحق التقديس، وكشف الأقنعة والزيف المحيطة بكثير من النصوص والمعتقدات، وتعرية الخطاب الديني والسياسي، وبيان مدى التشابك الحاصل بين الأثنين لعقد الصلة بينهما لتحقيق المزيد من الهيمنة والتسلط، وتحقيق عوائد وأرباح طائلة من تصالح السلطتين معاً، وهذا ما أدى الى وجود دكتاتوريات فكرية وثقافية ودينية لا تقل عن الدكتاتوريات السياسية الحاكمة، بل للأولى قصب السبق في تأييد ودعم دكتاتورية الحكام والاحزاب والسلطات الحاكمة، من خلال تقديم سند ديني وشرعي لاستبداد الحاكم والسلطة السياسية المهيمنة، وقد لعب وعاظ السلاطين دورهم الكبير على مر التاريخ لتحقيق ذلك الهدف المقيت.

لقد عمل الغرباوي في العقود الأخيرة من فكره وحياته على زيادة مستوى النقد والثورة على الخطاب الديني والسياسي المهيمن على الساحة الاسلامية، وذلك من خلال مؤلفاته الكثيرة في هذا المجال، ونذكر منها على سبيل المثال : (اخفاقات الوعي الديني) و (الضد النوعي للاستبداد) و (جدلية السياسة والوعي) و(مدارات عقائدية ساخنة) وفي كتابه الأخير (النص وسؤال الحقيقة، نقد مرجعيات التفكير الديني)، وغيرها من الكتابات، وفي هذه الكتب والحوارات نجد الحضور الكبير للمشروع النقدي للغرباوي، والذي يفكك فيه الكثير من قضايا التاريخ والتراث والدين والسياسة والأيديولوجيا والمعرفة، ويكشف عن مستوى التحريف والتزييف في مستوى الوعي الديني للجماهير، من خلال سلطة الفقهاء وزيف التراث، والمنهج اللاعلمي السائد في سرد الروايات والنصوص وفي معالجة الافكار. وهناك وعي جديد ومتقدم في كتابات الغرباوي الأخيرة تختلف عن وعيه السابق في كتاباته الأولى، وهذا ما يلاحظ على فكره وكتاباته المتأخرة. 

وفي كتابه الأخير (النص وسؤال الحقيقة) لا يختلف الغرباوي عن سابق مؤلفاته ومنهجه وطروحاته، بل جاء الكتاب ليكمل مسيرته ومساره في عملية النقد والتفكيك الجريء الذي مارسه على نصوص وقضايا تراثنا الاسلامي، ويعمل الغرباوي على معاملة التراث الاسلامي عامة (بشقيه السني والشيعي) معاملة واحدة، بل تجده يُشرّح الفكر الشيعي قبل تشريحه للفكر السني، كي لا يؤخذ عليه أي نظرة للتعصب أو للنيل من تاريخ وتراث غيره، بل ويعمل على كشف عورات التراث الشيعي بقوة، ويعري الخرافات والأسطرة الموجودة في تراثه وتاريخه المشحون بالكثير من العثرات والمثالب.

يهدف الغرباوي في كتابه هذا الى وضع خط فاصل بين ما لله من (دين) وما للبشر من (فكر ديني)، وتحقيق الفصل بين الأثنين ولا يجوز الخلط بينهما وتشويه الأثنين معاً بأن نعطي ما لله للبشر، وما للبشر لله، وهذا ما أدى الى تشويه النصوص والافكار والتاريخ والتراث، وتم منح القدسية للكثير من الأفكار ورجال السياسة والدين مما وصل الامر الى حد الالوهية، وهذا ما أدى الى الغلو في الكثير من الأفكار والمعتقدات، والخروج عن الحد، كما في قضية الولاية التكوينية التي تطرف فيها الفكر الشيعي بشكل كبير ليتم منح الائمة صلاحيات مطلقة يشاركون الله في صفاته وأعماله، أو في تطرف الفكر السني في تقديس الصحابة، أو الهبوط بصورة الله الى مستوى الانسان، ففي الفكر الشيعي تم أعلاء مرتبة الأئمة الى مستوى الاله، وفي الفكر السني تم هبوط الاله الى مستوى الانسان، وهذا ما أدى الى تشويه الكثير من الافكار من خلال التلاعب بالنصوص وتفسيرها وتأويلها حسب متبنيات ومرجعيات الفقيه وأيديولوجيته، يقول الغرباوي : (المشكلة ليست في الدين كوحي الهي، وايمان يثري التجارب الروحية، بل في تحري مقاصده وغاياته وتوظيفه، وفهم دور الانسان في الحياة، وقيمة العقل في تطوره حضارياً. فثمة فهم أفقد الدين بعده الايجابي، وقدرته على تهذيب النفس وتنمية روح التقوى وكبح دوافع الشر. سببه فهم مبتسر لا يميز بين القضايا المطلقة والقضايا النسبية في النصوص المقدسة. ولا يميز بين الدين والفكر الديني، ويصر على تجريد التراث من تاريخيته والاذعان لسلطته وأحكامه). الغرباوي. النص وسؤال الحقيقة. ص 7.

ويعمل الغرباوي كما قلنا الى بيان قيمة النقد في كشف الحقيقة وتعددها، والعمل على ملاحقة المرجعيات والمصادر المعرفية والأيديولوجية لقارئ النص، فلا يوجد نص بريء ـ بعبارة التوسير ـ  فكل نص وقراءة وفهم وتأويل ذلك النص له أيديولوجية متبناة من قبل صاحبه، ولذلك يقول الغرباوي:  (ان نقد النص هو تعبير آخر عن سؤال الحقيقة، وهذه هي احدى مهام الكتاب وهو يلاحق مرجعيات التفكير الديني بحثاً عن مضمراتها، لفرز ما هو نسبي، وفضح مراوغات النص وتقنياته في وجود الحقيقة، لاستعادة الوعي واعادة تشكيل العقل وفق نظام معرفي يرتكز للدليل والبرهان في معارفه وعلومه، من أجل نهضة حضارية نستعيد بها انسانيتنا، ونستنشق رحيق الحرية، بعيداً عن سطوة التراث، وأسطرة الرموز الدينية) الغرباوي. النص وسؤال الحقيقة. ص 9                       

ان محاكمة النصوص والتراث بعقل نقدي متحرر قد يعجب جماعة ويرحبون به، ولكنه قد يزعج جماعة آخرين ويقلقهم، وبالتأكيد المجدد يرحب بالتجديد، والتقليدي والمحافظ يرفض ذلك تماماً، مدعياً أن كل منهج تجديدي حداثوي لا ينسجم ونقد الدين ومرجعياته، وكيف يتم نقد اللاعقلي بمنهج عقلي، وأدوات المنهج الحداثوي علمانية لا تتفق ومنهج الدين وافكاره ورجاله، هكذا يتم معاداة كل منهج أو مشروع نقدي يريد تغيير ادوات المنهج وتوعية الناس بكل ما هو جديد من العلوم والمعارف، وهكذا يكثر الظن السيء بين اتباع المنهج والفكر التقليدي تجاه أي تحديث يمس الحياة والدين والواقع. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فأن رجال الدين والناس يتعاطفون مع الكثير من الافكار التي ينتسبون وينتمون لها ومن الصعوبة اقناعهم بخطأ البعض من هذه الافكار، لأنها في عرفهم وعقولهم مسلمات ويقينيات مطلقة لا يمكن التشكيك بها، وقد أيد مقولاتهم تلك روايات تاريخية مهمة صدرت عن أئمتهم ورجال دينهم ومذهبهم وهي مطلقة لكل زمان ومكان فكيف تكون على خطأ وتتعرض للنقد والتضعيف؟ متناسين أو معادين لمسألة تاريخية النص وزمكانيته، من خلال ايمانهم بمطلقية الاحكام وعالميتها.

لعل الغرباوي والكثير من المفكرين المجددين على الساحة العربية والاسلامية يتعرضون للنقد والطعن والرفض من جهة المحافظين والمنتفعين من عامة الناس ورجال الدين، وتلك مأساتنا في واقعنا التقليدي المتردي، ولكن ستثبت الايام والسنوات القادمة ثبات الافكار الجريئة وصدقها وتهافت الكثير من الافكار التقليدية التي تخشى النقد والتجديد وتعاديه.  

من الأهداف التي سعى الغرباوي الى تحقيقها في تأليف كتاب (النص وسؤال الحقيقة) ما  يأتي:

1ـ محاولة النقد والاصلاح في منظومة الفكر والمعرفة والتراث الاسلامي والكشف عن النزعة الأيديولوجية السائدة في خطاب الفكر الديني الاسلامي.

2ـ محاولة تشكيل العقل الاسلامي وفق نظام معرفي يخضع لسلطة العقل والبرهان وبعيداً عن نزعة الأسطرة والتخريف الديني والفكري.

3ـ ملاحقة مرجعيات التفكير الديني بحثاً عن المضمر والخفي وراء تلك المرجعيات والنصوص، وبيان ما هو نسبي في معرفة وقراءة النص والحقيقة و(فضح مراوغات النص وتقنياته).

4ـ فهم متجدد للدين، من خلال الغوص في أعماق الظواهر الاجتماعية والدينية، والبنية الثقافية والمعرفية، بعقل نقدي وموضوعي متحرر من نزعة القداسة وسلطة اللامعقول، لبيان الوجه المشرق من الدين، وبناء مجموعة من القيم الانسانية المحترمة بين الشعوب والأمم.

5ـ زعزعة اليقينيات والمسلمات الدوغمائية التي يتمسك بها الفقيه ورجل الدين لدعم فكره ومعارفه، وإعطاء الاهمية للفرد وعقله في محاكمة الكثير من الافكار من دون خضوعه لهيمنة الروايات والتاريخ والمؤسسة الدينية المؤدلجة.

6ـ رسم صورة واضحة لدور النص وخطورته على وعي الفرد والمجتمع، كمرجعية معرفية وثقافية للعقل الديني، (فثمة مصفوفة يقينيات لا دليل على صدقيتها سوى روايات موضوعة).

هذا ما سعى اليه الغرباوي في كتابه ذي الصفحات (304) وفصوله الستة عشر، الصادر عن مؤسسة المثقف في استراليا ودار أمل الجديدة في سوريا عام 2018. وفق منهج نقدي تجديدي يحاكم النصوص والافكار ويكشف عن ما وراء النص وما قبله من أيديولوجيا وسلطة في بنية المنظومة الفكرية والمعرفية والدينية الاسلامية.

والمأخذ على رواد التجديد ـ ومنهم الغرباوي ـ أنهم يحرثون بأرض بكر في مجتمعاتنا المنفعلة من خلال مناهج معرفية وفلسفية عقلية متقدمة، لا تنسجم وعقول ونفوس الكثيرين من المتلقين والمخاطبين، أي عدم وجود الأهلية المناسبة لتقبل هذه الرؤى والافكار المتقدمة، فالعامة يحركهم من يستغل عواطفهم ومشاعرهم الطيبة البسيطة من المنتفعين من جهلهم وبساطتهم، ويحذروهم من مخاطر الحداثة والتجديد، ويؤلبون هؤلاء البسطاء والعامة على الافكار الجديدة ومواجهة تلك الآراء بالعنف والتطرف والارهاب.

وما يؤخد على رواد التجديد الديني الاسلامي ايضاً، منذ رفاعة الطهطاوي والافغاني وعبده واقبال الى يومنا هذا من المفكرين المعاصرين، أنهم يكتبون في فضاء فكري وسياسي واجتماعي غير الفضاء الذي يعيشونه ويحيونه، فالحرية الفكرية والاجواء الاجتماعية والسياسية وقيم التسامح والمحبة والاحترام والمدنية في الغرب هي غير التي عندنا من قيم، ولذلك فالمجدد والمفكر التنويري عندنا كثيراً ما يقع ضحية النقد المتعسف وفريسة الطعن والتشويه، وهذا ما يؤدي الى اغتراب المثقف وعزلته عن المجتمع تارة، وأن يكتب بلغة مغايرة عن المجتمع تارة أخرى.    

لقد أراد الكثير من رواد التجديد العربي والاسلامي نقل مجتمعاتنا الى مصاف الدول المتقدمة في الوعي والفكر، ولكن نسي هؤلاء أن طبيعة مجتمعاتنا تختلف تماماً عن المجتمعات الغربية في عاداتها وتقاليدها وثقافتها، هذا من جانب، ومن جانب آخر الاصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي والمعاشي قد طال الغرب وواقعه ومؤسساته منذ عصر النهضة الأوربي، أما نحن فنعيش حالة من التخلف والانحطاط والفقر والمرض على كافة المستويات، فالفكر مرهون بواقعه ومجتمعه، فكيف نتقدم ونزدهر ونتحضر من دون وجود أرضية مادية مناسبة تؤهلنا لذلك الرقي والصعود بين المجتمعات والأمم المتقدمة.

وما أخشاه من مشاريع التجديد وعليها هو الخوف من محاولة فرض المفكر المجدد لأيديولوجيته على عقول الناس وفرض وصايته وهيمنته عليهم والوقوع في فخ الأيديولوجيا بدلاً عن الخروج منه، تحت ذريعة وصاية المثقف وسلطة النص وممارسة الحداثة والتنوير وتخليص الناس من الأوهام والاصنام، وهذا ما يعمل على مواجهته والاذاعة له أعداء التجديد في مجتمعاتنا اليوم، وتحت ذرائع شتى ومنها محاولة الدفاع عن المقدس والحفاظ عليه، ومن الخطاب الفكري التجديدي الذي يؤجج الجماهير ويلهب حماسهم تجاه المفكرين، دون اعتماد منطق الحوار والنقاش الحر الهادئ، وتلك هي مشكلتنا المستمرة، لا توجد مناطق حرة ومتعددة لممارسة النقد والوعي، ولا توجد مناطق ثالثة ورابعة خارج منطق أرسطو الذي يهيمن علينا، وعدم اعتماد منطق العلم في تحليل ومناقشة الافكار، وهذا ما يعمل عليه الغرباوي في كتابه من خلال بيان الأوجه المتعددة للحقيقة وليس الوجه الواحد المنفرد، ومواجهة (اليقين السلبي) كما يسميه، بمنطق متعدد الحقيقة والقيم. 

 

د. رائد جبار كاظم - أستاذ فلسفة / الجامعة المستنصرية

 

يدخل كتاب: النص وسؤال الحقيقة - نقد مرجعيات التفكير الديني (1) للمفكر الإسلامي ماجد الغرباوي في مضمار موجة التنوير الثانية التي بدأها الكواكبي وتابع معها علي عبدالرازق وآخرون. فهو لا ينكر الوحي ولا الكتاب المقدس (القرآن) كما هو حال صادق جلال العظم وطيب تيزيني ومحمد أرغون مثلا*، ولكنه يشكك بطرق انتقال وتداول الأفكار الدينية، وبهالة التقديس التي أضفاها أنصار الظاهراتية في التفكير والتفسير. بمعنى أنه يحتفظ بالعقل الإسلامي في موضعه من تاريخنا الروحي والحضاري،  ولكن في نفس الوقت يدعو للالتفاف حول تنظيم الأفكار وأدواتها وأساليب إنتاجها.

* الأحاديث الموضوعة

ويبدأ من ضرورة إعادة التفكير بما ينسب للرسول من أحاديث وأفعال. ويؤكد إن الجانب الأسطوري من أي قائد روحي يكون مفيدا أحيانا لأغراض التعبئة، ولكنه يتحول مع الزمن لعبء يمنعنا من التطور وإدراك الواقع. ولهذه المشكلة عدة جوانب أهمها: الوضع والإضافة أو الاختلاق. وسوء الفهم. فالنص لا يرتبط آليا بمعناه والعلاقة بينهما ليست أتوماتيكية وتخلو من المشاعر والخلفيات. والذي يبدأ بالوحي يجب أن ينتهي بالعقل. أو كما قال بالحرف الواحد: لنعرف الواقع لا بد من معرفة الحقيقة (ص9). ولا يتردد لحظة واحدة عن مهاجمة القراءة السكونية. فالحقيقة ليست مطلقة وأمامنا طرق لإدراكها. حتى أن الشخص الواحد قد يختلف مع نفسه. ولنأخذ الإمام الغزالي على سبيل المثال. فقد بدأ من الفلسفة وانتهى إلى التصوف. ومثله المفكر مطاع صفدي فقد  انتقل من الحداثة إلى ما بعد الحداثة. وكان لمثل هذه التحولات نتائج حاسمة بدلت وجه العالم. فتحالف ستالين مع هتلر لم يصمد أمام المعطيات وانقلب لحرب دموية ومدمرة قسمت أوروبا لمعسكرين.

* تأويل النص

يحدد الغرباوي شروط معنى أي مدونة بثلاثة عوامل أساسية هي: مؤلف النص، والسياق، والقارئ (أو المتلقي بلغة دو سوسير). ولكنه ضمنا يشير لشرط رابع وهو علاقة اللغة باللغة. أو ما يسميه فوكو (التمثيل المضاعف). فالكلمة لها قيمة بسيطة أو تركيبية، وهذا يتحدد بواحد من إثنين، شاقولي وهو عنصر متبدل حسب الاستعمال، وأفقي وهو ما اصطلحنا عليه.  ولنأخذ كلمة نص الإنكليزية Text  فقد تطورت من كلمة  نسيج  اللاتينية   textus. وإذا فتحت معجم فاولير على أية صفحة لا على التعيين، لتكن ص614، ستجد أن كلمة talus  لها معنى يدل على كاحل، وجاء من اللاتينية. ومعنى يدل على منحدر، وجاء من الفرنسية (2). وللعرب خصوصيات باستعمال اللغة أيضا. ولا سيما بعد منعطف القرن العشرين ودخول الصناعة ومنتوجاتها لحياتنا. إن الإشارة، حسب تعبير فوكو، داخل المعرفة. وتنطوي على فكرتين: إحداهما عن الشيء الذي يمثل غيره، والأخرى عن الشيء الممثل. وطبيعتها تقوم من تحريض الأولى للثانية (ص180)(3). وهو ما يسميه لاكان في علم النفس بالآخر الحقيقي والآخر المزعوم. ولهذا السبب هناك ميول قوية للتفريق بين حالتين من حالات المدونة، وهما: النص والخطاب بحيث يختص الأول باحتكار الحقيقة (ص21)، ويختص الثاني بأساليب توصيل الحقيقة (ص22). وأهم ما في هذا التمييز أنه يأتي من خارج الثنائية الكلاسيكية، ويضيف إليها تحصيل حاصل الجدل الهيغلي. ولذلك نحن لسنا أمام خيارين فقط لفهم المدونة. وإنما لدينا خيار ثالث، أو منفذ نجاة يخفف من غلواء التعصب والتمسك الأعمى بحرفية الكلام. وكما ورد على لسان الغرباوي: النص بحد ذاته عديم الأهمية إن لم تفهم ما بين السطور (ص31).

* الفراغ التشريعي

ومن هذا المدخل يبدأ الغرباوي بمناقشة مسألة "منطقة الفراغ التشريعي". وتعني  كل موضوع لم يرد فيه حكم شرعي (ص34). وحسب هذا المفهوم يقسم مصادر الدين الإسلامي لنص مقدس ولتفسير هو نتيجة للجهد البشري (ص34).  ولكن يجب علينا أولا أن نثبت صحة هذه النصوص وأنها موجودة وثابتة فعليا. ويضرب لنا مثلا حول هذه المشكلة وهو عدد الأحاديث التي رواها أبو هريرة. فهي تبلغ 5374 حديثا مع أنه لم يرافق الرسول غير عامين. فكيف تسنى له رواية هذا العدد الكبير ومن المعروف عن النبي صمته وقلة حديثه (ص28). لقد تحولت حالة أبي هريرة لبالون اختبار سياسي في وقت مبكر من عمر الصراعات على الدولة. ويمكنني القول إنه تحول لما يشبه وزير إعلام أو ناطق رسمي باسم اتجاه من هذه الاتجاهات المتحاربة. وتذكر كتب السيرة أن عدد مريديه بلغ ما ينوف على ثمانمائة. ويمكنك التفكير بما تفعله هذه الشبكة بعد أن تتوسع بمتوالية هندسية. لقد كانت الأحاديث والمرويات بمثابة أناجيل تعيد بناء السيرة النبوية. وهذا يعني أن ما ورد فيها هو الرواية الإسلامية لواحدة من أكبر السرديات المعاصرة. والسؤال الذي يفرض نفسه الآن: ما علاقة هذه المروية بالواقع الإسلامي؟.

إنها علاقة شائكة وتحمل أوضار وشوائب المعاناة والشك وضرورة التجديد. لكن للأسف كان الرهان على التجديد هو في نفس الوقت رهانا على استعادة الماضي لا نقده وتفكيكه. ولذلك تدين الدراسات والبحوث الحالية للصبغة القاتمة التي ورثناها في الناحية العسكرية من الخليفة عمر، وفي الناحية الإعلامية من أبي هريرة و الصحاح، وفي الوضع الإيديولوجي أو بيان خطاب الدولة والدستور من ابن تيمية. ويعزى للأخير مبدأ الوسطية في الإسلام.

ومثل هذا الرضوخ الأعمى للماضي وأشباحه قادنا للاختلاف مع أنفسنا، وعدم الاعتراف بمنطق صراع الأجيال، واستبداله بتوريث الأفكار وحقنها دون مواءمة بشروط تعمل من فوق التاريخ. وأدى ذلك في النهاية، كما يقول الغرباوي، للمصادرة على حرية الرأي، وتوسيع نطاق المحرم والممنوع (ص41)، حتى أصبحت الحياة مجرد سلة للممنوعات والمكروهات أو حزمة عقوبات نفرضها على أنفسنا. ولكن حتى في مسائل الحلال والحرام دبت خلافات استوجبت إصدار فتاوى إما تذكي من شعلة الخلاف أو أنها تبرر أساليب الإدارة والحكم.  ويرى الغرباوي أن شعار التسامح لم يكن رادعا للاضطرابات الاجتماعية. بمعنى أنه لم يلعب دوره كمهدئ أو دواء ناجع. بالعكس استغلته كافة الأطراف لأغراض دعائية. وأشد ما يأسف عليه المرء في سياسات الشرق الأوسط أنها تفرز باستمرار حلولا عسكرية لقضايا المجتمع المدني، وتزيد من سعار العداوة والبغضاء. وكل ما جنيناه في النتيجة شعارات دون رغبة أو إرادة بالتطبيق. وأوضح مثال على ذلك تصريح لوليد جنبلاط. فقد أعلن أن حزبه يهدف لتوفير مؤسسة لأتباع الخيار الاشتراكي على الساحة اللبنانية. لكن الواقع (والكلام لا يزال لجنبلاط) أنه تحول لكيان خاص بالدروز. ويبدو لي أن النزوع العشائري والطائفي هو الذي يعمل شاقوليا في بنية معظم أحزابنا. حتى أننا أضفينا على الطوائف والمذاهب صفات سياسية. وقد تحول ذلك بمعجزة من معجزات التخلف إلى اعتبار انتفاضة الزنج والقرامطة من بين الحركات التي تبشر بالفلسفة المادية. بينما هي في حقيقة الحال محاولة لفك الالتزام بمركز الخلافة ثم محاولة الاستيلاء عليه. إنها انقلابات عسكرية بلا أي محتوى إيديولوجي، إلا إذا اعتبرنا الانتماء العرقي إيديولوجيا. ويمكن مقارنتها مع الانقلاب الفاشل الذي قاده سبارتاكوس، أو الانقلاب الذي وضع المماليك على رأس السلطة في مصر حتى عام 1952. لقد كانت الغاية مختلفة تماما عن ثورة الضعفاء التي قادها بنو هاشم ضد أغنياء قريش. وبنقد الفكر اليومي (والتعبير لمهدي عامل) ستلاحظ ارتفاع وتيرة التأليب والتعبئة على أساس المذهب. حتى أن الحلول الدولية لنزاعات الربيع العربي لم تكن تخلو من فيدراليات على أساس الطوائف. وأتساءل: أين ذهبت جهود وثمار حركات التحرر التي قادت المنطقة بعد نكبة فلسطين وحتى عام 2010. أين تبدد خطابها المدني والدولاتي، ولماذا تبخر مثل الكحول بعد أول نسمة هواء؟؟. وما هي الآلية التي تسببت بسقوط تلك الحركات وتعريتها من ثيابها البراقة ونياشينها، ولماذا اختفت الطبقة المتوسطة وسقطت إلى أسفل لتوفر الوقود اللازم لهذه الانتفاضات؟.

إن التوازنات التي تتحكم بمصيرنا السياسي ومستقبلنا يمكن أن تجد أثرها أيضا على تسليح الجيش. فالعتاد في الخليج أمريكي، بينما هو في سوريا إيراني وروسي. ويمكن أن تفهم من هذه الصورة طبيعة التنافر بين البلدين. إنه يدل، شئنا أم أبينا، على واقع الحرب الباردة وتطوراتها ومآلها، ولا يعكس رغبات أو ميول الشارع. وقد عبر الغرباوي بشكل بليغ عن هذه الظاهرة حين ربطها بسلطة الدولة. فالنشاط السياسي لدينا تحتكره نخبة لا تزيد على 5% وما تبقى إما يتعايش مع ظروف المعارضة أو العمل في الظلام.  وهذا يفسر لماذا توجد للنص الواحد عدة قرءات. فكما للإدارة السياسية أحكام ونقاط ارتكاز، للمعارضة أيضا مرجعيات تعيش وتتطور في عزلة تامة عن السلطات. والمشكلة أن الطرفين يعتمدان على سياسة الاتجاه الواحد ونبذ الحوار والتعصب، وبلغة الغرباوي: على الإيمان والتسليم لا على الدليل والبرهان (ص61). وهذا لا ينتج معرفة علمية كما يقول أيضا (ص61)، وإنما لا معقولا دينيا (ص62) أو قيادات وزعامات سياسية خارقة. ويلعب هذا التوجه دورا هداما لأنه يوظف الانتماء باتجاهين: داخلي لتعميق الأواصر، وخارجي للتحريض على الخصم (ص56). ولذلك نحن لدينا عدة مجتمعات في قالب اجتماعي واحد. وخطوط العزل ليست طبقية ولا سياسية، وإنما تحركها خيوط المذهب والمصلحة. وكل جماعة تتكفل بإنتاج نصوصها.

74 majed600

* حدود المعنى

وهنا لا بد من توضيح.

للنص عندنا سلطة توازي معنى الحقيقة كما يقول الغرباوي (ص61)، والمدخل لعالم الحقائق يكون عن طريق حراستها بنصوص جاهزة، مسبقة الصنع، وموجهة لخدمة جانب من الفكرة، وليس الفكرة كلها. لكن لأغراض الأمانة العلمية ولتنظيف الدين من الشوائب لا بد من الانتباه لمحددات تبدل المعنى أو المبنى أو كليهما في النصوص الدينية، وهي:

1- مقولات البنية المعرفية في بدايات تشكل الوعي عند الأفراد. فهي تصورات ومفاهيم تستمد وجودها من أعماق البنية المعرفية ويستحسن قراءتها بضوء معارف وتصورات العقل الجمعي (ص62).

2 – دور الوسيط أو المتلقي لأن الحقائق التراثية غير موضوعية، ولا يوجد لها طريق غير النص (ص63).

3 – الخلفيات الثقافية. وهي قبليات مكتسبة وتبدل من طبيعة إدراكنا لفضاء المفهومات في البنية المعرفية للأفراد والجماعة (ص67).

وأصلا حض القرآن، لتلافي هذه التحديات، على الإيمان البرهاني واستعمال العقل ومتابعة الأدلة وعدم التوقف عند الانقلابات الثقافية لتدارك الشكوك والمتغيرات (ص67).

إنه من الضروري التمييز بين الشريعة باعتبارها جملة أحكام وروحها التي هي الأهداف الأساسية للدين (كما يقول شكري المبخوت). وتنزيل الأحكام في التاريخ للنظر فيها باعتبار الأهداف وتحولات المجتمع مسألة ملحة بحيث يجري تطبيق المبدأ الأصولي القائل بأن الحكم يدور مع علته إيجابا وسلبا. ولنأخذ دور ميراث المرأة كمثال. فعلة الإنفاق على العائلة كانت هي الموجب وراء الحكم، وهو إسناد انتفى بدليل ما نشهده في الواقع، وعليه صار تبديل الحكم دون نقض للإسلام ممكنا. لأنه يحافظ على شرط تحقيق العدل والمساواة(4).

وعلى هذا الأساس يعرّف الغرباوي الحقيقة على أنها ما يطابق الواقع بدليل حسي أو برهاني دون الدليل الحدسي أو الظني ما لم تكن مقدماته يقينية (ص69) إلا الحقيقة الدينية فهي نسبية وتستمد صدقيتها من النص، وتتوقف على إذعان المؤمن وشروط تحقق النص وسلامته من التحريف أو الوضع (ص70). وهنا تواجهنا مشكلة النص الديني. فهو جزء خاص من التراث، ولا تجوز مساءلته، لكن هذا لا يمنع إمكانية إدخالات ظنية عليه، كما حصل بعد إضافة النقطة والهمزة للكتابة.  وقد سبق للغرباوي أن تناول إمكانية التصحيف في القرآن وضرورة الإجماع عليه بثبوت الأدلة، مع التدخل كلما اقتضى الظرف بالشرح والتفسير. ومن الأمثلة على ذلك قتل من أذعن. وهذا غير ممكن لأن الأساس في الإسلام هو التسامح والمغفرة وتوسيع أبواب التوبة.  وربما المقصود هو قتل النوايا الشريرة أو منعها. فالتعبير مجازي إذا لم نكن جاهزين للاعتراف أن الكلمة الصحيحة ليس "اقتلوهم" ولكن "أقيلوهم".  وكل ما حصل هو التباس في التنقيط.       

يمكن لأي إنسان نبيه يتحلى بقدر قليل من الذكاء أن يلاحظ تراكم المعرفة ثم انفصال أساليب الإدراك عن المعاني. فالفكرة تحتاج لنظام للتوضيح والتعبير والتداول، ومع التقادم تتحول إلى تراث. وهذه هي أول مراحل تشكيل العلوم. ثم نبدأ بالمرحلة الثانية، وهي تأويل ما لدينا من مخزون معلومات وأنباء وحوداث. ويمكن في بناء المعارف ثم في إدراكها أن تحصل تحولات، وستكون بالتدريج مسؤولة عن إلغاء حقيقة واستبدالها بحقيقة بديلة. حتى أن معاني الرموز يمكن أن نعقلها بطرق مختلفة، تبعا للمرحلة التاريخية وأساليب التداول المتبعة.

وبهذا الخصوص تكلم الغرباوي عن الهالة التي نعزوها لشهيدين من شهداء الإسلام على حد تعبيره وهما سيد قطب وباقر الصدر. فكلاهما من موقعه أسس لوعي حركي معارض، وكلاهما لفظ أنفاسه الأخيرة بعد محاكمة صورية وقرار بالإعدام (ص87). لكن لم يوضح الغرباوي لماذا استشرت شهرة قطب وبقيت سمعة الصدر محدودة ضمن جيوب صغيرة. لقد تحول قطب لأسطورة نضالية ولرمز، ولا يمكن أن يدانيه أحد فيما وصل إليه غير غيفارا. ولحد ما تروتسكي. وأستطيع أن أضع قطب بين التروتسكيين الإسلاميين لأنه بدأ من فكرة مجسدة، وانتهى بمجموعة أوهام روحية وميتافيزيقية تحيط بها هالة من النور الساطع، إن لم نقل شعلة مضيئة تحرق من يقترب منها. لماذا يكون سيد قطب من المبشرين بجنة تتخيلها المعارضة الإسلامية.  ولماذا يتحول اسمه لصورة إسلامية وكأنه سيزيف مسلم يدحرج صخرة العقيدة والإيمان، بينما يسدل ستار غير شفاف على أطروحة الصدر؟.

أعتقد أن النهاية التي كتبتها ظروف المنطقة لعبد الناصر ثم صدام يمكن أن تفسر لنا ذلك. لقد خرج عبد الناصر من السلطة بجنازة وطنية، بينما لا يعرف أحد مكان دفن صدام بالتحديد. وصفة زعيم وطني لا شك هي غير صفة طاغية ودكتاتور. وحتى إذا تساوت الشخصيتان من ناحية الحقيقة السياسية، فالرمز المرتبط بهما له سياق تأويل آخر، ناهيك عن أن السنة من يخطط لتعويم سمعة قطب، بينما الشيعة هم المسؤولون عن الصياغة النهائية لشخصية الصدر. وكما هو واضح للحركات السنية إمكانيات دعائية أقوى، وتفرض نفسها بعدة أساليب جهادية. في حين أن راعي الشيعة وهي إيران عجزت عن طرح بديل اقتصادي إسلامي، وعادت بعد 9 سنوات من المعاناة إلى الاقتصاد العالمي وحركة السوق بمسحة شرعية بسيطة جدا (كما يقول الغرباوي بالحرف الواحد) (ص87). فقد تراجعت إيران عن أسلمة العلوم الإنسانية واستسلمت لمنافسيها من الدعاة للعلوم الإنسانية الغربية (ص87). ويذكر مثلا عمليا على ذلك وهو انسحاب رضا داوري أردكاني من المشروع. وبعده بقليل حسن روحاني. وعلى هذه النتيجة يبني موقفه من نفي مطلقات الوعي الديني أو الثقافة الدينية. فهي نشاط اجتماعي مرموز، ويحمل كل نكهات ومقويات الأجنحة السياسة الداعمة أو المناوئة. وهذا برأيه يعكس مشكلة البشري والإلهي. فقد تساوى قطب مع الصدر من ناحية إلهية، لكن بشريا رجحت كفة قطب، وتحولت لأسطورة نكتب على هديها تاريخ صراع الإسلاميين مع السلطات. وإن لم نحاكم آلية ترويج هذه الصور النضالية (بين قوسين) سنقدم حسابا مشوها ومنحازا لمعنى الحقيقة (ص88). وإذا كانت هذه هي الصورة حيال مشاكل عاصرناها جميعا، فما بالك لو أنها عن مشاكل تراثية من فترات مبكرة في تاريخ الإسلام. لماذا لا نتوقف عند خروج طلحة مثلما نتوقف عند مقتل عثمان، وكلاهما من الصحابة الأوائل؟..

يجيب الغرباوي عن هذا السؤال أوتوماتيكيا بقوله: إن الصراع كان في سياسة الدين وليس في الدين بحد ذاته. ولذلك كان الجناح السياسي المنتصر والأقوى هو الذي يحدد من يستمر ومن يطويه النسيان (ص88).

إن حالة سيد قطب تعكس مشكلة المصادرة على الحقيقة بأمر إلهي يستند على وساطة بشرية أو على الإفهام وتفريعاته، وبلغة أوضح على الاجتهاد وما بني عليه. ودعوته لتجديد الدين وإصلاح العباد هي بطريقة من الطرق دعوة إلى الحداثة بدورتها العضوية المغلقة وبمركزيتها العدمية والمعادية للحس التاريخي. وكما يقول أرنست غيلنر: إن نشأة أي إيمان ديني تنطوي حكما على توجهات حداثية تعيد تفسير علاقة الإنسان بالإله (ص19). أو بلغة أوضح: تعيد إنتاج النص وتركيب السردية مع تحديد التزامات جديدة (ص20). لكن غيلنر سرعان ما يحذر من استغلال الدين لغايات غير دينية، ويعتبر أن الطقوس هي احتفالات الغاية منها زيادة ولاء الفرد لجماعته (5). وربما كان أفضل مثال لهذه الفكرة هو احتفالات رأس السنة الميلادية. فمع أنها مناسبة خاصة بالسيد المسيح لكن تحتفل بها كل البشرية بغض النظر عن العرق أو الدين. وشعارات هذا الاحتفال موحدة، ولا سيما شجرة الأرز دائمة الخضرة وبلورات الثلج التي تنهمر عليها. مثل هذه اللغة العالمية هي رسالة مشفرة فقدت معناها الديني ودخلت في اللاوعي الجمعي كإشارة على حالة نفسية تشمل علاقة الإنسان بنفسه أكثر مما تدل على علاقته اللامتناهية والغامضة بالسماء. وإذا نظرنا لشجرة عيد الميلاد من زاوية دينية، إنها رمز توراتي ولم يرد ذكرها في القرآن. بالعكس، عند المسلمين توجد إشارة للنخيل وكثبان الرمل، وليس للمرتفعات والأشجار التي صنعت منها شعوب المتوسط سفنها التجارية والحربية. ولذلك يمكن القول إن اللاشعور الجمعي هو الذي هضم صورة أو تناساها لمصلحة صورة أخرى لها رواسب في الذاكرة الحضارية. بمعنى أن الواقع تغلب على الحقيقة وتخطاها.

* النظرية والتطبيقات

لقد كانت الغاية من الدعوة هي إنجاز شرطين: وضع حد لحياة التنافس على الموارد، وتحرير الضعفاء من هيمنة من أهم أقوى منهم بالسيف والثروة. ويمكن القول إن الإسلام حاول تقديم حلول ناجعة لثلاث مشاكل أساسية: الأولى حالة التنازع بين القبائل. والثانية قبول وصاية الأجانب أو الإمبراطوريات المجاورة. والثالثة ما يعرف الآن باسم التفاوت الطبقي، أو إن شئت التفاوت في الاستفادة من الثروات والمصادر. ولكن بعد تراكم مجلدات من الفتاوى والتشريعات، وبعد اكتشاف منابع النفط والثروات المعدنية، نبدو أبعد ما نكون عن الحل. ولا نزال نعاني من الثلاثي السابق ذكره. فاقتصاد الدول الإشتراكية قاد بلاده إلى الإفلاس وأنهكها بالحروب الداخلية. بينما اقتصاد الدول الإسلامية الغنية ارتكز على رضا واستحسان المستثمرين. وحتى في ظل الهدوء النسبي بلغت نسبة الفقر في السعودية  25%. وهناك أكثر من أربع ملايين سعودي من أصل 20.5 مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر(6). في حين وصلت نسبة العاطلين عن العمل أكثر من 12% بين الذكور، وأقل بقليل من 33%  بين الإناث(7).

وإذا نظرت لواقع الحركات الإسلامية المعاصرة سيخيفك مقدار التراجع في الأهداف أمام شهوة التملك والسلطة. ولم تنج من هذه المجزرة الإسلامية النصوص المقدسة وكل ما يبنى عليها. فالفتوى بالأصل أن تعود للنص، يعني أن تفهمه (ص137)، وترفع ما يبدو متعارضا بين نصوصه (ص137). والفتوى بالتعريف هي: رأي الفقيه المستند إلى دليل (ص137). لكن إذا نقبت في التشريعات الدينية ستكتشف بكل سهولة انحيازها لمصلحة الواقع السياسي والاجتماعي (ص137). ومنها نشأت ظاهرة الحيل الشرعية التي تبرر ما هو في أساسه حرام أو لا يجوز، حتى أن التشريعات تحولت لقيود تكبل يد الإنسان. ففتاوى ابن تيمية طبعت في 20 مجلدا مع أن آيات الأحكام في القرآن بمجموعها هي 500 آية فقط (ص140). لقد تراكمت الفتاوى وتشكلت بنتيجتها حياة شرعية موازية للحياة التي نعيشها. وبعد الربيع العربي وانتشار ظاهرة الإمارات الإسلامية أصبح لدينا تشريعات غايتها استباحة المسلم في عرضه وماله، والتقييد عليه بكل شيء إلا بشبهة التكفير والردة. والمشكلة أن هذا التطور في الأحكام والتشريعات لم يقابله تطور في الموارد والتحضر. ولذلك يدعونا الغرباوي لا لفحص التشريعات، التي تتوالد كل دقيقة وساعة، ولكن للتثبت من آليات الإفتاء. فالفتوى تعبر عن وجهة نظر الفقيه حتى لو ارتكزت للنصوص. فهذا الارتكاز استظهاري استحساني وليس صريحا ولا مطلقا على حد قوله (ص144).

ومن أبرز عيوب الاجتهادات والفتاوى الحديثة:

- الانتقائية: فقد استبعدت أكثر من 60 آية تدل على التوسعة والرحمة وركزت على آيات السيف والتكفير. وقد ناقش هابرماز مشكلة الانتقاء التي تأتي بين طورين من أطوار السرد التاريخي. وهما الطفرة في التفكير وتثبيت هذه التحولات المنتقاة (انظر كتابه: ما بعد ماركس).

- الجمود: فالكلمات محدودة لكن المعاني مفتوحة ولا نهائية.  ولنأخذ كلمة سيف على سبيل المثال فهي تدل في معجم المعاني على أداة حربية وعلى ساحل البحر.

- إهمال السياق: وعدم ربط اللاحق بالسابق. وهذه مشكلة تسبب التسرع وأحيانا التهور والنقصان. كما في تفسير معنى القوة في آية (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة). فقد جاء بعدها ومن رباط الخيل. وعطف عدة الحرب على عدة الحرب ينتفي مع بلاغة وحكمة القرآن.

*الإسلام والحداثة

وبالنتيجة أصبح لدينا كم غير مسبوق من الأحكام السياسية التي جردت الدين من تاريخيته (ص144). لقد وضعتنا هذه التشريعات أمام أنفسنا وبمواجهة عدة تحديات لا يمكن إلا أن تتسبب للصورة والمرآة بشيء من التنابذ، فهي تشريعات توائم بين التراث والحداثة، وكأنهما علة ومعلول، أو طور يمهد لطور آخر من نفس الظاهرة. لكن الحقيقة هي شيء آخر. فالتراث هو ابن شرعي لمرحلته التاريخية، ولا يمكن تطعيمه أو تغليفه بمشاكل العصر الراهن. إنه موجود للإستئناس والقياس. ولكن ليس للتوليد منه حصرا (وهذه الحالة الإشكالية هي شرط مسبق ومعرفي عند مفكر إسلامي مثل طه عبد الرحمن)(8). فالمقاومة برأيه هي جزء من هوية مستمرة لا تعرف الانقاطعات أو التبدل. والحداثة ليست بالتخلي عن التراث ولكن بالسعي الدؤوب نحو الكمال. والحكمة من الفصل الحقيقي لا تكون بتفريق الأشياء ولكن بإنجاز آلية التكامل بينها (ص39). وحداثة المسلمين ليست حداثة غربية لأن الغرب حامل لمجموعة من الآفات بينها الفردانية والانفاصلية والمادية (ص42).

إنه من الطبيعي أن لا نعمد لأسلمة الحداثة، فهي من نتاج حضارة أخرى لها شرطها وظروفها، ولكن هذا ليس دليلا على الانتفاء وإنما اللزوم. وبلغة الغرباوي أيضا: لقد سقطنا (بسبب الهوية) في تناقض مروع ونجم عنه قلق حضاري يثبط العزيمة (ص154). وعلى ما أعتقد نحن لم نتخذ أي موقف من الماضي أو الآخر. وعلى الضد من ذلك، كنا نفكر بأنفسنا فقط، ونسعى لإيجاد طريقة للخلاص، وهذا هو الطابع العام لمعركة رواد التنوير في موجتين أساسيتين: الدفعة الأولى التي واكبت نهايات الحكومة العثمانية واختارت مصر لتنشط منها. واختارت تحرير اللغة من تركة العصر الوسيط (عصر الانحطاط العربي أو الإسلامي كما هو معروف) و تدعيمها بنظريات تدين لمنطق الكشوفات العلمية. والدفعة الثانية التي واكبت البيروسترويكا وسقوط الاتحاد السوفياتي (الزلزال السوفييتي بلغة حسنين هيكل). وكان رموز هذه الحركة من جيل الشباب، وقد نشطوا من عدة مراكز. والسبب برأيي مفهوم وواضح، فالحداثة التي بشر بها الرواد كاننت بحاجة لإعادة نظر وتوسع وتنقية، وبضوء من إنجازات فلسفة ما بعد الحداثة. وحتى هذه اختلطت بمصطلحاتها ووجهات نظرها مع ما قدمته اتجاهات ما بعد الكولونيالية. والفرق بين الجيلين مثل الفرق بين فلسفة الهجرة والنفي أو الخروج من المكان. فالهجرة فلسفة إلغاء، بينما المنفى فلسفة ترابط، لأنها تكون غنية بمشاعر النوستالجيا والرغبة النظرية بالعودة. وإذا كانت الثقافة الإسلامية هي الشعار الذي رفعه الجيل الأول، فالثقافة الغربية (تحرير وديمقراطية) هي شعار الجيل الحالي. وفي الحالتين يوجد فراغ بين الموضوع وأساليب علاجه. فالهداية ليست ذاتية، وتحمل إشكالات التجديد من مسافة (في المكان من الخارج، وفي التفكير من الأعلى).

ولذلك أجد أن دعوة الغرباوي لتخفيف القيود على العقل النقدي ومحاصرة عقل المحاكاة لها ما يبررها، لأن التراث نتاج بشري وليس له أي سلطة معرفية (ص162) حتى لو كان هذا التراث من المقدسات. وبهذا المعنى يسأل نفسه: لماذا نقتدي بسيرة وعهد الخلفاء الراشدين؟. ومن جعلهم مثلا أعلى في السياسة والحكم، ومعيارا للفضيلة والحكمة؟. هل ذات النموذج العملي لسلوكهم؟ أم الخطاب التنزيهي الذي تلى حقبتهم؟.

* الإسلام والسياسة

لقد كانت فترة الخلفاء الأربع فترة دموية مضطربة تخللها أكبر كم من الجرائم السياسية والاغتيالات والحروب في سبيل السلطة. وهذا البحر من الدم لا يمكنه أن يكون هو التفسير العملي المفيد لأحكام القرآن. وإذا كنا نعزو للخلفاء فضيلة توسيع الدولة وحراسة التركة التي تركها لنا الرسول فهم أيضا مسؤولون عن التحسس الذي نعاني منه وعن نموذج الاحتكام للسيف ليس لنشر الدين وحراسته وإنما لاغتصاب السلطة بطريقة حرق المراحل. فالظروف لم تكن ناضجة لتأسيس خلافات وإمارات حينما أصبحت الكلمة للسياسة وليس للدين، أو للإسلام الأموي لا النبوي. والأهم من ذلك أن الخلافة شأن سياسي، بينما النبوة شأن ديني، وصلاحيات الخلفاء بالتوافق. لكن صلاحيات النبي ربانية وإلهية (ص197). ولا يمكن جعلها لغيره إلا بنص صريح واضح وهذا غير موجود (ص198).

ويندرج نفس المنطق على مفهوم العصمة، ولا سيما خصوصها في أهل البيت. فكيف يكون ذلك مع انقطاع الوحي، والخلل في الإسناد لا تعالجه العصمة، ولذلك يجب النظر لهذه المسألة في إطار اللامعقول الديني (ص206). وتأتي في درجة تالية مشكلة الألقاب مثل الحاكم بالله وسيف الله، ثم العناوين مثل نهاية الأصول ونهاية الدراية ونهاية الفقه (ص207). وهذا يذكرنا بعناوين حديثة مثل: موت المؤلف وموت الإيديولوجيا والإنسان الأخير. إنها ألقاب وعناوين ذات إيحاء رمزي وبلاغي. وبسهولة تستطيع مقارنتها مع ألقاب وعناوين كانت شائعة قبل التوحيد وفي العصر الوثني مثل فارس بني عبس (عنترة)، الملك الضليل (امرؤ القيس)، الفتى القتيل (طرفة)، و(جمهرة أشعار العرب) وما شابه ذلك. فهي بنود غير فقهية ولكنها جزء من الذهن المجازي عند العرب. والغاية منها الاستيلاء على القلوب البسيطة بمكياجات لغوية معدومة من أي سند إلهي أو شرعي. وهو ما يسميه الغرباوي: سلطة النص على الوعي حتى لو أن الحقيقة تجافيه وتعارضه (ص208). فالوحدة الدينية ليست مشروطة بالوحدة السياسية (ص212). وكل هذا الخراب كان يمكن تجنبه باعتماد نظام غير ثيوقراطي وتعددي يضمن للمسلمين فرصا متكافئة في إدارة شؤونهم. إن الإنسان بحاجة لتعبئة وخلق فرص لتنشيط العقل، حتى لا يتعلم الكسل الذهني وتموت روح المبادرة والابتكار لديه. ويمكن للدين أن يلعب هذا الدور إذا توفر له إطار سياسي مناسب. وكما ورد في مناقشة الغرباوي لمشكلة الغلو (التعصب) إن الفهم الخاطئ للثواب والعقاب والصبر والتسليم يقود للحد من التغلب على الواقع. ثم يستشهد بمقولة ماركس المعروفة: هكذا يتحول الدين إلى أفيون (ص243).

ومع أن هذا الكلام لا غبار عليه، لكن منعا لسوء الفهم، لم يكن ماركس ضد الدين بحد ذاته، وإنما ضد أساليب تعبئة الدين. فقد مهد لتلك العبارة المجازية بقوله: إن التعاسة الدينية هي احتجاج على التعاسة الواقعية، والدين زفرة الإنسان المسحوق، وروح عالم لا قلب له،  كما أنه روح الظروف الاجتماعية التي طرد منها الروح.

ومثلما نحن نجد فرقا بين الولاية الدينية والتولية السياسية، هناك فرق بين محاربة الدين والتعامل معه كنظام تفكير بشري يستند لسلطة لدنية (افتراضية).  فالماركسية كانت تقرأ قوانين الصراع بين طبقات المجتمع ومنهم رجال الدين (الإكليروس). وهي تجد أن إلغاء السعادة الوهمية التي تتوفر في الأديان هو المدخل لصنع السعادة الفعلية. إن معركة ماركس كانت مع ظروف الإنتاج المجحفة والأوهام المرافقة لها بصور ترفيهية رخيصة لا تساعد على تبديل واقع البؤس والحرمان. وهذا ينطبق على أي بيئة غير متوازنة سواء كان الدين موجودا أو غير موجود.

لقد كانت كل الروايات الأساسية في التاريخ هدفا للتجريح أو المبالغة. ولم تنج الماركسية من مؤاخذات مضحكة وتدعو للشفقة (بتعبير فراس السواح). ومثلها الرأسمالية، فهي بنظر كل حركات التحرر في العالم الثالث مصدرا للشر ولاستعباد واسترقاق الإنسان. ولكن المبالغة دائما تكون بالنص وليس في الحقيقة. فكل نظام لديه حسناته وسيئاته.

ويثبت الغرباوي هذه الفكرة من خلال الصور والبورتريهات التي رسمتها المذاهب لشخصية النبي. فقد وجد فرقا أساسيا بين ما ورد في الآية والرواية. كانت الآيات تؤكد على بشريته، في حين أن الروايات تعزو له العلم بالغيب وتميل للمبالغة وترفعه لصفات أسطورية (ص287). حتى أن الرواية صادرت على الآية، وبلغة الغرباوي حصرتها (اشترطت التمهيد للآية بالرواية). وهذا لا يختلف شيئا عن النكتة الماركسية المعروفة: أن هيغل جعل التاريخ يمشي على رأسه. والمنطق يعطي الأولوية لكلام الوحي لا للتفسيرات والشروح التي تترتب عليه.

ولذلك يتحتم علينا التدقيق في هذه الروايات. وإذا كانت من بين الأحاديث يجب التثبت من صحة صدورها، ثم مراعاة قواعد إضافية للتأكد من فعلية الأحكام وصحة المضامين (ص291).

ويختتم الغرباوي كتابه باقتراح عملي.

أن نقرأ النص ونعقله أولا، ثم نعود لمصادره. ففي زمن النقد الرجالي ورواية الآحاد لا تستطيع أن تضمن أن الإسناد ليس مزيفا. وكما قال جون ماكوري في كتابه (الوجودية): الوجود الحقيقي يفترض فك الارتباط مع الواقع الزائف والمشوه والذي هو نتيجة لاتفاقات يبرمها العقل الجمعي وانحرافاته (ص178)(9)..

 

كتاب: النص وسؤال الحقيقة.. لماجد الغرباوي

د. صالح الرزوق

....................................

هوامش:

1- منشورات دار الأمل الجديدة في دمشق، ومؤسسة المثقف العربي في سيدني. 2018/ 308ص.

2- Fowler’s Modern English Usage. Guild Publishing. London. 1985 

3- الكلمات والأشياء. فوكو. ترجمة بإشراف مطاع صفدي. مركز الإنماء القومي. بيروت. غاليمار. باريس. 1990.

4- شكري االمبخوت. الثورة الثقافية الثانية في تونس. ضفة ثالثة. 16 يونيو، 2018.

https://www.alaraby.co.uk/diffah/opinions/2018/6/15/%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%AA%D9%88%D9%86%D8%B3

5- أرنست غيلنر. ما بعد الحداثة والعقل والدين. ترجمة معين الإمام. دار المدى. دمشق. 2001.

6- مقالة في العربي الجديد لعلاء البحار. خريطة الفقر في السعودية تتّسع إلى 4 ملايين مواطن... وثروات النفط للأغنياء. مال و ناس. ص 12-13،عدد 19-8-2017.

https://www.alaraby.co.uk/economy/2017/8/19/%D8%AE%D8%B1%D9%8A%D8%B7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%82%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%AA%D8%B3%D8%B9-%D9%88%D8%AB%D8%B1%D9%88%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D8%B7-%D9%84%D9%84%D8%A3%D8%BA%D9%86%D9%8A%D8%A7%D8%A1

7- السعودية.. مملكة الفقر.

https://www.al-sharq.com/article/20/08/2017/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D9%85%D9%84%D9%83%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%82%D8%B1

8- طه عبد الرحمن. الحداثة والمقاومة. معهد المعارف الحكمية. بيروت. 2007.

9- جون ماكوري. الوجودية. ترجمة إمام عبدالفتاح إمام. عالم المعرفة. الكويت. 1982.

* يجدر بنا تصنيف حركات التنوير في موجات. أول موجة هي التي مهدت للتخلص من سياسة الإمبراطورية العثمانية،  وثاني موجة هي التي تدعو للتخلص من حكم العسكرتاريا الوطنية (جنرالات المكاتب) لأن دورهم انتهى بانتهاء شعار تحرير كامل الأراضي الفلسطينية ومبدأ الكفاح المسلح. وضمن هذه الموجات توجد تيارات: أدبية (تهتم بتجديد اللغة والأسلوب)، وفكرية وحركية (وتهتمان بعلاقة المجتمع مع الحضارة والسلطة). وغني عن القول أن تأملات قاص وروائي مثل طه حسين، ستقود لتأملات كاتب مثل سعد محمد رحيم. بمعنى أن الليبرالية الوطنية ستقود المعركة باتجاه وطنية ليبرالية. وترتيب المفردات هنا يدل على أولوية في الاهتمامات. فالتيار الأول استعار أدواته من الغرب (طه حسين معروف باسم ديكارت العرب)، في حين أن التيار الثاني كان مهموما بتحرير أدواته من أي شبهات غربية. ولذلك كان اتجاه السهم متعاكسا. في أول حالة من الموضوع إلى الذات. بينما في الحالة الثانية من الذات إلى الموضوع. ولكن المشكلة الأساسية هي دائما في فرز التنوير من الإصلاح. وهنا تبدأ مشكلة التدين والخلطة العجيبة لمفهوم الإجبار في التكافل الاجتماعي مع المطالبة بمزيد من الحريات في مجال الحياة المدنية.  

 

.... من خلال تلك الأجواء الحداثوية والغربية الحرة نجد دعوات فكرية نقدية وثورية واصلاحية حرة ومتحررة تصدر من عقول مفكرين ومثقفين وكتاب عرب ومسلمين تنفسوا وعاشوا الحداثة بشكل يومي في الغرب، على مستوى البيت والمجتمع والمؤسسة والحياة والتفكير، وعلى أساس ذلك يحاولون نقل تلك الأجواء والأصداء الحرة الى مجتمعاتنا العربية والاسلامية، من خلال طرح مشاريع فكرية وثقافية تجديدية تحاكي الغرب وطريقته في التفكير والسلوك والنقد والثورة، ومن هذه الشخصيات والاسماء الفكرية المجددة يبرز المفكر والمثقف التنويري ماجد الغرباوي، رئيس مؤسسة المثقف العربي في أستراليا، وهو مفكر اسلامي تجديدي اصلاحي يبرز على الساحة الثقافية العربية والاسلامية اليوم، وذلك من خلال مشاريعه الفكرية الجديدة وطروحاته الفكرية المتنورة وكتاباته النقدية الجريئة، التي تحاول تفكيك التراث ونقده بآليات عقلية وفكرية حداثوية أقتبسها من محيطه وبيئته التي يعيشها في الغرب اليوم، وما كان للغرباوي أن يمارس النقد والتفكيك والتحليل والدعوة للإصلاح والتغيير لولا أجواء الحرية والحداثة والتغيير التي يتنفسها يومياً وهو في أرض الغربة، غربة عن وطنه وأرضه وأهله ومحبيه، ولكنه أستطاع بفكره ونقده وصبره تحويل تلك الغربة الى وطن، وتحويل هذا الوطن الى مؤسسة حرة وحيوية فاعلة يستظل فيها جمع من الكتاب والمثقفين والمفكرين التنويريين الذين يؤمنون بقيمة النقد ونقد النقد، والايمان بالآخر كقيمة الايمان بالانا والذات، وهذا ما أستطاع الغرباوي العمل عليه وتكريسه في مشروعه الفكري التنويري من خلال مؤسسة المثقف العربي الرائدة، التي استطاع من خلالها الغرباوي نشر طروحاته الفكرية من جانب، وتسويق فكره وكتاباته من جانب، وتأثيره على الكتاب والمثقفين من جانب آخر، وهذا ما يحسب له بصورة واضحة جداً، اذ كان بحق مؤسسة في رجل، واستطاع تجسيد تلك المؤسسة والافكار والنشاطات في سلوكه اليومي والثقافي ويشهد على ذلك الكثير، هذا من جانب غربة الوطن والمكان الذي أستطاع كسره وتجاوزه وتشييده لوطن يليق به ويعشقه، أما من حيث غربة الزمان والتاريخ، فأن الغرباوي لم يحاول الهروب من تاريخه وتراثه العربي والاسلامي والتمسك بتاريخ غربي جديد يريد تقليده وتمجيده، ولكن تاريخه ظل يرافقه طوال حياته منذ اللحظة الأولى لتشكيل وعيه وثقافته الى يومه هذا، ولكنه والحق يقال والذي يتضح من خلال سلسلة طروحاته وكتاباته الفكرية أنه نظر لذلك التاريخ والتراث بعين ثانية غير التي كان ينظر بها اليه وهو يعيش في البلاد العربية والاسلامية، فالفرد منا حين يفكر ويكتب يكون أسير المكان والزمان الذي يعيش فيه ولا يستطيع تجاوزه والقفز عليه بجرأة وجدية.

لقد استفاد الغرباوي من الأجواء الفكرية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي يعيشها في مجتمعه الغربي وحاول الاستفادة من تلك الأجواء للتفكير بهدوء في نقد المنظومة الفكرية والدينية الاسلامية ومحاولة تهذيب وتشذيب الكثير من الافكار والآراء التي علقت في فهم تراثنا، ونزع القداسة مما لا يستحق التقديس، وكشف الأقنعة والزيف المحيطة بكثير من النصوص والمعتقدات، وتعرية الخطاب الديني والسياسي، وبيان مدى التشابك الحاصل بين الأثنين لعقد الصلة بينهما لتحقيق المزيد من الهيمنة والتسلط، وتحقيق عوائد وأرباح طائلة من تصالح السلطتين معاً، وهذا ما أدى الى وجود دكتاتوريات فكرية وثقافية ودينية لا تقل عن الدكتاتوريات السياسية الحاكمة، بل للأولى قصب السبق في تأييد ودعم دكتاتورية الحكام والاحزاب والسلطات الحاكمة، من خلال تقديم سند ديني وشرعي لاستبداد الحاكم والسلطة السياسية المهيمنة، وقد لعب وعاظ السلاطين دورهم الكبير على مر التاريخ لتحقيق ذلك الهدف المقيت.

لقد عمل الغرباوي في العقود الأخيرة من فكره وحياته على زيادة مستوى النقد والثورة على الخطاب الديني والسياسي المهيمن على الساحة الاسلامية، وذلك من خلال مؤلفاته الكثيرة في هذا المجال، ونذكر منها على سبيل المثال : (اخفاقات الوعي الديني) و (الضد النوعي للاستبداد) و (جدلية السياسة والوعي) و(مدارات عقائدية ساخنة) وفي كتابه الأخير (النص وسؤال الحقيقة، نقد مرجعيات التفكير الديني)، وغيرها من الكتابات، وفي هذه الكتب والحوارات نجد الحضور الكبير للمشروع النقدي للغرباوي، والذي يفكك فيه الكثير من قضايا التاريخ والتراث والدين والسياسة والأيديولوجيا والمعرفة، ويكشف عن مستوى التحريف والتزييف في مستوى الوعي الديني للجماهير، من خلال سلطة الفقهاء وزيف التراث، والمنهج اللاعلمي السائد في سرد الروايات والنصوص وفي معالجة الافكار. وهناك وعي جديد ومتقدم في كتابات الغرباوي الأخيرة تختلف عن وعيه السابق في كتاباته الأولى، وهذا ما يلاحظ على فكره وكتاباته المتأخرة.

*** 

ا. د. رائد جبار كاظم

أستاذ الفلسفة، الجامعة المستنصرية، بغداد

شهادة ضمن دراسة له عن كتاب: النص وسؤال الحقيقة.. نقد مرجعية التفكير الديني، المنشورة في المثقف على الرابط أدناه:

https://www.almothaqaf.com/readings-2/932113

 

النص وسؤال الحقيقة.. نقد مرجعيات التفكير الديني، كتاب صدر حديثا لماجد الغرباوي رئيس مؤسسة المثقف العربي، يندرج كما يقول كاتبه ضمن مشروع نهضوي طموح لاستعادة وعي الفرد، بعد نقد العقل الديني ومرجعياته المرتهنة في معارفها لقدسية التراث وأوهام الحقيقة، بعيدا عن المناهج العلمية والكشوفات المعرفية الحديثة. فهو كما يقول يبحث في كيفية اشتغال النص وفرض حقيقته ومحدداته، خاصة التبسا المقدس بالمدنس، والديني بالبشري ، كما يهدف الموضوع إلى استعادة الوعي من أجل نهضة حضارية تستعيد بها الإنسانية قوتها ومن خلالها  تستنشق رحيق الحرية.

ليس  بمقدورنا الإطلاع على مضمون الكتاب ولكن من خلال العنوان نلاحظ أن المؤف سلك منهج العديد ممّن خاضوا في مثل هذه القضايا والإشكاليات، لاسيما مرجعيات التفكير الديني، والخطاب الديني، وإعادة قراءة النص الديني وتحليله، وقضايا أخرى تتعلق بتحرير العقل العربي والإسلامي، بعيدا عن سطوة التراث وسيطرة الرموز الدينية، هذه الإشكاليات قد تتحول إلى ثورة. نقول ثورة دينية لتنبيه البشرية كلها، لا نقول العرب والمسلمين ولا المسيحيين أو اليهود، لأن التفكير الديني مرتبط بالنص الديني، وهذا النص يختلف في مضمونه من دين لأخر، فما تراه اليهودية مثلا مباحا تراه الأديان الأخرى محرما. كما قد نجد في النصوص الدينية قاسما مشتركا في بعض القضايا، خاصة وفي ظل سيادة نزعة التديُّن، تواجه البشرية اليوم معركة العقيدة في عالم متحضر، أصبح الإنسان  (ا الغير متدين) لا يؤمن بالتراث ويرى أنه لا جدوى من الإنشغال بالأمجاد الضائعة، لأن العولمة تعمل على خلق شعوب عالمة، أي شعوب بلا هوية ولا انتماء وبلا عقيدة، قد تجبرها وبأسلوب حضاري على الإنفصال عن كتبها المقدسة .

74 majed600

الصراع اليوم ليس صراعا بين المثقف والسلطة، فقد اندمج هذا الأخير في السلطة، وأصبح ينفذ ما يمليه عليه أصحاب القرار، الصراع اليوم هو صراع بين المثقف والكنيسة، صراع بين المثقف والمسجد. هو صراع بين الديني واللاديني،  كيف نفهم هذا الأخير كيف يفكر وكيف يمكن إقناعه بوجود إله خلق هذا الكون، كيف يمكن أن نحاوره؟.

 إن رجل الدين أو رجل السياسة أو المثقف هو رجل يملك جانبا فكريا وثقافيا ودينيا، والأمر ليس بالسهولة والبساطة عندما يرتقي واحد من هؤلاء الثلاثة (رجل الدين ورجل السياسة والمثقف) في سلم الحقائق، وبخاصة الحقائق الدينية والإجتماعية والنفسية، وقد ذهب الدكتور محمد جابر الأنصاري في نقده واقع العقل العربي إلى أبعد الحدود، لدرجة أنه لامس الخطوط الحمراء، وكسر كل الطابوهات بجرأة وشجاعة عندما شرع يبحث عن الحقيقة والتعامل مع المنطق والواقع، وقد وضع كل أفكاره وتصوراته في كتاب تحت عنوان: "رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية"، أراد به أن ينير الطريق لفكر متنور وبعقلية المفكر العصري المفتوح.

 والساحة الدينية كما يقول المفكر الجزائري محمد أركون لا يمكن أن تنفصل عن الساحات الأربع وهي الساحة الفكرية، السياسية، الاقتصادية والثقافية، كون هذه الساحات الخمس تشكل كلية الفضاء الاجتماعي، والدين أو الأديان في مجتمع ما، عند محمد أركون هي عبارة عن جذور، فلا يمكن لأيّ باحث أو مفكر أن يفرق بين الأديان الوثنية وأديان الوحي، ويرى أن التفريق أو التمييز هو عبارة عن مقولة  تيولوجية تعسفية، كما يرى أن النظرة العلمانية للأشياء وللنصوص الدينية تعلن بأنها تذهب إلى أعماق الأشياء، إلى الجذور من أجل   تشكيل رؤيا أكثر صحة وعدلا ودقة، ويذهب المفكر الجزائري محمد أركون بالقول:  لا نريد أن نقلب كل شيء رأسا على عقب، وإنما نريد أن نعيد النظر والتقييم لكل شيء من خلال نظرة أخرى جديدة، ليس بالضرورة أن تكون هذه النظرة نقدا للمرجعيات، وإن كانت أفكار محمد أركون قد تختلف مع أفكار رجل الدين، فهو يؤكد موقفه بأن كل الأديان قدمت للإنسان ليس فقط التفسيرات والإيضاحات، وإنما أيضا الأجوبة العملية القابلة للتطبيق والاستخدام مباشرة فيما يخص علاقة الإنسان بالوجود والآخرين والمحيط الفيزيائي.

 أما مالك بن نبي فكان له رأي آخر، فهو درس الإشكاليات من منظور هندسي إذ يقول: إذا رسمنا الخريطة ألإيديولوجية نجد عليها لون المجوسية أو لون الديانة الفارسية (إيران)، ولون البوذية والبرهمية أو الهندوكية كما يسمونها، والمسيحية واليهودية، ونقطة مغمورة في الكون هي مكة نقطة الإسلام، ويضيف: لو أردنا أن نرسم خريطة جديدة للإسلام، نجد أن البوذية قد شطب عليها قلم ماوتسي تونغ، فمحاها من الوجود، أما المجوسية فقد محاها عمر  يوم القادسية،  أما البرهمية فقد محتها ظروفها الخاصة دينا لا ثقافة، فهي كتراث ثقافي ستبقى إلى أجل لا ندرس مداه، مع تجنب التكهنات، وأما كدين فقد انتهت وانتهى دورها. والمسيحية مرت بتطورات غريبة وأصبحت تعاني  من مشكلات تعبر عن ظروف خطيرة، بمعنى أن المسيحية بدأت تفقد المبررات لمعتنقيها لاسيما الشباب والمرأة، يبقى اللون الإسلامي في الخريطة الإيديولوجية وهو يمثل الخط الموازي  كأنما الله يهيئ القاعدة التاريخية الإجتماعية لتحقيق الآية الكريمة من سورة الصف: (هو الله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهر على الدين كله.

***

قراءة: علجية عيش – كاتبة وصحفية جزائرية

................

للاطلاع

النص وسؤال الحقيقة.. لماجد الغرباوي كتاب جديد عن مؤسسة المثقف

 

 

 

 

مقدمة: إنّ الحديث عن فرص التسامح والتعايش بين الأديان والثّقافات والسعي إلى بعث قيم التسامح من جديد من بين المواضيع التي تشغل الساحة الثّقافية العربية والإسلامية بشكل كبير خاصّة في أيامنا هذه، بعد ما يسمى بثورات الربيع العربي، فقد أصبح هذا الموضوع رأيا عاما خاصّة في ظل تصاعد وتيرة الحروب الثّقافية وتفشي ظاهرة الخطابات التكفيرية التي أصبحت هاجسًا خاصّة للدول الضعيفة، وهذا ماحدى بالدول العربية والإسلامية إلى تكثيف الجهود أكثر سعيًا للحفاظ على الهوية الإسلامية وترسيخ قيم الفكر الوسطي وقبول الآخر بإقامة ملتقيات وعقد ندوات للبحث والتخابر في سبل إماطة اللّثام عن المخبوء في علاقته بالقوى العالمية الامبريالية التي تحاول إلصاق التهم بهويتنا الإسلامية، فالتحول الاستعماري اليوم أخذ سبلاً جديدة ووسائل عديدة مختلفة عن تلك التي عهدناها مع الاستعمار التقليدي المباشر.

لقد تغيّر السباق من مضمار التسلح إلى مضمار السيطرة الثّقافية، لتصبح الثقافة السائدة هي الثّقافة الغالبة، والثّقافة التابعة هي الثّقافة المستلبة من طرف الثّقافة الغالبة، وهو حال ما نراه اليوم من تلك العولمة الفكرية والاستلاب الثّقافي لبنية الهوية الإسلامية التي تشهد غزوًا رهيبًا لمقوماتها من طرف الثّقافة الغربية التي تحاول ربط الفكر التكفيري بتاريخنا، بطرق وأسالب متعددة ومتنوعة خاصة مع تحول العالم إلى قرية كونية صغيرة الأمر الذي زاد من وتيرة هذا الغزو المنظم في نظامنا الاجتماعي والسياسي ناهيك عن نسقنا الثقافي الفكري المبثوث في نصوصنا التراثية، خاصة في ظل التحول العالمي إلى نظام القطب الواحد وبالتّالي الثّقافة الواحدة إثر بروز معالم النظام الدّولي الجديد بداية من تسعينيات القرن الماضي.

من خِلال ما سبق سنُحاولُ في هذه الورقة البحثية اماطة اللثام عن ما قدمه المفكر العراقي ماجد الغرباوي في هذا الاطار باعتباره مثقفا تنويريا درس التراث بطريقة جديدة، من أجل تحرير العقل الاسلامي من قيد التراث. وعمل على ارساء قيم التسامح والحرية وقبول الآخر. هذه الخطابات التي يفتقدها عصرنا اليوم خاصة ونحن في زمن الحروب الثقافية وسطوة المركزية الغربية الساعية بقوة إلى الفتك بتراث وتاريخ الهوية العربية والإسلامية وذلك من خلال أليات العولمة الثقافية والسياسية والاقتصادية وغيرها، والتي باتت تفرض علينا فرضا في اطار الحوار الحضاري وعمليات التّثاقف والاستيراد القسري لتلك الانظمة الفكرية التي لا تمت بأي صلة لهويتنا الحضارية والثقافية فضلا عن الدينية، وهو ما أحدث ردة فعل عنيفة تمثلت في تفشي الخطابات التكفيرية والغلو والتطرف. وهنا نسعى لبيان بعض الحلول التي قدمها ماجد الغرباوي والتي نرجو من خلالها بث روح التسامح ونشر الخطاب الفكري الوسطي الإسلامي الصحيح.

نحو طرح اشكاليات التّعايش بين الأديان والثّقافات:

يُعتبر الحديث عن التّعايش بين الأديان والثقافات أحد أبرز الاشكاليات التي باتت تطرح نفسها اليوم، خاصة وأن عصرنا أصبح يتخبط في نوع من التيه الكبير بسبب عدول الإنسان عن التمسك بالبوصلة الربانية، فضلا عن علو صوت الخطابات التكفيرية المنتشرة هنا وهناك وهو ما زاد من حدة الصراع بين الثّقافات والأديان، هذا الموضوع الذي أصبح يؤرق الحكومات ويقض مضاجع السياسيين فضلا عن المفكرين المشتغلين بهذا الميدان لعل على رأسهم المفكر العراقي ماجد الغرباوي، فأمام موجة الاختراقات الفكرية من خلال نظريات عنصرية تروج للعنف وتعمل على تفكيك أواصر قيم التعايش والتسامح تطرح العديد من الأسئلة كيف لنا أن نرسي قواعد التّسامح والتّعايش في عالم يسوده الكره والحقد؟ وما السبل والأدوات الكفيلة للتصدي للسياسات الغربية التي تتعامل بها مع الدول العربية والإسلامية والتي تسببت في ظهور موجة العنف والغلو؟ وهل يمكن الحديث عن نوع من التّوافق الحضاري والديني في كنف التعددية الثّقافية والإنسانية؟.

جميع هذه الأسئلة المثيرة تطرح نفسها وبقوة في فكر ماجد الغرباوي الذي عمل وبشدة على فك شفراتها وايجاد الحلول المناسبة لها لتحقيق قيم التسامح والتعايش بين الأديان والثقافات.

الآخر في التراث ودوره في النهضة المنشودة

هل كان لتواجد الآخر في تراثنا العربي الإسلامي دور في النهضة وبأي صورة كان وجد هذا الآخر؟ وما الضوابط والمنطق الذي حكم تواجده؟. سؤال نستهل به سبر بحر آراء ماجد الغرباوي وحديثة عن التّراث ومكان الآخر فيه وفرص التعايش التي حضي بها وكيف كان دوره في بناء نسيج الحضارة العربية الإسلامية، وهو ما يطرح أسئلة عميقة عن حقيقة تواجد الآخر في تراثنا العربي الإسلامي ودوره في النهضة المنشودة.

يعتبر مفهوم النهضة والفعالية الحضارية عموما وسبل قيامها أحد أبرز الموضوعات التي اشتغل عليها كبار مفكرينا بالوطن العربي والإسلامي ومنهم الغرباوي. فهذا المفهوم من المفاهيم الجدلية التي تستعصي على الباحث لتداخله مع العديد من العلوم خاصّة علم الاجتماع وتطرح العديد من الإشكاليات المتداخلة التي يتخبط فيها عالمنا العربي والإسلامي الذي يرزح تحت وطأة الفصل بين الحياة الاجتماعية وتوجيهات الدين وهو ما أكده ماجد في ارجاعه أن السبب الحقيقي يعود إلى "قطع خيوط التواصل بين العقيدة والحياة الاجتماعية. فعقيدة التوحيد التي كان يعيشها الانسان المؤمن في بدايات البعثة الشريفة ممارسة حياتية يومية تطبع سلوكه واخلاقه، صارت تدور في مدارات عقلية بعيدة عن هموم الحياة ومتطلباتها"(1).

أمام هذا الخطاب نتبين مدى الأهمية الكبيرة لأثر العقيدة في تنظيم سير حياة المسلم فما إن تهنا عن الطريق تاهت حضارتنا وأصبحت تحكمها الشهوات وابتعدنا عن روح الإسلام السمح الذي يحث على بعث روح التعايش ونبذ العنف، وهو ما جعل غياب الأفكار الداعية للتجديد والتسامح تغيب بشكل كبير لتحل محلها خطابات الغلو والتطرف وبالتالي فقدان روح الانبعاث النهضوي.

يعرف المفكر الجزائري مالك بن نبي الحضارة بقوله: "إن حضارة ما، ما هي إلا نتاج فكرة جوهرية تطبع على مجتمع في مرحلة ما قبل التحضر الدفعة التي تدخل به التاريخ، ويبني هذا المجتمع نظامه الفكري طبقا للنموذج الأصلي لحضارته، إنه يتجذر في محيط ثقافي أصلي، يحدد سائر خصائصه التي تميزه عن الثقافات والحضارات الأخرى"(2) . وبتتبعنا لهذا القول المقتضب للحضارة يتبين لنا المرتكزات الأولية لبناء الحضارة من شروط روحية وأخرى مادية تحقيقا لتلك الفعالية المنشودة " مجموع منسجم من الأشياء والأفكار، بصلاتها ومنافعها وألقابها الخاصة وأماكنها المحددة، ومجموع كهذا لا يمكن أن يتصور على أنه مجرد تكديس، بل كبناء وهندسة، أي تحقيق فكرة مثل أعلى" (3) .

تجديد الخطاب الديني وفرص بعث التّعايش من جديد:

لطالما أكد ماجد الغرباوي على ضرورة تجديد الخطاب الديني الإسلامي فهكذا بوسعنا حسب ما ذكره أن نقيم نوعًا من الحركية الحضارية نحو تجديد بعث الخطاب الديني من جديد لتشمل النهضة جميع المجالات من فكر واقتصاد وسياسة وغيرها من المجالات، ليكون للفرد المسلم الدور الأبرز في هذا الحراك مستغلا الوسائل الضرورية لتفعيل حركة التاريخ وهندسة دورة الحضارة القائمة على التراث ومدى تواجد الآخر فيه بما يتلاءم والمعطيات الحضارية الموجودة بعيدا عن فكرة التكديس التي لم يكن لها وجود على مستوى الحضارة الإسلامية أيام الأندلس مثلا باعتبارها نموذجا تراثيا عالميا شهدت دورا كبيرا للآخر ومدى اسهاماته في قيام الحضارة الإسلامية، والتي ما كانت لتكون لولا فرص التسامح والتعايش التي قدمها الإسلام لهم، حيث كان التمازج الثقافي مع الآخر والعطاء العلمي والفكري في أوج ذروته وهو ما ذكرته المفكرة والفيلسوفة الألمانية زيغريد هونكه بعرضها لتلك النماذج التراثية العالمية التي قدمت الكثير للحضارة الإنسانية على اختلاف ثقافاتهم وتنوع مللهم ونحلهم.

ولكن بعد حين من الزمن انقلبت البوصلة الحضارية فلقد تعرض الإسلام والمسلمون في السنوات الأخيرة لحملة ظالمة من الافتراءات والمزاعم التي أرادت أن تلصق بالإسلام تهم التعصب والإرهاب، وترويع الآمنين، ورفض الآخرين، وغير ذلك من دعاوى لا أصل لها في الإسلام ولا سند لها من العلم ولا من الواقع التاريخي.

فالحضارة الإسلامية التي انطلقت من تعاليم الإسلام منذ أربعة عشر قرناً من الزمان قد ضربت أروع الأمثلة في التسامح والتعايش الإيجابي بين الأمم والشعوب من مختلف الحضارات والثقافات والأديان والأجناس، ولا تزال هذه التعاليم الإسلامية حية وقادرة على صقل عقل الأمة وتوجيه سلوكها وتعاملها مع كل البشر في كل زمان ومكان بعيدا عن خطابات الغلو والتطرف المقيتة وهو ما عبر عنه ماجد بقوله "خطاب الغلو نجح في ترسيخ بديهيات عقيدية، من خلال منهج مراوغ، يعتمد الاستدلالات الساذجة، ويستغل رثاثة الوعي، وانحطاط الثقافة، والبيئة المثيولوجية، فيشاغل وعي المتلقي بمضامين غرائبية خرافية عن الرموز الدينية، يغفلون معها سؤال الحقيقة. أي السؤال عن ذات الرمز وحقيقته قبل الحديث عن خصائصه ومعجزاته وكرامته. فعندما يشاغل النص الوعي الرث بأحاديث خارقة، مذهله، غرائبية لا يلتفت لسؤال الحقيقة، بل تصبح لديه منظومة بديهيات، ومبادئ عقيدية مسلّمة، تندرج ضمن اللامفكر فيه، والمقدس، الذي يحرم مقاربته، فضلا عن نقده. هذه البديهيات هي التي تمرر روايات الغلو، لتراكم مزيدا من المعرفة المشوهة، العقيمة"(4) .

فهذا هو الخطاب الديني المقيت الذي يدعو إلى ركود العقل والأخذ بالنص بكامل حذافيره دون إعمال للعقل أو الاعتناء بما يسمى بفقه الواقع ومتغيراته الثقافية والحضارية، وهنا يتم تغييب الدور الحقيقي للمثقف الحر الواعي وهو ما جعل ماجد يقول: "وباختصار إن الأمة بحاجة أولا إلى وعي رسالي تتجاوز به أزمتها، كي تتمكن من تحدي الممنوع، ولا يتحقق لها ذلك إلا بإعادة تشكل وعيها داخل فضاء معرفي، يستظل بمرجعيات تجدد باستمرار فهمها للنص الديني، في ظل المستجدات الحياتية المتأثرة بالظروف الزمانية والمكانية"(5).

فما إن تم تغييب دور المثقف برزت اثر ذلك خطابات الغلو والتطرف وانعدمت قيم التسامح والتعايش تلك القيم الإنسانية السامية التي لطالما دعا ديننا الحنيف وسنتنا النبوية إليها انطلاقا من قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾"(6) فإذا ما تم تغييب هذا الشعار فإن الفوضى والتشتت والحروب والغلو وشتى أصناف التطرف سيكون سيّد الموقف ولذلك لابد من تجديد الخطاب الديني وبعث سبل التسامح و التعايش فيه من جديد بعد كل هذا السبات العميق الذي ميز خطابنا الديني وهو ما يجعلنا نبحث في سبل تجديد تراثنا وبشدة.

تجديد التراث وسبل بعثه من جديد عند ماجد الغرباوي

يولي ماجد الغرباوي موضوع تجديد التراث أهمية كبيرة لما للتّراث من دور كبير في حفظ الهوية العربية الاسلامية خاصة وأنه يمثل الانطلاقة الأولى لأي نهضة فقد كان ماجد الغرباوي يطمح إلى انشاء استراتيجية نهضوية نابعة من تراثنا الديني تعترف بأهمية تواجد الآخر ودوره في اثراء الحضارة الإسلامية النائمة على فكرة التعددية الثقافية فالتراث منبع وأصل الهوية بدونه نفقد مقومات وجودنا فالهوية هي: "مركب من المعايير، الذي يسمح بتعريف موضوع أو شعور داخلي ما. وينطوي الشعور بالهوية على مجموعة من المشاعر المختلفة، كالشعور بالوحدة، والتكامل، والانتماء، والقيمة، والاستقلال، والشعور بالثقة المبني على أساس من إرادة الوجود" (7).

ولعل هنا يبرز كنموذج كبير لخطاب التعددية الثقافية نموذج العصر الأندلسي ذاك العصر الذهبي الذي تميز بانتشار كبير لمختلف التيارات الفكرية والدينية ورغم ذلك سادت قيم التسامح وكان الحب والتّعايش سيد الموقف فكان يعيش المسلم جنب اليهودي دون ترهيب أو تقتيل وهو ما جعل ماجد الغرباوي يدعو وبشدة إلى ضرورة تجديد التراث قائلا "ينبغي اعادة النظر في الوعي الذي تكون في اطار بعض النصوص الدينية والمرويات التاريخية" (8). وقد ضرب ماجد الغرباوي في ذلك مثالا بارزا في خطاباتنا التراثية وهو نموذج ما يسمى بالفرقة الناجية الذي يشكك بصحته دائما. حيث يقول بأن هذا الحديث: "لعب دورا كبيرا في تشظي الأمة، والإصرار على احتكار الحقيقة ورفض كل الفرق والمذاهب التي تحتفظ بوجهات نظر اجتهادية مخالفة، حتى بات الجميع إلا ما ندر يعتقد بخطأ المخالف مهما كان نوعه"(9). وهذا ليس من روح الإسلام السمح الذي يحترم باقي الأديان أو مختلف التوجهات الفكرية ويدعو إلى تعددية ثقافية في كنف الامة الواحدة.

لقد كان ديدن الإسلام منذ ظهوره قبل أربعة عشر قرنا من الزمن يرغّب أهل الكتاب من غير المسلمين بالإسلام داعيا إلى مكارم الاخلاق ومثمنا إياها لذلك شاعت حينها خطابات تحث على افشاء الخير ودحر نوازع الشر وخطابات التكفير البغيضة فعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الناس معادن في الخير والشر خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)(10).

يقول ابن حجر رحمه الله: قوله: (خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام)، وجه التشبيه أن المعدن لما كان إذا استخرج ظهر ما اختفى منه ولا تتغير صفته؛ فكذلك صفة الشرف لا تتغير في ذاتها بل من كان شريفاً في الجاهلية فهو بالنسبة إلى أهل الجاهلية رأس؛ فإن أسلم استمر شرفه وكان أشرف ممن أسلم من المشروفين في الجاهلية (11). وفي هذا يقول الإمام النووي رحمه الله: ومعناه أن أصحاب المروءات ومكارم الأخلاق في الجاهلية إذا أسلموا وفقهوا فهم خيار الناس (12).

لكن عصرنا اليوم انقلبت فيه كل الموازين فخفت الوعي بمدى أهمية التسامح والتّعايش بين الأديان المختلفة وهذا ما يدعوا إلى ضرورة الوعي العميق بضرورة ابراز مثل هذه النماذج الدعوية لإعادة الأمور إلى جادة الصواب وحصر خطابات الغلو والتطرف فحسب ما ذهب إليه ماجد الغرباوي أنه "من دون الوعي لا يمكن تنطلي مؤامرات التزوير على الواقع والتاريخ والدين والحقيقة. ومن دون الوعي لا يمكن النهوض بمشروع حضاري مستقبلي يعتمد مرجعية فكرية وثقافية، مؤسس في ضوء المبادئ الإسلامية. إذن فالوعي أساس في نجاح المشروع الإسلامي، وهو من مهام المثقف الرسالي، الذي ينهض بهذا الدور، انطلاقا من مسؤوليته في تكوين عقل الأمة وتجديد هويتها الثقافية" (13) تلك الهوية الثقافية التي تعاني منذ زمن بعيد تيها كبيرا غياب العقل وسلب الإرادة وأفشى نوازع الغلو والتطرف، وهو ما جعلنا نغيب عن الساحة الحضارية بالعالم فلا دور لنا إلا تلقي الأوامر وتطبيقها بحذافيرها من طرف القوى العالمية فلا اهتممنا بتراثنا ولا بواقعنا الراهن فبتنا مأسورين مدحورين مقيدين لا حراك لنا وهو ما يدعونا إلى ضرورة التساؤل عن ما موقع المثقف الواعي من كل هذا.

دور المثقف الواعي في ايجاد فرص التعايش:

قديما قال الشاعر:

اقرأوا التاريخ إذ فيه العبر... ظل قوم لا يدرون ما الخبر.

بيت شعري على قلة حروفه لكن معانيه تحمل الكثير من الدلالات والسياقات التاريخية والحضارية التي تختزل العديد من الملامح المشكلة لتطور الأمم، لتميط لنا اللثام مبرزة تلك الملامح الكاشفة لبواطن ما اكتنف التاريخ من أحداث

وصراعات بشرية، مشكلة بذلك منعرجات حضارية خطيرة رفعت أمما عاليًا في السماء وأسقطت أخرى أرضًا في حين أخرجت الكثير من سياقها تمامًا معلنة أن لا مكان لها على الركح الحضاري لتحولات العالم وسياقاته، فالركح يا سادة شعاره "كن أو لا تكن" حكر على الأقوياء لا مكان فيه للضعفاء والجدير فيه بحمل وسام البطولة الحضاري من يثبت وجوده لا استسلامه.

يقول ماجد الغرباوي "ثم إن المثقف الإسلامي وعى الإسلام وعيا حضاريا اعتمادا على التراث وليس منفصلا عنه، من دون أن يعيش وهم الماضي، بل ينطلق منه لبناء المستقبل، فيستمد منه القيم لتكون أساسا في ممارساته الاجتماعية والسياسية، فلا يشعر بالغربة من القيم السائدة، وإن كان من ضمن اهتماماته إلغاء ما هو غريب عن قيم الإسلام والإنسانية" (14). فهذا هو جوهر الإسلام القائم على الجد والاجتهاد والوعي العميق بالتراث ودوره في الحراك الاجتماعي القائم على التعدد والتنوع وهو ما يفتح اشكاليات قيم التسامح والتعايش على مصراعيها وهنا يبرز الخطاب الواعي للمثقف الإسلامي الذي يحسن التعامل مع هذه الإشكاليات.

إن تكريس مفاهيم وقيم التسامح والدعوة إليها منهج متأصل في نصوصنا القرآنية وسيرتنا النبوية وكان للمثقف الإسلامي الواعي الدور البارز فيه وفي هذا تحدث ماجد كثيرا عن فكرة التعددية الثقافية وفق الرؤية الإسلامية التي تختلف اختلافا كليا عن مثيلتها الغربية. فالتعددية الثقافية وفق النظرة الغربية كما يرى ماجد الغرباوي "قامت باختزال الدين إلى مجرد تجربة روحية باطنية بمعزل عن الحياة يستطيع أن يعيشها كل إنسان، وفصلت ما بين الشريعة والدين" (15) وهو ما يعترض عليه المثقف الإسلامي الواعي وبشدة فديننا يتدخل في كامل تفاصيل حياتنا اليومية بل هو البوصلة التي توجهنا وتسير حياتنا بوعي وتبين لنا سبل التعامل مع الآخر وكيفية التعامل مع اشكاليات التعددية الثقافية التي لطالما أستفاض ماجد الغرباوي بالحديث عنها في مختلف كتبه.

وهو نفس الأمر الذي ذهب له المفكر المصري محمد عمارة بحديثه عن التعددية الثّقافية ودور المثقف في ايجادها حيث يرجع محمد عمارة أصول قيم التعددية الثقافية إلى السنة النبوية بالضبط في ميثاق المدينة المنورة التي اعتبرها عمارة بمثابة "الإعلان الإسلامي عن شرعية ومشروعية التعددية الإسلامية في هذه المساحات من الفكر وتطبيقاته وفي الأدوات اللازمة لذلك ومنها التنظيمات . تلك هي سنة الإسلام التي شرعت وقننت لمبدأ التعددية في الفكر الإسلامي وفي الممارسات الإسلامية منذ صدر الإسلام والتي بناء عليها وتطبيقا لمنهجها كانت تيارات الاجتهادات الإسلامية مصدرا لثراء الفكر الإسلامي على عهد الازدهار الحضاري الذي سبق عصر التراجع والجمود" (16). ولعل هذا يحيلنا إلى تساؤل آخر أكثر عمق هو كيف لنا أن نخرج من شرنقة ذلك الجمود والانسداد التاريخي الذي جثم على صدر الأمة لمدة طويلة جدا خاصة في ظل التخبط الكبير الذي يعاني منه سواء العالم الإسلامي أو العالم أجمع لعل ذلك الترياق نجده في الهدية النبوي في سنة التخلية قبل التحلية، ففي الهدي النبوي يوجد ما يسمى بالتخلية قبل التحلية ومن ثم يتحتم علينا تنقية الجو الاجتماعي العربي والإسلامي من الشوائب التي تشوبه وتعكر صفو عالمية رسالتنا القائمة على التعددية الثقافية والإنسانية، ومختلف قيم التسامح والتعايش بين مختلف الثقافات والأديان كحق انساني مشروع، ومن ثم يأتي دور التحلية فيتم التركيز على بعض الأمور المهمة التي تستلزم منا زرع قيم فرص التسامح والتعايش من تعددية ثقافية ودينية في اطار الأمة الواحدة، علما أن مثقفنا الإسلامي الواعي يملك كل المقومات والأسس لذلك انطلاقا من البوصلة الربانية والهدي النبوي القويم.

ولذلك لما غاب الوعي الحقيقي لدى المثقف بمجريات فقه الواقع فغاب عنا الفقيه الرباني الذي يحسن التعامل مع متغيرات العصر ومتطلبات المعرفة الجيدة بخبايا متغيرات النص أمام الأسئلة الفقهية الجديدة التي تطرحها التعددية الثقافية حيث يقول ماجد الغرباوي "في ظل هذه الظروف تشكيل عقل المسلم، وأعيد فهم الدين من خلال قوالب جديدة، فأصبح الدين مجرد علاقة خاصة بين العبد وربه، لا صلة له بالحياة الاجتماعية. ولما سارت تلك النظرة إلى الفقه، تقوقع في دائرة الفردية، واخذ الفقيه يفكك بين الموضوعات ويفتي بمعزل عن مقاصد الشريعة وغاياتها، ففقدت الأحكام بالتدريج مداليلها الاجتماعية، بعد أن اعتبرت الفرد وحدة مستقلة لا تربطه أي علاقات أو وشائج اجتماعية. بل تطور الحال إلى حد عجز معه الفرد أن يحدد موقفه من بعض القضايا الحياتية المهمة في ضوء الشريعة، لأن الفقيه لم يتصد للفتوى في تلك المجالات" (17) وهنا يبرز لنا ذلك النموذج الرباني الامام الماوردي الذي عرف بمعرفته الشديدة كفقيه بمدينة البصرة المعروفة لتعدديتها الثقافية وتواجد مختلف الثقافات بها حيث كان الفقيه الوحيد تقريبًا من يحسن وفي ضوء الشريعة ايجاد الفتوى الملائمة لتلك القضايا العويصة الشائكة.

ولذلك فإن مسؤولية المثقف الإسلامي اليوم كبيرة تجاه المنظومة الفكرية الغربية التي تروج لنوازع العداء ونشر قيم التطرف من مثل قول برنارد لويس: "إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية الإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية، ولا داعي لمراعات خواطرهم أو التأثر بانفعالاتهم وردود الأفعال عندهم، ويجب أن يكون شعار أمريكا في ذلك، إما أن نضعهم تحت سيادتنا أو ندعهم ليدمروا حضارتنا" (18)

أمام هذا الخطاب الشديد العدائية فإنه يتعين على المثقف العربي والإسلامي العمل من أجل تغيير تلك الصورة النمطية لنا تجاه الآخر الغربي وإزاحة الغشاء الذي يعمي بصيرتنا عن انماط الاستعمار الجديد الساعي إلى نشر الفوضى بأوطاننا وجعلها معادلا موضوعيا لكل ما يمت للهوية الإسلامية بصلة .

فالخطابات الثقافية الغربية التي راجت أثناء وبعد ثورات الربيع العربي تكشف عن تلك الرسائل التي تمرر من خلالها تلك النظرة الفوقية المشبعة بالمركزية الغربية Central Western التي رسمها الاستشراق التقليدي، ويعمل الاستشراق الجديد على ترسيخها حاليا، لترتسم في أذهاننا بأن خلاصنا مرتبط ببرنارد ليفي ومن قبله لورنس العرب... وغيرهم، وكأن مجتمعاتنا العربية لا تتعلم من التاريخ، فإذا بنتائج ذلك انتشار رهيب لخطابات التكفير وشيوع الخراب والدمار بالكثير من هذه الدول، ولعلّ هذا ما جر المفكر الفلسطيني الأمريكي إلى القول في كتابه "تمثيلات المثقف": "من المهام المنوطة بالمثقف أو المفكر أن يحاول تحطيم قوالب الأنماط الثابتة والتعميمات الاختزالية التي تفرض قيودا شديدة على الفكر الإنساني وعلى التواصل ما بين البشر" (19) .

وبعودة قليلة عبر الزمن إلى الوراء بالضبط إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ذاك الحادث الذي أحدث بلبلة كبيرة بالعالم وغير مجريات وموازين كثيرة بالعالم وزادت من حدة الصراع بين الإسلام والغرب فانتشرت الإسلاموفوبيا إلا أنها علمتنا ان التعايش أمر ضروري ومطلب ملح لدى كافة الأديان وفي هذا يقول ماجد الغرباوي "نبوءة هنتنغتون فهي وإن قامت أساسا على رؤية لتاريخية الصراع بين الحضارات، إلا أنها انتهت بالعودة إلى الدرس الذي ينبغي أن نتعلمه من التاريخ، لابد من تعايش بين الحضارات، وفهم أعمق للفروض الدينية والفلسفية لكل منها، ودعوة لتحديد العناصر المشتركة بين الحضارات، تمهيدا للتعايش والتواصل الذي لا بديل له. إنه لدرس بليغ أن تنتهي أعتى النظريات التي تؤصل للصدام إلى التأصيل للتعايش وتحقيق القدر الأكبر من الوئام" (20).

ولذلك لابد على المثقف الإسلامي الوعي نشر اهمية منح فرص التعايش بين الأديان وتبني روح التسامح لدى المجتمعات المختلفة مهما وصلت حدة تلك الاختلافات فالتسامح tolerance يعني الاستعداد الذاتي لاتخاذ الموقف المتسامح دون أيه ضغوطات أو اضطرار، لا يمكن اعتبار التسامح فضيلة إلا عندما يمكن للشخص ألا يكون متسامحاً. فهو قريب من مفهوم "العفو". والقول المعروف "العفو عند المقدرة من شيم الكرام" يشير إلى المقدرة على العفو، وليس في مقدرتنا أن نتحدث عن موقف متسامح في تراثنا الإسلامي في حال شخص يضطر، وهو مضطهد وفي موقف ضعيف، أن يتحمل الآخرين، وهذا الشخص الذي يتحمل الظلم فإنه، في حال الضرورة ووفقاً للعرف الاجتماعي، له الحق في المعارضة والحق في الدفاع عن نفسه في وجه الاضطهاد والتمييز العنصري.

خاتمة:

من خلال ما طرحناه آنفًا في ورقتنا البحثية هذه من إشكاليات وتساؤلات حول أحد أهم اشكاليات الفكر الاسلامي المعاصر التي تشتغل على خطابات قبول الآخر في تراثنا الإسلامي والتي عمل المفكر ماجد الغرباوي على ايجاد السبل الكفيلة بحلها، وسعيًا منا لإيجاد الحلول المناسبة للوقوف في وجه هذا التسونامي الاستعماري الفكري الجديد إن جاز التعبير الجارف للهويات الدينية والثقافات المتنوعة بوطننا العربي الإسلامي تحت أغطية كثيرة تختزل معادلة الصراع الحضاري العالمي، نطرح في خاتمة مقاربتنا هذه بعض الأفكار والتوصيات التي نرجو أن تسهم في ترميم التصدعات الجاثمة على الخارطة الهوياتية للتنوع الطائفي والديني والثقافي بوطننا العربي، لتحقيق سبل انعتاقنا من مد المركزية الغربية المحرضة على العنف والإرهاب والتكفير وويلاته، وإرساءً لدعائم سبل تحقيق التعايش الثقافي والديني وفق المنهج الإسلامي الصحيح الذي بينه محمد عمارة، نطرحها في النقاط التالية:

1- ارساء قواعد التعايش السلمي وتعلم سُبل التّعايش بين الثقافات والأديان المختلفة لن يكون برفع الشعارات الزائفة، وإنما يتحقق ذلك بتضافر جهود جميع الأطراف داخل العالم الإسلامي باستخدام لغة العصر وأدواته في نشر الفكر الاسلامي الوسطي، وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني المختلفة، ونشر ما يحث عليه الدين الإسلامي من قيم التسامح والتعايش بين المذاهب، خاصّة في المناهج التعليمية تعليمًا وتربية لهم على اتقان فن حقوق الانسان، تحت اشراف مختصّين في المجال وليس مجرد درس يتم إلقاؤه وفقط لتنتهي المهمة عند ذلك، فالأمر أكثر من ذلك بكثير.

2- من الضّروري بعث سبل تجديد الثّقافة العربية خاصّة الخطاب الديني، وتفعيل دوره في الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية بجميع طوائفها بعيدًا عن جدل التعصب للعرق أو المذهب...الخ، وقوفًا في وجه الخطابات الفلسفية الجديدة المغلفة بقيم الاستشراق ذات الطابع الاستعماري الجديد، وهذا كله تأسيسًا لنوع جديد من الاستشراف المستقبلي لأمة اسلامية جديدة ولدت من رحم الانبعاث الحضاري الإسلامي القويم، بعيدًا عن الصراع الديني المدعم من أطراف خارجية تكن الحقد والكره لكل ما يمت للإسلام بصلة.

3- لقد أنتجت فلسفة ما بعد الحداثة انسانًا غربيًا ثاناتوسيا، مخربًا للعالم ناسفًا للقيم حقوق الانسان وشتى أنواع التعايش الثقافي و الديني السلمي القائم على مبدأ قبول الثقافات والأديان ضاربًا بكل ذلك عرض الحائط، ومرسيًا بدل ذلك مفاهيم جديدة من قبل: الهدم، التشظي، المركزية الغربية، الإسلاموفوبيا...إلخ، ساعية إلى نشر هذه المفاهيم وترسيخها في الأذهان، تحت غطاء وأقنعة مختلفة تختزل معادلة صراع الأديان بمختلف أبعادها.

4- تعتبر أحداث 11- 09- 2001 بمثابة النبوءة التي أكدت نظرية صراع الحضارات الهنتنغتونية والتي اتخذت منها الولايات المتحدة الأمريكية مطية لشحذ الهمم وتفعيل الحراك العالمي ضد الهوية الثقافية الاسلامية، وهو ما جعلها تقرع طبول الحرب معلنة المعركة ضد محور الشر كما قال جورج بوش آنذاك، لتعلن بعدها عودة ما سمي بالحروب الصليبية من جديد ونتائج ذلك ماثلة أمامنا في كثير من الدول لعل على رأسها العراق وسوريا حاليًا من انفراط كبير لمد الصراعات الأيديولوجية المفتتة لكيان الدول والناشرة للفتن الطائفية، التي أصبحت تفتك يومًا بعد يوم بقيم التعددية الثقافية للأمة العربية والإسلامية .

5- فرق كبير بين نظرة الفلسفة الغربية الوضعية في نظرتها لقضية التعددية الثّقافية ووجهة نظر الهدي النبوي الذي بينه محمد عمارة في التأسيس لهذا الحق المشروع فالقوى الغربية انطلقت من اكراهات حتمتها عليها الشعوب ما اضطرها لوضع ميثاق عالمي لحقوق الانسان منها حق التعدد الثقافي و الديني، فضلا عن السياسات الاستعمارية في الاتخاذ من هذه الفلسفة مطية للسيطرة على الشعوب، اما الهدي النبوي فقد كان امرا تلقائيا تلبية لنداء الفطرة فضلا عن تنفيد أمر رباني صالح للتطبيق في كل زمان ومكان على اختلاف الثقافات وتنوع الأديان.

6- العنصرية والتفرقة بين الأديان والشعوب والأعراق والثّقافات في الدول الغربية نابع من فلسفة عنصرية متأصلة في الفكر الغربي بداية بأفلاطون وصولا لفوكوياما و هنتنغتون وغيرهم الكثير ترى أن الانسان الغربي أسمى وأعرق ثقافة وأرفع دينا وهو ما جعل العديد من الفلاسفة الغربيين المنصفين أمثال جان جاك روسو وايريك فروم وروجيه غارودي ونعوم تشومسكي... يوجهون نقدهم اللاذع لما وصلت له الحضارة الغربية من عنصرية تجاه الدين الاسلامي فهذا الأخير - نعوم تشومسكي- يعتبر أبرز المفكرين الذين يقفون في وجه السياسات الغربية التي تتخذ من فزاعة حفظ حقوق الأقليات الدينية والثقافية لتقسيم الشرق الأوسط وتفتيته مقيمة شرق أوسط جديد يخدم مصالها وفقط.

7- لابد من تضافر جهود جميع الدول العربية الإسلامية سواء على مستوى الحكومات أو على مستوى الشعوب، وتُحدث فيما بينها تعاون وتنسيقات عالية المستوى، وتكثيف الجهود أكثر على مستوى النخب الثّقافية بما أنها فئة تنويرية بإقامة مؤتمرات وندوات للتباحث في سبل بعث الهدي النبوي في نظرته لفكرة التعددية الدينية والثقافية، إلى جانب العمل على دعم منظمات المجتمع المدني والعمل على تغلغلها داخل النسيج الاجتماعي للمجتمعات العربية والإسلامية حتى تنتشر التوعية أكثر بمخاطر الفتن الطائفية وأثر ذلك على الهوية الإسلامية ومدى تماسك المجتمع تجنبا للانزلاقات الوطنية نحو العنف والدموية.

8- انتشار دواعي حوار الأديان وتمازج الثّقافات وتلاقح الحضارات والمعرفة الكونية...إلخ، كلها تقريبًا صنعت لأغراض سياسية بحتة ساعية إلى إحكام السيطرة على العالم، ونشرًا للنموذج الثّقافي الأمريكي، بدعوى أنها هي الأجدر بقيادة العالم كما أعلن عن ذلك صامويل هنتنغتون على اعتبار أنها ثقافة مركز القوة في العالم، فهي مجرد شعارات رنانة زائفة مزركشة بصورة بهية من الخارج، في حين هي انتهازية استعمارية من الداخل.

 

بقلم الأستاذة: خولة خمري – الجزائر، تخصص تحليل الخطاب ومناهج النقد. مركز الوفاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب – ماليزيا

بالاشتراك مع الاستاذ الباحث: عباس أعومري - الجزائر- باحث أكاديمي

.......................

* ورقة مشاركة في المؤتمر العلمي التاسع للنهوض بالبحث العلمي خطوة أساسية في بناء العراق الموحد. تحت شعار: "النهوض بالبحث العلمي خطوة أساسية في بناء العراق الموحد"... 2-3 شعبان 1439 هـ 17-18 نيسان 2018م، كلية المعارف الجامعة، كليةٌ أهليةٌ عراقيةٌ، بعنوان: (التّسامح وفرص التّعايش بين الاديان والثّقافات بين الواقع والمأمول.. دراسة نقدية في فكر ماجد الغرباوي.)

...............................

الهوامش

1 - ماجد الغرباوي :اشكاليات التجديد - سلسلة قضايا إسلامية معاصرة-، دار الهادي للنشر والتوزيع، ط1، 1421ه، 2001م، بيروت، لبنان، ص 37.

2 - مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، دار الفكر، سوريا، ط9، ص4 .

3 - المرجع نفسه:ص42.

4 - http://www.almothaqaf.com/c/c1d-2/925135

5 - ماجد الغرباوي: الضد النوعي للاستبداد "، اصدار مؤسسة المثقف العربي، نشر العارف للمطبوعات، ط1، 2010م، ص 74- 75.

6 - سورة الحجرات: الآية 13.

7 - إليكس ميكشيللي : الهوية، ترجمة علي وطفة، دار الوسيم للخدمات الطباعية، دمشق، ط1، 1993. ص 15.

8 - التسامح ومنابع اللاتسامح - فرص التعايش بين الأديان والثقافات-، الناشر الحضارية للطباعة و النشر، ط1، بغداد، العراق، 1429ه- 2008م، ص60.

9 - المصدر نفسه.

10- المصدر نفسه.

11- البخاري (3383)،كتاب أحاديث الأنبياء باب قول الله تعالى:{لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين}، ومسلم (2378)، كتاب الفضائل، باب من فضائل يوسف.

12- "فتح الباري" (6/529).

13- "شرح النووي لصحيح مسلم" (15/135).

14 - ماجد الغرباوي: اشكاليات التجديد، مصدر سابق. ص67- 68.

15 - ماجد الغرباوي :اشكاليات التجديد، مصدر سابق، ص 67.

16 - ماجد الغرباوي: الضد النوعي للاستبداد "، مصدر سابق، ص 152- 153.

17 - محمد عمارة : http://klmty.net/472766-%D8%AF-

18 - ماجد الغرباوي : اشكاليات التجديد، مصدر سابق. ص 110.

19- عبد الحكيم منصور: حكومة العالم الخفية - الماسونية والثّورات العربية بين الحقيقة والافتراء- دار الكتاب العربي، القاهرة، 2012، ص242.

20 - نجيب الحصادي: جدلية الأنا والآخر، الدار الدولية للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة، 1996. ص 56- 57.

21 - ماجد الغرباوي: التسامح ومنابع اللاتسامح - فرص التعايش بين الأديان والثقافات-، مصدر سابق ص9.

 

المصادر

1- القران الكريم

2- عبد الحكيم منصور / حكومة العالم الخفية / الماسونية والثورات العربية بين الحقيقة والافتراء/ القاهرة 2012

3- ماجد الغرباوي / اشكالية التجديد / دار الهدى للنشر / ط1 / 2001 : بيروت

4- ماجد الغرباوي / الضد النوعي للاستبداد / مؤسسة المثقف العربي / دار المعارف للمطبوعات /ط1 2010

5- مالك بن نبي /مشكلة الافكار في العالم الاسلامي / دار الفكر / سوريا /ط9

6- ماجد الغرباوي / منابع التسامح واللا تسامح / فرص التعايش بين الاديان والثقافات / الدار الحضارية للطباعة / ط1 بغداد 2018

7- نجيب الحصادي / جدلية الانا والاخر / الدار الدولية للنشر والتوزيع /ط1 : القاهرة 1996

8- اليكس ميشكيللي / الهوية / ترجمة علي وصفة / دار الوسيم / دمشق ط1 / دت / 1993

 

 

سؤال الحداثة التداولي: اينما نولّي وجوهنا، ومن أي موقع نكون، وفي أي مجال من مجالات الحياة، السياسة، الفكر، الاقتصاد، الاجتماع، التعليم، الثقافة، الادب، او الفنون، نصطدم بجدار الحقيقة الخاصة بنا كأمة عربية – اسلامية وحدنا من غير أمم وشعوب العالم الذين عبروا منذ قرون حواجز الاعاقة والتخلف في حياتهم وحسموا امرهم بشأنها وتجاوزوها الى غير رجعة ولا تشكّل اليوم عندهم اشكالية يتوقفون عندها في كيفية الخلاص منها كما هو حالنا اليوم ومنذ بدايات القرن التاسع عشر.

تلك الحقيقة الصادمة لنا التي نحمل أعباءها منذ قرن ونصف على أقل تقدير، هي أين الوطن العربي من الحداثة والعصر؟ ماذا نعتمد وماذا نترك؟ وكيف ومن أين نبدأ؟ تساؤل مهما حاولنا الهروب من مواجهته والتحايل على عدم دفعنا استحقاقاته بمزيد من التخلف والكوارث والمراوحة في الزمان والمكان، نجده يلازمنا ملازمة الظل في حياتنا بمجملها.

ماذا نحتاج للنهوض بواقعنا المتخلف عن ركب الحضارة الانسانية بمديات شاسعة؟

نفس التساؤل العقيم في عجز الاجابة المثمرة له، والذي ما فتئنا نتحايل في الهروب من مواجهته والاجابة عنه منذ ما يزيد على قرن كامل ونصف من محاولات رجال النهضة عندنا في اللف والدوران حول الاشكالية (الاصالة والمعاصرة) بما يضخمّها بمجلدات من الفكر التنظيري الذي يدور في فلك الاشكالية دونما الولوج الى جوهر المشكلة وتسمية الامور بمسمياتها الحقيقية التي نحاول باستمرار الاختباء خلفها وترحيلها اشكالية مستعصية عبر الاجيال.

الجواب المباشر الذي لم يعد بحاجة الى تهيئة ذهنية او مراجعة عقلية بعد أن أصبح مرتكز المعاناة التي نحياها، هواننا نحتاج مشروع نهضوي تحديثي متكامل ينقلنا من واقعنا العربي المثقل بالتخلف المستدام بعوامل الاعاقة، الى دخول عتبة عصر التقدم والحضارة من حولنا. جواب لم نلمس له تاثيرا واقعيا ملموسا في حياتنا رغم الكم الكبير من الكتب والتنظيرات والمنتديات الثقافية والفكرية التي حاولت معالجة الموضوع ولم تكن المهمة سهلة أبدا.

ثمة رأي يذهب الى عدم اضاعة الجهد في التنظيرالفكري الذي لم يستطع ان ينقلنا الى عتبة التمدن الحضاري، الذي ملأنا به عقول اجيالنا، بالمماحكات الفكرية والفلسفية والتفسيرات الاجترارية المعادة، التي تعيد نفسها باختلاف لغوي تعبيري فقط، راح ضحيتها العديد من المفكرين العرب الذين تمّت تصفيتهم في محاولة وأد افكارهم معهم، فلماذا لا نترك تطورات العصر من حولنا واستهلاكنا السلعي للحضارة العالمية، وانتشار وسائل الاتصالات التحديثية والتقنية العلمية المتطورة تأخذ دورها البطيء لكنه الحتمي آخر المطاف في نقلنا الى المدنية المعاصرة شاء بعضنا ام أبى معظمنا.

يوجد امثلة امامنا في تجارب مثل ماليزيا واندنوسيا وتركيا، وامارات الخليج فهذه التجارب التحديثية لم تقم تجاربها على نقد التراث، بل قامت على استهلاك الحضارة المعاصرة في تقنيتها الحديثة، ولم تفقد تلك المجتمعات هويتها ولا ذاتيتها في التراث.اذ لا زالت الكوفية او اليشماغ والعقال مع الدشداشة سارية المفعول في دول الخليج التي حققت لها طفرة حداثية في الاستهلاك الحضاري ولم تفقد هويتها الذاتية العربية التي لا ننام الليل من كثرة التحذير من فقدانها او تضييعها.

ورغم كل المجهودات الفكرية التنظيرية على مختلف مشاربها الا انها كانت تدور حول الاشكالية الحداثية، ولم تتمكن من الاسهام المطلوب في نقل المجتمعات العربية من وهدة التخلف والتردي المستمر وحصد الكوارث المتناسلة في الحياة، انه من المنطقي أن جميع الافكار التي كانت تروم احداث تغييرات حداثوية في مجتمعاتنا العربية كانت معطلّة ان تأخذ مدياتها المرجوّة لاكثر من سبب ليس سوء الحكام العرب فقط، ولا التخلف والفقر المجتمعي، وانما ان تلك الافكار كانت نخبوية في تداولها ومراميها التأثيرية والأقناعية، فالمفكر الحداثي عندنا كان ولا يزال، بحاجة الى صرف جهود مضنية لمحاولة الوصول الى أقناع مفكر آخر يناوؤه بالفكر من منطلقات رجعية الى تبديل قناعاته، ولا يسعى الى تبديل قناعة مجتمع متخلف بحاجة الى التنوير.وبعضهم يعتمد مناهج اوربية غريبة تماما في مخاطبته العقل العربي، لتبقى اشكالية التراث من حصة المفكرين القاطنين عواصم العالم لا من حصة الشعوب العربية صاحبة المصلحة الحقيقية في مشروعها التحديثي النهضوي.

المجتمعات العربية لم تعد بحاجة الى من يزقّها بالتنظيرات والشعارات الفارغة التفاؤلية النهضوية، وهو جالس في باريس او لندن او السويد، مكتفيا بمواعظه الانشائية بعيدا عن حقيقة معاناة شعبه بالاف الاميال.هذا لا ينطبق على المفكرالمغترب فقط بل على السياسيين والحكام واصحاب الشهادات العلمية والكفاءات المغتربة، (على سبيل الاستشهاد فقط ان عوائل جميع الساسة العراقيين الحاليين، لا يعيشون بالعراق، من عائلة رئيس الجمهورية، وعوائل نواب الرئيس، وعائلة رئيس الوزراء، والوزراء واعضاء مجلس النواب؟؟؟؟) فكيف تتوقع من هذه الشلّة الفاسدة التفكير بالفقير ومعاناة الانسان العراقي ليس لنقله حضاريا بل للايفاء بابسط مستلزمات حياته وعائلته؟؟؟. وهل يجدي مع امثال هؤلاء نقد التراث لتصحيح افكارهم وقناعاتهم في النهضة والتحديث او هل يعرف غالبيتهم الف باء الثقافة او تحديث المجتمعات؟

نماذج معالجات التحديث بالتنظيرات والمناهج

من المفارقة التي لا يرغب الاعتراف بها الجميع، ان الغالبية الساحقة وليس الكل من الذين كتبوا في الحداثة لشعوبهم لم يكونوا يحملون هموم شعوبهم بقدر اهتمامهم توفير راحة ورفاهية لوجودهم في اقامة دائمية خارج البلدان العربية والتمتع بالهالة التبجيلية لهم، واستثني منهم عديدين قلائل لم تغرهم لا الهدايا ولا اغراءات العيش في عواصم العالم، وحتى رفضهم للتكريم الذي كان يحاول شراء ذممهم واقلامهم.

لو عدنا الى مراجعة مسحية نقدية سريعة ومركّزة الى بدايات النهضة المطلوبة وغير المتحققة منذ القرن التاسع عشر الميلادي، لوجدنا اجابات التساؤل والبحث في نشدان نهضة تحديثية عربية اسلامية، لاتخرج عن هذه التيارات التي نستعرضها:

1. المشروع السلفي الديني والفكري الذي يعتمد التمسّك بالنص الاسلامي الفقهي والاجتهادات التشريعية الدينية في مختلف مشاربها، لتحقيق وبعث تراث الماضي الذي يحكم فيه الاموات الاحياء على حد تعبير اكثر من فيلسوف ليس آخرهم ماركس، ، أي حسب تعبير الجابري، (السلفية التراثية التي تبقينا كائنات تراثية وليس كائنات تمتلك تراثها).مشروع يجد النهضة في العودة الى ماقبل الف واربعمائة سنة كي نفهم كيف نعيش حياة العصر.وتمكين الماضي اكثر من مصادرة الحاضر والمستقبل باسم امجادنا التراثية الوهمية والخرافية الكاذبة، (الاسلام هو الحل).

ان اهم ميزات هذه السلفية التراثية كما يلخصها لنا المفكر محمد عابد الجابري:

- ان القراءة السلفية للتراث والماضي تنطلق من منظور(ديني للتاريخ يجعل التاريخ ممتدا في الحاضر منبسطا في الوجدان)1 بمعنى انتقال الوجدان الجمعي عبر الاجيال في (ان الذات تتحدد بالايمان والعقيدة، التي تجعل من العامل الروحي، هو المحرك للتاريخ، اما بقية العوامل الاخرى فهي ثانوية او تابعة)2.

- ان القراءة السلفية لمجمل تراثنا العربي – الاسلامي، هي قراءة لا تاريخية، وبالتالي فهي لا يمكن ان تنتج سوى نوع واحد من الفهم التراثي3، يقصد الجابري ان يعيد التراث نفسه تاريخيا بعصمة غير منقودة متعالية يتضّخم بالاكاذيب والخرافات المضافة له عبر العصور، وكماضي رجعي فاعل في ترسيمه الحاضر على وفق قناعات تراكمية، وهذه القراءة لا يمكنها احتواء التراث ولا التاثير به، لان هذه القناعات الجمعية التراثية التضليلية اصبحت على مر الاجيال والعصور في تراكمها المخطوء، تراث زائف يكرر نفسه وينتحل تمثيله التراث الحقيقي، بنفس الرؤى والمنطلقات الجامدة في الحفاظ على القديم التاريخي قبل اهمية الحفاظ على الانسان بالحياة المعاصرة. وقد تعمّقت هذه السكونية مع انبثاق ايديولوجيا الدين السياسي، التي اعادت الحياة الرجعية المتخلفة للتراث بكل مخزونه من الاعاقة والتقاطع مع العصر والحياة.ولا نقد او تجديد او مراجعة يفرضها العلم او الحداثة المدنية في ابسط اشتمالاتها.

2. المشروع العلماني – التغريبي الاستشراقي الليبرالي في نشدان تحقيقه نهضة عربية متقدمة ومعاصرة، ومرتكزه الاساس مناقضة المرتكز الايماني الروحي السلفي الديني تحديدا والاحتدام به، وهذا المشروع يقوم على انفصامية العلاقة الممتدة عبر العصور مع التراث الذي يتوجب نقده بعيون العصر ومحاكمته بضوئها واكثر من ذلك فهي تذهب الى قراءة التراث بعيون اوربية استشراقية، تعبر كل ما يعرف بالخصوصيات الهوياتية، وتعتمد النموذج الحضاري الاوربي مرجعية تحاكم بها الحاضر والماضي والمستقبل في تفكير وسلوك اوربي مستورد، مع احتفاظنا باللغة العربية الجامعة فقط. وهذا التيار يصفه الجابري:

(اجد المحاور الرئيسة في اشكالية الفكر العربي الحديث والمعاصر، وبالحوار مع المحور الليبرالي في التفكير ونظام العلاقات فيه هو بين الماضي والحاضر، ولكن لا حاضرنا نحن، بل حاضر الغرب الاوربي الذي يفرض نفسه كذات حضارية تستوعب العصر كله بل والانسانية جمعاء).4 ويطلق الجابري على هذا النموذج من القراءة التراثية مصطلح (السلفية الاستشراقية) أيضا في مقارنتها وتعالقها المنهجي بالتضاد مع منهج السلفية التراثية الزائفة.

السلفية الاستشراقية (تقوم من الناحية المنهجية على معارضتها الثقافات، وقراءتها التراث العربي بتراث مغاير خاص بها ومن هذا المنهج الفيلولجي الذي يجتهد برد كل شيء الى اصله، وعندما يكون المقروء هو التراث العربي الاسلامي، فأن مهمة القراءة تنحصر حينئذ في رده – التراث العربي الاسلامي – الى اصوله اليهودية والمسيحية والفارسية واليونانية والهندية). 5

3.المنهج او القراءة الماركسية للتراث التي تعتمد الجدل كمنهج في البحث والتحليل، وان التراث العربي الاسلامي، كبنية تاريخية، يعتملها الصراع بين مصالح الطبقات المتناحرة، كما يجب محاكمة التراث بمعايير العلم المنهجية في تناولها جميع قضايا التراث، وبقي المنهج الماركسي في قراءته التراث متمسّكا بكلاسيكية ثنائية المادية بالضد من المثالية، وجدل الصراع الطبقي في بروز المراحل التاريخية، وهذا المنهج هو ايضا يقود الى سلفية ماركسية في محاولتها تطويع الواقع لمقولات التنظيرالجاهزة، وابرز ممثلي هذا التيار من المفكرين هم، حسين مروة، والطيب تيزيني، ومحمود امين العالم، ومحمد عيتاني وغيرهم عديدون.

4. المنهج التوفيقي الذي يحاول اعتماد (وسطية) تخدم نقد التراث بما يحتمله كي لا يضيع، وربطه بالمشروع النهضوي القومي (ايديولوجيا)، وهذا المنهج دأبت التنظير له غالبية القوى والاحزاب التي حكمت اقطار الوطن العربي بعد ثورات التحرر الوطني من الاستعمار، والتي رفعت شعارالوحدة و الاشتراكية العربية ايضا، ويعتبر المفكر محمد عابد الجابري بطروحاته النقدية الفكرية والفلسفية للتراث هو قمّة ما توصله هذا التيار فكريا - فلسفيا على يديه، بعد نهايته كانظمة حكم في ما عرف بثورات الربيع العربي 2011، انظمة مارست الاستبداد والاخطاء المصيرية القاتلة تحت شعارات الوحدة والاشتراكية التي كانت ابتذالا فكريا عاطفيا فاسدا لا يمتلك رصيدا من الواقع العملي التطبيقي غير الشعارات الفارغة التي الحقت الكوارث بالوطن العربي.

ورغم تبني مشروع الجابري النهضوي القومي، من قبل مؤسسة دراسات الوحدة العربية في بيروت، وهي مؤسسة غير حكومية مستقلة تتبنى ايديولوجيا القومية والوحدة العربية، الا ان هذا المشروع لاقى معارضة شديدة وصلت حد الشخصنة مع الجابري من قبل طيب تيزيني، كما لاقى نقدا لسنوات طويلة من لدن المفكر جورج طرابيشي في مسلسل تأليفي استهدف مشروع الجابري النقدي النهضوي بسلسلة من مؤلفات الرد على الجابري في جميع اطروحاته الفلسفية في مشروعه النهضوي العربي.

ماجد الغرباوي في مشروعه النقدي للتراث

مشروع المفكر ماجد الغرباوي الذي يعمل عليه بمثابرة هو مشروع ناشيء يحمل الكثير من افكار التجديد غير المسبوقة، ويمكننا وضعه بين مشروعي الجابري واراكون باختلاف منهجي عنهما.في نشدانه تاسيس مشروع نهضوي يتمركز حول نقد التراث الديني الذي يعتبر مجاوزة الانتهاء من حلّه كفيلا بوضع مسار النهضة على الطريق الصحيح في انطلاقته التحديثية.

مشروع الجابري الذي مررنا التعريف عنه قبل قليل، هو مشروع نقدي يتمحور فكريا على قراءة التراث ايديولوجيا من غير ابتذال، ينشد تحقيق ماعجزت عنه ايديولوجيا الاحزاب القومية وانظمة الحكم التي كانت ترعاه، في التثقيف على ايجاد وسطية توفيقية ناقلة لا تتنكر للتراث ولا تستهين بنقده ايضا، واعتبارها التراث ذاكرة تاريخية وهوية مميزة للامة، لا يمكن مجاوزته او الاستغناء عنه، كان المشروع هو ايديولوجيا البرجوازية الصغيرة في نشدانها تحقيق وحدة الامة واشتراكيتها، الذي انتهى مع سقوط انظمة الحكم الاستبدادية التي كانت ترعاه وتحتضنه، بعد احداث الربيع العربي الذي اطاح بتلك الانظمة الفاسدة. واعقبه بروز ما سمي حينها الصحوة العربية الاسلامية بكل تطرفها وهمجيتها وسفكها الدماء (صفحات القاعدة وداعش) وغيرهما من الحركات الدينية الارهابية المتطرفة. خلاصة ومرتكز مشروع الجابري هو نقد (العقل العربي)، معرفيا وفلسفيا وحضاريا.

اما مشروع محمد اراكون فمرتكزه الاساس يقوم على نقد (العقل الديني) الاسلامي، ومن هنا فهو لا يلتقي مع مشروع الجابري في النقد الايديولوجي العروبي القومي، وينطلق اراكون في نقده من منطلقات استشراقية صرف، ويدعو اعتماد نفس الآلية التي حققت اوربا نهضتها بها، في اعتماد اول مراحلها في حركة الاصلاح الديني التي ستكون مبتدأ ونهاية كل نهضة عربية منشودة.

نعتقد ان اراكون أصاب تشخيص الانطلاقة النهضوية بكل دقة ولكنه أخطأ المنهج، اذ كانت وسائل تحققها لم تكن موفقة في اعتماد المنهج الاوربي الاستشراقي النهضوي، وحتى في محاولته الاستفادة من المناهج الحديثة في المعرفة والفلسفة كما في البنيوية والتفكيكية وبعض اطروحات ما بعد الحداثة الاوربية والفرنسية منها على وجه الدقة.

اين موقع مشروع الغرباوي من هذين المفكرين؟

الغرباوي لم يعتمد المنهجية القوموية التراثية (الجابري)، كما لم يعتمد المنهجية الاستشراقية (اراكون)، بل طرح مشروعه في نقد العقل الديني الذي هو مرتكز ومفتاح الحل في اشكالية التراث مع المعاصرة كما سبق وطرحه اراكون، لكن الغرباوي تحاشى المنهج الاستشراقي الذي اعتمده اراكون، واعتمد نقد نص التراث الديني الزائف تحديدا، بوسائل فهم ومراجعة التراث بادوات الاصالة والانتماء الحقيقي للتراث غير المشوّه والمنحرف الذي يتوجب الحفاظ عليه كمرتكز نهضوي لا غنى عنه بعد ازالة الانحرافات والاعاقات التضليلية التي طرأت عليه، فكانت ابرز معالم تلك الرؤية النقدية كالتالي:

- التراث فهم بشري يمكن تفكيكه وتحليل مقولاته، غير ان الضرورات المرجعية للمذاهب المتصارعة نأت به عن النقد والمراجعة والتشكيك، عندما وضعت حوله اسيجة رسخته في وجدان الناس رغم غرائبية ومصادرة واسطورية قدراتها المعرفية، فكرست الايدولوجيا منطق الاستعلاء والوصاية، بعد ان جردت التراث من تاريخيته وبشريته، وابقت على تعاليه وقدسيته، رغم انه ليس مصدرا للمعرفة القائمة على الدليل والبرهان دائما.6

- وبالتالي لا معنى للحديث عن نهضة حضارية، وثمة من يكتفي بالتراث مصدرا مطلقا للمعرفة، ارتكازا لهيمنته السحرية التي تتجلى في ديمومة حضوره وقدرته على توجيه وعي الناس بعيدا عن العقل.... بل لا معنى للعقل مع وجود نص ينتمي لعقل اسطوري كامل مصون، فالنص فوق العقل وفقا للوعي التراثي.7

- اقتحام اسوار العقل التراثي ومرجعياته وتفكيك خطابه، وتحليل مقولاته ضرورة للحد من توسع سلطة التراث على حساب العقل والمعرفة الحقيقية، فالتراث بما فيه الديني بكل نصوصه ورواياته وفتاواه لا تشكل مصدرا معرفيا حقيقيا لانها نصوص تاريخية وفهم بشري.8

- نحن بصدد نهضة حضارية، والدين يشكل مقوما ذاتيا لثقافتنا ويفرض علينا النص الديني الاوسع من الآية والرواية بما يشمل فتاوى الفقهاء وتفاسير القران... ومطلق التراث هو نتاج ظرفه الزماني والمكاني ومحكوم لمختلف المؤثرات الدينية والسياسية والطائفية، فكيف يمكن معالجة واقع لا يعرف عنه شيئا.9

- المسلم يخشى عقله وحريته، ويتشبث بعقول تاريخية ليتحلل من مسؤوليته، ويقبل منطق الوصايا والتبرير دون النقد والمراجعة، بهذا الشكل فقط تستقر النفوس المهزومة التي ادمنت العبودية الفكرية والعقيدية والاجتماعية والسياسية، انها محنة العقل التراثي ورثاثة العقل.10

جديد المفكر الغرباوي انه يدخل عبر نسيج المداراة التي اعتادت الدوران حول اشكالية التراث والمعاصرة في تقليب صفحات كثيرة جدا من تاريخ المتراكم التراثي كما فعل العديدون في تسويد عشرات المؤلفات التي عالجت نفس المواضيع التاريخية بنفس التحليلات تقريبا، اي ان غالبية المفكرين الذين نقدوا التراث في العديد من المؤلفات التي لم تخرج عن دائرة النخبوية الفكرية في التناول البعيد جدا عن ضرورات تحديث حياة الناس مثلا في التعليم العلمي الحديث او في مجال الاقتصاد والاجتماع وغيرها، اذ لا زالت الجامعات تسودها السلفية الفكرية اساتذة وطلبة، ولا زالت دروس الدين في التعليم الابتدائي تفرض وتجري مباراة (التجويد) وتمنع دروس الموسيقى والرياضة، بموازاة اصدارات الكتب والمؤلفات في نقد ومراجعة التراث لما يزيد عن اكثر من قرن ونصف.

وعندما كان معظم المفكرين يتحاشون تسمية الاشياء بمسمياتها الحقيقية، ويدعون للكشف عن المسكوت عنه، او المحظور التفكير فيه، وغير المسموح مقاربته النقدية، نجد الغرباوي يضع عيّنات من تلك النماذج المحظورة على طاولة النقاش والمراجعة النقدية، بعيدا عن استقطابات الايدولوجيا والمذهبية الطائفية، وتيارات ومدارس الاستشراق الحديثة.

الحداثة والذات العربية

نستنتج مما مر بنا استعراضه، ان تحقيق مشروع الحداثة مرتهن بمركزية الذات العربية الانسانية ووجوب تعاليها النقدي على النص التراثي الديني والفكري، بمعنى تاكيد اولوية الحرية الفردية السابقة على فكرة التناول النقدي للتراث، وتاكيد اولوية واهمية الانسان العربي كغاية ووسيلة التحديث المنشود.

ان الذات العربية نجدها اليوم حالها حال ما قبل الف واربعمائة سنة خلت، عاطلة عن ممارسة الحس النقدي، مسلوبة الحرية في التفكير الحر المستقل، فاضاعت تعاليها المطلوب على الموروث الذي هو في غالبيته من صنع بشر سبقوا زمنيا، ولا دور للخالق فيه من حيث هو نصوص تشرح وتفسّر وتعتاش وفق مصالحها على الدين، وهذا كفيل في تغييب الشخصية العربية الناقدة لموروثها، وبمرور الوقت تجد هذه الذات نفسها، يخلقها الموروث الخاطيء ويعيد صياغة وتعليب افكارها كلما تقدم الزمن بها، فتصبح كائن تراثي حسب تعبير الجابري وليس ذاتا تمتلك تراثا لها حق التصرف به.

النص الديني الموروث متعال على الذات بقدسية زائفة يخلقها لنفسه ويخلعها عليه، وهو تعالي زائف لا يمت بصلة باصالة وفهم قيم الدين الحق.وتعود الاشكالية تتوالد من حيث انتهت وباستمرار في تغييب دور النقد والمراجعة بما يبطل في حال تحقق ممارسته سلسلة التساؤلات التي تفرضها ويتطلبها تقدم الحياة. ويكون غياب النقد الذاتي والقراءة المنفتحة وعطالته متشكّلا من القناعات في المتراكم المخطوء الجمعي الذي يجري في تشكيل الحياة سريان القانون المقدس، المترسّخ في العواطف والوجدانات والخرافات وحشو الاكاذيب.

ومن نتائج هذه الحالة اصبح عندنا نقد الذات للتراث تابو ومحرّم ليس بسلطة الحكم وايديولوجيته السياسية المتنفذة وحسب، ولا بسلطة التخلف والتضليل والتجهيل المبرمج، وانما من التلفيق المتراكم الذي جعل من الاكاذيب والخرافات باسم الدفاع عن التراث وحفظه، يقينيات مجتمعية لا يمكن تجاوزها وعبورها بسهولة، وارضية ترسيخ دائمي لكل ما يستحدث من الاضافات اليقينية الكاذبة على مر الايام.في تعطيل دور العقل في النقد الذاتي للتراث الزائف في المتراكم المتداول عبر العصور، والذي تشكلت الذات بموجبه، كملهم للتفكير المقيّد، في التوجهات والعواطف والاخلاق والسلوك المنحرف.

يمكننا القول ان المنقود الواجب اصبح اليوم ليس التراث بمقوماته الاساسية الاصيلة، وما يحمله من قيم معنوية تاريخية هوياتية تشكل مرجعية ثقافية حضارية لا غنى لنا عنها، بل انتقل النقد الى تفنيد وازاحة المتراكم الخرافي والتلفيقي الذي اصاب التراث باسم الحفاظ على التراث، اليقينيات التي اكتسبت صفة المقدس الطاريء في اللاعقلانية واللاتاريخية التي غيّبت كل القيم الاصيلة في التراث.

قناعات النص الديني المزيّف تستمد مشروعية سريانها الاجتماعي المضلل المتخلف بتعاليها باسم المقدس الديني في تحريم النقد في كل صوره واشكاله، فكيف يتسنى لنا دخول العصر والحداثة من غير تغيير واسقاط احد طرفي المعادلة الاشكالية التي تتقاذف مجتمعاتنا العربية عبر العصور، اشكالية غياب المنهج النقدي باسم تابو التحريم والتكفير من جهة، وحضور القناعات الخاطئة القاتلة اجتماعيا، القائمة على تسليم ايماني وجداني في غياب حياة الارض من اجل جنة السماء من جهة اخرى، وتبقى الاشكالية قائمة تتغذى الخرافة والتجهيل الايدولوجي المبرمج الذي لا يرى ولا يفهم الحياة بغير عيون الماضي وسلوكيات الانقياد له بكل رجعيته.

علي محمد اليوسف - الموصل

....................

الهوامش

1.محمد عابد الجابري، نحن والتراث ص9

2. نفس المصدر ص10 -13

3.نفس المصدر السابق ص11

4.نفس المصدر ص14

5. نفس المصدر السابق ص 15

6.ماجد الغرباوي، النص وميثولوجيا التراث، الحلقة 65 حوار مفتوح

http://www.almothaqaf.com/c/c1d-2/925927

7.المصدر نفسه السابق

8. المصدر نفسه

9. المصدر نفسه

10. المصدر نفسه

إلتقيت بالدكتور عبدالجبار الرفاعي أواخر عام 2003 بعد سقوط نظام صدام، وغزو الأمريكان، قبل أن يحصل على الدكتوراه حينما عُرف بوصفه شيخ متفتح في الحوزة العلمية في قُم، وكنت فرحاً في التعرف به، فقد كانت مجلته "قضايا إسلامية" التي أنشأها مع الشيخ "مهدي العطار" صداها بين أوساط الإسلاميين قبل هذا التاريخ، وبعدها كان لمجلة "قضايا إسلامية مُعاصرة" التي ترأس تحريرها وأشرف عليها حضورها الفاعل في الأوساط الثقافية والأكاديمية العراقية.

كان للرفاعي وما يزال نشاطه المُلفت للإنتباه في النشر والكتابة وفي التعرف على شخصيات تمتلك رؤى نقدية وتجديدية لها تأثير وفاعلية في المشهد الفكري العام والمشهد الديني، بل وحتى الثقافي.

أصدر الرفاعي سلسلة كتاب "قضايا إسلامية مُعاصرة" وكان من ضمن كُتبه المُختارة كتاب "إشكالية التجديد" لماجد الغرباوي عام 2000م، ولم أكن قد سمعت عن هذا الكاتب من قبل، لتعتيم النظام على أغلب نتاج المُثقفين العراقيين المُعارضين في الغُربة، وبعد إطلاعي على كتابه هذا حاولت أن أعرف من هو هذا الكاتب، وبعد تقصٍ ليس بالطويل عرفت أنه رئيس تحرير سلسلة رواد الإصلاح التي صدر منها كتابه رقم (4) الشيخ النائيني مُنظّر الحركة الدستورية الصادرة عن مؤسسة الأعراف في عام 1999.

بعد تعرفي على الرفاعي،سألته عن الغرباوي، فتبين ليَ أنه من أقرب أصدقائه، بل هو صديق العمر، وهو من أبناء مدينته "قلعة سكر"، وقد عاشوا أيام الأفراح والأتراح معاً، ولربما يكونا هما تؤمان في الفكر.

مرت الأيام والسنون، وبعد تركي للنشر لأعوام في الصحف والمجلات الثقافية، نصحني أحد الأصدقاء المُقربين بضرورة نشر ما أكتب، وبعد تردد، لأنني لا أعتقد بجدوى الكتابة ولا أشعر بقيمة تأثيرها وفاعليتها بين وفي أوساط مجتمعاتنا، إلًا أنني رضخت لمطلبه، فنصحني بالنشر في صحيفة المُثقف التي تصدر عن مؤسسة المثقف في أستراليا بسدني، فأرسلت بعض المقالات لهذه الصحيفة وبمساعدة صديقي هذا (د.رائد جبار) تم نشرها في هذه الصحيفة، ولم أكن أعرف من هو المشرف على مؤسسة المثقف ولا رئيس تحرير الصحيفة، وبعد مدة من المُراسلة وفي حديث جانبي مع رئيس التحرير تبين ليَ أنه "ماجد الغرباوي" الذي أعرفه حق المعرفة ككاتب ومؤلف إسلامي له توجهاته النقدية التي أبان عنها في كتاباته الأولى، وهو صديق الرفاعي الذي أكن له كل الإحترام فكراً ومعرفةً، هو رئيس تحرير هذه الصحيفة الغراء.

كنت قبل ذلك أتحاور مع صديقي الأطيب "د.صائب عبدالحميد" المؤرخ المعروف عن كتابات وشخصية "ماجد الغرباوي"، فكان يُخبرني بحميمية العلاقة بينهما، وبمقدار ما يمتلكه الغرباوي من فائض الوعي النقدي، وهو ذات الأمر الذي أخبرني به الرفاعي.

وبرسائل عبر (الماسنجر)عرفته وعرفني وخبرته وخبرني، عرفت أنه مفكر لا يكل ولا يمل في البحث والتقصي عن الحقيقة وإن أخرجته عن بعض مُتبنياته العقائدية وفق ظن الساذجين ممن لم يعرفوه، وخبرته أنه ذو نفس زكية وروح صوفيه ألقها من ألق العارفين الذين تتجلى لهم المعرفة وفق تجليات الروح وتمظهرات العقل وفق الرؤية الهيجلية، فلا توجد حدود فاصلة بين تدين عقلي وآخر عرفاني "روحي" إلَا عبر تماهيهما مع الواقع، أي جعل الواقع روحاً ناطقة بتجليات الروح.

حوارتنا لها معنى وتجلٍ عبر توافق وتواصل يفصل الانطباع المُسبَق عن رفض وقبول. إنه حوار عن مُشتركات العقل الفلسفي بنزوعه المدني في قبول التعددية والإختلاف والتنوع الثقافي بوصفه من تمظهرات الوعي االمُختلف الرافض لمنطق "المُطابقة" و "التشابه" المُغاير للتوتاليتارية الدينية "الشمولية" بوجهها الإقصائي للكشف عن نزوع لاهوتي مُزيف، ليكتب "مدارات عقائدية" ينقد بها كل هذا الزيف الموروث من الماضي أو الذي يكتنف حاضرنا، في محاولة منه لتوصيف "تحديات العُنف" عبر إستنطاقه وتأويله للنصوص القرآنية، ومحاولة تفسيرها تفسيراً عصرياً ينقد الحركات الإسلامية "الراديكالية" ونقد فكرتي "الحاكمية" عند الأخوان المسلمين، و "ولاية الفقيه" عند أحزاب الإسلام الشيعي، وكلاهما وقعا ضحية رثاثة التفكير الديني، وخطاب التكفير، وإساءة فهم مفهوم الشهادة، والتعبئة المُستمرة ضد الغرب وعدم الفصل بين السياسة الغربية الأنكلوسكسونية وبين الحضارة الأنكلوسكسونية بكل ما فيها من قيمة أخلاقية وعلمية وتقنية. فضلاً عن الغباء المُفرط والجهل والأمية، والخلط بين المُقدس وغير المُقدس، وكراهية الحياة، وهجاء الدُنيا، وتمجيد الموت، ونسيانها وتغييبها عبر الطاعة لرجل الدين حتى وإن كان جهلاً لا يفقه من أمور الدين سوى التباكي وإتقان الإيقاع والنغم الحزين في البُكاء على الحُسين.

في حواراته فيما أسماه "مدارات عقائدية" إخترق الخطوط الحُمر، لينقر على ناقوس التطرف الديني، يُهدي كتابه إلى كل من علمه "أن يكون مُحباً لكُل الأديان والطوائف".

تجاوز الغرباوي في كتابه هذا كل "الخطوط الحُمر" فعلاً لا تجوزاً، فقد تناول بالنقد مفهوم الإنتظار في الفكر الشيعي، ومفهوم الخلاص، والشفاعة، ونقد فكرة "ولاية الفقيه" والربط بين الولاية والإستبداد، ونقد فكرة الخلافة التكوينية في الفكر الشيعي الذي خلص إلى أن الكون كله وضع تحت تصرف النبي والأئمة، رغم أنهم بشر، والنبي ذاته يقول "ما أنا إلَا بشر مثلكم"، والإمام في الفكر الشيعي يؤثر في الكون ويُمكنه التصرف به بإعتباره أحد علله.

لذلك يذهب الغرباوي إلى القول:" لا يُمكننا التصديق بمفاد أي رواية تُخالف القرآن والعقل أو الصحيح من السيرة بدليل قطعي السند والدلالة. كما أن "المُمتع عقلاً، لا يُحتمل وقوعه خارجاً، سواء كان الإمتناع ذاتياً، كشريك الباري، أو لعدم تحقق شروطه، كإقتراب النار من الورقة شرط لإحتراقها، أو لطبيعة الشيء وتكوينه، كامتناع صدور المُعجزات والخوارق الكونية على يد الإنسان حسب طبيعة تكوينه، وما أكد القرآن وقوعه، يُقتصر فيه على مورده". فالإنسان بطبيعته لا يُمكنه التصرف بالكون خارج نظامه القانوني، وهي قوانين ذاتية، وليست خارجية، وتختلف ذاتها عن الإرادة البشرية. فإرادة الإنسان ليست قانوناً كقانون العلية والسببية الذي هو ركيزة القوانين وترابطها الذاتي مثلاً.

هو ذا الغرباوي يستفز العقل السكوني والغيبي "المُستقيل" ليكشف عن عوراته وهناته الضامرة في طبيعة وجوده.

إنني فرح في التحاور والصداقة مع عقل "إشكالي" مثل عقل "ماجد الغرباوي"، وهو إضافة معرفية ليَ ولكل من يبتغي الخلاص من بديهيات العقل التقديسي والطقوسي.

في حواراته المنشورة في صحيفة "المثقف" تجاوز التابو، وإخترق "الخطوط الحمراء" و "الصفراء" فاختط بقلمه إن لم يكن بروحه بياضاً ينثره على بقايا الألم في عراقنا الملتهب بصرعات التمذهب، ليخترق شفق الصراع المذهبي وغلوّنا الراكس في غياهب عقلنا السكوني "المُستقيل"، سُنياً كان أم شيعياً، ليستنطق المسكوت عنه، كي يُخرجه أقحواناً في لوحة التشكيل الفسيفسائي العراقي، ليُعيد إنتاج الهوية الوطنية المفقودة في حواراتنا المتأزمة.  

 

د. علي المرهج  - استاذ فلسفة

جامعة المستنصرية - بغداد

.....................

للاطلاع على صفحة ماجد الغرباوي في المثقف

http://www.almothaqaf.com/k/majedalgharbawi

 

لا بد ان اقدم جزيل الشكر الى الاديب القدير الاستاذ سلام كاظم فرج، الذي فتح شهية تبادل الاراء والنقد البناء، الموضوعي، عبر تحليله النقدي بقلمه الثري والقدير لقصة (حافات قلقة) لماجد الغرباوي، والتي نشرت في صحيفة المثقف، بعنوان:  المفكر عندما يكون قاصا*.

وهذه القصة تستحق التوقف والتمعن وتحليل ادائها الفني والتعبيري، من خلال تقنيات السرد وتكتيكاته الفنية، وما فيها من حمولة التعبير الدلالي، والايحاء والمغزى والرمزية، المشبعة بإشعاعات متنوعة في رؤيتها الفكرية، وعملية تناص فعلي وملموس مع مسرح الحدث. وصياغة منطقية لثيمات الواقع. وكذلك لغة النص وحبكته المركبة، التي اعتمدت على تحريك الحدث وتصعيد انطلاقاته الفاعلة، من خلال براعة عنصر التشويق والاثارة، وهو يكتشف دواخل الشخصية المحورية (سعاد)، وسيكولوجيتها التي تدفعها للفعل والفعل المضاد. وقد اتصفت القصة بقوة التعبير عن الحدث المركزي، حدث القصة. وقد نهجت اسلوبية تركيبة، في ثنائية فعل السرد، والفعل الدرامي، لابراز قوامه، القائم داخل منصات التحليل والتمعن، حينما ينمو ويتطور الحدث خلال تحريك شخصية الفاعل، او الشخصية المحورية، وابرازها لمكونات صناعة البطل السلبي، الذي يتعامل بلا مشروعية بدلا من المنطق السليم. ويستغل ثقوب وثيمات الواقع الموجودة، ويتجنب التعامل الموضوعي والمعقول، في المنازلة والصراع والمنافسة . وما شخصية (سعاد) إلا مثالا للبطل السلبي، الذي يركض بلهاث وراء الوهم، ليصدقه كحقيقة قائمة بذاتها: (ما علينا إلا ان نصدق أوهامنا، ونجد من يدافع عنها، حينئذ ستكون هي الحقيقة في أعين الناس، أليس أصدق الحقائق أكذبها ؟؟)

لذلك سنتناول الشخصية المحورية في حدث النص القص (سعاد) في جوانب التعاطي، الذاتي والموضوعي، كحقيققة قائمة يتعامل معها الواقع بفعله المأزوم، المنحرف عن جادة الصواب، في كل الميادين ومنها الشأن السياسي والثقافي. ونتحدث عن لا شرعيته في التعامل والتعاطي، خاصة في المنازلة والصراع والتنافس الذي ينقش حروفه على ثوب الخديعة والمكر والاغراء بشراء الذمم، والدسيسة والخبث، عبر جوقة الطبالين الذين يعرضون بضاعتهم المنافقة، للبيع والشراء. لذلك نفخوا في اصنام الواقع، حتى دبت فيها الروح الالهية المزيفة، لتفرض وجودها على الواقع . ولكن حبل الزيف قصير، فسرعان ما تواجهه الحقائق الدامغة، لترجعه الى حقيقتها الصنمية الحجرية (لكن ... صعقها خواء حلمها) هذه الحقيقة المستخلصة من رؤى الحدث والنص، بأن الزيف سرعان ما يتهدم عاجلاً أم اجلاً . والتي عبرت عنها في دلالية البناء الدرامي، والمضمون الفكري، وتعاملت في توزيع فعل الحدث، بالفعل الصاعد بالتدرج نحو ذروة الصراع، ويمكن توزيع الفعل الدرامي على اللوحات التالية :

1 - اللوحة الاولى: ساحة العرض.. الكل في انتظار الى اعلان نتيجة. الفائزين او المتفوقين من قبل عميد القرية. وتحلم (سعاد) ان تكون في مقدمتهم .

2 - اللوحة الثانية: لحظة اعلان الاسماء، تصاب (سعاد) بالخيبة والاحباط والفشل، فلم تكن ضمن اسماء الفائزين والمتفوقين، كما كانت تحلم

3 - اللوحة الثالثة: تعود الى بيتها تجر اذيال الخيبة والحيرة والفشل .

4 - اللوحة الرابعة: تخطط للانتقام كرد فعل سلبي على الفشل والحيرة والخذلان، بأن احلامها تحطمت بالخيبة .

5 - اللوحة الخامسة: استلهام سلوك الخداع والمكر والخبث والدسيسة، حتى تجبر عميد القرية لتغيير قناعاته لصالحها .

6 - اللوحة السادسة: تتناول كيفية صناعة البطل السلبي والبطولة المزيفة والمخادعة، من خلال اغراء جوقة الطبالين ومدحهم المزيف، المدفوع الثمن، حيث الاغراءات وشراء الذمم بكل الحيل الماكرة، من أجل إعلاء بعض من لا يستحق المقام والشأن، إلا بالزيف والانحراف.

7 - اللوحة السابعة: نهاية المنازلة والصراع والمنافسة، التي أدت الى الخيبة والفشل (ولما حان وقت التحدي، ارادت ان تحمله . لكن .... صفعها خواء حلمها) .

إن الحكمة وراء فكرة القصة، هي ان الحقيقة والجوهر الاصيل لا ينهزم امام الاصنام المزيفة، عاجلاً أم اجلاً، هل تتنافس الزهرة الاصطناعية برائحتها البلاستيكية، الزهرة الحقيقية بعطرها الفواح الريحاني؟

 

جمعة عبد الله

..................

للاطلاع

المفكر يكون قاصا / سلام كاظم فرج

 

حافات قلقة / ماجد الغرباوي

 

 

قد يضطر المفكر أحيانا الى اللجوء الى تبني فن القصة القصيرة ممرا لتسريب بعض أفكاره الى الناس لما في هذا الفن من إمتاع وتشويق.. حتى افلاطون حين وضع كتابه الفلسفي الشهير (الجمهورية)..كتبه من خلال سرد ما جرى لسقراط وغلوكون ذات ليلة من ليالي الاحتفال بالعيد..برتراند رسل كتب مجموعة قصص قصيرة تناول فيها أحلام مجموعة من الرجال المشهورين في عالم السياسة وفي عالم الرياضيات والفلسفة.. المفكر غالب الشابندر له رواية قصيرة تنتمي الى هذا النوع من الفن الذي يحاول ان يمرر رؤية سياسية او فكرية...

ماجد الغرباوي مفكر إسلامي تقدمي.. ينتمي الى جيل المفكرين التنويريين المتأثرين بإطروحات عبد الكريم سروش وعلي شريعتي في الفلسفة والفكر.. إطروحاته في كتاباته الفكرية تتسع لتكون منظومة إنسانية شاملة تبتعد عن إطروحات الإسلام السياسي الشائعة والتقليدية.

ولكني هنا اكتب عن نص قصصي للأستاذ ماجد كتبه قبل سنوات.. تحت عنوان (حافات قلقة ..)..

من السهل الادلاء بشهادة نقدية بسيطة كالقول.. ان هذا النص رائع.. وذاك النص عميق.. فهذا الحكم وصفي بحت ليس فيه اية رؤية للتقويم.. ان وظيفة الناقد الحقيقية تشبه وظيفة الدليل السياحي.. لابد ان يكون الدليل على دراية بكل المثابات التي توصله الى اكثر الاماكن المثيرة للإبهار. فالقاريء العابر قد لايلتفت الى مطبات النص ومناطقه الممتعة والمخيفة معا. دون الاستعانة بدليل حاذق يرشده الى تلك المناطق..

والنص الحديث قد يحمل إنزياحات مركبة. ودلالات وإحالات متنوعة.. ولكي تصل كلها الى المتلقي.. لابد لها من كاشف مستكشف.. حاذق ونبيل. لا لكي يصحح مسارات الكاتب كما هو شائع او الاقتصار على الإشادة او الذم.. او المدح او القدح... بل للأخذ بيد المتلقي لاستكشاف الجديد والمثمر معا.إن كان في الأساليب السردية او المضامين الفكرية..

يثير نص ماجد الغرباوي مسألة قلما يجري الالتفات اليها من قبل كتاب القصة القصيرة الباحثين عن الجدة والابتكار. فتراهم يلوذون أحيانا بالغموض والتغريب حتى يستعصي فك ترميزات نصوصهم على كبار النقاد. ناهيك عن القاريء العابر.. وترى فئة غيرهم ما زالت تراوح في مضمار السرد التقليدي الذي تجاوزه كبار كتاب فن القصة في العالم..

نص الاستاذ ماجد واقولها بدون مجاملة.. حاول ان يضرب المثال لعبور هذه الاشكالية في طرائق السرد..فلم يركن الى الاسلوب التقليدي التعليمي الذي تجاوزه الزمن. ورغم حمولة النص باكثر من قيمة اخلاقية. لم ينسحب الى مطب الوعظ الاخلاقي الصريح والذي تحفل به بعض النصوص فيخرجها من دائرة الفن الى دائرة الكلام السائد..وهو بالمقابل . لم يقع تحت إغراءات التغريب الغامض العويص. ولم يجعل تأويلات نصه ممتنعة.. عصية..

أن جهدا نقديا بسيطا يمكن له ان يستكشف رسالة النص ..إن في المضمون. أو السرد...يمكن لما يسميه الناقد درايدن.. شهامة النقد.. (نقد الظاهرة) لا نقد النص او (شخوص النص..) الأستاذ ماجد هنا.. لم يفكر بإدانة بطلة نصه سعاد. رغم الصورة التراجكوميدي التي رسمها لها.. بل هو يضرب في عمق الظاهرة التي افرزت وتفرز عشرات الابطال السلبيين مثل سعاد. ظاهرة تحشيد الاتباع وإن بالمكر والخيانة والدسيسة والايقاع بالآخر.. كذلك نقد ظاهرة صناعة الاصنام في المؤسسة السياسية و الدينية والاجتماعية.. فهناك الاف الاشباه الذين يصنعون ما صنعته سعاد من خلال الزيف والتزييف لتوكيد سطوتهم. وتأثيث خرابنا..

قد تكون سعاد موهوبة وقد تستحق جائزة ما. وقد يكون المجتمع قد فرط بتقييمها..لكن اساليبها اللاحقة. قد تتحول الى وبال عليها.. قبل ان تكون وبالا على غيرها. عندها سيغادرها حتى هؤلاء الأتباع الذين انتفعوا مؤقتا من هداياها وإغراءها...

النص وفق رؤيتي.. ابعد ما يكون عن الشخصنة. بل هو يعالج ظاهرة. اجتماعية سياسية..موغلة في العمق تخومها..

هي بإختصار ظاهرة إختلاق الاتباع المزيفين في الفن والسياسة والمجتمع من اجل مصالح انوية عابرة تنتهي دائما بخراب روحي وحضاري وسياسي للفرد والمجتمع على حد سواء..

*** 

سلام كاظم فرج

 

"التسامح ومنابع اللاّتسامح: فرص التعايش بين الأديان والثقافات" كتاب لـ: ماجد الغرباوي، الناشر الحضارية للطباعة والنشر، إصدار معهد الأبحاث والتنمية الحضارية، الطبعة الأولى 2008، وعدد الصفحات 162 صفحة. يتناول فيه الباحث موضوعا مهمّا وهو: التسامح واللاّتسامح. في هذه القراءة سنبِّين أهم أفكاره الرئيسة مُبدِين رأينا فيها.

إنّ التسامح ضرورة حياتية تبقى الحاجة إليها قائمة ما دام هناك إنسان يمارس العنف والإقصاء والتكفير، ويرفض التعايش السلمي مع الآخر المختلف، بل الحاجة إلى التسامح تشتدُّ مع اتّساع التنوّع الإثني والديني، لامتصاص تداعيات الاحتكاك بين القوميات والثّقافات والأديان، والخروج بها من دائرة المواجهة إلى مستوى التعايش والانسجام. كما عبّر الكاتب عن الوضع الحالي بالقول: "إنّ ما نشاهده اليوم من صراع محتدم بين القوميّات والأديان والمذاهب يكشف عن رخاوة الأسس التي يقوم عليها مفهوم التسامح أو غيابه، فهو في نظر الأوساط المتصارعة لا يعدو كونه قيمة أخلاقية تتحكّم به المؤثرات الاجتماعية والسياسية، وهو في رأيها مِنّة وتفضّل مشروط، قد ينقلب إلى ضدّه إذا فقد رصيده الأخلاقي، وما نحتاجه فعلا لتوطيد العلاقة بين الطوائف والقوميات مفهوم يرتكز إلى أسس متينة، تتفادى الاحتكاك على خطوط التماس".كما يرى الكاتب أنّ التسامح بمفهومه الجديد لا يتحقّق بسهولة، وأنّ تتوقف فاعليّته على حجم استجابة الأوساط الاجتماعية والدينية لضروراته، وهو في نظر الكاتب لأمر صعب، يحتاج إلى مران طويل يخفّف الإنسان خلاله من حِدّة غلوّه وتطرفه، وذلك يحتاج إلى عودة متأنّية للذات من أجل نقدها وتمحيص بناها الفكرية والعقيدية، وتأهيلها لتكون أرضية صالحة لاستنبات قيم التسامح الجديدة.

- التسامح ومنابع اللاتسامح: مقاربات تمهيدية

لا بدّ من التأكيد أنّه لم يبق أمام الشعوب الإسلامية خيار للحدّ من ثقافة الموت والاحتراب والعداء والإقصاء المتفشية في كل مكان سوى قيم التسامح، لنزع فتيل التوتر وتحويل نقاط الخلاف إلى مساحة للحوار والتفاهم بدل الاقتتال والتناحر، وهذا صعب في نظر الكاتب لكونه "يستدعي جهودا يتظافر فيها الخطاب الإعلامي مع الخطاب الثقافي والديني والسياسي والتربوي، ويتطلب تعاون الفرد مع المجتمع، والشعب مع القانون، والدولة مع الدستور. إنّه عمل جذري يستهدف البنى الفكرية والعقيدية للمجتمع، وإعادة صياغة العقل والأولويات والوعي، وتقديم فهم عصري للدين والرسالة والهدف، ونقد للمفاهيم والقيم والسلوك".

لقد اعتبر الكاتب أنّ ما نشاهده اليوم من مظاهر عنف واحتراب يستدعي العودة إلى الذات لمراجعتها، ثم الارتكاز إلى قيم جديدة تستبعد الكراهية والحقد، وتنفتح على قيم الإنسانية والدين. وهذا "يتطلب الغوص في أعماق الفكر والعقيدة بحثا عن جذور المشكلة؛ أي ينبغي البحث عن الدوافع الحقيقة وراء ثقافة الموت والاستهانة بالحياة وتكفير المجتمع. وتقصّي المفاهيم المسؤولة عن صياغة البنى الفكرية والمعرفية لعدوانية المرء تجاه الآخر أيّا كان الآخر داخليا أم خارجيا، دينيّا أم سياسيا".

التسامح: الدلالات

ومن الحديث عن التسامح ومنابع اللاّتسامح، توقّف الكاتب كذلك عند دلالات التسامح؛ فبخصوص الدلالة اللغوية لمفهوم التسامح يرى الكاتب أنّها: تستبطن المِنّة والكرم، وتشير هذه الدلالة أيضا إلى وجود فارق أخلاقي بين المتسامِح والمتسامح معه. فليست هناك مساواة بين الطرفين، وإنّما هناك يدٌ عليا واهبة، ويد سفلى متلقّية، وهو مقتضى المنّة والكرم. في نظرنا نعتبر أنّ التسامح واجب علينا فلا هو مَنٌّ ولا كرم بل هو حقّ للآخر. وفي معناه الاصطلاحي يراد به الموقف الإيجابي الذي يسمح بتعايش الرؤى والاتجاهات المختلفة بعيدا عن الإقصاء، على أساس شرعية الآخر المختلف دينيا وسياسيا وحرية التعبير عن آرائه وعقيدته. وفي علاقة بذلك، يتساءل الكاتب: ما هو المطلوب من الشخص المتسامِح؟ هل المطلوب التنازل عن القناعات الفكرية والعقيدية نزولا عند رغبة الآخر، أم إنّ ذلك ضرورة يقتضيها التسامح؟ أم إنّ التسامح يعني الانصياع والتبعية والرضوخ للآخر المختلف؟

انطلاقا من الأسئلة المطروحة أعلاه، يرى الكاتب "لا هذا ولا ذاك، وإنما التسامح يعني اعترافا بالآخر والتعايش معه على أساس حرية العقيدة وحرية التعبير، لا تكرُّما ولا منَّة، وإنما هو حق باعتبار تعدد الطرق إلى الحقيقة، وعدم وجود حق مطلق لدى طرف دون آخر، وأنّ الحقيقة موجودة لدى جميع الاتجاهات الدينية والعقيدية على أساس وحدة الحقيقة وتعدّد التجارب الدينية". وثمة نقطة جوهرية، وهي أنّ التسامح لا يقتصر على الجانب الديني، بل يتعدّاه إلى ما هو سياسي وإيديولوجي واجتماعي، فالتسامح السياسي مثلا هو اعتراف بالآخر وحقّه في التعبير عن رأيه وممارسته. ونفس الأمر على مستوى التسامح الاجتماعي؛ أي الاعتراف بالآخر على أساس إنساني بعد تجريد مرجعية التفاضل من القيم العنصرية.

 

tasamoh2- منابع اللاتسامح

إنّ منابع التسامح - حسب الكاتب - تتعدّد تبعا لطبيعة المجتمع ثقافيا وفكريا وعقيديا، وأيضا تبعا لمستوى حضور الدين ومدى تمسك المجتمع بالقيم الدينية والاجتماعية. ومن منابع اللاتسامح يذكر الكاتب ما يلي:

أوّلا: منطق العنف:

 إنّ العنف كان سائدا داخل المجتمعات غير المتحضّرة التي ترفض الاحتكام للقانون أو الأعراف، وبالتالي يبقى العنف السبيل لتقرير المصير. يقول الكاتب "لجوء الإنسان البدائي للقوة والعنف كان دفاعا عن النفس بسبب الأخطار المحدقة به، ولمّا ظهر التنافس بين المجموعة البشرية الواحدة واحتدم الصراع على المراعي والحقول، لجأ الإنسان إلى العنف للدفاع عن حياته وعائلته وممتلكاته"، وإذا لم تعمّ ثقافة التسامح اليوم ربما سيعود الصراع والعصبية، فيكون الفيصل لغة الدم، يقول الكاتب "ينبغي علينا أن نعي مهمّة ثقافة السلام والتسامح وضرورة انتشارها وتثقيف الشعب عليها عبر خطاب مؤهّل قادر على استنبات قيم جديدة، بدلا من النسق القيمي الذي نطمح لاجتثاثه، بمستوى يصبح التسامح مسؤولية تاريخية يتصدى لها جميع أبناء الوطن من أجل الوطن ووحدته وسلامته وأمنه ومستقبله، كي يلمس الشعب حقيقة التحوّل الذي طرأ على البلاد نتيجة التحوّلات التي مرّ بها".

ثانياً- الولاء القبَلي:

هذا الولاء يعدُّ من منابع اللاّتسامح، ونحن نعيش اليوم الولاء والتعصب إمّا للدين أو للمذهب أو للحزب، في غياب شبه تام لمقدّمات العيش في إطار الاختلاف، فالهوّة تتسع ويتسع معها العنف. ينبه الكاتب إلى خطورة الولاء القلبي بالقول "ليست العشائر في المجتمع القبَلي سوى خطر كامن يتفجر متى شاء، إذ أنّ قرار العشيرة قادر على تحريك كل أفرادها وبالتالي تعبئتهم ضد أية جهة، وحينما تتعرض مصالح العشيرة للخطر، حتى وإن كان ذلك على حق، فإنّها تتمرد على قرارات الدولة وإرادة القانون... فالمجتمع القبلي عبارة عن قنابل نووية مخصبة قابل للتفجير والانتشار الواسع. فتفكيك النسق القيمي وليس الاجتماعي للقبيلة وإعادة تشكيل العقل العشائري له الأولوية في عملية التغيير المرتقبة، ليصير إلى وسط اجتماعي يتقبل التحوّلات الجديدة ويتفاعل مع قيم التسامح".

ثالثاً- سلطة القيم:

يرى الكاتب أنّ ترزيق (تلقين) القيم إلى وعي الفرد يبدأ عادة في السنوات الأولى من حياته عندما يُلقّن بمفاهيم الخضوع والاستسلام للقيم، ويُلزم بقيم الاحترام والطاعة والخضوع، أي يُلقّن بمفاهيم قيمية يراد له الالتزام بها كي يكتسب احترام المجتمع. وهنا يعطينا الكاتب المثال التالي: فحينما يرتكز المجتمع إلى العنف في تسوية الخلافات وانتزاع الحقوق، فإنّ الاحتكام إلى العقل والتسامح، من قبل بعض الأفراد، يصبح جبنا. وهناك مثال آخر متعلّق بالعقلية الذكورية، فحسب الكاتب "تتصف مجتمعاتنا أيضا بأنها مجتمعات ذكورية، تمنح الرجل صلاحيات واسعة في مقابل تهميش المرأة وتحقيرها، وتلغي وجودها وتعتبرها أنثى يطأها الرجل حينما يرغب ويتخلى عنها متى يشاء"، وهذا فيه إقصاء للمرأة ومنعها من حقها في أداء رسالتها الحضارية إلى جانب أخيها الرجل.

إذًا لا بدّ من نسق قيمي يطال المشاعر والأحاسيس يؤهّل الإنسان لحياة جديدة قائمة على التسامح وإعادة وعي العلاقة بين جميع الأطراف، بشكل معقول ومنسجم مع طبيعة النفس البشرية الموغلة بالنقص والخطأ، يتفهّم الحالات المختلفة أو المتناقضة التي تطرأ على الإنسان.

رابعاً- الاستبداد السياسي:

 يؤكد الكاتب على أنّ الاستبداد السياسي يعدُّ خصما حقيقيا للتسامح؛ ففي الوقت الذي يعتبر فيه الاعتراف بالآخر جوهر التسامح الديني والسياسي والاجتماعي، يعتبر رفض الآخر وتهشيمه جوهر الاستبداد السياسي، لذا لا يمكن التوفيق بينهما. وبالتالي، لا يمكن إشاعة قيم التسامح في ظل أجواء التفرّد والاستبداد بالسلطة، لأنّ طبيعة الاستبداد تقتضي عدم الاعتراف بالحقوق السياسية للآخر، التي منها حقّه في ممارسة السلطة مع استكمال الشروط اللازمة لها.

خامساً- العنف الديني:

يعتبر العنف الديني أحد أخطر منابع اللاتسامح، لتلبّسه ببُعد شرعي، وتوظيفه النص الديني، وسرعة تصديقه من قِبَل الناس، وقدرته على التخفّي تحت غطاء الشرعية والواجب والجهاد والعمل الصالح. فـ "عندما نعود إلى سياق التسامح ومنابع اللاتسامح نؤكد أنّ الفهم الذي يكرّس الأحقاد ويصرّ على تكفير الآخرين، من أجل شرعنة قتالهم ومطاردتهم، هو فهم لا ينسجم مع روح الشريعة الإسلامية، وبعدها الإنساني، وبالتالي فهذا الفهم يُعدّ من أخطر منابع اللاتسامح، لالتساقه بالدين الحنيف، فالمطلوب من أجل الرقّي إلى مستوى المجتمعات المتسامحة العمل على تفكيك الخطاب الديني المتطرّف، وتفتيت بناه المعرفية، وإشاعة وعي ديني قادر على فهم الحقيقة، كي يتوارى هذا اللون من الفهم ويحلّ محلّه خطاب متّزن يمهّد لاستنبات قيم التسامح والعفو والرحمة".

- التسامح: تأصيل الأسس

للتسامح أسس، وإرساؤها يعدّ مدخلا لجعل المجتمعات محتضنة لقيم التسامح ونبذ اللاتسامح، وهذه الأسس:

1- حقوق المواطنة: إذا كان الشعب غير مُهيّئ نفسيا وفكريا وثقافيا للاعتراف بالآخر، لأي سبب كان، فإنّ قبول الآخر وقبول التعايش معه أمر تفرضه وحدة الوطن، من أجل استتباب الأوضاع واستقرار الأمن والسلام. من هنا تكون حقوق المواطنة أحد الأسس الكفيلة بإرساء دعائم التسامح داخل المجتمع ولو بشكل مرحلي، وهي "قضيّة تمليها وحدة الوطن والحرية الشخصية والاعتراف المتبادل بين أبناء الشعب جميعا، رغم تنوّع خصوصياتهم؛ أي أنّ جميع الأفراد، وفقا لحقوق المواطنة، متساوون بالحقوق والواجبات على أساس التساوي في انتمائهم للوطن الواحد. مما يعني أنّ مقتضى حقوق المواطنة هو تقديم ولاء الوطن على غيره من الولاءات".

2- الحقوق الإسلامية لغير المسلمين: أي لا بدّ أن يرتكز المجتمع على قاعدة احترام الخصوصيات التي تنطلق من عناصر الالتزامات الدينية؛ بحيث لا يعتدي فريق على آخر، ولا يضطهده في خصوصياته. وفي ضوء ذلك "تتحدّد حرية المعتقد والتعبير في الضوابط القانونية الخاضعة للسلامة العامة للنظام والإنسان، على هذا الأساس ينفتح العيش المشترك في المساواة في الحقوق والواجبات في القانون العام. وفي الخصوصيات الشخصية، وفي مسألة الحريات في نطاق المسؤولية عن الفرد والمجتمع". ويبقى المطلوب حسب الكاتب هو الارتكاز إلى التسامح بالمعنى الاصطلاحي للكلمة لفاعليته وتجذّره وقدرته على ترسيخ قيم المجتمع المدني. أي المطلوب أساسا هو الاعتراف بالآخر وبحقوقه المشروعة، باعتبار تعدد الطرق إلى الحقيقة على صعيد التجربة الدينية.

3- سيادة القانون: مثلما أنّ حقوق المواطنة هي الأساس الأول لإرساء قيم التسامح في المجتمع، فإنّ القانون وسيادته هو الأساس الثاني لها. بل لا يمكن للتسامح الاستمرار في تأثيره الاجتماعي ما لم يكن هناك قانون يستند إليه ويدافع عن قيمه، سيما إذا لم يتمثل الشعب بُعد التسامح إلى درجة الاعتراف بالآخر اعترافا حقيقيا. لذلك فإنّ وجود القانون ضروري. وفي هذا الباب يقول المؤلِّف: "مهما كان المستوى الثقافي للمواطن جيّدا غير أنّ نوازعه النفسية وطموحاته السياسية وقراءته المتباينة للأديان والحقوق القومية والطائفية، جميعها تساعد على زعزعة الأوضاع، وتخلق فراغا كبيرا إذا ما تفاقمت الحالة وتعذّرت السيطرة عليها. غير أنّ القانون سيلعب دورا أكبر، إذا توافر على قوة ردع عالية، مرتكزة إلى حرص السلطات التنفيذية والقضائية على تطبيقه، إضافة إلى حجم الحماية التي يمدّه بها الشعب". إضافة إلى ذلك، نؤكد على أنّ مشكلة الأمّيّة تعدّ السبب الخطير لانتشار اللاتسامح.

4- إعادة تشكيل قيم التفاضل: إنّ الناس في نظر الإسلام: إمّا أخ لنا في الدين أو نظير لنا في الخلق ومن ثم لا تفاضل بين الناس إلاّ بالتّقوى وهو ما تؤكّده الآية القرآنية (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) سورة الحجرات13.

ويعلّق الكاتب على الآية أعلاه قائلا: "التقوى لا تعني كثرة العبادة، وإنّما خشية الإنسان من الله تعالى إبّان تعامله مع الناس، سلوكا وعاطفة؛ فربّما عابد لا يخشى الله في خلقه يمارس سلوكا لا أخلاقيا في تعاملاته اليومية، فيضرب ويقتل باسم الدين والقرآن والأخلاق، وهو بعيد عن كل ذلك. أو لا يتمتّع بالمشاعر والأحاسيس الإنسانية التي أكّد عليها القرآن الكريم، فيتحايل عليها ويظلم الآخرين ويبخسهم حقوقهم بل ويتعدى على حقوق الآخرين. فالإنسان التقيّ من يخشى الله، سيما في موضوع استباحة الدماء، خصوصا مع المخالفين دينيا أو مذهبيا، فإنّ حرمة الإنسان عند الله كبيرة، فكيف إذا كان أخ لك في الدين والعقيدة ولا يعدو خلافه معك إلا في أشياء اجتهادية". إنّ الخطاب في الآية القرآنية تحدّث عن الناس ولم يقل المسلمين. ومن ثمة، فالآية العامة تتجاوز العبادة إلى المعاملة.

5- إطلاق الحريات العامة: الحريات العامة بدورها تلعب دورا كبيرا وفاعلا في ترسيخ قيم التسامح بين أبناء الوطن الواحد. وتعدّ حرية الرأي والعقيدة من وجهة نظر الكاتب إشكالية ملتبسة في الفكر الإسلامي، رغم وضوح القرآن الكريم في قوله تعالى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) سورة البقرة 256. فالطريقة المثلى حسب الكاتب ليست قتل المرتد وإنّما الانفتاح عليه بأساليب أخرى لتفهّم إشكالاته وشبهاته.

بناء على ما سلف، نؤكّد مع المؤلِّف على قيمة التسامح في شتّى تجلياته، ليتحقّق معه وبه مجتمع إنساني يؤمن بقيم الرحمة والاحترام والمحبّة دون بغض وحقد تجاه الآخر، سواء كان الآخر ابن الوطن أو الآخر المختلف دينيا أو مذهبيا، فعصرنا عصر العولمة يفرض علينا السير مع مستجداتها وتجديد التراث بخطاب يسير ولغة العصر.

فغياب التسامح، إذن، يجعل العالم يعود إلى عهوده الأولى، حيث يسود الصراع القبلي والعنف، وهي نقطة جوهرية في الكتاب، وإننا نرى اليوم في كثير من البلدان مثل هذه الأمور، كتلك الصراعات القبلية الراجعة إلى قضية اللغة. وينطبق نفس الأمر على مسألة الاستبداد السياسي الذي أهلك ودمّر دولا عديدة.

ومن القضايا التي توقف عندها المؤلِّف بإيجاز، قضية العنف الديني، وفي الحقيقة موضوع العنف الديني بحاجة ماسة إلى المزيد من الكتابات، فالخطاب الديني اليوم يستلزم تعميق النظر فيه، وإنتاج خطاب يراعي التطوّرات، وإلاّ سيستمر خطاب العنف واللاّتسامح سائدا، وهو ما ينعكس أثرُه على البشرية جمعاء.

 

د. حفيظ اسليماني

باحث في الفكر الإسلامي ومقارنة الأديان - المغرب

..............................

الدراسة نشرت أيضا في موقع مؤمنون بلا حدود

 

لا أعتقد أن الأستاذ ماجد الغرباوي باحث في الدين ولكنه مفكر إسلامي. وهناك فرق واسع بين الدروس والعظات الدينية وبين تحليل أساليب واتجاهات المعرفة. وهذا لا يعني أنه مفكر محايد. إنه موضوعي.  ويحاول أن يتحرى حقائق الذهن البشري  وطرق الاستجابة للواقع. لكنه يعمل من داخل شبكة علاقات إسلامية.

فهو ليس باحثا في المعرفة وفي أصول التشريعات التي تتحكم بسلوك الإنسان، وبالمسموح له أو بنطاق الحريات الوجودية المتاحة كما هو الحال عند محمد عابد الجابري. ولا هو أيضا باحث لا ديني يتابع مشكلة المعرفة بالانطلاق من وظائفها أو أساليب عملها كما هو شأن طيب تيزيني. وإنما يحمل هم العقيدة نفسها.

ومن المعروف أن قراءة الإسلام تنطوي على تيارين. بالإضافة للمبشرين بالشريعة (بمعنى قوانين تفسير وعينا بمفهوم وهوية الإيمان)، هناك محور تكويني  يتابع ظواهر المعرفة بالمقدس من خلال الوعي بها. وديالكتيكي يطبق نتائج الوعي بالتاريخ على  تطوير أساليب وقوانين المعرفة.

لقد بذل الأستاذ الغرباوي ما بوسعه لينظر إلى الفكرة الإسلامية من داخل همومها. فالتحديات تتكاثر وتتوسع يوما بإثر يوم. ولا سيما بعد اتساع رقعة الاحتكاك مع بقية أرجاء العالم، وما يمثله ذلك من تحديات في تحديد مجال أشياء تبدو متشابهة، لكن لكل منها مساره الخاص كالضمير والوعي والروح والإحساس والعاطفة إلخ...

وهذا يعني أنه اهتم بالسياق والظواهر.

وليكون لكلامنا معنى لا بد من أمثلة.

لقد درس حروب الردة بالانطلاق من الأسئلة والمنغصات التالية:

ما هي الدواعي؟.

ومن أشعل الفتيل؟.

وكيف كانت طبيعة العلاقة بين الأطراف المتنازعة؟.

ووضع هذه المشكلة ضمن إطارين. داخل دورات التاريخ. وفي سياق أساليب التعبير. وهذا يعني أنه أولى عنايته للمدونة وللنص. بتعبير آخر لقد نظر للمشكلة كأزمة طرأت على علاقة الحاكم بالمجتمع، أو المركز بالأطراف. وخلص إلى نتيجة مفادها أنها فتنة عسكرية. والغاية منها أن يفرض الخليفة  أبو بكر سطوته على كل أجزاء شبه الجزيرة العربية. فالحرب كانت حربا للسلطة ضد الشعب، ولإسكات أصوات المعارضة، ولإخضاع الجميع لتوجهات القيادة الجديدة. واستطاع بهذه الطريقة أن يرسي الأساس لحدود أو معرّفات تفرز الإلحاد والكفر من الخلافات السياسية. واختار لهذه الحدود عنوانا عريضا هو (فعلية النص).

مادام ظرف النزول قائما فهو واجب، وبزواله يجب تعطيله، أو اعتباره في عداد المنسوخ بوجوب تبدل الأسباب. وأصلا إن فكرة إبطال الأحكام والأوامر الإلهية التي جاء بها الوحي كانت تهدف إلى الارتفاع بالواقع إلى واقع أفضل منه. وهذا يختلف عن الإلغاء والإزالة وله معنى التكيف والتطوير كما قال أحمد عبدالرازق في كتابه (فلسفة المشروع الحضاري بين الإحياء الإسلامي والتحديث الغربي – ج2). فالنبوة وسيلة وليست غاية، والوحي أسلوب أو طريق كما يقول عبد الرازق أيضا (ص 943)*.

وقد ناقش الغرباوي باقة من الأحكام التي تندرج في هذا المضمار. بالإضافة لحروب الردة (التي أنكرها في وقت مبكر الشيخ علي عبدالرازق) توقف عند الجزية والفتوحات الإسلامية. ثم  أعاد التأمل في حدين من حدود المذهب الشيعي وهما فريضة الخمس، والإمام الغائب. بالإضافة لدور الشفاعة وكيف انتشرت بين البسطاء حتى أنها سيطرت على أفكارهم، ولعبت دور قيد أو غل بشري يحل محل العناية الإلهية. وبالتالي عطلت الثواب الذي يمكن أن يناله المؤمن من التفكير والاجتهاد. وكأن هؤلاء الوسطاء نسوا أن الإسلام هو دين معرفة وثقافة أولا.  وأن العقيدة في عصر العلم وفلسفة التنوير لا تبنى بالتأويلات ومراكمة الخرافات والاستجارة بالتراث كما ورد بالحرف الواحد في كتابه الإشكالي (مدارات عقائدية ساخنة) (ص 88)** والذي اتصف بقدر لا يستهان به من الشغب والممانعة.

وأعتقد أن هذا الكتاب، الذي أصدره بالاشتراك مع طارق الكناني، مخصص بمعظمه لتفنيد الأساطير والخرافات التي دخلت على المذهب الشيعي، وتسببت له باختناقات اجتماعية. وكانت حجته الأساسية أن الإسلام جاء لينظم علاقة الإنسان بالله أولا (معرفة) ثم علاقة الفرد بالمجتمع (سياسة). والدين لم يأت ويبذل كل تلك التضحيات ليضع الإنسان المسلم في زاوية تمنعه من التفاهم مع واقعه ومع العالم الذي يحيط به.

ويلاحظ على الغرباوي أن أمثلته بمعظمها تهتم بنفي الحدود الوضعية. وبرأيه إن معظم الممارسات في الوقت الحالي لا تكلف نفسها نفض غبار السنوات، من جهة، ولا تحاول التعالي على سياسة التبرير لخدمة مآرب الحكام. ويؤكد أن مبدأ ولاية الفقيه هو مبدأ إيديولوجي وضعي (بمعنى إجرائي)، ونجم عنه انحدار مستوى فهمنا للشورى، وعدم إمكانية تحويلها إلى ديمقراطية متطورة حسب سلم القيم والمعايير الغربية.

 وذهب لأبعد من ذلك ورفض أن يكون لأي إمام ولاية تكوينية (حسب المفهوم الذي استشرى في السنوات الأخيرة)، وذلك لأنها تعني التصرف بالكون. وهذه المهمة ربانية صرف، وإلا دخلنا في الشرك (ص 300)، فالله ليس كمثله شيء، وهو متفرد بالوجود، ولا يقبل أية شراكة أو نيابة (ص 300).

وبرأيي إن ما تعرضت له حركات التنوير والإصلاح، وبلغة أوضح: المذاهب والفرق الباطنية، من دس وتحوير وتحريف وإضافات، يحتاج لعمل شاق في سبيل التنقية وتقريب وجهات النظر. فقد تحولت هذه الاتجاهات إلى حضارة جريحة، ولا سيما بسبب الاستبعاد المقصود من المشاركة في بناء كيان الدولة. وتهمة التكفير والإشراك التي تعرضوا لها في عدة عهود، منذ تأسيس الدولة الأموية وليومنا الحالي، هي المسؤولة عن رابع أزمة عسكرية تعصف حاليا بالخليج (وهي حرب اليمن). ولدي شبهات أن الإبادة الجماعية التي طاردت حركات الإصلاح (كالشيعة والمتصوفة والأدباء المستنيرين)، في غضون حرب المائة عام، لا تختلف بشيء عن المحرقة النازية. ويمكنني أن أرى في عقوبة الصلب والحرق التي اتبعها الأمويون والعباسيون لتصفية خصومهم محرقة يندى لها الجبين.  وقد وصل التشويه ذروته في عصر التنوير والنهضة، واتهم كل صاحب رأي جريء أو مستنير بتهم كاريكاتورية تدعو للهزء.

وبهذا الخصوص تساوى المتنبي والحلاج والنفس الزكية وزرادشت.  وأقرب مثال على ذلك كتاب (العقائد) لعمر عنايت (صدر عن دارالعصور عام 1928). وكتاب (الدعاة) لوجيه فارس الكيلاني (صدر عن دار المطبعة العربية عام 1923). فقد اعتبر الكيلاني أن زرادشت (ص 38) ومسيلمة (ص 50) والحسين (ص 92) وجان دارك (ص 95) كانوا على قدم المساواة، ومن بين الشخصيات التاريخية الشاذة أو المارقة.

وطاردت تهمة مماثلة الإمام الأفغاني، وأدانته بالانحراف عن أصول الدين. ولا تزال كل الأدبيات الإسلامية الكلاسيكية تطعن بتفسيره للقرآن وتشوه أهدافه السياسية، وترى أنه لا يجد فرقا بين مفهوم الوحدة ومفهوم الأمة، أو بين الجامعة الشرقية والجامعة الإسلامية، كما ورد في (الدرر السنية) بتحريرعلوي بن عبدالقادر السقاف.

وبناء على ذلك أصبحت أمام الغرباوي مهمة مزدوجة.

وهي الكشف عن المبالغات الدينية التي يرعاها الوعي الباطن، وإعادتها إلى مكانها في سياق تطور التاريخ والأحداث. وهكذا تطور أسلوبه من مجرد الوصف والتحليل إلى التفكيك وإعادة التركيب. ويتضح ذلك في كتابه (مدارات عقائدية). فقد واتته الجرأة ليقول عن كثير من العتبات الدينية  أنها رواسب من التخلف والجهل وسوء التربية . ثم ليردف إنها منحنيات أسطورية تثقل على وعي الإنسان المسلم وتخنقه وتكبت حرية السلوك والتصرف الإيماني النابع لديه من الفطرة والبديهة.

 

د. صالح الرزوق

................

*المعهد العالمي للفكر الإسلامي. د. محمد أحمد جاد عبدالرازق. فرجينيا. الولايات المتحدة الأمريكية. 1981.

** مدارات عقائدية.. حوار في منحنيات الأسطرة واللامعقول الديني، ماجد الغرباوي وطارق الكناني، دار امل الجديدة، دمشق. 2017.

 

 

 

النص وآليات القراءة والنقد: مثّل النص الديني اطارا مرجعيا عاما للفكر العربي الاسلامي، فكان له من حيث هو نص، دور محوري في توجيه التطور اللاحق لذاك الفكر. وشكل (القرآن والسنّة) سلطة فكرية حكمت منذ البداية مجمل عملية الإنتاج المعرفي الإسلامي في العصرين الأول والوسيط، وحددت أبعاده المعرفية والمنهجية وهيمنت على توجهاته المتعددة.

لم ينطلق القرآن من فراغ سوسيوثقافي وتاريخي، بل يبني على ما سبق تصحيحاً وإغناءً وتطويراً: «وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقرآن أَنْ يُفْتَرَىٰ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» [يونس:37]. وإذا كان القرآن يقطع مع ما سبق، فهي قطيعة نسبية، بمعنى النقلة النوعية من إطار معرفي إلى آخر، ليتحول بذلك الى تراث هويتة ثابتة لا يمكن زعزعته او المساس به بعد اكتسابه صبغة القداسة.

الواقع ان جل التيارات الدينية لا تكاد تميز بين التراث الديني والدين، رغم أن النص الديني نفسه بشقيه –القرآن والسنة- يحتاج هو الاخر الى قراءة موضوعية علمية، تخلخل الاساطير التي تشكلت حوله، وتزحزح كل قراءة او تأويل تصدى لتقديم فهم عن الدين. وهذا ما قام به بعض المفكرين حينما درسوا تاريخية النص ودعوا إلى إعادة قراءة وتأويل النص الديني بمنهج اسلامي جديد، كالمفكرين نصر حامد ابو زيد وماجد الغرباوي، مثالا، حيث عملوا على تأسيس رؤى ومنظورات من شأنها ان تشكل منهجا جديدا يتجاوز الفهم التقليدي .

سعى الباحث العراقي ماجد الغرباوي1، عبر مشروعه الفكري النقدي إلى تقديم فهمٍ مغاير ومختلف للدين ومفاهيم الفكر الإسلامي، من خلال تأويل نصوصه ونقد سلبياته، والتمييز بين ماهو إلهي وما هو بشري، باعتباره خطابا كغيره من الخطابات التاريخية، قد يطرأ عليه ما يطرأ عليها. فأنجز من خلال هذا المشروع قراءة نظرية ومنهجية نقدية لأصول هذا الخطاب لتعريته بعد إخضاعه للمراجعة والنقد، والكشف عن أبعاده التاريخية والايديولوجية النسبية والتي غالبا ما يتغاضى عنها الكثيرون.

قبل شروعه في ممارسته النقدية عمل الغرباوي على كشف أليات إشتغال النص والخطاب، بعد أن حدد أبرز منطلقاته الايديولوجية. فالمشروع النقدي لماجد الغرباوي مشروع نهضوي، يروم التطور الحضاري، عبر فهم متجدد للدين ونصوصه المقدسة، بمنهج نقدي – عقلي بعيدا عن الخرافة واللامعقول الديني. فهو لا يعتقد أن قداسة النص تفرض عليه التعاطي بذات مناهج الفقهاء والأصوليين أو أي اتجاه آخر. بل يرى الباحث أن متطلبات البحث تفرض عليه تجديد أدواته ومناهجه النقدية، في ضوء رؤى عقلانية فاعلة ومعاصرة تسمح بفهم جديد للنص الديني ودلالته.

من المناسب ونحن نتطرق لمشروع نقدي طموح ان نتساءل ماذا يُقصد بالدين، وكيف تفهم الناس الدين؟ هل هو مجرد مجموعة طقوس وشعائر تمارس يوميا، أم أنه يتعدى ذلك لينغرس في صلب الممارسة التاريخية والاجتماعية والايديولوجية والسياسية والتي تسعى كل طائفة وكل فئة أن تبرر بها مصالحها الخاصة؟ لا شك أن فهم الناس يقتصر على الفهم الطقوسي، الأشمل من العبادات والممارسات اليومية، غير أن الباحث الغرباوي يبغي بلورة فهم جديد للدين، من خلال منهج نقدي، يبتعد به عن التوظيف السياسي والأيديولوجي والطائفي. منهج يعيد للدين حيويته وفاعليته، كسمة إنسانية، تساهم في توحيد الناس وتزرع فيهم روح المحبة والوئام والتسامح، ويساهم في استقرار النفس الانسانية المتعبة. يذكر ان ماجد الغرباوي اشتغل كثيرا على موضوع التسامح والعنف. لذا يقدم فهما للدين بعيدا عن التراث وسلطته. فمشروعه النقدي يتجاوز القراءة الظاهرية للدين ويغور في اعماق الدين للبحث عن تاريخية نصوصه، ودراسة تاريخ الاحكام الشرعية وفلسفة تشريعها، فطالما يردد أن (فعلية الحكم الشرعي تتوقف على فعلية موضوعه الذي تتوقف على فعلية جميع قيوده وشروطه)2، لذا كتب دراسة بعنوان: "دعوة صريحة لانقاذ الدين من سطوة الفقهاء"3، اوضح فيها بصراحة كبيرة، وهو المعروف بجرأته الصادمة في كتاباته وأفكاره، عن عدم فعلية كثير من الاحكام والتشريعات، كأيات القتال والجهاد، وما يخص اهل الذمة، والمراة وحقوقها، وكثير من القضايا الاخرى. فالنص المقدس عنده مفتوح على جميع القراءات، ويمكن للباحث الوقوف على طريقة اشتغاله. كما بذل جهدا كبيرا للفصل بين الدين والفهم الديني، ورفض فكرة التقديس لدى جميع المذاهب الاسلامية، بل يرى فيها عبء فكري وعقيدي انهك الدين. كما يعتقد أن الاسلام الديني قد انتهى بعد وفاة الرسول مباشرة ليحل محله الاسلام السياسي، في اشارة الى لحظة انقلاب الوعي الديني، واعادة تشكيله، فما توراثه المسلمون ليس هو اسلام الكتاب بل اسلام المذاهب والفرق. يقول في حوار معه: (ما إن تنتهي مرحلة نزول الوحي بوفاة النبي، تبدأ مرحلة تأويل النص المقدس، وتزوير الوعي الديني، بدوافع شتى، أخطرها السياسة حينما تفرض نفسها على التأويل، فيغدو نصا جديدا، وتفسيرا رسميا يصادر النص الأول، ويعيد تشكيل الوعي. وتارة تدفع ضروراتها باتجاه وضع الأحاديث، ونسبتها للرسول الكريم. وثمة نصوص لا يمكن الجزم بصحة صدورها لعبت دورا خطيرا في عالم السياسة، سواء في عهد الخلفاء، أو في عصر الدولة الأموية. وكما أن ثنائية السلطة والمعارضة كانت وراء التمادي في تأويل الآيات وتزوير الوعي ووضع الروايات، فأيضا كانت السياسة سببا أساسا في نشوء المذاهب والفِرق، وتأسيس مرجعيات فكرية وعقيدية جديدة. فعندما دشن الخلفاء بنزاعهم على السلطة مرحلة الإسلام السياسي، وتسيس الدين. أبقوا على قدسية النص، لشرعنة التأويل، فهو طاقة، يستمد قوته من مرونة النص المقدس وثرائه ورمزيته، ويبقى القارئ ومهارته في توظيفه)4.

اما المفكر نصر حامد ابو زيد انطلق من خلال اطروحاته بتسليط الضوء على اشكالية المزج التلفيقي بين التراث والدين وبعبارة اخرى الكشف عن اللحظة التاريخية؛ التي وقع فيها الخلط بين ما ينتمي الى الدين الرسمي، وبين ما يدخل في مجال التراث بشكل عام، وهي اللحظة التى تتحدد في الخلط بين السنة النبوية والدين ومنه يطرح لمعضلة النص فهما اخر، ففتح بذلك المجال امام حوار مفتوح على الدوام بالانفتاح على جميع مصادر المعرفة، حتى مع تلك الوافدة الينا من الغرب، والتي باستمرار تضعنا امام موقف الصدمة، ثم الانفتاح على رهانات النص العرفاني فالامر عنده لا يتوقف فقط عند حدود النص القرآني فحسب ..بل حتى اشكالية كيف نقرأ العرفان الاسلامي؟ فالتجربة العرفانية تعتبر عنده محتوى انطولوجي ومعطى فينومينولوجي، وتأسيس تاريخي ينتج خطابات لها دلالاتها ونظام ظهورها وبالتالي الجمع بين الفكر والذكر، وبين التفكير والتدبير.

فالدعوة للبحث عن مفوم النص ليس في الحقيقة الا بحثا عن ماهية القرآن .. والدعوة الى فهم واقعنا في علاقته بالنص القرآني على وجه الخصوص. فيضعنا هذا البحث امام اشكالات جوهرية يبرزها فعل القراءة والتأويل .

ولا يفوت الغرباوي الحديث عن لحظة تداخل البشري بالالهي عبر روايات لا يمكن الجزم بصحتها كما يعبر مرات عدة، لكنها تركت بصمتها واعادت فهم الدين. فالحدث التاريخي الاول ونزاع الصحابة على السلطة بالنسبة له نقطة تحول كبرى، وسّعت من دائرة المقدس، وخلقت مرجعيات شرعية جديدة، اليها يعود فهم الدين بصيغته السياسية، فيصف تلك المرحلة: (عندما نجرد تاريخ الحقبة الأولى من قدسيتها، سنكتشف جذور العنف، أسبابه وشرعيته. فالصحابة أول من أسس له، وفق مصالح سياسية، تلبّست بأهداف دينية. وأول من وظّف الدين لصالح السياسة. وأول من أقصى المعارضة، وأول من خاض حروبا داخلية على السلطة)5.

إن تقديس الصحابة حد العصمة، ترك تداعيات خطيرة، جعلت منهم مرجعية فكرية وعقيدية وسلوكية، بل جعلت منهم سلطة، تحدد سلوك المسلمين. خاصة الحديث الذي يقول: "خير القرون قرني"، أو "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". الذي قتل روح النهضة، والمبادرة الحضارية. وقتل روح التنافس حينما اعتبر جيل الصحابة مثله الأعلى، والغاية القصوى التي يطمح لها الإنسان، ثم تأخذ الأجيال بالهبوط حضاريا. فانقلبت مهمة الفرد بسبب هذا الحديث من التطور حضاريا إلى تدارك الانحطاط الديني قياسا بجيل الصحابة. وهذا هو الوعي الارتدادي، العاجز عن مواجهة الواقع، والتأثير فيه. مشكلة الحضارة مشكلة فكرية – ثقافية قبل كل شيء، وما لم نَعد النظر بمرجعياتنا ووعينا، فلا نغادر بقعة التخلف، ونبقى نتفاخر بماضٍ جميل، لا يمكن استدعاؤه، أو تقليده، ونعيش حاضرا بائساً محطّماً6.

 من هنا نطرح الاشكالات التالية:

- هل يمكن التأسيس لقراءة نقدية جديدة للنص الديني باعتباره سلطة مقدسة؟ وكيف نؤسس لفعل داخل سلطة النص الديني؟

- الى اي مدى يمكن تعرية هذا النص والحفر فيه لتخليصه من كل الرواسب الايديولوجية والميثيولوجية؟.

الخطاب الديني المعاصر.. مفهوم النص "التأويل والنقد"

ان المراحل الاولى التي ارست سلطة التراث الشمولية، وشكلت الوعي الديني، هي المساحة المشتركة التي دشن كل من المفكر المصري نصر حامد ابو زيد، والمفكر العراقي ماجد الغرباوي مشروعه النقدي للمقدس وسلطته ونصوصه. داخل النص المقدس وفي صلب الفكر الديني.  

لا ينكر أحدنا عودة الدين من جديد ليشكل وبصورة مكثفة محورا للسجالات الفكرية داخل مجتمعاتنا المعاصرة، فالإسلام كدين وتراث فكري يسترد اليوم حيويته المطابقة لتسارع التاريخ في كل المجتمعات الإسلامية، فبات يلعب دورا من الطراز الأول في عملية انتاج الإيديولوجيات الرسمية، وراح يستلب وعي الناس لولا جهودا متميزة داخل منظومة العقل الإسلامي أمثال ما قدمه: محمد أركون ونصر حامد ابوزيد وحسن حنفي وطه عبد الرحمن وعلي حرب وماجد الغرباوي... حيث استطاعوا أن يحركوا من جديد إشكاليات النص الديني الكلاسيكية برؤية أكـثـر حداثية، وتوظيفهم آليات فعالة في إنتاج المعرفة حول النص وكشف اساليبه، وتعريته من سياجات الدوغمائية7

واذا ما انطلقنا في توصيف النص عند نصر حامد ابوزيد نجد ان هذا النص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي8 ..تشكل في الواقع والثقافة منذ 20 سنة. ”ومن الطبيعي أن يكون المدخل لدرس النص القرآني مدخل الواقع والثقافة... الواقع الذي ينتظم حركة البشر المخاطبين بالنص، وينتظم المستقبل الأول للنص وهو الرسول، والثقافة التي تتجسد في اللغة، بهذا المعنى يكون البدء في دراسة النص بالثقافة والواقع بمثابة بدء بالحقائق الإمبريقية9

وبحسب ماجد الغرباوي فانه يرى في النص بنية، تستمد وجودها من نسق دواله واسلوب ترابطه، وطبيعة مرجعياته الفكرية والثقافية، وبالتالي هذا النص له بعد باطني خفي، وسلطة تتوقف فعليتها على تحديد منبعه او مصدره ومؤلفه. ولكي يكتسب النص صفة القداسة يجب ان يصطبغ بصبغة متعالية عن كل ماهو ثقافي وتاريخي10. لكنه بنفس الوقت يحذر من رهاب القداسة في نقد النصوص، وهذه نقطة مهمة تعرض لها الباحث الغرباوي فالروايات الموضوعة قد تخدع الباحث باسم القداسة، خاصة الباحث الديني الذي يعتقد بقداسة النص، فهذا الاعتقاد ينعكس سلبا كما يرى ماجد الغرباوي: (تارة رهاب القداسة يحول دون التعرف على تاريخ النص وفلسفته وشروط فعليته، مخافة المساس بقدسيته، فيؤثر الباحث التمادي بالتبرير على خدش حصانة النص، رغم أن النصوص جاءت لمعالجة الواقع، وفعليتها ترتبط بفعلية ظروفه، وليست أحكاما مطلقة تتعالى على شروطها التاريخية وفلسفة تشريعها)11. وذلك لإن حصانة النص، كما يعتقد الباحث الغرباوي، تجعل منه فضاء معرفيا مغلقا، يحد من خيارات قراءته وتأويله. ومهما تمادى الباحث في نقده، لا يجافي منطق النص ودلالالته ولوازمه، فيعود لتلك الثوابت والمحددات، يتحرك في مداراتها، في تماهٍ مستمر مع النص، وفي دوامة المراجعة والنقد لقبلياته حينما تصدم مسلماته بمنطق النص أو تأويلاته. ولعل في النصوص الغرائبية مثالا واضحا للفرق بين القراءتين، حيث يتخلى العقل أمام انبهار الباحث الديني، أو لا أقل يلوذ بالصمت، ويبالغ في قداسة النص وقائله، هروبا من جحيم أسئلة العقل واستفهاماته. بينما يرفض الباحث المتحرر تلك الغرائبية حينما تناقض العقل والمنطق ويتعذر التأكد من صدقيتها تجريبيا. فالعقل لا يتخلى عن دوره، ولا يتوانى عن طرح الأسئلة والاستفهامات. فهو لا يتعقل وجود إنسان خارج الطبيعة البشرية مهما كانت قدسيته، أويكون  قادرا على اختراق القوانين الكونية12.

نفهم من كلامه المتقدم: أن قداسة النص سلطة موجهة لوعي الناس، ومرجعية معرفية نهائية. فالنص المقدّس هو الموجّه لحركة الفكر الإسلامي ومدياته عبر التاريخ. كما تبيّن أن النص المقدس لا يتحرك فقط بقيمته المرجعية، ولا بقداسته فقط، وإنما يتحرك ضمن منظومة معرفية، وجهاز مفاهيمي، تربطهما علاقة جدلية بالبيئة الثقافية والاجتماعية للمتلقي، الفرد والمجتمع. وكل واحدة من هذه المفردات هي سلطة بحد ذاتها، تعزز من قيمة المقدّس. فالفيلسوف واللاهوتي "المتدين" عندما يستغرق في تأمله النقدي، سرعان ما يعود لأحضان النص الديني تفاديا لأي فهم، يستفز يقينياته، وقد ينقلب على تفكيره حينما يتمرد، ويسعى لنقضه تماهيا مع عقيدته13.

الرواية ليست مجرد نص عادي، بل يعتقد ماجد الغرباوي انها: سلطة تحرك الفرد فور سماعه، وتفرض عليه موقفا وسلوكا يعزز قيمتها وسلطتها. وهي ليست مجرد نسيج لغوي بل يتلقاها المتلقي ضمن نظام معرفي متوارٍ، ومجموعة أنساق ثاوية في أعماقه، ودلالات تؤثر لا شعوريا، وبنية معرفية تتحرك في إطار مقولاتها. ويظهر هذا بوضوح على مشاعر المتلقي عندما تتحدث الرواية عن موضوع الآخرة أو عذاب القبر أو تحفز فيه روح النقد والندم وجلد الذات وطلب العفو والمغفرة والشعور بالذنب وتأنيب الضمير. أو التفاعل العاطفي مع المواقف التاريخية. كما أن تداعيات رفض النص أو التمرد على منطقه، لا تغيب عن ذهن المتلقي، فيندفع باتجاهه، من خلال حزمة مؤثرات، شعورية ولا شعورية. فعقوبة العاصي أخروياً يهتز لها جميع كيانه. فيكون تلقيه تلقيا مزدوجا. إيجابي باعتبار صدقية النص. وسلبي عندما يتمرّد عليه، ويرفض أوامره ونواهيه14.

والروايات خاصة الموضوعة كما اشار مرارا في كتبه وحواراته، ليس مجرد نص بل تتحول الى مرجعية فكرية وعقيدية، وهنا يتداخل المقدس بالبشري، ويأخذ الثاني صفحة الاول فيفرض هيمنته المرجعية، وهو ما يتوخاه الواضع من وضعه واختلاقه للرواية، وهذا هو الهدف الأساس وراء وضعها واختلاقها، لتكون أداة ماضية لاقناع الناس بمضمونها وقمع معارضيها. والنص المقدس هو الوحيد القادر على تحقيق هذين الهدفين معا، خاصة عندما يعتقد الناس بوجوب طاعته، امتثالا لله ولرسوله. وهذا هو سبب تقوّل بعض الرواة على الله ورسوله كذبا وزورا، خدمة لمصالح شخصية أو سياسية أو دينية. بل أن النصوص الموضوعة هي التي أدارت لعبة السياسة، وقلبت موازين القوى على طول تاريخ السلطة في الإسلام15.

لقد درس الباحث ماجد الغرباوي سلطة النص في الروايات وبحث قوة تاثيرها على المتلقي، ورصد كيف لعبت الروايات الموضوعة في تقديم فهم جديد للنص المقدس، بل وللدين كله، فالدين الان هو دين تراثي، وفهم بشري على قياسات الفترة الاولى، عصر الصحابة، ثم اخذت الروايات تزداد كلما ابتعدنا عن عصر النص كما يعبر الغرباوي. لذا يعبر عن قلقه بشان الروايات الموضوعة، فيقول: ورغم اكتشاف طيف واسع من الأحاديث الموضوعة، لكن بقي ما هو خطير منها عصيا على الكشف إلا وفق مناهج نقدية صارمة، قد تنفع نتائجها طبقة الواعين من الناس، لكنها لا تقنع الفقهاء، ومن يتعاملون مع النص بقدسية فائقة. سيما حينما تكون الرواية معتبرة صدورا، واضحة دلالة، وفقا لمناهجهم في نقد الحديث، بل حتى مع عدم وجود دليل على اعتبارها وصحة صدورها، يخشون رفضها، ويتعاملون معها برفق، كي لايتجرّأ، ويتخطى الخطوط الحمراء، أو يخترق مناطق محرمة، فتجد ديدنه الاحتياط في تعامله مع الروايات. لذا ما زالت سُنّة النبي توجه وعي الناس، رغم ما فيها من ضعف وتناقض مع آيات الكتاب الحكيم. ورغم تاريخيتها إلا ما ندر، وفقا لمسؤولياته كنبي ومبلغ وبشير ونذير16.

والخلاصة ان النص عند ماجد الغرباوي، ليس مجرد مفردات وجمل، بل هو نسق ثقافي، ونظام معرفي، وسلطة تستمد قوتها من أسلوب بنائه، وطريقة تركيب الكلام، وتشكيل دلالاته.  ففهم النص يتطلب عدة معرفية، تتنوع في أدواتها ومناهجها، تغور في أعماقه، لتكتشف طريقة اشتغاله وأدائه، والإطلاقات تعمق سلطته حتى لو كانت نصوص مكذوبة. فتارة لا يكفي التفكيك، بعيدا عن منهج التحليل، تبعا لقوة رمزيته وإيحائه. فالنصوص مخاتلة، مراوغة، تخفي أكثر مما تظهر، وتستدرج المتلقي بدلالاتها، لتخفي مدلولات لا تريد خضوعها لمنهج النقد، خاصة النصوص المقدسة التي اتصفت ببلاغتها، وقوة تعبيرها ورمزيتها. ففهم كل نص ينتج نصا جديدا، له معالمه، وأسلوب اشتغاله، في توظيف سلطته على المتلقي. ويتضح هذا جليا في فتاوى الفقهاء، واستنباطاتهم الفقهية. فالنص الجديد يتصل وينفصل عن النص الأول وفقا لخلفية القارئ / الفقيه مثلا، ومنهجه في فهم النص. وأكثر وضوحا في روايات تفسير القرآن، فإنها تحجب النص الأول وتحل محله، في سطوتها وسلطتها. سيما المنهج الأثري، الذي لا يجيز مقاربة النص القرآني مباشرة، بمعزل عن رواية تراثية تفتح مغالقه وأسراره (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ). والراسخون بالعلم هم النبي وأصحابه. فيجب اعتماد الرواية في فهم آياته. وهذا الاتجاه لا يدرك أن النص الثاني يحجب النص الأول، ويغلق منافذ العلم والتأويل بسبب تاريخيته، وقبليات قائله. وهكذا بالنسبة للنص الثالث الفقيه / المفسّر17.

التأسيس لفعل النقد عند ماجد الغرباوي

 في الحقيقة ليس الدين في حد ذاته ما كان يسعى إلى نقده الباحث ماجد الغرباوي بل فهم معين وطريقة محددة في التدين. أي ذاك المعنى الذي رسخته الممارسة التاريخية والايديولوجية عبر عصور التاريخ الحضاري للشعوب الاسلامية، ويرى أنه ثمة حقيقة تاريخية وهي: أن النصوص المنسوبة للرسول لم تتوقف بعد وفاته، واستمرت تلبي حاجة المرجعيات الفكرية والعقدية والسياسية، فاشتملت هذه الاخيرة على اخبار غرائبية عن الخلق والموت، والحياة وحياة القبر والاخرة...، وراحت تفرض محددات وشروط للنجاة يوم المعاد. وذلك من خلال ما تقدمه من تفسيرات وتأويلات للكتاب الكريم، أو لتستقل عنه بتفصيلاتها فتؤسس لعقائد ورؤى جديدة فتفرض رقابتها على الحقيقة18.

فنجد أن هذه المذاهب والفرق لم تعد مجرد اختلافات إجتهادية حول المسائل الفقهية بل أصبحت تمثل قراءة وفهما للدين له خصائصه ومعالمه وقدرته على التنافس لاحتكار الحقيقة وسبل النجاة في الاخرة، فنجدان هذه الفرق اعادت قراءة الدين وفقا لرؤيتها، فأقر ماجد الغرباوي في حواره النص وسلطة النفي أن من يتابع تطور الفكر العقائدي عبر القرون الأربعة، و يدرس ظروف نشاتها، يصاب بالذهول حينما يكشف خداعها وأوهمها وبشريتها، فالعودة لتاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية بموضوعية وتجرد تام، يرصد بنفسه بشريتها وتاريخيتها واوهامها وخداعها من حيث التأسيس والوجود والإستمرار19.

وبإعتبار أن العقيدة شأنها شأن أي كائن تبدأ صغيرة وبسيطة وربما ساذجة ثم تتطور، فبعضها يموت وبعضها الأخر يقاوم التحديات عندما تجدد هذه الأخيرة خطابها فيصبح بذلك الدين نسخة مذهبية طائفية لا محالة20.

و لقد فحص ماجد الغرباوي هذا الخطاب في شكله التقليدي والمعاصر فوجده منغمسا في تصورات كلامية ايديولجية بعيدة كل البعد عن معاني الدين نفسه، من حيث كونها تكرس الجمود والجهل والتخلف بإسم قدسية مزعومة، وذلك ما يستوجب إعمال العقل للتأويل والنقد من جديد، فالدين بحد ذاته لا يقبل التشظي ولا الإختزال أو الإحتكار، له حقيقة واحدة وحقيقته الكبرى هي "الله"21.

 وبالتالي الدعوة للعودة إلى الدين بعيدا تمذهب الخطاب وطائفيته، فالخطابات الطائفية تشكل خطرا حقيقيا على المبادئ والقيم الإنسانية ولأن هذه الأخيرة تكرس الجمود والجهل والتخلف والدوغمائية وبالتالي يصف هذا الخطاب بأنه خطاب إقصائي ماكر، مخادع ينبذ الأخر ويتوارى خلف شعار التسامح22.

فنجد أن هذا المشروع النهضوي يؤسس لفعل النقد في صلب الفكر العقائدي الديني والذي لا يهدف إلى القطائع مع الموروث بل نقد عقلاني منهجي وأسلوب تأويلي فاحص تجاه ممكنات الخطاب الديني، والوقوف عند منطلقاته الايديولجية لفضح طريقة تأويل رواد هذا الخطاب من جهة وكذا تزييف آليات إشتغالهم وإستدلالهم عليها من جهة اخرى23.

فجاء هذا المشروع بغية تسليط الضوء على الطبيعة المنهجية إلى جانب الأفق النقدي في صلب هذا الخطاب، فنستشف انه مارس نوعا من الحفر في بنيته، فوجد أن الحادثة التاريخية بينت بوضوح تحول الصراع من المجال السياسي إنطلاقا من فكرة من الأحق بالخلافة شرعا إلى المجال الديني.

فعملت هذه المذاهب على تحطيم الدين وبنيته وهي ترفع شعاراته بما يخدم متبنياتها العقدية، و اختزلته في رموزها فتكون بذلك فهما جديدا للدين يصعب نقده او تفكيكه فاصبح من المواضيع المسكوت عنها أو من المستحيل التفكير فيها24.

فنجد ان عصارة هذا المشروع النهضوي للمفكر ماجد الغرباوي يتلخص في الدعوة لانقاذ الدين من سطوة الفقهاء والفرق المذهبية من جهة والتأسيس لفعل النقد داخل الخطاب الديني من جهة اخرى، وهذا النقد لا يمكن ان نؤسس له الا بمراعاة ماهو قابل للنقد وماهو ممتنع عنه، فهناك نص يتعالى على التاريخ، سرمدي، له قدسيته فيحتكر الحقيقة ويفسر الواقع، ألا وهو النص القرآني، وهو نص ينغرس في التاريخ وقد سبغت عليه المذاهب قدسية خاصة وهي السنة، وبالتالي فالنقد لا يكون نقدا للدين في ذاته، بل يكون النقد حول فهمه وقراءته في هذا الخصوص.

معضلة تأويل النص.. نصر حامد ابو زيد

 ان معضلة النص ترى فهما آخر مع قراءات نصر حامد أبوزيد، والشيء الذي أدهشنا في قراءاته، جرأته أولا، وكثافة معارفه لما تحمله من منابع متعددة ومختلفة، فحمولته المعرفية الكثيفة جعلت من تأويله تأويلا حيويا وغنيا، يفتح المجال أمام حوار مفتوح على الدوام ويرى أبوزيد أن قدرنا اليوم هو الإنفتاح على جميع مصادر المعرفة حتى مع تلك الوافدة من الغرب والتي باستمرار تضعنا أمام موقف الصدمة، ومن الضروري استثمار هذه الصدمة، خلافا لما حدث مع مفكري عصر النهضة، الذين غفلوا عن كيفية التعامل مع الراهن، فراحوا يضعون ثـنائيات تصادمية، جعلت من الفكر أكثر رجعية على الرغم من شعارات التقدم والطليعة… بحيث أنتج هذا الفكر صراعا كنا في غنى عنه، صراع ما هو قديم مع الحديث، والأصيل مع المعاصر، والسلف مع الخلف… لم نتعامل جيدا ولم نفهم واقعنا الذي كان نتاج الصدمة، لم نحاول فهمها فهما موضوعيا علميا "أو حتى فنيا" : مثل هذا الصراع ثبط عزائم العقل الإسلامي ومبادراته من أن يباشر في وضع مساهماته ومشاركته في بناء العالمية، وأجد تشخيص أبوزيد لمحاولات قراءته للتراث جد هامة فموقعنا في العالم، بالنسبة إليه هو موقع في حالة حوار جدلي مع الغرب، فسواء اخترنا من التراث أم اخترنا من الغرب فإن اختيارنا قائم أصلا على الحوار الذي يدعم موقعنا وإدراكنا مثل هذه الجدلية تخلصنا من حالة الفوضى التي يعاني منها النص التنويري في قراءاته الفكرية المعرفية، فالمتمحص في حالتنا الثقافية لا ينكر مثل هذه الفوضى .

 إن معضلة قراءة النص القرآني أصبحت تثير حساسية مفرطة أكثر من أي وقت مضى لدى قراء الإيديولوجيات المنفعية التي أعتقد أن ما يهمها من وراء ذلك فهم جوانبه السطحية فقط أما القراءات المعاصرة للنص فصنعت الحدث التنويري حسب إعتقادنا، فجرأة ممارستها لآليات القراءة تعدت حدود النص لتغوص في أغواره وحاولت كشف طبقاته المتوارية لمدة طويلة من الزمن25.

يقف نصر حامد أبوزيد وهو ليس بعيدا عن محاولات أركون في ممارساته التأويلية، يقف موقفا أكثر إجرائية، يبادر بمساعدته التراث ليس في شروحاته وتفاسيره، إنه لا يقف عند مرحلة التدوين بما حملته من بداية للإبداع والخلق، ولا يحاول نَعْيَ مرحلة الإتباع والتقليد لواقع العقل الإسلامي، بل يسعى إلى تشخيص كليهما إنطلاقا من التجربة المعاشة، إنه يقرأ النص القرآني مباشرة يطرح معضلة النص بالشكل التالي : كيف يمكن الوصول إلى المعنى الموضوعي للنص القرآني؟ وهل في طاقة البشر بمحدوديتهم ونقصهم الوصول إلى القصد الإلهي في كماله وإطلاقه؟ إن مثل هذه الأطروحات لا يمكن لأي معرفة معالجتها سوى القراءة النقدية وبآليات تأويلية وحدها بإمكاننا معالجة المعضلة، باعتبارها تقف بصورة جدية عند عناصر البنية المشكل منها فعل القراءة التي تطرح صعوبات حول (المؤلف / النص / الناقد) أو (القصد/ النقد/ التفسير)، ونلمح عبر هذه المعضلة الهاجس المؤرق لمفكرنا، كيفية الإسهام في بلورة وتأسيس معرفة عقلية بالنص القرآني (المقدس) إذ الملاحظ كما يقول أبوزيد : "أن ما يجمعنا نحن المسلمون موجود في النص، وينبغي التسليم بذلك، لكن الوصول إليه وبلوغه لن يكون إلا من خلال القراءة التأويلية، باعتبار التأويل العملية الأمثل للتعبير عن عمليات ذهنية على درجة عالية من العمق في مواجهة النصوص والظواهر"26.

 مقارنة واستنتاج

 ان ما يميز مشاريع القراءات التراثية الحداثية للنص على مستوى المنهج والتي يندرج ضمنها مشروع نصر حامد ابو زيد وماجد الغرباوي:

هو أن هذه المشاريع تسعى إلى إحداث قطيعة معرفية كلية مع كل الجهود التراثية السابقة للنص القرآني خاصة ما تعلق بمناهج التفسير التي سادت في التراث الإسلام، وهي مناهج كانت تحتكم للضوابط وتستند للشروط وتخضع للأصول والمرجعيات الحاكمة للتفسير، وعدم استثمار المداخل المنهجية التي جسدتها مقدمات كتب المفسرين القدماء، بحيث عكست هذه المقدمات جهود المفسرين المتمثلة في خدمتهم وقراءتهم للنص القرءاني تحقيقا وتفسيرا وبيانا.. وهي جهود جاءت نتيجة جهد متواصل وعمل مستمر وكبير وعناء طويل واستقراء مستمر ودؤوب ومتابعة مكثفة في تعاملهم مع النص القرآني في جميع مستوياته ومكوناته . وهو تعامل كان من آثاره وحصيلته وتجلياته تأصيل القواعد ووضع الأصول ورسم الضوابط لتكون منطلقا في التفسير ومسلكا هاديا لكل قاصد أو راغب في تفسير القرءان الكريم . وإبعاد كل القراءات التي لا تستند أو لا تحتكم إلى شروط وضوابط التفسير، ولا ترجع إلى الأصول الضابطة للفهم السليم، ولا تسترشد بالجهود العلمية الكبيرة التي بذلها علماء السلف وضعوها على شكل قواعد وكليات لتكون مقدمات منهجية ومداخل أساسية في تفسير القرءان الكريم . وهذه القواعد والكليات في مجملها تدعو بإلحاح إلى المراهنة على المنقول واعتباره هو الأصل والسند في التفسير، والاهتداء إلى المعقول واعتباره معينا في التفسير وتابعا للأصل وهو المنقول وخادما له......

 

 مشقق ابتسام – ماستر(2) فلسفة

جامعة باتنة - الجزائر

............................

1- ماجد الغرباوي: كاتب وباحث عراقي، رئيس ومؤسس المثقف العربي، اشتغل على موضوعات نقد الفكر الديني، التسامح، العنف، الاصلاح والتجديد....يسعى من خلال مشروعه الى ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، شارك في العديد من الندوات والمؤتمرات العلمية والفكرية، حاز على عدد من الجوائز، له 25 عملا، كتب عن منجزه الفكري والثقافي العديد من النقاد والباحثين العرب والاجانب .

نصر حامد أبو زيد (10 يوليو 1943 - 5 يوليو 2010) أكاديمي مصري، وباحث متخصص في الدراسات الإسلامية ومتخصص في فقه اللغة العربية والعلوم الإنسانية.

2- ذكر ماجد الغرباوي هذه القاعدة الأصولية كثيرا في بحوثه ودراساته وكتبه. ووظفها بشكل علمي لاكتشاف تاريخية الاحكام الشرعية، وهذا بحد ذاته انجاز علمي كبير يحسب له. فكثير من الباحثين يريد الغاء النص المقدس وهذا غير ممكن لكن ماجد الغرباوي ابقى على النص المقدس واكتشف عدم فعليته عندما يتغير موضوعه بسبب الزمان والمكان وتغير الاحداث.

3- هذا عنوان دراسة تفصيلية يمكن الاطلاع عليها على الرابط ادناه:

http://www.almothaqaf.com/a/b9/885973

4- حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي، الحلقة (50). على الرابط ادناه

http://www.almothaqaf.com/c/c1d-2/923967

5- ماجد الغرباوي، الصحابة ولعبة السياسية، على الرابط ادناه:

http://www.almothaqaf.com/c/c1d-2/923083

6- المصدر نفسه.

7- عثماني امال، تأويل النص الديني القرآني. مجلة الفتوحات، العدد2/2015

8- نصر حامد ابو زيد، مفهوم النص.. دراسات علوم القرآن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء.المغرب، ط1، 2014.ص27.

9- نفس المصدر، ص28

10 - ماجد الغرباوي، النص وخطابات النفي، على الرابط أدناه:

http://www.almothaqaf.com/c/c1d-2/92387

11- ماجد الغرباوي، النص وحرية النقد، على الرابط ادناه:

http://www.almothaqaf.com/c/c1d-2/923539

12- المصدر نفسه.

13- المصدر نفسه.

14- المصدر نفسه.

15- المصدر نفسه.

16- المصدر نفسه.

17- المصدر نفسه.

18- ماجد الغرباوي، النص وخطابات النفي، مصدر سابق.

19- المصدر نفسه.

20- المصدر نفسه.

21- المصدر نفسه.

22- المصدر نفسه.

 23- المصدر نفسه

24 - المصدر نفسه.

25 - المصدر نفسه.

26- الحسين اخدوش، نقد الخطاب الديني المعاصر في ثوبه الاسلامي.. قراءة في تجربة حامد ابو زيد، يونيو 2016

 

 

حين أقدّم لكتاب من تأليف الدكتور صالح الرزوق يحمل عنوان "جدلية العنف والتسامح دراسة في المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي" فإني اعرف جيدا أني أجد نفسي بين دارس قدير وأديب في الوقت نفسه هو الدكتور رزوق وبين صاحب مشروع أومنظّر وأديب هو الأستاذ ماجد الغرباوي لذلك عليّ من باب الموضوعية أن أوجز قدر الأمكان بما يعنيه الإيجاز من معان جليلة في جمل قليلة تليق أن تصف كتابا من كتب الدارس الباحث د صالح الرزوق.

لقد اعتدنا أن نطالع في دراسات النقاد والباحثين من حيث اهتمامهم بالمنهج التفسيري على حساب المناهج الاخرى وفي ذلك عقدة وأيما عقدة دافعها التستر على عيب المؤلف وعجز الناقد أو الباحث. والذي لفت نظري في هذا الكتاب أن المؤلف لا يقف مفسرا فقط شأن بقية الدارسين بل يقارن ويستنتج ويستبطن. لقد شرح لنا في مواضع وفسر ثم قارن بين فكر الغرباوي ومَنْ قبله أمثال محمد عبده والكواكبي ورشيد رضا وقاسم امين ثم استنتج أن الثلاثة الأول كانوا تنويريين لأنهم لم يقدموا حلولا ناجعة في حين أن هناك تقاربا بين خط قاسم أمين ومنهج الغرباوي من هذا ندرك جيدا أن الغرباوي هو إصلاحي حيث أن الإصلاحي يدعو للتغيير من خلال معالجة القضية أما التنويري فهو لا يصطدم وقد لا يجد حلا للمشكلة[1]

والحقّ أن المشكلة التي تناولها السيد الغرباوي هي قضية معقدة وحساسة تتمثل في كون الدين هو محورها الاساس حيث أشار الباحث الرزوق إلى أن هناك ثلاثة محاور عمل عليها الغرباوي في ترسيخ منهجه وهي:

- تجديد الفكر الديني.

- تحرير المرأة.

- وإنكار العنف ورفضه.

والحق إن هناك اساسيات في الدين يتفق عليها الجميع بخاصة في الدين الإسلامي وهي التوحيد والنبوة والقرآن والصلاة والصيام والحج.. أي الاصول والفروع التي يؤدي إنكار أحدها هدم الدين نفسه وتلك محاولة لم تقم من اي من المهتمين في الحقل الديني سواء الذين سماهم د. الرزوق بالتنويريين أمثال الكواكبي والإفغاني. أو من دعاهم بالمجددين كالسيد ماجد الغرباوي.

واللافت للنظر أن عمل الغرباوي وجهوده تنصبّ على ما نتمسك به نحن من إرشادات دينية وتوجيهات جعلها تزمتنا من حيث ندري أو لاندري بمثابة الأصول وتلك المعاني تتعلق بمسألة الديمقراطية والدين[2] أولا وقبل كل شيء. مع العلم أن الدمقراطيين الغربيين والإصلاحيين العرب لم يمسوا ثوابت الدين ولا علاقة لهم بها.إن جهود هؤلاء توجهت إلى قضايا فرعية تمثل أغلبها في الاقتصاد والمعاملات و لنا مثال واضح حول هذين الحقلين بقضية الإرث وإرث المرأة والزواج والطلاق وحق التعليم، وتولي المناصب، وولاية الأمر على المرأة.

1 salih

ومن خلال اطلاعي على بعض مؤلفات الباحث الغرباوي وكتاب د. الرزوق هذا الذي بين يدي أدركت أن البحث في الدعوة إلى التجديد تستند بالدرجة الأولى إلى عنصر الزمن الذي التفت إليه قبل أكثر اربعة عشر قرنا الإمام علي ع حين قال كما يروى عنه "لا تعلموا أبناءكم  على عاداتكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم " ذلك العامل الذي يؤثر سلبا أو إيجابا في قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية. إن ثوابت الدين سواء الأصول أم الفروع لا يمكن أن تتأثر بحركة الزمن .لا أحد يدعو إلى التغيير في مفهوم التوحيد وجوهر الصلاة والصوم بل لا أحد يسأل لِمَ جاءت صلاة المغرب بثلاث ركعات أوالظهر بأربع  أو لم وجب أن تُقرَأ  سورة الحمد في كل صلاة كما لا نجدمن يطالب ان يتقلص رمضان إلى عشرة  ايام أو يصبح أربعين يوما هذه ثوابت يقرها الدارس د. صالح الرزوق والباحث الغرباوي، لكن هناك الكثير في الأوامر – من غير الثوابت- يمكن أن يطرأ عليها التغيير بخاصة المباحات بعض هذه المباحات تتعلق بقوانين محلية مثل مسألة تعدد الزوجات، الزواج من المباحات وتبدو القضية مباحة في الدين الإسلامي ومحددة بأربع[3]. إن قضية الزواج وملك اليمين وردت في باب المباحات التي يمكن أن تناقش حيث أن المجتمع أصبح أكثر تعقيدا في العصرالراهن. الزواج مسؤولية يحتاج إلى متابعة واهتمام ومراقبة بل إن القدرة المالية  لم تعد تكفي وحدها لذلك ظهر في العراق قانون الأحوال الشخصية عام 1959 الذي يبيح زواج الرجل بامرأة اخرى شرط موافقة الزوجة الأولى وفي هذا العام صدر قرار من البرلمان التونسي بمنع تعدد الزوجات.والحق إن تلك الإجراءات وفق وجهة نظري أو  نظر الإصلاحيين أمثال د. الرزوق والغرباوي هي لا تمس جوهر الإباحة الذي هو الزواج بل في تقنينه وتنظيمه وجعله بجزئياته مواكبا للعصر ومتكيفا مع حركة المجتمع.

ولكي نعزز رأينا نستطيع أن نضرب مثلا آخر ورد في القرآن هو ملك اليمين أو الرق. لم يحرم الإسلام الرق لكنه لم يشجع عليه، وهو من باب المباحات، لنفرض الآن أن هناك حربين – لا قدر الله _ وقعتا الأولى بين دولة باكستان السنية والهند والحرب الأخرى بين دولة إيران الشيعية والولايات المتحدة الأمريكية من حيث الدين يحق للباكستان أن تعد الجنود الهنود أرقاء تبيعهم أو تطلب فدية عنهم أو يكونون عبيدا عند الجنود الذين أسروهم وكذلك تفعل إيران زد على ذلك أنه في غير الحرب لو أن تاجرا من الجزيرة العربية ذهب إلى بلد فقير ووجد عائلة هناك تبيع ابنها فمن حقه أن يشتريه ليصبح عبدا له أو ان شخصا اشترى من تايلند عدة نساء وصحبهن إلى بلده ليكن أماء له خادمات يمارس معهن الجنس ذلك الأمر، في الحالات السابقة، لم يمنعه الدين  لكن الأمر أصبح من ا لمحظورات لأن هناك قرارا امميا يمنع الرق.

إذن هناك منع وامتناع في دائرة المباحات التي درسها لباحث الرزوق من خلال مؤلفات الغرباوي إذ جئت في مقالي الموجز هذا لأوضحها وأعقب عليها حيث نجد المنع يتجسد في الشكل التالي:

أولا إجراءات من قبل الدولة نفسها تحدد مباحات الدين الرسمي للدولة نفسها سواء منعا أو تقييدا إذ يبقى المباح كما أمر به الدين كالزواج مثلا والتقييدأو المنع يأتي في تفصيلاته[4]، والإرث الذي يحق فيه للأب أن يحرم أحدأبنائه منه لكنهلا يحق له أن يساوي بين ابنته فيه وابنه [5]

ثانيا إجراءات أممية تمنع المباح كما هو في الرق وملك اليمين الذي أباحته الديانات التوحيدية الثلاث وجاءت قرارات الأمم المتحدة لتمنعه، وقد وجدت شبيها لذلك في الفكرين الشيعي والسني، عند الشيعة العمل في " الباب الثاني"ويتجلى الأمر في مسألة قطع يد السارق إذ يرى الشيعة أن قطع اليد يأتي بعد خمسة وعشرين شرطا، وعند السنة أيضا وإن لم يعلنوا عن ذلك لكن الدول السنية – باستثناء السعودية فقط وداعش- لا تمارس قطع يد السارق عملا بالباب الثاني وتكتفي بسجنه فقط.

الواقع إن هناك أمورا حيوية وجادة طرحها الكاتب والمصلح السيد ماجد الغرباوي في مؤلفاته ثم جاء الباحث القدير الدكتور صالح الرزوق ليناقشها ويحللها ويمهد لها بدراسة تاريخية واجتماعية موثقة في كتابه القيم" جدلية العنف والتسامح دراسة في المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي" وهو كتاب جدير بالقراءة لا يمكننا أن نفيه حقه في مثل هذه العجالة بل أترك ذلك للباحثين والمختصين في هذا الحقل.

 

د. قصي الشيخ عسكر

...............

[1] في الأدب يذكِّرنا قول د. رزوق عن الفرق بين التنوير والإصلاح بمحاولة الزهاوي حين كتب قصيدة من البحر الطويل مختلفة حرف الروي فهو تنويري ظن المشكلة في العروض أما السياب فهو إصلاحي لانه غير في نظام العروض والتفعيلة.

[2] حاول المرحوم  د. مصطفى جمال الدين وهوعالم دين معمم وباحث وشاعر أن يدعو في ثمانينيات القرن الماضي إلى نظرية ذات ثلاثة اضلاع هي: العروبة والإسلام والديمقراطية، وهذا نجده في مقدمة ديوانه الضخم المطبوع حينذاك في دمشق، لكن الشاعر جمال الدين لم يدخل في تفصييلات وشروح عن تلك النظرية بل هي أقرب ما تكون إلى فكرة أو رأي مطروح.

[3] هذا للناس أما الأنبياء فيستثنون من القاعدة تلك فلهم خصوصية مثل داوود وإبراهيم ومحمد عليهم السلام. وأظن أن اليهود منعوا أنفسهم من حيث القانون وليس الدين  تعددالزوجات في القرن الثالث عشر تمشيا مع  قوانين الدول الأوروبية التي يعيشون بين مجتمعاتها  كما إن هناك طائفة صغيرة مسيحية في الولايات المتحدة تقر تعدد  الزوجات ويستثنيها القانون الأمريكي.

[4] مع ذلك نجد الكثير من المسلمين يتحايلون على قوانين الدول الأوروبية التي منحتهم الأقامة والعمل والتجنس تلك القوانين التي وقعوا عليها كأن يتزوجوا من مثنى وثلاث خفية دون أن يسجلوا ذلك خشية من العقاب وأغرب من ذلك أن بعض علماء المسلمين في مصر وغيرها من الدول السنية افتوا بإباحة  زواج المتعة للمسلم المقيم في دولة أوروبية منمسلمة وغير مسلمة!

[5] كنت قد ناقشت في الدنمارك مع شيخ دين متنور فقال إن الرجل ياخذ الضعف وعليه أن يبني بيتا وينفق على زوجته والبنت تاخذ نصف الحصة وعندماتتزوج يبني لها زوجها بيتا ويصرف عليها فهما متعادلان لكن هذا كان في الماضي الآن هناك فرص عمل للمرأة وقضية الضمان الاجتماعي وامور أخرى كثيرة !

 

يُعد ماجد الغراباوي أحد الكتاب العراقيين المهتمين بتجديد الفكر الديني. إنشغل بقراءة التراث منذ دراسته للعلوم الإسلامية وانتمائه الآيديولوجي والعقائدي في الدفاع عن التجديد بوصفه إتجاهاً دافع عن قيمة الإجتهاد بوصفه إنفتاحاً في الرؤية ويحمل بين طياته إيماناً بقدرة العقل الإنساني وفاعليته في مقابل النص لا سيما بعد توقف باب الاجتهاد في الفكر السني عند الفقهاء الأربع، الذي إعترض على توقفه جمال الدين الأفغاني في المذاهب الأربع بقولته الشهيرة:"من أوقف باب الإجتهاد، فنحن رجال وهم رجال"؟، يقصد بذلك الأفغاني الفقهاء الأربع "ابن حنبل وأبو حنيفة والشافعي والمالكي"، فهم رجال إجتهدوا، ولكل مجتهد نصيب، ونحن رجال يُمكن لنا أن نجتهد، ولنا نصيب في إجتهادنا، فنحن أيضاً بشر مثلهم منحنا الله عقولاً، لها مقدرة التفقه بعلوم اللغة والفقه والفلسفة، بما يسمح لنا بالإجتهاد، ومعرفة موجباته وشروطه مثلما فهمها الفقهاء الأربع في ضوء فهمهم لعلوم اللغة والفقه وأسباب النزول ومعرفة المُحكم والمتشابه من آي الذكر الحكيم. ولأن النص القرآني يُمكن أن يُصاب بأعراض كأي حقيقة من الحقائق - كما يقول مرتضى مطهري - وهو كالماء الذي ينبع من العين الصافية، بُيد أنه يتلوث بمجرد جريانه في الأنهار، بحيث يجب تطهيره وتعقيمه من الملوثات" . وتلك هي مهمة المجتهدين المجددين، مثلما هي مهمة الفلاسفة، لا سيما إبن رشد وهي تنقية فلسفة أرسطو مما علق بها من شوائب الشُراح.

لذلك كان دعوى الغرباوي مبنية على ضرورة تنمية الوعي وعدم تهيب الممنوع، "وإنما يتوغل في الشك حتى يفهم الواقع". متبنياً الدعوة لبتبني "الثقافة النقدية" وتجاوز الثقافة المنغلقة التي لا تُفضي إلّا لواقع سلبي يُغيّب الوعي ويُعتّم الرؤية.

تنمية الوعي النقدي عند الغرباوي يتم بطريقين:

1- تنمية وعي رسالي مُتجدد، يستطيع تحدي الممنوع، عبر إعادة تشكيل للوعي داخل فضاء معرفي، بمرجعيات تُجدد فهمها للنص الديني من خلال إدراكها للمستجدات الحياتية والواقع المُتغير بككل ديناميكيته وحيويته.

2- عدم التسليم بالفهم الساذج للخطاب الديني الذي يستغل عواطف الناس ويلعب على وتر الوجدان، لتغييب عقل الإنسان ووعيه.

يكمن تحقيق هذين الهدفين بقراءة التراث عند الغرباوي قراءة تاريخانية بعبارة عبد الله العروي وتجاوز "الفهم التراثي للتراث" بعبارة محمد عابد الجابري والقطيعة مع هذا الفهم للتراث، لا لرفضه، بل لإعادة الوصل به عبر فهم وظيفته اليديولوجية تاريخياً، كي نُعيد وصله بحاضرنا بما يُمكننا من توظيفه لتطوير مستقبلنا.

فالأمة تحتاج لخطاب ثقافي منفتح لا يتكور فيها الإنسان حول فهمه الترثي المؤطر بحمولة الماضي فقط بوصفه الخطاب الوحيد الناجع لحل مشكل "النهضة. لذلك ينبغي لنا الإنفتاح على كل الخطابات المغايرة، لأن خطاب الآخر المختلف، هو عين أخرى تُرينا عيوبنا التي ترفض أعيننا رؤياها، ومن عيوبنا توالد المقدس وتوليده المستمر في منظومتنا الدينية والاجتماعية الذي عطل هو الآخر كثير ممارساتنا الثقافية والنقدية التي يتوقف عليها تطورنا الحضاري والفكري وحتى الديني، ف "الذات عينها كآخر" بعبارة بول ريكور.

لذلك يحاول الغرباوي الخروج من التصنيف التقليدي للمفكرين العرب، المغتربين زمانياً والمنزوين في غرف "التراث" أو الماضي، أو المغتربين مكانياً، من "المتفرنجين" بعبارة علي الوردي المقلدين لثقافة الغرب، يسيرون معها تابعين، يحذون حذوها "حذو النعل بالنعل" بعبارة ابن سبعين في نقده لإبن رشد في إتباعه لأرسطو.

 

د. علي المرهج

أستاذ الفلسفة - جامعة المستنصرية / بغداد

.........................

يذكر ان لماجد الغرباوي 25 عملاً مطبوعاً، تأليفاً، وتحقيقاً، وحواراً، وترجمة، إضافة الى عدد كبير من الدراسات والبحوث والمقالات في مجلات وصحف ومواقع الكترونية مختلفة.

وقد صدر له:

- إشكاليات التجديد (3 طبعات)، 2000م،2001م و2017م.

- التسامح ومنابع اللاتسامح .. فرص التعايش بين الأديان والثقافات (طبعتان)، 2006م و2008م.

- تحديات العنف، 2009م.

- الضد النوعي للاستبداد .. استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني، 2010م.

- الشيخ محمد حسين النائيني .. منظّر الحركة الدستورية (طبعتان)، 1999م و2012م.

- الحركات الإسلامية.. قراءة نقدية في تجليات الوعي، 2015م.

- جدلية السياسة والوعي.. قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق، 2016م.

- الشيخ المفيد وعلوم الحديث، 1992م.

- ترجمة كتاب الدين والفكر في شراك الاستبداد، 2001م.

- تحقيق كتاب نهاية الدراية في علوم الحديث

كتب حوارات معه

- المرأة والقرآن .. حوار في إشكاليات التشريع / حاورته: د. ماجدة غضبان، 2015م.

- إخفاقات الوعي الديني.. حوار في تداعيات النكوص الحضاري / حاوره: سلام البهية السماوي، 2016م.

- رهانات السلطة في العراق .. حوار في أيديولوجيا التوظيف السياسي/ حاوره: طارق الكناني، 2017م.

- مدارات عقائدية ساخنة.. حوار في مُنحنيات الأسطرة واللامعقول الديني / حاوره: طارق الكناني، 2017م.

كتب صدرت عنه

- جدلية العنف والتسامح .. قراءة في المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي/ د. صالح الرزوق، 2016م.

 

 للاطلاع

http://www.almothaqaf.com/k/majedalgharbawi

 

ماجد الغرباوي مفكر عراقي، شأنه شأن أي مفكر، دائم البحث عن الحقيقة بدليل صحيح، لا يركن لقول واحد، ولا يتوقف عند رأي خاص مهما كان قائله.. يسعى لاكتشافها بمعزل عن الغيبيات خارج حدود القرآن الكريم. فالعقل وكتاب الله ركائز ومرجعيات اعتمدها الغرباوي في هذا الحوار الذي دارت أسئلته حول العقيدة الإسلامية عامة والعقيدة الشيعية خاصة، لأنها الأساس الموجه لسلوك الإنسان، وما معاناة المسلمين اليوم مع الفئات الدينية المنحرفة إلا بسبب عقائدهم وسوء فهمهم لغايات وأهداف الدين الحنيف فتسببوا في تشويه معالمه .

قد يعترض البعض أن كتب الحديث تشتمل على تفصيلات يحتاجها المسلم ولم يفصّلها الكتاب الكريم، فتكون الأحاديث وسنة الرسول مكملة للكتاب الكريم. وهذه وجهة نظر صحيحة إلى حد ما ولكنها ليست حاسمة، فوجود نص نبوي لم يَحُل دون وجود الاختلاف في مجال العقيدة. فكثرة التفسيرات القرآنية التي وردتنا عبر كتب التاريخ والحديث جاءت متناقضة، يغالط بعضها البعض وفيها الكثير من الغلو والغيبيات التي لا تطمئن لها النفس. من هنا نجد أن الحوار الذي اعتمدناه مع الأستاذ ماجد الغرباوي جاء وفقا لمعطيات قرآنية – عقلية لا تجافي الصحيح من الأحاديث والسنة الشريفة، بعيدا عن التعصب والغلو، خاصة بالنسبة لمعتقدات الطائفة الشيعية حول أئمة أهل البيت ودورهم الرسالي. لهذا نجده يدعو في هذا الحوار إلى حملة توعية كبرى تناقش من خلالها كافة المعتقدات الموروثة منذ مئات السنين لتنقيتها مماعلق بها من خرافة وأسطرة جاءت بسبب السباق الطائفي المحموم الذي شهدته القرون الماضية لاثبات أحقية أشخاص دون سواهم فأورثنا هذا الفعل كثيرا من المعتقدات الخاطئة التي أصبحت الآن جزءا لا يتجزأ من فهمنا للدين والعقيدة الاسلامية. وأنا هنا لا أبرأ عقائد أية طائفة، ولكني أحيي الأستاذ ماجد الغرباوي في جرأته وقدرته على عبور كل الخطوط الحمراء التي وضعها رجال الدين، حينما تجاوزها بوعي بعيدا عن التعصب، فكان يرحب وهو يحاور بأية وجهة نظر لكنه يؤكد دائما: لسنا ملزمين بقبول كل ما يعتقده الآخرون، أو بعضه. لقد طرح آراءه بوضوح وشفافية مستدلا عليها بالقرآن الكريم، مرجعنا جميعا، وتبقى مسؤوليتنا مناقشة كل ما طرحه الاستاذ الغرباوي مناقشة هادئة شفافة بعيدا عن التعصب الأعمى والإنفعالات الطائفية التي أورثتنا الدمار والقتل.

هكذا كان هذا الكتاب نهاية حوارنا الذي كنا قد بدأناه مع الأستاذ ماجد الغرباوي وهو المحور الثالث ضمن ثلاثة محاور، تم نشر المحورين الأول والثاني منهما ضمن كتابنا الأول: (رهانات السلطة في العراق .. حوار في أيديولوجيا التوظيف السياسي) الذي صدر عن دار أمل الجديدة -سوريا، والذي تناولنا فيه موضوعات الفكر القومي ورهانات السلطة في العراق. وخصصنا المحور الثالث، أي هذا الكتاب، لمناقشة قضايا عقائدية مهمة، منها: المخلّص في الديانات الحديثة، والمهدي المنتظر في الدين الاسلامي، والمرجعيات الدينية والتقليد، والخمس، والرجعة، ولذلك تقرر إصدارها في كتاب مستقل لأهميتها. وقد تناول الكتاب أيضا قضايا خلافية، حيث ناقشها الباحث والمفكر ماجد الغرباوي بموضوعية وحيادية استند فيها على التحليل العلمي والنصوص القرآنية بعيدا عن التعصب والانحياز. فحاكم جملة معتقدات يعتبرها الكثير منّا مسلمات لايرقى لها الشك. ودليله في ذلك كتاب الله والعقل وما صح من الأحاديث النبوية الشريفة .

لقد أجاب المفكر ماجد الغرباوي في هذا الحوار عن تساؤلات تمثل نبض الشارع الباحث عن الحقيقة وسط زحام الأفكار المتوارثة والأحاديث التي لم تعد مقنعة لجيل يعيش ثورة فكرية وعلمية وتكنلوجية كبيرة، وفي كل يوم يصطدم بالإرث واللامعقول الديني. للأسف الشديد رغم هذا التنوير لكن مازال بعضنا يتقمص دور شخصيات القرن الأول الهجري ويقتدي بهم صوريا ويقلدهم بعيدا عن جوهر عقيدتهم ودينهم ومستوى إيمانهم وفكرهم وعقائدهم التي يمكنه الارتكاز عليها. لكننا اضعنا الكثير بسبب التقليد الأعمى لرجل الدين.

لقد ناقش الباحث ماجد الغرباوي فكرة المخلّص في الديانات المأخوذة عن البوذية، وتناولها باسهاب مبيناً مضمونها. كما تطرق الحوار لقضية المهدي المنتظر عند المسلمين وتداعيات هذا المعتقد بين كونها فكرة تبعث على الأمل في تحقيق العدل الإلهي وبين كونها فكرة مثبطة للعزيمة. ومن هذا المنطلق تدرج الحديث إلى تاريخ المرجعية والمباني التي ارتكزت عليها مسألة التقليد.

لقد فتح الأستاذ ماجد الغرباوي الباب على مصراعيه في هذا الكتاب من خلال طروحاته الجريئة، التي قد تحدث هزة في الفكر الجمعي العقائدي للمسلمين عموما والشيعة منهم على وجه الخصوص، وستكون هناك ردود أفعال متباينة في قوتها واتجاهاتها ولكنها بالنتيجة ستصطدم بالعقل والمنطق بعد أن يدافع كل فريق عن طروحاته العقائدية بل وسيستميت البعض ممن تؤثر عليهم هذه الطروحات في نفيها واثبات الأفكار القديمة بنفس الأسلوب وليّ عنق الآيات لتتلائم مع طروحاتهم، ومايهمنا وجود حراك فكري وإشعال جذوة الحوار البنّاء للوقوف على الحقائق وإحداث حالة من التحرر الفكري الذي يجعل هذه المجتمعات المنغلقة تنظر إلى أفق جديد وإلى عالم آخذ بالازدهار وفق رؤى حديثة ومتطورة وتجعل من الإسلام دينا لحياة قابلة للتجدد واحتواء كل ماهو نافع للبشرية. 

ماجد الغرباوي والاصلاح

هذا الحوار يقع ضمن المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي، وهو باحث متخصص  في الدراسات الإسلامية، وأحد رجال الإصلاح الديني في العصر الحديث، من خلال كتبه وطروحاته الفكرية فيما يخص النهضة والتسامح الديني والثقافي، فطالما عالج موضوعات التخلّف الحضاري، العنف والإرهاب، الحركات الاسلامية ودورها السلبي في المجتمع، والعلاقة بين السياسة والدين. وأصدر سلسلة رواد الإصلاح للتعريف بمشاريعهم وأهدافهم الإصلاحية، ومدى تأثيرهم في النهضة الإسلامية.

ولم يقتصر الغرباوي على ما تقدم بل راح يدعو علانية الى إعادة فهم الدين وفقا لضرورات الزمان والمكان ومتطلبات العصر والمجتمع والإنسان، والاستفادة من معطيات العلم وتراكم التجربة البشرية، كما دعا بصوت مرتفع الى إعادة النظر في فعلية الأحكام الشرعية، ومدى صلاحيتها بعد انتفاء موضوعاتها، وحذر علنا من تزوير الوعي ومكائد رجال الدين، وتوظيف الدين لمكاسب سياسية وأخرى شخصية أو أيديولوجية.

***

 ماجد الغرباوي مفكر وباحث، يسعى من خلال مشروعه الى: ترشيد الوعي بعد تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، عبر قراءة متجددة للنص الديني تقوم على النقد والمراجعة المستمرة، كشرط أساس لنهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب.

وطالما أكد الغرباوي في تشخيصه لأسباب التخلف والسبل الكفيلة بالنهوض الحضاري: إن المشكلة الأساس وبالدرجة الأولى ثقافية، تتعلق ببنية العقل، والنظام المعرفي لشعوب المنطقة، لأنها القاعدة التي ترتكز اليها النهضة، أية نهضة كانت .

ويختلف ماجد الغرباوي في تشخيصه لأسباب التخلف وعوامل النهضة الحضارية، حيث راح يتوغل في العقل والثقافة باحثا عن كيفية تكوّن البنى المعرفية وما هي المفاهيم والمقولات المؤسسة لها، فكان وما زال يؤكد على نقد جميع الثوابت والقناعات واعادة تفكيك العقل وبنائه وفق قيم ومقولات حضارية، لهذا أكد كثيرا على فهم الدين كمكون أساس لشعوبنا، فاعتبر الفهم الخاطئ للدين أحد الأسباب الرئيسية وراء تخلّف المسلمين حضاريا. وبهذا امتاز عن غيره من رواد النهضة بقدرته على التشخيص والنقد الذي يغور في أعماق الثقافة والفكر، فما عادت الأسباب المطروحة من قبل الرواد الآخرين كافية لوجود نهضة حقيقية بل ما زال الوضع ذاته اذا لم يكن أسوء مع ظهور حركات التكفير الديني .

***

طارق الكناني، كربلاء – العراق

  10 – 4- 2017م

........................

* مقدمة كتاب مدارات عقائدية ساخنة.. حوار في منحنيات الأسطرة واللامعقول الديني، ط2، 2017، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا ودار أمل الجديدة، دمشق – سوريا.

الكتابة عن الكاتب والشاعر والباحث والمبدع والمفكر العراقي القدير والملهم والمضيء والاستثنائي ماجد الغرباوي هي مغامرة كبرى ..!

فحذار من الكتابة عنه والخوض في غماره، لأنك ستكون كمن يحاول القاء القبض على مجرة او سوق البحر الى السواقي، او رسم خريطة جامدة لتسونامي حي لا يهدأً ..!

اننا نحتمي بماجد الغرباوي، بفكره الراقي المتنور العقلاني، ورأيه السديد، وحضوره الكثيف بكتبه ومؤلفاته النفيسة، التي سنرفعها كالمتراس في وجهه المشرق لنحدق في وجهه الانساني والنقدي والبحثي والعلمي والفكري، وسنربض خلف عناوين منجزه الفكري والثقافي، لكن وجوهه الاخرى سوف تجتاحنا .

لا امتلك سوى الاعتراف بأن لا قدرة لي على اقتحام عالم ماجد الغرباوي والنفاذ الى كنوزه والواحه الماسية والذهبية، ولكن ساحاول قدر المستطاع .

ماجد الغرباوي رمز ونجم فكري وثقافي نقدي لامع يتجدد كل يوم في فضاءات العلم والثقافة والسياسة والمعرفة، ويقف ضمن طليعة المفكرين والمثقفين العرب المستنيربن والنقديين المشتغلين  على نقد الفكر الديني والحركات الاسلامية ومسائل النهضة والاصلاح والتجديد والمعاصرة والتنوير والعنف والتسامح بين الاديان والعقائد والمذاهب، وقضية المرأة ومسألة تحررها المرتبطة بتحرر المجتع كله .

انه يتمتع بموهبة أدبية ابداعية وخلاقة وآفاق علمية واسعة، ويتصف بالذكاء والفطنة والبصيرة الثاقبة وبعد النظر والرؤية الواضحة والوعي المتجدد المتوهج المتوقد .

وهو المفكر المتواضع الثري بالثقافة الاسلامية والفكر الانساني والوعي النقدي، والانسان العصامي، الصلب، المقاتل والمحارب بالكلمة والقلم، والثورة لديه فصل حب وعشق كوني شمولي .

majed algharbawi1ماجد الغرباوي المفكر المتمرس المتبحر في التراث الاسلامي، يملك الأسس العقلية المنفتحة والأدوات الفنية التي يعتمدها اسلوبه الكتابي النقدي ومقارباته الفكرية والثقافية، التي تعد اهم ركائز واوليات الاستنساخ للمثقف المبدع الخلاق المبتكر المجدد .

ماجد الغرباوي كاتب وباحث عميق وجاد، صاحب مشروع فكري نهضوي معاصر يسعى من خلاله الى ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، ومن خلال قراءة متجددة للنص الديني على اساس النقد والمراجعة المستمرة من اجل فهم متجدد للدين كشرط أساس لأي نهوض  حضاري وعصري متقدم وجذري  يساهم في تأصيل قيم الحرية والتسامح والعدالة في اطار مجتمع مدني خال من العنف والتنابذ والاحتراب .

ماجد الغرباوي نخلة عراقية باسقة وشامخة في الفكر العربي الاسلامي، عانق نور الحياة في مدينة قلعة سكر، النائمة على نهر الغراف، وتتوشح بجمال طبيعتها وانسياب نهرها .

نشأ بين ازقتها وحواريها، وتعلم الابتدائية في مدارسها، ثم انتقل وهو صغير السن مع افراد أسرته الى العاصمة العراقية بغداد، وفيها اكمل دراسته في اعدادية الكاظمية ثم الثانوية، لكنه تعرض للسجن مع ثلة من رفاقه، وبعدها واصل دراسته خارج حدود وطنه بموضوع الشريعة والعلوم الاسلامية، واستقر به الحال والمطاف في سيدني باستراليا .

مارس ماجد الغرباوي التدريس بالمعاهد العلمية في اطار تخصصه لسنوات عدة، وشارك في العديد من الندوات والحوارات والمؤتمرات والحلقات والمواسم الفكرية والعلمية، واشغل رئيس تحرير مجلة " التوحيد "، واشرف على اصدار سلسلة رواد الاصلاح، وعمل على تأسيس صحيفة " المثقف " ومؤسسة المثقف العربي في سيدني باستراليا .

نال عدداً من الجوائز التقديرية عن اعماله الفكرية والعلمية البحثية .

له العديد من المنجزات في ميادين البحث والعقل والتنوير، بلغت حوالي ٢٥عملاً ومؤلفاً اضافة الى عدد كبير من الدراسات والبحوث والمقالات التي نشرها في الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية المختلفة المتعددة، ومن اهم كتبه :

اشكاليات التجديد، التسامح ومنابع اللاتسامح، الضد النوعي للاستبداد، الحركة الدستورية، الحركات الاسلامية - قراءة نقدية في تجليات الوعي، جدلية السياسة والوعي - الشيخ مفيد وعلوم الحديث، المشروع الاصلاحي، المرأة والقرآن، اخفاقات الوعي الديني - حوار في تداعيات النكوص الحضاري، رهانات السلطة في العراق - حوار في ايديولوجيا التوظيف السياسي، مدارات عقائدية ساخنة وغيرها .

منذ عهده الاول بالحياة وتشكل وعيه، رسم ماجد الغرباوي خريطة المستقبل، وراح بصلابة المؤمنين وحبر الانسان ينحت في الصخر الحديد، وينهض بالبناء ضلعاً قاصراً حتى استوى على هذا الطراز من الاصالة والتجاوز، فلا عجب اذا اصبح المثال والنموذج الفكري الذي يضرب ويحتذى به بين حراس الثقافة وعشاق الابداع، عن تحديه العنيد لاقدار المرحلة وتمرد الشجاع على سلطانها الجائر . ورغم انه يعيش في الغربة الا ان روحه وقلبه وعقله مع وطنه بلاد الرافدين ودجلة والفرات، مع عراقاه وشعبه، مؤكداً حرصه الدائم وتمسكه بالسلم الاهلي والوطني والاجتماعي كخيار استراتيجي ومنطلق اساسي للتعايش السلمي بين كل اطراف واطياف وتشكيلات المجتمع العراقي .

 وهو يدعو في خطابه الى ترسيخ حس ثقافي وفكري تقدمي وعقلاني يهدف الى وعي ومصالحة شاملة بين مكونات المجتمع العراقي والعربي على حد سواء، ويرى ضرورة واهمية تقديم قراءة متأنية لاسس واصول التسامح السائدة في واقعنا العربي المزري، قراءة واعية وحقيقية مبنية على قاعدة متينة تشكل قفزة نوعية في اخراج المجتمع من محنه وازماته المتراكمة، وتقوده للخلاص من الجهل والتخلف والامية .

ماجد الغرباوي مثقف ومفكر مسكون بالأسئلة، يجيد علامات الاستفهام، ويبحث عن الحقيقة، ويطاردها في كل مكان، ويتوغل عميقاً في الجزر والمساحات المغلقة، رافضاً المسلمات، مؤكداً على ان كل شيء قابل للنقد والمراجعة، ولا فرق عنده بين المقدس واللا مقدس، يمارس النقد باوسع أبوابه، ولا يخشى دخول مساحات الممنوع والمحرم والمقدس المتستر عليه .

ماجد الغرباوي هو صاحب ومؤسس صحيفة " المثقف " التي ساهمت في نشر الوعي الثقافي والفكر الحر الديمقراطي  والليبرالي، وتركت صدى واسعاً، ولقيت تقديراً واحتراماً من الاوساط الادبية والثقافية والفكرية في مختلف اقطار العالم كونها منبراً حراً للكلمة والرأي والموقف، وبفضل ما تنشره من دراسات وأبحاث ومتابعات ومداخلات واضاءات أديية وفكرية واجتماعية وسياسية، وكتابات ابداعية، شعرية ونثرية، وهو ايضاً رئيس مؤسسة " المثقف " الرائدة في تكريم رجالات الفكر والأدب والأقلام الثقافية والرموز الادبية والفكرية، وتكريم كتاب وكاتبات " المثقف " ومنحهم الشهادات التقديرية، واسهامها في طباعة ونشر الكتب المتنوعة في جميع الألوان والأجناس الكتابية، وكل ذلك بفضل جهوده الطيبة المباركة .

ماجد الغرباوي، تلك الارادة الفذة القادرة على المجابهة والجدال والنقاش دفاعاً عن الحقيقة في سياق التخطي المستمر في تلك الحركة المجندة لتدمير اعمدة الهيكل الاجتماعي الثقافي الفكري الراهن، وانشاء تلك العمارة حلم البشرية جمعاء وغاية نضالاته المتواصلة عبر مسيرته الحياتية والثقافية .

وهو ذلك المتواضع النقي المستخفي الظل الذي لا يستمليه صخب الاضواء ولا تبهره الكاميرات ولا الميكروفونات ولا الفضائيات .انه النسر الجارح الآتي الناهض من ارض الرافدين، الذي تعاظم وجعه مع وجع العراق دون ان ينتابه الوهن او يصبه الفتور، ولم يستسلم لجبروت الراهن من الزمن العربي الرديء، حاشا، فاليقين لديه يتعزز بحتمية التغيير، ويغدو اكثر اطمئناناً كلما اوغلت قوى الثورة المضادة والجماعات التكفيرية المتأسلمة والقوى المتطرفة الوهابية في سفك الدماء والخرائب وتدمير التراث الحضاري العراقي والعربي واغتيال رموز الثقافة والفكر والادب بنهم وحشي .

ان مساهمات ماجد الغرباوي ومقارباته ومداخلاته الفكرية على جبهة الفكر النهضوي التنويري ليست من ذلك النوع المرحلي العابر، بل هي جذورية نفاذة ومستمرة في شعاع المراحل الراهنة واللاحقة، بمنهجية علمية واضحة،وتأتي لتصحيح النظرة الفكرية المعاصرة للتاريخ والتراث، مستمداً أدواته المعرفية من المنهج التاريخي المادي في تفسير التاريخ ومنهجه، وترشدنا عناوين اعماله من مؤلفات ومنجزات فكرية، الى مفاتيح أفكاره وتوجهاته، وتدل على مدى رغبته كمثقف عضوي مشاكس ومتنور ونقدي في التأسيس لفكر نهضوي حداثوي جديد، لا يساوم على الحقيقة، اذ انه منذ بداياته التفاكرية او التجادل الفكري قدم سجلاً جديداً للثقافة العربية والفكر الديني الاصلاحي قوامه نقد المحظور، لكنه لم يكن ولن يكون مفكراً للفرد، ولا يبحث في قضايا ومسائل من فوق المجتمع وخارجه، بل يستظل على مسائل فكرية تهم وتمس ثقافتنا وعقلانيتنا ووعينا الانساني .

ماجد الغرباوي علامة مضيئة كبيرة ومشرقة في الاجتهاد الفكري، وظاهرة مميزة ومتفردة في الشجاعة والجرأة الفكرية والتعفف الاخلاقي، تبدو غريبة في زمن الانحطاط والخواء والفقر الثقافي والتخلي عن الافكار والقناعات الايديولوجية .

انه مثقف طليعي ومفكر نظيف وعفيف قوي الروح، يشكل نموذجاً في الثبات على الموقف والمبدأ والطرح والاستعداد للتضحية، والتفاني لاجل ان تتصارع الأفكار، وتتحاور المواقف، وتتجادل وصولاً الى الحقيقة والاقناع واحترام الرأي الآخر .

 

شاكر فريد حسن – كاتب وناقد

.....................

العنوان الأصلي للمقال:

ماجد الغرباوي المثقف التنويري والمفكر المضيء

 

احيانا لا ننتبه لاهمية الاسئلة رغم ان البحوث والدراسات المتخصصة تبدأ بسؤال او بشكل ادق اجابة عن سؤال، يشمل ذلك البحوث المتعلقة بنيل درجات علمية عالية كرسائل الماجستير او اطروحات الدكتوراه . وهذه في الحقيقة عبارة عن اجابة عن سؤال او عدة اسئلة تنتظم حول محور واحد تتشكل منها الرسالة او الاطروحة .اذن السؤال يعتبر محفزا بشكل اساسي للبحث لذلك فان له اهمية استثنائية في العوالم الاكاديمية او البحثية الحرة غير الملتزمة بقوانين البحث الاكاديمي .

استوقفتني اجابات الباحث المستنير الاستاذ ماجد الغرباوي لكتابة هذه المقدمة او متابعة حواره مع نخبة واسعة من المثقفين والكتاب والباحين العراقيين والعرب، وبسبب ما يتعرض له الباحثون العرب من تهديدات يومية من قبل دعاة الاسلام السياسي، هؤلاء يعتبرون ان كل نقد للاسلام السياسي اواحزابه هو نقد للاسلام كدين،ولكن شتان بين احزاب الاسلام السياسي وبرامجها التي هي في جوهرها فاشية واقصائية الى ابعد الحدود وبين الاسلام كدين، ودليل معرفة الجوهر الفاشي والاقصائي لاحزاب الاسلام السياسي غياب مفهوم التسامح وقبول الاخر اوالتعايش معه رغم ادعائها للاسلام او تمثيله .

تخلل الحوار مصطلحات كثيرة ادت احيانا الى تشتت الموضوع او مضمون الحوار وهدفه مفهوم 'التسامح' ومنه 'العقلانية الشاملة' وقد اوضح الباحث الغرباوي نقطة مهمة مشيرا الى مسيرة تطور المجتمعات الغربية الحديثة والمعاصرة، فقد بنيت من الاساس على 'التسامح' و'العقلانية' لان الدين كما اشار الباحث يختلف عن الدولة . الدولة باعتقادي لا دين لها لانها تمثل الجميع بشكل متساو في الحقوق والواجبات، ورغم ان بعض دول الغرب تعترف بمسيحية الدولة علنا، ولكن الواقع او دساتير هذه الدول تنفي ذلك .ودور الكنيسة بهذه الدول يكاد يكون بلا تأثير يذكر، رغم حضورها رمزيا واعلاميا، فبالنتيجة القانون والدستور هما من يحكم المجتمع وليس اللاهوت او المعتقد .

أردت ان اشير الى نقطة مهمة لو يولها الباحث الاهتمام المناسب او تبيين مدى تأثيرها التاريخي في المجتمعات الغربية ربما لالتزامه بحرفية الاجابة على الاسئلة، فعصر الانوار الاوربي ما كان له ان يظهر للوجود لولا مظالم وجور حكم الكنيسة في اوربا، ومفهوم التسامح من ابتكارات عصر الانوار ارتبط بالمسيحية بشكل خاطيء لانه كمفهوم وجد قبل عصر الانوار وربما قبل المسيحية والاديان،ويمكن العودة بهذا الصدد الى الفلسفة الهندية القديمة او الصينية .

ومفهوم التسامح في الواقع واحد من عدة محاور تناولها الحوار مع الاستاذ ماجد الغرباوي، انه حوار شامل ان جاز التعبير، ركزت في هذا التقديم او التعريف بمحتواه على مفهومي التسامح والعقلانية لانه لا يمكن تناول جميع ماورد في الحوار من افكار ورؤى ومناقشة احيانا بين المتحاورين في اكثر من نقطة او تعريف،ولكن الباحث يركز على نقطة مهمة لها علاقة مباشرة بمفهوم التسامح لتخليصه من استعلائيته ويضفي عليه انسنة عامة ليست له بمفهومه الاصطلاحي او اللغوي، وربما ينفرد الباحث في البحث او التبشير بمفهوم جديد للتسامح لتخليصه من سلبياته ودلالاته اللغوية ليكون مفهوما شاملا بقوله او توضيحه لمفهوم التسامح من وجهة نظره كباحث : 'التسامح كما أفهمه وادعو له: موقف إيجابي متفهم من العقائد والأفكار، يسمح بتعايش الرؤى والاتجاهات المختلفة بعيدا عن الاحتراب والإقصاء، على أساس شرعية الآخر المختلف دينيا وسياسيا، وحرية التعبير عن آرائه وعقيدته، ما دامت الطرق إلى الحقيقة متعددة، وليس لأحد الحق في احتكارها، فيكون التسامح اعترافا حقيقيا بالآخر، لا منّة ولا تكرما، فيسود المجتمع مبدأ المواطنة في المساواة والتكافؤ في جميع الحقوق والواجبات' نعم الدساتير جميعها تقر بالمساواة ولكن الواقع عبارة عن شيء مختلف تماما، لذلك فان دعوة الباحث من خلال مفهومه الجديد الذي يقدمه للتسامح، يحتاج الى ايضاحات اضافية او ان يفرد له بحثا خاصا لانه يختلف عن التسامح السائد او مفهومه المتداول والمعروف في الاوساط السياسية والبحثية وهذا سبب تخصيص التعريف بالحوار على التسامح لاعتقادي ان ما جاء به الباحث ماجد الغرباوي او تعريفه للتسامح يختلف تماما عما هو معروف عن هذا المفهوم حتى ان الكثير من الباحثين العرب عدوه متعاليا و'هشا' .

لذلك اقترح على الباحث ان يسميه تسمية اصطلاحية اخرى تتلائم مع مفهومه وتعريفه الجديد اي خلق مصطلح يلائم مفهوم الباحث لتمييزه عن التعريف المتداول . ك 'التسامح المتكافيء' مثلا . لتخليصه من التعالي او المنة الذي ينطوي عليه كمصطلح لغويا وبحثيا .ومع ذلك يبقى التسامح بمفهومه العام ضرورة لسلمية المجتمعات متعددة الاعراق والمذاهب وللتعايش السلمي والتدبير كما يقول او يؤكد الباحث : 'يبقى التسامح الحقيقي الإطار الجامع لوحدة الشعب رغم تنوعه القومي والديني والمذهبي' .

اما النقطة المهمة الثانية، اشدد على اهميتها كما جاءت في الحوار وتناولها الباحث في اكثر من محور على طول الحوار، ربط مفهوم التسامح بالمواطنة، باعتبارها المشترك بين الجميع، وخاصة في مجتمعاتنا العربية وفي العراق بالذات، ولكننا مع الاسف كما يؤكد الباحث لم نصل الى مستوى الوعي باهمية المواطنة التي تقوم على مبدأ التسامح وقبول الاخر على المستويين الثقافي والديني .التي قامت على اساسه الحضارة الغربية المعاصرة من خلال سن القوانين والتشريعات التي تحفظ حقوق جميع المواطنين .

وبين الباحث او حث بشكل واضح على التفريق بين النقد والتخريب المتعمد، فنقد البنيات الطائفية والعشائرية في مجتمعنا الموروثة من عصور وعهود سابقة واعادة ترسيخ مفهوم التسامح ومن ثمة المواطنة، تهدفان الى صيانة هذه المجتمعات اوتخليصها من الصراعات الطائفية والمذهبية اوالعرقية، حيث تصل هذه النزاعات احيانا لدرجة الحروب والتخريب المتعمد الذي يطال اقتصاديات وعمران مجتمعاتنا العربية والاسلامية وتهديد مسقبلها، كما ان مفهوم التسامح ليس من المفاهيم الاجنبية او الغريبة على ثقافتنا اومجتمعاتنا العربية والاسلامية .وهنالك وقائع معاصرة وتاريخية تثبت ذلك رغم انه لم يأت على ذكرها او ذكر بعضها او كشواهد منها في حواره، وربما نحتاج الى بحث اخر او الى بحث مستقل للتأكيد فيه التسامح بمفهومه العام ليس اجنبيا او غريبا على ثقافتنا العربية والاسلامية ماضيا وحاضرا .

***

قيس العذاري - بغداد نيوز

17 – 9-  2017

القسم الثاني من مشاركة طالبة الدكتوراه عفاف المحضي في الندوة العلمية الدوليّة حول التسامح الدينيّ و ثقافة الاختلاف - مركز البحوث والدراسات في حوار الحضارات والأديان المقارنة، مدينة سوسة – تونس، يوم 5 – 10 – 2016م. بعنوان: فهم التسامح.. قراءة في كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح فرص التعايش بين الأديان والثقافات لماجد الغرباوي. وقد نالت على بحثها شهادة تقدير من إدارة الندوة العالمية. 

 معالم المشروع الاصلاحي لماجد الغرباوي

إنّ أفكار الكتاب كما هو واضح من موضوعه تحمل مضامين إصلاحية، وتعكس وجهة نظر نقديّة ورؤية إستشرافية مستقبلية للعالم العربي في حاضره ومستقبله وما ينطوي بينهما من أحداث سياسيّة ودينيّة وثقافيّة. إنّ مشروع الغرباوي الإصلاحي هو معالجة عملية فكرية للمشاكل التي تحيط بالمجتمع العراقي كأنموذج والمجتمع العربي بشكل عام. مشروع يؤسس لثقافة:

- العيش داخل مجتمع تعدّدي

- الموائمة بين القيّم الدينيّة والقيّم الإنسانيّة

- نقد التراث الإجتهادي وخلق بديل مع المحافظة على الجوانب العقلية القوية منه والتي لا تتعارض وروح العصر ومتطلبات الإنسان اليوم الخميني الشيعي والإخواني السني.

- نقد العقل الإسلامي الإجتهادي الذي يكرر ذاته لسنوات والذي أفرغ النصّ القرآني من أبعاده الدينيّة وتوجيهه الوجهة الفقهيّة التقنينيّة منذ عصر الشافعي إلى اليوم العقل الإجتهادي يكرر نفسه.

- إخراج الإنسان المسلم من فهم ماضوي ضيّق للإسلام، فهم قد غدا عالة عليهم لم يعد قادرا على الإستجابة لروح العصر والحداثة وهذا ما خلق الصراع بيننا وبين العالم

- التفرقة الواعيّة بين الدين وبين الفهم الذي نشكله عنه

- الخروج من المنظور المذهبي الضيق الذي يدعي كل منها اكتساب الحقيقة وما تنجر عنه من تبعات تكفيرية واقصائية كردّ فعل مضاد حماية لتلك القشور التي شوهت مقاصد الدين العالميّة من تسامح وكونيّة وتعايش ومحبة ورحمة وعفو عند المقدرة والصفح والغفران ...عبر التاريخ. فالقرآن يحتوي آيات غاية في التسامح والمحبّة والانفتاح على الأخر ولكن التفسيرات التاريخيّة المسيّسة والخاضعة للظروف هي التي جعلت منه متقلبا بين الانفتاح والانغلاق حسب ما تقتضيه الحاجة التاريخية والمصالح السياسيّة.

- كسر قيد الوضع القاهر الذي يتحكم فينا وفي مجتمعاتنا العربيّة" إن لم تكن معي وتنضوي تحت منظومتي الفكرية فأنت ضدي واجب وحق شرعي تصفيتك الجسديّة."

لكن يبقى السؤال المتكررة في ذهنيّة كل مفكر أو مصلح أو فرد واع بالواقع اليوم هو ما مدى مشروعية البحث عن أرضيّة للتسامح في التأويل النّصي؟ ما مدى وعينا بهذا المفهوم؟ أليس من الضروري اعادة ابتكار لمفهوم التسامح وقولبته وفق متطلبات العصر المتجددة؟

"هناك فارق كبير بين قبول الآخر والاعتراف به فالحالة الأولى يفرضها الواقع والمصالح المشتركة بينما الحالة الثانية تعبّر عن وعي لا تخالطه نوازع التعالي الناشئ عن عقيدة التفوّق العنصري أو الاجتماعي أو الديني أو المذهبي أو الثقافي. ولا تلامسه مشاعر الفوقية والتفوّق. ولا تنطلي عليه أوهام صحة ونهائية وجزمية الأفكار والمعتقدات في مقابل خطأ الأخر مطلقا. كما لا تخالجه التفرّد بالدين."[10] والتأصيل لإطار وطني يستوعب التعدد القومي العربي والأصولي الديني وشيوعيّة واشتراكية عربيّة وطوائفية وشعبوية داخل شرعيته. والتأسيس للتسامح أخلاقيا ولغويا، دينيا ومدنيا.

لأن "التسامح نسق قيمي تتوقف فاعليته على وجود أرضية صالحة وأجواء سليمة تساعد على تفاعل قيّمه لذا يشترط أولا ايقاف نزيف الكراهية والحقد وقطع مصادر العنف والاحتراب وتجفيف منابع اللاتسامح والارهاب والحيلولة دون تدفقها لا على مستوى الممارسة فقط وإنما اجتثاثها كثقافة وعقل ومنهج."[11]" فلأحقاب طويلة من الزمن وقع تجاهل الكلمة، وقع تجاوزها أو على الأصح اكتفى بمجرد النظر إليها على أنها من نافل القول ... كما أن الكلمة لم تكن تعبر في الحقيقة عن شيء محسوس. بقي التسامح طوال قرون متتالية مجرد فكرة مجرد فرضية ضمنية تتحدث عن طبيعة الحياة عامة والعلاقات البشرية وقد كان مصير التسامح في الفكر الديني (الذي يجب تمييزه عن الدين) مصيرا متناقضا.

فالتصوّر الإنساني المتعلق بالدين قد أنتج مدارس ومذاهب كانت سببا في اثراء هذا الفكر ولكنها كانت سببا في فتن مزّقت أوصال المجتمعات التي تدين بالديانات السماوية على وجه الخصوص." [12] لذلك لابد من التأكيد ضرورة قصوى على أهميّة الثقافة النقديّة في "النفوذ إلى أعماق اللاوعي لتفكيك البنى المعرفيّة القديمة وتأهيلها لاستقبال نمط فكري وثقافي جديد يعمل في إطار قيّم التسامح. ويجب ان يطال الخطاب النقدي جميع المستويات وينفذ إلى كل الحقول. ولا يتوقف عند مساحة دون أخرى. فيبدأ بالفرد والأسرة لينتهي بأعلى سلطة فكرية واجتماعية مرورا بقيّم النظّم القبليّة والحزبيّة والدينية والنقابيّة والسياسية."[13]

بتفكيك سلسلة قيّما ومفاهيمها القديمة والتحرر من ربقة نمطها الاستبدادي من خلال نقد الخطاب الديني (هنا يجب أن نفهم الفرق بين النّص والخطاب الديني[14]) عند سيد قطب في قوله إن هذا الخطاب الديني لا يؤسس ولا يساعد على وجود مجتمع متسامح، بل العكس سينتج حركات إسلاميّة متطرّفة تستبيح قتل المسلمين قبل غيرهم ."[15] وهذ ا ما يشهده عالمنا العربي اليوم من قبل الجماعات المتطرّفة. لذلك لابد من تفكيك الخطاب الذي تتبناه هذه الجمعات وتحديد المرجعيات التي تمت وفقها هذه القراءات وبيان تهافتها ونقاط ضعفها لتفادي تنامي هذه القراءات ويتفاقم هذا الفهم ويتجذر داخل الفكر الديني إلى درجة يصبح فيها الفكر الأخر المضاد فكرا منحرفا وكافرا من وجهة نظره ومن زوايا فهمه وقراءاته وتفاسيره. فكيف يمكن حينها أن نتعايش مع الأفكار والأديان والعقائد المختلفة من حولنا؟

إنّ قضية الفكر ليست قضية الذّات بل هي قضية نتاجها المعنوي تماما كما هو النتاج المادي فنحن نرفض النتاج في عناصره ونحترم المنتج في انسانيته بمعنى لو أسقطنا الفكر لا نسقط صاحبه بل نحترمه كذات إنسانية نشترك معها في هذه الخاصيّة الإنسانيّة. إذ " ليس هناك صحيح مطلق وخطأ مطلق وإنما الفكر أيا كان انتماؤه انتاج بشري واجتهاد شخصي قد يصيب وقد يخطأ يتأثر بالظروف الزمانية والمكانية وتؤثر فيه القبليات المعرفية والأنماط الثقافية والاحداث السياسية والصراعات الطائفية والمستوى العلمي وأفاق الوعي السياسي والاجتماعي والديني." [16]

كما أكدّ على أهمية الدور الذي تلعبه الأسس المنهجيّة في ثقافة الحوار مع الأخر في مسائل منها الفرق بين الهداية الإنسانية والهداية الالهيّة التي "عمل الأنبياء على تجذيره وتعميقه في النفوس المؤمنة" كما أكدّ أيضا على دور القانون الذي يكمن دوره في فاعليته الكبرى في حسم النزاعات وإعادة الأمور إلى نصابها الأول وقمع الفقاعات الطائفية والمذهبية أو العنصرية أو الدينية في مهدها وحماية الصيغ التوافقية بين المواطني الشعب الواحد.

تحطيم الثوابت الغائرة والمتخفية في اللاّشعور خاصة في مفهوم الهداية رغم الحوار الذي لم يتجاوز في نظره داخل الذهنيّة العربية الإسلامية منطق التكفير والإكراه خاصة اذا ارتبطت بالأخر الخارج عن المنظومة العقائدية للأنا المؤمنة لذلك لابد للغرباوي هنا من تقديم البديل عن هذه الرؤيةباعطاء مفهوم جديد لهذا المصطلح في قوله:" الهداية هبّة ربّانيّة لا يمنحها إلاّ لمن يستحقها. وموضوعها العقيدة الإلهيّة وليست الشريعة وأحكامها، والعقيدة قناعة ذاتيّة لا تخضع لوسائل العنف والإكراه. وتحديد الهداية وضدها النوعي الذي هو الضلال مرتبط بالله تعالى ولا تتحدد بالسلوك الخارجي. فربما شخص يمارس الشعائر تحت ضغط الواقع... فالحوار معه على أساس هدايته باعتباره ضالا أمرا غير مبرر ولا مستساغ. وإنما يجب الحوار معه على أساس المثاقفة والتكامل باعتباره يمتلك رؤية وفكرا وثقافة وأدلة على أساسها اكتملت قناعته."[17]

هي " إرادة لا تعترف سوى بتبعية الذّات وامتثالها القسري والإكراهي لنموذج النسق الثقافي الذي يرهن أفق الإنسان ضمن منظور اختزالي لا يرده إلى ماهيته الجوهرية التى تؤسسها الحرية، وإنما إلى أصول ميتافيزيقية وأسس ثقافية شكلها الإنسان ذاته عبر تاريخه."[18]

كما أكدّ على ضرورة الفهم لصحيح لموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو موضوع قيمي أخلاقي بالأساس وليس عقدي ديني. لإنّ مأزقنا اليوم المعاصر حسب رؤية الغرباوي النقدية للواقع المعاصر تتلخص في أن العقل العربي الإسلامي لا زال يكرّر ذاتَه باستمرار عود على بد من الألف إلى الياء وهذا ما قاله أيضا طه عبد الرحمان وأكد عليه في أنّ العالم العربي الإسلامي، لا وجود لإمكانيات البناء والتجديد عنده بل يستنسخ ما قاله السلف.

 قواعدهم وعباراتهم ومصطلحاتهم وآراءهم هي ذاتها لا تبديل ولا تحويل، وإن وجدت بعض المحاولات الخجولة التي لا تخرج عن منظومة النسَجَ على ذات المنوال إلاّ في حدود بيان بعض القواعد وشروحات لبعض العبارات، إن لم تكن شرح على شرح، وبعض الحواشي أو تعليقات عليها، ومحاولات توضيح المراد منها واستخلاص المضمون. وكأن الأول لم يترك للآخر شيئا وأضحى تفكيرنا مقيدا لا يخرج على المستوى الذي فكروا فيه.

 لا يسمح لنا بصياغة قواعد بديلة لتفكيرنا الديني نابعة من خضم مشكلات واشكاليات عصرنا ورهاناته، وتقدم العلوم والمعارف المستجدة في عصرنا. ينبغي علينا اليوم أن لاّ نفتقر للحسّ النقد التاريخي والتدقيق في دراسة موروثنا من الخطاب الديني كنصّ قابل للنقد وتجديد بنيانه الذي أصبح اليوم عاجزا عن الوفاء بمتطلبات روح العصر وحاجات العقل الإسلامي اليوم. فضلا عن ضرورة أن نتعرف على آفاق الحاضر، ونستبصر أو نستشرف متطلبات مستقبلنا.

 لقد شدد الغرباوي على ضرورة الخروج عن المناهج التقليدية في الاجتهاد والتفكير وأهمية بعث أسس وأدوات نظر معاصرة عقليّة نقديّة للموروث الخطابي الدينيّ، وتخطي تلك النظرة التقليديّة التي حرمت لقرون طويلة المساس بحرمة وقدسيّة الخطاب الديني على وصفه "نساقاً مقدسا وعميقاً" وحداً نهائياً، قادر على انتاج الأسئلة والأجوبة لكل زمان ومكان. خطابات في نظره قد ساهمت في تعطيل العقل العربي الإسلامي، عود على بدء بدايتها نهاية ونهايتها نقطة. كتاب أراد صاحبه من خلاله أن يتخطى ما هو مكرر في الكتابات الإسلاميّة المماثلة (حسن البنا، يوسف القرضاوي، محمد عبده...) وغيرهم إن من حيث عنوانه، أو مضامينه، أو عناوين مباحثه (الاستبداد العربي، الجهاد والاجتهاد في الإسلام، مشروع تحرير المرأة) وجرأة محتواه وأهدافه في الكشف عن حدود حقل فاعليات الدين وآثاره الايجابيّة البناءة. مقدما بذلك مشروعه الاصلاحي الجديد من صلب التجربة العراقية المتنوعة والمتمثل في جملة من التنبيهات والمحاولات الاصلاحية أهمها:

- صيانة قيم العدالة والمساواة في مجتمعاتنا العربيّة وتجريم الممارسات التي تفرق بين أفراد المجتمع الواحد جغرافيا أو تاريخيا أو دينيا أو ثقافيا.

- محاصرة كل أنواع الخطابات وأشكال الممارسات المتطرفة.

- ضرورة الوعي الحضاري للتاريخ وأحداثه وتطوراته الذي يؤهلنا لاستيعاب النقاط الإيجابية من تاريخنا.

- حاجة المسلم اليوم إلى رؤية دينيّة تؤهله للعيش وفق قواعد إلتزاماته الدينية المتوافقة مع مستجدات زمانه وتطوراته المتلاحقة.

- ضبط سلوك الإنسان والعمل على تهذيبه والإعلاء من شأن الاعتبارات الدينيّة والأخلاقيّة التي تسيّره.

- محاولة استئصال القيّم الجامدة واستبدالها بقيم جديدة والترويج لقيم المحبّة والسلام والتسامح بين الأنا والآخر.

- تقديم رؤية للظواهر ضمن إطارها التاريخي وأنساقها المعرفية والثقافية التي تأسست في خضمها.

- تقديم اجراءات من الواقع بعيدا عن التنظير والمثل.

- تفكيك مصادر الخطاب والإشارة إلى الوجدان المتورم وإلى العاطفة الوجدانيّة الجارفة التي حولت العقل الديني إلى عقل أزمة أو عقل مونولوج وتيار شعور ساهم في تحوّله إلى خطاب حركي خطير.

- تقديم فهمً جديدًا للحياة، للفرد وللشعب والوطن بعيدا عن العصبيّة القبلية.

- الدعوة إلى ضرورة سدّ الثغرة الراهنة في المجتمع عن طريق الإصلاح والتغيير الخطاب الديني القديم في بعض جوانبه وتكييّفه بما ينسجم مع تحديات العصر بفهم جديد ليس هو التغريب وليس هو التأويل المخل الذي يصطدم مع النصوص الشرعيّة الصريحة والذي يجعل منها ذات دورا ثانويا أمام متطلبات العصر ووقائعه وحاجاته وإنما هو التجديد الذي يعود بنا إلى النصّ الأصليّ و إلى الأصول الإسلاميّة الأولى الصحيحة. فالمجتمع المسلم مأمور بتجديد إيمانه من كل ما علق به من أسباب الضعف والبلى والخضوع والانحراف.

- صدّ كل أشكال العنف السائدة في المجتمع بالتسامح لأن أرضية التسامح هي معارك حرية التفكير والتعبير والعقيدة الدينية.

الإعتراف بالآخر الذي هو أصل التسامح وجوهره.

- لا بد من تحديد التمايز الحاصل بين الدين بصفته مصدرا والخطاب الديني بصفته تمظهرا.

- تحديد مفهوم التجديد وآلياته، كالاجتهاد ودوره في التجديد.

- تحديث الخطاب الديني وتجديده بما يتناسب ومعطيات الحضارة المعاصرة

- تخطي الحلول الجاهزة التي ارتضاها المسلمون نتيجة ظروف ومعطيات تاريخية وحضارية وسياسيّة قد تجاوزها الزمن والركب الحضاري المعاصر

- التنبيه إلى ضرورة عودة المسلم إلى القرآن ليستمد منه القواعد الصحيحة للسلوك السوي في جميع مجالات الحياة.

- ضرورة التنبه والوعي التام بالحقائق الأساسية ذات الأولوية في حياتنا كمسلمين من حقوق المواطنة وسيادة القانون وتعدد المرجعيات ومراجعة الأنساق التي تحكمنا وتسيطر على تركيباتنا الذهنية في التفكير

- الوعي بأن الحلول في هذا الميدان لا تكون إلا في نطاق الواقعية والممارسة الحرّة بعيدا عن التنظير والمثالية لأن هذا الوعي الثقافي لا يمكن أن يلامس الواقع إلا في إطار تلاقح الأفكار وخلق فضاءات أرحب للحوار بعيدا عن منطق الهدي والارشاد الذي تمتهنه بعض الجماعات والجمعيات.

 

خاتمة

وفق منظور ماجد الغرباوي تتأسس ايتيقا الأنا من خلال اللقاء المتكامل بالآخر وبهذا المعنى فهو تعبير عن تجل لوجود خاص من أجل وجود عام، لا يكتسب تحديداته الجوهرية الخاص، التي يصبح عبرها نوعا، لا امتدادا إلا في علاقته بالآخر، الذي يكون وجوده سابقا وكائنا على وجود أية ذاتية، فالأنا الذاتي لا يتحدد إلا إذا كان هناك آخر ذاتي يسبقها في الزمن داخل زمانية التفاعل الإنساني، هذا الذي يضمن شرط انفتاح الذاتيّة على الغيرية ويجعل أفق الكونية ممكن موافقة وتوافقا عبر سمّة التسامح مع الآخر.[19] فأخلاق التسامح والتفاعلية هي مبدأ اعلاء من قيمة الحياة والإبداع التي تقوم على الإلتحام بالوجود والآخر" واحترام خياراته وأسلوبه في اغناء تجربة الحياة المشتركة، وكل حياة مشتركة خلاقة."[20] رغم يقيننا بأن التسامح لابد وأن يحمل قسطا من الشّر معنى ذلك أنّ التسامح لا يمكن أن يكون قيمة مطلقة، أي أنّه مكره بفعل مشيئة كل فرد على الفعل وفق القواعد الكونيّة والإنسانيّة والأخلاقيّة والقانونيّة والأعراف الإجتماعيّة والقبليّة المترسخة في ذهنيّة الفرد من الناحيتين النظريّة والعمليّة. لكن مطلب الحياة يبقى غاية الإنسان الحقّ والمؤمن بأن الله وحده هو الذي يستحق أن يحيا اللإنسان ويموت في سبيله وهذا لا يتحقق إلا في صلب مجتمع مثالي يتعايش فيه وبسماحة كل إنسان مسلم مؤمن وأناس غير مسلمين، وهذا المجتمع لا يكون غير المجتمع الإسلامي الحق الذي يقبل ان يكون بين أفراده يهودا ومسيحيين وفئات لا تؤمن بنبيّ ولا كتاب. أليس هذا هو الوجه المثالي للتسامح الحق؟

لقد رفض الغرباوي في كتابه التسامح على أساس المنة والتفضل ودعا الى قيام التسامح على أساس مشاركة الآخر لنا بالحقيقة، ولو بجزئها، وحينئذ لا توجد منه ولا يوجد تفضل، بل هو شريك حقيقي لنا.

 

عفاف المحضي: فهم التسامح.. قراءة في كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح فرص التعايش بين الأديان والثقافات لماجد الغرباوي (1-2)

 

 عفاف المحضي – طالبة كتوراه / تونس

...............................

قائمة المصادر والمراجع

I.قائمة المصادر:

- القرآن الكريم

- ماجد الغرباوي التسامح ومنابع اللاتسامح (فرص التعايش بين الأديان والثقافات) مؤسسة العارف للمطبوعات الطبعة الأولى بيروت- لبنان 2008

II.قائمة المراجع:

- جون لوك: رسالة في التسامح: ترجمة منّة ابو سنّة، تقديم ومراجعة مراد وهبّه المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة- 1997

- عبد العزيز بو مسهولي: مبادئ فلسفة التعايش، أفريقيا الشرق- المغرب 2013

- عبد الرزاق عيد : سدنة هياكل الوهم/ نقد العقل الفقهي، يوسف القرضاوي بين التسامح والارهاب دار الطليعة بيروت، رابطة العقلانيين العرب، الطبعة الأولى، سبتمبر 2005

- محمد أحمد حسونة بك ومحمد خليفة التونسي التسامح في الإسلام: الأسس النفسيّة والاجتماعيّة في الإسلام مطابع دار الكتاب العربي بمصر محمد حلمي المنياوي

- ناجي البكوش : دراسات في التسامح، التسامح عماد حقوق الإنسان المعهد العربي لحقوق الإنسان والمجمع التونسي بيت الحكمة – نشريات الشمال - تونس 1995

- يوسف القرضاوي: كلمات في الوسطيّة الإسلاميّة ومعالمها، دار الشروق- القاهرة الطبعة الثالثة سنة 2008

- -----------------: الإسلام والعنف نظرات تأصيليّة دار الشروق– القاهرة 2010

 

III.قائمة المقالات الإلكترونية:

- محمد محفوظ : التحليل الثقافي لظاهرة العنف الديني مركز أفاق للدراسات والبحوث حرر في 5/12/2015

- لبنى الرامي - مولاي مروان العلوي

- فؤاد عاقل : تجديد الخطاب الديني: الاجتهاد نموذجا"- مركز أفاق للدراسات والبحوث حرر في: 31/08/2015

- موقع منظمة اليونسكو www.unesco.org

 

الهوامش

[1]- المعجم الوسيط: ج1 ابراهيم المصطفى، أحمد حسن الزيات، حامد عبد القادر محمد علي النجار: المكتبة الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع اسطنبول- تركيا (د.ت) باب السين مادة (سمح) ص 447

[2]- انظر كتاب رسالة في التسامح: جون لوك، المجلس الأعلى للثقافة 1997

[3]- موقع منظمة اليونسكو: www.unesco.org

[4]- التسامح في الإسلام: محمد أحمد حسونة بك ومحمد خليفة التونسي: الأسس النفسية والاجتماعية في الإسلام مطابع دار الكتاب العربي بمصر محمد حلمي المنياوي ص 29

[5]- ن.م: ص 50

[6]- ماجد الغرباوي: التسامح ومنابع اللاتسامح: ص 16

[7]- عبد الرزاق عيد: سدنة هياكل الوهم/ نقد العقل الفقهي، يوسف القرضاوي بين التسامح والارهاب دار الطليعة بيروت الطبعة الأولى، سبتمبر 2005 ص 210

8- محمد محفوظ: التحليل الثقافي لظاهرة العنف الديني مركز أفاق للدراسات والبحوث حرر في 5/12/2015

[9]- ن.م: التحليل الثقافي لظاهرة العنف الديني

[10]- ماجدالغرباوي: التسامح ومنابع اللاتسامح: ص 70

[11]- ماجد الغرباوي: التسامح ومنابع اللاّتسامح، ص 69

[12]- دراسات في التسامح: ناجي البكوش، التسامح عماد حقوق الإنسان المعهد العربي لحقوق الانسان والمجمع التونسي بيت الحكمة – نشريات الشمال - تونس 1995 ص 9-10

[13]- ن،م: ص 70

[14]- النصّ الديني والخطاب الديني: النصّ هو كل ما ثبت وروده عن الله سبحانه وتعالى وعن رسوله صلّ الله عليه وسلم، وهو فوق المحاسبة أو الإتهام، ويعتبر أصلا لا يمكن المساس به، فهو نص مقدس معجز صالح لكل زمان ومكان، مرتبط بالوحي، يأتي في مقدمة الأدلة الشرعية والحجج الدينية التي لا يمكن دحضها والمنزهة عن كل تحريف وشبهة. لهذا يشكل النص الديني الشكل الثابت الذي يمثل أساس الدين وكنهه سواء كان متعلقا بالعقائد أو بالعبادات أو بالمعاملات أو بالأخلاق. أما الخطاب الديني هو الخطاب الذي ينطلق من الرؤية الدينية مرجعا، فهو ما يستبطنه ويفهمه ويفسره الفقهاء والعلماء من النص الديني أو مصادر الاجتهاد. وهو الواسطة بين الناس وبين القرآن والسنة والتي توضح الإسلام وما فيه من أحكام، فهو طريقة ومنهاج في التفكير والتصور وفي التعبير عن الأفكار والتصورات. وما يميز الخطاب الديني هو معيار الثابت والمتغير ويحكم هذا التمايز كيفية فهمه واعتباره سواء من قبل منتج الخطاب أم من لدن متلقيه، ذلك أنه لا يكتسب من موضوعه -الدين- قداسته وإطلاقه. لا بد من التمييز والفصل بين الدين والفكر الديني، فالدين هو مجموعة النصوص المقدسة الثابتة تاريخيا، في حين أن الفكر الديني هو الاجتهادات البشرية لفهم تلك النصوص وتأويلها واستخراج دلالتها. ومن الطبيعي أن تختلف الاجتهادات من عصر إلى عصر، بل ومن الطبيعي أيضا أن تختلف من بيئة-واقع اجتماعي تاريخي جغرافي عرقي محدد-إلى بيئة في إطار بعينه، وأن تتعدد الاجتهادات بنفس القدر من مفكر إلى مفكر داخل البيئة المعينة. آنظر مقال بعنوان "تجديد الخطاب الديني: الاجتهاد نموذجا"لبنى الرامي - مولاي مروان العلوي - فؤاد عاقل - مركز أفاق للدراسات والبحوث حرر في: 31/08/2015

[15]- ماجد الغرباوي: التسامح ومنابع اللاّتسامح ص 74

[16]- ماجد الغرباوي التسامح ومنابع اللاّتسامح: ص 100

[17]- ن.م: ص 109-110

[18]- عبد العزيز بو مسهولي: مبادئ فلسفة التعايش، أفريقيا الشرق- المغرب 2013 ص 66

[19]- انظر كتاب مبادئ فلسفة التعايش، لعبد العزيز بو مسهولي ص 188

[20]- ن.م: ص 190

 

 

القسم الأول من مشاركة طالبة الدكتوراه عفاف المحضي في الندوة العلمية الدوليّة حول التسامح الدينيّ وثقافة الاختلاف - مركز البحوث والدراسات في حوار الحضارات والأديان المقارنة، مدينة سوسة – تونس، يوم 5 – 10 – 2016م. بعنوان: فهم التسامح.. قراءة في كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح فرص التعايش بين الأديان والثقافات لماجد الغرباوي. وقد نالت على بحثها شهادة تقدير من إدارة الندوة العالمية.

 afaf1

مقدمة: الإنسان هو من يعيش فنّ الحياة. من يبتكر لنفسه قارب نجاة وطريق حياة مشتركة. الإنسان هو من يحيا ليحيا الإنسان معه وليس من يحيا لينفي غيره .. هو من يرسم فن الوجود بكل سماته ووأبعاده الإنسانية والأخلاقيّة التي تعتبر بوابة للتسامح ومبدأ فلسفة التعايش الإنساني في الكون.

 

 ماهو التسامح ؟و كيف نفهمه؟

1. تعريف التسامح لغة واصطلاحا:

لغة: تأتي كلمة التسامح من جذر (س.م.ح) سَمَحَ – سَمْحًا وسَمَاحًا وسَمَاحَةً: فلاَنَ وسَهُلَ ويقال سَمَحَ العودُ وتجرَّدَ من العُقَدِ وانقاد بعد استعصابٍ وفلان: بذل في العسر واليسر عن كرمٍ وسخاءٍ ويقال سمح له بحاجة يسَّرها له. و(سَمُحَ) سَمَاحَةً وسُمُوحَةً صار من أهل السّماحة فهو سَمْحٌ وسَمِيحٌ. وسَامَحَهُ بكذا وفيه أي وافقه على مطلوبه. [1]

مرّ التشكل المفهومي لهذا المصطلح بمرحلتين: تمثلت مرحلته الأولى في الجانب اللّغوي لهذا المفهوم ثمّ اكتسب في مرحلة ثانية بعدًا اصطلاحيا مع التنظير الفلسفي له في البيئة الغربيّة. ويمكن تحديد الفترة التاريخيّة لبروز هذا المصطلح وتشكله في الفكر الغربي منذ النصف الثاني من القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر ففكرة التسامح الغربيّة الحديثة قد ارتبطت في بدايات تشكلها بالمسألة اللاّهوتيّة مع الفيلسوف والمفكر جون لوك "الذي كان ينظر إليها بوصفها "الحلّ العقلاني" لمشكلة الخلافات التي نشأت داخل المسيحيّة أنذاك".[2] ابان العصور الوسطى ولتفادي تلك التداعيات والصراعات المذهبية والطائفيّة والأنساق الفلسفيّة من أجل التوصل الى اتفاق وتوافق بين هذه الصيغ المختلفة والمتعارضة ورتق الفتق الحاصل بينها.

 لا بد من تشكل صيغ جديدة تضمن الوفاق والتسامح بين هذه الاتجاهات المتصارعة تضمن حقوق الإنسان وحرية التعبير لكل الأفراد على السواسيّة دون قيود أو تقديم تنازلات، إلى أن أصبح هذا المفهوم "التسامح" من المفاهيم الأساسية والمركزية في مواثيق حقوق الإنسان، مع صدورإعلان سنة 1948 والذي تَمَّ بموجبه التنصيص على حرية المعتقد والرأي والتعبير، كما بدأ العمل لتفعيله في المنظمات الدولية، إذ أصدرت منظمة اليونيسكو إعلان مبادئ التسامح لسنة 1995 وتبنَّته الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة بتاريخ 16 نوفمبر 1995 بباريس.[3]

 

2. موقف الأديان من التسامح:

"نسمع أصواتا قوية منذ قرن من أهل الغيرة على الإسلام في شتى أقطاره، وتنادي لنعد إلى الإسلام وهي صيحة كريمة جديرة بالاستماع، وإنها لتنتشر وتشتد على مرّ السنين من الغيورين والمتظاهرين بالغيرة على الإسلام ولعل هناك صيحة أجدر منها بالاستماع هي لِنُعِدْ إلينا الإسلام وبين الصيحتين فرق يفقهه من قدر عليه"[4] ولابراز البناء الصحيح للإسلام لابد من أن ننزع عنه الطبقة المتحجرة الخبيثة التي رنت على أسسه بنوع من التغييب للأصل وتغيير حقائقه من رفق وحلم وعفو رحمة وتعايش سلمي وتسامح وتكافل وغيرها من السمات الإنسانيّة والأخلاقيّة...

 فالخواء الروحي ليطبق على العالم في عنف والأمم تضطرب في كل مكان والنظم القديمة كلها تتصدع عن قصد وعن غير قصد وأصحابها يخربونها بأيديهم وبأيدي غيرهم ويظهر أنّ البشرية تتقارب وتتجه نحو الوحدة العامة.. فما لم تتقدم رسالة روحيّة من الرسالات القديمة لسدّ هذا الخواء متحفظة بجوهرها الصحيح الملائم للفطرة الإنسانية منسلخة من قشورها وأعراضها البالية ولن تكون هذه الرسالة إلا الإسلام – فلابد من ميلاد رسالة جديدة تلائم الوحدة العالمية المنتظرة، وإنها لعلى الأبواب فما هذه الاضطرابات من حروب ونحوها إلّا أعراض حمل الإنسانيّة لهذه الرسالة وإنّ تتبعها المحموم لأظهر أعراض المخاض وما أسرع الطلق فيخرج الوليد الموعود."[5] لتاريخنا المعاصر الذي شهد ويشهد تغيرات شتى ومستجدات عدة متسارعة النسق مضطربة ومتخبطة المسار.

 إنه إشكال التجديد، أمام ما يشهد به العالم اليوم من مظاهرَ للعنف والاحتراب الذي يستدعي منا جميعا ضرورة العودةَ إلى الذّات لمراجعتها ونقدها في أسسها وثوابتها الداخليّة، والوقوف على مواضع الخلّل فيها لتقويمها وتصحيحها ومعالجتها، ثم الارتكاز إلى قيّم جديدة تستبعد بعض مظاهر الكراهيّة والشرور النفسيّة المتفشية بين الجماعات الإنسانيّة وبين الأمم والشعوب، لتنفتح على قيّم أخرى إنسانيّة والدينيّة كونيّة. وإنّ هذا الغرض والغاية لبلوغها ونيل شرف مرتبتها وقطف طيب ثمارها قد يتطلب منا وجميعا على حد سواء الغوص في أعماق فكرنا وعقيدتنا بحثًا عن الجذور المشكلة بيننا كإنسان.

 إذ لم يعد أمام الشعوب الإسلاميّة خيارٌ للحدِّ من هذه العدوانيّة، عدوانية ثقافة الموت والاحتراب والعداء والإقصاء المتفشيّة في كلِّ مكان في الأمصار العربيّة الإسلاميّة سوى خيار وحيد هو تبنِّي قيّم التسامح والعفو والتصالح والمغفرة والرحمّة والأخوّة والسلام، فعمق الحاجة إلية اليوم مع تصاعد وتيرة العنف والإرهاب أصبح مطلبا ملحا لتأخذ فيما بعد وبصفة تدريجيّة أشكال الدعوة إلية صورا مختلفة من التساوق وحوار الحضارات والثقافات وتواصل الأديان "لنزع فتيل التوتر وتحويل نقاط الخلاف إلى مساحة للحوار والتفاهم، بدل الاقتتال والتناحر. وهو عمل صعب يستدعي جهودًا يتضافر فيها الخطابُ الإعلامي مع الخطاب الثقافي والديني والسياسي والتربوي، ويتطلب تعاوُنَ الفرد مع المجتمع، والشعب مع القانون، والدولة مع الدستور.

 إنه عمل جذري يستهدف البُنى الفكرية والعقائديّة والثوابت والأعراف للمجتمع، لإعادة صياغتها صياغة عقليّة تضع أمامها الأولويات والوعي، وتقديم فهم عصريٍّ للدين والرسالة والهدف الأسمى تحقيقه، دونما أن تتجاهل الجانب النقدي المهم والبناء للمفاهيم والقيم والسلوك البشري، لرسم مستقبل أفضل ونوعي لفرد جديد والشعب متكافل مترابط الأوصال والوطن مزدهر ينعم بالسلام. قراءة متفهمّة للتراث ومستوعبة لأدق تفاصيل التاريخ، وعودة إلى القرآن والعقل، لتحقيق فهم آخر للحياة والعمل الإنساني

فالتسامح ليس نسقا فكريا مجتمعي بل هو نسق فكري وثقافي وعقيدي. فالتسامح ليس مجرد مفهوم يراد استنباته ضمن النسق القيّمي للمجتمع وإنما هو نسق ثقافي وعقيدي مغاير له أليته في العمل وأسلوبه في التأثير ومنهجه في التفكير وطريقته في الاشتغال فلا يمكن سيادة قيّم التسامح ما لم تكتمل جميع مقدماته.[6]

بالتركيز على الدين الإسلامي كمرجع في صياغة انساق التسامح محاولة لاستنطاق النّص المؤسس والنصوص الحواف في جهودها التفسيريّة مع مراعات المرحليّة التاريخية والظروف الحافة بها عبر التاريخ. كما أراد من خلاله ماجد الغرباوي أن يسافر عبر حقبات التاريخ مع النصّ والتفاسير التي تعاقبت عليه بنوعيها الحرفيّة منها والتجديديّة العقليّة من أجل التوّصل إلى منظومة مفاهيميّة يمكن توظيفها في صياغة النسق الفكري والعقيدي للتسامح الإنساني على إختلاف أجناسه وأطيافه المكوّنة له. فالتسامح لا يمكن أن يكون إلا قيمة دينيّة قبل أن يكون قيمة أو سمّة إنسانيّة.

 الدراسة ركز صاحبها فيها على أهم أسباب وأشكال التعصّب ومنابع اللاتسامح العقدي والسياسي والطائفي والقبلي في المجتمع وقد اعتمد العراق كنموذج للتعدد القومي والديني والمذهبي والطائفي والعِرْقِيّ. محاولة أو أملا في البحث عن صيغ جديدة وأطر جديدة للتعايش المجتمعي تستوعب تلك التناقضات وهذا التنّوع.

 إننا اليوم أمام إشكال كيف ننقي هذه القيمة الدينيّة من الشوائب الثقافيّة التي فرضتها التراكمات من المواقف الشخصيّة أحيانا عبر التاريخ من اجتهادات شخصيّة وحماية لمصالح استبداديّة سياسيّة التي تحولت مع مرور الزمن إلى أنساق عقائدية ومعرفية تمارس سلطتها على العقل وتتحكم في سلوكات الأفراد والجماعات.

لابد لنا اليوم من التركيز أساسا على أهمية دور المراجعة وإعادة قراءة تراثنا ومعارفنا لإكتشاف مراكز القوة ومواطن الضعف والخوّر بعيدا عن القراءات الأحادية للنّص المؤسس والحذر من القراءات التي تنادي بالوسطيّة ظاهرا والتعصب باطنا والمتجذرة في العقل الفقهي أساسا فهل يمكن للعقل الفقهي أن يكون وسطيا موضوعيا بالشكل السوي للمفهوم؟

"على هذا فإن الوسطيّة التي يدّعيها بعض فقهاء العصر كالقرضاوي لا صلّة لها بمفهوم التسامح والاعتدال المتداول في الحقل الدلالي لأدبيات عصرنا الراهن والحديث فكريا وثقافيا وسياسيا بل هي "وسطية" الوقوف في الوسط بين الاعتدال والتطرّف أي النوسان بينهما وفق المصلحة التكتيكية و(الأهواء والمصالح السياسيّة)، مصلحة اللّحظة الراهنة والموقع فيتخطّر بين الضفتين فإذا كان وضع الحركة الإسلاميّة لا يسمح باستخدام سيف العنف فإنه يلجأ إلى استخدام سيف التسامح وهو في كلتا الحالتين لا يتجاوز "حدّ مفهوم السيف" فكلاهما غزو في الخطاب الفقهي العنف والتسامح أو الحب والسيف بحسب حسن البنا، فإذا كان الوضع يتطلّب التسامح فإن الأمر في غاية البساطة إذ ما علينا سوى أن ننبش في كيس التراث حتى نستحضر ما تيسر لنا من محفوظات مناسبة لحالة التسامح. ففي السنّة النبويّة يواجهونك مباشرة بذلك الأعرابي الذي بال في المسجد وهمّ به أصحاب النبيّ ليمنعوه فأمرهم أن لا يقطعوا عليه بولته وأن يصبوا عليه ذنوبا من ماء قائلا: "إنما بعثتم ميسّرين ولم تبعثوا معسرين."

 تواجهك هذه الواقعة عشرات المرات في كتب القرضاوي (خطابنا الإسلامي في عصر العولمة ص 143) وآلاف المرات في كتب الفقه (ككلمات في الوسطية الإسلاميّة ومعالمها وكتابه الإسلام والعنف، نظرات تأصيليّة) التي تنقل عن بعضها لبعض حتى يكاد أن يكون هذا الأعرابي أشهر "بوّال" في التاريخ."[7] وكأن بهذه الحادثة قد مثلت أفضل أنواع التسامح وأشرفها في التاريخ الإسلامي. أمام هذه المغالطات لابد لنا اليوم من أن نعي جيد أنّ علم الأصول يستدعي الانطلاق من القرآن نحو السنة وليس العكس لتقديم وعي جديد للحقيقة الدينية وللأسس الأخلاقيّة الإسلامية.

 afaf2

3. أسس التسامح وأثرها في التعايش الإنساني:

التسامح سلم من الدرجات المتنوعة يبدأ من الديني ثم السياسي ليتشكل في مظهر اجتماعي بين الأفراد والمجموعات والأمم التي تحترم حقوق المواطنة وتضمن سيادة القانون والإعتراف بالتعددية المرجعيّة من أجل إعادة تشكيل قيم التفاضل بينها إن وجد خلل فيها حسبما تقتضيه الحاجة الإنسانيّة لمبدأ التعايش في الوجود، ولأن الوعي بسياسة العنف التي هي سبيل لخلق اللاتسامح والتعصّب القبلي أو السياسي في المجتمع ليكون العنف كعقل وخطاب وثقافة داخل مجتمع ما.

 لهذا قدّم الغرباوي طرحا جديدا للمسألة يقوم على ضرورة التحوّل في مفاهيم القيّم وطرح التفكير كبديل للتكفير، بوضع استفهامات ضرورية لتجاوز هذه الأحداث والظواهر التي فتكت بالمجتمعات الإنسانيّة. هو سؤال كيف نجتث ثقافة العنف؟ تكون بعدة أشكال منها: الولاء للوطن بمعنى الاخلاص الشامل. أما سؤال كيف يعاد تشكيل العقل الإنساني بشكل يرفض فيه العنف فإن جوابه يتطلب الحاجة إلى "منظومة قيميّة تحلّ محلّ النسق القيّمي القديم السائد". الذي ولّد خطر أن يتحول العنف إلى منهج في تفسير التاريخ وقراءة الأحداث وبذلك يتحوّل إلى عامل ضروري وأساسي في صناعة التاريخ وأسلوبا فريدا في حل الأزمات و تسوية الخلافات. وإنّ واجب المثقف النوعي وعلماء الأمة الأكفاء اليوم أن يولوا وجوههم تجاه البحث عن أصول العلاقات التي ترتبط الظواهر التاريخيّة للعنف بالتسامح وتجديد القراءات وتفسيرات لقيم الدين التي تشرع ممارسة العنف ضد الآخر.

لقد كشفت رؤية الغرباوي النقدية حجم المعاناة التي تعيشها مجتمعاتنا العربية. مما استوجب في نظره تقديم قراءة متأنيّة وجذريّة لأسس التسامح السائدة في واقعنا العربي المتورّم .. قراءة مبنية متماسكة الجوانب تقوم على دراسة شاملة لتشكل قفزة نوعيّة في محاولة منه لإخراج المجتمع العربي الإسلامي من أزماته ونكباته المُتراكمة المتتاليّة. وهذه الموقف ليس بالجديد عليه إذ دعا في بحوثه ولقاءاته الصحفية المنشورة في المواقع والصحف الإلكترونية وبصفة خاصة كتابه الذي نتناوله بالشرح والتعليق في بعض مسائله إلى ضرورة فهم الظواهر التاريخيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والأنساق الفكريّة المتأزمة ومربكة لإستقرار اللأرضيّة العربيّة، كاشفا من خلاله محاولاته لتفسيرها والوقوف على أهم أسبابها وظروف تشكلها في الواقع والتراث محاولا قدر المستطاع تبيّن موطن الداء وخلق الترياق المناسب لمعالجتها معالجة شاملة بوسائل ومناهج قانونيّة دستوريّة شرعيّة بالمعنى السياسي لا بالمعنى الفقهي الشرعي وبما يتلائم مع الأعراف الاجتماعيّة العامّة والخاصة، التي لا تتعارض وسماحة قيّم الإسلام، لايجاد حلول لمشكلات حياة الإنسان والمجتمع العربي وانتشاله من سقط الواقع المتأزم الذي يعيشه.

كما دعا أيضا إلى ضرورة الإستفادة من التجارب البشريّة المتنوّعة عبر التاريخ، وتحري الموضوعيّة والمصداقيّة في البحث عن وسائط وأنساق جديدة بديلة ترفع من مستواه السلوكي في مستوى الكم والنوع، وهو ما سيساعد على تطوّر فكره الاجتماعي وتنمي شعوره الديني والمذهبي نحو أفق أشمل وأوسع هو أفق الكونيّة الأرحب لتزيد من نسب التعايش كأفراد مختلفين في مجتمع ورقعة جغرافية واحدة كان التاريخ عاملا في استمرارية تلك الوحدة التي يتوق اللإنسان إلى أن تكون أكثر صلابة واصرارا على اعتناقها وكسب ملكيتها. من خلال بلورة حديثة لتلك الأسس الرخوة وإعادة بنائها بانسجام وحذر لتساهم في خلق مجتمع أكثر تناغم وتعايش، يحتقر ماضيه في زواياه المظلمة ويداوي جراحه بعقاقير ملائمة لأورام زمانه ويلملم شتاته بهمَّة وعقلانيّة، ليتطلع بثبات نحو مستقبل أفضل وإنهاء موجبات العنف والاقصاء والهيمنة والقوّة المباشرة وغير المباشرة. لخلق تصوّر صحيح عن أسباب القريبة والبعيدة لظاهرة اللاتسامح.

 "فما يعيشه العالم العربي من انفجار لهوياته الفرعيّة وتشظيه بعناوين طائفية ومذهبية وقبلية وجهوية، هو نتاج طبيعي لبعض الخيارات السياسية والاجتماعية التي سادت في العالم العربي، وعملت عبر وسائل قهرية لتغييب حقيقة التعدديّة الموجودة في المنطقة العربيّة..."[8] "فالذي يفجر الكنائس في العراق أو مصر أو أي بلد عربي آخر، ليس هو الأجنبي، وإنما هو التيار العنفي – التكفيري الذي بدأ بالبروز في العالم العربي" وإن اختلفت حقيقة الأيادي التي تقف وراءه وتحركه نحو أهدافها العدوانيّة المرضيّة."[9] رغم أنّ البحث في الأسس الأولى للمناهج الثقافية والدينية التي خلقت هذه الظاهرة "الهجينة" وأقول هجينة لأنها لا ترتبط بأسس دينيّة عقيديّة صحيحة بل هي وليدة تفسيرات وتحليلات دينيّة تاريخيّة تساير السياسات التي كفلت مشروعيتها التي عملت في مشروعها على تغييب واقصاء ثنائية : "نحن وهم"

حقيقة لا مناص منها أنّ واقع المجتمعات العربيّة اليوم لا زال مفتقرا إلى المعرفة الدقيقة والواقعيّة لمصطلح أو مفردة التسامح رغم أنّها دُشِّنَت في مطلع هذا القرن في السجال الذي حصل بين فرح أنطون ومحمدعبده، في المعارك الفكريّة والسياسيّة التي تطالب اليوم وأكثر من أي وقت مضى بفتح باب الاجتهاد، في مجال دراسة الموروث الديني والثقافي، فهل نستطيع القول اليوم إنّ هذه المعركة التي لابد منها لم تعد قابلة للتأجيل أو التأخير أو محاولات الطمس والتغييب على العقل العربي؟ مع أنّ معطيات متعددة في الواقع العربي الراهن تقتضي منّا بلورة اجتهادات جديدة تمكِّننا من إعادة استثمار الدلالة الجامدة والسطحيّة السابقة بدلالة رمزيّة ومفتوحة للمفهوم؟

لكن يبقى السؤال الأهم: هل يوجد في عالمنا تسامح لننظّم له ملتقانا الفكري أم أنّ غيابه اليوم يدعونا لتنظيم ندوات علميّة للتذكير بجوهر مبادئه في بعض السطور المكتوبة لتلقى في ندواتنا ومؤتمراتنا وملتقياتنا وتنسى أو تنتهي بانتهائها أم أنّ الوعي بخطورة الوضع العالمي اليوم تحتم علينا ضرورة مراجعة ذواتنا ومعاملاتنا تجاه أنفسنا وتجاه الأخر في نطاق مبادئنا الصحيحة التي وضعها لنا الإسلام الأول وأقصد بمصطلح الإسلام الأول الإسلام الذي دعا إليه سيد الخلق سيدنا محمّد صلّ الله عليه وسلّم وليس إسلام التأويلات والقراءات الذي تعيشه بعض الفئات المتطرفة دينيا في العراق وسوريا وليبيا والتي أحدثت في الأرض فسادا عميقا نسأل الله السلامة من شرّ ما يحدثون.

التسامح ومنابع اللاتسامح، الضد النوعي للاستبداد، تحديات العنف، وغيرها، بحوث جلها إنبثقت ضمن مشروع وهدف أعمق وأبعد هناك تخطيط واضح في الأفق تلحقه محاولات للتأسيس، هناك هدف أكبر وأسمى من المفكر العراقي ماجد الغرباوي وسعي حثيث وملموس لمشروع ثقافيّ حضاريّ مؤسس. أي أن هناك شيئا لا يستطيع القارئ معرفة ماهيته تحديداً، أكثر من كونه حتى يأخذ مكانه التربوي في الساحة الإجتماعية والوطنيّة ودوره الطبيعي في مجالس العلم وساحات الفكر والمعرفة ليساهم من قريب أو بعيد إن قليلا أو كثيرا في خلق تطوّر ثقافي جديد جميع المجالات الوطنيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة.

يتبع القسم الثاني

 afaf5

boutheina bouguerraمنذ سقوط بغداد على يد التتار وما زالت الثقافة العربية في سبات كسبات أهل الكهف بعد أن فقدت قدرتها على التأثير في الثقافة العالمية منذ عهد طويل، فلم تعد في أعين العالم سوى منطقة استهلاك لنتاج الآخرين وعبئا يعيق التقدم الكوني، لذلك رموها بالتخلف والجمود.

لقد بات من الضروري التخلّص من براثن وسلبيات الوضع الثقافي الموروث الجامد، ومواصلة التجديد، باعتباره ضرورة لا ترفا، وحاجة لا غنى عنها لضخ دماء جديدة في شرايين الثقافة العربية كي تصحو من غفوتها الطويلة وتصبح فاعلة ومؤثرة في الثقافة العالمية.

في هذا الإطار يجب التمييز بين أسلمة الحداثة، التي تعني إضفاء صبغة إسلامية على مفاهيم مستوردة،يراد استنباتها داخل المجتمع الاسلامي، فأنتجت واقعا مشوّها، غير متجانس مع خصوصيته. وبين تحديث الإسلام الذي يعني فهم الدين فهما عميقا وتطويعه لخدمة الواقع كي يتماشى مع الظروف الزمانية والمكانية. فالتجديد المنشود هو تحديث الإسلام لا أسلمة الحداثة. يقول الاستاذ ماجد الغرباوي في كتابه إشكاليات التجديد: "عندما نريد النهوض علينا مراجعة ثقافتنا وتحليل مكوناتها كي تنبثق من داخل بيئتنا وتنسجم مع ما نحققه من تطور علمي وتكنولوجي، بهذه  الحالة فقط يتحقق الانسجام الأخلاقي بين المنجز العلمي وقيم المجتمع"(1).

ويجب التأكيد أن التجديد ليس حلما صعب المنال، بل ممكنا وسيغدو حقيقة واقعية بعد خوض معارك طاحنة لا مفر من خوضها ضد من يمثل عائقا أمام صحوة الثقافة الإسلامية

في هذا الإطار، جاء كتاب "إشكاليات التجديد" للأستاذ ماجد الغرباوي ليقدّم فهما جديدا لمجموعة مفاهيم ترتبط ارتباطا عضويا بمسألة التجديد ومستقبل الثقافة الإسلامية. حيث عالج ضمن هذه المفاهيم وضع المثقف الإسلامي في ظل واقع يتسم بالاستبداد وكثرة التحديات. وسأحاول في ضوء هذا الكتاب استعراض جملة قضايا طرحها مؤلفه من خلال أربعة نقاط مهمة وهي كالآتي:

1- تحديد مفهوم المثقف.

2-  ضبط الأدوات الثقافية.

3- تحليل الواقع.

4- رسم ملامح الواقع المنشود.

أولاً: تحديد مفهوم المثقف

النقطة الأولى تتعلق بتحديد مفهوم المثقف. حيث أن الإجابة عنه ليس أمرا هينا، وذلك لعدم وجود تعريف واحد ودقيق للمثقف متفق عليه، لذلك جنح الأستاذ الغرباوي عن تعريفه لضبط معاييره المتمثلة بثلاث نقاط وهي: اكتساب المعرفة الضرورية، والتمتع بالوعي الكافي، والتسلح بجرأة الموقف، يقول المؤلف: "من خلال السياق التاريخي لنشأة مصطلح (المثقف) وما يختزنه من دلالات يتضح أن مفهوم المثقف يتكون من ثلاثة عناصر (معرفة، وعي، موقف) تتشابك فيما بينها لتصوغ شخصيته، وعندما يتخلف أحدها يفقد المفهوم صدقيته، ويبقى إطلاقه على بعض الناس من باب المجاز، لتخلف الإطلاق  الحقيقي عن شرطه الموجب لتحققه وانطباقه على موضوعه".(2).

وبناء على هذه المعايير، يمكن التمييز بين المثقف وغير المثقف، أو إن صح التعبير "أشباه المثقفين".  وهناك عدة تصنيفات، بالنسبة للتصنيف الأول بالاعتماد على معيار علاقة المثقف العربي بالثقافات المختلفة، حيث يمكننا أن نميّز بين المثقف المنبهر بالثقافة الغربية لدرجة التنكر لمنبته العربي الإسلامي. وبعبارة أخرى، ما تنتابه حالة الانصهار والذوبان في الثقافة الغربية دون مراعاة خصوصية المجتمع الإسلامي، إذ يصف الكاتب حالة هذا الصنف من المتغربين بقوله: "اجتاحه شعور الانبهار بالغرب وحضارته حد الاستلاب والدونية، شعور أفضى به إلى كراهية الذات واحتقارها، بعد اتهامها بالعجز والتخلف والانحطاط. وقد مثلت شريحة واسعة من المثقفين هذا الاتجاه ودعت إلى تبني قيم الغرب والذوبان فيه. وهو توجه خطير يكرّس التبعية المطلقة، ويعمّق الشك بالقدرة على تجاوز المحنة ومعالجة أسباب تخلفها، لاسيما عندما يصطدم الفرد برفض الآخر فإنه سيعيش حالة من الاغتراب يصعب معها الاندماج الكلي أو التراجع الفعلي كما بالنسبة للجاليات المقيمة في الغرب" (3).

يقابل هذا الصنف من الناس صنف آخر يشبهه في تطرفه، وهو المثقف، الأحادي الثقافة، المنغلق على خصوصيته، والرافض لكل ما هو مغاير وجديد، يفضّل الجمود الثقافي على التنافس المثمر مع الثقافات الأخرى. وهذه حالة سلبية مرفوضة، إذ "يُفترض – كما يقول مؤلف الكتاب - أن لا يكون المثقف أحادي الثقافة، لا يرى إلا بعين واحدة، يقرأ من خلالها الأشياء، ويقيّم في ضوئها الواقع، فينحجب عنه الوجه الآخر من الحقيقة وتختلط لديه الأوراق حد الرفض لأي فكر يتقاطع مع رؤيته".

ويضيف: "الثقافة الأحادية يمكن أن تكون أشد خطر على الإنسان من الجهل، لأن الأخير سرعان ما ينقشع بالتعلم والمعرفة، في حين يكون الأول محجوبا عن رؤية التزوير والخطأ في الوسط الاجتماعي، وربما يكرس الخطأ لاعتقاده بصوابه ويدافع عن الباطل لأنه حق في نظره، وهذا الصنف من الناس أول من يشهر سيفه بوجه المشاريع الإصلاحية"  (4).

فكلا هذين الصنفين لا يقدمان إضافة للثقافة الإسلامية وإنما يسعيان إلى ترسيخ الركود الثقافي، لكن على خلافهما يوجد صنف معتدل وهو المثقف الذي يحافظ على الثقافة الإسلامية لدرجة حماية خصوصيتها وينفتح في نفس الوقت على الحضارات المختلفة للإثراء والتقدم والانفتاح.

أما بالنسبة للتصنيف الثاني بالاعتماد على معيار الجهة التي يمثلها المثقف، فهناك المثقف النخبوي المنعزل في برجه، الذي لا يمثل إلا الفئة النخبوية التي لا علاقة لها بمشاكل العامة. كذلك هناك مثقف السلطة الحاكمة، الذي يبرر ويشرعن أفعال الحاكم، حيث يصف المؤلف مثقف السلطة في كتابه: "عمله تسويغ ممارسات السلطان، وإن اقتضى ذلك تزييف الحقائق أو استخدام وسائل غير مشروعة، فهو إنسان مهزوم في داخله وأسير للإرادة السلطانية". (5).

 فهذان الصنفان مضران بالمجتمع العربي الإسلامي ولا يتميزان بالأمانة والجرأة اللازمة في التعبير عن مشاكل المجتمع، وهي السمات التي يتمتع بها مثقف الشعب، أو ما اصطلح الأستاذ ماجد الغرباوي عليه بـ "المثقف الرسالي" الذي يحمل هموم الشعب ويدافع عنها بشجاعة. ومن الصنف الأخير يمكن ذكر مثقفين كانوا منارة للحق وشوكة في وجه الظلم والاستبداد كالإمام جمال الدين الحسيني المعروف بالأفغاني والإمام الشهيد محمد باقر الصدر والسيد الكواكبي...

ولقد ساق الأستاذ ماجد الغرباوي ملاحظة جميلة تقول: بأن صفة المثقف الرسالي ليست حكرا على أشخاص معينين تنتهي مهمتهم بوفاتهم إنما هي مشروع مستمر يمكن تمثله إذا ما توفرت شروطه.

 

ثانياً: ضبط الأدوات الثقافية

النقطة الثانية تتعلق بالأدوات والتقنيات التي يعتمدها المثقف في إحياء الثقافة الإسلامية وكيفية تجديدها لتكون فاعلة، فيقول الغرباوي في هذا الصدد: "المقصود بالتجديد تحديث أدوات التفكير عبر مناهج ونظريات حديثة لإعادة النظر بجميع اليقينيات والمقولات الأساسية من أجل فهم جديد للدين ومقاصده وغاياته ومبادئه ومعارفه في ضوء تطور وعي الإنسان وقدراته العلمية والمادية، استجابة لتطورات العصر ومقتضياته، ومعرفة حدود الدين والمائز بينه وبين الفكر الديني، والتفريق بين الإلهي والبشري أو بين المقدس والمدنس"   (6)، ويؤكد الكاتب على الأسلوب النقدي، حيث يقول: "فمن يروم التجديد عليه ممارسة النقد بأقصى مدياته، فلم يعد التمسك بالعادات والتقاليد والتشبث بالماضي خيارا مقبولا"(7). لكل ما هو وضعي وذلك بتشخيص نقاط القوة والضعف، وبالتالي التخلي عن أسلوب المسلمات الذي يعني التقبل البديهي لجميع الموروث الإسلامي دون إعمال العقل ودون مساءلة ومناقشة لمدى تجاوبه مع المشاكل الحالية لواقع المجتمع الإسلامي والوقوف على ظاهر النصوص المقدسة دون الغوص في بواطنها، "وعدة هذا اللون من الفهم - كما يقول المؤلف- ظواهر نصوص مقدسة ارتكزوا إلى إطلاقاتها بعد تجريدها من تاريخيتها لعدم إدراك ظروفها ومقاصدها وغاياتها وقياسهم الحاضر على الغائب رغم اختلاف تفصيلاته. فالحكم الشرعي بنظرهم يبقى فعليا رغم تبّدل ظروف موضوعه والأسباب الموجبة له" (8).

وكذلك ضرورة التمييز بين ما هو مقدس الذي يتجسد في القرآن وما صح من السيرة النبوية الذي يجب الالتزام بهما، وبين ما هو غير مقدس بمعنى أنه نتاج عمل بشري على غرار الاجتهادات الفقهية فهي قابلة للمناقشة وحتى للدحض. وهذا ما يجعلنا نتجاوز ما وقع فيه السلف من خطأ شرح الشروح واجترار ما وقع دراسته خوفا من الخروج عن ما هو موجود ومألوف.

بالإضافة إلى الأسلوب النقدي، يجب على المثقف أن يعتمد أسلوبا تحليليا بمعنى أنه ينطلق من الواقع فيحلل المشكلة من جميع جوانبها فيتمثلها جيدا ثم يعرضها على النص القرآني فيحاوره ويساءله حتى يجد لها حلا، ثم باستخلاص الحل يعود للواقع ويطبقه على المشكل المطروح، بهذا يكون القرآن صالحا لكل زمان ومكان.

إن محاورة القرآن ليست ممنوعة، وذلك بدليل أن القرآن في حد ذاته دعا إلى إعمال العقل في تدبر آياته، وهذا ما ذهب الأستاذ ماجد الغرباوي إلى تبينه بقوله" ولا أخال العملية ممتنعة أو غير ممكنة وإنما أُدخلت دائرة الممنوع عنوة وفق مقاييس غير علمية أو إيديولوجية تذهب إلى اختزال الشخصية الإسلامية إلى أداة معوقة لا تجيد إلا الإصغاء والاستماع ومن ثم التسليم والانقياد للغير بداعي الجهل والعجز عن كشف مضامين الآيات أو ربما تحويل القرآن المبين إلى ألغاز محيرة يصعب درك مداليلها أو التكهن بمفاداتها، ليتحول القرآن حينها إلى كتاب سماوي يناقض أهدافه وغاياته".

 

ثالثاً: تحليل الواقع

أما بالنسبة للنقطة الثالثة، فهي تتعلق بالواقع الموجود، حيث أن المثقف يعيش في واقع إسلامي رغم ترامي رقعته الجغرافية إلا أنه أضيق من أن يمثل شاطئا ترسو عليه أفكار تجددية وتحررية وذلك لأنه واقع مليء بالمغالطات وتسوده الأسطورة والخرافات والأوهام. وهذه الظروف تكون عادة ملائمة لعشعشة الاستبداد واستفحاله، فينتج عنها فهم خاطئ، يعتبر أية عملية تجديد بمثابة  تجرؤ على ما هو مألوف وبدعة ضالة، تستوجب أشد أنواع العقاب والقصاص. ويشهد التاريخ على فظاعة وشناعة الوسائل التي اعتمدها رموز الاستبداد في مواجهة رموز الإصلاح(9). ويفسّر هذه القسوة في التصدي للمثقفين بتخوف المستبدين من انتشار العلم المبني على المنطق التي هي وظيفة المثقف الذي ينير الرأي العام ويدفعه نحو المطالبة بحقه في مساءلة من يجرم في حقه، وبالتالي بدا للمستبد من الضروري إخماد صوت المثقف لأن بإخماده إخماد لصوت الحق وبالتالي المحافظة على مصالحه الشخصية الضيقة المبنية عل الباطل.

ولكن ما غفل عنه المستبد هو  أن هذا الإخماد لا يطال سوى الجسد في حين يبقى المشروع الإصلاحي حيا لا يمكن أبدا اغتياله، لذلك مهما صمد تعنت المستبد، مصيره أن يندثر فاسحا المجال لتطبيق ما ناشد المصلحون بتطبيقه.

 

رابعاً: رسم ملامح الواقع المنشود

أخيرا النقطة الرابعة تتعلق برسم ملامح الواقع المنشود، وهو ما يطمح له التجديد في نظر المثقف الذي ينادي به ألا وهو تبني مبدأ الشفافية وذلك بفضح جميع الممارسات الاستبدادية باعتباره السبب الأول للتخلف الثقافي، ذلك التخلّف الذي يشير له الغرباوي بقوله: "يتضافر أكثر من عامل في تكوين ظاهرة التخلف الحضاري، لكن  الاستبداد يبقى المسؤول الأول عن شقاء البشرية وعذابها على طول التاريخ"(10). ويضيف: "و لم يتلاش الاستبداد في العصر الحديث وإنما اتخذ أساليب مختلفة، لم تتغير حقيقته وإن توشح بشيء من الشرعية باسم الدين أو الوطنية أو الديمقراطية، لذلك كان أول عمل قام به المصلحون هو مناهضة الاستبداد وكشف ممارساته المزيفة والإصرار على تعرية حقيقته وفضح أهدافه"(11). من أجل إحلال التعددية محله وخلق مجتمع مدني يلعب فيه المواطن دورا محوريا في تسيير شؤونه العامة، وذلك بتكريس مبدأ الشورى والديمقراطية وضمان حق المعارضة وحرية الرأي واحترام سيادة القانون.

 

جميع هذه النقاط شرحها الأستاذ ماجد الغرباوي بإطناب في كتابه إشكاليات التجديد في الفصل الثالث  تحت عنوان" الموقف من الاستبداد".

في النهاية، أريد التأكيد أن مسؤولية المثقف الإسلامي ثقيلة جدا ولكن رغم ذلك فهو مجبور على تحملها، فقد آن الأوان لكي تعود الثقافة الإسلامية لتوهجها وازدهارها وإلقاء ثوب الخمود والجمود.

 

د. بثنية بوقرة - تونس

...........................

(1) الغرباوي، ماجد، إشكاليات التجديد، ط3، 2017، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا، ودار العارف، بيروت - لبنان، ص 10

 (2) المصدر نفسه، ص50

(3) المصدر نفسه، ص6.

(4) المصدر نفسه، على التوالي: ص52. وص53.

(5) المصدر نفسه، ص93.

(6) المصدر نفسه، ص24.

(7) المصدر نفسه، ص25.

(8) المصدر نفسه، ص7.

(9) ذكر الكاتب في كتابه إشكاليات التجديد شواهد عن محنة المثقف مع السلطات المستبدة، فذكر مثلا:

- المصدر نفسه، ص228: "قضى السيد جمال الدين نحبه بطريقة ما، تخفي وراءها خيانة السلطان عبد الحميد وأبي الهدى الصيادي".

- المصدر نفسه، ص228:" ولم يكن السيد الشهيد محمد باقر الصدر أفضل حالا من الأفغاني فقد تكالب عليه كلا الاستبداديين بضراوة لم يشهد التاريخ مثيلا... أخيرا وضع تحت الإقامة الجبرية وقطع عنه الغذاء والدواء والكهرباء والاتصالات الخارجية وانتهت الإقامة الجبرية باعتقاله وتعذيب استمر 48 ساعة متواصلة، فقضى حياته الشريفة مضرجا بدم الشهادة".

- المصدر نفسه، ص 229: "وعاش الإمام الخميني معاناة طويلة في ظل الاستبداد الشاهنشاهي".

- المصدر نفسه، ص230:" واجه الكواكبي الاستبداد السياسي المتمثل آنذاك بالوالي العثماني في مدينة حلب عارف باشا، فجر عليه ذلك أنواع العذاب، إذ سجن وصدرت أملاكه وفرضت عليه الغرامات الكبيرة وحكم عليه بالإعدام ثلاث مرات كانت الأولى طعنتين ليلا بخنجر خائن شهره عليه أحد جلاوزة السلطة والثانية عندما صدر ضده حكم الإعدام والثالثة وضع له السم في فنجان قهوة فمات مسموما".

- جدير بالذكر أن الأستاذ ماجد الغرباوي قد تعرّض هو الآخر بوصفه مثقفا وصاحب مشروع إصلاحي لملاحقة السلطات الاستبدادية التي دفعته للاغتراب لمدة 37  سنة عن وطنه ومسقط رأسه، بعد مسيرة حافلة بالنضال والسجن.

(10) المصدر نفسه، ص209.

(11) المصدر نفسه، ص 210.

توطئة: إن النزعات التأويلية في تجريد المفردات النصية المقدسة، عمقت أخاديد ذهنية، وراهنت على طوفانها، بمتواليات هندسية معقدة، توحي لنا بمعارف بديلة في حلية جليلة من عوالم منطق القداسة ومقاصده الأصيلة. ومن زخم تلكم المعطيات الفلسفية الميتافيزقية، وتشعب مستويات التأويل والفهم، غارت العقول الأسلامية في أدغال الأحاديث لتقويم ونجدة مدركاتها الذهنية، وتعاطت معها بذات القدسية النصية، وبالأخص إذا ما تحررت أنساقها بمضامين تصب في تيارات مرمى تأويلاتها الفلسفية، وما يخرج عنها تجتهد في تأويله تعسفياً.

من هنا أنطلقت ماكنة الأحتكار الفقهي بمدارسه المختلفة لتُفرِغَها في ساحات مريديها. وقد دأب على هذا المنهج التأويلي للنصوص المقدسة كُلٍ من فيلون وجيروم وأغسطينوس، وهؤلاء حسب إعتقادي هم الذين أحيوا منطق التأويل للنصوص المقدسة، كسفينة إنقاذ عقلية، تصلح لحمل كل أزواج النفوس المهتدية بمنهجها، وبهذا المنهج التعسفي إهتدت اليه بعض الفرق الغنوصية لحل المتناقضات الفلسفية، فرفضوا فكرة الأله العادل وأستبدلوه بالحكمة الألهية، فمن منهج الأسبيتين التعسفي نشأت فكرة الفيض أو الواسطة، أو أن الخالق لايخلق بذاته بل  (بالفيض الفعال) . وكل هذا وفق رأي أوليري* : هو محاولة فيلون لقراءة معنى إفلاطوني في العقيدة اليهودية*. وعليه سارت العقول الفقهائية على مر العصور من حيث تعلم أو لاتعلم .

 من نبع لقاح أزواج العقول ـ العقل في المقدس، وعقل النقل في الأخبار ـ في مركب التأويل التعسفي ـ وبعد أن  أفضى كل زوجٍ بعضه الى بعض ـ  تفجرت قدحات تأويل حروف القداسة في أنابيب الحديث النبوي ، لتلد في كل رحم عصرٍ وليدها بمعونة أخصائي فيض الخالق الأبدي.

 فبين رحى فتاوي وتأويلات الأرباب لكل عصر، طُحِنت الأختلافات وخبزت بدماء معايير العدل وصدق الوحي، حتى تهرأت جدر الأيمان ودب الشك في قلوب المؤمنين، فضاع رب الكل وانتحر كل نبي. فلا خبر جاء ولاوحي نزل . فعدنا الى الوراء الى حضارة الغاب، وحب الذات .

 في حوار بين أوغسطينوس وجيروم: يسأل أغوسطيونس جيروم: ما إذا كانت الحقيقة مخلوقة أم مولودة؟ فرد جيروم على إنها مخلوقة. فقال أوغسطينوس: فلماذا إذن يُعَمِّدها الرهبان؟

بعيدا عن المجردات، فالحقائق هي أفعال من صنع أفكارنا نُعمِّدُها بما يرضينا، فنحن البناؤون، ونحن من يصنع اﻷشياء ويبني في مخياله صور معانيها وقد يتعسف أحياناً كثيرة في تأويل ما يؤمن به ويخدع به نفسه، لتلد له بثوب المفاهيم التي يطمح الوصول اليها، فيظن أن الله صيرها خلقا لنعبدها ونفديها.

مضمون الحوار في كتاب الغرباوي:

56-salakbahia1هو عبارة عن تساؤلات بما تستدعيه إفرازات الواقع المتخلف الملتهب بسلوكيات إجرامية يراد لها أن تظهر انعكاسا للتراث الفقهي المبني على أحاديث وسنن نبوية، تتداخل معانيها بشكل أو بأخر مع صراحة الكثير من الآيات القرآنية، المراد لها أن تُفهم، كأيات سيف معتدية .

 يحاول الكاتب الغرباوي، أن يرسم الخط البياني لأسباب التخلف الحضاري والبناء الأنساني للمسلمين في جغرافيتهم العربية، للوصول الى مصل مفهومي يرقى الى سبل الشفاء من سرطانات نهشت بأوردة دماء العقول البشرية العربية الأسلامية بالأخص.

فمن بين أدخنة المفاهيم وثقافة الفقهاء المبنية في الأجتهاد على معايير القياس بشهادة القال والقيل كأساس. ولدت الخرافات وعنف الأحكام بما يكفي لتشويه رسالة السماء وخنق الأنفاس. زد عليها أتربة طائرات الأغاثة الجوية المشحونة بثقافة البحوث العلمية العربية والاسلامية الصبغة لأحياء وبث حرارة روح النهضة الفكرية والعلمية الأسلامية في عروق الدول الأوربية المتجمدة عقلياً.

 لذا أصبح  من الضرورة بمكان، فتح ابواب الحوار الجريء حول جذور ثقافة الحضارة العربية والأسلامية وحقيقتها بالنوع والكيف ومقدار صدق الأثر، لشد حزام الأمان ولضمان الهبوط على أرض صلبة بسلام قبل أن تطين السماء أرضنا ليبتلعنا مثلث زلازل الأمطار في أرض حضارة الأدغال.

 يصادق على آراء وردود المفكر الغرباوي في المجمل العام، صور إرث حاضر المسلم العربي والعراقي بالأخص بكلا جناحيه العلمي والتربوي الخلقي الأنساني ـ (لاندخل في حساباتنا المنطقية بلدان عربية إسلامية انقلبت حضارتها بقدرة قادر من الهوش الى الماكنتوش) ـ فالتخلف حاصل  في البناء التربوي الإنساني الذي نتج عن تعاظم  التهابات الزوائد الدودية من جراء إفرازات المأكولات التاريخية النتنة، لتحل كممارسات في سلوكيات وفقه بعض الفرق الإسلامية. بل وتتجاوز بعض الطوائف المتأسلمة بفقهها الى شرعنة تصعيد ضغط الدم لتتفجر أجساد طائفتها بصكوك فتاويها الفقهية على مخالفيها مذهبيًا ودينيا. لم يكن هذا الحاصل هو لغياب كتاب (اميل) لجان جاك روسو عراقي أو عربي إسلامي فقط، وإنما لغياب حرية النقد والتفكير وإعمال العقل وإستقلاله، خارج فلك مرجعيات فقه صحاح التربية والتعليم .

من لهيب هذه النيران الاجتماعية الإسلامية، يخرج علينا السائل سلام السماوي من جعبته أسئلة فكرية، وبماراثون الحوار وقدحات زناده الفكري، يحاول المفكر الغرباوي ان يحرق شيئا من شحوم الأحباط النفسي، والتخلف الحضاري، وما تمخض عنه من صراع مرير جوّال، يزداد عليه كل يوم حجم الأقبال. 

أهمية الكتاب بمضمونه العام:

 يعد الكتاب، محاولة هامة وجادة، لأقتلاع الخلايا المدمنة على فقه السياسة والتقليد الأعمى، من سلطةـ الوارثين عنوةً للحاضر والمستقبل ـ الى دين الأنسان المتعقل الحر، بما أمرت كتب الله المقدسة ورسله على مر الزمان.

 نلخص بعض ردود الغرباوي (وبتصرف مني بالسؤال والجواب) في إطار المعقول في هذا المقال. فمن اسئلة المحاور السماوي قال:

 هل اختلف المسلمون في تشخيص اسباب الهوة الحاصلة بين الحضارة الغربية والإسلامية، كما وما هي مردوداتها السلبية، وسبل العلاج للنهوض منها؟

يجيب الغرباوي: بالإيجاب عن وقوع  الأختلاف في التشخيص، ثم بشيء من التفصيل والتحليل، تناول مسألة الإنبهار بحضارة الغرب والشعور بالدونية وتبعية الذات. كما وشجب ثقافة الداعين الى اﻹندماج التاح حد الانسحاق وعده بالأمر الخطير: لما له من تداعيات سلوكية ونفسية، تؤدي بدورها الى حالات انفصام إجتماعية وثقافية.

 ثم يواصل الغرباوي التوضيح والتحليل بقوله:

إن المشكلة الثقافية أعمق من تبني قيم الأخر، وتداعياتها أخطر على السلوك والمشاعر، وهذا السلوك لايساعد على تجاوز عتبة التخلف، أو بناء حضارة تمثل قيمهم وهويتهم.

في هذا الكتاب  تجد الكثير من الأسئلة الرائعة والأجوبة الماتعة، والتي تعد إنفلاتا من عتمة القيود، الى مسارات الحرية الفكرية ولكن لايعني هذا أن كل الردود نتفق معها بالتفاصيل فلربما عندي أو عند غيري لاتصح أومنها ما نتوقف عندها لنقصان الأستشهاد بالدليل، لكن الأمر في التعريف عن الكتاب لا يستوجب النقد أو تصيد الأخطاء أكثر ما يدعو للتفكر والبحث والحوار مع الباحث الجميل. لذا اكفتي بما قدمته كي لا افسد متعة قراءة الكتاب بالأكثار من أمثلة ضروب الحوار. كما وأثني على مقدمة السماوي الأدبية الجميلة وثقافته الرصينة، وبالمثل على للبروفيسور الصائغ،  والدكتور صالح الرزوق.

الكتاب: إخفاقات الوعي الديني.. حوار في تداعيات النكوص الحاضري

ماجد الغرباوي

حاوره: سلام البهية السماوي

 ***

علاء هاشم الحكيم

٢٠١٦ـ ١٢ ـ ١٦

....................

* الفكر العربي ومكانه في التاريخ. ص ٣٠ ، ٣١ .

يبدو اثر الفكر الروحي في أدب ماجد الغرباوي واضحا من خلال تأثره بالقران الكريم بخاصة ما يرسمه من لوحات فنية سواء في نصوصه المسماة " قصائد نثر" او نصوصه النثرية التي تزاوج بين القصة والسرد القريب من المقالة والخاطرة وهو مزج يدل على ان الأنواع الادبية يمكن ان تتلاقح حيث تزول الحدود بينها.

 والذي يطالع العنوان يجده ايضا مستوحى من القران الكريم فعنوان القصة جزء من اية وردت في سورة القمر " اقتربت الساعة وانشق القمر" فأجد ان الكاتب تصرف تصرفا ذكيا باختياره الجزء الثاني من الآية لان قصته او نصه الادبي اعتمد على زمنين هما زمن مباشر وهو زمن النص وزمن متتابع هو الزمن الموسيقي الكامن في النص والذي سندخل في تفصيلاته بعد قليل.

نقول ان القدامى انفسهم وقعوا في أشكال الزمن فنسبوا الى امريء القيس القول ادناه:

دنت الساعة. وانشق القمر  من غزال صد عني ونفر

من غير ان يعرفوا ان دَنا للمكان واقترب للزمان فنقول قطوفها دانية ومثل هذا الخطا لا يقع فيه شاعر جاهلي مثل امريء القيس الذي عاش قبل الاسلام بحوالي ١٥٠ عاما لذلك كله اختار السيد الغرباوي الجزء الثاني من الآية اذ ان قصته او نصه تتعامل في البدء مع لازمة مكانية فتتجه من الأعلى الى الأسفل بحركة تتوسل التطهير والتحول من الأدنى الى الأعلى.

 لتبيان الحال سأنقل آيات متتالية من سورة كريمة " إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7" حتى أوضح انها تتجه من الأعلى الى الأسفل الشمس ثم النجوم ثم الجبال ثم السهول:النوق والوحوش ثم البحر لياتي دور الانسان ان السورة الكريمة بدأت بأعلى نقطة واتجهت الى الانسان لتذكره ان المكان اصبح الزمن نفسه النفوس زوجت فالحركة من الأعلى الى الأسفل تبدأ من السماء حيث الشمس مصدر النور ومنبعه لتهبط الى أدنى نقطة وهي البحر اذ الماء عماد الحياة هي عودة للسمو من هذا الفهم اعتمد كاتب النص سورة لياخذ بعضا منها فيجعله عنوانا لنصه متحاشيا لوقوع في اللبس لا سيما انا لانميز في عصرنا الحالي بين ما يتجه للمكان وما يتجه للزمان لكنه مع ذلك ينحاز المؤلف للتمييز حين يورد معنى قرآنيا اخر وذلك حين يقول في اخر القصة " ثم أرتفع، فدنا... فكان قاب قوسين او أدنى" مما يجعلنا على يقين من ان الكاتب حصر نصه بين معنيين قرآنيين هما " اقتربت الساعة وانشق القمر" فاكتفى بالجزء الذي هو " وانشق القمر" لدلالته على الكل و " دَنا فكان قاب قوسين او أدنى" ليلتحم الزمان والمكان عبر ثلاثة ازمنة هي زمن النص وهو الذي نجده في قراءتنا لنصه الإبداعي اي الزمن المباشر وكم يستغرق من الوقت ثم الزمن الإدراكي وهو الذي يدفعنا للتساؤل من هي ميامي وكيف انشق البطل عن نصف انسان وتأمل نفسه لنبقى نحن معه ننظر ونتأمل في زوايا النص المتعددة وبؤره وامتداداتها مع ذلك فنحن ازاء زمن متتال او زمن ملحمي يشكل لنا وفق التتابع والتماهي الموسيقي لوحة تتفرق في اكثر من مشهد وتلتم في مشهد واحد انها لوحة تبدأ بالنور ويختمها الظلام " لم يمكث طويلا حتى رأى طيرا أسود، عرفه من حفيف جناحيه .. حالت حلكة الظلام دون معرفة فصيلته" الفكرة حقا تلتزم معنيين روحيين احدهما هبط من السماء الى الارض لينشر الحياة بعد الموت والآخر ارتفع بالانسان من الارض الى السماء فكان قاب قوسين او أدنى وبين هاتين الحركتين أصبحنا نحن المتلقين نعيش أزمان التتابع والمباشرة والإدراك ليحقق الكاتب بينها جميعها فيما بعد حركة نصه في المشهد الاخير ، " استغيث، لا أجد لصدى دموعي سوى جثة هامدة، ولما اقتربت منها، سمعت صوتا هامسا:

أنتبه ..

هذا ..

سر نجاتك!!"

فالكاتب اخيرا جعل نفسه مدار الإدراك في حركة يخيل إلينا انها أفقية لكنها تحمل معنى الارتفاع والعلو فأي طير هذا الذي يتشح بالسواد ويخطف من جثة كلمة يطير بها ؟

ان هناك شرطا مهما هو ان نفهم الازمنة الثلاثة : المباشر، والمتابع، والإدراك ومن خلال التلاقح والتفاعل الزمني ايضا نعود الى سورتي " القمر" و " التكوير" الكريمتين فنجد ان المؤلف وضع حدين لنصه في البداية والنهاية هما الظلمة والنور جعل النور في البدء والظلام في نهاية النص مستوعبا حركة اخرى من الفكر الروحي باطار اخر، عندنا نحن المسلمين وعند اليهود ايضا وكذلك الأسطورة ان الظلام هو الأسبق وقد عبرت التوراة عن ذلك في الآية الاولى من سفر التكوين" في البدء كان هناك ظلام" ويعلل ذلك فلاسفة المسلمين ومؤرخيهم بان الظلام هو الاعم والأشمل اذن في البدء حسب النص الذي بين يدينا ينشق القمر وتسير الاحداث من اعلى الى أسفل وعندنا بعد ذلك بطل النص وميامي معه لكنه ينشطر فيصبح نصفا حيّا ونصفا ميتا هو ميامي ليحل ظلام بعدئذ ينشطر منه غراب(لم يحدد المؤلف نوع الطير لكنه وصفه بكونه اسود ينبثق من الظلام لذلك أميل الى انه غراب) يخطف كلمة ما.

لا شك ان الغراب في المفهوم الديني الاسلامي لايعني التشاؤم كما هو الحال في موروثنا بل يدل على الحكمة لانه هو الذي علم ابن آدم كيف يدفن اخاه وهو المفهوم ذاته عند سكان شمال اوروبا حيث ان الغراب رمز للمعرفة والأخبار.

ان النص بلا شك ذو مخزون جمالي ومعرفي وقد صيغ بأسلوب فني جميل شرط ان نفهمه زمانيا بأزماته الثلاثة المباشر والمتابع وزمن النص لندرك حركته العمودية التي انبثقت عبر الزمن من روح كاتبه.

وانشق القمر / ماجد الغرباوي

خرج على غير عادته .. تتبع حركة السواقي والأنهار .. بهرته الطبيعة بسحرها .. استدرجته .. حتى غاص في أعماق الحقول المجاوره، وتغلغل في أحراشها العالية.

كان الجو صحوا، والشمس ترسل أشعتها ندية.. تنعكس على صفحة أحلامه، فيحلّق مع ميامي، وتأخذه نشوة الحديث معها.

فجأة تلبّدت السماء، وأضرمت غضبها، فهطل المطر، بعد أن زمجرت وأبرقت، لتعلن عن بداية عاصفة هوجاء.

بحث عن ملاذ .. ضاقت به الأرض بما رحبت. همّ بالفرار .. خذلته إرادته. هرول ليحتمي بظل شجرة عارية .. دمدم الرعد، وراح سنا البرق يملأ الحقول والبساتين. وهو يتلفت مرعوبا، ينظر الى دواب الأرض كيف تلجأ الى جحورها. نزلت صاعقة مدوية فأحرقت كل ما حوله .. بهت مذعورا، يا إلهي ....

لم تمهله السماء طويلا، فصعقت ثانية، إلا أنها أحرقت نصف جسده الأيسر.. فظل مشدوها، فاغرا فاه، متشبثا بنصفه الثاني، لا يدري ماذا يفعل. راح يلملم جراحه، ويشد من أزره بارتباك .. ملتحّفا بخوفه وترقبه.

ماذا يفعل..؟ .. تساءل وهو في الرمق الآخير من الحياة.

عجز عن الكلام، غير أن علامة استفهام ارتسمت على صفحة حيرته، واندهاشه.

كيف يعيش بنصف جسد لو قدر له أن يعيش؟

علامة استفهام أخرى، طفت .. لكن هذه المرة على مساحة واسعة من الأفق .. كاد ان يحدد نهايتها، فارتد بصره خاسئا.

عاد يتلفّت .. لم ير الا أعمدة دخان، بعد أن أتت النار على كل شي، سوى نصفه الأيمن.

انتصب بما تبقى من جسده .. نظر الى نصفه الآخر .. وانهمرت دموعه شلالا من الأسى،.. لم يجد شيئا من معالمه، الا عينا، وشبح أطراف، وصدرا عاريا، وبضع كلمات.

نظر الى السماء .. راحت الغيوم تجر أذيالها، بعد ان أنهت مهمتها، والشمس أذنت بالمغيب، الا خصلات ذهبية، أضفت لمسة سحرية على ذكريات ميامي الجميلة. لكنها سرعان ما توارت، خلف أمله التعيس، ليبقى فريسة سهلة للظلام الزاحف بلا روية ولا رحمة.

عاد تحت هول الصدمة، ينظر لنصفه الأيسر، يتأمله، يدقق فيه. كان أول ما لفت نظره تلك الكلمات .. حاول أن يقرأها، فاستفزه صوت جسده بعد أن هبط الليل بثقله.. كان مرعوبا، لا يسمع سوى اصطكاك أسنانه العارية، وأنين الموتى القادم من أعماق الأرض .. ولا يرى سوى احشائه المتدلية، فلاح له سؤال حيّره، هل نصفه الأيسر أحترق، أم اختطفه ضوء الصاعقه فصيّره رمادا؟

كانت حيرة فهمه للسؤال أصعب عليه من الاجابة .. ما الفرق في ذلك؟ .. جسده الان ملقى، بعد أن انتزعت النار كل معالمه. لكن يبدو هناك لغز يتوقف على فهمه لهذا السؤال اللعين. سؤال محيّر فعلا، أين يعثر على شفرته؟

وسرعان ما جرفه سيل الأسئلة .. أين احشاؤه .. قلبه .. رئته؟ هل ما زالت هناك، حيث يرقد نصف جثته المتفحم؟.

ثم راح يتأمل فاجعة الإنسان بعد موته، ماذا يتبقى منه؟ كيف خمد جانبه الأيسر بلا حراك، وماذا لو كان مات كله، من سيكون الشاهد على مأساته؟ .. مغرور هو الإنسان، هل كل ما تبقى من جانبي الأيسر بضع كلمات؟ آه يا لحسرتي .. ربما هي كل ما تبقى مني .. من يدري، يلفنا الغيب من كل جانب، ولا نبالي. تحاصرنا الدنيا من كل زاوية، ولا نفكر بما هو آت.

آه يا إلهي .. اراد ان يصرخ، يستغيث، يتشبث بصدى صوته، لكن حيرة الدهشة والسؤال عقدت لسانه الثاوي.

جانبه الأيسر، كان نابضا بالحياة، كان قلبه يعزف موسيقى الصباح .. يدندن كل يوم أغنية جديدة. كانت ميامي لا تأنس الا به .. بايقاعه .. بنبضه. هل ستعود ميامي الى أحلامه أم اختطفها سنا البرق الأهوج؟؟ .. سؤال آخر فاجأه بينما بدأ الليل يجهز عليه، ولم تبق سوى نقاط بعيده من الضوء، لا تبعث على التفاؤل اطلاقا.

هل يرحل ..؟ .. كيف يترك نصفه الأيسر؟

سمع صوتا خافتا ينبعث من النصف المحطّم .. حاول ان يصغي له جيدا، لكن دون جدوى. عليه الاقتراب ولو قليلا.

كيف يقترب بنصف جسد خائر القوى؟. كيف يقطع المسافه بينه وبين نصفه الثاني؟

انها بضع خطوات.

لا .. لا .. لا .. ليست بضع خطوات، هي المسافة بين الحياة والموت .. اللغز الذي حير الإنسان منذ الأزل.

ليس من حيلة .. ألقى نفسه على الأرض .. زحف تحت جنح الظلام، سمع أصواتا غريبة .. ارتعدت فرائصه .. استلقى بجانب نصفه الآخر يرتجف، نظر اليه مليا، استغرب وجود تلك الكلمات .. حاول ان يصغي ثانية .. ركّز بكل جوارحه .. لم يسمع سوى صداها المحيّر .. تارة تتقاطع وآخرى تنتظم، أو ترسم عمودا من النور.

في غمرة تأمله، وحيرته، عاد يتساءل: كيف يعيش بنصف جسد لو قدر له أنْ يعيش؟ وكيف يواصل حياته؟ وماذا عن احلامه مع ميامي؟

أفاق على أنين ميت قريب، أو كائن لم يفهم كنهه. تخيله يزحف اليه، اجتاحته قشعريره .. حاول أنْ يتجلد .. أنْ يتمالك نفسه، لكنه فشل.

استسلم للرقاد، او كاد .. أرعبته الاصوات ثانية.

التف بحيرته، ليس معه سوى نصف جسد متفحم .. انه جسده، وعينه اليسرى، وأربع كلمات، تتخذ أشكالا مختلفة.

ماذا يفعل؟؟

كان من الصعب ان يمسك بما تبقى من جسده، كان خائر القوى .. أصوات مخيفه. آه يا الهي .. تخيّل ان ذلك الأنين يصدر عن جثث أخرى. من يدري .. ربما هو لرجل عظيم، او امرأة صالحة..

لماذا يشكك الانسان بالموت، أليس هو الحقيقة الوحيدة الماثلة أمامنا .. لماذا لا يردعه الموت؟

الإنسان؟ يا له من مخلوق عجيب .. كم هو بائس .. مغرور ..؟!!!

هل يخشى الإنسان ما بعد الموت؟ ربما .. لكنه عنيد، مكابر، لا ينصاع، الا حينما تسحقه الطبيعة بجبروتها.

يا للهول، أليس من حقنا ان نهرب منه؟ ماذا تبقى من نصفي الأيسر، سوى بضع كلمات. ما قدرها. نصفي الأيسر ذلك الكائن الجميل، الذي أرهق حياتي ..

لم يمكث طويلا حتى رأى طيرا أسود، عرفه من حفيف جناحيه .. حالت حلكة الظلام دون معرفة فصيلته، أخذ يحوم حولها، وينظر اليَّ بعين حمراء متوقدة، كجمرة في يوم شتائي قارص. أقترب من الجثة الهامدة، كتمثال أهمله تمادي القرون الطويلة، ثم أرتفع، فدنا... فكان قاب قوسين او أدنى .. تمتم بأصوات غير مفهومة، ارتبكت جثتي، ثم تجهّمت وأشتد غضبها حين خطف الطير إحدى الكلمات وحلق عاليا.

رأيت عيني اليسرى، كيف أجهشت بالبكاء .. توسلت بقواي كلها، لأقترب أكثر، وأصون ما تبقى منها. كنت أرتجف .. أصرخ .. استغيث، لا أجد لصدى دموعي سوى جثة هامدة، ولما اقتربت منها، سمعت صوتا هامسا:

أنتبه ..

هذا ..

سر نجاتك!!

.........................

للاطلاع

http://almothaqaf.com/index.php/nesos2010/63486.html

salam alsamawiكانت مناسبة فكرية - عقائدية متميزة، حيث كان لقاء حافلا مع الاستاذ ماجد الغرباوي مؤسس ورئيس صحيفة المصحف الالكترونية، مؤسس ورئيس مؤسسة المثقف العربي في مدينة سيدني، ورئيس تحرير مجلة التوحيد الفكرية في ثمانينات القرن الماضي، الذي احتضنته مدينة ملبورن الاسترالية قادما من سدني، ليلة الأحد 29- 10-2016 .

1109-mustafa3

ألقي الاستاذ ماجد الغرباوي على قاعة مؤسسة الحوار الانساني محاضرة  ثم أجرى حوارا فكريا – عقائديا مع الحاضرين، حول: التطرف الديني والغلو .. جذوره واثاره.

استهل اللقاء الاخ مصطفى الكاظمي رئيس مؤسسة الحوار الانساني بكلمة رحب فيها بالاستاذ الغرباوي وبالاخوة الحضور الذين مثلوا طيفا واسعا من الشخصيات الثقافية والادبية والاعلامية والمهنية في ملبورن 

 وقد استعرض خلال كلمته بعضا من مسيرة الباحث والمفكر الغرباوي وما تخللتها من ذكريات معه ابان الثمانينيات.  كما تطرق لعدد من كتاباته وابحاثه ومؤلفاته وبين نقاطا مهمة عن كل واحد منها، تزامنا مع عرض على شاشة ضوئية كبيرة.  

  ثم أحال الكلمة مباشرة إلى ضيف اللقاء الباحث الغرباوي الذي شكر الجميع على الحفاوة والتكريم اللذين لقيهما، وعبر عن سعادته بهذا اللقاء. ثم تناول خلال محاضرته  مجموعة من النقاط التي ادت الى التطرف والغلو في المذهب الشيعي والمذهب السني.  واخذ المتحدث يزداد اشراقا كلما توسع في محاضرته وتقدمه في بيان مراحل واسباب الغلو والتطرف بدءا من العصور الاسلامية الاولى حتى وقتنا الحاضروما هي اهم المخاضات التي مرت بها والاسباب التي جعلتها تاخذ بالتوسع والنمو المستمر وتجد لها مكانا رائجا بين المجتمعات، حيث ذكر ثمانية نقاط  اعتبرها الأهم في سرعة انتشار الغلو والتطرف في المجتمعات الاسلامية واسهب في بيانها وشرح كل واحدة منها مستشهدا ببعض الادلة التاريخية 

1109-mustafa1

 

وقد استمر المتحدث بعد محاضرته في الرد على اسئلة الحاضرين لاكثر من ثلاث ساعات تقريبا لكنها لم تكن كافية لاستيعاب ما تبقى منها. ورغم ضيق الوقت أجاب على أسئلتهم مفصلا بكل رحابة صدر، لذ راحو يطالبونه بالمزيد رغم انتهى الوقت المقرر .

 وبعد انتهاء اللقاء وخلال تناول وجبة عشاء خفيفة استمر بالاجابة على اسئلة الحاضرين، نزولا عند اصرارهم على استمرارية الحوار. فالتفوا حوله على شكل حلقة دائرية واستمعوا  لحديثه باعجاب، وكانوا يصغون لما يقول خاصة قدرته على اختيار الالفاظ المناسبة وحسن الاداء وسعة الذهن.  فكان موفقا بايصال ما اراد ان يوصله من فكر بكل يسر، فاستحق اللقاء ان يكون مميزا وهذا ما اكدته طلبات الحضور بتكراراللقاءات مرات اخرى ...

 ***

سلام البهية السماوي - ملبورن

 

استضافت مؤسسة الحوار الانساني في مدينة ملبورن - استراليا السبت الماضي، المفكر العراقي الاستاذ ماجد الغرباوي مؤسس ورئيس مؤسسة المثقف العربي في ولاية نيوساوث ويل/ مدينة سيدني، ورئيس تحرير مجلة التوحيد الفكرية في ثمانينات القرن الماضي، في ندوة فكرية – ثقافية تهتم بالشأن العقدي حيث تناول فيها بجرأته المعهودة ابرز القضايا الهدامة الطارئة على الامة التي باتت تؤسس لمنهج عقدي ما أنزل الله به من سلطان.

 شرعت الندوة عند الساعة التاسعة ليل السبت 29-10-2016 في قاعة مؤسسة الحوار الانساني/ استراليا- ملبورن وبحضور جمع من المثقفين المهتمين بشؤون الفكر والعقيدة. تضمن برنامج الندوة:

1.كلمة ترحيبية بالاستاذ الضيف الغرباوي قدمها كامل مصطفى الكاظمي رئيس مؤسسة الحوار الانساني في استراليا، وعناوين غبر شاشة العرض الالكترونية لبعض محطات افكار الباحث ماجد الغرباوي مع سطور من حياته الفكرية ومؤلفاته وإبداعاته الثقافية.

2.محاضرة مركزة للمفكر العراقي الغرباوي حصر فيها الحديث عن الغلو واسبابه ودوافعه وآثاره الوخيمة التي شوهت صورة الدين الحقيقية.

3.فترة المداخلات ومناقشة آراء الاستاذ المحاضر من قبل الحضور الذين ثمنوا له جهوده الكبيرة له مساعيه في ترسيخ ثقافة الحوار والتعايش السلمي.

 وفي الختام عبر الاستاذ الضيف عن سروره البالغ بلقائه بالحضور المدرك لأهمية طرح المواضيع الهامة في مثل هذه الفترة العصيبة التي يمر بها الانسان وخاصة شعوب الشرق المثقل بثقافة هجينة وغريبة لا أساس لها في اصل الدين الحنيف، غزت ساحاته وروجت افكار هدامة تمددت في عقول السذج والبسطاء من الناس.

  محطات من حياة الاستاذ ماجد الغرباوي

* باحث عراقي يعيش في مدينة سيدني بأستراليا.

* مؤسس ورئيس تحرير صحيفة المثقف الإلكترونية.

* مؤسس ورئيس مؤسسة المثقف العربي بسيدني/ استراليا.

* له العديد من المساهمات الفاعلة في الندوات والمؤتمرات العلمية والفكرية.

* مارس التدريس ضمن اختصاصه في المعاهد العلمية لعدة سنوات.

* حاز على عدد من الجوائز التقديرية على أعماله العلمية.

* رئيس تحرير ومؤسسة سلسلة رواد الاصلاح.

* رئيس تحرير مجلة التوحيد (فكرية - ثقافية) الاعداد: 85-107

* عضو هيئة تحرير كتاب التوحيد.

صدر له العديد من المؤلفات (20) أبرزها:

•جدلية السياسة والوعي/ قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق.

•الحركات الاسلامية/ قراءة نقدية في تجليات الوعي.

•المرأة والقرآن/ حوار في اشكاليات التشريع (حاورته د. ماجدة غضبان)

•الشيخ محمد حسين النائيني، منظّر الحركة الدستورية. 

•الضد النوعي للاستبداد/ استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني.

•تحديات العنف.

•التسامح ومنابع اللاتسامح، فرص التعايش بين الأديان والثقافات.

•إشكاليات التجديد 

 

حديث ساخن مفتوح بلا قيود ولاخطوط حمراء ولا محاذير. حديث العقول المنفتحة وحديث الافكار الحرة.. لا ابالغ اذا قلت ان ان هذا اللقاء كان من اثمن واغزر اللقاءات الفكرية طيلة تواجدي في استراليا. شعرت وانا استمع لحديث الاستاذ الكبير المتواضع ماجد الغرباوي بطاقة ايجابية كبيرة تتسلل الى مفارق جسدي وتمدني بعزم هائل يدفعني نحو التحليق في فضاءات الفكر اللامتناهية.

طاقة عظيمة قد تحللت وانا استمع الى حديثه الذي ابتدأه بثقة عالية تدل على عمق اطلاعه وصلابة يقينه واتضاح رؤيته فيما يخص مشاكل الاسلام عامة والتشيع خاصة، وعلى رأسها التطرف.

ثقة الغرباوي وقوة طرحه وجرأته الواضحة مع هدوئه المتزن كسر ماتبقى عندي من القيود الثقافية والاجتماعية التي كبلتنا بها عادات الاباء والاجداد الذين وجدناهم على امة وسرنا على اثارهم غير مهتدين.

استدلات الغرباوي ومقارناته الواقعية واكتشافاته الحقيقية كانت بمثابة مفاتيح للمغالق الذهنية التي نمت وترعرعت بجهود الخط الغلوائي المتشدد الذي سلب حرية الفكر وحرية العقل وحرية النقد لكي يحيل عقولنا الى جمادات.

كلام الغرباوي كان مشاعلا تضيئ الطريق امام الساعين الى انقاذ العقل وتحريره من عبودية الخرافة وسلطة الطقوس و منهج التطرف والتشدد والتزمت وسحر الغلو ورفض الاخر واحتكار الحقيقة.

وبينما كان لقاء الاستاذ الغرباوي وحديثه جاذبا وممتعا، الا انه ذكرنا مرة اخرى بمسؤولية المثقف في تحمل اعباء المشروع الاصلاحي والقيام بادوارنا الفردية وعدم التراخي في تأديتها.

وبخلاف ذلك فان مشروع الخرافة والجهل والتطرف والتقديس سينتشر لانه يحصل على من يموله في اغلب الظروف.

لانفع في الفكرة الجيدة والحقيقة البينة مالم تصحبها شجاعة البوح وجرأة الطرح؛ فقد يضل الذهب حبيسا في مناجمه ويبقى الماس دفينا في مواطنه مالم تمتد اليه يد المجازفين لتقدمه كنزا يسحر عيون الناظرين اليه.

وانا اكتب هذه الكلمات، لا اشك ابدا اني واقع تحت سحر ما كشفته يد الغرباوي من اسرار كبيرة ازال عنها بجرأته غبار القرون ومسح عنها بهمته ادران الجهل والغلو.

بوركت وبورك جهدك وجهادك ايها المجاهد.

 

أحمد راضي – كاتب وأديب

 ملبورن - استراليا

...................................

وجهة نظر الكاتب بالندوة التي عقدت في مركز الحوار الانساني في مدينة ملبورن -أستراليا يوم 29 - 10 - 2016، حيث تحدث فيها الكاتب والباحث الأستاذ ماجد الغرباوي، رئيس مؤسسة المثقف، بجرأة عالية عن أسباب العنف وخلفياته الفكرية والثقافية والعقيدية

 

 

حين طالعت قصيدة الأديب ماجد الغرباوي اكثر من مرة راودتني فكرتان دفعتنا بي الى تامل نفسي وتأمل القصيدة فتساءلت:

هل يحق للناقد ان يراهن على كلمة في النص؟

أقول نعم اذا كانت الكلمة تستحق الرهان، وقد راهنت منذ البدء على كلمة النار :

النار مصدر النور، في الفلسفة الطبيعية اليونانية  فليس الماء - وفق رأي اصحاب ذلك المذهب - ولا التراب ولا الهواء أصل النار بل هي نار خفية لطيفة لا تدرك بالحواس لكن يعتريها وهن فتصير محسوسة  ويبدو ان الوهن الذي يعتري النار يمكن ان يكون الوشاية:

ويستعيد مزمارًا

سرقته نار الوشاية

ويبدو ان النار المقصودة قد مرت بمرحلة وهن سابقة فاعترتها الوشاية التي أميل الى تعني في هذه اللقطة الشك  لتصير محسوسة. لقد بدأت من اخر النص وها انا اعود الى بداية المقطع اي انني قرأت النص بالمقلوب لاروض النار يقول الشاعر:

في مراياهم المقعرة

ذوت مصابيح الحانة

هي المرحلة الاولى من علامات الوهن والضعف اذن هي الحانة والمصابيح وهناك الحرف - شكل الكلمة البصري الذي يحولها من صوت الى بصر- الذي يتخذ شكلا مقعرا اي يمتد الى الداخل فيعني الماضي اذ يمكن ان نجعل القعر ماضيا والمحدد مستقبلا اما الذي كان مقعرا فقد تجسد صوتا داخل تلك المرايا لنبصر  النبي داوود يرتقي   الى الفجر بالمزمار نفسه:

استيقظي ايتها الرباب والعود

انا استيقظ قبيل الفجر

أحمدك بين الشعوب يارب ( المزمور ١٨٠)

ان نار الشاعر الغرباوي هي نور اعتراه ضعف التامل فأصبح يشيع البهجة والسكينة ولا يحرق ، ضعف هو مكمن القوة الإيجابية التي تحول القلق الى سكينة . كم هو قوي النبي داوود الذي لان له الحديد (والنا له الحديد) "سبا/١٠" لكنه  امام النور النار والمزمار يبدو ضعيفا مسالما رقيقا .ان نص الغرباوي يدفعنا للمراهنة مع اكثر من نص قديم وحديث في مقارنات وموازنات ياتي شاخصا في جوهرها موضوع المعاناة من خلال  السلام ونعومة العالم التي تكاد تضيع في خشونة صاخبة تستهلكنا كل يوم ، ولَك ان تتخيل ذلك مادمت في مرحلة المغامرة حيث جاءت مباشرة تتلو الرهان:

مــا جدوى ضفائر الليلِ!!

خيوط شمسٍ

ألليل حيث القتام والظلمة تكون الشمس ضفائره التناقض من خلال النعومة المتولدة عن الفجر يحل اشكالية وجوده بنفسه، الم يكن الوضع قبل ذلك وفق الشكل الذي نبه اليه حامل الآلام النبي أيوب:

يكشف الغمائم من الظلام ويخرج ظل الموت الى النور (سفر أيوب ١٢/٢٣)

ثم بعد المراهنة سالت نفسي هل يمكن ان أغامر على كلمة اخرى تعادل بمدلولها النارفاكدت لي التجربة امكان ذلك لأنني بدأت من النهاية الوقفة النقطية جعلتني استعرض النص لتقع رؤياي على اخره فانطلق منه قد تكون الخاتمة هي البداية في كثير من الأحيان حين ندخل في الرهان نرى ان المغامرة في النص تتطلب الا ننطلق من النهاية بل من اية نقطة كانت ماعدا الختام فتصدت لنا كلمة الضوء:

آلهةُ المعابدِ الرُخامية

تركوا البابَ موارباً

فتسمّرَ الضوءُ!!!!

يعانقُ أوهامَ الحقيقةِ ..

ونبوءة المرمى الأخير

تُمزّقُ  اكفانَهُ البالية

ماذا يجد قاريء النص هنا بعد ان راهن فدخل النص من الختام يجد المعاني التالية:

الزمنكان في آلهة المعابد تلك التماثيل الجامدة هي التي تركت الباب مفتوحا ولعله باب الماضي الذي يدخله كل بطريقته الخاصة: الشاعر العربي القديم وجده في الاطلال التي هي من اثار الزمن وفعله السلبي فينا فوقف واستوقف وبكى وحن، والشاعر المعاصر مثل نزار قباني الباحث عن جذوره وجد آلهة المعبد التي تركت الباب مفتوحا وجدهم في  غرناطة :

ما اغرب التاريخ حين أعادني

لحفيده سمراء من أحفادي

اما نحن المغتربين فقد وجدناه في حضارة لخصت الزمان بتماثيل في الشوارع وحدائق في المقابر، والتراث الاوروبي الجميل الذي ينطق بالحاضر ثم اعود اسأل نفسي أليس الاولى ان نعود الى أسطورة خلق العالم الإسكندنافية التي جسدت عملية الخلق بتحرك الجنوب الدافيء  المنير نحو  الشمال البارد المظلم فكانت الحياة من انصهارهما  فيستمر الصراع ويتحطمً العالم فينبثق من جديد وفق خاتمته  وهكذا نظل مادام هناك ظلام نور!

ان الضوء نفسه يتسمر مع كل مشهد نقف  عنده لنتأمل ، فهو واقعنا الظاهر وعالمنا الخفي او الباطن الذي يبصر ما لا تبصره عيوننا.

إذن نحن بين أمرين مراهنة ومغامرة استخرجنا من خلالها النور من الظلام والماضي الى الحاضر والحياة من السكون لذلك كان لابد لي ان أبدا من نهاية قصيدة النثر تلك التي بدأت بسطر موزون:

شاهقا كان المدى

فاعلات فأعلن

ليتوزع بعد ذلك إيقاع البداية الى موسيقى داخلية هادئة تشبه تحول النار الى فجر وخروج النور من الظلمة وهدوء مزمار داوود ذلك النبي الذي يخرج من الظلمة ليلاحق الفجر وهو يتحول من نار الى مظاهر  متباينة تهب الحياة وتبحث عن سر تألقها.

حقا ان النهايات في بعض الأحيان تدلنا على البدايات مثلما راينا في قصيدة " تسمر الضوء" شرط ان نراهن ونغامر من دون ان نضل طريقنا.

 

د. قُصي الشيخ عسكر

..................................

 

تسمّرَ الضوءُ / ماجد الغرباوي

شاهقا كان المدى

يتوسّدُ ناصية َالسماءِ

غارقا في هَذيانهِ

يَتَصَفحُ  جُرحاً

تقرَّحتْ زَفَراتُهُ العاتية

****

أي ذهولٍ ينتابُ شجرةَ الغِوايةِ ..؟

.

.

سرابا ارتدى

حُلْمُ المتاهاتِ القصيةِ

راح يتلو سورةَ الماءِ

وشيئاً من آياتِ الحطامِ

يستعيدُ بقايا موبقاتٍ

وثرثرات

****

مــا جدوى ضفائر الليلِ!!

خيوط شمسٍ

تَلعَقُ تَمتَماتٍ وَلهى

وأُخرى .. تستعرُ ناراً حاميةً

****

يــــالدهشة السؤال!!

.

.

آلهةُ المعابدِ الرُخامية

تركوا البابَ موارباً

فتسمّرَ الضوءُ!!!!

يعانقُ أوهامَ الحقيقةِ ..

ونبوءة المرمى الأخير

تُمزّقُ أكفانَهُ البالية

****

في مراياهم المُقَعَّرَةِ

ذَوَتْ مصابيحُ الحانةِ

فتلعثمَ الحرفُ

يشكو انبهار خيبته

وراحَ صفيرُ العاديات

يستبيحُ مأوى القداسةِ

ويستعيدُ مزماراً

سَرَقَتهُ نارُ الوشاية

 

...................

للاطلاع على نص: تسمّر الضوء لماجد الغرباوي

http://almothaqaf.com/index.php/nesos2014/83033.html

في كتابه الأخير  (الحركات الإسلامية .. قراءة نقدية في تجليات الوعي) الصادر عن دار العارف ومؤسسة المثقف العربي يتابع ماجد الغرباوي مشروعه الخاص بتعريف العقل الاجتماعي العربي. وإذا كانت خلفيات قراءته ذات أساس ديني فهذا لا يضعها في مجال التربية الدينية. بالعكس هو ينظر للدين على أنه جزء من الحياة. ولذلك يهتم به كحالة في الوجود. أو كمبدأ في الحضارة لتفسير غوامض آليات نشوء وتطور الأفكار.

يبدأ الغرباوي من الأزمة الحالية ليعيد صياغة التصورات السياسية لدول المنطقة. وهو يعتقد أننا لحل هذه الأزمة لا نحتاج لاستعمال القوة. وإنما للبدء ببرنامج إصلاحات على غرار أول حركة إصلاح بشرت بنهاية الإقطاع العثماني ودولته المستبدة. ويضرب أمثلة (في كتبه الاخرى) من السيرة الفكرية للأفغاني والكواكبي. ويضع بينهما جهود الشيخ النائيني. باعتبار أنه حلقة وسط بين الراديكالية في السياسة والإصلاح في التفكير. ولذك لم يكن من المستغرب أن يعيد قراءة بعض آيات من القرآن الكريم. وعلى ضوء نتائج الدراسات الدلالية لتفسير المعنى من خلال سياق العقل البشري كما فعل الكواكبي في (طبائع الاستبداد) حينما أضفى على القرآن مشروعية علمانية.

لقد ألح الغرباوي في مجمل فصول الكتاب على ضرورة نقد المنهج. ورأى أنه إجراء  ضروري لانتشال الوعي وتصحيح المسار (ص١١). وبالنقد وحده (كما أضاف لاحقا) يمكن التعرف على مبررات السلوك اللاأخلاقي والانتهازي الذي انحدر إليه المسلمون بعد وصولهم إلى الحكم (ص ١١). وانتشار العنف تحت ذريعة الجهاد مع أن استعمال السيف لا يكون فعليا إلا بوجود كافر. وأحيانا لا يكفي الكفر في فعلية الجهاد ولا بد من خصوص الحرابة. فالجهاد لم يشرع ابتداء ولكنه شرع لدرء الحرابة، والنبي لم يدخل معركة إلا بعد أن استنفد كل الطرق والحيل السلمية.  و يتوقف عند مشروع سيد قطب و يرى أنه تكفيري. أو على الأقل يمهد للتكفيريين الطريق. ويسهل عليهم خلع صفة الإيمان، الواسعة والمرنة، عن المسلمين. أو يتواطأ مع الحنابلة في تشريع الموت والقتل كحل لكل الخلافات. فسيد قطب (في معالم على الطريق) مثل ابن حنبل لا يفتي بصدد واقعة مخصوصة ليتحدث عن الضرورات والإكراه. ولكنه يؤصل حكما ويشرع تشريعا له صفة الدوام. وهذا النزوع التدميري ينبني على أساس مفهوم الحاكمية المستورد من فكر الخوارج والذي أعاد المودودي توطينه في العقل الحديث.

هذه الإشكالات تستدعي منا الانتباه لما يسميه الغرباوي: الوعي الحركي (ص ١٥) الذي منبعه ظاهرة الخوف من الآخر وعدم الوثوق به (ص١٦). فقد نجمت عنه أوهام وضعت الحركات الإسلامية في إسار الماضي، وصنعت فراغا بين واقعها النفسي والحاضر (ص١٥).

لقد بدأ الاسلام من معاناة قهرية ضمن مجتمع تجاري ضعيف عسكريا ومعقد بأعرافه الاجتماعية. وكان همه الأول تحرير الروح من الاستعباد والاسترقاق الذي كفلته بنية المجتمع. وما تقليد الهجرة إلا لمعالجة هذا الفراغ. وهو البحث عن مسكن آمن للأرواح المستضعفة. ولذلك إن ما يجري اليوم يطاله إشكال شرعي ومؤاخذة أخلاقية (ص ٢١).

وكما قال الباحث: إن بعض الحركات الإسلامية تكون بأموال ومباركة من دول غير إسلامية، فطالبان تأسست بالدعم الأمريكي، وبعض هذه الحركات دخلت في تحالف أدى إلى الابتعاد عن الاستراتيجية الأساسية (ص ٦٦). فالحركات الإسلامية الراهنة هي بنت الوعي الأسطوري الملتبس (ص ٣٥) والذي يحمل كل علامات الثقافة المهيضة الجناح.

ويرى أن الأسباب وراء ذلك كثيرة وأهمها: ١- الخط الأحمر المفروض على تكتيك الخطاب الديني واحتضاره تحت ضغط التفكير الشعبي الناقص والحامل لآيات التخلف والجمود والخرافة، ٢- الاستبداد الذي وضع العقل في أدنى مستوياته وسمح للاشعور بالنمو بنسب فاحشة غطت على كل أشكال التفكير والاجتهاد،٣- عزلة النخب الثقافية وسقوطها في مشكلة التعالي، ٤- احتكار رجل الدين لحق التربية والتوجيه وحصوله على حصانة تحميه من النقد والمراجعة والتخطي، حتى تحول إلى نص مقدس أو امتداد للمحرمات والممنوعات (ص ٣٤-٣٧).

ولذلك كان التشريع للنقد أولوية في تجديد الفكر الديني (ص٤٧). وكلنا سمع بمحنة الشيخ علي عبد الرازق المتهم بالتطاول على مشروعية حروب الردة. وأعتقد أن الانحياز لمشروعية التواتر والمحاكاة يؤسس لمجتمع إقليمي من المرايا المتعاكسة. كل مرآة تعكس نفسها. حتى يحل الخيال أو الصورة محل الحقيقة بسبب غيابها واستحالة الاتصال معها.

وهذا بصورة ضمنية يعيدنا إلى نمط من التفكير والتعليل الذي يقوم على التسليم الصامت بأسطورة الطبائع الثابتة والخصائص الدائمة (بلغة صادق جلال العظم)(7).

إن الحركات الإسلامية برأي الغرباوي صناعة بشر وهي ليست جزءا من المطلق الإلهي والرباني ولا نتاج عوامل غيبية مفارقة (ص ٦٠)، وقد طرأت على الإسلام والجماعات التي نذرت نفسها له غايات وأهداف بعيدة عن الحجج الروحية. كما أنه هناك حركات استنفدت أهدافها ( كما يقول ص 61). فأدوات تنفيذ الاستراتيجيات في وقت السلم غيرها في وقت الحرب. ويضرب مثالا على ذلك بلجوء قواعد حزب الدعوة إلى البعث السوري للهرب من بطش صدام (ص ٧٣). لقد كانت الأحزاب الدينية عرضة للانشطار والتشرذم. فالجهاد وجماعة التكفير والهجرة في مصر هما تطور جانبي من حزب الإخوان المسلمين (ص ٧١) والذي شهد بدوره تنظيمات داخلية متحاربة. وهذا دليل قوي على نسبية المعرفة الدينية (ص ٨٥). فهي ليست معرفة ميتة. ولكنها قابلة للنمو كما هي قابلة للانتكاس والرجوع. ولديها قدرات هائلة على حجب النص (ص ٨٩). ويمكن القول إن القرأن الكريم ذاته هو حجاب لنصوص قبله، عمل على تفكيكها وتوجيه سهام النقد اللاذع لمكامن الضعف والأخطاء فيها (ص١٠٠). وهذا أول درس يبرر ضرورة التأويل وإعادة النظر بالمسلمات المتجمدة. فالنقد بمستوى أمر وجوب في الإسلام وهو ليس مستحبا فقط (ص ١٠٢).

ولا يمكن أن ننكر التحيز ( ص 84). فأية قراءة لا تأتي من فراغ. ولكنها تحمل في ذاتها مبررات تعريفها.

لماذا هي موجودة أصلا. ولماذا يجب أن تقارب هذه المسألة وتتصدى لمهمة حمايتها من الذوبان أو الاندثار.

إن مشكلة الحركات الإسلامية أنه تقف خلفها دوافع دينية- سياسية (ص ١٢٧). وإذا كانت السياسة هي المسؤولة عن الخلافات البينية والمواقف من الأنا والآخر والتكفير. فالدين مسؤول عن حقيقة المبايعة. والتحفيز على التضحية والمغالاة بها إلى درجة الانتحار (ص ١٢٧).

ومن هنا نشأت ظاهرة الإرهاب الدولية بأبعادها المتعددة وما أحاط بها من هالة وصلت إلى درجة تحريض المخيال الشعبي على الإضافة والمبالغة حتى نشأ منها دين جديد (بتعبير صالح الطائي)(8) أصبح بمثابة دين سماوي رابع. ظاهره الإسلام وباطنه التكفير والقتل. وغلافه شعار (الثورة المستمرة، ص ١٢٩).

إن الإسلام السياسي بالنتيجة مشروع مختلف عليه، له الحق في تطبيق أدواته، ولكن ليس لديه الحق بالمصادرة على حرية الآخر المختلف عنه. وإن خضوعه لمنطق السياسة والارتباط في نفس الوقت برجل الدين حوله إلى حركات وشراذم متمردة تؤمن بالعنف والاستبداد وتقاطع الإرادات (ص١٤٤). وهذا يفرض عليه إجراء تحولات فكرية ليتجاوز اخفاقاته وكي لا يسقط في نفس الحفرة التي أودت بالفكر القومي وأوردته موارد التهلكة.

 

مواصفات الكتاب

قع الكتاب في 160 صفحة من القطع المتوسط، بغلاف أنيق، تناول فيه المؤلف التجلّيات المختلفة لوعي الحركات الاسلامية، المؤسس وفق بُنى فكرية وعقيدية لم تنتج لنا سوى العنف والتخلف الحضاري، في أسوأ مشهد عرفه التاريخ، في السلطة وخارجها. لذا كتب المؤلف على الوجه الخلفي لغلاف الكتاب:

هذه الأوراق ليست أوراقا خائفة أو مرتبكة، وإنما تروم إنزال التصورات والمفاهيم المقدسة منزلة الواقع، لفضح بشريتها، وتاريخيتها، بعد تجريدها من أبعادها الميتافيزيقية، وتقصّي حقيقتها. كما أنها تحرّش بالموروث، وتخطٍ للمحظور، وتوغّل في الممنوع، وتعرية للأنا، ونقد للذات، والإطاحة بالمسلمات، والتشكيك بالحقائق، وملاحقة تزييف الوعي، والحد من التآمر على العقل. إنها محاولة لتعطيل منطق الاستعباد والتبعية، وتنشيط العقل بدلا من الذاكرة، والاهتمام بالمستقبل وتحدياته بدلا من الماضي وتراثه. والتأكيد على منهج البحث والتقصي بدلا من التسليم والإنصياع. إنها مجازفة لزعزعة الثوابت، وتسفيه عقيدة التقليد، وملاحقة الاستبداد السياسي والديني، وتحرير الحركات الإسلامية من أبويتها، وارتكازها المرير إلى النظام البطركي المقيت، وتحجيم مركزيتها، واستعادة شخصية الفرد، واستنقاذ الدين، وملاحقة التزوير باسم الدين والإسلام والشريعة. والحد من سلطة رجل الدين، ومركزية قائد الحركة، ومنظّرها الفكري والسياسي. وتعطيل خطاب التضليل والتزوير والتستر على الأخطاء والتجاوزات.

 

د. صالح الرزوق

..........................

* الحركات الإسلامية، قراءة نقدية في تجليات الوعي. ٢٠١٥. ١٥٨ ص

 

يقول روبرت لويس ستيفنسون: ليس هناك إلا ثلاثة طرق لكتابة القصة، فقد يأخذ الكاتب حبكة ثم يجعل الشخصيات ملائمة لها، أو يأخذ شخصية ويختار الأحداث والمواقف التي تنمي تلك الشخصية، أو قد يأخذ جوا معينا ويجعل الفعل والأشخاص تعبّر عنه أو تجسده. تحتوي على العديد من الشخصيات لكل منها اختلاجاتها وتداخلاتها وانفعالاتها الخاصة، وتعتبر االكتابة بهذا المعنى من أجمل أنواع الأدب النثري. تمثل النوع الأحدث بين أنواع القصة، والأكثر تطوراً وتغييراً في الشكل والمضمون بحكم حداثته ووما لهُ صِلة بالرواية أو ما شبيه بها كفن السيرة ومن الملاحظ ان اغلب ادوات الكتابة الابداعية القصصية النثرية متواجدة في النص اعلاه (هاتف الفجر) للاستاذ ماجد الغرباوي من حيث

السرد: وهو القالب الكتابي الأكبر وقد تميز النص اعلاه بسهولة ودفق السردية السلس.

الحوار: يكشف عن نفسية الشخصيات واحياء مناخ دلالي عميق وقد اجاد الاستاذ الغرباوي في كشف الدوافع في الشخصية والاشارة الى الشخصيات وطباعهم.

ج- المناجاة: تتواجد بكثرة في السيرة الذاتية، وغيرها من المواضع التي تخاطب فيها الشخصية الرئيسية نفسها هنا ايضا كانت واضحة الملامح.

التعليق: الغاية منه ايضاح وجهة نظر الكاتب في شأن أو قضية، أو بعد إجتماعي يريد الكاتب اصاله عبر شخصيته او شخصياته الرئيسة والثانوية وهذا ايضا متوفر بشدة.من هنا يمكن القول ان كلا من الكاتب والناقد الاستاذ ماجد الغرباوي والاستاذ الدكتور الناقد قصي الشيخ عسكر قد تعاملا مع النص بحرفية ممتعة وتقنية عالية كل الشكر لهما.

***

سمر محفوض – شاعرة وكاتبة

سوريا

..................

ماجد الغرباوي: هاتف الفجر

خرجتُ مسرعاً بعد لقاء قصيرٍ، تداولتُ فيه مع صديقٍ حميمٍ حديثاً ودياً، حتى إذا خطوت عدة خطوات تبارت سهامٌ تقذفُني، فلما أخطأتني كدتُ أفقد صوابي .. تشبّثتُ بأهداب الليل أستجير بظلمته. ما هي إلا برهة حتى استقر سهم في قلبي، فتبددت أحلامي، واستسلم دمي، فرحت أتلمّس نبضي .. أتابعه كيف يعلو يعانق السماء ثم ينحني مع الأرض في دورانها .. تارة أرمقه أهيم برشاقته، وأخرى أُهادنه حينما يتحدى غروري. فمسّني طائف من الجن .. لم أستعذ منه إلا به، رحت أتوسّل إليه، لم يبال وتمادى يغور في أعماق قلبي .. قلبي الذي لم تخطفه السهام، يترنحُ الآن تحت وطأته، لم يكن طائشاً فطال سُهادي. فكرتُ أن أنتزعه لحظة، أتفقد جُرحي، وأمسح فوق روحي التي ترنّحت، تستغيث بعزيمتي الخاوية، فلم تستجب إرادتي.

تحركت أناملي تتلمس موضع السهم، أين استقر؟ .. هل سيتحكّم بنبضي أو يُمسك شراييني؟ .. هل سيستبيح أسراري ومشاعري؟ هل سأفقد صوابي وهو يعبث في أخاديده؟ قلبي الذي استوعب الناس جميعا، كيف تتمزق أنسجته، ويمتلئ سُحباً داكنة؟ ماذا لو جفاني وحطّم مشاعري؟. رحِت أُطيل النظر، أستعيد حياتي، ما إن طِفتُ فوق السحاب، أو أتخذت من البحر مركبا إلا وتدفّقت تتطاير شرراً، تُلاحق أنفاسي، وترهق لهاثي، فأتوارى أتدثّر بدثار الخيبة، ثم أفيق، أستيعد أنفاسي، أُيمم وجهي صوب ناصية القدر الأزلي، أرى الحياة مشهد بؤس، أو حطام ألم، لا يفقه لغتها سوى حكيم اعتزلها، أو عاشق هام في أرجائها. ليست الحياة أنا وأنت، هي قلبي حينما يصغي لآهات المتعبين، ويواصل رحلته من أجل المعذّبين .. الحياة عتمة حينما ينطفئ نور قلبي، قاحلة يغزوها المتسوّلون. كم أرهقنا أنفسنا بحثاً عن معنى يشدنا إليها، متى ندرك أنها وَهمٌ ما لم تفض قلوبنا حباً. كم أخاف على قلبي، أخاف على نبضه المتدفق حيوية .. ماذا سيفعل به ذلك السهم الذي باغتني؟

على غير هدى تحرّشت به، فشعرت بألم لذيذ، يراقص قلبي لتنساب نوباته المتعبة فوق أوردتي، تحمل أكداس آهات اللحظة الأخيرة، تلك اللحظة التي تحطّم فوقها غروري، فما عاد جميلا بما يكفي.

كيف أستجمع قواي لأسترد أنفاسي، وأستعيد أملي الذي تبخّر مع حرارة السهم؟ .. كيف أحتفظ بقلبي الذي تسكن إليه نجوم السماء .. أخذني الذهول حيث يشتهي فلم أعد أعرف سوى الصمت، مذهولاً تعصف بي الأوهام، فسمعت هاتفا يقول: (الصمت أبلغ من أي كلام)، فهدأت روحي، غير أن عيني لم تفارقه وهو يغور بعيداً في أحشائي، حتى إذا اختفى يأستُ مستسلماً، لولا بارقة حينما شَعرتُ به يَتَلبَسُني، ينسجُ من الفجر طيفاً ثملاً، وينثر الروح ياسميناً، ندىً فوق ذاكرتي. لا يشبه العشق .. لا يدانيه الحب .. عرفت كل ذلك عندما خانني قلبي وأفشى إليه بسرّي.

 ***

ماجد الغرباوي

 4 - 10 - 2015

 

هناك نصوص تضطرنا ان نتوقف عندها فنعيد قراءتها اكثر من مرة لنكتشف فيها ابعادا تشير الى انه نص متميز ذو فرادة وجدة بفكرته ومضمونه.

من تلك النصوص نص "هاتف الفجر" الذي يمكن ان نعده قصة قصيرة او قصيرة جدا، وقد استوقفني المحور الصوفي الذي يتجلى في الثنائيات. هناك في النص طرفان يتخذان موقعهما مع تطور النص وتلاقحه بالمعنى الظاهر العام: 

الثنائية الاولى: ثنائية السارد والصديق:

تبدأ الأقصوصة بالشكل التالي: خرجتُ مسرعاً بعد لقاء قصيرٍ، تداولتُ فيه مع صديقٍ حميمٍ حديثاً ودياً.

هكذا إذن. السارد وصديق، من هو هذا الصديق. كل مانعرفه ان الحديث كان وديا لكن السارد بعد الحديث خرج مسرعا، فهل هو الهدوء الذي يسبق الإعصار؟ انا أميل الى ان الصديق الذي خاض الكاتب الحديث الودي معه هو الكاتب نفسه يعكس شخصه على الاخر، تامل كثيرا فوجد نفسه في اخر جعل منه ثنائية فحاوره بكل هدوء اذ يمكن ان نغير كلمة "وديا" الى "هادئا" "حميميا" " لطيفا"انه حديث الاخر الذي يعني الانا.

الثنائية الثانية: المتتالية

وهي ثنائية الليل والنهار فإذا كانت الثنائية الاولى هي الزمنكان التي بدت عابرة فلم تأخذ الا مسحة سطر او اقل لكنها تمهد فيما بعد لزمن متسع يشمل الليل والنهار يقول بعد المطلع القصير مباشرة:حتى إذا خطوت عدة خطوات تبارت سهامٌ تقذفُني، فلما أخطأتني كدتُ أفقد صوابي .. تشبّثتُ بأهداب الليل أستجير بظلمته....  انه خرج من الزمنكان ليدرك الليل غير انه لم يقلق منه بل صور معاناته فيه طول تلك الليلة فهناك سهام كثيرة انطلقت من مكمن  ما وقت الليل باتجاهه فتشبث بالليل ليقي نفسه منها غير ان سهما واحدا اصابه، اخترق جسده فتفاعل معه وانفعل به. 

ثنائية المفرد والمتعدد:

تلك ثنائية نجدها في السهام الكثيرة التي أدت دورا واحدا وهو انها انطلقت فأخطأت، يمكن ان تشكل بمجموعها جانبا واحدا وهناك سهم اخر انطلق فأصاب، ذلك يعني ان هناك جانبين جانب انحرف عن مسيره فابتعد او وقع في مكان اخر وآخر حقق الهدف. تحت هذا التقسيم تتوسع الثنائية ونحن لا يمكن ان نتجاهل مدلولات الجانب الاخر الذي لم يَصْب هدفه فله معالم كثيرة يمكن ان نفهم انها تعني مشاكل الحياة وأمورا اقل أهمية من المعاناة، الانسان هدف لعدد من المعاني والقضايا والمشاكل انه يسعى لهدف وهو ايضا في الوقت نفسه هدف. اما عظمة ما يصيبنا وما نتحمله من معاناة فيدل على ان الموضوعات "السهام الاخرى التي أخطأتنا" عظيمة لان ما اصابنا وهو في الأساس واحد منها عظيم بدليل معاناتنا التي توحدت به وتوحد بها. 

ثنائية الاجزاء

تتمثل تلك الثنائية في النبض والقلب يقول بعد ان اصابه السهم: هل سيتحكّم بنبضي أو يُمسك شراييني؟ ثم بعد هذا التساؤل يذكر: كم أخاف على قلبي، أخاف على نبضه المتدفق حيوية ، قد لا تخطيء اذا سميت النبض نتيجة للقلب والقلب سببا فهو - القلب-  ليس تلك المضخة التي تدفع الدم الى الاوردة والشرايين بل هو العالم الواسع والكون المتحرك  لقد اصبح القلب عقلا مثلما اصبح الشعر والإحساس عقلا. نقول ليت شعري اي ليت عقلي ونقول لامس الامر شغاف قلبي بمعنى عقلي لقد احتل القلب مكان العقل فتداخلت المفاهيم. في الانكليزية نفسها بعض الأحيان يحتل العقل مكان القلب broken heart هل هو القلب المجروح ام الخاطر (مكسور الخاطر) ام العقل؟ ندرك ذلك من خلال متوازية ثنائية اخرى في النص هي متوازية الصمت والكلام (الصمت ابلغ من الكلام) والصمت لا يعني السكوت المطلق بل هو جزء الثنائية الظاهرالذي يضاد الكلام لكنه كلام بمعنى اخر كلام صامت يعني التامل والتفكر لا الصمت، ومتوازية اخرى يؤكد فيها الشاعر تو حد (أنا) و(انت) في القلب ذاته حيث يقول: ليست الحياة أنا وأنت، هي قلبي حينما يصغي لآهات المتعبين، ويواصل رحلته من أجل المعذّبين. 

ثنائية المراتب

العشق والحب، أيهما الاقوى وارفع درجة؟

يقول الكاتب عن ذلك السهم الذي اصابه فنسج من الفجر طيفا ومن الروح ياسمينا (لا يشبه العشق .. لا يدانيه الحب ..) وتعريف الحب  والعشق في القاموس الصوفي: الحب عبارة عن ميل الطبع في الشيء الملذ فان تأكد الميل وقوي يسمى عشقا والعشق مقرون بالشهوة والحب مجرد عنها، ولا شك ان كاتب النص بدا بالأقل درجة لينتهي بالأعلى مثلما بدا بالليل ليستقر عند الفجر  فيما بعد. 

الثنائية العمودية:

هي التقابل بين الأعلى والأدنى في قول الكاتب: رحِت أُطيل النظر، أستعيد حياتي، ما إن طِفتُ فوق السحاب، أو أتخذت من البحر مركبا

فالسحاب في علو والبحر هو الدون وبينهما التامل الذي عبر عنه الكاتب في ثنائية الصمت والكلام بالصمت حيث التامل يرقى البحر للسحاب وبه يدنو السحاب من البحر.

الموازنة:

قلت في حديثي عن المنقلب والمتحول من الكلمات الموازنة في المصطلح المعاصر تعني ان نتحدث عن نقاط تشابه او افتراق بين كاتبين يكتبان بلغة واحدة مثل الموازنة بين ابي تمام والبحتري والجواهري والمتنبي . لقد لفتت نظري في نص "هاتف الفجر" كلمة الليل فأثارت تداعياتها في ذهني المفهوم المألوف عن الليل في أدبنا العربي، فتحققت الموازنة عندي بين أمريء القيس وكاتب نصنا المعاصر . لقد رسم امرؤ القيس صورة سلبية لليل تلقفها عنه من جاء بعده فأكدوا قتامها او زادوه عتمة وظلاما يبدأ امرؤ القيس صورته وفق الشكل الآتي:

وليل كموج البحر أرخى سدوله   علي بأنواع الهموم ليبتلي

فقلت له لمـــــــا تمطى بصلبه     وأردف إعجازا وناس بكلكل

الا ايها الليل الطويل الا انجلي     بصبح وما الإصباح منك بأمثل

فيا لك من ليل كأن نجومـــــه      بكل مراس الفتل شدت بيذبل

صورة امريء القيس تلك تلقفها النابغة من بعده فقال:

كليني لهـــــــم يا اميمة ناصب   وليل اقاسيه بطيء الكواكب

تطاول حتى قلت ليس بمنقض   وليس الذي يرعى النجوم بايب

الليل مخيف، قاتم، وحش مفترس، وقد بقي صدى صورة أمريء القيس يتردد عند الشعراء، مع ذلك لم يلتزم بها صاحب نص "هاتف الفجر" اذ عندما أخطأته سهام انطلقت نحوه راح يتشبث بالليل يستجير بظلمته . انه ملاذه الذي أمنه واطمان اليه  ليصيبه سهم من هذه السهام حيث استجار بالليل الذي سرعان ما استوعب الاستجارة فوقع السهم في صدره وتغلغل باحشائه عندئذ احس ان النبض جرى مع الفلك . ان ضمير إلانا  / الشاعر/ السارد / بطل القصة يتحول من رمية السهم الى فلك والأنا والانت يندرج بعضها ببعض. ان ليل أمريء القيس ليل مخافة وليل السارد أمان وتأمل الى حيث راحة البال في التعاطي مع السماء. 

المقارنة

والمقارنة كما قلت بين كاتب عربي وآخر من قومية اخرى او نص عربي وثان اجنبي، فبمن يمكن ان نقارن بطل " الفجر"؟

الكثيرون  شاهدوا شريط المسيح وربما اكثر المشاهد اثارة  مانجده مصورا وفق رؤية الكتاب المقدس كما في يوحنا ٢٨/ ٣٠(بعد هذا لما عرف يسوع ان كل شيء قد تم فلكي تتم الآية قال: انا عطشان وكان إناء موضوعا هناك مملوءا خمرا حامضة فوضعوا إسفنجي مملوءة من هذه الخمر وقلبوها الى فمه فلما أخذ يسوع الخمر الحامضة قال قد تم وحنى راْسه واسلم الروح).

ان من يقرا نص "هاتف الفجر" يتمثل بسهولة السهم بمقابل الصليب، هو نفسه  الذي اصاب السارد /المتحدث / الراوي، كان الحديث عن المسيح بضمير الغيبة، والمسيح الجديد الذي اصابه سهم في قلبه يتحدث عن نفسه.

والنبيذ الذي تمثله السيد المسيح بدمه حيث اصبح الدم معادلا للتضحية بسبب العلاقة اللونية بين النبيذ والدم هو دم  يجري من شخص يتمثل المسيح، فالذي يتابع نص "هاتف الفجر" يجد ان الدم اصبح يسري من النبض باتجاه علاقة كونية تجعل الانسان ذَا المعاناة محورا لها. لقد كان المسيح يتأمل الارض في الشريط السينمائي والمتجمهرين حوله لينقذهم فيرفعهم من الارض الى السماء في حين كان بطل " هاتف الفجر" يقول واستسلم دمي، فرحت أتلمّس نبضي .. أتابعه كيف يعلو يعانق السماء ثم ينحني مع الأرض في دورانها .. تارة أرمقه أهيم برشاقته، وأخرى أُهادنه حينما يتحدى غروري.

انها نفسه التي هي الاخر ..وهو ، حقا ، نص يحمل معاني نبيلة أكثرها رقيا  انفتاح  ذلك النص القصير على مدى واسع جدا وأكثرها سموا اننا كنّا نعاني مع المسيح بطريقتنا الخاصة هو على الصليب ونحن مع السهم معادل الصليب، مثلما كنّا نعاني مع أمريء القيس بطريقة اخرى خارجة عن المألوف. 

*** 

د. قصي الشيخ عسكر

عن دار نينوى بدمشق صدر حديثا للدكتور صالح الرزوق كتاب بعنوان: (جدلية العنف والتسامح: قراءة في المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي) في 128ص من الحجم الوسط.

والكتاب ليس تحليلا لمشروع الغرباوي فقط بمقدار ما هو ميتا نص. بمعنى أن كتابات الغرباوي شكّلت الإطار النظري لمشكلة التنوير والنهضة في الإسلام العربي مع مقارنات من تراث رواد تفكيك الخطاب، ابتداء من هشام الشرابي وألبرت حوراني وانتهاء بطيب تيزيني وجمعة المهدي الغزاني.

اهم محاور الكتاب: الاستبداد العربي، الجهاد في الإسلام، مشروع تحرير المرأة. وهذا افترض أيضا المرور على نظريات التشيع العربي والفارسي وثورة المشروطة في العراق وإيران ودعاة وضع دستور للبلاد وتشكل حزب الإخوان المسلمين ودور سيد قطب في قيادة جناحه العسكري مع أنه في غياهب السجون.

يبني الكتاب أطروحته، مثل ماجد الغرباوي، على فكرة مفادها أن أئمة التنوير والنهضة كانوا محددين بجملة اعتبارات فرضها واقع الدولة العثمانية والدور المركزي لروحانيات الإسلام أو نص القانون الديني في المجتمع. وكلما اقترب العقل من جانب النص زادت صعوبات التخلص من التراث الأسطوري والخرافة وسقطات الأفكار الشعبية التي تحمل زادا لا نهاية له من التجهيل والأمية والاتكال على الفانتازيا. إلى أن أصبح العنف هو القانون الجديد في الإسلام المعاصر.

وترتب على ذلك خنق الروح الأصيلة للإسلام المعروف بالتسامح والتبشير بالمعرفة ونصر الضعفاء.

يقدم الكتاب في النهاية بيبلوغرافيا لأهم أعمال ماجد الغرباوي كمفكر إسلامي يعيش في المنفى.

1 salih 

جاء في مقدمة الكتاب:

لا يمكنني أن أنكر أن كتابات ماجد الغرباوي لها علاقة بالتشريعات والقوانين الإسلامية. ولكنه أساسا مفكر إصلاحي يهتم بما يفيد المجتمع.

وتركيزه على مبدأ المجتمع المدني يدل على ضعف إحساسه بالدولة كجهاز استبداد ورقابة وعلى ترجيحه لمبدأ الحوار وإطلاق الحريات العامة والخاصة. وضرورة تبني علاقات نسبية لا تسيء للدولة من خلال تحجيم دور ما هو ليس من خصوصياتها.

لقد أراد الغرباوي في كل أعماله أن يكون منفتحا على المجال الإنساني للبشرية. ولا يمكن لإنسان أن ينجز ويتطور وهو تحت رقابة صارمة ومجموعة من الأوامر والنواهي.

وميزة الإسلام، مع أنه دين موحد، يدين بالطاعة لجوهر الذات الإلهية الواحدة (الفرد الصمد) أنه أيضا تعبير لتصورات اجتماعية. تسمح للإنسان بالبحث عن ذاته كمفرد وكعضو في جماعة.

يتابع ماجد الغرباوي في كتابه (الحركات الإسلامية)(*) بناء مشروعه في قراءة الفكر الإسلامي. ليس من زاوية العمل والإيمان أو تحويل النظري إلى أقوال وأفعال، ولكن من زاوية علاقتها بالواقع.

إن مشروع الغرباوي لا يدعو للتجديد بمطلق المعنى ولكن لتجديد إيديولوجيا النهضة. فحجم الاتجاه التبريري عند محمد عبده والأفغاني أكبر بكثير من قلب المفاهيم أو الارتداد عليها. كانت دعوته أصلا بنية صادقة وعفوية تشدد على النكوص من عصر إلى الحلقة التي سبقته. وإن شئت المزيد من الدقة هي دعوة متأثرة بسياسة لا تجهيل العرب من أجل تحطيم الفهم الخرافي والأسطوري الفاسد للعثمانيين.

وعليه إن نهضة المعممين في العصر الذي برزوا فيه هي مجرد لعبة سياسية تدخل ضمن أول حرب باردة شهدها الشرق الأوسط تمهيدا لاجتياح عسكري.

ولمزيد من التوضيح: إن شيوخ النهضة لم يحاولوا تبديل حرف واحد في التفسير القياسي للنص المقدس. وإنما دعوا للعودة إليه.

ولذلك كانوا يقودون شعوبهم من استعمار احترقت أوراقه بسبب التهالك على الفساد وتشرذم أرجاء وأطراف الدولة. إلى استعمار لا يزال له بريق وجاذبية خاصة.

وكما قال هشام شرابي إن عبادة الأب هي إحدى أهم سمات الإصلاح المبكر وهو إصلاح إرجاع (1). وبرأيي زعماء الإصلاح في حلقتهم الأولى هم مجرد رأس الحربة التي استعملها الغرب لإلحاق أول جرح في جسم الدولة العثمانية.

ولا أعتقد أن شيئا تبدل منذ سياسة الأرض المحروثة وحتى سياسة الأرض المحروقة. فالعثمانيون الجدد في تركيا (كما يرى إحسان داغي) (2) يشترون صكوك الغفران من أوروبا الموحدة. وبالأكثر سيلتحقون بركب بقايا وفتات الاتحاد السوفياتي.

فإذا انحسر الإصلاح في أجزاء الإمبراطورية العثمانية القديمة فإنه يشهد يقظة لا سابقة لها في تركيا الجديدة.

ومن هنا تكتسب محاولة إعادة قراءة آيات بعينها من القرآن الكريم أهميتها في مشروع الغرباوي (و من يسير في موكبه). فهي قراءة معنى وليست قراءة نص. ولا يمكنني أن أقول عنها إنها اجتهاد في التأويل ولكنها تركيب للتأويلات. فهي تفترض لتبني النتيجة.

ومحنة رموز الإصلاح تدخل في باب التطهير العرقي والرد عليه. فهجرة الكواكبي إلى مصر. وسفريات الطهطاوي إلى باريس كانت تنويرا خارجيا. لم تؤثر على أنوار الروح. وفلسفة نور اليقين الإيمانية لم تتعرض لهذا الإمتحان.

46-majed

لقد كان الإصلاح في فجره اختيارا سياسيا بحتا. لم يمسس الحالة الدينية. بل زاد التمسك بالميتافيزيقا.

وهذا دليل أن الإنسان لم يكن موضوعهم ولكنها الدولة. وأن المجتمع لم يكن هو الهدف ولكن طريقة إدارته وتنظيمه.

وهو إصلاح غير عرفاني. وتغلب عليه الأغراض السياسية.

والمعركة لم تكن بين المحافظين والمجددين. ولكن بين أنصار الباب العالي والداعين للتخلي عنه.

فالاستلاب العرقي وصل إلى غربة روحية استدعت هذه الحلول.

وأعتقد أن بيوتر فيدوسييف حين وصم روجيه غارودي أنه تحريفي كان يعني نفس المعنى(3).

إن غارودي لم يعد يدين بالولاء لهيمنة السوفييت على الماركسية اللينينية. ويريد الاستقلال بآليته في قراءة ماركس ولينين.

لقد نعى فيدوسييف على غارودي دعوته لتعدد النماذج الاشتراكية ورفض أي تنوع نوعي. مع الموافقة الضمنية على تنوع في الأشكال. يعني التعبير اللغوي عن الظاهرة نفسها.

وهي نفس التهمة التي عانى منها الكواكبي وأطلق عليها اسم الاستبداد.

وبوجيز العبارة نحن أمام اشتباك وفض اشتباك. ولسنا في صدد تفسير روحي لظواهر دينية. وآلية عصر الأانوار عند العرب تأخرت في الواقع.

مثلما تأخرت الحداثة. وكل ما يدخل في باب التحديث نظريا هو رومنسيات إيديولوجية وقفت موقفا عدائيا من سلطة المحاكاة.

وإن شئت الاختصار: معركة ما نسميه الإصلاح تستهدف تحريض الانقسامات، والتمهيد لأجسام وكتل سياسية تستمد قدرتها على الوجود من اقتصاد غير جريح. ومن مجتمعات دخلت مرحلة الثورة.

فهي حاملة للثورة بمفهومها، وتقبله شرطيا. ولا تستطيع أن تفكر به من غير شروط.

والإصلاحيون بهذا المعنى غير عضويين. والجانب المحافظ منهم هو العضوي. ولهذا السبب نجحت البروتستانتية في تثوير الكنيسة بينما أخفق الإسلاميون في تثوير مجتمعاتهم.

وكل ما جنته أيديهم المزيد من الأشواك والدماء. فقد انتقلوا من رعاية إلى وصاية. ومن إقطاع إلى رأسمالية. ومن نكبة إلى نكسة.

وأرد ذلك بصراحة لعدم هضم معنى الثورة. ولتحميل قوالب التجديد مضامين ميتة.

لقد أتى الإسلام بثورة حرضت الروح على أن تتحول إلى سياسة. وسمحت للازدهار التجاري السلعي أن يتحول إلى اقتصاد منتج وريعي. ومؤسساتي. وهو أصلا اقتصاد بلاط. اقتصاد ملوك. يشجع على التفاوت الطبقي وتحطيم مبدأ أساسي في الإسلام هو المساواة (أسنان المشط). ومثل هذه المساواة هي جوهر مبدأ الجماعة. حيث تكرير الفروقات وإلغاؤها هو الدينامية لتحقيق التراصف والتآزر.

ولهذا السبب ألح الغرباوي على ضرورة نقد المنهج. إنه ضروري لانتشال الوعي وتصحيح المسار (كما قال في المقدمة- ص١١).

وبالنقد وحده (كما يضيف لاحقا) يمكن التعرف على مبررات السلوك اللاأخلاقي والانتهازي الذي انحدر إليه المسلمون بعد وصولهم إلى الحكم (ص ١١).

وبرأيي إن الإسلام السياسي هو نتيجة فك القران الميمون بين المشاعر الدينية والقومية(4).

فالمسلمون العرب وعلى امتداد قرون لديهم ضغائن من أخوتهم الذين اعتنقوا الإسلام.

وبدأت الدعوة إلى التحرر بمزاوجة بين المشاعر القومية وبديهة ما يسمى بالنقاء الذهني لعاطفة المسلمين.

واستمرت هذه المعادلة في تحريض الشارع طوال سنوات التنوير ثم النهضة.

وساعد الاستعمار وحروب الاستقلال على تعميق الازدواجية.

حتى أن العلامة عبد الرحمن الكواكبي ورط نفسه بشرح التطورات والاكتشافات العلمية بآيات من القرأن.

وكان يجد لكل اختراع آية تتنبأ به. وقد ورد في كتابه (طبائع الاستبداد)(5) أن الذكر الحكيم هو شمس العلوم (ص٢٣). وأن الاكتشافات العلمية التي تعزى لأمريكا وأوروبا ورد أكثرها بالتلميح والتصريح في القرآن منذ ثلاثة عشر قرنا (ص٢٤).

ولم تتوقف هذه الديناميكية في إلباس الدين لبوسا ماديا إلا بدخول العسكر إلى السلطة واستبعاد نصف الحقيقة. وهي لا شعور الثورة الإيماني.

فقد تفرد العسكر بالحكم وانحازوا للفكرة القومية على حساب المكون الآخر. الإسلام. ولا داعي للتذكير أن الإسلام السياسي كان في المنطقة العربية ضحية لفكرة اليقظة.

لقد كرر القوميون العرب التجربة البلشفية واستعبدوا الإسلاميين كما حصل مع المناشفة والتروتسكيين.

والإطاحة بالحوراني والبيطار وهذه الجماعات في سوريا. والانقلاب على محمد نجيب في مصر. لا بد أنه يدخل في سياسة تصفية الحسابات.

وطبعا أنا لا أنظر إلى الإسلاميين على أنهم ملائكة وضحية من ضحايا الصراع على السلطة فقط. ولكنهم جزء من ديناميكية تحرير الذات من ماضيها.

وأدى ذلك إلى انتشار ظاهرة العنف كأسلوب من أساليب التبشير بالمنهاج. وتحولت شعارات الاستقلال والتحرر إلى شعارات الجهاد.

وعليه إن سيكلوجيا الحركات الإسلامية تتأسس على سيكولوجيا الإيديولوجيات الجريحة مقابل سيكولوجيا الحضارة الجريحة (بتعبير ف. س. نيبول) عند القوميين.

ومثل هذه الحالة تستدعي التلازم بين جناحين يساعدانها على انتشال نفسها من التراب الذي سقطت فيه.

وهو ما يسميه ماجد الغرباوي: الوعي الحركي (ص ١٥). ومنبعه ظاهرة الخوف من الآخر وعدم الوثوق به (ص١٦).

وقد نجمت عنه أوهام وضعت الحركات الإسلامية في إسار الماضي، وصنعت فراغا بين واقعها النفسي والحاضر (ص١٥).

ولو ابتعدنا عن مفردات الغرباوي دون التضحية بمعانيه نلاحظ أنه يبني كل حججه وبراهينه على مسلمة الارتداد. فهو يرى أن الإسلام المعاصر ارتد على مبادئه الأساسية.

لقد بدأ الاسلام من معاناة قهرية ضمن مجتمع تجاري. ضعيف عسكريا. ومعقد بأعرافه الاجتماعية. وكان همه الأول تحرير الروح من الاستعباد والاسترقاق الذي كفلته بنية المجتمع. وما تقليد الهجرة إلا لمعالجة هذا الفراغ. وهو البحث عن مسكن آمن للأرواح المستضعفة.

ولذلك إن ما يجري اليوم يطاله إشكال شرعي ومؤاخذة أخلاقية (ص ٢١). فهو بعيد عن فكرة الينابيع. وشديد الأخذ بفكرة الأصول. ويوجد فرق جوهري بين البداهة والتقليد الأعمى.

والإسلام المعاصر هو إسلام متحول. فهو يبدأ من منتصف طريقه إلى الوحي. يعني لا يخاطب العدالة السماوية بقدر ما يهتم بالدولة وإشكالية الحكم.

ونقطة الضعف الاساسية فيه أنه إسلام الأطراف وليس المركز. حتى أن أقوى حركاته تنشط في الثغور التقليدية.

وهذه ثاني مفارقة أساسية.

إنه ينطلق من نقطة التأزيم مع فكرة الإسلام نفسه.

وكما قال الباحث: إن بعض الحركات الإسلامية تكون بأموال ومباركة من دول غير إسلامية، فطالبان تأسست بالدعم الأمريكي، وبعض هذه الحركات دخلت في تحالف أدى إلى الابتعاد عن الاستراتيجية الأساسية (ص ٦٦).

وفي الذهن مؤازرة حماس لسوريا حتى عام ٢٠٠٨، وتوقيف الإخوان المسلمين لنشاطهم ضد النظام السوري لمباركة هذا الإجراء.

فالجهاد أو ظاهرة فتوحات الأنظمة تختلف تماما عن جهاد فتوحات الأمصار في صدر الإسلام. والإسلام السياسي اليوم جزء لا يتجزأ من استراتيجية الحرب الباردة والصراع الدولي على مناطق النفوذ. وأخشى أنه (كما قال غريازينيفيتش- ص١١٠) غير قادر على ضبط الحياة الروحية لشعوب الشرق الأدنى وحوض المتوسط(6).

فالحركات الإسلامية الراهنة هي بنت الوعي الأسطوري الملتبس (بتعبير ماجد الغرباوي، ص ٣٥) والذي يحمل كل علامات الثقافة المهيضة الجناح.

ويرى أن الأسباب وراء ذلك كثيرة وأهمها: ١- الخط الأحمر المفروض على تكتيك الخطاب الديني واحتضاره تحت ضغط التفكير الشعبي الناقص والحامل لآيات التخلف والجمود والخرافة، ٢- الاستبداد الذي وضع العقل في أدنى مستوياته وسمح للاشعور بالنمو بنسب فاحشة غطت على كل أشكال التفكير والاجتهاد،٣- عزلة النخب الثقافية وسقوطها في مشكلة التعالي، ٤- احتكار رجل الدين لحق التربية والتوجيه وحصوله على حصانة تحميه من النقد والمراجعة والتخطي، حتى تحول إلى نص مقدس أو امتداد للمحرمات والممنوعات (ص ٣٤-٣٧).

ولذلك كان التشريع للنقد أولوية في تجديد الفكر الديني (ص٤٧). وكلنا سمع بمحنة الشيخ علي عبد الرازق المتهم بالتطاول على مشروعية حروب الردة. وأعتقد أن الانحياز لمشروعية التواتر والمحاكاة يؤسس لمجتمع إقليمي من المرايا المتعاكسة. كل مرآة تعكس نفسها. حتى يحل الخيال أو الصورة محل الحقيقة بسبب غيابها واستحالة الاتصال معها.

وهذا بصورة ضمنية يعيدنا إلى نمط من التفكير والتعليل الذي يقوم على التسليم الصامت بأسطورة الطبائع الثابتة والخصائص الدائمة (بلغة صادق جلال العظم)(7).

لذلك وضع الباحث نصب عينيه الكشف عن الخطأ الفاحش في التفسيرات الاستاتيكية لظاهرة متحولة لا تعرف السكون وأصلا هي تنطلق من استراتيجية واضحة في تحريك السواكن. وهذا يضفي عليها كل خصائص الظواهر العقلية التي تتطور مع مرور الأحقاب والعصور، وباختلاف الظروف والأسباب.

وعلى هذا الأساس يبني أهمية التحليل والنقد ومشروعيته.

فالحركات الإسلامية صناعة بشر وهي ليست جزءا من المطلق الإلهي والرباني ولا نتاج عوامل غيبية مفارقة(ص ٦٠)، والوعي بالتاريخ يفتقر للأسس التي يتطلبها الوعي بالذات. حيث أن الحدس بمفهوم برغسون متوالية أو تيار يحتاج لنظرة منفصلة عنه. فما بالك وأنها ذات معصوبة تحمل كل أعراض الحمل الكاذب. فقد طرأت على الإسلام والجماعات التي نذرت نفسها له غايات وأهداف بعيدة عن الحجج الروحية. كما أنه هناك حركات استنفدت أهدافها ( كما يقول الباحث - ص 61). فأدوات تنفيذ الاستراتيجيات في وقت السلم غيرها في وقت الحرب. ويضرب مثالا على ذلك بلجوء قواعد حزب الدعوة إلى البعث السوري للهرب من بطش صدام، وفرار كوادر الإخوان المسلمين من سوريا إلى العراق والبحث عن الحماية لدى البعث العراقي خوفا من بطش حافظ الأسد (ص ٧٣). وهذه أول مفارقة تؤكد على تعددية الحركات الإسلامية ولو اتفقت ظاهريا في بعض المبادئ والشعارات (ص ٧١). فقد كانت الأحزاب الدينية عرضة للانشطار والتشرذم. فالجهاد وجماعة التكفير والهجرة في مصر هما تطور جانبي من حزب الإخوان المسلمين (ص ٧١) والذي شهد بدوره تنظيمات داخلية متحاربة وفي مقدمتها التنظيم العسكري وموقفه الهازئ والمتهكم من التنظيم السياسي.و إن قصة تنافس الهضيبي وقطب على السلطة الداخلية الممسكة بزمام الجماعة معروفة. وتكشف عن عمق تعدد القراءات والتكتيكات. ولكنه ليس دليلا على العقوق والخروج عن الشرعية ( ص 69). و حاليا تشهد الساحة تنافسا دمويا على زعامة الحركة في سوريا بين داعش و جبهة النصرة التي تقود جيوش الفتح. و من قبل شهدت أفغانستان تنافسا مشابها بين الأوزبك و الطاجيك. وقد طالت هذه المناوشات العقائدية الأحزاب التيي كانت لها الصدارة. و بالأخص القومية منها. أو ذات التفكير التحرري المؤمن بالجيش العقائدي. و سياسة العسكرة ( أو بناء مجتمع الجيوب الشعبية المسلحة) تعرضت لهزة قوية في منعطفين حاسمين. الأول في الجزائر بعد وفاة بومدين ( اغتياله كما تذهب بعض الشائعات). و الثاني بوفاة عبدالناصر في مصر ( تسميمه كما تتناقل بعض الأخبار). فقد انتقلت ملكية الكوادر المسلحة بالوكالة إلى تنظيمات إسلامية تبنت فكرة الجهاد و تغيير سلطة الأمر بالواقع بالقوة. و هذا التحول في التفكير من وطمي عالماني أو قومي إلى دبني ينم عن اختلاط في الدوافع. و عدم وضوح في الأذهان و العودة إلى الفطرة التي تراها تربية دينية ساذجة و عاطفية. و للأسف كان ذلك يحمل شحنة عالية من الانقلابية إلى درجة نشوء قطيعة مع المنشأ السياسي. وهذا دليل قوي على نسبية المعرفة الدينية (ص ٨٥). فهي ليست معرفة ميتة. ولكنها قابلة للنمو كما هي قابلة للانتكاس والرجوع. ولديها قدرات هائلة على حجب النص (ص ٨٩). ويمكن القول إن القرأن الكريم ذاته هو حجاب لنصوص قبله، عمل على تفكيكها وتوجيه سهام النقد اللاذع لمكامن الضعف والأخطاء فيها (ص١٠٠). وهذا أول درس يبرر ضرورة التأويل وإعادة النظر بالمسلمات المتجمدة. فالنقد بمستوى أمر وجوب في الإسلام وهو ليس مستحبا فقط (ص ١٠٢).

ولا يمكن أن ننكر التحيز ( ص 84). فأية قراءة لا تأتي من فراغ. ولكنها تحمل في ذاتها مبررات تعريف الوجوب.

لماذا هي موجودة أصلا. ولماذا يجب أن تقارب هذه المسألة وتتصدى لمهمة حمايتها من الذوبان أو الاندثار.

وأعتقد أن الغيبوبة التي يعكسها فكر الغزالي في مراحله الأخيرة هي غير تمسكه المتشدد بأصول الفقه السني في بداياته. ومثل هذا التطور يحمل بصمات انعطافة على مستوى تجليات الوعي ذاته.

وتحريض الروح على العقل في مجال الفضاء الإيديولوجي نفسه يدل على انكسار وتراجع.

إن مشكلة الحركات الإسلامية أنه تقف خلفها دوافع دينية- سياسية (ص ١٢٧). وإذا كانت السياسة هي المسؤولة عن الخلافات البينية والمواقف من الأنا والآخر والتكفير. فالدين مسؤول عن حقيقة المبايعة. والتحفيز على التضحية والمغالاة بها إلى درجة الانتحار (ص ١٢٧).

ومن هنا نشأت ظاهرة الإرهاب الدولية بأبعادها المتعددة وما أحاط بها من هالة وصلت إلى درجة تحريض المخيال الشعبي على الإضافة والمبالغة حتى نشأ منها دين جديد (بتعبير صالح الطائي)(8) أصبح بمثابة دين سماوي رابع. ظاهره الإسلام وباطنه التكفير والقتل. وغلافه شعار (الثورة المستمرة، ص ١٢٩).

إن الإسلام السياسي بالنتيجة مشروع مختلف عليه، له الحق في تطبيق أدواته، ولكن ليس لديه الحق بالمصادرة على حرية الآخر المختلف عنه. وإن خضوعه لمنطق السياسة والارتباط في نفس الوقت برجل الدين حوله إلى حركات وشراذم متمردة تؤمن بالعنف والاستبداد وتقاطع الإرادات (ص١٤٤). وهذا يفرض عليه إجراء تحولات فكرية ليتجاوز اخفاقاته وكي لا يسقط في نفس الحفرة التي أودت بالفكر القومي وأوردته موارد التهلكة.

د. صالح الرزوق

.....................

* الحركات الإسلامية، قراءة نقدية في تجليات الوعي. منشورات مؤسسة المثقف العربي، ودار العارف، بيروت. ٢٠١٥. ١٥٨ ص.

1- المثقفون العرب والغرب، دار النهار، بيروت، ط٢ ١٩٧٨. ص ٣٩.

2-

Turkey Between Militarism and Democracy .Ankara.

3- غارودي والتحريفية المعاصرة. بيوتر فيدوسييف. دار الطليعة. بيروت. ١٩٧٤.

4- أسرار سياسية عربية. عبدالهادي بكار. الخيال. القاهرة.2000.

5- طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد. الرحالة كاف. الكتبية في الأزهر الشريف. مصر.

6- المثاقفة بين العروبة والإسلام. ترجمة حسان إسحق. دمشق. 2000.

7- ذهنية التحريم. دار المدى. دمشق. ط2 2004.

8- دور النص المقدس في صناعة عقيدة التكفير. دار المرتضى. بيروت. 2015 .

هذه المقالة الثانية التي تستعرض كتاب: (التسامح ومنابع اللاتسامح - فرص التعايش بين الاديان والثقافات) للكاتب والباحث ماجد الغرباوي، الذي يهتم في بحوثه بالطرح العلمي والموضوعي في تناول موضوعات حساسة وملتهبة، والتي تشغل بال الكثير من المعنيين بشؤون الثقافة والفكر الاسلامي وفق رؤية معاصرة، وفي مواجهة التطورات الحديثة في العالم الاسلامي في صيغها وقيمها التسامحية وفق ما جاء في (القرآ ن الكريم والسيرة النبوية) بنظرة خالية من التحيز او التحريف او تطويع النصوص الدينية لاغراض بعيدة عن اصول الاسلام بما يخص قيم التسامح، اضافة الى هذه الميزة التي تميز الباحث النزيه عن غيره، في تشويه الحقائق او تأويلها لاغراض سياسية بعيدة عن النص الديني، فان الكاتب يمتلك ثروة لغوية عميقة دون سرد او اسهاب زائد عن الحاجة، لذا فان كل جملة لها صدى في المعنى والسياق العام ببراعة كاتب يجبرك على الغوص في ثنايا الكتاب دون ملل او شعور بالوقت، وهذه خصلة لايملكها إلا من له باع طويل وخبرة واسعة في صنع فن الكتابة، والتحري بعمق في موروثاتنا الثقافية والفكرية الاسلامية . حقا ان قيم التسامح هي بالضد من الكراهية والحقد والارهاب الاعمى والعنف بكل اشكاله في المجتمع الاسلامي، الذي يزخر بمكوناته وطوائفه الدينية والعرقية والقومية والقبلية والاجتماعية والسياسية، لذا فان قيم التسامح يجب ان تبدأ من اصغر وحدة في المجتمع وهي الاسرة او البيت الى رجل الدين ورجل السياسة ثم الى اعلى هرم في الدولة والسلطة والى المفكر الثقافي الى رجل الفكر والاجتماع، حتى تكون الحصيلة العامة بوادر مشجعة وصدى مؤثر لهذه المفاهيم، حتى تتقلص حدود الخطاب التكفري المتشدد، او النظرة المتعالية على الاديان الاخرى، التي توصف الاخرين بالكفرة او المرتدين او انهم معادين لرسالة الاسلام مثلما ما يتبجح به اعلام الجماعات المتطرفة والمتشددة والسلفية التي تبيح القتل باسم الاسلام .

 ان ركائز التسامح تشمل اربعة اقسام وهي:

1- حقوق المواطنة: ومفهوم المواطنة هو (الاعتراف بالاخر وبحقوقه او لا اقل قبوله وقبول التعايش معه سلميا وفق حقوق مشتركة لجميع المواطني). وما يتطلبه بالمساواة بالحقوق والواجبات، والتساوي في الانتماء الى الوطن الواحد . اي بغض النظر عن انتماءاتهم القومية والدينية، وحق غير المسلمين بالتمتع بهذه المزايا، كما جاء في القرآن الكريم والسيرة النبوية التي تؤكد بشكل لايقبل التأؤيل بتمتع بكافة حقوقهم كباقي الاكثرية الاسلامية، في اطار الوطن الواحد الذي يقر بالتعايش وعدم التجاوز على خصوصية الاديان الاخرى، بالاعتراف بحقوقهم والاعتراف بوجودهم ودورهم في المجتمع. 

2- سيادة القانون: ان قيم التسامح في المجتمع لا تلغي سيادة القانون وسلطته، اذا كان هذا القانون يؤدي منفعة عامة، واذا كان مستندا على الحكومات المنتخبة من الشعب ويعتمد على ارادة الشعب، بالضد من القانون الذي يحمل في طياته فقاعات عنصرية او شوفينية او طائفية او دينية متعصبة، ويجب ان تكون كل اطياف المجتمع ان يسودها الاحترام الى قوانين الدولة النابعة من (ارادة الشعب، وقد تمت الموافقة عليها في الانظمة الديموقراطية) وان تكون المرجعيات خاضعة لهذه الارادة.

3- اعادة تشكيل قيم التفاضل: تتحكم في عقلية الفرد جملة من المفردات في سلوكه وتفكيره من الدين والاخلاق والاعراف والتقاليد القبلية ومجموعة من سمات القيم الاخرى، لكن تبقى مسألة جوهرية وهامة في هذه القيم يجب ان تستند على مقولة (لا اكراه في الدين) واحترام الاخر، وما سيرة حياة الرسول الكريم، تعطي امثلة رائعة من التقوى والفضيلة وسمو الاخلاق والجهاد والعلم الذي تنتفع منه البشرية ويستحق التقدير والاحترام، (ويصلح بجدارة لان يتحول الى قيمة تفاضلية) لها صدى واسع.

4- اطلاق الحريات العامة: لاشك ان الحريات العامة تؤدي دورها الفعال في المجتمع وتساعد على ترسيخ القيم بين ابناء الوطن الواحد، وهي بالضد من انعدام الحريات، حيث يكون الشعب تحت رحمة مطرقة الاضطهاد والكبت والحرمان، التي تؤدي بروز الخوف والقلق والخشية من العواقب، وكذلك تبرز مظاهر التكتم على الحقيقة وشيوع ظاهرة النفاق والتملق . وتسيد العنف في الحياة العامة التي تسلب حق الاخرين في اختيار طريقة اسلوب الحياة، ومثل الانظمة الدكتاتورية التي تخنق بوادر الحياة الحية .وتجربة العراق غنية في هذا المجال من اضطهاد وقهر وسلب الارادة، لذا فان الحرية تكون (سلاح ماض لتحطيم قيم الكراهية والاحقاد، واداة ناجحة لترسيخ قيم التسامح).

يستعرض الكتاب نماذج عديدة في اطار المجتمع ذات الغاليبة الاسلامية .. والصفة المميزة للكاتب يتضح بالجهد الفكري والبحث العميق في ثنايا القرآن الكريم، واستخلاص منه (60) آية من آياته الكريمة التي تدعو الى قيم التسامح والعفو والمغفرة والرحمة، وهي تتجاوز بالكثير من الآيات التي تدعو الى العنف او السيف، ولكن يجب عدم تعميمها بل مناقشة ظروفها وزمانها والحاجة التي دعت اليها في ذلك الزمان والوقت، وان لا تكون ذريعة لبعض المتشددين والمتطرفين في الدين من استخدامها في الظرف الراهن، اي في غير زمانها لتبرير نهجهم الارهابي في القتل وارتكاب الجرائم باسم الاسلام

***

جمعة عبدالله

 

توغّلْ .. توغّلْ

فلذيذُ الطعنات

آلامُها

***

يتكرر هذا البوح بالألم، في قصيدة الباحث الأديب ماجد الغرباوي "مديات حلم". هذا التكرارُ خلاصةُ الجرح فيه، جسداً وروحاً. إنّه بيت القصيد، الذي يدور في دوامته النصّ. هو المخاضُ الذي وُلدَ من رحمه ما يحمل مضمونه من أحاسيس، وتفاصيل، وصور:

آهاتٌ تساقطتْ،

فراحتْ تـُلملم جـُرحَها،

ولمّا اقتحمت فناءكم،

كان عليَّ أن اعتذر لكم جميعا

هي الآهات إذن، الآهاتُ التي تساقطتْ، وهي تلملم جرحَها. جرحٌ أمطرَ في فنائنا هذا الشدو الشجيِّ، الموغلَ في عمق النفس المبدعة، لتمطرَنا بهذا البوح. إنّه القلب المضمّخ بالألم. الألم الذي يرفع الكلمة اضاءةً لما في داخل النفسِ من كلامٍ، يحمله الكاتبُ ليمرّ علينا بقنديلهِ، معتذراً لما قد يسيلُ من أنامله ما يقتحمُ قلوبنا جُرحاً فنتألم. مع أنّهُ ألم لذيذ نحتسيه. وهو الغرباوي المتوغل عميقاً. فيمَ يا تُرى؟:

في مدياتك القصية حلمٌ

شاسعان جناحاك

حلِّقْ ...

فلن تجدَ سوى الريح موطئا

هو الحلم. والتوغل ليس في عمق الأسفل، إنما هو في شاسعات الأعالي .. هناك حيث أقاصي الفضاء الرحب. والتحليقُ بجناحين، فارعين شاسعين. بامكانهما الطيران الى أعلى فأعلى .. هناك الحلم السابح في نور الشمس. هو حلم الخلاص من الجرح وآلامه، للتحليق ثانيةً الى أقصى فأقصى .. حيث المدياتُ الفسيحة. واللهفة تشدّه. وقودهُ دمُه المراقُ، الذي يحرقُ جوانحهُ ألماً ورغبةً في الخلاص، وتوقاً إلى معانقة النجوم، وإلى الطيران في الهواء والفضاء الشاسع:

تشدُّكَ ازرارُ اللهفة

وقودُ حناياك دمي

هذه اللهفة في الخلاص، مشدودةٌ الى التحدي، تحدي الجراح للتخلص منها بقوة وعزيمةٍ وعمق كأنامل الشمسِ وهي تغور عميقاً لتمزّقَ الشرنقة فينطلق الغرورُ مقتحماً المدى للوصول الى الحلم المُنتظَر. لا يعني الغرورُ هنا التكبّرَ، وإنّما الثقة العارمة بالنفس وقدرتها على تحمّل صخرة الألم الثقيلة الخانقة. الانتظارُ ليس بالاستسلام للقدر، وإنّما بالسعي الحثيث، والشجاعة الارادة الصلبة والاصرار على المواجهة، وجعل اليد سلّماً للوصول إلى النيازك لافتدائها. فاليد هنا علامة القوة والعزيمة في التصدي والمقارعة، والأمل في اقتناص الحلم:

عميقاً تهادت أناملُ الشمسِ

تمزّق شرنقةَ الغرورِ

*

سُلّـمٌ يدي

تفتدي

سنا النيازك

وهذا ما يُذكّرنا بما قاله حافظ ابراهيم :

مَنْ رامَ وصلَ الشمسِ حاكَ خيوطَها

سـبباـً إلى آمـالـهِ ..... وتعـلّقـا

روحُ التحدي للآلام وجراحها النازفةِ، ومواجهتها بالشجاعة والقوة النفسية والارادة الحديد، تعيدُنا الى الميثولوجيا الأغريقية وقصة الإله برومثيوس، التي وظّفها الكثير من الشعراء في مضامين قصائدهم لخدمة ما يرمون اليه. ومنهم أبو القاسم الشابي في قصيدته "هكذا غنّى برومثيوس"، قصيدة التحدي والمصارعة، ومقارعة الألم باشدِّ القوةِ والعزم والتحمّل، وبالاصرار على مواصلة الحياة ونشيدها، وبالانشداد الى حبِّ الانسان وحلمه في نشر النور والمعرفة والدفء، مثلما ترمز اليه قصة الإله برومثيوس، ومثلما كانت حياة الشابيّ انساناً وشاعراً:

سأعيشُ رغمَ الداءِ والأعداءِ

كالنسرِ فوق القمّةِ الشمّاءِ

*

أرنو إلى الشمسِ المضيئةِ هازئاً

بالسُحْبِ ، والأمطارِ ، والأنـواءِ

*

لا أعرفُ الشكوى الذليلةَ والبكا

وضراعـةَ الأطفالِ ، والضعفـاءِ

كانَ برومثيوس سامقاً شامخاً، وهو يقارع آلامه متحمّلاً متحدياً قوياً، حتى خلّصهُ هرقل من عذاباته. وكذا كانَ أبو القاسم الشابيّ (برومثيوس). وهكذا هو الغرباويّ:

سامقا تعاقرُ آلهةَ الحبّ

مترعةٌ جداولُ الصباح

بذلك الضباب الرومانسي

فهل الحلم بالخلاص رومانسية ضبابية، أم هي القوة والشجاعة التي تعين على الصبر حتى مجيء الخلاص؟ وهل ننسى قصة النبي أيوب (ع) مع الصبر والتحمّل؟

إننا أمام برومثيوس صابراً هازئاً بالسحب والأمطارِ والأنواءِ. وعليه فهل يمكنُ لنا أنْ نسمّيَ النصَّ هذا (برومثيوس سامقاً)، وذلك لاحتوائه على اشارات السموق والترفّع عن الشكوى الذليلة. هو في أخدود نار الألم، يعاقر آلهة الحبّ خمور الحبِّ والنور والرومانسية الحالمة.

اعتماد أديبنا الغرباويّ على التكرار لنصٍّ داخل النصّ، هو للاشارة التأكيدية على معنىً. هذه الاشارة كما أسلفنا هي بيت القصيد. فما يدور حولها هو دخول في تفاصيلها، حسّاً، ومضموناً، وصوراً. إنّ الألم هو خالق النصِّ، بما أحدثه في النفس، لتتفجّر بما باحتْ لنا. إنه الألم الناشب أظفاره ، لكنّه مع طعناته لذيذ، لأنه يخطّ العمق والسموق واليد التي تطال النيازك، ويُفجّرُ جداول الصباح المنير مترعة بالرومانسية والقوة الذاتية. وهو الذي أبدع هذا النصَّ الزاخر بالحسّ الرومانسي الرهيف، واللغة الجميلة، والصور الشعرية الرقيقة.

للثقافة العميقة محيطاً شاسعاً، أثرُها في النفس وفي الفكر وفي البصر. في النفسِ فضاءً مشرقاً مفتوحاً على نوافذ عديدة. في الفكر تحليقاً بأجنحة، لا جناحين فحسب. في البصر منفتحاً على آفاقٍ بألوانٍ مختلفة. وعندما تكون الثقافة مستندة إلى جذع شجرة الموهبة والابداع، مدعومة بالقلم والكلمة، عندها نحضى بما يطيب، وبما ينفع، وبما يدهش. وهذا ما التقطناه في مبدعنا الكبير ماجد الغرباوي، المثقف المغرم بالكلمة مكتوبةً متفجّرةً، هو هذا المثقف المتعدد فنون الكلمة، ليبرزَ بحثاً وقصّاً... ثم شعراً.

***

عبد الستار نورعلي

فجر السبت 13/7/2013

.........................

ماجد الغرباوي: مديات حلم

عميقا تهادت أناملُ الشمسِ

تمزّق شرنقة الغرورِ

*

سُلّـمٌ يدي

تفتدي

سنا النيازك

*

توغّلْ .. توغّلْ

فلذيذُ الطعنات

آلامُها

*

سامقا تعاقرُ آلهة الحب

مترعة جداول الصباح

بذلك الضباب الرومانسي

*

توغّلْ .. توغّلْ

فلذيذ الطعنات

آلامُها

*

في مدياتك القصية حلمٌ

شاسعان جناحاك

حلقْ .. فلن تجدَ سوى الريح موطئا

*

تشدكَ ازرارُ اللهفة

وقود حناياك دمي

*

توغّلْ .. توغّلْ

فلذيذ الطعنات

آلامُها

***

آهات تساقطت، فراحت تـُلملم جـُرحَها،

ولمّا اقتحمت فناءكم، كان عليَّ أن اعتذر لكم جميعا

***

ماجد الغرباوي

5 – 7 - 2013

 

رغم الغربة والمرارة والحنين واللوعة، وأنين الجسد وآلامه، وذكريات الوطن والأمنيات وشوقه ودموعه وأحلامه .. ورغم بُعد المسافات وترامي الحدود، ما زال نجمه لامعاً يتجدد كل يوم في سماء العلم والفكر والمعرفة .. لم تقف قريحته الفذة عند حد، ولم يبخل على طلابه وقرّائه من فيض عطائه. كما لم يمنعنا بُعد مهجره أن ننهل من وحي علمه وفكره المعطاء، ولم يتوان كرمه بدرس او نُصحٍ او ارشاد .. وهذا ما عهدناه من خلال متابعتنا وتواصلنا معه عبر الأثير، أنه استاذي الباحث المفكر القدير ماجد الغرباوي، الذي نبقى نتطلع لرؤيته ولقائه شخصياً، والتزود من فكره وعلمه ومواهبه وعطائه ذات يوم.

الغرباوي .. الاكتشاف

لسنا بصدد استعراض ومناقشة مشاريع الاستاذ الغرباوي وما يتمتع به من آفاق علمية وثقافة واسعة ومواهب فكرية وأدبية عالية بقدر ما نحاول إعطاء صورة ولو تقريبية من وجهة نظر "قارئ" يحاول اكتشاف معالم شخصيته، والتعرّف على ملامح فكره وعلمه،  لاننا نعتقد انه ما زال يكتنز في صدره أكثر مما ظهر في نتاجاته، وأبعد مدى مما طرحه في الساحة الثقافية. ورغم اسلوبه الواضح في مناقشاته ومعالجاته، إلا أن القارئ المتفحّص بامعان يستطيع ان يلحظ  ويلمس، ان هناك مشروعاً آخر لم ير النور. وهناك فكر، وفلسفات، وعلم، ومعارف، واخلاق. هناك أفكار ومشاريع، واشياء كثيرة لا تزال مختزلة في روحه وعقله، لم يُفصِح عنها بعد ! .

ما يشدنا أكثر الى متابعته هو:

فضلاً عن الذكاء والفطنة والبصيرة وبُعد النظر وسرعة استيعاب الرؤية وأحتوائها، هناك الشفافية وعمق التجربة الذاتية وحضور البديهة المثقفة والواعية التي يمتاز بها في رهاناته. اضافة الى قدرته الفائقة على ادارة الحوار، وهي صفة تعكس خصائصه التربوية والاجتماعية، ثم قدرته على حسم الموقف وارضاء الجميع بنفس الوقت.

ومن ذلك الحضور الواثق كدليل بسيط على مستوى فهمه ووعيه المتوقد والمُتجدِد هي ردوده على قرّائه، حيث يتجاوز فيها الصراعات التقليدية والكلاسيكية المعروفة لدى الوعي العام والسائد. وايضا فان استجاباته ومناقشاته تعد تجسيدا بارزا وحيا لاخلاقه الرائدة وفهمه المتطور الخلّاق. ففي ردوده الشفافة والرائعة على من يتعاطى بعاطفة وتشنج وعصبية وأنفعال زائد مع القراءات المخالفة لآرائهم او إعتقاداتهم او أفكارهم، تجد اجابات علمية، فكرية، ثقافية، اسلامية، واجتماعية تنطوي على عشرات الأسئلة المُختزلة "الآنيَّة والمستقبلية"، كل ذلك يطرحه باسلوبه الحضاري وروحه المتفتحه المعهودة بدقَّة وعمق وقوَّة موضوعية وشمولية عادلة وصالحة.

فمثلا، كتب مقالا حول أهمية السؤال كرد على مجموعة من التعليقات، جاء فيه:

(أسس القرآن الكريم منهجا، حالت رمزيته العالية دون ادراك ابعاده، وظل المسلم يعيد قراءة آياته، وهو لا يفقه من معانيه شيئا .

فتحدث القرآن عن حوار دار بين ابليس وبين الباري - تعالى -، ليؤكد لنا ثمة اسئلة مشروعة، من اي جهة صدرت، يجب الاجابة عليها (ولو كان الرب جل وعلا).

كما نقل لنا القرآن الكريم حوارا دار بين الخالق وملائكته، وهم كائنات صالحة دأبها الطاعة، لكن هواجس خلق الانسان استبدت بها، فكانت هناك اسئلة طرحها القرآن الكريم ورد عليها، دون اي قمع او اضطهاد او تهديد، كل ما في الامر أجّل الاجابة بالنسبة لسؤال الملائكة، لان طبيعة الجواب تحتاج الى تجربة عملية .

ثم طرح القرآن الكريم أخطر الشبهات، التي تهدد رسالته، وهي التوحيد، دون اي اكتراث، ونقل لنا اسئلة المشككين، والكافرين والملحدين، والناكرين، وناقشها علنا. قال هكذا كانت اشكالاتهم، وهذه اجوبتنا .

فهل هناك اخطر من مسألة وجود الله بالنسبة للاديان جميعا؟ وما قيمة ما عداها لو اهتز الايمان بوجود الله - سبحانه - او توحيده؟ فلماذا لا يستفز الانبياء من اسئلة المنكرين، والجاحدين؟ وكيف وضعهم القرآن وجها لوجه امام تلك التساؤلات؟ .

لماذا لم يعترض النبي ويقول له يارب، لقد اخطأت التوقيت، انها ستضعف دعوتي، وانا في بدايتها؟ لماذا تقبلها واعلنها على الملأ بكل ثقة ومسؤولية، ورد عليها، وفند حججها .

اذن المنهج القرآني يقوم على شرعية السؤال، وحق الرد، ومنهجه قائم على طرح الاسئلة بشكل شفاف علني، كي يتحمل المسلم مسؤوليته امام اي عمل يقوم به، ويكون مسؤولا تجاه اي رأي يطرحه، لاستحالة قمع الاسئلة، ولا بد من متنفس تطفو من خلاله بحثا عن اجوبة مقنعة . ولولا السؤال لما تطورت الحضارة)1.

لم أقرأ له سوى كِتابَين من مؤلَّفاته: "أشكاليات التجديد" و"التسامح ومنابع اللاتسامح". وانا بصدد إقتناء وقراءة كل نتاجاته الأخرى، وكل ما رفد به المكتبة  الثقافية والاسلامية ان شاء الله تعالى.  لكني تابعت وإطلعت على كتاباته ونقاشاته ومعالجاته وحواراته من خلال مقالاته في أرشيف صحيفة المثقف الألكترونية2 وغيرها من المواقع والصحف.

بكل تجرد وإنصاف: يجد القارئ نفسه وهو يطلع على تراث هذا الرجل امام امكانيات معرفية ثرّة، ومكنونات فكرية اسلامية واجتماعية وأدبية غزيرة تتجدد على الدوام، ويلحظ سيطرته التامة على المطالب المتناولة فكريا وعلميا مع مواكبة متطورة وعصرية. يُلحَظ ذلك في مقالاته وبحوثه ومعالجاته الفكرية والثقافية، بل وغيرها مما يتناوله في نقاشاته او التي يحللها بكتاباته ..

وبحوث الغرباوي تتصف ايضا بالاستقراء الموضوعي الصحيح، وتعدد القراءات لكل حادثة وواقعة يتناولها، والاستيعاب المدرك، والفهم المعرفي الدقيق ضمن ثقافته التخصصية والعامة. وحيادية واخلاقية وموضوعية تامة، وقدرة على بحث ودراسة اي قضية من جيمع جوانبها ومداخلاتها واستنطاقها، وثم المفاضلة في تقييم التنوّع والاشكال وحل الملابسات ودفع السلبيات والمؤاخذات وملاحقة الايجابيات وبلورتها وتبسيطها بصور تتماهى جذرياً او تأسيسياً مع متطلبات المرحلة "الآنية" برؤية مستقبلية، فضلا عن ثقافته التي تتصف بسلاسة الاسلوب، ومرونة في دراسة الحالة او الظاهرة مهما كانت ابعادها شائكة، وتذليلها بدلالات واسعة لايضيق على القارئ أستيعابها وفهمها. فمثلا في بحوثه الاسلامية عندما يقدم الاسلام كنظام يجمع بين التأصيل الشرعي والوعي الواقعي والثقافي بتاريخ الأمة وحاضرها ومستقبلها، يدرس الغرباوي منهج الإسلام من حيث هو كلي مترابط في القيم والنظم والفكر.

ثم روعة الارتكاز العلمي المؤسس وأدواته المنطقية في الأستقراء والسلوك والفهم تتجلى بوضوح في كل عمليات المعالجة والتشريح المعرفي على طاولة المُفكر الاسلامي المتمرس والاجتماعي المتبحِّر والخبير . كما ان الأسس المنطقية والأدوات الفنيّة والعقلية المنفتحة التي يعتمدها اسلوبه الكتابي النقدي ومعالجاته الثقافية والفكرية، تُعد من أهم ركائز وأوليات الاستنتاج "المُبدع والمُبتكر".

الوطن في روح الغرباوي وإيمانه:

ان شعور الانتماء للوطن يتجلى في افكار الاستاذ ماجد الغرباوي  وهو يناقش حالات القلق الحاصل على ارض الوطن. وكان حب الوطن حافزه، من واقع المسؤولية الثقافية والوطنية، في التعاطي بمرونة في نتاجه الفكري. فمن اسهاماته الوطنية الكثيرة التي رفد بها الساحة السياسية والأجتماعية، ثقافة الوعي للجماهير وما تحتاجه لاعادة النظر في سلوكياتها وقيمها الكلاسيكية ومورثاتها المؤججة. وهو يدعو دائما لعدم الانجرار وراء صراعات قبلية وسياسية واجتماعية لاطائل منها سوى زيادة الشحناء والمأساة. ويرى أن هناك دائما ثمة حوار واخلاق وسلوكيات بديلة اكثر قيمة مدنية وحضارية كفيلة باحلال السلام بين الجميع، تعزز لغة الأنسجام واعادة النظر في الصراعات القائمة برمتها. كل ذلك من أجل العمل على ايجاد تسوية دائمة وشاملة تحقق الأمن والسلام، وهي دعوة توكد على حرص وتمسك الغرباوي بالسلام الوطني والاجتماعي كخيار استراتيجى ومنطلق اساسي للتعايش السلمي بين كل اديان واطياف المجتمع على ارض الوطن .

ويحس القارئ ان الخبرة الحياتية والعلمية والاجتماعية موظَّفة بصورة واضحة في طاقات الغرباوي وبرامجه وعطاءاته الفكرية والانتاجية. يتجسد ذلك من خلال دعوته لتوفير ارضية سليمة للتواصل مع هموم المجتمع وأزماته المتراكمة. ودعوته لايجاد حلول قِيَمية مُثلى، من خلال:

- دراسة الواقع السياسي والاجتماعي والديني بصورة جذرية.

- الاسهام في ترجمة الموروث الديني والاجتماعي وفق رؤية اكثر تطورا وانفتاحا.

- البحث عن كل الخيارات المتاحة من اجل توفير فرص للتعايش السلمي والحضاري بين الثقافات والأديان.

وليس من صورة واضحة لتلك المشاعر الوطنية اكثر من خطابه في كتابه "التسامح ومنابع اللاتسامح". حيث يتميّز هذا الخطاب بصلاحيته لكل المجتمعات التي تمر بنفس ما يمر به مجتمعنا العراقي من أزمات. ووفقا لهذا الخطاب، كما يرى الغرباوي، يجب البحث عن سُبل بديلة وخلق وأبتكار أجواء تسامحيَّة جديدة، وبرمجتها معرفياً وحركياً في فضاءات المجتمع، من أجل البقاء وديمومة التعايش السلمي ضمن حياتنا المجتمعية.

الغرباوي مفكرا:

في كتابه التسامح ومنابع اللاتسامح .. فرص التعايش بين الأديان والثقافات .. يقول الغرباوي:

(ان ما نشاهده اليوم من صراع محتدم بين القوميات والأديان والمذاهب يكشف عن رخاوة الأسس التي يقوم عليها مفهوم التسامح او غيابه، فهو في نظر الأوساط المتصارعة لا يعدو كونه قيمة اخلاقية تتحكم به المؤثرات الاجتماعية والسياسية، وهو في رأيها منّة وتفضيل مشروط . قد ينقلب الى ضده اذا فقد رصيده الاخلاقي، وما نحتاجه فعلاً لتوطيد العلاقة بين الطوائف والقوميات مفهوم يرتكز الى أسس متينة، تتفادى الأحتكاك على خطوط التماس .. لتكريس مفهوم التسامح وفق حاجاته الاجتماعية بعيداً عن المنّة والتفضل والتكرم، فالتسامح هنا حق لجميع الافراد على أساس الاعتراف بالآخر، وحماية لحقوقه، حق تفرضه الحقوق المشروعة لكل انسان في الحرية الشخصية، وحرية الأعتقاد، وحرية التعبير)3.

اذا فهو يدعو الى زرع وبث روح التعايش السلمي بين الأفراد والمكونات، وفق قراءات وأسس متينة جديدة، خلافاً لما هو سائد في الوضع الجاري، كي تتفاعل من خلالها جميع مكونات المجتمع بصورة حضارية اكثر انفتاحا واكثر ديمقراطية.

كما يدعو في خطابه الى غرس حس ثقافي يهدف إلى وعي أمني شامل في نفس وفكر جميع مكونات المجتمع على حد سواء. أي يهدف الى تكوين قاعدة بشرية كبرى من التعاون المدني والاجتماعي، بحيث يسهم ذلك بشكل ايجابي وفعال في تحقيق العملية الأمنية والتعايش السلمي المستقبلي بين الأفراد والمكونات والأديان. وفي هذا المشروع محاولات دؤوبة لانقاذ المجتمع من العزلة والمصير المجهول .

لقد كشف الغرباوي بنظرته حجم المعاناة التي ما زالت تعيشها وترزح تحتها مجتمعاتنا العربية. لذا فالامر بنظره يستدعي تقديم قراءة متأنية لأسس التسامح السائدة في واقعنا المُزري .. قراءة مبنية على دراسة نوعية تشكل قفزة في اخراج المجتمع من أزماته المُتراكمة.

ان بلورة جديدة لتلك الأسس الرخوة وبنائها بانسجام وحذر ستساهم في خلق مجتمع متناغم بمكوناته ونسيجه، يحتقر ماضيه المُخجل ويداوي جروحه بحماس ويلملم شتاته بهمَّة، ويتطلع نحو مستقبل أفضل .

راحت البحوث العلمية والسياسية للغرباوي تسبر الأدبيات والقيم الاجتماعية وتفرزها بموضوعية وتحدد عناصر الأهمية والخطورة والفائدة لهذا الجانب من ذاك في حياة الإنسان والمجتمع . وكان يحذر المجتمعات التي تعيش سباقا محموما في لا وعيها كي لا تجازف في خلق ازمات جديدة، تسلب المجتمع راحته ورفاهيته وقوته ونفوذه.

كما دأب الغرباوي في  بحوثه على تقصي الحقائق التي تعين الإنسان والمجتمع في التغلب على مشاكله، التي هي كالأمراض فتكا بالشعوب، ودعا في بحوثه الى ضرورة فهم الظواهر المتأزمة والمرتبكة ومحاولة تفسيرها ومعالجتها من خلال التعميمات والقوانين الكلية الشرعية والاجتماعية العامة، وايجاد حلول لمشكلات حياة الإنسان والمجتمع وانتشالهما من هذا الواقع الذي يعيشان فيه. والاستفادة من التجارب البشرية، وتحري الموضوعية التي ترفع من مستواه السلوكي نوعاً وكماً، وهو ما يساعد على تطور فكر الأفراد، وتزيد من نسب النجاح التي يتوخاها المجتمع .

لقد أولى الغرباوي البحوث العلمية اهتماماً بالغاً، واعتبرها عاملا استراتيجيا لضمان وديمومة قوة المجتمع والدولة وبقائها فاعلة بين غيرها من الدول. إن الأمثلة على اهتمامات الغرباوي وباقي الشريحة المثقفة والواعية بالتقدم العلمي والبحثي أكثر من أن تحصى، ولكن منذ أن ساءت الظروف وغُيِّب الفكر والمفكرين عن ساحة المجتمع بدأ التراجع في مختلف المجالات وأصبحت الهوَّة بعيدة والفجوة عميقة بين الناس ومجتمعهم .

مشروع الغرباوي الحركي والتجديدي:

التسامح ومنابع اللاتسمح، الضد النوعي للاستبداد، تحديات العنف، و.. ألخ، ليست مجرد مؤلفات شاء تخصص الكاتب تأليفها بدوافع مادية او شخصية او دعائية، وإن كان ذلك من حقه .. ولكن بقدر ما يراها القارئ هي بحوث إنبثقت ضمن مشروع وهدف أعمق وأبعد من مجرد الكتابة. فهناك تأسيس .. وهناك تخطيط .. وهناك برنامج موضوع مُسبق .. وهناك هدف اكبر وأسمى من الآن .. هناك سعي حثيث ملموس . أي أن ما يلمسه القارئ أن هناك شيئا لايستطيع القارئ معرفة ماهيته تحديداً، اكثر من كونه مشروعا ثقافيا حضاريا مؤسسا حتى يأخذ مكانه التربوي في الساحة الاجتماعية والوطنية ودوره الطبيعي في ساحات العلم والفكر والمعرفة، وتساهم في خلق تطور ثقافي جديد بكل المجالات الوطنية والاجتماعية والدينية.

فضلاً عما تقدم يجب ان ننوه بكتاب: "الشيخ محمد حسين النائيني منظِّر الحركة الدستورية " والذي صدر بطبعته الثانية حديثا، حيث اطلعت على توطئته. ففي هذا الكتاب يبين الغرباوي معالم مشروعه الأصلاحي ضمن سلسلة "رواد الأصلاح". وهي سلسلة دورية تعنى بدراسة مشاريع الاصلاح التي نهض بها الروّاد المسلمون، والتي كان الاستاذ الغرباوي يرأس تحريرها وأصدر منها خمسة كتب على نفقته الخاصة، إلا أن هجرته من الشرق الاوسط الى الشرق الأقصى – كما يقول- حالت دون الأستمرار بصدورها. لكن بدأ وهو في مهجره باعادة اصدار ما صدر منها مجددا، حيث صدر منها لحد الان كتابان، نأمل ان يوفق في اعادة اصدار ما تبقى منها.

وقد درس الباحث في هذا الكتاب حياة الشيخ محمد حسين النائيني باعتباره اول فقيه ينظّر للحركة الدستورية والديمقراطية، وينتقد الاستبداد السياسي والديني بعنف. وبما ان حياة النائيني زاخرة بالاحداث والمواقف، لذا اهتم الاستاذ ماجد الغرباوي بشخصيته ومواقفه وفكره فكان هذا الكتاب، الذي قدم رؤية مغايره لما كتب عن الشيخ النائيني، وهي رؤية نقدية صارمة، من أجل الوقوف على الحقيقة في خضم الاحداث التي رافقت النائيني.

نأمل ان يشكل هذا الكتاب رافدا وباعثا حركيا للأصلاح والاستفادة من معينه الفكري. وان يكون مصدرا  للطلاب والباحثين على السواء، أسوة بباقي بحوث ونتاجات الاستاذ الغرباوي التي أغنى بها الساحة الثقافية والاجتماعية والاسلامية والسياسية .

ان افكار الكتاب كما هو واضح من موضوعه وعنوانه وما قرأت عنه، تعد افكارا اصلاحية، وتعكس وجهة نظره ورؤيته بالحاضر والمستقبل وما بينهما من احداث. ان مشروع الغرباوي الاصلاحي اذا ما كتب له النجاح سيساهم في رفد الساحة الثقافية والفكرية، ويقدم معالجات عملية للمشاكل التي تحيط بالمجتمع بسبب الثقافة والفكر والمواقف الخاطئة، خاصة مواقف بعض رجال الدين.

وقبل ان اختم مقالي لا بد ان انوه بجهد الاستاذ ماجد الغرباوي الاعلامي من خلال صحيفة المثقف، التي تركت صدى اعلاميا واسعا بفضل ما ينشر فيها من بحوث ودراسات ومقالات فكرية واجتماعية ونفسية وادبية وسياسية وثقافية. وايضا يجب ان انوه بمؤسسة المثقف، التي كانت رائدة في تكريم الاحياء من الرموز الفكرية والادبية، والرائدة في تكريم كتّابها وكاتباتها. كما لا ننسى مساهمات المؤسسة في طباعة ونشر الكتب، ولعلها المؤسسة الاولى التي نجحت في هذا المجال بفضل جهود الاستاذ الغرباوي حتى اصدرت لحد الان ما يقارب 30 كتابا.

 ***

صفاء الهندي – كاتبة عراقية

....................

1- الرد مقتبس من مشاركة للاستاذ الغرباوي في صحيفة المثقف بعنوان: المثقف وتحديات السؤال

http://almothaqaf.com/index.php/araaa/41398.html

2- http://almothaqaf.com/

3- التسامح واللاتسامح .. فرص التعايش بين الاديان والثقافات، دار العارف، بيروت لبنان، ط 2008، ص11

 

الغرباوي- نحتاج الى ثقافة نقدية صادمة تهز المتراكم في اللاوعي، وتستفز دائرة المقدسات، من اجل استنشاق مفاهيم جديدة تساهم في تطوير الفرد والمجتمع.

- يبقى الاعلام مسؤولية، وعلى من يتصدى لهذه المهنة ان يعي دوره، وخطورة ما يقوم به، على مستقبل الثقافة.

- ماجد الغرباوي: كاتب وباحث عراقي / استراليا، رئيس مؤسسة المثقف العربي، ورئيس تحرير صحيفة المثقف، له 17 عملا مطبوعا، اضافة الى عدد كبير من المقالات والدراسات المنشورة في الدوريات الفكرية والثقافية والمواقع الالكترونية.

التقته بانوراما على هامش الزيارة التي قام بها الاستاذ الغرباوي لمكتب الصحيفة في سيدني، وكان هذا الحوار الذي اجرته معه الاستاذة الاديبة وداد فرحان رئيسة التحرير:

س1: بانوراما: الشرق الأوسط، والعالم العربي يموج بأشكال من التحركات... ثورات شبابية، تمرد، ما الذي يجري؟ هل هذا كله خطوات على طريق التجديد أم خطوات على طريق التغيير، الذي يحتمل التغيير نحو الأحسن أو الارتداد نحو الأسوأ، وما تأثير هذين التغييرين على عالمنا اليوم؟

ج1: ماجد الغرباوي: ما يجري في العالم العربي بشكل خاص والشرق الاوسط بشكل عام، تراكمات انفجرت على شكل مظاهرات واحتجاجات اجتاحت مواقع السلطة في تونس ومصر، وما زالت تزحف لتقض مضاجع حكومات اخرى. لقد سئم المواطن العربي الاستبداد، والدكتاتورية، والانظمة الشمولية. ومل من القهر والتعسف والحرمان والبطالة، ومصادرة الحقوق والحريات ... يريد ان ينعتق، يستنشق الحرية، يتحرر، فغامر بحياته ومستقبله، لكنه ربح الجولة، لا اقل في تونس ومصر، وربما يحقق نجاحات في دول اخرى. كان اصرار الشباب العربي مذهلا، اطاح بعروش محصنة، وبعث الحياة في شعوب المنطقة كلها، وباتت الحكومات تحسب لشعوبها حسابات اخرى.

اما عن اتجاه هذه الحركة الشعبية، هل هي من اجل التجديد ام التغير؟ فواضح ان الجماهير كانت تنادي بالتغيير، وتطمح ان يكون التغيير نحو الاحسن، من خلال اعتماد نظام حكم جديد، يستوعب الساحة السياسية في بلدانهم بكل تناقضاتها، بعيدا عن التهميش والاقصاء، نظام حكم يتمتع فيه الفرد بحرياته، ويؤكد ذاته، وتكون له مشاركة حقيقية، ويشعر بقيمته، ودوره. لقد رفضت الشعوب كل الحكومات الدكتاتورية والشمولية وتنتظر تجارب ديمقراطية تحقق ما تصبو له من مساواة وعدالة وتداول سلمي للسلطة.

اما عن السؤال: هل التغيير نحو الاحسن او الاسوء؟ فهذا يعتمد عما تتمخض عنه التحركات السياسية في البلد، فاذا تحققت اهداف المنتفضين بوجه السلطات الجاثمة على صدورهم، فهو تغيير نحو الاحسن، واذا سرقت الثورة، وعادت الى زبانية النظام باسلوب اخر، فهي انتكاسة، وتراجع.

اما ما هي تأثيرات هذه الحركات، كما جاء في السؤال اعلاه؟ فتأثيراتها كبيرة وواسعة، امتدت الى عمق الساحة العربية عموما، ويكفي مطالعة الاخبار اليومية لتحصي عدد المظاهرات في الدول العربية، وحجم المصادمات بين قوى الشعب وقوى الامن. ولا شك ستشهد الساحة العربية متغيرات كثيرة مستقبلا بفعل ما حصل مؤخرا في تونس ومصر. وحتى العراق البلد الديمقراطي، تحرك الشعب مطالبا بحقوقه، داعيا الى تحسين الحالة المعاشية والخدمات، والمطالبة بمحاسبة المفسدين، وردم الهوة الساحقة بين المسؤولين وغيرهم من ابناء الشعب، ويمكن ان نسمي هذا تجديدا لا تغيرا، كما جاء في السؤال.

س2: بانوراما: في كتابك "تحديات العنف" دعوت الى إكتشاف البنية المعرفية لممارسة العنف من قبل المتطرفين الاسلاميين، والخطاب الديني التكفيري. ونحن نرى مجتمعنا العراقي والعربي والشرقي عموما يشهد عنف وتطرف ديني ومذهبي واضح.. كيف ترى واقع ومستقبل هذه الحركات التكفيرية والممارسات الإرهابية الصادرة عنها؟

ج2: ماجد الغرباوي: مستقبل الحركات التكفيرية يتوقف على مدى وعي الفرد المسلم، وقدرته على تشخيص الواقع. فالفهم التكفيري مرده الى قراءات خاطئة للدين، والنصوص الدينية. وهي قراءات مشحونة بالتأليب ضد الاخر المختلف، وتدعو الى نبذه واستبعاده، والتخلص منه. وهذا النمط من القراءات يتنافى مع سماحة الدين، ومفاهيم الحب والاخاء التي تزخر بها الايات والنصوص الدينية المختلفة.

من هنا نحن ندعو دائما الى تقديم قراءة اخرى للنص الديني، قراءة تأخذ بنظر الاعتبار السياقات التاريخية، واسباب النزول، ومعرفة شروط فعلية النص، والقيود المشخّصة لموضوعه، باعتبار ان فعلية كل حكم يتوقف على فعلية موضوعه، واذا ثبت عدم فعلية الموضوع لاي سبب كان، لا يكون الحكم فعليا، وبهذا المنهج يمكننا فهم ايات الجهاد والقتال، بل وتحيدها، وعدم الاحتكام لها راهنا. وتعطيل مرجعيتها لفهم الواقع كما تفعل الحركات التكفيرية، التي راحت تستند لتلك الايات للحكم على كل من يخالفهم الرأي، عقيديا او مذهبيا، فاستباحوا دماء الناس الابرياء، واباحوا قتلهم، ومصادرة اموالهم. وللاسف كل ذلك يجري باسم الدين، وباسم شريعة سيد المرسلين. وسببه كما تقدم، المنهجية الخاطئة في قراءة النصوص الدينية، والابقاء على اطلاقاتها، وعدم لحاظ المتغيرات الزمكانية والسياقات التاريخية. بينما موضوع تلك الايات، اعني ايات الجهاد والقتال قضايا خارجية محددة، وهم من ناصبوا العداء للرسالة السماوية، واستخدموا القوة والسيف ضدها، فشرعت ايات الجهاد للدفاع عن النفس. ولما انطفأت تلك القوى وانتصر الاسلام بعد انتشاره في ربوع العالم، فليس هناك ما يبرر لاستخدام القوى والعنف ضد الاخر، سيما اذا كان الاخر داخلية، فيكون الخلاف معه اجتهاديا، ليس اكثر. غير ان الارهابيين والتكفيريين، ضربوا كل المبادئ والقيم، وتجاوزوا كل الخطوط الحمراء، سيما قتل النفس المحترمة، التي ردعت الايات الكريمة عن قتلها لبراءتها، واعتبرت قلتها قتلا للناس جميعا، (من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعاً ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعاً).

مستقبل هذه الحركات، هو الاهمال، والمحاصرة من قبل جميع الشعوب، بعد اكتشاف حقيقتهم. والملاحظ تراجع تلك الحركات وانحسارها، بعد الاعمال الاجرامية التي ارتكبتها في كثير من البلدان، سيما العراق وافغانستان، والدول الاوربية.

يبقى الرهان على وعي الامة، وادراكها لواقع تلك الحركات، وفهم خلفيتها الثقافية والعقيدية.

س3: باوراما: إذا رجعنا ثلاثين سنة الى الوراء كان المشهد مختلفا، كيف "تطورت" الأمور لتصل الى حد يأتي شاب صغير يفجر نفسه بأمر أو بإيحاء من افكار جبال تورابورا؟

ج3: ماجد الغرباوي: يتعرض شبابنا الى غسيل دماغ من قبل بعض رجال الدين، فيندفع شباب بعمر الورود ليفجر نفسه وسط الناس الابرياء، وهو يعتقد جازما، انه على حق، وان عمله سيقربه الى الله زلفى.

المشكلة الاساس ان غالبية الناس تتخلى عن عقولها حينما تصغي لخطيب ديني، والسبب:

قدسية رجل الدين في المجتمعات الشرقية بشكل خاص، وقدسية الخطاب الديني، لانه ينتسب الى الخالق سبحانه.

مصادر الخطاب الديني اما الغيب او التاريخ، والاول قوامه التسليم والايمان، ولا يمكن للعقل البت في كثير من القضايا الغيبية. واما التاريخ، فيحتاج الى منهج مقارن، لادراك حقائه، والغالبية المطلقة من الناس ذات ثقافة متواضع، فتصغي لرجل الدين بتسليم مطلق.

مساحة اشتغال الخطيب الديني هي المشاعر، ومخاطبة الاحاسيس، فتلهب مشاعر الشباب، وتتأجج احاسيسهم، عندما يستعرض الخطيب مستقبل الانسان في اخر وعلاقته بالدنيا.

يقدم الخطيب الديني صورة مجحفه عن الخالق فيصفه باشد اوصاف التكبر والكبرياء والجبروت، وانه رب غير متسامح لايعرف الرحمه، ولا الرأفة، وادواته النار والعذاب، وينتظر مجيئ الانسان ليعذبه، وهي صورة بعيدة عن الحقيقة، تخالف الصورة القرآنية التي تصف الخالق بالرحمن الرحيم، الغفور، الودود.. ثم يجعل المستمع ييأس من كل عمل يقوم به، مهما كانت قيمته الدينية والاجتماعية، لكن يفتح له نافذة واحده تنجيه من عذاب يوم القيامه، وهي الشهادة في سبيل الله، حيث يدخل الشهيد الجنة بغير حساب، اما موضوع الشهادة، فيتحكم في تحديده رجل الدين، وبهذه الطريقه يندفع الشاب لتفجير نفسه، دون التفكير بحيثيات الحكم الشرعي وموضوعه، مستلما لارادة رجال دين، دفعتهم اطماعهم السياسية لتوظيف الدين لخدمة اهدافهم ومصالحهم.

ثم حالة الياس المستبدة بشبابنا بسبب الاوضاع الاقتصادية والسياسية، يعد عاملا اخر يساهم في تورط الشباب، واستلامهم. فالشاب اليائس من الحياة يتمنى الموت، ويمني نفسه بحياة اخرى تعوضه عما فقده في هذه الحياة، فيعتقد ان الشهادة ستعوضه كل ما فقده في هذه الحياة. لهذا يندفع بلا تفكير ارتكاز على هذه المقدمات، التي لا يمكن قبولها بهذا الطلاق.

س4: بانوراما: في كتابك " التسامح ومنابع اللاتسامح، فرص التعايش بين الاديان والثقافات" طرحت مفهوما في غاية الاهمية وهو الاعتراف بالاخر، ولكنك قلت أيضا " لو ترُك الاسلام حرا مع الأقوام والمجتمعات العربية لتمكن بجدارة من تحقيق أهدافه دون اللجوء للقوة". ترى لماذا تراجع الإسلام المتسامح عن أهمية قبول الآخر في الحياة كضرورة ؟

ج4: ماجد الغرباوي: الاسلام لم يتراجع عن التسامح، وانما تراجع المسلمون عن قيم الاسلام. ففي نفس هذا الكتاب اكدنا بالدليل ان لا عقوبة دنيوية على المرتد، وهو الذي يترك دينه ويتجه الى دين اخر، واثبتنا بالدليل القرآني ان العقوبة اخروية، وان عقوبة القتل بالنسبة للمرتد، والتي يتشبث بها رجال الدين لا دليل عليها. وانما هناك روايات لا تصمد امام المنهج النقدي. ثم لنا في كثير من النصوص القرآنية، وغيرها ما يدل على مركزية التسامح في الاسلام، كما في قول الامام علي في وصفه علاقة الانسان باخيه: الناس صنفان، اما اخ لك في الدين، او نظير لك في الخلق. وفي نهاية كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح .. فرص التعايش بين الاديان والثقافات، عقدنا بابا للايات التي تدعو للتسامح، وتشكل منظومة القيم الدينية نحو الاخر المختلف، وقد عنونا الباب: آيات غيبها النسخ، ادرجنا فيه 61 اية من الكتاب الكريم كنموذج على ذلك. اذن الاسلام لم يتراجع عن التسامح. وانما تآمر بعض المسلمين عليه.

المسلمون تراجعوا عن التسامح، بعد ان اصبحوا فرقا ومذاهب، فصار كل مذهب او فرقة تدعي انها على حق وغيرها على باطل. وصار الجميع يتشبث بحديث الفرقة الناجية، (وهو حديث تتشبث به جميع الديانات، مع اختلاف العدد). والغريب ان المسألة لم تنته بنبذ الاخر المختلف، وانما السماح باستباحة دمه، بعد تكفيره، وهذه نقطة الخطر في حديث الفرقه الناجية، الذي يقول: (تفترق امة 73 فرقة، واحدة هي الناجية ..)، وهو حديث اثبتنا بالادلة عدم صحته في كتابي التسامح، وايضا كتاب تحديات العنف.

س5: بانوراما: الثقافة، كلمة أو مصطلح أصبح له معانٍ كثيرة ويستعمل بصورة شاملة. أين الثقافة ودور المثقف من الذي نراه اليوم على السطح، سيما وانت طرحت في كتابك " الضد النوعي للإستبداد" فكرة الانساق الثقافية والفكرية ودور المثقف في المجتمع؟

ج5: ماجد الغرباوي: محنة المثقف في نفسه ومحيطه، فالمثقف ما زال شخصا نرجسيا، يعيش في عالمه الخاص، وينظّر للواقع من عليائه، فتجد خطابه لوحه متشائمة، تحريضية، ناقمة. المثقف عندنا يؤمن بالنقد والمراجعة، لكنه يأبى ذلك لنفسه، وتنثار حفيظته لادنى نقد، مهما كان موضوعيا. يؤمن بالتغيير لكنه غير مستعد لمعالجة الواقع بنفسه، ويفترض لنفسه مقاما اعلى، من هنا كانت الفجوة عميقة بينه وبين المجتمع. كم يكتب ويتحدث المثقف عن الاستبداد ومظلومية الشعوب لكنه غير مستعد للتوقيع على بيان تضامن مع تلك الشعوب المضهدة.

اما محنته مع محيطه، فان مجتمعاتنا للاسف الشديد لا تفهم دور المثقف، وهو بالنسبة لها شخص متهم بالكسل، والثرثرة، والنفاق، من هنا لم يعد للمثقف دور حقيقي. وهذا لا يعني ان تلك التهم بلا رصيد، وانما مواقف المثقفين سيما من الدكتاتوريات والحكام الطغاة مواقف عكست صورة سلبية عن المثقف. للاسف دائما كان المثقف الى جانب السلطان، يصفق له، يؤيده، يؤلبه، يبرر اخطاءه، يتستر على جرائمه، يدعم سلطته.

دخل المثقفون المبدئيون السجون، عذبوا، قتلوا، ارتقوا المشانق، لكن الشعب لم يثأر لهم، ولم يكتثرت لما حل بهم، والسبب لان نظرة المجتمع للمثقف نظرة سلبية اساسا، ساهم المثقف نفسه فيها.

الان ونحن امام واقع جديد، اقصد في بلدي العراق، كان يفترض ان يكون للمثقف دور فاعل في ترشيد الوعي، سيما وان الشعب بحاجه ماسه له، غير ان فراغ الساحة جعل الشعب يرتمي في احضان رجال الدين، والسياسين، حتى حلت بهم كارثة الفساد، وتضخم الطبقة الحاكمة، وسرقة ثروات الشعب. ولو ان المثقف مارس دوره في اثارة الوعي، والوقوف مع الشعب في ميادين الحياة، لكن الوضع شكلا اخر.

ليس هنا تجني على احد، انظري الى عدد المثقفين العراقين في الخارج، كم مثقف عاد الى وطنه ومارس دوره؟؟ وحتى من عاد، لم يمارس دوره، وانما ظل سجين وظيفته وتملقه لمسؤوله من اجل الحفاظ على منصبه.

اريد ان اخلص الى نتيجه، يجب على المثقف ان يعيد النظر بنفسه، ومكانته، ودوره، وان يتخلى عن النظرة السوداوية، ويتخلى عن دور المعارضه، لينخرط بالحياة العامه، ويمارس دوره في ترشيد الوعي، وانتشال الشعب من ايدي السياسي والديني. واول الخطوات ان تكون كتاباته وابداعاته في شتى المجالات من صميم الواقع، وليس من عليائه، وبرجه العاجي. يجب ان يفهم ان لكل مرحله ظروفها، وآلياتها، وان الديمقراطية التي نتشدق بها لها ادوات، يجب ان نؤمن بها، ولا نتمرد عليها. للاسف ما زال كثير من المثقفين، كما السياسيين، مسكون بالمعارضة، والثورية، بينما في مرحلة الديمقراطية تكون للمثقف وظيفه اخرى، مختلفه تماما.

اما عن ثقافة المجتمع كما جاء في السؤال، فما زالت ثقافتنا، وستبقى لسنوات طويلة، ثقافة طقوسية، مرهونة لارادة رجل الدين والسياسي، ثقافة غير متحرره، من قيودها، ثقافة تحكمها سلسلة مقدسات، تعيق تفكير الانسان، وتشل وعيه واردته.

نحن بحاجه الى ثقافة نقدية، ثقافة تتجاوز الخطوط الحمراء، بعلم ومعرفه واحترام، وتتوغل عميقا في قلب المقولات والثوابت التي تحدد مسار تفكير الانسان. نحتاج الى ثقافة نقدية صادمة تهز المتراكم في اللاوعي، وتستفز دائرة المقدسات، من اجل استنشاق مفاهيم جديدة تساهم في تطوير الفرد والمجتمع.

س6: بانوراما: في الماضي غير البعيد كان هناك مصطلح "أدباء أو شعراء المهجر" كيف حال المصطلح الآن بعد ان كاد يكون أدباء الداخل هم أدباء المهجر، وبعد ان ملأنا القارات بالملايين ومازالوا يتدفقون وبينهم نسبة كبيرة جدا من العلماء والأدباء و..المثقفين؟

ج6: ماجد الغرباوي: دلالات المصطلح سابقا تعني لونا خاصا من الادب، ونمطا محددا من الادباء، وهم مجموع الشعراء الذي يعيشون بعيدا عن بيئتهم الثقافية والادبية، ويستلهمون ابداعاتهم من محيطهم الجديد وغربتهم. وهذا النمط من الادباء سابقا يتصف بعدم الثراء اللغوي (كما يقول النقاد) بسبب الانقطاع عن البيئة الثقافية العربية، وبسب حاجز اللغة مع المحيط الجديد. بل حتى مع اتقان اللغة، لان لكل بيئة طبيعتها وثقافتها المؤثر في الشاعر والاديب.

اما في ظل وسائل الاتصال الحديث، التي صيرت العالم قرية صغيرة، فقد فقد المصطلح دلالاته السابقة، ولم يبق منه الا الاستيطان في بيئة اخرى. لكن ثقافيا ومعرفيا، لم يعد هناك انقطاع، بل ان التواصل كاملا، من خلال القنوات الفضائية، وشبكة الانترنيت، والمواقع الالكترونية، التي تستعرض كل جديد بشكل مذهل، وسرعة التنقل بين بلدان العالم.

ودليلي ان افضل ما نقرأ من الشعر هو لشعراء المنافي، بلغة رصينة، وبلاغة عالية، وصور شعرية متالقة، وبات قراء شعراء المهجر اكثر من قراء شعراء بلداننا العربية، سيما اذا اخذنا بنظر الاعتبار هامش الحرية الذي يتمتع به شاعر المهجر، وقدرته على رسم صورة ادبية بعيدا عن كل التحديات التي تواجه شاعر الداخل.

س7: بانوراما: هل ثمة جدوى من كل هذا الذي نفعله عبر المحيطات في صحفنا المحلية ومواقعنا الالكترونية ومحطاتنا الفضائية؟ هل القراءة تغير ما نراه؟

ج7: ماجد الغرباوي: ما نفعله مهم جدا، وسيتحدث التاريخ عن ذلك، اما بالنسبة الى دول المهجر، فما نقوم به هو رفد للثقافة العربية، والحفاظ على قيمها وتقاليدها، وشد المواطن العربي بثقافته وتاريخه وبلده. كما اننا حلقة وصل بين القراء العرب اينما كانوا، ومن خلال صحفنا ومواقعنا استعاد الكثير علاقتهم باصدقائهم وابناء جلدتهم. كما ان لاعلامنا العربي في المهجر دور اخر، وهو توفير المعلومة للقارئ العربي، كي لا يعيش بلا هوية، او بلا تاريخ، وهذه قضية نفسيه وثقافية، قد لا نشعر بها، لكنها مؤثرة.

واما على مستوى الخارج، فما نقوم به له دور كبير في تعريف القارئ العربي في بلاده بما يدور من حوله. تعلمون ان المواطن العربي يعيش تعتيما اعلاميا، بسبب سيطرة مجموعة من الحكام المستبدين، الذين يخشون الثقافة والمعرفة، ويهمهم ولاء المواطن، حتى لو كان ذلك على حساب مستقبله، ولكي يبقى المواطن على نلائه، فليبقى اميا جاهلا، فقيرا محتاجا.

ما حصل من ثورات شعبيه، كان حصيلة عمل دؤوب لمواطنين عرب يعيشون خارج بلدانهم، لكنهم استغلوا وسائل الاتصال الحديث لبث الوعي، وايصال المعومات، مما شجع ابناء الداخل على التواصل معهم، فكانت ثورات شعبية حققت الكثير على طريق الحرية، ونأمل ان تحصد الشعوب ثمرة تضحياتها.

س8: بانوراما:  أستاذي العزيز أريد تفاصيل أكثر...لماذا ضاقت بنا الدنيا؟

ج8: ماجد الغرباوي: انما تضيق الدنيا الاستاذة وداد العزيزة عندما يعم الظلم، والاستبداد، وبلداننا من اغنى دول العالم من حيث الثروات، لكن شعوبنا تعيش الفقر والعوز، والظلم، والقهر... قارني بيينا في استراليا وبينا اهلنا في العراق:

اي البلدين اثرى؟ العراق بحر من الخيرات...

اي الشعبين أسعد؟؟؟ الشعب الاسترالي، حتى اظهرت بعض استطلاعات الرأي العالمية، ان الشعب الاسترالي اسعد شعوب العالم.

لماذا؟؟ من حقنا ان نسأل دائما لماذا؟

اولا: ان جميع افراد الشعب مكفول اجتماعيا وصحيا، والعاطل عن العمل يتقاضى راتبا يسد حاجته ولو كفافا، الى حين يحصل على فرصة عمل.

ثانيا: نظام ديمقراطي، ليبرالي، وانت تفهمين ما اقصد عملا، لا مفهوما، يعني: تداول سلمي للسلطة، حرية مطلقة، لا حدود لها سوى حرية الاخر، واحترام القانون.

ثالثا: تسامح حقيقي، على مستوى الدين والثقافة، حتى نقل ان في منطقة اوربن في سيدني فقط، توجد 40 لغة!!! يعني 40 دينا، و40 ثقافة، لكن لا احد يكفر الاخر، ولا احد يتأثر بالاخر، بينما تجد شعوبنا احدهم يكفر الاخر، ويستبيح دمه، لذا حلت كوارث بالشعب العراقي لم تحل بشعب اخر، لان المجرمين القتلة التكفيرين اسبتاحوا دماءهم، فراحوا بمساعدة اعوان النظام السابق يقتلون الناس بالجملة.

رابعا: مستوى الخدمات، تحلم به دولنا العربية كلها، مع ان استراليا ليست نموذجا في ذلك، غير ان اصرار الحكومة، على مواصلة العمل لتطوير البلد، له مصداقية عالية. بينما تجد العراق مثلا منذ 8 سنوات، وما زال يعاني من ابسط الخدمات، واهمها وهي الماء والكهرباء، ولم تستطع الحكومة توفير الحد الادنى حتى انتفض الشعب بوجهها.

خامسا: الشفافية التي تحكم الاوساط السياسية والثقافية، فلا يمكن لاي حزب ان يطرح شعارات غير قابلة للتطبيق، وعندما يطرح شعارا يعلم ان الشعب سينتخب لاجل هذا الشعار ويحاسب عليه مستقبلا، فمالم يكن قادرا على تطبيقه عملا، لا يتبناه، بينما تجد السياسي عندنا يضحك على الشعب.. لو تذكرين البرامج التي طرحتها الاحزاب السياسية في ابان الانتخابات، وتتذكرين كيف كانوا يسطرون الوعود، حتى ان احدهم قال انه مستعد لتوفير الكهرباء لجميع انحاء العراق خلال سنتين!!!

الشعب هنا يحاسب الاحزاب السياسية والمسؤولين، وليست هناك مجاملة، هفوة بسيطة لرئيس الورزاء (كفين راد) وهو شاب في مقتبل العمر، وحصل على نسبة عالية من الاصوات الا ان حزبه عزله فورا، حتى انه لم يعلم بالعزل مباشرة. بينما المسؤول عندنا يقاتل من اجل البقاء، مهما كان حجم الاخطاء التي يرتكبها، لانه لا يحترم نفسه ولا يحترم شعبه، بل يخاف الشعب. غير ان الانتفاضة الاخيرة سوف تجعلهم يعيدون النظر بكل شي، ويحسبون للشعب حساب اخر.

س9: بانوراما: أنت صاحب صحيفة "المثقف" الالكترونية، هل تعتقد أولا ان الصحف الالكترونية أخذت تهدد الصحافة الورقية؟

ج9: ماجد الغرباوي: الصحف الالكترونية اثرت كثيرا، لذا لا تجد صحيفة ورقية الا والى جانبها صفحة الكترونية. لانها اسرع انتشارا، الا ما ندر.

اما ان الصحف الالكترونية تهدد الصحف الورقية؟ انا لا اعتقد ذلك، رغم انها حجمت الصحف الورقية، لسبب بسيط، ان درجة التوثيق في الصحف الورقية كاملا، بينما لا يمكن توثيق الصحف الالكترونية، ومهما كانت الاجراءات الاحترازية، هناك برامج تفتح الصفحة، ويمكن التلاعب بها، الا بالتصوير، وهي عملية صعبة. وهذا الشيء لا يحصل في الصحافة الورقية، وما ينشر بها يبقى ثابة ما بقى الورق

س10: بانوراما: هناك اتهام قائم للصحف الالكترونية بكونها ساهمت في إشاعة نمط الثقافة الاستهلاكية والسطحية، وتسويق الاسماء الهابطة التي وجدت في مجانية النشر في مواقعكم طريق سهل للبروز والانتشار؟

ج10: ماجد الغرباوي: هذا الكلام لا يخلو من الصحة، لكن يبقى لكل صحيفة ضوابها بالنشر، كما ان لمهنية القائمين على الصفحة اثر كبير على مستواها ثقافيا وادبيا. تشاهدين احيانا ان بعض الصحف لا تفهم اي شيء من المهنة، وتنشر كل شيء. وبعضها يتقصد تسويق الاسماء الهابطة، والثقافة الرديئة.

يبقى الاعلام مسؤولية، وعلى من يتصدى لهذه المهنة ان يعي دوره، وخطورة ما يقوم به، على مستقبل الثقافة. لذا نحن مع الصحافة المتزنه، التي تراعي ضوابط النشر، وتحترم الرأي الاخر، وتتيح هامشا كبيرا من الحرية، لكن بلا تجاوز واعتداء، وانما تتحول الى فضاء معرفي تتلاقح فيه الافكار.

س11: بانوراما: كيف تٌقّيم التعددية الثقافية في استراليا؟ هل فعلا كانت الأداة الفاعلة للنظام الديمقراطي الاسترالي في بناء مجتمع متوازن ومتناغم؟ ولماذا فشل العالم العربي في ان يفهم ويحترم التعددية الثقافية خصوصا في البلاد العربية التي فيها قوميات وألوان عرقية أخرى؟

ج11: بانوراما: لا اخفيك سيدتي الكريمة، اني مندهش بالتعددية الثقافية في استراليا؟ طالما تأملتها، وكلما اتأملها اتذكر قوله الرسول ص اختلاف امتي رحمة، بالفعل، ان الاختلاف في استراليا كان اداة للتكامل، وتطور المجتمع، ورقيه، فهو مجتمع انساني، لا يتعامل على اساس قومي او ديني او مذهبي. والدين يتوارى خلف ستار من القيم الانسانية. بينما الاختلاف في بلداننا كان سببا لاستباحة دماء الناس، بعد تفكيرهم.

الحياة هنا تقوم على اسس انسانية، والحياة في بلداننا تقوم على اسس دينية، او مذهبية، او قومية. والدين بفهمه المبتسر دينا مفرّقا، دينا لا يلامس حقيقة دين الله، وانما هو دين عصبة من رجال الدين، وفهما بشريا، يمارس الاقصاء والتهميش.

واضح التوازن في المجتمع الاسترالي، عكس ما تشاهده في مجتماعاتنا، التي تلهج بذكر الفوارق القومية والدينية.

والتوازن في استراليا يعود لسببين او ثلاثة، اولا ثقافة التسامح، وعي المجتمع، ورقابة السلطة.

القانون هنا صارم مع اي شخص يمارس تفرقة عنصرية او دينية، وجزاءه عقوبة قاسية جدا. وايضا لثقافة الشعب دور اساس في تبني تلك القيم، وعدم التفريط بها. احب اذكر قصة على التسامح الديني هنا. صديق ولدي حيدر، استرالي كاثوليكي، وابوه احد موظفي الكنيسة، وبالتالي فهي عائلة متشددة دينيا، ومحافظة. غير ان الابن تزوج من مسلمه ماليزية، واشترطت عليه ان يسلم، فاقتنع الشاب، واسلم وذهب الى ماليزيا وحيدر كان حاضرا في جميع المراسم هناك، التي تمت بالمسجد الماليزي، وعندما عادوا الى استراليا استقبلهم الاب والام بالترحاب والاحضان، فأي روح شفافه متسامحه هذه؟؟؟؟ ونحن لا نطيق الجلوس مع ابن ديننا، المخالف لنا مذهبا، على مائدة واحده خوفا من سريان نجاسته الينا!!!. بل ونحذر ابناءنا منه.!!!!!

***

حاوره: الأستاذة وداد فرحان

رئيسة تحرير صحيفة بانوراما الورقية في سيدني - أستراليا

12 – 12 – 2012م

 

الصفحة 4 من 5