بأقلامهم (حول منجزه)
منهج النص في سؤال الحقيقة.. قراءة في فكر ماجد الغرباوي (3): سلطة التغيير المغيّبة
تعريف وتقديم اولي: ان قراءة تفكيك النص الديني عند المفكر الغرباوي سواء في عرضه، او في محاولة توضيح منهجه التاريخي بوقائعه في التفكيك لاستخلاص نتائجه الحقيقية، اجدها شخصيا وربما لأني غيرمتابع متخصص في الامور الدينية وقضاياها المعقدة تاريخا موروثا او عصريا، حيث اصبحت مجتمعاتنا العربية والاسلامية تتقاذفها الاختلافات الدموية التصفوية جسديا في فهم الفكر الديني ليس على اساس محاورة ونقاش في رغبة التوصل الى حلول تلتقي بجوهر الدين في انسانيته وتعايشه مع الاخر، التي يلعب الاجتهاد المذهبي او الافتاء الشرعي الصادر عن رجال الدين كمسلمات دينية مجتمعية مذهبية لا تقاطع القوانين الوضعية وحسب، وانما التشريع والافتاء يكون ملزما العمل به حتى لو كان الغاءا لقوانين تنظيم الحياة المستمدة من الدستور الوضعي او مايعبّر عنه اختصارا قوانين فصل السلطات الثلاث المدنية، لا ان تحميها هي ومصدرها، كذلك الافتاء الديني والاجتهاد الذي يمارسه البعض كمسلمة دينية لا نقاش يطالها، مستمدة من قدسية الهية تمتلك العصمة من الخالق ان لا تكون خاطئة ولا وجوب نقدها او تخطئتها، حتى وان جاءت بالانابة القدسية الانسانية غير المرخصة ولا المؤهلة ان تتكلم باسم الدين كله، او اختصاره في جنبة خلافية مذهبية اجتهادية واحدة ترى حقيقة الدين فيها وحدها.
كنت طرحت سابقا ان الغرباوي يختلف بمسألة جوهرية لم يتأكد لي يسبقه غيره بها هو التطرق لها بهذا الاسلوب الذي لا يتناول مسائل الاصلاح الفكر الديني (المعاصر) بالدوران حول المشكلة المصيرية الهامة، أو عدم الجرأة في تفكيك الحقيقة الدينية وتعرية معصوميتها ان كانت حقيقية ام زائفة منتحلة مهما كانت درجة حساسيتها التي يتجنب العديدين الخوض بمشاكلها والاجتهاد بطرح حلول مجدية لها. تجدها في مرتكزات لا يخطأها القاريء لدى الغرباوي :
- المنهج الفكري النقدي التاريخي، هو الذي يحدده موضوع البحث وليس العكس، ولا سبق منهجي مذهبي عقائدي يحكم الموضوع او القضية وناقدها كما يحصل اغلب الاحيان وفي مختلف القضايا. او سبق منهجي فلسفي لا يستمد حيويته من موضعة اية اشكالية لمنهج التناول التاريخي بصدقية تثبيت وقائعها الحقيقية وشخوصها،لاعلى حساب ابراز القدرات الفكرية الاستشراقية الغربية للكاتب، ام تكون الغاية هي في تعرية زيفها وقدسيتها المنتحلة باسم الدين من منطلق الاخلاص للحقيقة الدينية، وليس هناك من وقائع تاريخية تراثية تستمد مشروعية الاخذ بها في تناولها الاسلوبي المذهبي او الفلسفي المعاصر الذي يملأ مكتبات لا نفع له سوى ان تكون مراجع منح شهادات جامعية او حوزات دينية او اقسام دينية جامعية تطبع وتصطف مع الاصل في كسب العيش والاعتياش على نص الدين، هذا النهج القاصر اصبح مصدرا مهما في عدم تناول الفكر الديني بالنقد البناء، كما اصبح سببا متعذرا تطبيقه في نقد ومراجعة تراثنا الذي يمتلك خصائصه التاريخية واللغوية وحيثيات بروزها الاجتماعية او الاقتصادية، من نقطة شروعه في اتباع اسلوب الانحياز المذهبي او التجريدي الفلسفي بنيويا ولا تفكيكيا ولا عدميا الخ.
المذهبية في المنهج او الفلسفة المستمدة استشراقيا ان تناقش وتبحث عن حلول دينية بوسائل فلسفية تجريدية يحكمها منطق اللغة وليس منطق اهمية حقائق تاريخية الموضوع كوقائع بما لا يزال يمتلكه من حيوية في تحريك الحاضر و في ترسيم مستقبل وجودي حياتي تعيشه الناس.، بات امرا لا فائدة منه.فاليوم لا نشكو قلة التاليف في قضايا الدين لكنا نشكو من انعدام التطبيق على الارض.
يستطيع اي قاريء احالة نفسه لاحصائية مئات المؤلفات من المفكرين المحدثين والمعاصرين الذين ورطّوا انفسهم وقراءهم معهم في مراجعة مؤلفات تراثية بمجلدات بمنطق الصح والخطأ المنحاز اجتهاديا، او كذلك في استعراضه تطويع وقائع التاريخ العربي الاسلامي بمنطق واسلوب التفلسف المعاصرالتي لا رابط لها مع قضايا تراثنا الديني او اللاديني.، وانا متقبّل اي قاريء لتلك المؤلفات ان يقول لي انها خدمت او تخدم واقعنا العربي الحضاري البائس باسم مراجعتنا تصحيح تراثنا وبعثه من جديد وغالبيتها حشو سردي لم يساهم في حل بعض اشكالياته كموروث.وتصفيف كلام متراكم بعضه يعيش على بعضه الاخر في مجلدات !!
علينا الان التنبيه ان خلل موروثنا الجامد المعاصر اليوم ليس مصدره وقائع التاريخ المتوارث الزائفة الكاذبة التي نقلها لنا الموروث التدويني. انما يكمن الخلل الاكبر في مناهج التوثيق والتدوين في مراجعة تلك الوقائع و تورخة الموروث على وفق مصالح وامزجة وغايات رخيصة حتى في منظور كتابة التاريخ، وانما يمتد بنا النقد في وجوب ازاحتها عن الطريق، كل المؤلفات التي جعلت من هرائها التراثي مهزلة بحجة تحصّل الشهادة الجامعية الذي لا يعرف حاملها المشكوك بتزويرها كتابة مقالة مقبولة في التاريخ.مكاتب ومئات الالوف من العناوين التي تعنى بنقد ومراجعة موروثنا الحضاري العربي الاسلامي لا تساوي ثمن الورق والحبر الذي كتبت به. وليس لها وقع تغيير قناعة خمسة قراء مضللين.
نفهم ان بناء امجاد تاريخية زائفة لسياسيين عرب ومسلمين هو عار، وامر مفروض بقوة سلطة الحكم الجائر وفساد الدولة بكل مفاصلها، لكني لا اجد مقبولية ان يكون تاريخنا المعاصر في اشكالياته هو لغاية بناء امجاد فكرية او فلسفية فارغة او غيرهما بذريعة كتابة مؤلفات تتبعها اطاريح جامعية ورقية توضع على رفوف المكتبات وعزوف واشمئزاز المثقف الجاد منها، اصنام لم يعد امرعبادتها او التسليم بها مقبولا، وبقاء تناسلها مرحبا به مسكوتا عنه لانه وسيلة ارتزاق مالي وخواء ثقافي. فهي بلا فائدة تفيد بناء تجديد او اقامة صرح حداثي، نتشدق في السير الحثيث من اجل تحقيقه.هذه الحقيقة تتجنب طرحها حتى النخب الثقافية او الفكرية وحتى بعض النخب السياسية المعتاشة على متناقض قطباه شخص دعي في كل اختصاص فارغ من جهة، وشعب لا يهمه من امر تراثه ولا حاضره الا توفير لقمة العيش لعائلته واطفاله.
مسخرة بطلها اسطورة ملابس عاهل الامبراطور الجديدة لا تبوح بها براءة صرخة طالب جامعي لئلا يلبسوه ثوب الجنون الجاهز قبل ان يبوس اللحى متعهدا ان لايعود لمثلها، ويتناسى الجميع من رعاع الاعتياش باسم الشهادة الجامعية الدينية او الحوزوية ولا اقصد الشيعية منها فقط، غباءهم ان الجميع عراة والامبراطور في ملابسه الانيقة. وليس المقصود هنا الملك الامبراطور الواحد كما في الاسطورة وانما كل شلّة الاعتياش الثقافي الاكاديمي باسم امتلاك شهادة لا قيمة لها اكثر من قيمة غباء حاملها، وان كانت تحمل رصيدا فهي مجموعة من المؤلفات المستنسخة مئات المرات عن الاصل الجامد غير المتغير الثابت في محافظته على الزيف. .
- يوجد فرق كبير بين مناقشة مسائل تراثية خاطئة لا فرق بها اليوم ان يحدث تصحيحها تاثيرا تحتاجه الحياة وانت تعيش ومحاط بحضارة القرن 21 بكل مشاكلها العصرية، مثلا ما أهمية تصحيح اخطاء بني امية ومعاوية في تصحيح واقعنا التاريخي الذي يقوم اليوم على المنازعة والاختلاف المذهبي الذي لا يتوقف بمجرد تصحيح خلاف او خلافات عمرها مئات السنين لا من اجل اللقاء في تصحيح الاوضاع بل من اجل ادامة الاحتراب المذهبي الى يوم القيامة او احتراب العلماني مع الديني السياسي الى اجل يريده الحاكم ويرفضه الخالق. ما تأثير مناقشة واقع حال تاريخي لم يعد مهما ان يكون فيه اليوم المعتزلة على حق والاشاعرة على باطل، في وقت مثلا تحضر فيه مسالة مناقشة اهمية توحيد المذاهب الاسلامية وجعلها على السكة الصحيح في اختلافاتهم المعاصرة وليس في اعادة قراءة تاريخهم الموروث في نزاعاتهم التي ورثناها من كتب التراث والتاريخ الذي كتبه مجهول النسب في صدقية التوثيق او التدوين ونواياه. هل في حل مثل هذا الاشكال تنحل قضايا اختلافاتنا المعاصرة؟ افضل واكثر قيمة واهمية لمستقبل اجيال من بعدنا؟، اكتفي بمثل مئات من مشاكل موروثنا التي تحفظها بطون الكتب سواء اكانت منحازة لهذا الطرف او ذاك لا يتوقف حلها على حل مشاكل تهم حاضرنا ومستقبل اجيالنا وينطبق عليها ان تاريخ الاموات يصنع تاريخ الاحياء. ما اهمية ان تكون افضلية منهج السلفية او منهج القومنة العروبية او منهج الماركسية،او منهج الاستشراق التي ملأت كتبهم ومؤلفاتهم مكتبات ربع الكرة الارضية وتتداولها اجيال من الطلبة والمثقفين وغيرهم ولم تسهم في حل اشكالية اختلافية واحدة على صعيد الواقع والتطبيق في حياتنا، اوتنقل الامة العربية خطوة واحدة الى امام.باسم قراءة التراث ونقده وتجديده.
- لنلاحظ فرق الطرح الغرباوي لقضيا اشكالية متصارعة هي ابنة وزمان تاريخيتها التي نعيشها بما يتوقف على حلها صراع اجيال في مستقبل حياتهم قوله، (تكيّف المجتمع مع ارادة الفقيه ورجال الدين عامة من الاسلاميين، وانصياعه لتعاليها، تكون الاخطر في علاقة الفرد بالفقيه، هي روحية الانقياد والتبعية التي اختزلت حرية المجتمع، واعادت تشكيل وعيه على الضد من قيم المجتمع المدني الذي نطمح اليه).- في تعقيب اراه مفيدا، هل ان مراجعتنا ونقدنا وقائع التاريخ القديمة الموروثة في سمات صراعية واختلافات لا نهاية لها، هي الطريق الوحيد امامنا لنقد فكرنا الديني المعاصر الذي نعيش اشكالياته الجديدة، وهل يكمن حل كل قضية خلافية في تراثنا القديم كفيلة ان تجعل كل خطوة في حاضرنا تسير على الطريق التحديثي التقدمي وتخدم مستقبل اجيالنا؟ ان الذي يسترشد طاعته عن الفقيه قوله ان هارون الرشيد الذي قتل احد اأمة الشيعة (ابو جعفر الصادق) او غيره يجب ان يكون سببا كافيا كما يجري اليوم في اختلافاتنا المذهبية على ابسط من هذه الامور التي تحرك الاحياء من قبورها في تاجيج خلافاتهم. وهل على حل مثل هذه الاشكاليات البسيطة، التي نترك التاريخ المنصف يقول كلمته بها وكفى وتكف ان تكون سببا نتطاحن من اجله مذهبيا اليوم . هذا غباء حضاري عندما يطلب نائبا بالبرلمان العراقي ازالة نصب الحرية من وسط العاصمة بغداد، وآخر يأمر اتباعه قص يد تمثال الشاعر ابي نؤاس التي تمسك بكاس الخمرة وآخر يريد قلع تمثال الشهيد من بغداد او تمثال ابو جعفر المنصور، او تمثال عبد الكريم قاسم، هذا تخلّف وغباء حضاري وليس تديّن يخدم وحدة العراق واجياله، ومسخرة ان يخلو تاريخ امة من الامم او الشعوب من الاخطاء القاتلة التي يعني عندنا الحفاظ على نظافة تاريخنا اليوم منها هي لانصاف تاريخ كتبت حوادثه قبل سبعة قرون اكثر او اقل لم ينصف المذهب الفلاني. ما مدى تخلف المانيا اليوم عندما تحتفظ بتمثال هتلر وتعتبره رمز مرحلة تاريخية انتهى تاثيرها على الاجيال الحاضرة الالمانية، ومثلها في وجود تمثال ستالين في جورجيا او موسكو مثلا، وامثلة بالمئات كلها تشيرعلى قذارة تاريخ تلك الامم وادعاءنا نظافة تاريخنا الذي يجب علينا استكمال نظافته في ازلة تمثال الرصافي او ابي جعفر المنصور من بغداد ونضع تمثال قرد بدلا عنها كي يقف تاريخنا العراقي على رجل من ذهب واخرى من فضة في ادعاءاتنا المسخرة.
- يقول تجديد الغرباوي: عندما يكون الفرد تابعا لفقيه الدين ورجاله الموكيلين انهم وحدهم يمتلكون حقيقة الدين .فان في هذا تصبح استحالة اصلاح الدين بادوات مرتهنة في جعلهم مرجعية وفتاوى الدين ثوابت لا يحق ولا يجوز للفرد الاخذ بغيرها او من غير مصدرها. ان في تحنيط الدين عند المجموع حين يكن بيد رجال الدين في كل المذاهب الاسلامية، وبهذا تتراجع هيبة القانون المدني والقوانين الاخرى المستمدة من الدستور الوضعي.كما تصبح مثل هذه القوانين لا اهمية واقعية تطبيقية لها، عندها يصبح الدين ووصاياه المستمدة مذهبيا او اجتهاديا بديلا عن قوانين تنظّم المجتمع والحياة .
- كما ان الغرباوي يشخص اخطر اسباب انحراف الدين في قصديته الايمانية، وبذلك يصعب علينا اصلاح الدين قوله: انه لم يكن للفقيه او رجل الدين ان يحقق مركزيته ويحتكر سلطته لولا تداخل الديني بالسياسي، التي تجعل من الاجتهادات ووجهات النظر الخاصة، لها فهمها الخاص للنصوص المقدسة وخدمة اغراضها السياسية .
- ويقول الغرباوي ايضا : ولكي نجعل من الاصلاح الديني اصطلاحا حقيقيا، ابن زمانه ومكانه، هو في كشف الزيف وكشف الحقيقة في محاكمة الافتاء الشرعي المتعدد المذاهب، والمتعدد ايضا بوجهات النظر المختلفة مذهبيا في وجهات النظر الانفرادية ودوافعها.
تنظيرات الاصلاح الديني وعقبات التغيير الواقعي
اشكالية منهج معالجة النص الديني الاسلامي يتوزعه تقاطع مرجعية و مركزية قطبين فقط، المقدس الالهي الثابت (القران والحديث المسند منه والسنة النبوية)، وبين نصوص الديني الدنيوي المدني الوضعي المتغيّر حسب مصالح الحكام السياسيين المهيمنين على تديّن المجموع المساق بهيستيريا العاطفة الدينية الخرافية. الفكر الديني والاجتهاد الفقهي المذهبي وانتحال الحديث والقصص الخرافية والفتاوى، في مجمل تفاصيل الحياة العربية الاسلامية التي يحكمها ويمنعها زيفها التدينّي من الوصول الى ادنى مراتب التحديث في حياة الناس.
وبقيت هذه الاشكالية تحكم الدين في قدسيته المتقاطعة مع الفكر التديني الزائف منذ وفاة النبي محمد، اشكالية مستحكمة بدايتها خلافات السقيفة، غير محسومة خاصة عندما فرضت هذه الاشكالية المتناقضة نفسها على الامة العربية الاسلامية طيلة الفي عام من بعد تاريخ ظهور الاسلام، وبالحاح شديد ضاغط على الحياة العربية المعاصرة منذ اكثر من قرنين في العمر التاريخي للامة العربية الاسلامية المعاصر. عندما اصبح تقاطع التراث الديني ضد المعاصرة العلمانية وتاثيراتهما على منع تقدم الحياة بما لا يطاق. في وجوب مراجعة ونقد النص الديني الزائف الطاريء على حقيقة الدين. لكني استدرك ان تاريخ مدوّن يحمل كل سلبياته التي ندينها بحجة وجوب اصلاحها، ولا يعطل تقدمنا الحضاري افضل من كتابة مجلدات تملأ مكتبات تمجد تراثنا بكل سماجة عاطفية، وتكون سببا في تردي احوالنا لاسباب سياسية تتباهى بمجد زائف كاذب ولا يهمها اعدام حياة الناس على الارض في دنياهم.لم يعد اليوم الغني يستغل الفقير في بشاعة غياب الضمير والتفاوت الطبقي، وانما الاهم من كل هذا الاستغلال هو اضطلاع الجامعات بتخريج مئات الالوف من الخريجين في علوم الانسانيات والتاريخ واختصات دينية وغيرها مختلفة ورميهم امام الحكومة يملاون الشوارع في ايجاد وظائف حكومية لهم.؟
ورغم غياب المعالجة الواقعية اليقينية العقلية القطعية الحضارية في حسم هذه الاشكالية الملازمة كظل ظلامي معرقل يغذّي وجود الامة المتخلف حضاريا، تشعبت عنه المذاهب و المناهج والاجتهادات التي رغم الجهود الجبارة الكبيرة في تنظير مفكرين ومصلحين بذلوا محاولاتهم في وضع حلول الاصلاح الديني موضع التفكير الاصلاحي وليس التطبيق التحديثي على وجوب حضوره واهميته في تحديث وتقدم حياة الناس، في هدف وضع رؤى التنظير الاصلاحي تطبيقا علاجيا على ارض الواقع لتغييره نحو الاحسن والافضل، وفي عدم تطابق اشكالية التنظير في تقاطعها مع اشكالية انعدام الاثر والتطبيق على الواقع، وجدت رؤى الاصلاح التنظيري نفسها مغيبّة تماما و غائبة طيلة قرون وعاجزة في ملامسة وتوظيف تنظيراتها الدينية اصلاح الواقع المعيشي العياني المتردي في تراجعه المستمر.،لانها تنقد وتراجع مجلدات من كتب التراث التي عفا عليها الزمن، في محاولتهم استغفال الناس ان في تصحيح تلك المجلدات من قبل العلامة او الفيلسوف الفلاني كفيل في جعل الامة العربية الاسلامية تنافس حضاريا كوريا الجنوبية او اليابان ونترك الصين من الاستشهاد لئلا نتهم بالترويج للبروليتاريا العالمية .
هنا اجد كم كانت عبارة ماركس في منتهى العبقرية والذكاء قوله متهكّما على الفلاسفة والمفكرين الذين يريدون تغيير واقع الشعوب بالافكار العزلاء عن مهمتها الحقيقية في واقع الحياة :( لقد عمد جميع الفلاسفة قبلي تفسير العالم فقط، في حين عملت على تغيير العالم وتبديل الحياة). ونفس هذا المنطق تبنته البراجماتية الواقعية العملية الامريكية حين نادت لا قيمة حقيقية للافكار مهما كانت مقنعة ومتسقة نظريا، مالم تحقق لنا منفعة بالحياة وتقدما في المسار التاريخي الحضاري.
واجهت اساليب الاصلاح الديني التنظيرية، اساليب وموجات العداء الاجتماعي المتخلّف، ضد اصلاح الفكر الديني الذي كانت تحمله النخبة المفكرة على اكتافها وهمومها الفكرية الثقافية التي تثقل كاهلها وحدها فقط، ولا يناصرهم سوى قلة قليلة من المثقفين والمتنورين، الذين كانوا منفردين يتلقون وحدهم نتائج افكارهم التجديدية في شتى انواع الاعتقالات والسجون والنفي والتعذيب والصاق التهم التكفيرية والشائنة بهم التي تثبط هممهم وتبعد الناس اتباعهم. وكل هذا الاحتراب نتيجة وهم ان التنظير الاصلاحي الديني الفكري سيحل مشكلاتنا على الارض. المفكر الحقيقي ليس ذاك الشخص الذي يرغب تبديل قناعة مفكر او مثقف مثله مهما كانت اهميتها يقدر حاجتنا الى مفكرين يجهدون في تغيير قناعات المجتمع الضال .
تمّثلت هذه المعضلة الاشكالية بحقيقة صادمة ان الفكر النخبوي التنظيري لوحده حتى على افتراض توفير حرية التعبير له وصواب وصحة منطلقاته، لا يمكنه تغيّير الواقع ولا اصلاح الامة في تدينّها الساذج السطحي الذي تسوقه عاطفة التدين الوهمي وليس عقلية واقع التدين النقدي، بل بقي الواقع الاجتماعي المتردي المنحدر باستمرار نحو الجمود والتخلف، يجعل الفكر التنظيري عاجزا وعقيما عن احداث التغيير وايقاف تراجع او حتى سبقه التراجع الاجتماعي الغارق بالتخلف الثقافي والسلوك القطيعي المذعن لتلبية المخطوء بالحياة، ولو بالفكر التنظيري الثقافي وحده، وتحشيد محاربة جهود الاصلاحيين، بما يماشي الواقع المتراجع باستمرار رغم كل جهود التنظير التحديثي له في الكتب والمؤلفات ومنح الالقاب والشهادات فقط.
لا اعتقد كقاريء ليس اكثر ان قرأت عن سابقة في نهضة الامم والشعوب، انها اكتفت نهضتها وقامت بمن كتب لها من الاختصاصيين مؤلفات ورقية نهضوية، من دون وضع كل نظرية او اجتهاد تحت مجهر التجربة العلمية والتطبيق على الارض وفي حياة الناس وفي التاكد جيدا من قراءات النتائج المطلوبة المتوخاة متحققة ام لا .ان الحقيقة التاريخية قبل وبعد الدينية اكدت ان الاصلاح الديني على امتداد التاريخ لم يكن يمتلك سيفا في نشر افكاره التجديدية الاصلاحية في اصطدامه بجدار التخلف الاجتماعي المستمسك بالقديم الخاطيء، بل كان يمتلك كلمة الحجّة والموعظة الحسنة الى جانب اعمال القانون المدني في تنفيذه الاصلاح بدلا من السيف. ماجعل برنارد شو يصرخ بعبارته الميكافيلية: الانبياء غير المسلحين يخفقون دوما. وتنبه دعاة التديّن الزائف في فرض الواقع المتخلف القديم المطلوب امام فكرة التجديد بالعودة الى سلاح السيف والعنف والرعب والذبح والتكفير وقتل النفس البشرية بدم بارد وروح شيطانية لا تمتلك الحد الادنى من الرحمة وحصل من الوحشية الدموية مايأنف التاريخ تدوينه، وتأبى الانسانية المعاصرة تسجيله وتذكير الناس بمآسيه، باسم فرض وصاية الدين على كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس في ابسط معانيها.
ما حصل لدينا في انفصالية و انفصامية الاجتهادات الاصلاحية الدينية الحقيقية، عن الواقع الميداني المجتمعي الحياتي المتخلف ومنظّريّه الذي ظل محتفظا بثباته الرجعي المتردي، ما جعل من التحديث النظري فكرا مدونا بالكتب متعالقا بالتضاد مع سلوك الحداثة في الحياة في انفصال واستقلالية كلا منهما، يشتغلان بالتضاد كلاّ على جنبة وحده ولا تربطهما علاقة جدلية في التاثير المتبادل في التغيير المستمر نحو الامام في قيادتهما الحياة الاجتماعية ومجمل تكويناتها المتخلفة في قبول وتقبل الصحيح التديني ليعقبه الصحيح في التقدم الحياتي كما هو شان غيرنا من الامم في تجاربها، التي وجدت ومنذ بداية القرن التاسع عشر، انه بعد الاصلاح الديني يجب ان يعقبه الاصلاح المدني في الديمقراطية، لا كما هو الحال عندنا انه لا تجديد يكتب له النجاح الا بعد مروره من تحت قنطرة المهيمن الديني ووصايته على ختم جواز مرور كل نزعة اصلاحية .
وجدنا ان الفكر التنظيري المتقدم تحديثيا على السائد المجتمعي في اشتمالاته ومحاولاته تغيير الواقع والحياة في عدد قليل من المتنورين، انه لا تاثير له مطلقا في تبديل الواقع المتردي الذي يستمد كل تخلفه من مسارات الحياة المادية والاجتماعية والثقافية العامة من فكر ديني يقاطع اي فكر تحديثي يستمد مقوماته من اختلالات الفكر الديني في النص الزائف المعادي لكل شيء ينطوي على علمانية حداثية ومتابعيه ومناصريه في مجتمع يمارس فهمه الدين طقوسيا ويستبعده ممارسة وفهم معاصر للحياة.. بل نجد العكس ان ظاهرة فهم الحداثة في مجتمعاتنا العربية مقلوبه معكوسة، فهي بدلا من قابليتها المفترضة الثورة على الواقع المتخلف و تغييره في اعتماده اصلاح التنظير الديني للواقع الحياتي المتخلف، نجد عوامل الاعاقة وتردي الاوضاع تخدم واقع التراجع وتغذّية التخلف في توظيفها مكامن الجمود العقائدي في الديني. بدءا من محاربة تحديث النظام التربوي والتعليمي في مجمل مراحله وصولا الى منع اشاعة فكر ثقافي تنويري يشكل حصيلة وعي ثقافي ديني متعايش مجتمعيا بكل تياراته الدينية، ويتقبل تبديل جميع نواحي التردي بالحياة. وكانت اسباب هذه الانفصامية بين التنظير الاصلاحي الاعزل في غير المؤلفات والكتب وافتقادها وسائل التغيير الواقعي الميداني اجتماعيا، تكمن وراءه عوامل سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية.يمكننا التدليل مثالا بسيطا عليها ان الوضع التربوي التعليمي الابتدائي ومراحله التدريسية وصولا الى التعليم العالي في الجامعات العراقية، كانت قبل اكثر من 70 سنه افضل مما هو عليه الحال اليوم في العراق تربويا ومناهج علمية حديثة واساليب وطرق تدريس، وقس على مثله في كل جوانب الحياة..ان من الثابت ان مصدر ضخ الفكر التديني التعصبي التكفيري الى اليوم يكون في بعضه يصدر من الكليات والجامعات التي يقوم عليها اساتذة ينعتون انفسهم والى اليوم حملة شهادات دكتوراه او بروفيسور يجاهر على تلاميذه وسط قاعات التدريس الجامعية بفكر ديني (ملائي) كما كنا نتلقاه قبل فتح مدارس التعليم الحكومية من قبل اوصياء الاستعمار القديم على مقدراتنا !!!، في هذا المثل لا يكون مرتع تنامي الفكر الديني الرجعي هو تدني مستوى قبول الوعي التحديثي في الوسط الاجتماعي وانما في وسط ما يطلق عليها وسائل تدريس العلم والتنوير وطرق ومضامين رجعية المواد التي يتلقاها التلميذ والطالب. ونتيجة ذلك لم يتبق كفاءة علمية واحدة الا وهاجرت وعادت تقدم خدماتها العلمية للبلد الذي يستحقها، وفي تركها تفشي الرجعية الدينية في الجامعات من حملة كتب التدين الذي يجعلنا نضحي بالدنيا في كل مرارتها وعذاباتها من اجل جنة موعودين بها في السماء.
هنا يتبادر الى الذهن عن مصدر تغذية التطور الحاصل في السلوك الاستهلاكي المجتمعي تقدميا لما يطلق عليه البعض حداثة من نوع استهلاكي بدءا من السيارة الى اخر تسريحة شعر، مصدّرة لنا امريكيا واوربيا ومن مختلف دول العالم التي تقايضنا تصديرها لنا هذه الصرعات التافهة في تقليد استهلاك كل ماهو هابط ولا قيمة حقيقية له تربطه بالحداثة العصرية التي تنقل الشعوب من وهدة سقوطها المتخلف. نشتريه بعملة صعبة توظفها الدول المصدرة في الكسب الاستغفالي وفي العائد المالي والتجاري لها، بما يبقينا على سذاجتنا الفكرية، باننا لسنا بحاجة الى بذل مجهود اصلاحي يأتينا على طبق جاهز بحكم اننا نعيش من حولنا في عالم متحضر يتوجب علينا تقليده استهلاكيا بمدفوع الثمن وشرائه، بما ينفعه لا بما ينفعنا اكثر من سلة المهملات. والى متى نستطيع شراء قشور الحضارة التي لانساهم بخلق ادنى صفحة منها؟؟
يتبع لاحقا ج4
الباحث الفلسفي علي محمد اليوسف /الموصل