بأقلامهم (حول منجزه)
غواص في كتاب الفقه والعقل التراثي لماجد الغرباوي (2)
نعود ونكمل عوصنا في بحار كتاب الفقه والعقل التراثي لماجد الغرباوي، وليسمح لي عزيزي القارئ أن أستأنف غوصي في رياض هذا الكتاب القيم؛ فهو بلا شك من الكتب التي تركت بصمة واضحة في فكرنا الفلسفي المعاصر، حيث يشرع الغرباوي في هذا الكتاب بمقدمة عامة تتناول العناصر الخمسة لضوابط الرواية الدينية: معرفة الروايات، وشواهد الوضع، ومناهج التوثيق، وحجية السنة، ثم أخيراً القيمة المعرفية.
ومن المفيد – قبل عرضنا لهذا الكتاب ومحتواه – أن نشير في عجالة إلي أهم التوجهات الضابطة في مسيرة المؤلف الفكرية عبر فصول الكتاب العديدة .
وأبرز هذه التوجهات وهو ما ظهر له أنه ليست المسألة هي رغباته أيديولوجية أو مذهبية، فقد كان أحد أهداف الجهاد أن يكون الدين كله لله (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) بمعنى تحريره، وسلب شرعية الأديان التي تتحكم بمصائر الإنسان ولو بالقوة . والدين هو العقيدة والشريعة . فالرهان على ما طرحته يتوقف على تسوية إشكاليات، ترتبط بفهم الدين، ودور الإنسان في الحياة، وتحديد مهمة الأنبياء الرسالية، وحدود تأثر الفقه بالمتغيرات الزمكانية. ومدى وعيه بها، وقدرته على التحرر من قبلياته التي تفرض محدداتها وسلطتها. فرغم دعاوى الإجتهاد، غير أن الفقيه أسير قواعد تم تأصيلها عقلياً لضبط منهجه في استنباط الأحكام الشرعية، فهو يخضع لها ويقدسها وينسى أنها صنيعته، المرتهنة في صدقيتها لقبلياته، وما يؤمن به من يقينيات دينية وعقلية وفلسفة . فهي قواعد تم تأصيلها لتلبي رغباته التي تنسجم مع عقيدته وفهمه للدين والتشريع، يظهر هذا واضحاً من خلال استدلاله عليها، فبعض يميل بطبعه للاحتياط فينعكس على موقفه الأصولي من القضايا المشكوكة، بينما يميل الثاني للبراءة والسعة .
وثمة توجه آخر للمؤلف يتمثل في أن الرهان في بعده الآخر، يتوقف على نقد المرجعيات الفكرية والعقيدية والأصولية للفقيه، وتشكيل وعي جديد وفق فهم مختلف للدين، وإعادة النظر بالمقدس، وقدسية التراث والسلف الصالح، والعودة المباشرة للكتاب الكريم، نتدبره وفقا لحاجاتنا وتطلعاتنا، كمرجعية نهائية في مجال تخصصه . فهو " تبيان كل شئ"، وفيه " تفصيل كل شئ"، و" وما فرطنا في الكتاب من شئ" . وهو أمر ممكن، رغم وجود روايات تشترط وساطة التراث والسلف في فهمه وتفسيره . لكنها روايات ضعيفة، لأنه بيان للناس، فلا يمكن احتكار فهمه وتفسيره، فيكون القرآن حاكماً عليها حتى وإن كان بعضها صحيحاً .
أما التوجه الثالث فيتمثل في نظر المؤلف على أنه ثمة فرق جوهري بين اتجاهين ومنطقين في فهم الدين وفلسفة الأحكام الشرعية، منطق العبودية، ومنطق الخلافة . يتوقف عليهما فهم أسباب تضخم الأحكام، وطوفان الفتاوى الشرعية. إن فلسفة الحكم تكشف عن سبب التشريع وحكمته ودواعيه وطريقة تأثيره، كما أن تاريخ الحكم يكشف عن البيئة الاجتماعية والدينية والثقافية التي انبثق عنها السؤال . حيث جاءت الأحكام الشرعية في الكتاب الكريم ردا على أسئلة السائلين، ولا يوجد حكم ابتدائي أو لم يكن مسبوقا قبل البعثة، كالعبادات وتفصيلاتها، سوى بعض الاختلافات. فالحكم مرتبط بموضوعه . غير أن جل الفقهاء إن لم يكن جميعهم يعتقدون أن فعلية الأحكام منقطعة عن اسباب تشريعها، فلا يدرسون تاريخها وفلسفتها . بينما تاريخ التشريع يؤكد وجود أسباب وراء تشريعها، وقد تنتقي فعليتها بانتقائها.
على أن هذه التوجهات قد صاحبها ثلاث نزعات للمؤلف: احداها نفسية والثانية أخلاقية، والثالثة عقلية . أما الأولى من هذه النزعات، فتتمثل في إفراط المؤلف في القول بأن: الأحكام الشرعية الزائدة عما هو مدون في الكتاب والسنة مشكوك في حجيتها وشرعيتها ما لم يكن لها جذر قرآني، وعند الشك فالأصل حاكم، وهو القدر المتيقن منها، أي الأحكام الشرعية القرآنية، وعند الشك فالأصل حاكم، وهو القدر المتيقن منها، أي الأحكام الشرعية القرآنية . غير أن الفقهاء اضطروا لشرعيتها من خلال قواعد عقلية، يمكن مناقشتها وتفنيدها . وليس هذا محلها . كما وظف الفقهاء خطاباً أيديولوجياً صارماً، يقمع أي تمرد على سلطتهم . بشكل أصبح الفرد لا يفرق بين الحكمين الشرعي القرآني، والحكم الشرعي الفقهي. فالجميع بالنسبة له مقدس، رغم تداعياتها على حرية الفرد .
وأما التوجه الثاني فتتبدى لنا بجلاء في مواضع عديدة من الكتاب في دعوته لإنقاذ الدين من سطوة الفقهاء، حيث يقول الغرباوي:" ثمة أزمة حادة تواجه الشريعة الإسلامية، بل تواجه الدين بأسره، لا تنفع فيها تبريرات الفقهاء ومكابراتهم .. أزمة حقيقية، تضغط باتجاه مراجعة نقدية تطال الفكر الديني، وفق قراءة معاصرة تواكب الحضارة، وتُعيد النظر في ثوابت الشريعة، بعيداً عن سلطة التراث والسلف والتراكمات التأويلية التي تكرس اللامعقول وتحرض باستمرار ضد الآخر، حتى صار الدين إما يدفع باتجاه العنف والإرهاب، أو يستقطب باتجاه الخرافة والسحر والشعوذة وجلب الذات، وتصديق هلوسات وأكاذيب بعض رجال الدين، وتقديس الماضي والتراث، وأسطرة الشخصيات التاريخية، واستبدال العبادة بطقوس فلكورية، انقلبت معها مفاهيم الخير والعمل الصالح، وبات الإرهاب ديناً، والخداع ديناً، والتبست المفاهيم حد الاحتراب فضلاً عن الكراهية والتنابذ والاقتتال " .
وأما النزعة العقلية فتبدو لنا واضحة في نظرته وأفكاره النقدية واحتفائه بالعقل في كل ما يطرح من قضايا وما يثيره من إشكاليات، سواء كانت هذه الأطروحات مستقاة من لمحات تراثية أو مستمدة من وقائع وطواهر فكرية وثقافية معاصرة . ونعتقد بيقين أن المؤلف بنزعته هذه يحقق درجات عالية من المصداقية في كل ما يقدمه لنا في هذا الكتاب من حيث تنطلق هذه النزعة أساساً من رفضه للثقافة السائدة لكونها في مجملها مدفوعة بالسطحية، داعمة للفكر الرجعي، داعية إلى الجمود والانغلاق، ومن ثم فإنها لم تثمر إلا تخلفاً ونكوصاً في مجملها مدفوعة بالسطحية، داعمة للفكر الرجعي، داعية إلى الجمود والإنغلاق . ومن ثم فإنها لم تثمر إلا تخلفاً ونكوصاً يضاعف أبعاد المسافة بيننا وبين الحضارة والفكر العالمي المعاصر، ويند آمالا وأحلاماً لنا مشروعة في التغيير إلى ما هو أفضل .
إن هذه النزعات وما صاحبها من توجهات قد أسهمت في تشكيل رؤى المؤلف وتنظيراته التي ضمنها كتابه الذي بين أيدينا.
وينهج ماجد الغرباوي في معالجته لقضية "الفقه والعقل التراثي" خلال محاور وقضايا هذا الكتاب، منهجا تحليلياً – نقدياً في كل محاور وقضايا الكتاب، حيث ارتكز المؤلف في كتابه إلى دراسة النصوص الفقهية، وفلسفة أخرى في فهم الحقيقة الفقهية التراثية. وتعمـّد المؤلف طوال البحث إلى تفكيك العقل الفقهي، الفقيه ومنطق العبودية والخلافة، غير مكترث لأى ممنوع أو محرم. ولا ينسى التأشير على الدوافع الشخصية والايدولوجية في فهم النصوص الفقهية. والمحاولات المتكررة من قبل المذاهب والأديان ورجال الدين لاحتكار الحقيقية وتوظيفها لخدمة العقل التراثي، بعد تكفير المختلف والمعارض.
يقع الكتاب الذي بين أيدينا في 408 صفحة موزعة على مجموعة من القضايا والمحاور، وذلك على النحو التالي: بدأ المؤلف بالحديث عن الفقيه ومنطق العبودية، حيث تناول منطق العبودية بأنه ضد الحرية والاستقلال، وأن منطق العبودية دينياً هو اتجاه يختزل دور الإنسان بالفتنة والامتحان والاختبار ويقصر فيه دور الفرد على تطبيق الأحكام الشرعية، مع سلبه حرية الحركة خارج ما هو مشروع منها . ثم تحدث المؤلف عن بعد ذلك عن ملاكات التشريع، فلا يحق في نظره لأي شخص كائن من كان تشريع الأحكام سوى الله تعالى لأنه القادر على إدراك الملاك الحقيقي، وليست الملاكات الظاهرية، كالفوائد الاجتماعية مثلاً. كذلك يتحدث المؤلف عن الفقيه ومنطق الخلافة الذي يختلف جوهرياً في رؤيته للإنسان وللدين وأحكام الشريعة، حيث يؤكد هذا الاتجاه على مركزية الإنسان، ودوره في استخلاف الأرض، وبقيم علاقته بالخالق، وفق ثنائية الخالق والمخلوق، فتاتي علاقته مع الله منسجمة مع فهم مختلف للدين والحياة، بشكل يشعر الإنسان باستقلاليته، وتمكنه من وعي الذات.
ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للحديث عن مهام الرسالة قرآنياً، حيث رأى أن رسالات السماء تواكب مسيرة الإنسان حتى بلوغ هدفه، فهي من جهة تربطه بالخالق، ومن جهة أخرى تخوله خلافة الأرض، فدور الأديان هو دور حاضن للإنسان، حتى يتقوم عوده، فلا يعقل أن يطارده من خلال الفقيه وفتاواه التي تنأى من المشاعر الإنسانية حينما تتعامل معه كآلة تقتصر مهمته على تطبيق ما يملي عليه من فتاوى وأحكام اجتهادية . وهذا دليل آخر على عدم حجية أي حكم ليس له جذر قرآني، ما لم يدل الدليل الشرعي الصريح، وهو مفقود بالضرورة.
كذلك ينتقل الغرباوي للحديث عن كون " الحرية قدر الإنسان "، حيث إن الحرية في نظره بمعنى الاستعداد فتكون سابقة على التفكير بمعنى وعي الذات، ولو من حيث الرتبة لا من حيث تعدد العلل، أي أن لحظة وعي الإنسان لذاته هي لحظة وعيه لإرادته، فتكون الأصالة لحريته دائماً .
ومن جهة أخرى يتحدث الغرباوي عن الفقيه والعقل التراثي من خلال قضايا كثيرة يطول شرح تفاصيلها هنا في هذا المقال؛ مثل: الأحكام والاعتقادية وشمول القاعدة، والإيمان والعقيدة، والعقيدة الضابطة، والعقيدة والمعجزات، ثم ينتقل بعد ذلك للحديث عن تجديد مناهج التوثيق، ومصداقية علوم الحديث، وتجديد المنهج، وخشية الراوي وضعف الرواية، كما يناقش أيضا الفارق بين العقدية والدين، وتعدد الأديان، واتجاهات الإصلاح، حيث يرى أن تلك الاتجاهات تحتوي علي ما هو سلفي وإصلاحي، وسياسي وتجديدي وتنظيري، ثم التأصيل العقلي .. ثم يتحدث عن مقاصد الشريعة فيبين أنها تشمل مركزية العدل، والسعة والرحمة، والواقع الموضوعي .. مقتضيات الحكمة في التشريع .. ملاكات الحكام .. مبادئ الحكام الشرعية .. مقاصد مرحلة الجعل الشرعي .. علاقة الواقع بالتشريع .. حدود الشريعة في القرآن .. مفهوم الحدود .. ملاكات الأحكام القضائية.. الاجتهاد تاريخياً .. والتشريعات الإلهية وخصائصها .. الفقيه وجذور الاستبداد .. والفقيه واستلاب الوعي.. والفقيه والتكوين العاطفي .. الفقيه وقيم التفاضل.. الفقيه والاصطفاء.. الفقيه والولاء.. الفقيه ومبادئ الحكم.. الفقيه ومفهوم العصمة .. تفكيك العقل الفقهي .. النص والاستبداد .. وهلم جرا..
وفي نهاية عرضنا يمكن القول بأن كتاب " الفقه والعقل التراثي" لماجد الغرباوي، سياحة عقلية خالية من أي تعصب، بعيدة عن أي إسفاف، مجردة من أي هوي، واعية متأنية في ذاكرة تاريخ الفكر الفلسفي الإسلامي نقف من خلالها مع الغرباوي على تلك الأجوبة التي جاءت من خلال موسوعته الحوارية المسماه بـ (متاهات الحقيقة)، التي تقارع حصون الكهنوت وتحطّم أسيجة تراثية تستغرق الذاكرة، وتطرح أسئلة واستفهامات استفزازية جريئة.. بحثا عن أسباب التخلف، وشروط النهوض، ودور الدين والإنسان في الحياة. فتوغّلت عميقا في بنية الوعي ومقولات العقل الجمعي، واستدعت المهمّش والمستبعد من النصوص والروايات، وكثّفت النقد والمساءلة، وتفكيك المألوف، ورصد المتداول، واستنطقت دلالات الخطاب الديني، بعد تجاوز مسَلَّماته ويقينياته، وسعت إلى تقديم رؤية مغايرة لدور الإنسان في الحياة، في ضوء فهم مختلف للدين، وهدف الخلق. فهناك تواطؤ على هدر الحقيقة لصالح أهداف أيديولوجيات – طائفية، ومذهبية - سياسية.
فتحية طيبة للأستاذ ماجد الغرباوي التي كان وما يزال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي استطاع أن يعيد لنا كتابه العلوم الدينية في صيغة عصرية، كما أعاد لنا أيضا تأويل موقف الشريعة من قضايا المرأة، خاصة فيما يتعلق بحقها في تولي القضاء والفتوى والشهادة، والمساواة بينها وبين الرجل في الحقوق السياسية والمدنية؛ علاوة على أنه صاحب رأي معلن بجرأة ووضوح في قضايا الدولة والمجتمع المدني وحرية الرأي والديمقراطية ومواجهة الفساد والتطرف، خاصة في كتابيه الحركات الإسلامية.. قراءة نقدية في تجليات الوعي، وجدلية السياسة والوعي.. قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق. ويؤسس فلسفيا أطر جديدة لمفهوم الفقيه والعقل التراثي من خلال مشروعه الفكري في تجديد "العقل الديني" والقائم على مجموعة من المهام العاجلة التي شكلت رؤيته نحو عصر ديني جديد، مثل تفكيك الخطاب الدينى، وتفكيك العقل المغلق، ونقد العقل النقلي، وفك جمود الفكر الدينى المتصلب .
د. محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط