بأقلامهم (حول منجزه)
تجديد العقل الديني في مشروع ماجد الغرباوي
قليلون أولئك الرجال الذين يعيشون وفق ما يكتبون، ويظهرون ما يضمرون، ويعملون بما يؤمنون، ولا ريب في أن ماجد الغرباوي، والذي لم أعرفه شخصياً إلا من خلال عدة أسابيع فقط، حين طلبت من أخي الدكتور مجدي إبراهيم (أستاذ الفلسفة بجامعة العريش) أن يتوسط لي عنده بالنشر في صحيفة المثقف، وبدأت علاقتي به من خلال الماسينجر، حيث أهديته أول نسخة الكترونية من كتابي " حروب الجيل الثالث ونظرية تفتيت الوطن العربي"، ومنذ ذلك الوقت بدأت أتابعه عن كثب من خلال ما كتبه أو ما كُتب عنه، وسعدت كثيراً بالتكريم الذي حظي به في يوم الأحد الماضي من قبل منتدى الجامعيين وجمعية الاكاديميين بأستراليا.
وماجد الغرباوي من خلال قراءاتي له في تلك الفترة الوجيزة اكتشفت أنه مفكر جدير، إذ يُعدّ أحد القامات الفكرية العراقية - العربية التي آلت على نفسها الجمع بين النظرة العقلية الغربية والتراث الإسلامي في معالجة القضايا الفكرية، وهي تلك النظرة التي كشفت له عن العديد من الأفكار المهجورة في الفكر الإسلامي، وفي علاقة الإسلام بالآخر والقضايا الفكرية الآنية، ويحسب له أنه موسوعي الثقافة مستنير الفكر، فهو الذي كتب عن نقد الفكر الديني، والتسامح، والعنف، والحركات الاسلامية، والمرأة، والاصلاح والتجديد، وهو متخصص في علوم الشريعة والعلوم الإسلامية.
علاوة علي أنه متعدد المواهب فهو كاتب، وشاعر، وباحث دؤوب؛ حيث يسعي من خلال مشروعه في تجديد العقل الديني إلى ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، وذلك من خلال قراءة متجددة للنص الديني تقوم على النقد والمراجعة المستمرة، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب.
وقد بلغت إنجازاته العديدة في ميادين البحث والعقل والتنوير حوالي أكثر من ٢٥ عملاً ومؤلفاً، إضافة إلى عدد كبير من الدراسات والبحوث والمقالات التي نشرها في الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية المختلفة المتعددة، فمن أعماله علي سبيل المثال لا الحصر : إشكاليات التجديد (3 طبعات)، 2000م،2001م و2017م، فرص التعايش بين الأديان والثقافات (طبعتان)، 2006م و2008م، تحديات العنف، 2009م، الضد النوعي للاستبداد .. استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني، 2010م.، الحركات الإسلامية.. قراءة نقدية في تجليات الوعي، 2015م، جدلية السياسة والوعي.. قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق، 2016م، الشيخ المفيد وعلوم الحديث، 1992م، ترجمة كتاب الدين والفكر في شراك الاستبداد، 2001م.، تحقيق كتاب نهاية الدراية في علوم الحديث.. وهلم جرا. وقد نال الاستاذ ماجد الغرباوي عدداً من الجوائز التقديرية عن أعماله الفكرية والعلمية البحثية.
وتتميز كتاباته بالوسطية والعقلانية، وتكشف عن تعمق كبير في العلوم الإنسانية والعلوم الشرعية، ويتميز أسلوبه بالوضوح والمنطقية؛ ولقد شهد له كل من كتب عنه من الباحثين بالدقة، والأمانة العلمية، والثقافة الواسعة ..إلي جانب ما يتمتع به من خلق رفيع، وتمسك بتعاليم الدين الحنيف . ولا غرو في ذلك فهو يمثل منظومة حافلة بالعطاء العلمي الجاد، والشموخ الإنساني المتميز، باحثا ومنقبا، محققا ومدققا، مخلفا وراءه ثروة هائلة من الكتب العلمية، والبحوث الاكاديمية الرصينة، وطائفة كبيرة من المريدين والاتباع الذين أعطاهم خلاصة فكره وعلمه.
ولقد أعجبني وصف الأستاذ "شاكر فريد حسن" في مقاله له بعنوان " ماجد الغرباوي المثقف التنويري والمفكر المضيء"، عندما قال :" ماجد الغرباوي: مثقف تنويري ومفكر مضيء"، (فهو يمثل) نخلة عراقية باسقة وشامخة في الفكر العربي الإسلامي، عانق نور الحياة في مدينة قلعة سكر، النائمة على نهر الغراف، وتتوشح بجمال طبيعتها وانسياب نهرها. نشأ بين أزقتها وحواريها، وتعلم الابتدائية في مدارسها، ثم انتقل وهو صغير السن مع أفراد أسرته إلى العاصمة العراقية بغداد، وفيها أكمل دراسته في إعدادية الكاظمية ثم الثانوية، لكنه تعرض للسجن مع ثلة من رفاقه، وبعدها واصل دراسته خارج حدود وطنه بموضوع الشريعة والعلوم الإسلامية، واستقر به الحال والمطاف في سيدني بأستراليا .
كما وصفه أيضاً بأنه يمثل رمز ونجم فكري وثقافي نقدي لامع يتجدد كل يوم في فضاءات العلم والثقافة والسياسة والمعرفة، ويقف ضمن طليعة المفكرين والمثقفين العرب المستنيرين، والنقديين المشتغلين على نقد الفكر الديني، والحركات الإسلامية، ومسائل النهضة، والإصلاح، والتجديد، والمعاصرة، والتنوير، والعنف، والتسامح بين الأديان والعقائد والمذاهب، وقضية المرأة ومسألة تحررها المرتبطة بتحرر المجتمع كله .
وإذا ما انتقلنا للحديث عن مشروعه في تجديد العقل الديني نجد أنه أعاد كتابة العلوم الدينية في صيغة عصرية، كما أعاد أيضا تأويل موقف الشريعة من قضايا المرأة، خاصة فيما يتعلق بحقها في تولي القضاء والفتوى والشهادة، والمساواة بينها وبين الرجل في الحقوق السياسية والمدنية؛ علاوة علي أنه صاحب رأي معلن بجرأة ووضوح في قضايا الدولة والمجتمع المدني وحرية الرأي والديمقراطية ومواجهة الفساد والتطرف، خاصة في كتابيه الحركات الإسلامية.. قراءة نقدية في تجليات الوعي، وجدلية السياسة والوعي.. قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق. ويؤسس فلسفيا للتسامح في كتابه" التسامح ومنابع اللا تسامح .. فرص التعايش بين الأديان والثقافات".
ولما كان مقالي يدور حول جهود ماجد الغرباوي في تجديد العقل الديني، فلا أملك إلا أن أقول عنه من خلال ما قرأته في كتاباته ؛ وبالأخص كتابيه " إشكاليات التجديد"، و" تحديات العنف"، بأنه أحد أبرز المفكرين في الفترة الحالية الذين جمعوا علوم الدين من ناحية، والفلسفة من ناحية أخرى، وتقديمه المعلومة بلغة عصرية مفهومة عبر رحلة طويلة من الفقه إلي الفلسفة، حتى تؤدى إلي تكوين خطاب ديني جديد، رافضًا تجديد الخطاب الديني القديم.
لا شك في أن كتابا " إشكاليات التجديد"، و" تحديات العنف" لماجد الغرباوي يبرزان لنا كيف قدم الرجل مشروعًا جديدًا لتجديد الفكر الديني مرتكزًا علي العقلانية النقدية، حيث يري ضرورة تطوير علوم الدين، وليس إحياء علوم الدين القديمة، نظرًا لتجمدها الذي يحوِّل القرآن من نص ديناميكي يواكب الحياة المتجددة إلي نص إستاتيكي يواكب زمنًا مضي وانتهي، ويُؤسس الغرباوي لتفسير جديد ينتقل من الوعظ والإدهاش والتخويف إلي تفسير من أجل التعقل والتفكير؛ حيث وجدناه يدعو إلي تكوين خطاب ديني جديد في كتابه " إشكاليات التجديد "، وافتتح مشروعه بالتأكيد علي أن الإسلام الذي نعيشه اليوم خارج التاريخ ومنفصل عن واقع حركة التقدم، ومن ثم بات من الضروري العودة إلي "الإسلام المنسي"، ولذلك رأي الغرباوي تكوين خطاب ديني جديد وليس تجديد الخطاب الديني القديم، بإقامة بناء جديد بمفاهيم جديدة ولغة جديدة ومفردات جديدة وتهجينها بلغة ومفردات العلوم الاجتماعية والإنسانية وفق متغيرات العصر وطبيعة التحديات التي تواجه الأمة، ونشر ممارسة مفاهيم التنوع والتعددية وقبول الآخر.
هذا بالإضافة إلي النظرة الشاملة لماجد الغرباوي من أجل الدخول بالأمة "إلي عصر ديني جديد"، يدعو فيها إلى العودة إلى أصول الفكر الإسلامي، من قرآن كريم وسنة نبوية صحيحة، ويدعو إلى التفاعل العقلاني لهذه الأصول مع الواقع.
وثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة وهي أن الاستاذ ماجد الغرباوي من خلال بقية كتبة الأخري اكتشفت أنه كان يسعي جاهدا من خلال مشروعه الفكري في تجديد "العقل الديني" علي مجموعة من المهام العاجلة التي شكلت رؤيته نحو عصر ديني جديد، مثل تفكيك الخطاب الدينى، وتفكيك العقل المغلق، ونقد العقل النقلي، وفك جمود الفكر الدينى المتصلب ؛ حيث أوضح لنا في فقرات كثيرة من كتاباته إلي أن ما نعيشه في العالمين العربي والإسلامي من انتشار ظاهرة الإرهاب والطائفية التي مزقت الكثير من مجتمعاتنا العربية، مرجعه إلي الفكر المتعصب الذي يرفض الآخر، ويتعصب لوجهة نظر سياسية توظف الدين لتحقيق غايات سياسية.
ولهذا سعي ماجد الغرباوي إلي تجاوز "عصر الجمود الديني" الذي طال أكثر من اللازم في تاريخ الأمة العربية من أجل تأسيس عصر ديني جديد، وتكوين خطاب ديني من نوع مختلف، ويرفض الغرباوي تجديد الخطاب الديني التقليدي، فهو يري أنه عملية أشبه ما تكون بترميم بناء قديم، والأجدى هو إقامة بناء جديد بمفاهيم جديدة وبمفردات جديدة، وتفكيك كل التأويلات المغرضة.
والاستاذ ماجد الغرباوي في مشروعه لتجديد العقل الديني أكد علي ضرورة تفكيك الفكر المتطرف، وهذا التفكيك يحتاج لخطاب ديني جديد وعلوم جديدة لمواكبة المناهج العلمية»، مشيراً إلى أهمية التمييز بين المقدس والبشري، ولفت إلى جهود السلف والعلماء من أهل الفقه والتشريع، موضحاً أنها جهود بشرية قابلة للصواب والخطأ.
وأوضح الغرباوي أن الفقهاء المسلمين أكدوا على فكرة الموائمة والنسبية وملائمة العصر والمكان والزمان، مؤكداً أن العمل البشري لا يمكن اعتباره مرجعية مقدسة كالقرآن والسنة، وأن من أساسيات الخطاب الديني الجديد تعددية الصواب، وأن الخطاب الديني الجديد يجب أن يقوم على العقلانية النقدية والتفكير النقدي بما يلاءم ظروف العصر»، مشيرًا إلى أن «مقياس الحقيقة وفق التفكير الديني الجديد، الصواب هو ما ينتج في الواقع؛ بمعني أن الحق ليس حق في ذاته ولكن الحق بالنتائج المترتبة عليه في أرض الواقع الخارجي».
وشدد الغرباوي على ضرورة توجيه النقد الشامل لكل التيارات أحادية النظر، سواء كانت إرهابية أو غير إرهابية، وأن ذلك لن يحدث دون تفكيك العقل الديني التقليدي وتحليله للتمييز بين المقدس والبشري في الإسلام.
وأخيرا أكد الغرباوي أن تجديد العقل الديني، مشكلته ليست في الإسلام، بل في عقول المسلمين وحالة الجمود الفقهي والفكري التي يعيشون فيها منذ أكثر من سبعة قرون؛ لذلك يقترح الرجل «روشتة» لتأسيس خطاب ديني جديد منها الهدف منه: تفكيك الخطاب الديني الحالي، وتفكيك العقل المغلق، ونقد العقل النقلي، وفك جمود الفكر الإنساني الديني المتصلب والمتقنع بأقنعة دينية.
وفي نهاية مقالي لا أملك إلا أن أقول : تحية خالصة لماجد الغرباوي لابن أرض الرافدين، وحفيد هارون الرشيد، الذي كان وما يزال رمزاً من رموز المعرفة الموسوعية الفريدة، وواحداً من أصحاب الرؤية الفكرية والثقافية الشاملة.. بارك الله فى ماجد الغرباوي، وأفاد تلاميذه وقراءه بعلمه ووطنيته، بفكره وموضوعيته، بنقائه وطبيعته.
د. محمود محمد علي
أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط