بأقلامهم (حول منجزه)
ريما الكلزلي: قراءة في فكر الباحث ماجد الغرباوي
تجلّيات التنوّع في التّأويلية الهرمونيطيقية
إن قيمة أيّة مشروع فكري تنويري تتمثّل في نوعيّة هذا المشروع من حيث الأصالة والابتكار، هل يقدّم حلولاً جديدة، هل يعالج المشكلات بطرق مبتكرة، نتاج هذا المشروع وقابلية التطبيق هل تتميّز بالاستدامة، أخيرًا وهل يستطيع أن يحدث فرقًا إيجابيًا واضحًا في المتلقي والمجتمع على حد سواء؟
كما أن كلّ كتاب نتطلّع إلى قراءته لابد من عنوان مهم له يشدنا نحوه، أما قراءة فكر الغرباوي، فهي قراءة مثمرة بقدر ما تفتح الأعين على رؤى عميقة ومنهج تحليلي متفرد في معالجة الإشكالات والقضايا الإنسانية.
عُرف ماجد الغرباوي بأنه مفكر وباحث عراقي له مساهماته في الفكر الإسلامي المعاصر، فكيف يمكن تحليل ونقد الطرح الذي قدّمه في سياق الهرمونيطيقية وما الآثار النظرية والعملية المترتبة على هذا الطرح، والذي يسهم في تأدية دورًا مهمّا في فهم النّصوص بطريقة عميقة بين النص والقارئ، حيث يؤثر كل منهما في الآخر.
بداية تظهر إصداراته كمحطات يتأصّل فيها منهج هذا المفكر الذي عرفنا على التغيرات والتحديات التي لا تنفصل في رؤيتها عن منهجه المعرفي والمحاور الرئيسية في مشروعه الإصلاحي، حينما اتّخذ موقفا جريئًا ثابتًا ممن يُؤلّهون الأوثان البشرية، فقال: " يكمن خطر التراث في قدرته على تأليه أوثان صنعها بيده"، هذه المقولة إصلاحية بقدر ما يتم تفسيرها على أنها دعوة إلى إعادة النظر في بعض جوانب التراث، التي يمكن أن تعيق التقدم، أو تسهم في ترسيخ مفاهيم خاطئة، حيث الفكر الإصلاحي يسعى لتحديث الممارسات والأفكار دون التخلي عن الجوهر أو الهويّة الثقافية، ونستطيع القول أنها تنويرية بقدر ما تعزّز المشاعر الإنسانية التي تتّخذ طابع التّجديد لولادة فكر موضوعي يركز على العقلانية، والعلم، ويدعو إلى التحرر من كل أشكال السلطة التي لا تستند إلى العقل والمنطق، بما في ذلك سلطة التقاليد والتراث، وكلا الحركتين الإصلاح والتنوير تدعوان إلى ضرورة التفكير النقدي الذي يتزامن مع عاصفة من التناقضات الاجتماعية الراهنة، حاو من خلالها الغرباوي أن يؤسس قاعدة ثابتة، يتحرّر فيها من عقدة النّموذج، ومن حتميّات الدّلالة.
يعتمد المشروع الإصلاحي لدى ماجد الغرباوي على السياق التاريخي والثقافي للموضوعات التي أراد لها النور، فبدأ من الإصلاح الداخلي، إصلاح الأوضاع الدينية والاجتماعية إلى السياسية أحيانا داخل المجتمع، سعيًا إلى تطويرها من الداخل وفقًا مبادئه الأساسية.
حرص الغرباوي على احترام التقاليد والقيم الراسخة في المجتمع في مشروعه الإصلاحي ساعيا إلى العثور على نقاط مشتركة بين الثقافات لأهميتها التي تسهم في مد جسور التواصل، ويرى في الإصلاح طريقة لإعادة إحياء هذه التقاليد بما يتكيف مع العصر الحالي لرأب الصدع الحاصل بين الدين والأخلاق.
كما ويسعى إلى التغيير التدريجي، كسيرورة في التقدم المستمر، بشكل يتساوق مع بناء الوعي المعرفي، وإن كان مشروعه يبدو بأنه يحمل اللافتة التنويرية ويتّخذ منهج الإصلاحيين.
فقد طرح سؤالات كبيرة في كتابه" المقدس ورهانات الأخلاق " كدعوة لإيجاد إجابات تحطم أطر التراث التي تستغرق الذاكرة، بحثا عن أسباب التخلف، وشروط النهوض، فالنهضة وفق منظوره يعرضها كأطروحة ثابتة، في إحياء الدين دون انحرافات، وترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني، وربط العقيدة بالنظام السياسي والاجتماعي.
وقد استعرض د. صالح الرزوق - وهو مفكر وكاتب سوري له العديد من المقالات والكتب النقدية التي تناولت قضايا مختلفة كالدين والثقافة والسياسة - في كتابه " جدلية العنف والتسامح" فكر ماجد الغرباوي وتناول موضوع النّهضة والتجديد في الفكر الديني والفلسفي، فتقاطعت أفكارهما في الرؤية التي عدّها محاولة للتوفيق بين الأصالة والمعاصرة، وبأنه إصلاحي ينتمي لمعنى اليقظة الاجتماعية، واليقظة حسب الرزوق انتباه نفسي وثقافي يفترض امتلاك أدوات سياسية يمكن أن نعتمد عليها في حوارنا مع الاخر. كما بيّن كيف يمكن للتسامح أن يلعب دورًا في تخفيف التوترات والصراعات التي تنشأ من العنف المستند على التفسيرات الدينية أو الأيديولوجية. وناقش كيف يمكن للتسامح أن يسهم في إحياء فكرة النهضة من خلال تشجيع الحوار والانفتاح على الآراء المختلفة.
دعا الغرباوي إلى خلق قطيعة إبستمولوجية مع الخرافة لصالح المعرفة، وفهم النص الديني ضمن سياقه التاريخي بعيدا عن تقديس التأويل، لإعادة تشكيل الوعي.
نتبين في قراءتنا أنّ موقفه ثابت نحو الاجتهاد الفكري المبدع الذي يجب أن يتواءم مع الحريات الإنسانية ونهضة المجتمعات الحديثة وفقا للظروف المعاصرة، فهو يناقش النهضة الإسلامية من منظور يجمع بين الدين والسياسة، ويبين دور النهضة كما حدده الرزوق " في تنقية الدين من انحرافات التأويل" وتجديد الفكر الديني بما يوافق متطلبات العصر، مع الاحتفاظ بقيم التسامح والحرية.
الإصلاح في مشروعه الفكري ظاهرة ملموسة ذات أهمية أسمى تتجاوز النّظريات المجردة، وترتبط ارتباطا وثيقًا بروح التجديد عبر الإشادة بضرورة العلم ونشر الوعي، ومحاربة الجهل والخرافات حسب ما ذكر في كتابه " المرأة والقرآن " بأنّ الانطلاق من داخل النص إلى خارج النّص هو الأمر الذي يتناسب مع القراءة عندما يشتبك مع عوامله الخارجية، فالقراءة التي تنبع من داخل النص وحدها إنما هي ضيقة الأفق والمدى، بينما تلك التي تتم من خارج النص إلى داخله تُظهر سلطة المعرفة، والاعتقاد في إطار استراتيجيات توجد الخطاب نحو الحقيقة. يقول محمد عابد الجابري: " مالم نمارس العقلانية في تراثنا، ومالم نفضح أصول الاستبداد ومظاهره في هذا التراث، لن ننجح في تأسيس حداثة خاصة بنا، حداثة ننخرط بها ومن خلالها في الحداثة المعاصرة العالمية، كفاعلين لا مجرد منفعلين".
في محطة/ المرأة والقرآن
حوار في إشكاليات التّشريع مع د ماجدة الغضبان
بدأ الحوار عن قضايا المرأة في إطار يتحرّى الموضوعيّة، ومدى صلاحيّة النص، لينظر في شأن المُطلق من الأحكام، كما وأنّ الهيئة الحواريّة للكتاب تزيح الملل عن القارئ، ومن خلال جرأة د. الغضبان في طرح الأسئلة جاءت الإجابات بعقلانية لافتة من الغرباوي، خلص فيها إلى أن القرآن الكريم لم يُنقص من شأن المرأة بينما الحكايات والأساطير والمرويّات التراثيّة فعلت ذلك استنادًا إلى نصوص دينية منحولة.
فيقول الغرباوي إن القرآن خاطب المرأة خطابات ثابتة ومدوّنة، بما يخصّها من التّشريعات، فجعل لها من الثواب والعقاب ما للرّجل على حدّ السّواء، التّساوي الذي يشملهما في الأوامر والنّواهي الإلهية، بينما التّفسير الخاضع لفهم المفسّر يعيقه الجمود على حرفيّة النّص والارتهان للتّراث، وهو يختلف من زمان إلى زمان آخر، يكون حسب الاسقاطات النّفسيّة والاجتماعية، حيث كشف عن الإشكاليّة القاصرة عن الإدراك، بسبب عدم مراعاة الواقع فتعكس صورة مشوّهة للنّص.
محطة" الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي
ماجد الغرباوي كمفكر تنويري يتخذ موقفًا يتّسم بالتوازن تجاه قضايا الجندر والحركة النّسوية، يؤيد فيه الحاجة إلى تحليل ونقد الأنظمة الاجتماعيّة والثّقافيّة التي تؤدي إلى الفوارق بين الجنسين، والتي غالبًا ما تعزّز الهيمنة الأبويّة التي نشأت في المجتمعات الغربية وتحصر دور المرأة في دور الأمومة والمسؤوليات المنزلية.
يعتقد الغرباوي أن الجغرافيا النسويّة ليست مجرّد دراسة لمظاهر الأرض " اللاند سكيب" بل هي تقصّي لكيفية تأثير الجندر والحمولات الثقافيّة والاجتماعيّة في تشكيل هذه المظاهر، ويرى أن الفروق الاجتماعية بين الجنسين لم تتكون بشكل طبيعي، ولكن صممت لترسيخ سلطة معينة.
فيسعى لإرساء الوجه الحقيقي للمرأة عبر مشروعه الفكري لمواجهة المفاهيم التي تتبنّاها الحركة النسويّة، وتوضيح دور المرأة في المجتمع وأهميتها ومكانتها كما يتوافق مع الأطر الدينية للمجتمع العربي والإسلامي، بعيدا عن الرؤية التي لازمت كلمة الجندر حينما ظهرت في كتابات سيمون دوبوفوار كنوع اجتماعي أرادوا جعله المفهوم المركزي للحركة النسوية كلها.
كما يوضح موقفه من الأفكار الراديكالية باعتماده على البحث عن توازن ونقد النهج الذي يدعو إلى الإجهاض، أو العلاقات المحرمة خارج إطار الزواج، أو حقوق المثليّات. في الوقت نفسه يشجع على ثورة فكريّة ثقافيّة تسمح بالتبادل الفكري الحر والمشروع، رافضًا ثقافة التنافس التي تتسم بالعداء.
لقد أولى العديد من المفكرين والمتخصصين في المجال الفلسفي اهتمامًا بالغا في فكر ماجد الغرباوي، ومنهم الدكتور محمود محمد علي الذي قام بتحليل مشروع الغرباوي فعرض تقييما للقضايا الشّائكة التي تثير النقاش حول آرائه التي تتعلق بالفلسفة النسوية، حيث بين في كتاب" الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي" كيف دعا الغرباوي إلى إصلاح الفكر السّائد وإعادة بناء الوعي بما يتماشى مع الفطرة السليمة والقيم الإنسانية، مؤكدًا على موضوع النظر إلى المرأة بأنها كيان إنساني كامل له حق التعامل معه بعدالة، وأن الدور البيولوجي للمرأة هو السبب لخضوعها للتصنيفات، حيث تم تقييمها من قبل الرجل باعتبارها مجرد جسد خاضع لقوته وإرادته، بينما النهج النسوي المتوازن يعترف بالفروق الجنسية ولكن يسعى في الوقت ذاته إلى إعادة تقييمها وتعريفها بما يتناسب مع النهضة في المجتمعات الحديثة، بطرق تمكن المرأة، وتعزز المساواة بين الجنسين دون إلغاء الفروق الثقافية والاجتماعية التي تضفي على المجتمع تنوعًا وتماسكًا.
ثم يعود في كتابه " التّسامح ومنابع اللاتسامح " ليسلط الضوء على فرص التعايش بين الأديان والثقافات، من خلال ربطه بين مفهوم التسامح والإصلاح مؤكدا على أن التسامح ليس مجرد قيمة أخلاقية بل هو عقيدة وطنية، يجب أن تعزز في المجتمع، والحرية في نظره شرط لا غنى عنه لتحقيق التسامح.
ويخرج من كتابه "إخفاقات الوعي الديني" وتداعيات النكوص الحضاري في حواره مع سلام البهية السماوي إلى كتاب آخر بعنوان "إشكاليات التجديد " ليحدد الأسباب التي دفعت العرب المسلمين للتأخر وتوقف المد الحضاري، حصرها في عدة اتجاهات:
- اتجاه أول: شعور الانبهار بالغرب وحضارته حدّ الاستلاب والدونية، ورفض الآخر.
- اتجاه ثاني: انكفاء وسط شريحة واسعة مشوهة بسلوكيات ماضوية تتمسك بظاهر الدين.
- اتجاه ثالث: يتقدّمه رواد الإصلاح الذين درسوا حقيقتي الازدهار والانحطاط بحثًا عن الحقيقة. والتي انتهت بضرورة التشبث بالجانب المعنوي لتسديد الأخلاق.
كما أوضح أن الإجابة هي موضوع اشتغال المفكرين والباحثين على جميع المستويات، حيث المشكلة في الأساسية هي في بنية العقل والنظام المعرفي لشعوب المنطقة كونها القاعدة الأولى التي ترتكز إليها النهضة.
وقد سنّ أطروحته بشكل أكمل حول المنهج الجديد في تشريع الأحكام، عبر كتابه" مقتضيات الحكمة في التشريع"، فنرى أن رسالة الكتاب تدور حول أهمية فهم مقتضيات التشريع وهي الظروف والأحكام التي تقتضي صدور حكم شرعي معين، وكيف يمكن لهذا الفهم أن يؤثر في تطبيق الشريعة وتكييفها مع الواقع المعاصر، كالتغيرات الاجتماعية، والتطورات التكنولوجية، والأوضاع الاقتصادية في ظل الأزمات، تحت ما يعرف بتغيير الأحكام وفق الزمان والمكان، ويتطلب ذلك دراية بأصول الفقه، كمبدأ في تجديد الخطاب الفقهي وجعله متوافقًا مع الواقع ومتطلبات العصر، والحفاظ على الثوابت، ومراعاة المقاصد الشرعية، من خلال فهم عميق لأصول الفقه وقواعده.
تعكس تجربة الغرباوي تجربة شخصية عميقة مع قضايا الاستبداد، سواء السياسي أو الديني، فهي تجربة تنقل بصدق وحساسية معاناة الأفراد الذين يعيشون تحت نير الأنظمة القمعية، هذه المشاركة تضيف الشّرعية لحديثه عن الاستبداد. فتظهر جرأته في طرح الآثار السلبية لاستغلال الدين في فرض سلطة البعض وتقييد الحريات.
في النهاية لا يسعني القول إلا أن سلسلة متاهات الحقيقة بدأت من النقطة الأهم وهي الهويّة كمجموعة من القيم والخصائص والمعتقدات التي تحدد شخصية الفرد ومكانته في المجتمع، وأهميتها الكبرى في رحلة البحث عن المعنى لوجوده، وعامل رئيسي لتشكيل الوعي، تمد الفرد ثقته بنفسه، وتعزز الانتماء الذي يمنح الأمان النفسي، ويمد أيدي التواصل لتبادل الأفكار والخبرات التي في رحلة البحث عن المعنى عبر دوره الاجتماعي، فالهوية إطار يمكن من خلاله التنقيب والتفكير في الأسئلة الأساسية حول معاني الوجود.
ولم تنتهِ مجموعة كتبه في متاهات الحقيقة ذات الرؤية الواسعة للتاريخ مشيرا عبرها إلى أن الاستبداد العابر للحضارات والثقافات، كان ومازال عقبة رئيسية أمام التقدّم والتطور الحضاري، وهذا يعكس فهمًا للتاريخ يركز على الصراع من أجل الحرية كقوة دافعة للتقدم الإنساني.
في رحلة عميقة نحو إيجاد معنى وجودي وفي سياق الإصلاح لدى الغرباوي ضمن إطار فكره الإصلاحي، يمكن أن تتضح مظاهر التنوّع بالنّقاط التالية:
1- التّأويل المنفتح: بمعنى إعادة تأويل النصوص الدينية والثّقافيّة بطريقة تعكس التنوع والسياقات المعاصرة، وتدعو إلى التعددية داخل المجتمعات، فيظهر الباحث الغرباوي اهتمامًا بتأويلات تتسم بالانفتاح على أفكار جديدة ومختلفة تحترم التنوع الفكري والديني.
2- النّقد الذاتي: يشجع النّقد الذّاتي وإعادة النّظر في التّقاليد الثّقافية والدينية بهدف تحديثها وجعلها أكثر ملائمة للعصر الحديث وقيم التنوير وحقوق الإنسان.
3- التفاعل الثقافي: التّأكيد على أهمية التفاعل والتعايش بين الثقافات المختلفة مع الحفاظ على الهويّة الثقافية والدينية.
4- التّعددية الفكرية: الدفاع عن التعددية وحرية الفكر والتعبير، ورفض الفكر الأحادي والتسلطي.
5- إعادة تقييم السلطة الدينية: دعا الغرباوي لإعادة تقييم السلطة الدينية وأسس التفويض والتأويل، بحيث يمكن الأفراد من فهم النصوص بشكل مباشر.
6- الإصلاح اللغوي: الاهتمام بلغة التواصل والتعبير عن الأفكار الإصلاحية، بطريقة مفهومة ومقبولة للجماهير مع الأخذ بعين الاعتبار السياق التاريخي والفكري.
***
ريما آل كلزلي – أديبة وناقدة سعودية
.....................
* مشاركة (42) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).
رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي
https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10