بأقلامهم (حول منجزه)

خيرة مباركي: المسكوت عنه بين فلسفة الحوار وحوار الفلسفة في فكر ماجد الغرباوي

كتابات ماجد الغرباوي حلقة جديدة من حلقات التفكير الحرّ، يمكن اعتبارها مرحلة جديدة من مشروع نهضوي عام يندرج ضمن حركة إصلاحيّة واعية ببرنامجها ومراميها الفكريّة، لما قدّمته من أفكار ورؤى استطاع عبرها أن يخطّ أهدافه التنويريّة، منطلقاً من جملة من التحدّيات التي واجهها الفكر العربي قديمه وحديثه في رواسب المعتقدات والعقليات التي طغت في المجتمعات العربيّة، ممّا هيّأ لخطاب نهضويّ، جادٍ واعٍ بخصوصيّة الوضع الرّاهن وما يحمله من توجّس ممّا عسى أن يتسرّب من أفكار ومعتقدات يمكن أن تعصف بالمجتمع وتلقي به في هاوية التخلّف والرجعيّة، وهذه الراهنيّة تتجاوز الزمن والفضاء الذي تولد فيه فكرة النهضة إلى تعميمها في كلّ زمان ومكان لأن ما تقوم عليه من مبادئ قادر على مواجهة كل خطر خارجيّ أو داخليّ على السواء، وهذا ما جعلها متجدّدة بتجدّد طرحها ومجادلتها. على هذا الأساس يمكن اعتبار فكر ماجد الغرباوي، من خلال ما قدمه من كتابات، مواصلة لمشروع تحديثيّ استوجب الوقوف عند محطات عديدة وفي مجالات مختلفة، ولئن مثّل الخطاب الدينيّ الأسّ الذي شيّد عليه الباحث بنيانه، فإنّ العقل وسيلته في الاحاطة بمشروعه الفكريّ وذلك بالنظر والمجادلة بالحجّة العقليّة حرصاً على الإقناع والتغيير. فما يبدو لمتلقّي هذه الآثار الفكريّة خطاباً إنسانياًّ وعقلياًّ يعزّز الشعور بالانتماء ويُنبئ بجوانب من الواقع (الديني، الاجتماعي، السياسي...) فإنّ التوغّل في أعماق هذا الخطاب يكشف حقيقته الإبداعيّة والتجديديّة، بما هو إعلان عن ولادة نزعة عقليّة تتركّز على فكر موضوعيّ لا ينظر إلى الأشياء في تكوّنها بل في ما يمكن أن تفرزه من مؤثّرات، تشكّل قاعدة ثابتة يمكن، من خلالها إعادة النظر في المسلّمات ونقدها، وصولاً إلى أهداف تنويريّة هي مقصد فكره الليبراليّ، يعرضها بوعي عميق واستراتيجيا ذكيّة تعود إلى التراث لتبني المعاصر. وهذا من شأنه أن يدعم علاقة الفكري بالتاريخيّ. حيث يمثل الأول منطلقا لتكوين العقل التاريخي، وذلك من خلال "فهم دوافع الفكر التاريخيّ ونمط تكوّنه وسيرورته، ومن معاينة ما ظهر، وملاحظة ما بان من عوائق تطوّره وتطوّر الوعي التاريخيّ معه"[1]. والدين جزء من هذا التاريخ، يمكن أن يمثّل ركيزة الفكر الاجتماعي في أي لحظة تاريخيّة كانت، تركّزت حوله فلسفة الغرباوي في مؤلّفاته وحواراته ومن ثمّ مشروعه الفكريّ التنويريّ.

قد تكون تلك رؤية الغرباوي وقد يكون توجّهه الفكري في الكشف عن حقيقة التاريخ الديني وعن حقيقة فهم النصّ الديني. لكن هل أنّ هذا التوجّه هو أقصى غايات ماجد الغرباوي المفكّر التنويري، ونحن نراه يعرض مسائل على قدر من الأهمّيّة والخطورة ، فهو يعمّق النظر في مسألة التوحيد ويدرس السيرة بكلّ مراحلها ويتقصّى خفاياها. ويتناول مسائل التسامح والاختلاف وغيرهما من المسائل الجادّة والفارقة في الفهم الديني والسلوكي الحضاريّ؟ هل يمكن أن نكتفي بظاهر ما قدّمه الباحث من أفكار وحقائق، ومن عمل فكريّ وعقليّ في تناول كلّ ذلك؟ ما الذي يجعل مفكّر مثل ماجد الغرباوي يعيش الغربة لأجل الكتابة وهو ما أقرّه في بعض حواراته مع بشرى البستاني؟ هو مفكّر عقلاني ذو توجّه ليبراليّ وهو ما تنبئ به كتاباته وتوجّهاته الفكريّة. لذلك لا يمكن أن نتناول مثل هذه المؤلّفات بسطحيّة ونكتفي بما ظهر وبان فيها. فما قدمته العديد من الدراسات حول هذا المفكر التنويري منطلق لدراسات أخرى تبحث في المضمر من هذا الخطاب والمسكوت عنه فيه. فعندما نتعمّق في فكر ماجد الغرباوي تنبثق أمامنا جملة من الإشكاليات التي تقدح في الذّهن وتدفع إلى التساؤل والحيرة، ويمكن أن نستشفّها في خطابه، وليس صعباً أن نتلقّى جملة من الإشارات المتفجّرة ممّا يعرضه من أفكار. بمعنى أنّ اهتمامه بتاريخ الإسلام وما انطوى عليه من أحكام شرعيّة إنّما هو ضرب من الإشهاد على الحكم الشرعيّ، ومنه يكون الدرس والعبرة. فهو، ولئن ركز على الفكر الديني لما له من أهميّة بالغة فإنّه يطرح بطريقة غير مباشرة رؤيته الليبراليّة ودوافعه التنويريّة التي يسعى من خلالها إلى النهوض بالوطن وما علق به من مؤثّرات الجدل العقائديّ، عمّق الصراع بين المذاهب وشتّتت أواصر المجتمع فيه، لأنّ المسألة ليست مجرّد درس للتراث الديني بقدر ما هي فكر وتصوّر وعقيدة ترتسم من خلاله صورة مجتمع كامل بعقائده ومعتقداته وتصوّراته، وكذلك بمستوى تطوّره. وهنا ينتظم حديثنا عن أعمال ماجد الغرباوي داخل إشكاليّة ما يطرحه من قضايا انطلاقا من محاولة تشخيص الأعراض التي يعاني منها العالم العربي الإسلامي عامة والواقع العراقي على وجه الخصوص. ثمّ محاولة استنباط حلول وسبل الخلاص منها. وصولاً إلى النتائج التي ترتّبت عن ذلك.

قد يكون هذا النّهج الفكري مضمّناً في خطاب الغرباوي الديني لكنّه يحتاج إلى رؤية ثاقبة ودرس عميق يمكّن من الوقوف، لا على حقيقة هذا الخطاب في ظاهره، بل ما يستبطنه من دلالات وما يكشف عنه من فلسفة تنويريّة، لأنّ ما يكتبه ليس من فراغ وإنّما هو نتاج وعي عميق بخصوصيّة المرحلة وخطورتها على الوضع الحضاري والاجتماعي، وكذلك التاريخيّ. فالفكر العربيّ المعاصر كما يقول كمال عبد اللطيف "يشكّل الأفق الأيديولوجيّ المعبّر عن بنيات التاريخ العربيّ المعاصر، إنّه يعكس كلّ أشكال الصراع التي عرفها هذا الواقع، كما يعكس مختلف التحدّيات والضغوط التي تمتلئ بها الحياة العربيّة". وهذا ما يجعلنا نقرّ جازمين بعدم انفصال البنيات الأيديولوجيّة عن فضائها التاريخيّ. لهذا لا يمكننا أن نفصل بين ما كُتب وما قيل من رؤى فكريّة ليبراليّة في أبعادها ومقوّماتها النظريّة، وبين ما أشير إليها باعتبارها شكلاً من أشكال المسكوت عنه الذي يلمّح ولا يصرّح. ولا سبيل إلى فهم ما يحمله هذا الفكر من دلالات تاريخيّة وحضاريّة إلاّ بما يفصح عنه الخطاب في ارتباطه بالواقع التاريخيّ والحضاريّ. ويحلّل أبعاده الاجتماعيّة والثقافيّة وكذلك النفسيّة، ونعني بهذا طبيعة الواقع الذي أثمر مثل هذه القراءة، من جهة، ورؤيته للدّين باعتباره المحدّد لطبيعة التعامل مع الواقع. على هذا الأساس نضمن مشروعيّة التعامل مع تجلّيات الفكر اللّيبراليّ ومقوّماته في مشروع ماجد الغرباوي الدينيّ، إيماناً منّا وعلى حدّ تعبير غراميشي "أنّ الممارسة النظريّة لا تكون مجانيّة ومحايدة وفوقيّة بقدر ما هي ممارسة تضرب بجذورها في التاريخ".

لقد حاول الغرباوي أن يؤصّل رؤية جديدة للواقع من خلال العودة إلى منابع الفكر العربي بما في ذلك الدين والمخيال الجمعي والفلسفة، ليبحث في حقيقة ذلك التفكير. فأمكن له الحفر بوسائل معرفيّة متنوّعة تجمع التاريخيّ بالأنتربولوجيّ والديني بالإنساني والاجتماعي بالذاتيّ والنفسيّ، في حقيقة الواقع وما يحيط به من توجّهات فكريّة وإيديوجيّة حكمت اللحظة التاريخيّة الراهنة. المنطلق تاريخيّ كما هو بيّن ولن ننكر الأبعاد التاريخيّة في بعض السياقات، فما عرضه من حديث عن الفتوحات وجوانب من سيرة الرسول، وأخبار غزواته في بعض المؤلّفات إنّما هو من قبيل الشاهد والمبرّر لما يوحي به في خطابه. بذلك فللعرض التاريخي "دور فعّال في نشر وتثبيت العقيدة (الأيديولوجيا) التي ستسمّى بحقّ عقيدة أهل السنّة والجماعة"[2]. بهذا فهدف الغرباوي واضح للعيان.  وهو مع ذلك يحافظ على البعد الإيمانيّ، خوفا على خصوصيّة الإسلام من ذوبانه في العقائد السائدة، وكذلك خوفاً على نفسه من اتهامه بعكس ما يرمي إليه وتكفيره، وهذا البعد الإيمانيّ باعتباره مؤشّرا على حفاظ الدرس الليبراليّ التّنويري على خصوصيّة التناول المعرفي واحترام مبادئ الإسلام والعقيدة. ونستجلي هنا رؤية الباحث في مشروعه بما هو بديل عن رصيد معرفي لا يمكن إنكاره، ولكن في ذات الوقت لا يمكن التقيّد به لما لحقه من شوائب، قد تخلّ بحقيقة المقاصد الأخلاقيّة والتشريعيّة، وكذلك الإنسانيّة في مجمل أعماله. وكأنّنا بالغرباوي ينشئ مشروعه على المعطى الموروث مسبقاً ليعيد تنظيمه وفق رؤية مختلفة ومميّزة تحفظ توازنه الداخليّ وتقوّيه، فهذه الرؤية، ولئن تجاوزت فضاءات التقديس والتبجيل وقطعت مع الفكر النقلي التسليمي، فإنّها بقيت متمسّكة بمنابعها الأولى منطلقاً للتقدّم والارتقاء.

وقد تناول العديد من المسائل الدينيّة ومنها مسألة التطرّف الدينيّ، تناولا مستفيضاً. ممّا يؤكّد صحّة ما ذهبنا إليه وهو أن له مشروعاً تنويرياًّ، يجعل مثل هذه القضايا التي يثيرها بمثابة الحجج التي يدعم بها صحّة ما يرسمه في كتاباته من خطط، يبدو وعيه بها قائما مسبقاً. فمعضلة التطرّف سببها الأساسيّ الغلوّ العقائدي والفكري والتعصّب لأفكار مبنيّة على أسس واهية، من تفسيرات محتكمة إلى الهوى والمصالح الذاتيّة الضيّقة، وكذلك الولاءات العقديّة المغرضة في التعامل مع النصّ الدينيّ. على هذا الأساس يمكن أن نتمثّل فاعليّة هذا التوجّه المنهجي في مشروع ماجد الغرباوي. فمثل هذه القراءات الخاطئة يمكن أن تنتج فكراً خاطئاً. وهذا بدوره قد يزيد من أزمة المجتمع ويعمّق الصراع الداخليّ فيه. ولن يتقدّم مجتمع والطائفيّة تنخر كيانه. على هذا الأساس بدا الغرباوي رافضاً لمثل هذه القراءات، بل وحذّر من خطورتها، لأن غاية توجّهاته توعية المجتمع والنهوض به. ولكن قوى الرجعيّة تغلغلت في أعماقه. وقد أشار إلى ذلك  صراحة، في قوله: "نحن شعب نكره الجدّ والمثابرة، ونتمنّى الأشياء بلا تعب وبلا معاناة، خلافاً لسنن الحياة. وننتظر حلول وتسويات الغيب لمشاكلنا بالدعاء، فانتهى بنا الأمر مستعمرين لدول الغرب اقتصادياًّ وصناعياًّ وتكنولوجياًّ. الغرب يتقدّم على مختلف أصعدة الحياة ويقيم أفضل الأنظمة السياسيّة في ظلّ مجتمعات مدنيّة، ونحن ننتظر المهدي وتحقّق دولة العدل الإلهيّ الموعودة"[3].

بهذا يمكن أن ندرك حقيقة  خطاب ماجد الغرباوي، فهو يحمل استراتيجيّة فكريّة تقطع مع الفكر الدغمائيّ وتلغي التصورات الرجعيّة ليعوّل على أسس التفكير العقلي للنصّ الدينيّ باعتباره المرجع الأساسيّ في تشكيل العقل العربيّ من جهة، واعتبار أنّ طرق فهمه واختلافها هو أساس الخلاف وسبب التناحر والصراع. في هذا الإطار يمكن أن نكتنه فكر الرجل، فهو يحاول أن يقف، ولو ضمنياًّ، على الأسباب الحقيقيّة التي ساهمت في تراجع المجتمع العربي عامّة والعراقي بصفة خاصّة. وكأنّه يعلن من وراء هذا الصوت الديني تمثّله لخارطة ترتسم عبرها صورة جديدة للمجتمع العربي. وهو في ذلك ينزع نزعة عقليّة صارمة في عرض أفكاره عن حقيقة الواقع الذي احتضن مثل هذا الفكر وهيّأ لنشوئه، فأبرز ما تميّز به قيامه على الصّراع الإيديولوجي والمذهبيّ، وهذا من شأنه أن يعيد المجتمع إلى عصور الظّلام الأولى، حيث التّطرّف والجهل والتمسّك بفكر تسليميّ وثوقي، يتراجع فيه صوت العقل والمنطق. ولعلّنا أمام رؤية ليبراليّة لا تهتمّ بالأبعاد النظريّة قدر اهتمامها بالرؤية الفاعلة المنجِزة لتلك الأسس(النّظريّة)، لتنفتح على فكر حرٍّ يتيح لصاحبه الوقوف على حقيقة الواقع والتعامل معه دون قيد أو شرط. ممّا ينمّي في داخله الرغبة في التغيير والنهوض به، ليكون قادراً على تجاوز العراقيل والصّعوبات. وماجد الغرباوي شأنه شأن بقيّة اللّيبراليّين لم يتجاوز الجماعة المتمثّلة في المجتمع العربي عامّة والعراقي على وجه الخصوص، وما يشهده من تشظٍّ وانقسام بسبب الصراعات المذهبيّة، لأنّ الشعب قيمة عليا تُستمدّ من علاقته بالفرد أو علاقة الفرد به، فلا مناص من كسب ودّه بالعقل والتفكير. وهو أساس مشروع الغرباوي، إذ ينطلق خطابه الليبراليّ من حاجيات المجتمع لبناء نهضته، ممّا يستوجب تطويراً في بنيته الفكرية ومراتب الوعي لديه، ليستوي هذا البنيان. وهو ما يميّزه ويبعده عن أن يكون مجرّد نسخة لمجتمع آخر وممايراً لفكر آخر، في هذا المستوى النقدي يدرك الباحث أنّ هنة الفكر العربيّ أنّه "فكر اتباع ومحايثة لأطراف أخرى تحدّده وتجعله مجال قيد واحتذاء". وهذا لا يمكن أن يترتّب عنه الإبداع والحريّة بل يجعله تحت جناحه لا يكاد ينفصل عنه أو يتحرّر من سلطته. هو إذن فكر قاصر لأنّه خطاب مشروط بغيره يتلمّس تلابيبه، كيف والأمر متعلّق بالدين؟ فالعربي يخشى أن يبحر في هذا المجال حتّى لا ينعت بالزندقة والكفر، لذلك تجده يردّد أقوال السلف فلا نكاد نقف إزاء فرق بين مصنَّف وآخر.

وما يثيرنا في تناول الغرباوي لمسألة الدين وما تعلّق بها من مسائل فرعيّة، سؤال حضرني وأنا أقرأ محاورته مع بشرى البستاني: هل سيكتب الغرباوي بمثل هذا التحرّر والانفتاح في ظلّ واقع سيطرت عليه الطائفيّة وما مرّ به من فواجع وانكسارات؟ إنّه يواجه التعصّب بالسفر. وهو ليس هروبا بقدر ما هو اختيار وقرار لتطوير الذات والمجتمع من موقع يمكن أن يمرّر عبره أفكاره وتوجّهاته الإصلاحيّة دون عقبات ومواجهة، يمكن أن تعيق مشروعه النقدي. لذلك فالسفر فرصة لتطوير الذات والكتابة معاً بعيدة عن قهر المجتمع ومنابت الرجعيّة والتهافت الطائفيّ. فليس من سلطة غير سلطة القلم وموجّهات العقل. لذلك تبدو علاقة العقل بالدين في فكر الغرباوي علاقة انسجام وتكامل، ذلك أنّ أحدهما يتحصّن بالآخر من مغبّة السقوط في ما يعيق الفكر والانزلاق في متاهات عميقة، تمنع تحقّق المقصد من وراء تناول المسألة الدينيّة. وهو أساساً النهوض بالمجتمع وتطويره بما يختزنه التراث الديني من أفكار وعقائد هي منبع الوعي والتطوّر العقليّ. يقول الغرباوي: "نحن بحاجة إلى وعي يمزّق جدار الصّمت، يفضح الكذب والتزوير، ويقول الحقيقة بصوت مرتفع".

بهذا فمحاولة تناول الفكر الدينيّ تناولاً عقلانياًّ مزيّتان أولاهما النأي عن سلطة النقل والدغمائيّة العميقة للتفكير التقليديّ في ما اعتمده من مناهج ورؤى ضيّقة. ومعضلة الفكر العربيّ تكمن أساساً في اجترار المصنّفات القديمة. لم يبخس الغرباوي قيمة هذه المصنّفات. ولكنّه يدعو ضمنياًّ إلى ضرورة مضاعفة اهتمام المفكّرين والدارسين بالفكر الحديث والأكثر معاصرة من حيث التوجّه العقلانيّ الحرّ والتخلّص من التبعيّة لتطوير العقل العربيّ ومحاولة إخراجه من بوتقة الموروث الجديد والقوالب المعلّبة بسلطة السلف يناقش الغرباوي ضمنياّ صورة الفكر الديني في علاقته بالقيم العقائديّة عند الشيعة والسنّة على السواء. يفصل في ذلك بين المستوى الذاتي الضيّق والمستوى الفكري المجرّد في صورته الكليّة البعيدة عن كلّ تعقيد وذاتيّة. ويعتبر ذلك من ضروب التخلّف والتراجع العقلي في مستوى التعامل مع الظواهر. فالدين فكر وتصور وعقيدة قبل أن يكون مجرد طقوس بعيدة عن النظر العقلي. وهذا يعتبر من أبرز مزايا فكر ماجد الغرباوي. فهو (الدين) قائم على العمل أساساً. وما يحصل في التناول العربي لهذه المسألة هو التعويل على النقل والتقوقع في مجال عقائدي ضيّق اعتبره مدار الاختلاف بين الفكر الغربي والفكر العربي، ويؤكّد على ذلك بقوله: "إنّ الغرب يختلف عنّا في علاقته بالدّين وبالغيب، فمنذ إقصاء الكنيسة عن الحياة عامّة والسياسة خاصّة، انطلقت الشعوب الأوروبيّة نحو العلم والمعرفة وتطوّر الحياة، فأخضعت كلّ شيء للتجربة والعقل وراحت تبحث عن الأسباب الكامنة في الكون بعيداً عن التفسيرات الغيبيّة، فأصابت الهدف وحقّقت نتائج مبهرة في الحياة، بعدما اكتشفت القوانين المنظّمة للكون، وكيفيّة ترابطها، وصار العالم برمّته مديناً لاكتشافاتهم"[5]. ويؤكّد في هذا السياق على أهميّة النظر العقلي والوعي بفاعليّة العلم والتجربة في تطوّر الشعوب. فالطفرة التي شهدها الغرب أساسها تجاوز القصور المعرفي الناتج عن التفسيرات الغيبيّة والركون إلى الميتافيزيقا نحو النظر العقليّ والانطلاق صوب العلم والمعرفة لتحلّ التجربة محلّ الحدس وتنطلق نحو البحث عن الأسباب الكامنة في الكون بعيداً عن الدغمائيّة والتعصّب النقلي. وفي نقد الباحث للوضع العقائدي يبدي رفضاً وتبرّماً من الواقع الفكري والحضاري للمجتمع العراقيّ ومن ورائه المجتمع العربيّ، مشيراً إلى خطورة الوضع الإنساني. مثال من بين أمثلة كثيرة قدّمها الكاتب وأبدى عبرها حساسيّة فائقة لحقيقة ما يترتّب عنها من خطورة قادرة على هدم بنيان المجتمع. حين يتأثّر أفراده بما يعرضه الفكر الظلامي من أفكار تعصف بأمن المجتمع وتقدّمه لأنّ "الإيمان يتأثّر بمناشئه وصدقيّة العقيدة ترتهن لأدلّتها وبراهينها، وبينهما بون كبير، فربّما مناشئه مجرّد أوهام الحقيقة أو مصفوفة خرافات لا دليل عليها سوى الوهم بتأثيره النفسيّ، وهذا مبرّر موضوعيّ يسمح بنقدها ومراجعتها للكشف عن تاريخيّتها وزيفها وحجم الوهم والمؤثّرات الأيديولوجيّة والطائفيّة في صياغتها، فيخطئ من يؤمن بثبات العقيدة، أو ينفي تطوّرها وتاريخيّتها"[6]. في هذا الإطار تبرز مراجعات الباحث النقديّة للتراث، ويتّصل ذلك بسؤال الحقيقة بعيداً عن سطوة الخرافة واللاّمعقول وهو ما يحقّق مزيّة فهم النص من أجل فهم متجدّد للدّين شرطاً أساسياًّ للنهوض الحضاريّ. وقد ربط ذلك في سياقات عديدة بالبعد السياسيّ، وذلك من خلال ما تناوله في نصوصه من تبرير للسلوك السّياسي عبر احقاب إنّما هو الحقيقة التي ظلّت غائمة، وظلّ الفكر العربي بكلّ مراحله يواري سوءاته بقراءات أقرب إلى التبعيّة في كلّ مظاهرها وحالاتها وكذلك توجّهاتها.

وقد ساعد على استجلاء المسكوت عنه في الخطاب  فكر عميق تناول المسائل بالتحليل والتقييم، من خلال طرح نقديّ يقوم على تتبّع الأسباب للوصول إلى النتائج، وكذلك في ما انتهجه من نهج معرفيّ راعى فيه التوجّه المنطقي والصبغة الحجاجيّة. يعوّل على طرح الأسئلة، وهي شهادة في حقّه، فما التزم به الغرباوي من مبادئ عقلانيّة تصطفيه باحثاً جاداًّ ألم يقل المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون (Maxime Rodinson): "من النادر أن ترى عالماً يهتمّ فقط بجمع مواد بحثه، بل يطرح الأسئلة على نفسه، ويجيب عليها بصورة علميّة، يضاف إلى ذلك أمانة علميّة شديدة تصدر عن فكر لا حيلة له أمام الحقيقة". هذه المهارة وهذا البحث عمّا هو أصيل ميّز كتاباته وارتقى بها إلى مصاف الكتابة الرّصينة. وهو ما يشدّنا دائماً في كتابات ماجد الغرباوي، حيث النزوع العقلي في توخّي الموضوعيّة فيؤصّل القول في إطار علميّ ينهج نهجا واضحاً، إذ ليس للذات الباحثة حيثيّات ولا أغراض ذاتيّة ولا رؤى مشدودة إلى أيّ طرف أيديولوجي إلاّ ما يقدح الفكرة في ذهن المتلقّي، ويدرك ما وراء النص النقدي. وقد أشار إلى المنهج في مناسبات عديدة وهو التعامل مع الواقع تعاملا نقدياّ والنظر إلى مشاكله برؤية ناقدة ومتفحّصة للوقوف على معضلات المجتمع والعصر والسعي نحو بناء يعيد للوطن هيبته، ويسهم في اعماره والتصدّي للعدوان الخارجي. وهذا ما جعل كتاباته ترتقي إلى مستوى التناول الموضوعي والنموذج الذي يُحتذى به في دراسات الفكريّة والحضاريّة بما فيها من إنسانيات وتشريعات وغيرها. هذا فضلاً عن استعماله لغة سلسة بسيطة خالية من كلّ تعقيد، وأفكار بعيدة عن دغمائيّة الفكر العربي في توجّهاته الضيقة كل ذلك يجعله مثالاً لفكر إصلاحي ونهضوي ينهض بفكر عربيّ ظلّ قرين نموذج رجعيّ في أغلب مراحل تشكّله، أو فكر غربيّ يسير على نهجه سيراً أعمى غير مدرك لخصوصيّة التربة التي ينشئه فيها. وكلاهما سبب لتأخّر النهضة العربيّة، ويقدّم أمثلة دقيقة تبدو في الظاهر قضيّة من القضايا التي يثيرها وتؤرق ذهنه، ولكنّها في الحقيقة عماد من أعمدة مشروعه التنويريّ في كل مجالات الحياة (الاجتماعيّة والسياسيّة والفكريّة والعقائديّة...). وهذا ما يجعل فكر الرجل مكسباً حضارياًّ وإنسانياًّ يبني المجتمع الإنساني الحديث بما يمتلكه من موضوعيّة وحياد وبعد عن التطرّف بشقّيه. فهو فكر معتدل يراعي أصول الدين ويدافع عن الحقيقة في إطار أخلاقي قيمي.

والكتابة النسويّة ليست بعيدة عن هذا التوجّه في الاعمار والبناء. فهو جزء مهم في مشروعه الحداثي، عبّر عن رؤى المرأة وحلمها في كتابة متحرّرة من سلطة الفحولة والذكوريّة من جهة. ومن جهة أخرى يفتح باب حريّة التعبير واحترام خبراتها في صنع القرار باعتبارها نصف المجتمع وجزءا من كيانه وهو ما يهيّء لمجتمع مشرق قادر على مواجهة عقوق الفكر الظلامي. هذا التناول لقضايا الفلسفة والفكر والعقيدة في مشروع ماجد الغرباوي الفكري، تعبير عن مشاغله ورؤيته الفكريّة للمستقبل الحضاريّ، وأوّل خطوة في مخطّطته، تحرير العقل ممّا علق به من تداعيات الخرافة والأسطورة ومؤثّرات العقل التقليدي، ومنه إعادة فهم الدين على أسس منطقيّة وعقلانيّة تنبني على متانة العلاقة بين الإنسان والوجود ومركزيّته فيه. وتحرير العقل يرتبط أساساً بضرورة ترشيد الوعي والارتقاء بالخطاب الديني إلى مجال النظر العقليّ الذي يرتهن إلى نظام معرفي صارم يبحث في مضمرات النصّ ومراوغاته التركيبيّة والبلاغيّة والدلاليّة. كلّ ذلك وفق نزعة عقليّة معرفيّة تتركّز على الدليل والبرهان. وهي أسس لتجاوز الفكر التقليديّ والسعي نحو تأصيل نهضة فكريّة من شأنها أن تحقّق نهضة حضاريّة قادرة على الارتقاء بالإنسان إلى مصاف التفكير الرصين والجادّ، "يستنشق عبرها رحيق الحريّة بعيداً عن سطوة التراث وأسطرة الرموز الدينيّة"[7]. لهذا فكلّ نقد لا يستند إلى أسس منطقيّة وعلميّة في التناول، يبقى مجرّد قراءة لا يمكن أن تحمل في أعطافها بوادر الإصلاح والنهوض بالواقع. قد يكون عملنا شهادة على فكر المفكر والباحث ماجد الغرباوي، ولكن الأهم من ذلك أنه مجال لطرح أسئلة جديدة، وفقنا في الإجابة على بعضها ولكنّ أغلبها مدار جدل وتفكير، وهذا بعد غايتنا. فلئن انتهى هذا العمل درساً فإنّه لم ينته مشغلا. وأعمال الرجل المترامية بين حوارات ودراسات نقديّة وأعمال إبداعيّة أكبر من أن نحيط بها ونتدبّر مفاتيح الولوج إلى ما تختزنه من فكر ومنهج وأسلوب.

***

بقلم: الأستاذة خيرة مباركي

طالبة دكتوراه، باحثة وناقدة - تونس

..............................

[1] - فتحي التريكي، العقل والنقد في فلسفة التاريخ عند العرب، مجلّة الفكر العربي المعاصر، العددان 88-89، ماي/ جوان 1991، ص27.

[2]- عبد الله العروي، العرب والفكر والتاريخ، ط2، المغرب، د.ت، ص82.

[3] - ماجد الغرباوي، مدارات عقائديّة ساخنة، حوار طارق الكناني مع ماجد الغرباوي، مؤسّسة المثقف، سيدني، أستراليا وأمل الجديدة، دمشق، سوريا، 2024، ص29.

[4] - المصدر نفسه، ص28.

[5] - المصدر نفسه، ص309.

[6] - المصدر نفسه، ص9.

 ........................

* مشاركة (63) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10