بأقلامهم (حول منجزه)
وقفة تأملية مع ماجد الغرباوي وكتاب إخفاقات الوعي الديني
حينما يكون حاضرنا محتلاً من قبل الماضي السحيق، بكل ثقله الدموي وإرثه العنيف وانشقاقاته البغيضة، لابد أن يتكرس هذا الاحتلال أغلالاً فكرية تلجم العقل وتجمده وتجعله من تبعيات ذلك الماضي. ولهذا فإن العقل قد يعيش في عصره الحاضر وفي ألفيته الثالثة إلّا أن أدواته الفكرية وأساليبه التحليلية لازالت خاضعة إلى ذلك الماضي. ذلك الماضي الذي لاينفك يجر العقل إليه ويسحره بسحر الطهورية الافتراضية والمجد الخادع. ومن هنا فإن العقل يعيش مأسوراً مصفداً في ظلمات الإنجماد التأريخي بعد أن ضلّ طريق التنوير (السير مع التاريخ) فاقداً لبوصلته الفكرية رازحاً تحت تخدير عام يسلبه كل قواه ويمنعه من الحركة. في حين تمكنت عقولٌ أخرى مماثلة، مرّت بذات التجربة، من الإنعتاق من ماضيها الثقيل والإنفكاك من إرثها وتراثها الدموي فانطلقت في مسيرات التنوير الفكري تكسب الوقت وتتماشى مع التأريخ لكي تتناغم فكرياً مع عمر العقل الإنساني، ولو نسبياً.
إن الظلمات الفكرية التي تتولد من زواج العقل مع الماضي السحيق وعشقه له واقترانه به وذوبانه الأبدي فيه كثيرة لا تعد ولا تحصى. وهي ظلمات ينتج بعضها بعضاً تفرّخ وتنتعش وتتكاثر وتزدهر وتترعرع وتتفرّع في متواليات هندسية، خصوصا في بيئات الجهل. تلك البيئات التي لاينكرُ منكرٌ أنها أطبقت على الواقع الإسلامي لمدة ألف عام على أحسن التقادير. ومن أبرز نتاجات هذه الظلمات هو التيه العام؛ تيه العقل وتيه الفكر وتيه الهوية وتيه الذات وتيه الموقع الحضاري وتيه النظرة الى المستقبل.
ومن هنا فإن حجم التنوير المطلوب لتبديد هذه الظلمات، أو لكشفها على الأقل، يكون بحجم الجبال ويحتاج إلى همم عالية ونفوس كبيرة وشجاعة فائقة وفروسية منقطعة النظير. ذلك إن سحر الظلمات الواهم وما ألقاه من رعب في قلوب المسلمين، أو ما صنعه من ألفة وحميمية نتيجة طول فترته معهم، عطّل عقولهم وجمد أفكارهم وأقفل أذهانهم بأقفال القداسة المتمددة على عرض الفكر الإسلامي. ومن ذا الذي يحطّم تلك الأقفال غير المقتدرين من ذوي الهمم العالية ومن فرسان الفكر والشجعان والمصلحين الذين لا يقدسون غير الحقيقة؟
وفي هذا الصدد يمثل كتاب إخفاقات الوعي الديني شمعةَ ضوءٍ وضياءٍ يحملها الأستاذ المُتنور والمُنوّر ماجد الغرباوي في محاولة جريئة لكشف الطريق نحو الخروج من التيه العام. وأولُ ما يُسجَّلُ فيه للغرباوي في هذا الكتاب هو قدرته الواضحة على التحلل والإنفكاك أو الإنعتاق من عُقد الخوف والحذر من مناقشة مواضيع حرجة وحساسة ربما تجنبها غيره لاعتبارات معروفة. هذا بالإضافة الى إيمانه، الذي يبدو متزايداً، بالنقد الذي يعتبره الغرباوي من أبرز مقومات التغيير والنمو والتطور الفكري‘ الذي من شأنه أن يحقق طفرات باتجاه المشروع الحضاري.
يتكون الكتاب من مجموعة من الأسئلة القوية والمهمة والجريئة وهي في مجموعها كانت ستة وعشرين سؤالاً. هذا بالإضافة الى كم وفير من التعليقات لمجموعة من الكُتّاب والباحثين والناقدين والأدباء والشعراء والقاصّين والمتابعين الذين أطْرَوا على الكتاب وأثنوا على مؤلفه، كما قدّموا نقوداتهم عليه أيضاً. ويشعر القارئ للكتاب بسلاسة كبيرة وهو ينتقل من سؤال إلى سؤال في حوارية فكرية موضوعية عميقة وهادئة تمكّنَ فيها المحاور السيد سلام البهية السماوي من أداء واجبه الحواري بشكل ملحوظ تمثل في إستخراج مكنونات الغرباوي ومتبنياته الفكرية بشكل واضح دون لبس وكامل من غير نقص. ولقد تنوعت المواضيع والأفكار في خضم الأسئلة التي طرحها السماوي على الغرباوي لتشمل التاريخ والسياسة الفكر والعقيدة والفقه المجتمع والمرأة بالإضافة الى مواضيع أخرى.
يجيب الغرباوي على سؤال فيما إذا كان الإسلام يشكل نداً للغرب في الوقت الراهن بقوله (النديّة تحتاج إلى تكافؤ بين الطرفين. أو يكون الفارق الحضاري من الضآلة ما يسمح بالتناد بينهما. فهل تعتقد أن واقع المسلمين الآن يصلح أن يكون ندا للحضارة الغربية؟ لا أحد يرى ذلك حتى المسلمين أنفسهم. فمنذ الصدمة الحضارية وما زلنا عيالا على الحضارة الغربية في كل شيء)1. وهو بهذا يشير بوضوح إلى غياب القابلية الإسلامية الآنية على الوقوف بِنِدّية حقيقية مع الطرف الحضاري الآخر (الغرب) بعد أن فقد العالم الإسلامي مقومات الندية والتكافئ. فما عدا وجود البنية القيمية الأخلاقية النظرية عند المسلمين، لا يملك المسلمون اليوم شيئاً من مقومات الحضارة التي تؤهلهم لخوض الصراع مع الغرب بتكافئ نسبي مقبول. وهو واقع يصعب دحضه إذا ما لاحظنا التبعية المخجلة، بل المهينة، التي تكبل العالم الإسلامي من أقصاه الى أقصاه وتجعله تابعاً للغرب ومعتمداً عليه في أبرز الإحتياجات وفي كل مناحي العلوم بما فيها العلوم الإنسانية. لذلك يقول ماجد الغرباوي: (لا أنكر أن بعض الدول الإسلامية حققت نهضتها بالاستفادة من المنجز الغربي، ثم بناء حاضرة تفاعلية، كما بالنسبة إلى ماليزيا، حيث تعد من الدول المتقدمة الآن. لكن هذا لا يكفي، ونحن بحاجة إلى مزيد من العمل بعد ممارسة النقد والمراجعة والاعتراف بالخطأ، بعيدا عن أي تحيز طائفي أو أثني)2. فهو يرى إن جزءاً كبيرا من عملية إصلاح هذا الخلل وفك التبعية والإعتماد على النفس يتمثل في الإعتراف بالحقيقية والإجابة على الأسئلة التي أطلقها المفكرون المسلمون، كجمال الدين الأفغاني والكواكبي وغيرهم، في البحث عن أسباب تخلف المسلمين وفشل النهضة عندهم. ولا يجب أن يخاف المسلمون، إن أرادوا الإصلاح، من نقد تراثهم و الإعتراف بأسباب الفشل مهما كانت لأنها السبيل الوحيد للتشخيص قبل تقديم العلاج. وعندها سيكونون قادرين على فهم ما أسماه الغرباوي ب "الفاجعة الحضارية" التي تتمثل في إمتلاك المسلمين لثروات هائلة وطائلة فوق الأرض وتحتها بينما تتصاعد في بلدانهم معدلات الفقر والتخلف والبطالة والجهل والأمية وتنخر في أجسادهم آفات الحروب والأزمات وتفتتهم الصراعات والإنقسامات .
ولم يزل الغرباوي معتزاً معتداً بتراثه الإسلامي بما يمثله من قيم حضارية إيجابية يمكنها أن تشكل علامة فارقة في الصراع الحضاري مع الند الغربي وبما تمثله من مناطق غنية لا تزال قابلة للكشف والإستثمار، خصوصا في حب العلم وطلبه والحث عليه وإعطائة منزلة الجهاد. ولا يهمل الغرباوي ولا ينسى ولا ينكر أيضا أن مشاعل النور الأولى ومنائر العلوم التي أهتدى بها الغرب لها صلات لا تنكر بجذور المسلمين الأوائل الذين ظلت كتبهم مراجعاً فكرية وعلمية في معاهد الغرب ومؤسساته العلمية والاكاديمية لقرون طويلة، (وتؤكد الوثائق أن الغرب بنى حضارته ونهضته على علوم المسلمين. وظل كتاب القانون لابن سينا مثلا يدرس في جامعاتهم لا سيما الفرنسية إلى وقت متأخر)3. ولكن التباهي اليوم والتفاخر بذلك الإرث لايجدي نفعاً والمسلمون فقراء في غناهم.
وفي ردٍ للغرباوي على السؤال العاشر صفحة 33 حول إمكانية حصول حوار حقيقي بين الإسلام والغرب، لا يستبعد الغرباوي إمكانية حصول هذا الحوار خصوصاً في ظل التطور الهائل للوسائل التقنية والثورة المعلوماتية العامة والشاملة التي تعززت وترسخت في أول عقدين من الألفية الثالثة. إلا أن الغرباوي يشترط وجود بعض الممهدات التي من شأنها أن تُفضي إلى إمكانية حصول الحوار. ومن بعض هذه الممهدات هو وجود جوٍ سياسي واجتماعي هادئ خالٍ من التقلبات والعنف والفوضى بالأضافة إلى وجود بيئة مستقرة نسبيا يمكن للحوار العقلي أن يكون فاعلاً ومسموعاً فيها. ومن أبرز ما يعكّر صفو هذا الحوار بحسب رأي الغرباوي هو انتشار موجات التطرف الفكري عند جماعات كثيرة من المسلمين ومن أبرزها حركات القاعدة وداعش ومن يسير على نهجهما. فلا يمكن للحوار العقلاني الهادئ أن ينطلق ضمن بيئات موبوئة يختفي فيها التسامح والمقبولية والتعايش و ينتشر فيها القتل والذبح والسبي التهجير والعنف والدماء.
كما ويعتقد الغرباوي بشكل قد يكون جازماً أن الغرب بشكل عام بات، وربما لا يزال، مهووساً بنظريات الصراع بين الحضارات ومنها ما أسس له الكاتبان صموئيل هنتغتون في كتابه الموسوم بـ (صراع الحضارات) وفرانسيس فوكوياما الذي كتب نظريته في ما أسماه بـ (نهاية التأريخ والرجل الأخير). فتراه يقول: (إن الغرب مسكون بنظرية هانتغنتون في صراع الحضارات، وأن نقاط اللقاء بين الطرفين ستكون نقاطا حمراء، وصراعا ثقافيا دمويا؟ أنا شخصيا ضد هذا التنبؤ إلا في حالة تمادي المتطرفين الإسلاميين. الشعوب الغربية باتت تعي حجم تداعيات الحروب والصدامات، وقرارات الدول الغربية رغم أنها قرارات مؤسساتية لكن تراعي مشاعر شعوبها وتوجهاتها. والشعوب ترفض الصدام)4.
إن هذه المتبنيات الفكرية التي وجدت صدىً عريضا في المؤسسات الفكرية والأكاديمية وحتى السياسية والإقتصادية تشكل ساتراً كثيفا عند فئات غربية كثيرة وتحول دون إيمان حقيقي بمبدأ أو بقيمة الحوار الإنساني (أو حوار الحضارات كما أسماه الرئيس الإيراني السيد محمد مهدي خاتمي). وهو ما ينذر باستمرار التناوش والصراع الذي قد يفضي في لحظة ما إلى صدامٍ عنيف وربما يقود الى حرب كونية.
ولا يقف الغرباوي معصوب العينين أمام تشخيص دقيق واضح وصريح للإزدواجية الفكرية والنفاق السياسي عند الغربيين في تبنيهم لخطين/ فكرين متناقضين في فهم وتطبيق القيم الديمقراطية والليبرالية. وتتمثل هذه الإزدواجية أو هذا النفاق في وجود خط/فكر محلي ختص ببلدانهم وفكر تسويقي خارج حدودهم. وهذه الإزدواجية في نظر الغرباوي تقف حاجزاً قويا متينا عند كثير من الجماعات والمجتمعات الإسلامية في مقبولية إستيراد وتبني الصالح من قيم الغرب الحضارية، في مختلف المجالات.
ولكن، وكعادته في توخي الموضوعية والواقعية، يميط الغرباوي اللّثام عن عقدة مشتركة تتميز بها الثقافتان الإسلامية والغربية، وإن كانتا متباينتين، تتمثل في تبني النظرة الدونية للآخر. إذ كانت إجابته تقييما حقيقيا للواقع بقوله:
(للأسف ما زالت الأرضية غير مؤهلة لاحتضان الآخر، لا لهم ولا لنا. فهم يعتبروننا "أقصد الشعوب وليس الحكومات" شعوبا متخلفة تقتات عليهم في كل ما يحتاجون، وهم أرقى جنسا. هذا الشعور موجود لدى شريحة واسعة منهم، خاصة العنصريين منهم. ونحن أيضا ما زلنا نعتبر الآخر كافرا، نفتي بنجاسته، وتجنب الاختلاط به. وما زلنا نتحدث بلغة أرض الكفر وأرض الإسلام)5. ففي حين تعتبرُ الثقافة الغربية العنصر الأبيض عنصراً سامياً متفوقاً وتعتبر الآخر جاهلاً متخلفاً أمياً لا يستحق الا أن يكون تابعاً ومحكوماً، ينعكس ذات الشيء في أفكار المسلمين "وليس بالضرورة الإسلام" وخصوصا الأفكار الدينية التي تنجس الآخر وتكفره وتحط من قيمته الإنسانية. وفي ذات الوقع هناك طيف واسع من العرب والمسلمين يرى في الغرب النموذج / العدو. فهو العدو الذي تسبب في انحطاطنا وإقصائنا، وفي ذات الوقت هو النموذج الحضاري الذي يسعى الجميع للاقتداء به، بل والعيش في ظل نظامه الديمقراطي، ورفاهية مجتمعاته.
وعلى الرغم من ذلك يعترف الغرباوي بمتانة النظام الديمقراطي في كثير من الدول الغربية التي سخرته، في العموم، لتحقيق مصلحة الشعب وتحقيق منجزات الرفاه الإجتماعي للإنسان عن طريق إحترامه واحترام حاجاته وحرياته. فقد ترغب الحكومات الغربية أو تتمنى أن تستخدم سلطتها ونفوذها وتفوقها العسكري والعلمي والتكنولوجي من أجل إستغلال موارد الشعوب الفقيرة، إلا أن ذلك ليس ممكناً على الدوام خصوصاً إذا ما قوبل بمعارضة شعبية قوية عريضة وواضحة.
ثم يتناول الغرباوي مواضيعاً مهمة وأكثر جرأة لها مساس بالواقع المعاش قد انعكست آثارها وتأثيراتها على العامة في كل مجتمع إسلامي منذ العصور الأولى للإسلام من قبيل الجهاد العنفي ونقد السلف واهمية القرآن والوحدة الإسلامية. إذ يرى الغرباوي أن لا حاجة ولا ضرورة أصلاً للجهاد بمعناه القديم (حمل السلاح والغزو) خصوصاً بعد أن أعلن الوحي فتح مكة ودخول الناس أفواجاً في دين الله. فهو يعتقد أن (الجهاد لم يعد فعليا بعد انتصار الإسلام ودخول الناس في دين الله أفواجا.. وما بعد الرسالة مختلف لا يصدق عليه جهاد في سبيل الله. إنه دفاع عن النفس وردع العدوان. لكن فقهاء السلطة عبأوا الناس للجهاد إرضاء لهوى الخليفة والسلطان)6. فما بقي حينذاك هو بناء مادي ومعنوي وحماية بلدان والدفاع عنها ولا حاجة ولا ضرورة لاستمرار الغزو أو ما يعرف بالفتوحات. عوضاً عن عدم وجود تفويض أو تشريع يبيح هذه الأعمال التي أكسبت الإسلام صفة العنف (السيف). ولكن هذه الأعمال استمرت بمباركة فقهاء السلاطين إرضاءاً لشهوة الخليفة والأمير في كسب الشهرة وبسط النفوذ والتمدد الجغرافي فضلا عن جني المزيد من المغانم الإقتصادية من خراج ومداخيل وغلال ونساء وأراضٍ الخ.
ولقد تكرست هذه الصفات والمظاهر (الجهادية) في الفكر الإسلامي عند المسلمين بعد أن أعطوها غطاء شرعياً من خلال تأويلٍ مطاطٍ للآيات القرآنية والأحاديث النبوية وزادوه بإضفاء العصمة على السلف من الصحابة وآخرين حتى أصبحت جزءاً لا يتفكك من فكر المسلمين وتراثهم. يبقى القرآن عند الغرباوي مركزاً مهماً وفريداً من مراكز إعادة إنتاج وعي جديد للأمة الإسلامية من خلال البناء على ما تقدم أعلاه ومن خلال إيجاد أدوات وأساليب عصرية علمية جديدة ومختلفة يمكنها استخراج ما استودع فيه من فكر ووعي وثقافة وعلم وهذه الأشياء طبعاً تشكل المقومات والمكونات الأساسية لكل حضارة. يظهر ذلك جلياً في إجابته حينما قال: (القرآن محور الفكر الإسلامي، ومرجعيته، فهو يدخل عنصرا أساسا في فكر المسلمين، من حيث وعيهم للحياة، ودورهم على الأرض. فقدم القرآن تصورات كافية، ورسم أهدافا مفتوحة، عززها بمحفزات مادية ومعنوية)7.
ومن أبرز الكنوز القرآنية ومستودعاتها القيمية والفكرية التي تحتاج التركيز عليها من أجل خلق الوعي الحضاري، كما يرى الغرباوي، هي قضية الوحدة الإسلامية، والتي تشكل حجر الزاوية في أي مشروح حضاري يهدف إلى البعث والنهضة. فبدون إعادة البحث والنظر في إيجاد فهم حقيقي وجديد لمفهوم الوحدة الإسلامية في القرآن لن يستطيع المسلمون من الإنطلاق في مشروع النهضة الحضاري. وكيف لهم ذلك وهم اليوم يمزق بعضهم بعضاً وينحرُ الأخ أخاه بدوافع مذهبية أو طائفية أو عرقية أو قومية أو مناطقية الخ؟ وكيف للوحدة أن تتحقق دون وجود فهم متبادل بين المكونات الإسلامية ودوت الإيمان بالمشتركات؟ يكثف الغرباوي من تركيزه على أهمية مفهوم الوحدة ويستشهد لذلك بالقرآن الكريم: (إذاً وفقا للمنطق القرآني التمسك بحبل الله يضمن وحدة المسلمين، بينما التنازع يمزقهم. وهذا منطق لا يستقيم إلا بشرطه، وشرطه هو التمسك وعدم التنازع. فالقرآن من حيث المبدأ قادر على تماسك الجماعة المسلمة، بمعنى أنه قادر على تأسيس وعي كامل لمسألة وحدة المسلمين، من خلال حثه على الأخوة، والإيثار، والتسامح، والعطاء، إلى آخره، وكلها عناصر تساهم في وحدتهم)8.
وبينما يسير الغرباوي بين ألغام الفكر الإسلامي ويحاول أن يفجرها عن بعد، أو عن قرب أحياناً، لا ينسى أن يحيل القارئ إلى المظاهر المدنية في الإسلام والتي يمكن اكتشافها وإعادة إنتاجها عن طريق تبني بعض القيم الحضارية التي يهتم بها المسلمون بكل أطيافهم، والتي لا تتعارض مع قرآنهم، وإن أخفوا ذلك الإهتمام. ومن بين تلك القيم قيمة الحرية التي يعتبرها الغرباوي من القيم الجوهرية للإنسان والتي يعدو الأنسان من دونها مسخاً دون روح. فقيمة الحرية تعتبر من القيم المهمة التي لا يستطيع الإنسان أن يكتشف مواهبه الذاتية التي يحتاجها في حياته العملية أو أن يطلقها من دون الحرية. وكذلك لا يمكنه أن يتعرف على ما أودع الله فيه من قابليات ومواهب وقدرات تتعلق بمسؤليته الكونية وهو يفتقر الى بيئة متحرررة من القيود بكل أنواعها. إن أهمية الحرية تكمن في كونها وسيلة يستطيع الإنسان من خلالها أن يتحمل مسؤوليته الكونية بإعتباره خليفة في الأرض يسعى إلى فك ألغاز الكون في الآفاق والأنفس، وهل تكون هناك مسؤولية دون حرية؟ وهل يكون هناك عقاب أو حساب أو ثواب دونما وجود الحرية؟
وبعد بلوغه الى هذه القمم، يصل الغرباوي إلى فصل الخطاب ويقترب من نهاية المطاف في رحلة "الإخفاقات" إذ يسعى جاهداً للمناداة بتحرير العقل الإسلامي من القيود التي تحاول شده الى قيمها البدوية والقبلية والعشائرية وإعادة إنشاء قيم بديلة تتمثل في الأيمان بالمجتمع المدني الذي يؤمن بسيادة القانون، والذي يمثل بدوره مدنية العقل ويضمن حريته وحرية أفكاره بغض النظر عن الإعتبارات العنصرية أو القبلية أو العرقية وغيرها. فهذه الحرية التي تكون في ظل هذا المجتمع تكون كفيلة بخلق جو عام تسود فيه القيم الإسلامية الكبرى التي تتمثل بالعدل والإنصاف والمساواة.
وكغيره من المفكرين المعاصرين، يدعو الغرباوي الى التوازن في فهم أسباب التخلف والتراجع (النكوص) الفكري ومن ثم الحضاري عند المسلمين وتشخيصها بشكل علمي تجريدي، كما ويدعوا الى التحلي بالعقلانية في ردود الأفعال لهذه الأسباب. فبين الإفراط في كره الذات وجلدها عند البعض ومن ثم الهرع الى الضفة الأخرى والإرتماء في أحضان الخصم وتبني قيمه عن طريق الإستنساخ الثقافي المطلق، وبين الإنكفاء على الذات وحجبها ومنعها وحرمانها من التواصل مع الآخر ورفضه كلياً، يقف الغرباوي موقفاً وسطياً يلتزم فيه بنداء العقل بالإضافة إلى ما يفرضه الواقع: (الاخلاق والممارسات العبادية لا تتنافى مع العلم والمعرفة، وانما تسددها وتؤطرها، كي لا توظف لتحقيق غايات دنيئة. وبهذا يكون الدين والأخلاق أمرين ضروريين للحد من تمادي استخدام التطور التكنلوجي، سيما على صعيد الاسلحة الفتاكة، ووسائل الاتصال الحديثة)9. إذ يرى الغرباوي إن الرصيد الأخلاقي القيمي الذي يمكن للعبادة الدينية أن تنتجه على المستوى العملي لاينبغي له أن يتنافر مع العلم وتطوره المتسارع وغزوه لمناحي الحياة وتشعبه في كل تفاصيلها. بل يشدد الغرباوي على أن للأخلاق ومنظومتها القيمية، المجمدة، في الفكر الإسلامي أهمية كبيرة في رفد الحضارة الإنسانية. فهذ المنظومة يمكنها أن تلعب دوراً مهما في ترشيد الطيش التكنلوجي والحد من تماديه الغريزي الذي يؤثر سلباً على المشروع الحضاري الكوني الكبير للإنسان ويجره بعيداً الى مناطق الذاتية والشخصانية والأنوية.
ويختتم الغرباوي الحوار مع السماوي بصوغه لمصطلح "اليقين السلبي" الذي يراد منه ما ينعكس من إعتقادات إسلامية مشوهة متراكمة نتيجة الفهم الخاطئ، أو الغير صائب للتعاليم الدينية. واليقين السلبي عند الغرباوي (ما يعيق الفعل الحضاري من جزميات وقناعات راسخة". ويقع على الضد من اليقين الايجابي. فايمان الفرد بوجود خالق ويوم حساب بعد الموت يعد يقينا ايجابيا لانه يعزز التقوى ويعضّد وازع الخوف، ويحول دون ارتكاب المحرمات والموبقات)10. هذه الإعتقادات، كالإعتماد المطلق على الغيب في مثلاً في صنع المستقبل دون السعي إلى كشف الأسباب، تقود الإنسان الى التعاسة بدلاً من أن توفر له الراحة والاطمئنان النفسي والسعادة. في حين إن اليقين الحقيقي الخالص هو الذي يقود الى السعادة وذلك بما يقدمه من فهم واقعي وعلمي للأشياء وبما يوفره من دافع روحي لتجنب الأخطاء والمضرات والآثام.
ألف شكر للأستاذ والمفكر ماجد الغرباوي والشكر موصول للسيد سلام البهية السماوي على هذه الحوارية التنويرية الممتعة.
إخفاقات الوعي الديني.. حوار في تداعيات النكوص الحضاري
حوار سلام البهية السماوي مع ماجد الغرباوي
عدد الصفحات: 120
الحجم: متوسط
الطبعة: 2016 م
اصدار: مؤسسة المثقف ودار العارف
***
قراءة: أحمد راضي الشمري
........................
هوامش
1- كتاب إخفاقات الوعي الديني، ص: 18
2- المصدر نفسه، ص: 23
3- المصدر نفسه، ص: 26
4 - المصدر نفسه، ص: 33
5 - المصدر نفسه، ص: 34
6- المصدر نفسه، ص: 36
7- المصدر نفسه، ص: 39
8 - المصدر نفسه، ص: 41
9 - المصدر نفسه، ص: 54
10 - المصدر نفسه، ص: 58