بأقلامهم (حول منجزه)
النص وسؤال الحقيقة.. قراءة تحليلة في مؤلف ماجد الغرباوي: النص وسؤال الحقيقة
النص من نتاج مُبدعه، إن كان مُبدعه بشر مثلنا أو ما أوحى به المُبدع الأول لرُسله وأنبيائه، وسؤال الحقيقة هو سؤال الفلسفة في سعيها للبحث عن الحقيقة الضامرة خلف الوجود، أو في ميتا النص القُدسي، بل وحتى ميتا النص الابداعي للبشر.
في كتاب ماجد الغرباوي "النص وسؤال الحقيقة" جرأة قلَ نظيرها في البحث عن (المسكوت عنه) في تراثنا الإسلامي وتماهينا مع تفسيراته (الدوغمائية) وكأنها سُبل النجاة وسفينتها.
لا أدري لماذا يُحيلني الغرباوي في كتاباته ومنها كتابه هذا إلى تذكر كتابات (نصر حامد أبو زيد) لا سيما في كتابه (النص، السلطة، الحقيقة)، لربما لأنهما يشتركان في ذات الهم، ففي كتاب (أبو زيد) إشتغال على نقد القراءة الأيديولوجية (العقائدية) للتراث، وذات الهم في كتابات الغرباوي، وفي كتاب (أبو زيد) نزوع نحو تبني النزعة التاريخية، وكما عرفها أبو زيد أنها "تعني الحدوث في الزمن، حتى لو كان هذا الزمن هو لحظة إفتتاح الزمن وابتدائه، إنها لحظة الفصل والتمييز بين الوجود المُطلق المُتعالي ـ الوجود الإلهي ـ والوجود المشروط الزماني، وإذا كان الفعل الإلهي الأول ـ فعل إيجاد العالم ـ هو افتتاح الزمان فإن كل الأفعال التي تلت هذا الفعل الافتتاحي تظل أفعالاً تاريخية، بحكم أنها تحققت في الزمن والتاريخ، وكل ما هو ناتج عن هذه الأفعال الإلهية "مُحدث" بمعنى أنه حدث في لحظة من لحظات التاريخ"1 .
اشتغل الغرباوي على النص ومُشكلات السياق، وكذا الحال مع (أبو زيد)، فقد حاول الغرباوي الكشف عن الدال في النص الذي ظل يُستخدم في حقله الدلالي واللغوي الأصلي و"التاريخاني" بعبارة عبدالله العروي من دون المساس به، وكأنه نص لا يقبل التأويل، أو من غير المسموح لنا تأويله!.
شارك الغرباوي علي حرب في تمييزه بين النص والخطاب، فالنص بحسب علي حرب "لا يحمل دلالته في ذاته دلالة جاهزة ونهائية، بل هو فضاء دلالي، وإمكان تأويلي، ولذا، فهو لا ينفصل عن قارئه" (ص9، نقد الحقيقة).
"النص ـ بعبارة علي حرب ـ ينص على المعنى الجوهري الأصلي" (ص24، نقد الحقيقة)، و"الخطاب حجاب" (علي حرب: نقد النص، ص8) لأن "الخطاب يُمارس بطبيعته حجباً للواقع" (نقد النص، ص13)
كتب الغرباوي في نقد مرجعيات الفكر الديني في مُحاولة منه للعب على (المسكوت عنه) وكأنه لاعب سيرك يمشي على حبل شبيه بالأعراف، ألا وهو الخيط الرفيع الذي يمشي عليه بعض السالكين بين الجنة والنار، فم يُتقن منهم اللعب سيعبر ليكون من أهل الجنة.
مثل ماجد سينجو ونحن القراء الفقراء (المُشاهدين) نلحظ مهارته وقلوبنا تدق وكل منا يُخاطب نفسه بالقول: إنه سيقع، وحينما ينتهي العرض نجد أن الغرباوي سار على الحبل ولم يقع.
ربما يُنتقد وتلك من ميزات الكتابة المُميزة إن كان صاحبها مُتمكن من أدواته، ولا أظن أن هُناك من يختلف معي من الذين قرأوا كتابات الغرباوي فيقول غير ما أقول في أن الغرباوي ماهر في نقده وغوصه في مرجعيات الفكر الديني التي هي في الأصل مرجعياته.
يبحث الغرباوي في مقاصد الدين وغاياته، وينتقد توظيفه الرجعي (الآثم) وما يعيشه دعاة هذا التوظيف من العيش فيما أسماه الغرباوي "أوهام الحقيقة".
رغم أن الغرباوي يعترف بـ "أن لكل نص سلطته" إلَا أننا نجده مُتمرداً لا يرتكن لسلطة نصية بقدر ما يرتكن لسلطة العقل.
عودته للنص بوصفه نتاج معرفي يستمد منه رؤيته لفهم جديد يُقوض الفهم القديم أو السائد، لذا نجده لا يهمل النص حينما يؤسس الآخرون لهم سلطة يدعون أنها من أصل من أصول وجود النص.
لم يكن الغرباوي سوى قارئ للنص أو مُتلق يعي ما يقرأ، فضلاً عن وعيه بحيثيات نشوء النص وشروحه وهوامشه، لذا نجده يكتب في نقد النص بوصفه مُتلق واع يعرف أن قيمة النص تزداد أو تنقص بمقدار ثقافة ووعي قارئه.
إن كل فهم إرتكاسي أو نكوصي للنص إنما هو نابع من ثقافة القارئ (المُتلقي) وبيئته، وكذا الحال مع القارئ المُتلقي (التقدمي) وهنا نقصد بهذا المفهوم هو مقدار ما يمتلك القارئ من شغف في القراءة وقبول التنوع والإختلاف الفكري والعقائدي بوصفه إضافة معرفية لما تختزنه الأنا.
يُميز الغرباوي بين النص والخطاب، فالنص عنده "مُغلق على منطوقه مهما بلغ من ثراء في مداليله".
"وأما الخطاب، فمُتحرر نسبياً بما تقتضيه تقنيته، لكنه مُغلق حول رسالته، لا يُمكنه التلاعب بها، بل تقتصر مهمته على إقناع المُتلقي وترسيخ إيمانه".
وهنا نجد أن الغرباوي يرى أن مهمة الخطاب هي مهمة رسالية أو عقائدية، بل وحتى أيديولوجية، وينبغي لمن يؤمن رسالية الفكرة تصديرها والدفاع عنها لا نقدها وتحليلها.
أما النص فهو كما صرح بذلك من قبل أستاذنا حُسام الدين الآلوسي أنه نص (استاتيكي) وكل ما فيه من حيوية و "ديناميكية" إنما تأتيه من القارئ أو المُتلقي، فإن كان ذلك القارئ ذا ميول "دوغمائي" ستجد أن النص مُقفل لا مساحة فيه ولا قبول لكل مُختف أو مُغاير، ولكن إن كان القارئ (المُتلقي) يعيش في مُجتمع مدني ويمتلك ثقافة فيها قبول للآخر فستجد يفك إنغلاقية النص ليجعله ناطقاً بالمحبة والمودة والدعوة للتسامح والتعارف.
لا يدعو الغرباوي لنقد النص لأنه يرى أن النص القدسي عصي على النقد، ولكنه يدعو للكشف عن ثراء المعنى الظاهر للنص أو الكامن فيه.
حاول الغرباوي في كتابه هذا الدفاع عن حرية المُعتقد، ونقد الفهم الفقهي القاصر للنص.
يرى الغرباوي أن سبب ما نعيش فيه من بؤس وتخلف ثقافي وفكري إنما هو نابع من "إمعان المذاهب الإسلامية في تشويه معالم الدين".
إن الدين برأيه له حقيقة واحدة، ولكن سُبل الوصول لها تتعدد بعدد أنفاس الخلائق كما يقول ابن عربي.
لا يختلف الخطاب الديني عن الخطاب الطائفي أو المذهبي، لأن في طبيعة التكوين فيهما نفي واقصاء للآخر، والخطاب الديني ليس الدين، بل هو فهم الدين كما يرى (عبدالكريم سروش).
في باب الكتاب الثاني (النص والحقيقة) أحالني الغرباوي لكتابات علي حرب "نقد النص" و"نقد الحقيقة" ولا أدعي تطابقهما بقدر ما أرى تناغمها وإنسجامهما في تبني لازمة أثيرة في سمفونية النقد للنص والإنشغال في "سؤال الحقيقة".
فالغرباي يرى في الخطاب نزوع نحو تبني موقف عقائدي أو أيديولوجي ما والدفاع عنه والترويج له، فالخطاب فيه استحضار وتغييب، والنص أداة بيد من يرم استحضار أو تغييب.
يبحث الغرباوي في نص القرآن عن آيات بينات تدعونا للتعقل وتبني الإيمان وفق منطق عقلي برهاني، والجميل البهي في كتابه هذا أنه لم ينشغل بأقوال الصوفية والعُرفاء وصيغ كتاباتهم الإنشائية بقدر ما كان مُنشغلاً باثبات عقلانية النص الديني، أو ما قال عنه بأن "القرآن يطمح لإيمان برهاني"، ولا تقدير عندي لمقصده لأنني أعرف أن خطاب القرآن فيه مقبولية لمن آمن على الفطرة أو آمن وفق مُقتضيات الخطاب الجدلي، وهناك بعض من البشر خصهم القرآن بقولة "الراسخون في العلم" وربما يكون هؤلاء هم الفقهاء، أو ربما يكون الصوفية وبلحاظ الآية "وإدعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" ومن يدعو لسبيل ربه بالحكمة هم الفلاسفة، وربما يكونوا هم من قصدهم النص.
"الناقد هو الوحيد القادر على تحدي النص في مراوغته"، والمراوغة يعني بها الغرباوي "مراواغات الخطاب الديني" و "تزوير الوعي".
الإيمان خطاب عاطفي بحسب ما يرى الغرباوي، ومهمة "القراءة التأويلية" هي الحفر في "اللامُفكر فيه" ونقد ما أسماه الغرباوي "قبليات الوعي التراثي" وتجاوز تداعيات "المُهيمن الرمزي" الذي ظل عقلنا يستكين لمعطياته، وأظن أن في رؤيته هذه توظيف لمفهوم (بورديو) (الرأس مال الرمزي)، أو الإفادة من توظيف أركون لمقولات (بورديو).
"إن أزمتنا الحضارية أزمة عقل أولاً، فنحتاج لتفكيكه واعادة تشكيله وفق مبادئ ومناهج مُنتجة للمعرفة والقيم الحضارية".
كان جرأة الغرباوي في تفكيكه وتحليله وهو الخبير بمُضمرات النص وتفسيراته الفقهية تتجاوز في جراءتها بعض من أطروحات المُناهضين لسلطة النص والقبول بنزعته التسليمية.
في كتاب الغرباوي هذا كشف وتعرية للخطاب بوصفه "وعي زائف" بعبارة الماركسيين، ليحفر في (المسكوت عنه) في النص بوصفه (بنية معرفية) همهما نقد الوعي السائد للانتصار للوعي العقلاني المُضمر الذي لا تروم تفاسير المُفسرين الكشف عنه، ولا فقهاء الأزمان المُتعاقبة يرغبون بذلك.
من ميزات نتاج الغرباوي (العقلنة)، ونقصد بالعقلنة هنا هي محاولة الغرباوي مُقاربة النص مع الواقع، أو (التفسير الواقعي للنص) للخلاص من يقينيات التفسير الفقهي للنص.
سؤال الحقيقة هو سؤال الفلسفة التاريخي، ولكن هل تمت الإجابة عنه؟، بالتأكيد ستكون إجابتنا (كلا)، لأن في حال وجود إجابة يقتنع بها البعض سيتحول سؤال الحقيقة من كونه سؤال معرفي ليصير جواب لتفسير نزوع أيديولوجي، وذلك ما يبغيه الغرباوي.
كان جُل هم الغرباوي في كتابه هذا هو مُلاحقة سؤال الحقيقة وتشريح استفهاماته، كي لا تضيع في راكد القول، بقدر ما يُصيره أسئلة أخرى تستفز العقل النقدي وتفضح مراواغات النص.
رغم أن الغرباوي يرتكن بكتابه هذا لدحض الحجة بالحجة العقليق، وهو كتب في في تعلم طُرق (الحجاج)، إلَا أنه يرغب بأن يكون قوله شبيه برمية هدَاف في مرمى الخصم.
الخصم عنده ليس هو الحكم، لأنه يُفكك مقولات الفكر الديني بوصفه حكماً لاخصماً، فهو من نمت معرفته داخل فضاء هذا الفكر، ولا زال يعشقه ويرغب بالانتماء له، وإن صنفه من لا يفقه بأنه خارج عن النسق الموروث في تبني المُعتقد والدفاع عن مذهب.
ميزة الغرباوي أنه لا يخشى نقد ما سُميَ بـ "الخطوط الحمراء"، فهو يشتغل في الكشف والتعرية لخطاباتها لا لأنه يروم الكشف عن زيفها الضامر في أقوال وكتابات أصحابها، بل لأنه مُحب للحكمة، لذلك نجده يهيم في نقد الوعي (اللاتاريخي) السائد في فهم المُقدس سعياً منه لتصحيح مسار (المعرفة الدينية) وتجاوز أسطرته في المخيال (الشعبوي) والتغني بـ (اللامعقول الديني) لجعله مُنساباً ومُتسقاً مع الفهم (التاريخي) للنص في زمانيته ومكانيته.
لم يكن كما ظن بعض مُنتقدي الغرباوي أنه يبغي التقليل من قيمة المُقدس والديني في الإسلام (السُني أو الشيعي) اللذن نالا حظهما من نقد (الغلو) في دفاعهما الأعمى عن مُتبنيات يرتكنون إليه من دون دليل عقلي.
في كتابات الغرباوي جرأة المُفكر والكاتب الحُر الناقد للتمذهب بكل توجهاته المؤسطرة والمؤطرة، إسلامية كانت أم دينية مُغايرة، لأنه يرى أن جُلَ من يدَعون التدين لا يهمهم دين الله بقدر ما تهمهم مذاهبهم.
ما يخلص له الغرباوي في كتابه (النص وسؤال الحقيقة) هو أن كُل مُتبنيات التفسير الفقهي للدين إنما هي من مُتبنيات الفُقهاء، فلم يكن مُحمداً سوى بشر (وما أنا إلَا بشر مثلكم)، فكفى بنا فقداً لأنسنتنا ورمي أنفسنا ببراثن الجهل والأسطرة، ولنكف ولو قليلاً عن خُرافاتنا وإمعاننا في تجهيل من لا يعرف مضامين (النَص).
لينتهي بنا أن سؤال الحقيقة محاولة للتنشيط الفكر لا الاتيان بأجوبة جاهزة (مُعلبة)، وسيبق سؤال الحقيقة من مرامي من ينحو نحو الفلسفة، ولكن هذا لا يعني أن من ينحو نحو الإيمان أن يتخلى عن مساعي (النَص) في التماهي مع العقل وموافقته، وإن كان الإيمان أمراً شخصياً، فلا يعني ذلك تخلي العقل النقدي عن سعيه في كشف وتعرية المقول التسليمي المؤسطر (الخارج نصي) كما يفهمه دُعاة العقيدة من الذين لايقبلون سوى بتقبل النقل كما يراه من وثقوا به من أصحاب الدراية والرواية.
إنه استقالة العقل التي لا تنسجم وسؤال الحقيقة الذي يرنو للكشف عن زيف الخطاب ومراوغته في تجميل القول لخداع الآخرين من الذين لا يفقهون البنية اللغوية والحجاجية، بل وحتى البرهانية للنَص.
- الكتاب: النص وسؤال الحقيقة .. نقد مرجعيات التفكير الديني
- تأليف: ماجد الغرباوي
- 304 صفحات، حجم كبير
- الطبعة الأولى: 2018م
- إصدار مؤسسة المثقف – استراليا، ودار أمل الجديدة – سوريا
ا. د. علي المرهج – استاذ الفلسفة في الجامعة المستنصرية
.......................
1ـ نصر حامد أبو زيد: النص، السلطة، الحقيقة، المركز الثقافي العربي، بيروت ـ لبنان، ط1، 1995، ص71.