بأقلامهم (حول منجزه)

الإنسان بطبيعتهِ يخشى الموت، لأنه نهاية لما يسمى بالحياة، والتــي بالنسبة له ديمومة البقاء على هذه الأرض.

فبمجرد التفكير بالمــوت يجعل الإنسان فريسة للقلق ويعكّر صفو حياته. وأحيانا يولّد عنـــــده فكرة اللامعنى واللاجدوى في نظرته الى الحياة والوجود. وهـذا ما رآه أونامونو حين قال: " وأنا حين أجد نفسي مستغرقا فـي دوّامــة الحياة ــ مع ما يقترن بها من هموم ومشاغل ــ أو حينما أجـد نفسي منهمكا في حديث مشوّق أو في حفلة مسليـــّة، فإننــــي لا ألبــث أن أن أكتشف ــ على حين فجأة ــ أنّ الموت يحوم حولي، ويحلّق فوق رأسي! أستغفر الله، لا الموت نفسه، بل شئ اسوأ مــن الموت: ألا وهو الإحساس بالفناء، وهو ذلك القلق الأسمى الذي مابعده قلق" (1).

أمّا الفيلسوف الفرنسي الفرنسي باسكال   pascal  فهــو يتجاهــــل التفكير في الموت او يتناساه، كما يفعل غالبية الناس فيقول: " إنّه لما كان الناس لم يهتدوا إلى علاج للموت والشقاء والجهل، فقـــــد وجدوا انّ خير الطرق للتنعّم بالسعادة هي ألاّ يفكروا في هذه الأمـور على الإطلاق (2).

وقريب من هذا المعنى ما قاله لاروشفوكوla  Rochefoucauld  :" إنّ ثمّة شيئين لا يمكن أن يحدّق فيهما المرء: الشمس والموت " !في أ دبنا العربي يفسّرلنا الشاعر المتنبي ظاهرة الخوف من المـوت في البيتين التاليين:

إلفُ هــذا الهواءِ أوقع في الأنـ       فسِ أنَ الحمــام َ مرُّ المــذاقِ

والأسى قبلَ فرقة الروحِ عجزٌ       والأسى لا يكونُ بعـدَ الفراقِ 

فحسب رأي المتنبي يعود خوفنا من الموت الى اعتيادنا على الحياة، أمّا الموت نفسه فهو ظاهـــــرة، شأنه شأن الحياة، سواء بسواء، لا تستدعي الخوف. 

الشاعر الانكليزي المعروف جون ملتن يصف لنا في ملحمتـــــــهالشعرية (الفردوس المفقود) مشاعر الإنسان وانطباعاته تجــــاه ظاهرة الموت، عندما يتعرف عليها لأول مرّة، وذلك على لسان قابيل، الذي قتل أخاه هابيل في بيتي الشعر التاليين : 

سكنتَ وأبطلَ فيك الحراك         وهل ماتَ حيٌ اذا ما سَكَـــــــنْ

ألا لمْ تمُــتْ رغم اني رأيتُ        بوجهك معنى يثيــــرُ الشجَـــنْ 

نستنتج من البيتين السابقين أنه لا وجود للموت إلاّ في تصوراتنا، فبطلان حركة الجسم، لا تعني الموت إطلاقا،  وقد أدرك قابيــــل ذلك بفطرته. وقد أكّد هذه الحقيقة الأستاذ الغرباوي فــي معرض ردّه على تعليقي على نصّه، الذي نحن بصدده الآن حيث أفــــاد:

" كما تفضلت لا وجود للموت إلاّ في تصوّرنا، فهو كما يــــــرى بعض فلاسفة المسلمين انتقال من حالة الى حالة، وهذا الكلام وفقا للنظرية الاسلامية تام وصحيح. أمّا في الفلسفات غير الإسلاميـة، فالموت هو العدم المطلق. وهنا يظهر الفارق،ومدى تأثيره علـى سلوك الإنســان في الدنيا . فمن يعتقد (ويؤمن حقيقة) بوجود يوم آخر، يتوفر على وازع داخلي، يردعه عن ارتكــاب المعاصي، ويدفعه الى عمل الخير والإحسان.. ومهما كان رأينا حــــول هذه الظاهرة، لكنها تبقى هاجسا، تهز مشاعر الإنسان متى تذكرها "اذا ً يرى الغرباوي انّ الموت ما هو إلاّ عملية انتقال من حالـــــة الى أخرى . لكن ما طبيعة  هذا الانتقال والتحول؟ تضاربـــت الآراء وتنوعت الفلسفات بخصوص هذا الموضوع. ففلسفة الكارما الهندية تعتقد بتناسخ الأرواح، التي تعود الى الحياة من جديد وتحل في كائنات تحمل صفات مقاربة لصفاتها. امّا مسألة الثواب والعقاب بعد الموت فهي تؤكد على أنّ الإنسان يصنع مستقبله على ضــــوء طبيعة عمله . فالحياة مستمرة وهي لن تنتهي اذاما غادر الجسد هذا العالم إلى عالم آخر، وما الموت إلا جسر نعبر عليه الى الشاطئ الآخر. وقد  لمّح جبران خليل جبران بشكل رمزي الى معنــــــى الثواب والعقاب، المرتبطين بسلوكنا وأعمالنا فقال في بيت رائع: 

والموتُ كالبحرِ من خفّت عناصره

يجتازهُ وأخو الأثقالِ ينحدرُ 

الأديب الأستاذ الغرباوي حين يدلي برأيه في مسألتي الحيـــــــــــاة والموت من خلال حوار أو مناظرة فهو مباشر وواضح، لكنّه حين يعالج هاتين المسالتين أدبيا وفنيا، فهو يقودنا عبر غابات كثيفــــــة ويحثنّا أن نتسلّق قمما سامقة ثم يدعونا أن نهبط معه الى وديــــــان عميقة. إنّها رحلة الإثارة والإستغراب ! .. فهو يثير في نصّـــــــــه القصصي (وانشقّ القمر) مسألة الموت باسلوب، يّتّسم بالغرائبية وينحو منحى رمزيّا، لا يخلو أحيانا من بوح مكشوف عن المشـــاعر والأحاسيس، التي تنطلق من أعماق الإنسان، وهو يقف وجها لوجه أمام الموت.

في القصة يهاجم الموت الشخصيّة الرئيسية ويتسبب في مــــــوت النصف الأيسر منها، فيستمـــــرّ النصف الآخـــر يتفحــــص بيـن المحروقات أملا أن يعثر على النصف المفقود. وفي غمرة الذهـول والذعر، تتناهى الى سمعه كلمات مصدرها النصف الآخر. وهنــا ينقلنا الكاتب بخياله الى النقطة، التي يتداخل فيها الموت مع الحياة .فالمعروف انّ القلب يقع في الجانب الأيسر من جسم الإنسان، وهـو مصدر الحكمة والمعرفة، والكلمات، التي انبعثت من بين ركـــــام المحروقات، هي دليل على استمرار الحياة بعد الموت. إلاّ انّ الكاتب يتركنا فـــــــي دهشتنا و دون أن يعطينا جوابا مباشرا يقطــع الشكّ باليقين وهـــذا جزء مـــن الآليّة الفنيّة، التي اعتمدها في هندســــة نصوصه القصصية، والتي لمسناها في قصص سابقة.

الغرباوي كما ذكرت في مقالاتي النقديّة السابقة حول بعض قصصه، يمثّل منهجا جديدا في فنّ القصة الحديث، يتضمن عناصر مبتكرة من بنات أفكاره، وهي تحمل بصمات شخصيته الأدبيّة المتميّـــــزة في هذا المجال.

 *** 

جميل الساعدي - شاعر وناقد

......................

وانشق القمر ..!! / ماجد الغرباوي

  ...............................

(1)     Alain Guy “ Unammume „ ;Paris Seghers،

P.U.F.1964،pp. 30- 31

 (2)  د. زكريا ابراهيم:"تأملات وجودية" دار الآداب، بيروت،1962

الطبعة الأولى . العبارات المحصورة بين أقواس من ترجمة د.زكريا

  

الكاتب ماجد الغرباوي من القلائل الذين قدموا خطاباً حكائياً متميزاً، يقصي تكرار النمطية التقليدية.

فقد رسم للسرد فضاء واسعاً غنياً بعطاء الحداثة و التجريب، ينفتح على مساحات ومطبات تخيلية أصيلة غير مألوفة. بالإضافة إلى إعتماده خطابا يعكس  أفعالا غرائبية متميزة، يمنح النص أبعاداً دلالية ورمزية وتأولية لا حصر لها.

وصف المكان في قصة "حافات قلقة" يحتل موقعاً هاماً في بناء السرد و توجيهه  وجهتها الخاصة، مساهماً وبشكل فعال في الربط بين المكان كواقع وكحالة عجائبية مانحاً النص أبعاداً واقعية سحرية فريدة وخاصة.

يتحول المكان في النص من حالة الثبات والسكون والحيادية، إلى حالة المشاركة الفاعلة والمؤثرة في تشكيل الصورة والقيمة اللتين يريد الكاتب بواسطتهما الوصول إلى تجسيم وإبراز فكرة القصة الاساسية، ويصبح ملتحماً بالسرد وبالفكرة الأساس التي ينهض عليها هذا العمل القصصي الفريد، إذ يصبح "المكان" هنا عنصراً فاعلاً وشخصية خفية لها التأثير القوي على مسار تشكيل القصة. هذه الفقرة تقوم برسم حدود المكان (الساحة):

"وقفت في ساحة العرض"

المكان الذي سيحوي كل الجهات والاقطاب مجتمعة ومسرح الصراع والمجابهات المختلفة النابعة من تطلعات وإرادات خاصة تحملها هذه الاقطاب.

"نظرت الى جميع الاتجاهات "

وبتقديم لوحة (مشهد) طوبوغرافية لأبعاد المكان وحيثياتها وتشكيلاتها الملحقة به:

" من أي جهة سيدخل ...  كي يعلن عن شيئ مهم؟

هناك جهتان متقابلتان محفوفتان بآلياتها الخاصة والدور المنوط بكل منهما؛ "الكوة"  والمكان المقابل أو المكان الضد"الساحة".

"اختارت نقطة الوسط تماما"

اختارت قلب المكان لأنها حاسمة في التلقي الدقيق للقرار المصيري الصادر من "المكان" المقابل "الكوة" وحاسمة كنقطة انطلاق لرد فعلها تبعا للقرار.

تشير تفصيلات المكان الى الخوف والتوجس وتوقع الخطر بل توقع ما يشبه الكارثة:

"لاحت لها كوة صغيرة، قالت: اذن هنا سيعلن عميد القرية عن اسماء المتفوقين .."

. فالوصف هنا يوحي بخلجلات الترقب واللهفة والقلق التي تشعر بها البطلة. ف"الكوة" أصبحت تمثل هنا وفي لحظة معينة من حياة البطلة مكانا وجودياً مصيرياً تاريخياً مكثفاً.

لذا:

"خطت خطوة الى الامام"

باتجاه الكوة لا شعوريا مستعجلة انهاء حالة الترقب.

ثمَّ:

"تراجعت"

مبتعدة عن "الكوة" نظراً لإضطرابها وقلقها وخوفها متفاعلة  بشدة مع المكان"البؤرة" أو مقرر المصير.

لم يقتصر الترقب على البطلة فقط , فقد شاركها الآخرون وجل تركيزهم على "الكوة" "المكان" المركزي الذي يحدد المصائر كلها والذي اصبح يقترب من الاسطورية:

".. الكل ينتظر، يترقب"

"اذن هنا سيعلن عميد القرية عن اسماء المتفوقين"

لقد شدد الكاتب على وصف المكان الذي منه يصدر القرار النهائي ليخلق أعلى درجة توتر وترقب ممكنين.

عندما ظهر عميد القرية في"المكان الكوة" ليعلن أسماء الفائزين بدا "المكان" هذا كأنه نقطة الإنعطاف التاريخية الكبرى:

"اتخذ مكانا مرتفعا .."

"المكان" المرتفع دليل على السلطة والهيمنة ومركز القرار و"المكان" المنخض"الساحة"

هو الضعيف المتلقي.

لقد اهتم الكاتب  بالتصوير الدقيق لحيثيات المكان لاهمتيها كدلالات لتفسير الحدث او ابرازه وتعميقه واثراء السرد ذاته.لقد شكل الارتباط الوثيق بين وصف المكان والحدث السر الخفي لقوة هذه القصة قرائياً من جهة وارتباطه الوثيق بمشاعر البطلة من جهة أخرى. فالوصف هنا يوحي بخلجلات الترقب واللهفة والقلق التي تشعر بها البطلة. لقد نجح الكاتب "ماجد الغرباوي" هنا وبامتياز في إشعار القارئ بحضور المكان كعنصر اساسي مهيمن ومحرك في القصة بحميمية وغرائبية.

وقفت في ساحة العرض، اختارت نقطة الوسط تماما، نظرت الى جميع الاتجاهات، لاحت لها كوة صغيرة، قالت: اذن هنا سيعلن عميد القرية عن اسماء المتفوقين .. انتشت قليلا، خطت خطوة الى الامام، تصورت فرحتها وهي تستلم الجائزة، ثم تراجعت، جفلت واغمضت عينيها .. قالت: وماذا لو تقدّم عليّ فلان وفلان؟.. ماذا لو كنت الثالثة او الرابعة في قائمة الفائزين؟ ماذا سيقول عني ابناء القرية؟ .. آه .. يا الهي، لماذا تراودني الأوهام؟ لا .. لا .. عليّ ان أتريث، أعمالي أشاد بها الجميع وانا واثقة من نفسي، فلماذا ينتابني القلق؟

هكذا رددت الكلمات بارتباك .. وحيرة

ثم اردفت:

لكنه صارم، لا يجامل .. أعرفه جيدا، هذا ما اخشاه، حقا سيسحق غروري اذا تجاهلني.

***

حينما اقتربت الساعة الرابعة عصرا، تجمع ابناء القرية .. الكل ينتظر، يترقب، سمعتهم يتهامسون .. فلان هو الفائز الاول، وآخر يقول فلان، وثالث يقول: كل توقعاتكم خاطئة. ولاحت من بعضهم  نظرات مريبة، فكاد ان يغشى عليها، لكنها تماسكت حينما طل من كوته، وبيده اوراقه العتيدة، ومعه بعض رجاله وحاشيته.

نظر الى الجميع، شاهد الرجال والنساء، كل يترقّب. اتخذ مكانا مرتفعا .. ثم بدأ نائبه يتلو الاسماء الفائزة واحدا بعد الآخر، وهي تصغي بلهفة، حتى اذا همّ باعلان الاسم التالي قالت: انا، انا (س ع ا د.(..

لكنه وهم .. وهم .. لست من الفائزين. فماذا انتظر ..  هذه هي الحقيقة ..

***

عادت الى بيتها منكسرة، مذهولة .. تحاصرها نظرات الشامتين، وتطاردها كلمات المستهزئين، فودّت لو انها توارت، او ابتلعتها الارض. كان موقفا صعبا .. محرجا، لم يكن متوقعا مطلقا.

آفاقت من هول الصدمة، وقالت بغضب:

سانتقم ..

سانتقم ..

سيعرف من انا. ساحطّم كبرياءه. ساجعله يندم 

ثم راحت تقلب فنون المكر، وتفكر بحيل النساء، فصاحت بصوت مرتفع: وجدتها .. عليّ ان اكون اكثر حنكة، الامر ليس هينا، عميد القرية يتحصّن خلف رجال أشداء، أقوياء، فكيف أجد من ينافسهم ويتحداهم في مهنتهم. هذه هي الخطوة الاولى في معركتي معه. أن أعثر على رجل يجعل عميد القرية يغيّر قناعته .. لكن هل بمقدورنا ان نصنع انسانا كما نريد؟؟ ..

لنجرب ..

استبد بها صمت عميق، استغرقت في تفكيرها وهواجسها، ثم قامت فجأة، واخذت تتحرك بأناة ورويّة، فجمعت قطعا من حديد ونحاس.. أوقدت عليها نار غضبها، وصهرتها بجمر احشائها، واضافت لها رماد حقدها الدفين، حتى لانت لها، فصيّرت منها تمثالا جميلا، قصير القامة، دعج العينين، ينظر شزرا، ولحية طويلة. وشقت في داخله قناة، تعلوها ثقوب اربعة، يمكنها التحكّم بها.

ولما نفخت فيه من روحها الشريرة، بدى وجهه متجهما. ابتسمت حينما نظرت اليه، وقالت: ما علينا الا ان نصّدق اوهامنا، ونجد من يدافع عنها، حينئذٍ ستكون هي الحقيقة في أعين الناس .. أليس أصدق الحقائق أكذبها؟؟

وهذا ما سأفعله، ساجعلهم يغيّرون قناعاتهم، ويعترفون بابداعاته وإن كانت مزيفة. لذا ارتدت أفخر ثيابها، ووضعت أبهى زينتها، ثم اشارت لبعض صعاليك الرجال بكلمات منمقة، واغراءات ساحرة، فجاءوا يتهافتون، رجالا لبقين، يرتلوّن كلاما منافقا، أمرتهم ان يصطفوا واحدا تلو الاخر، ثم طلبت منهم ان ينفخوا في قناة التمثال ويصفّقون له، فصدر منه صفير، راحت تتحكم به عبر الثقوب الأربعة. فاضفت على اصواتهم موسيقى باهتة.. وكلما انتهى أحدهم من مهمته جلست تضحك، تتباهى، تعلوها ابتسامة صفراء، وهي تردد:

سترى .. سترى.

ثم أفاقت فجأة، وماذا لو انكشفت اللعبة؟؟

نظرت الى نقطة بعيدة، تطوي الافق في عينيها، وابتسمت:

وماذا عن جوقة المطبلين؟ .. هكذا اجابت بثقة عالية.

ولما حان وقت التحدي، ارادت ان تحمله، لكن ...

صعقها خواء حلمها.

 *** 

جلال جاف - شاعر وناقد

 

باللغتين العربية والفرنسية
1- توظيف الخطاب التصويري:

 إن "الارتجالية" كمعنى تعكس صيرورة متوترة تواجهها الشخصية:

 ''فاجأه المكان .. طرقات مكتظة، مصابيح تتلألأ، عربات مسرعة،''

 التشبيهات والاستعارات تقدم الخارق وتغذيه فنذكر بعضا من الاستعارات في

 '' كاد أن يختطفه قطار المسافات الطويلة، استفزته الحيرة.''

 يصبح ذلك القطار استعارة للمسافة التي تباعد بين حياة التمدن وحياة البداوة.

إن قصة ''قرار ارتجالي'' تقترح تساؤلا فلسلفيا'' العبور الضروري بين حياة التمدن وحياة البداوة، هل هو حتمية أو كما يسميه الكاتب "مصيري"؟.

 هل بإمكان الشخصية الوثوق بـ "ذلك القطار" الذي كاد أن يخطفها؟  

2- المستوى اللفظي:

 يستخدم الكاتب ضمير الغائب ''هو'' لتصوير فضاء ومقام السرد الذي يسير بإيقاع خاص موسوم بإشارات نصية لـ ''نمط النص الخيالي'' وكذا بألفاظ قصيرة وأكثر إيجازا تقحم الراوي، مما يسمح بتحقق أفضل من ذات الشخصية في فضائها حيث تحرز تقدما. إذاً الكاتب يدخل الشك الملازم للخيالي: هل يقول الراوي الحقيقة؟ هل هو شاهد؟ في هذا المد من الألفاظ المقتضبة التي تسرد أفعال الشخصية الوحيدة في فضائها الضيق وتفتح القصة باتجاه الخيالي - الغريب والفلسفي عندما يرافع بأسئلة ماهية وجوده وهويته:

 '' ظل يتمتم، يقارن نفسه بمن حوله

 بماذا أختلف عن تلك المرأة،

 او ذلك الرجل الطويل.

 تفحص المارة، واحدا تلو الاخر، تسمّر في نهاية الطريق، كلهم متشابهون، مثلي تماما، لا أجد فرقا بيننا،

 اذن لماذا اراوح في مكاني.

 إن إشارات الخوارق تمت ملاحظتها بفضل راوٍ فيلسوف وجدير بالثقة، مشبع بحقائق البدو وأمنياتهم البسيطة.

 ''عاد ثانية الى داره، أسرف في زينتها، في تنوع غذائها،'' 

 3-التركيب:

 نلاحظ تدرجا في الخطاب الخيالي الذي يتميز بأهمية التأثير النهائي، فنُحمل على التفكير في قول الراوي:

 '' اتخذ قرارا مصيريا، استبدل بغلته بحصان، اختاره مطهما، ضمن لنفسه سرعة السير، سألحق بتلك العربة البيضاء''

 بدت البغلة حاملةً لأثر الرجعة إلى المنشأ، شيئا فشيئا بدا "ظاهريا" توسع أفق هذا الرجل ''البدوي'' لمدينة بمظهر الحياة

 ''ما كاد يرمقها ببصره، حتى مرت ثانية سوداء. . توالت بالوانها واحجامها المذهلة تلك العربات الخبيثة، ''

 '' كان مرتبكا حد اللعنة، يتلفت. . منظر لم يألفه، بعد ان قضى حياته داخل البيوت الرطبة، لا يتنقل الا في الظلام، او بين المقابر. ''

 بعدها يؤكد الراوي :

 ''تفحص المارة، واحدا تلو الاخر، تسمّر في نهاية الطريق، كلهم متشابهون، مثلي تماما، لا أجد فرقا بيننا،

 اذن لماذا اراوح في مكاني. ''

 هل نحن بصدد معايشة أزمة هوية أم أنها أزمة وعي في عالم متسارع لا يستطيع البعض فيه اللحاق بالمسيرة الحضارية؟

 وكما قال الشاعر الكبير والناقد جلال جاف يبقى نص الكاتب الكبير ماجد الغرباوي نصا جدليا بامتياز لما يحمله من المساس الحي بالتطور الفكري للإنسان وجدليته حضاريا. انه نص يتجلى فيه "الوجود والعدم" بامتياز كواقع إنساني وفلسفي.

 إذا صح أن نظرية التدرج تمتلك خاصيتها في عدد من قصص ''ادغار بو'' وكذا بالنسبة لـ ''مريميه''، فهي لا تمتد حتى ''موباسون'' مثلا حيث التجلي الأول هو في غالب الأحيان ذروة للقصة.

4- موضوعات الخيالي:

 موضوعات الخيالي تعرف كادراك خاص لأحداث غريبة تنتج تأثيرا خاصا على القارئ: خوف، رعب، أو ببساطة فضول. هذا النوع يعني التشويق ووجود عناصر خارقة يرعى هذا التوتر.

''تودوروف'' يعيد طرح النقد ألموضوعاتي، ومن ابرز ممثليه '' ج-ب ريشارد''. فيواصل تودوروف تدليله لبعض المنظرين للأدب الخيالي، مثلا ''بينزولد'' أو ''روجير كايواس'' اللذان ينضدان الموضوعات دون إعطائها تماسكا داخليا. يذكر ''كايواس'' وتصنيفاته الموضوعاتية: الميثاق مع الشيطان (فوست)، الشبح المحكوم بركض غير منتظم (ميلموته )، ال''شيئ'' المتعذر تحديده والمتواري، لكن له وزن وموجود في (الهورلا)، مصاصي الدماء (أمثلة كثيرة)، التمثال، الدمية، درع، إذ فجأة تنتعش هذه الموضوعات لتحوز على حرية مرعبة (فينوس الجزيرة). . .

يعرض ''تودوروف'' عملا لم يقم به الآخرون قبله، سيصنف الموضوعات التي من الممكن أن تتجلى مجموعة، بفضل خاصية ''التعايش''.

 سنختار موضوعة ''الحبل'' التي تمكننا من ولوج فضاء نزاعي بين التنوع الحضاري والهوية.  

 5-موضوعة ''الحبل'':

 في القصة، حكاية البدوي وبغلته تبين موضوعات عدة، أولها المتعلقة بأسطورة منشئة لأسطورة ''الحبل'' :''حيلة الحبل الهندوسي هي من أقدم الأساطير الهندية. الدلالات الأولى لممارسة هذا التأثير تأتي من الرحالة العربي في الصين 1355، ابن بطوطة. ساحر بلاط أمير''هانغزهو'' قذف باتجاه السماء كرةً من جلد معلقا فيها شرائط. الكرة اختفت وسط الغيوم. قام الساحر ببعث شاب من بين مساعديه وذلك للتسلق عبر تلك الشرائط من جلد ولكن الشاب رفض النزول، صعد الساحر مقتفيا أثره وبيده سلاح. قطع من الشاب تساقطت من السماء، الساحر رجع مخضبا بالدماء، قبّل الأرض أمام الأمير، جمع أعضاء الشاب، بعث الحياة في الغلام

 لنصل إلى التأثير النهائي للدابة التي تحولت إلى "فاعل" فبعثت البدوي إلى قدر محتوم وأرجعت الأمور إلى نظامها الأول، ربما ذلك الساحر الذي يتقن حيلة الحبل قد استنسخ ليُذّكرَ البدوي بان قدره هنا فوق ''أرضه الأصلية"؟

 الموضوعة الثانية تمتد إلى وجود كائنات وفضاءات خارقة ووهمية :

 ''بعد ان قضى حياته داخل البيوت الرطبة، لا يتنقل الا في الظلام، او بين المقابر.''

 سلطة على مصير الإنسان. هذه الأخيرة لديها دلالة، عموما في استبدال بسببية واهية إنها تقوم مقام ما نسميه عادة :الصدفة، الحظ. هذا النوع من السرد الحكائي يمنح امتيازا للحتمية فيما معناه أن كل شيء لا بد وأن يكتسب سببا فاللجوء إلى الخيالي عادة هو وسيلة جيدة لشرح كل شيء.

 نلاحظ تواجد توافق بين موضوعات الخيالي وتصنيفاته التي تُعرٍّف عالم الجاهل المقطوع من أي شرط محفز لحياة التمدن، لذلك موضوعة الحبل تم إرسائها كلعبة ساحر الذي قذف الشاب نحو السماء للحاق به وقطع الحبل بعدها حتى يبعث فيه الحياة من جديد.

 البدوي تقاسمته أمنيات ..  والرغبة أن'' حبل'' دابته ينقطع بغاية الانطلاق نحو سماء العجائب في حياة التمدن لكنه يرجع إلى الواقع في وقت ''الارتجالية'':

 اتخذ قرارا آخر

 قال: أول الطريق ان أتخلى عن دابتي كي ألحق بركب الشارع الجديد، ولما خطى مسرعا،

 الدابة التي تمثل عنصرا قديما فاعلا في حياة البدو وتتلبس بوجه الساحر الذي يمتلك قدرة عليا لنشور الأموات والخوارق، وعليه استطاعت الدابة من خلال منطق النص بعث البدوي وإرجاعه إلى عالمه الواقعي وبيته وأخيرا فهو لم يحز علما يقده في محاولة الهروب نحو سماء أخرى لولوج تلك الحياة المتحضرة التي أربكته وحيرته:

 ''اعاده رباطها الملفوف على رأسه الى حيث كان يعيش. . . . . . . . ؟؟؟؟؟؟!!!!!!''

*** 

أروى الشريف

..................

Les caractéristiques du discours fantastique :

Dans la nouvelle  "décision improvisée"  de Majed El-Gharabaoui »

Arwa  Charif

1-Emploi du discours figuré :

    Improvisation n'est autre que le développement au sens propre d'une expression figurée d’une tension à laquelle s’affronte le personnage :

" le lieu l’a surpris..des rues encombrées, des lanternes luisent, des charrettes  roulent vite .

 Les comparaisons et les métaphores introduisent le surnaturel et le nourrissent. On cite  certaines de ces  comparaisons, dans :

  «le train des longues distances faillit l’enlever , l’inquiétude l’énerve .’’

 Ainsi ce train est la métaphore de cette distance  qui dissocie  la vie citadine   et la vie nomade.

      Une décision improvisée suggère  une question philosophique ‘’ ce passage obligatoire'' entre la vie citadine et la vie nomade est-il fatal ou comme l’auteur le nomme « fatidique ».

 Le personnage peut-il se fier à « ce train » qui faillit l’enlever . !

 2-L'énonciation :

     L’auteur   utilise   la 3éme  personne pour imager l’espace et le ton de la narration qui suit un rythme particulier caractérisé par les indices textuels du « genre fantastique » et  par des énoncés plus courts qui impliquent le narrateur , cela permet une meilleure identification du personnage dans son espace où il progresse ainsi l’auteur   introduit le doute inhérent au fantastique: ce narrateur  dit-il la vérité? ? Est-il témoin ?. Dans  ce flux d’énoncés courts qui relatent les actions du personnage unique dans l’espace étroit  ouvre la nouvelle vers  un fantastique-étrange et philosophique du moment où il plaide des questionnements existentiels et identitaires :

 Il continuait à murmurer, se comparant à ceux qui l’entourent..

 En  quoi suis- je distinct  de cette femme,

  Ou cet homme élancé.

 Il fixa les passants, l’un après l’autre, il se fixa au bout du chemin, tous ,ils se ressemblent, comme moi exactement, je ne trouve aucune différence entre nous,

 Donc pourquoi je me pointe sur ma place.

   C'est précisément parce que les indices du surnaturel sont observés par un narrateur  philosophe  et digne de confiance, tout pénétré des certitudes de la  vie des nomades et de leur vœux modestes :

  « Il revient une autre fois à sa maison, il excelle dans sa décoration, dans la diversité de sa nutrition. »

3-La composition :

  On  observe une gradation dans le discours fantastique qui se caractérise par l'importance de l'effet final. Pensons à :

 " Il prit une décision  fatidique, il a changé sa mule par un cheval, il a choisi un étalon, il s’est  assuré la vitesse de la marche, je vais rattraper cette charrette  blanche "

     La mule qui semble avoir un effet de retour vers les origines est amenée peu à peu à élargir l’horizon de cet homme "nomade". La ville  a d'abord un air vivant :

 "Dès qu’il l’aperçue aussitôt une autre, noire, passa une deuxième fois ..elle outrepassa par ses couleurs et ses formes splendides ,ces charrettes hypocrites,

 Il était perturbé à en maudire, se retournait ..une vue à laquelle ne s’y était jamais habituée, après avoir vécu toute sa vie dans les maisons humides, il ne  se déplaçait que dans l’obscurité, ou entre les cimetières."

 Le narrateur  affirme ensuite :

"Il fixa les passants, l’un après l’autre, il se fixa au bout du chemin, tous ,ils se ressemblent, comme moi exactement, je ne trouve aucune différence entre nous,

Donc pourquoi je me pointe sur ma place."

     Sommes-nous en présence d'une crise identitaire ou crise de conscience dans un monde hallucinant ou le désir de poursuivre le chemin de la civilisation s'est réellement animé ?

 Dans cette optique le grand poète et critique « Jalal Jaf » voit que  le texte du grand écrivain « Maged El-Gharabaoui »  est un texte dialectique qui  porte ce  privilège des traces du rapprochement vif de l’évolution intellectuelle de l’homme et sa dialectique  de la civilisation . C’est un texte dont apparaissent l’existence et le néant en concession telle une occurrence humaine et philosophique.     

 Si cette théorie de la gradation fonctionne pour bon nombre de nouvelles de Poe et pour celle de Mérimée, elle n'est pas généralisable à Maupassant par exemple où la première apparition est souvent le point culminant de la nouvelle.

4-Les thèmes du fantastique :

 Les thèmes du fantastique se définissent comme une perception particulière d'événements étranges qui produisent un effet particulier sur le lecteur : peur, horreur ou simplement curiosité. Ce genre entretient le suspense, la présence d'éléments fantastiques favorise cette tension.

 Todorov remet en question la critique thématique, dont le meilleur représentant est J-P Richard. Il poursuit son argumentation en mettant en cause certains théoriciens de la littérature fantastique, tels que Penzoldt ou Roger Caillois qui superposent les thèmes sans leur donner une cohérence interne. Il cite Caillois et ses classes thématiques: le pacte avec le démon (Faust), le spectre condamné à une course désordonnée (Melmoth), la "chose" indéfinissable et invisible, mais qui pèse et qui est présente (Le Horla), les vampires (nombreux exemples), la statue, le mannequin, l'armure, l'automate qui soudain s'animent et acquièrent une redoutable indépendance (La Vénus d'Ille)...

 Todorov s'oppose à cette méthode qui vise à classer des thèmes indépendamment les uns des autres. Il explique qu'on ne peut isoler un thème de l'histoire. Les deux sont corrélativement liés. Pour lui, les critiques se sont contentés de dresser des listes d'éléments surnaturels sans réussir à en faire ressortir l'organisation.

 Todorov se propose donc de faire ce que les autres avant lui n'ont pas fait. Il va classer les thèmes qui peuvent apparaître ensemble, en fonction de leur co-présence.

 On va choisir le thème de" la corde" qui peut nous introduire dans un espace conflictuel entre diversité et identité

 Le thème de la "corde" :

 Dans la nouvelle , l'histoire du nomade et sa mule  fait ressortir plusieurs thèmes. Le premier est celui de la légende fondatrice de la corde.

 " Le tour de la corde hindoue est un des plus vieux mythes de l’Inde. Les premiers témoignages de la pratique de cet effet vienne d’un voyageur arabe en Chine en 1355, Ibn Batouta . Le magicien de la cour d’Amir à Hangzhou, lança vers le ciel, une balle en cuir à laquelle pendait des lanières. La balle disparut dans les nuages. Il fit grimper un de ses jeunes assistants sur la lanière de cuir et, comme celui-ci refusait de descendre, il monta à sa suite armé d’un couteau. Des morceaux du jeune garçon tombèrent du ciel. Le magicien revint, ses vêtements imprégnés de sang, il embrassa le sol devant Amir puis, réunissant les membres épars, redonna la vie au garçon. "

   Le nomade se transforme en philosophe en introduisant la voix de la raison :

 "Il commença à réviser ses idées, les examina"

 Tandis que ses premiers idées étaient confuses même de distinguer entre les les véhicules comme figure de la vie citadine et le trafic routier :

 "Dès qu’il l’aperçue aussitôt une autre, noire, passa une deuxième fois ..elle outrepassa par ses couleurs et ses formes splendides ,ces charrettes hypocrites"

 Arrivons à cet effet final dont la bête se  métamorphose en « actant » et ressuscite en  destin fatidique qui remet les choses en ordre .peut-elle être ce magicien et jongle avec la corde pour rappeler le nomade que son destin est là  sur « sa terre d’origine » ? 

 L'autre thème tient à l'existence même d'êtres surnaturels, tels que :

 "après avoir vécu toute sa vie dans les maisons humides, il ne  se déplaçait que dans l’obscurité, ou entre les cimetières."

 Pouvoir sur la destinée humaine. Ces derniers ont pour fonction, en général, de suppléer à une causalité déficiente. Ils remplacent ce que nous appelons communément: le hasard, la chance. Ce type de récit privilégie le pan-déterminisme, c'est-à-dire que tout doit avoir une cause; le recours au surnaturel est habituellement un bon moyen de pouvoir tout expliquer.

  On remarque qu'il existe une correspondance entre les thèmes fantastiques et les catégories qui servent à définir le monde  de l’ignorant coupé de toute condition favorable de la vie citadine, du psychotique ou du jeune enfant (théorie de Piaget), c'est pourquoi le titre "thème de la corde  a été retenu comme le jeu du magicien qui a lancé le jeune homme au ciel pour rattraper…..  et lui coupa la corde ensuite il le ressuscite.

Le nomade se départage entre vœux et désir  que  la corde de sa bête puisse se couper ainsi se lancer au ciel des merveilles de la vie citadine mais il revient à la réalité au moment d’improvisation :

 ‘’ Il prit une autre décision..

 Il se dit : au début de la route je dois délaisser ma bête pour que je rejoigne    le cortège de la nouvelle rue, et lorsqu’il se précipita en vitesse’’

 La bête qui représente un actant antique de la vie bédouine et s’habit par la figure mythique du magicien qui possède le pouvoir suprême de la résurrection  et du surnaturel a pu selon la logique du texte ressuscitera le nomade et le ramener au monde réel son monde et chez lui et que finalement s’il ne possède nullement un savoir qui le guide  dans sa fuite vers un autre ciel et la pénétration de cette vie citadine qui l’ a rendu perplexe et inquiet :

 ‘’ son enclave cabotée  sur sa tête l’a reconduit  jusqu’ où il vivait ……...???????

العلاقات التي تربط الإنسان بالمكان، هي علاقات من نوع خاص، تتخطى بطبيعتها الحيّز المكاني الى ما هو أبعد، وتضرب بجذورها بعيدا في أصقــاع أخرى،

فتتداخل الأبعاد ويتعذر الفصل بين ما هو مكاني وما هو غيرمكاني. عندها تصبح أيّة محاولة لتتغيير المكان مشروطة بتغييرات في عناصر لا مكانية، وهنا يبرز الجانب السيكولوجي كعامل مهمّ في أيّة محاولة للخروج من الدائرة المكانية واستبدالها بأخرى. في هذه الحالة يتشكل المكان في دائرتين: واحدة شاخصة للبصر يمكن رؤيتها وتحسسها، واخرى خارج ادراك حواسنا الخمس.

في (قرار ارتجالي) للأديب ماجد الغرباوي تبدو محاولات الشخصية الرئيسية في النصّ في تخطّي المكان عديمة الجدوى وتنتهي في كل مرّة الى الفشل.

...خطى خطوته الاولى، فاجأه المكان.. طرقات مكتظة، مصابيح تتلألأ، عربات مسرعة، كاد أن يلحق بالاولى، عثرت بغلته، اوشكت أن تسقطه أرضا ...

هذه هي افتتاحية النص، فمنذ الوهلة الاولى بدا تخطّي الدائرة المكانية صعبا إن لم

يكن مستحيلا. فالشخصية المعنية في النص (صاحب البغلة) لا يمتلك الوسائل الضرورية ، الموصلة الى الدائرة المكانية الاخرى. فما يملكه هو وسائل تنتمي الى زمن سابق، وتيرة الحركة فيه بطيئة، وتشكيلة بنيته بسيطة، فهي لا تتماشى والزمن الجديد، الذي بلغت فيه وتيرة التسارع والتسابق حدّا لم يدع مجالا للوسائل المتوارثة عن زمن سابق أن تنافسه أو أن يكون لها دور يذكر في عملية التحوّل المستمرّة .

المكان لم يعد منفصلا عن الزمان.. تداخل المكان والزمان فأصبحا واحدا. هذه هي الفكرة المحورية في النص، فالمكان لا يفهم كوحدة منفصلة عمّا حوله، وهذا ما غاب عن ذهن (صاحب البغلة)، الذي تصورالعالم على مقاس تفكيره، واعتقد انه بما لديه من وسائل، وهي أقرب الى أن تكون بدائية أن يتخطى دائرة المكان.

حينها حدث ما لم يكن في حسبانه، حيث وجد نفسه وجها لوجه أمام واقع تجاوزه . وهنا شعر بالفزع فانسحب قبل أن تصاب وسيلة تنقله وحركته بالعطب التام. فكر أن يعاود الكرّة ثانية ، فلجأ الى ادخال تحسينات .. في الواقع هي تحسينات شكلية، فوسيلة تنقله بقيت كما هي وقد رمز اليها الكاتب ب (البغلة) و لم يحدث هناك أي تغير جوهري نوعي. بدأت المرحلة الثانية من مغامرته، التي انتهت به الى الحيرة مما دفعته أن يلجأ الى وسيلة تنقل اخرى، وهي ما رمز اليها الكاتب بالحصان هنا يلحظ القارئ ان تغييرا نوعيا قد حدث، حين استبدلت الوسيلة القديمة بوسيلة جديدة أكثر متانة وسرعة و لكنّ هذا التغير النوعي ما زال ضمن دائرة المكان الاولى خاضعا لشروطها ومنضبطا بروح تقاليدها المتوارثة . المرحلة الثالثة من مغامرة تخطي المكان، دفعت بصاحبها الى حالة من السخط، حيث انّ المستجدات في الحياة من حولة أشعرته بعدم جدوى وسائله، أثارت في داخله الشكوك ودفعته الى حالة هي أقرب الى الاغتراب الروحي، وهذا ما عبر عنه الكاتب في الجمل الآتية ...كان مرتبكا حدّ اللعنة، يتلفت .. منظر لم يألفه، بعد أن قضى حياته داخل البيوت الرطبة، لا يتنقل إلا في الظلام، أو بين المقابر...

لقد كانت صدمته كبيرة حين اكتشف انه لا يختلف عن الآخرين بشئ لكنه يشعر انه غريب عنهم .. هنالك جدار فاصل لا يمكن تخطيه، الآخرون وهم بشر مثله اندمجوا في مسيرة الحياة وراحوا يحثون الخطى بسرعة ناظرين الى الامام دون أن يعيروه اهتماما او يلتفتوا إليه . في هذه اللحظة شعر بعجز وسائله وحيله فقرر التوقف.

...كيف يواصل الطريق؟

ظلّ يتمتم، يقارن نفسه بمن حوله

بماذا أختلف عن تلك المرأة،

أو ذلك الرجل الطويل .....

هنا تتجسد حالة الاغتراب الروحي بكل وضوح، لااختلاف ما بيني وبين الآخرين، لكننا رغم ذلك مختلفون. هذا الاحساس يحدث عادة نتيجة صدمة يتعرض لها الفرد في حياته كما يقول علماء النفس.

في ختام النص القصصي يتعرض الكاتب الى نقطة مهمة وهي: انّ الانسان لا يستطيع أن يدخل تغييرا جذريا في حياته إلا اذا استطاع ان يغيّر تفكيره، وبدون

ذلك تبقى كل الوسائل عاجزة عن تحقيق ذلك التغيير، وقد رمز الى هذا المعنى بشكل جميل وذكيّ في العبارات التالية:

قال: أول الطريق أن أتخلى عن دابتي كي ألحق بركب الشارع الجديد، ولمّا خطى مسرعا، أعاده رباطها الملفوف على رأسه الى حيث كان يعيش...

فالرباط الملفوف على الرأس هو نمط التفكير، الذي لم يفارق رأس صاحبه، رغم ما مرّ به من أحداث في مغامرته لتخطي المكان .

 من خلال قراءتي لهذا النص القصصي استخلصت النتائج التالية: اولها انّ للمكان ملامح جعرافية واخرى لامرئية انطباعية تصورية، وثانيها انّ للمكان دلالة زمنية.. بمعنى ان سكان مكان معين يحملون في رؤوسهم قدرا من معارف فترة معينة ينعكس تأثيرها على المكان، الذي يتواجدون فيه، وثالثها انّ تغيير المكان والعيش في مكان آخر يستدعي تغييرا في نمط التفكير.

*** 

جميل الساعدي - شاعر وناقد

................... 

قرار ارتجالي / ماجد الغرباوي

عندما قرر اجتياز المكان، أعدّ بغلته جيدا، سمح لها بتناول ما تبقى من طعام.

خطى خطوته الاولى، فاجأه المكان .. طرقات مكتظة، مصابيح تتلألأ، عربات مسرعة، كاد ان يلحق بالأولى، عثرت بغلته، أوشكت أن تسقطه ارضا.

عاد ثانية الى داره، أسرف في زينتها، في تنوع غذائها، غامر من جديد، كاد ان يختطفه قطار المسافات الطويلة، استفزته الحيرة.

فقد صوابه

اتخذ قرارا مصيريا، استبدل بغلته بحصان، اختاره مطهما، ضمن لنفسه سرعة السير، سألحق بتلك العربة البيضاء، ما كاد يرمقها ببصره، حتى مرت ثانية سوداء.. توالت بالوانها واحجامها المذهلة تلك العربات الخبيثة،

كان مرتبكا حد اللعنة، يتلفت .. منظر لم يألفه، بعد ان قضى حياته داخل البيوت الرطبة، لا يتنقل الا في الظلام، او بين المقابر.

كيف يواصل الطريق؟

ظل يتمتم، يقارن نفسه بمن حوله

بماذا أختلف عن تلك المرأة،

او ذلك الرجل الطويل.

تفحص المارة، واحدا تلو الاخر، تسمّر في نهاية الطريق، كلهم متشابهون، مثلي تماما، لا أجد فرقا بيننا،

اذن لماذا اراوح في مكاني.

بدأ يراجع أفكاره، يتفحصها

اتخذ قرارا آخر

قال: أول الطريق ان أتخلى عن دابتي كي ألحق بركب الشارع الجديد، ولما خطى مسرعا، اعاده رباطها الملفوف على رأسه الى حيث كان يعيش

........؟؟؟؟؟؟

!!!!!!

استنساخ أوجه الشبه بين الضحية والجلاد

إنّ مصطلح القصة الذي ورد في "معجم الدراسات الأدبية": "القصة مركزة عموما حول حادثة واحدة

وتدرس انعكاساتها النفسانية وشخوصها محدودة ولكن على عكس الحكاية لا تمثل الشخوص رموزا أو كائنات غير حقيقية لكن تمتلك حقيقة نفسية،بينما باختلاف مع الرواية،نفسية الشخوص ليست مدروسة بالكامل لكن تؤخذ من جانب جزئي . القصة تبحث لإنتاج انطباع الحياة الحقيقة".

في قصة الأديب ماجد الغرباوي أتناول بالدراسة خصائص هذه القصة وتحديدا خصائص "القصة الخيالية " .

في قصة الكاتب "حافات قلقة" تظهر جليا عملية تنظيم تقنية القصة الخيالية فماهي خصائصها في النص؟

في القراءة الأولية يتبين لنا اختلاف في تقنية القصة العادية حين اتجه منحى القصة الخيالية إلى تصوير فضاء القصة على انه فارغ من تقنيات "الزمكنة" حين قررت الشخصية "سعاد" وهي "الشخصية الأساسية" فرض لعبة "الاتجاهات والأبعاد" منذ البداية:

وقفت في ساحة العرض، اختارت نقطة الوسط تماما، نظرت إلى جميع

الاتجاهات، لاحت لها كوة صغيرة،.. انتشت قليلا، خطت خطوة إلى الأمام، تصورت فرحتها وهي تستلم الجائزة،

ان تعميق منظور الفضاء" المجهول" اسهم في إبراز حركة ملامح "القرية" التي يمكن أن تتكرر في كل "المجتمعات" وفي هذا الصدد يعرض "غلودمان" في (من اجل علم الاجتماع في الرواية) أن: "كل تصرف إنساني هو تجربة لإعطاء إجابة ذات دلالة في وضعية خاصة" أما في القصة "حافات قلقة "فالوضعية الخاصة هي واقعية وعادية لا غرابة فيها إذ تبدو سعاد فاعلة في الأحداث حين تقول:

قالت: إذن هنا سيعلن عميد القرية عن أسماء المتفوقين..

و تصبو هذه التجربة التي س"تعيشها" سعاد إلى خلق توازن بين ذاتها الفاعلة وبيئتها فهل تتمكن سعاد من بلوغ أمنيتها بالفوز وأن تكون كما وصفها الراوي في لحظة نشوة ومغمورة بالسعادة؟:

انتشت قليلا، خطت خطوة إلى الأمام، تصورت فرحتها وهي تستلم الجائزة، "

ويمكن القول أن من أهم شروط تحقيق نمطية "القصة الخيالية " هي:" الكتابة التي تستوجب حسا حادا جدا في اقتصاد النص ولزومية ذلك "فنلاحظ ترتيب أحداث القصة على أساس ذهني منطقي حيث يتفاعل السرد مع لحظات قلقة متوترة تشهدها دواخل سعاد:

آه .. يا الهي، لماذا تراودني الأوهام؟ لا .. لا .. عليّ أن أتريث، أعمالي أشاد بها الجميع وأنا واثقة من نفسي، فلماذا ينتابني القلق؟

القصة الخيالية تتمتع بخصائص سردية تترك القارئ مشدود الذهن منتبه الإدراك في كل لحظات القصة بهدف أدبي يتماشى مع تقنية الكتابة والسرد لتطوير العناصر الأساسية لإبداع وإقحام القارئ في مساحة ضيقة تشغلها نفسية سعاد بتراكم سريع للأسئلة و الأوهام.

هكذا رددت الكلمات بارتباك .. وحيرة

ثم أردفت:

لكنه صارم، لا يجامل .. أعرفه جيدا، هذا ما أخشاه، حقا سيسحق غروري إذا تجاهلني.

وسرعة تحول الشخصية في حركة مشاعرها أدت إلى تراكم عناصر عالم خاص بـ "سعاد" يتواجه فيه غرورها ضد سلطة "عميد القرية" وسلطة العنصر ألذكوري..

فهل يتأكد الجميع أن سعاد ليست في مرتبة تنافس فيها:

... فلان هو الفائز الأول، وآخر يقول فلان،

صراع

وثالث يقول: كل توقعاتكم خاطئة. ولاحت من بعضهم نظرات مريبة، فكاد أن يغشى عليها، لكنها تماسكت حينما طل من كوته،

فهل تحقق سعاد التوازن بين بيئتها وذاتها الحائرة والتائهة؟ واستطاع الكاتب، بفضل تحكمه في تقنية الكتابة في "القصة الخيالية"، من خلق أحداث أقلقت ودفعت سعاد إلى الانهيار:

(وبيده أوراقه العتيدة، ومعه بعض رجاله وحاشيته).. الشخصية السلطة ... الحاشية .. صراع

(نظر إلى الجميع، شاهد الرجال والنساء، كل يترقّب. اتخذ مكانا مرتفعا .. ثم بدأ نائبه يتلو الأسماء الفائزة واحدا بعد الآخر، وهي تصغي بلهفة، حتى إذا همّ بإعلان الاسم التالي قالت: أنا، أنا (س ع ا د)..

لكنه وهم .. وهم .. لست من الفائزين. فماذا انتظر .. هذه هي الحقيقة ..)

**

ومن خلال تركيب عناصر سرعة السرد ودقة التفاصيل التي تتعلق بإشارات نفسية ساهمت في بعث تداول الأفكار والخيالات في عقل سعاد:

عادت الى بيتها منكسرة، مذهولة .. تحاصرها نظرات الشامتين، وتطاردها كلمات المستهزئين، فودّت لو انها توارت، او ابتلعتها الارض. كان موقفا صعبا .. محرجا، لم يكن متوقعا مطلقا.

آفاقت من هول الصدمة، وقالت بغضب:

سانتقم ..

سانتقم ..

سيعرف من انا. ساحطّم كبرياءه. ساجعله يندم ..

الجمل الأخيرة لسعاد وجّهت القارئ إلى طرح أسئلة تسحبه إلى عالم الغرابة فهل النهاية تتحدد بين "غرابة أو واقعية "الغرور الذي يشحنه الانتقام " من ثم تتعرى شخصية "سعاد" من مجرد ذات تريد حيازة جائزة إلى ذات مهتزة وقلقة ومسكونة بتحطيم "عميد القرية" الذي يمثل السلطة المطلقة في التحكيم بين "أعمال المتنافسين والمتنافسة سعاد".

وماذا لو تقدّم عليّ فلان وفلان؟.. ماذا لو كنت الثالثة او الرابعة في قائمة الفائزين؟ ماذا سيقول عني ابناء القرية؟ .. آه .. يا الهي، لماذا تراودني الأوهام؟

طفت في هذه المرحلة المتقدمة على مستوى الكتابة أمور واقعية وغير واقعية واتجه الصراع بين الظاهري والمتواري في نفس مركبة هي تربة خصبة لادراكات خاطئة في شخصية "الأنثى "التي اختلط عليها الأمر بين سحر وشعوذة ووبين صورة ''المرأة التي تشحذ خيالها الشيطاني لتكسب الجائزة".

ثم راحت تقلب فنون المكر، وتفكر بحيل النساء، فصاحت بصوت مرتفع: وجدتها .. عليّ أن أكون أكثر حنكة، الأمر ليس هينا، عميد القرية يتحصّن خلف رجال أشداء، أقوياء، فكيف أجد من ينافسهم ويتحداهم في مهنتهم. هذه هي الخطوة الأولى في معركتي معه. أن أعثر على رجل يجعل عميد القرية يغيّر قناعته ....

لنجرب ..

تأكد القارئ أن افتعال تناقضات وأوجه الصراع بتركيب "نفسي وإدراكي"، مكنته من استكشاف وجه آخر لنمطية  تفكير"سعاد" بطرح سؤال فلسفي عويص وشائك وهو:

لكن هل بمقدورنا أن نصنع إنسانا كما نريد؟؟

التساؤل منطقي بالنسبة لـ "سعاد" وأي محاولة للتكهن ما إذا كانت سعاد تعاني من أعراض الجنون أو هي مسكونة بعبودية الشيطان الذي يصور خيالات الشر وتمكن الراوي من بث الشك بين القارئ وسعاد بفعل ترتكبه حين تقدم على تطبيق فكرة سحر "الدمى" إذ تسمى في السحر الأسود ب "قيري- قيري":

استبد بها صمت عميق، استغرقت في تفكيرها وهواجسها، ثم قامت فجأة، وأخذت تتحرك بأناة ورويّة، فجمعت قطعا من حديد ونحاس.. أوقدت عليها نار غضبها، وصهرتها بجمر أحشائها، وأضافت لها رماد حقدها الدفين، حتى لانت لها، فصيّرت منها تمثالا جميلا، قصير القامة، دعج العينين، ينظر شزرا، ولحية طويلة. وشقت في داخله قناة، تعلوها ثقوب أربعة، يمكنها التحكّم بها.

اثر السحر وإيهام القارئ بعدم وضوح أي رؤية أوعز للكاتب بضرورة اختفاء كل الدلالات في عمق "القصة الخيالية الوهمية "لسبب منطقي أن كاتب القصة لا يعطي أي شرح ولا أي تفسير.

ولما نفخت فيه من روحها الشريرة، بدى وجهه متجهما. ابتسمت حينما نظرت إليه،

عنصر الإثارة وعناصر اللغز قفزت دفعة واحدة وأحدثت ارتباكا مقلقل في "فعل القراءة "عند المتلقي فيطرح الأسئلة على نفسه:

كيف تنفخ فيه من روحها ..لكن يجيبه الراوي بسرعة:

وقالت: ما علينا إلا أن نصّدق أوهامنا، ونجد من يدافع عنها، حينئذٍ ستكون هي الحقيقة في أعين الناس .. أليس أصدق الحقائق أكذبها؟؟

يتحكم الكاتب بأهم شروط كتابة هذا النمط من القصة التي يتعايش فيها الواقع،الغرابة والخوارق بتقنية أخرى خاصة في القصة الخيالية وهي التنظيم،الوضوح في طرح الأفكار والأهداف مما اكسب القصة قوة ولذة.

وما تحديث المونولوج عند سعاد لأكثر من مرة إلا تأكيد على دراماتيكية المشهد حيث تكون سعاد الفاعلة الوحيدة فتكلم نفسها وتسكت ضميرها وشرحها لآلية الظلم الذي وقع عليها وعايشته . وتنفيذ طرق الانتقام تبدي للقارئ وجها شيطانيا حين يوظف الكاتب أسطورة النماذج النسائية التي تعاقبت على مر التاريخ لـ "وجه المرأة" الشيطان حين تقرر سلخ إنسانيتها فتتحول إلى "آلهة الشر" وترسخ مبدأ الخلق حين "نفخت من روحها الشريرة".

وصل الراوي بالقارئ إلى طريق مسدود ومجهول ومن الضروري ان يتوقع انفراج يجبر المتلقي على إعادة التأويلات أكثر من مرة ليفهم "ما الذي حدث؟".

أخيرا فان ترسيخ وجه أسطورة المرأة الشيطانية كشفت جدلية المرأة الضحية والجلاد في صورة "سعاد" هو نجاح القصة على مستوى السرد وعلى مستوى تركيب فكر الشخصية الأساسية بتعاطيها "الخاص" مع بيئتها فأعاد الكاتب التوازن إلى نفسية سعاد المهتزة الهسترية التي تحالفت مع الشيطان:

ثم أفاقت فجأة، وماذا لو انكشفت اللعبة؟؟

نظرت إلى نقطة بعيدة، تطوي الأفق في عينيها، وابتسمت:

وماذا عن جوقة المطبلين؟ .. هكذا أجابت بثقة عالية.

من ثم نشهد إعادة تنظيم فضاء القصة وإخراج القارئ من دوامة الحيرة والقلق التي رافقته طيلة رحلة القراءة:

ولما حان وقت التحدي، أرادت أن تحمله، لكن ...

باقتراب النهاية يفتح الكاتب القصة بخلق سلسة كبيرة من التأويلات المبنية على نظريات الطموح والحلم حين تتوهم النفس البشرية سبل النجاح فتكون طرق الحيلة والغوص في مستنقع الشر.

لكن أفاقت سعاد بحقيقة:

صعقها خواء حلمها.

فمهما بلغت طموحات الإنسان لا بد من عقل راجح وتفكير نير يعزز إرادته في بلوغ قمم النجاح والسعادة.

 *** 

أروى الشريف - كاتبة وناقدة من الجزائر

 

مقدمة: كانت الرواية والقصة الكلاسيكية تأخذ المنحى الواقعي متكأ أساسيًا لها، حتى صار للقصة نموذج تقليدي تسير عليه

 ولا شك أن للكلاسيكيات موقعها من الأدب العربي والذي لا يختلف أحد على أصالته وإبداعه، إلا أنّ ظهور النظريات الحديثة والتي لم يفلت منها الأدب شأنه كشأن أي موضوع آخر، فقد تعرض الأدب لما يعرف بــ "العلمنة"، فخضع للاستقراءات والاستنباطات بشكل أشبه ما يكون بالبحث العلمي، فكان على القصة مواجهة هذه التيارات النقدية المحدثة بالتحديث في تقنياتها وأدبيتها، بحيث صار الاهتمام منصبًّا على العمل الأدبي نفسه مستبعدًا المؤلف، وركّز على دور القارئ كمنتج أكثر منه كمستهلك. ويعد الحدث من المنظور السردي من أكثر ما اشتغل عليه، فهو ليس منفصلاً عن بقية أجزاء العمل الأدبي (فإنه في القصة الجديدة، لم يعد مفصولاً عن البنية الفنية التي تسهم في الهرم الجمالي للخطاب القصصي بحيث غدا الحدث يتفاعل بشكل انزياحي مع بقية العناصر الفنية التي تشكل فضاء النص)[1]، فصار التركيز على تقنيات السرد والتقنيات الزمانية المختلفة والمكانية ودورها في الحد ث كجزء لا يتجزأ عنها وإنما تربطها به علاقات لا تفتأ تتحرك ديناميكياً مما يدخل القارئ في جدلية التأويل، (فقارئ هذه القصص لا يتمكن بسهولة من الوقوف على مضمونها إلا بعد جهد فكري وتأويلي)[2]، وهنا تكمن لذة القراءة، فالحدث في النهاية لا يفصح عن ذاته بل يدع القارئ أمام نهاية ذات فضاء جمالي مفتوح، قابلة لتأويلات عدة تنشد الاختزال .

و(حافات قلقة) للكاتب ماجد الغرباوي، رغم يسر اللغة وسهولة تناول الأسطر بشكل أشبه ما يكون بالالتهام في سرعة قراءتها، إلا أنّ النص موغلٌ في رمزيته وحداثته، فالحدث الرئيس يتراوح بين نقطتين رئيستين: الواقع والوهم، إلا أنّ المتلقي تجذبه كثرة وتلاحق الأحداث بالنص والتي يظن للوهلة الأولى أنها واقعية رغم مفارقاتها ليكتشف عند (القفلة) أنّ النصف الثاني من القصة كان واقعاً في نقطة الوهم والحلم، ليفتح التأويلات المختلفة على مصراعيها أمام المتلقي، وهذا ما سيتم تناوله في هذا المقال .

على حافة قلقة:

يعتمد الخطاب الروائي خاصة والخطاب الأدبي عامة على الواقع كمرجعية أساسية، إلا أنه يتفاوت من كاتب لآخر حسب رؤيته التي ينسج بها عمله الأدبي، فيتراوح الخطاب الروائي بين الواقع والمتخيل، إذ (يفترض في العمل الأدبي الذي يطرح رؤية أيديولوجية أن يظل متسقاً مع رؤيته بطرح متخيله الروائي ممكن الحدوث بمعنى أن يطرح متخيلاً واقعياً)[3]، فكما قال الفلاسفة قديما أنّ الفن ينبغي أن يصور ما هو ممكن الوقوع لا ما هو واقع، وذلك لأن جُل الأعمال الأدبية غالبا ما تحمل مرامي وظيفية متفاوتة، (ودائماً تغلب الصبغة الأيديولوجية وتسيطر على وظيفة الأدبي، ولكن دون إغفال الوظائف الأخرى التي تعتني بالنزوع نحو فنية الإبداع)[4]، والنزوع إلى تخليق واقع تخييلي إلى جانب الواقعي بل والبحث عن وسائل الخروج من مآزق العالم الواقعي .

وفي (حافات قلقة) يتناول الكاتب إحدى المشكلات الاجتماعية والتي قد تظهر للعيان منذ الوهلة الأولى على اعتبار كونها عدم التقدير اللائق لأصحاب المواهب المتمثلة في البطلة، فكان اضطرارها إلى سلوك الدروب الملتوية أوتكتل أصحاب المكائد ومجابهتهم للمؤسسات المنظمة، إلا أنني أرى أن أهم ما يناقشه النص هي تلك (الحافات القلقة) في النفس الإنسانية والتي تؤدي لقلقلة الإنسان وتخبطه بين الواقع والوهم في محاولة للتخلص من وطأة الكبت الذي تعرضت إليه البطلة والشعور بالنقص فلجأت لما يشبه التعويض في عالم خيالها، وهذا ما يشير إليه إدلر بما يسميه ("القوّة الخلاقة" Creative Power وهو يعني بذلك أنّ البشر قادرون على صنع مصائرهم وتحديد معالم شخصياتهم)[5]، وهذا يظهر جليّاً في قول البطلة: "هذه هي الخطوة الأولى في معركتي معه. أن أعثر على رجل يجعل عميد القرية يغيّر قناعته .. لكن هل بمقدورنا ان نصنع انسانا كما نريد؟؟ .. لنجرب .."

رغم عدم الرضا عن الحل الذي لجأت إليه البطلة، إلا أنّ أحداً لا ينكر أنّها قامت بإبداع شيء جديد والمتمثل في صنعها التمثال " فصيّرت منها تمثالا جميلا، قصير القامة، دعج العينين، ينظر شزرا، ولحية طويلة. وشقت في داخله قناة، تعلوها ثقوب اربعة، يمكنها التحكّم بها... ما علينا الا ان نصّدق اوهامنا .. أليس أصدق الحقائق أكذبها؟؟"

هناك حافة أشبه بحد السيف بين الخير والشر وانقلاب الإنسان من الضد إلى الضد الآخر، فالنفس الإنسانية تحمل الأضداد في دواخلها وقد عزز الكاتب هذه النقطة بالتحديد بحيث لا يدفع المتلقي إلى الحكم على البطلة حكمًا فاصلاً، وإنما يقع في جدلية هذه التناقضات ليجد نفسه في النهاية عاجزاً عن البت فيها بصورة نهائية وهذا يحسب للكاتب إذ ترك المجال منفتحاً للتأويلات، وكذلك الحد الفاصل بين الواقع والوهم أشبه ما يكون بالشعرة الدقيقة والذي أوضحه الكاتب من خلال اللعب على نقطتي الواقع والوهم المكاني في النص .

بين نقطتين وكوّة صغيرة:

يسير الحدث الرئيس بالنص بين نقطتين: إحداهما في أول النص "وقفت في ساحة العرض، اختارت نقطة الوسط تماما، نظرت الى جميع الاتجاهات"، والثانية في آخر النص: "ثم أفاقت فجأة، وماذا لو انكشفت اللعبة؟؟ .. نظرت الى نقطة بعيدة، تطوي الافق في عينيها"

ويلاحظ المتلقي من هذين المكانين البون الشاسع بينهما، فالنقطة الأولى تقف فيها البطلة، قد اختارت مركز الدائرة "ساحة العرض" مستشرفة حصدها المركز الأول ونوالها الجائزة الأولى . إنّ هذه النقطة، هي نقطة واقعية حقيقية الوجود تلمسها بقدميها تجعلها في بؤرة الاهتمام، حيث تنكشف لها جميع الأركان والخفايا، تشبه في دورانها حول نفسها، كالكاميرا السريعة التي تدور تلتقط صور الزوايا .. إلا أنّ هذا المكان على ما يمثل للبطلة من مكان أحلامها حيث الفوز والنجاح ومكان تحقيق الذات ونيل الإطراء بلا حدود بل وغيظ الحاقدين عليها وأعدائها إلا أنّه محدود مهما اتسع !، فتحدّه زوايا الساحة وجدرانها والتي يستدل عليها المتلقي بذكر الكاتب "الكوّة الصغيرة" التي على بعد نصف قطر من البطلة .

وقد لجأ الكاتب للانزياح بفنية عالية، فتلك الكوّة الصغيرة تكشف عن الفضاء الروائي للنص والذي (يشير إلى المسرح الرّوائي بأكمله، ويكون المكان داخله جزءاً منه)[6]، فالفضاء النصي هو القرية، تلك التي أشار إليها الكاتب عابرا في غير موضع "اذن هنا سيعلن عميد القرية عن اسماء المتفوقين .. ماذا لو كنت الثالثة او الرابعة في قائمة الفائزين؟ ماذا سيقول عني ابناء القرية؟"

رغم واقعية الأحداث في النصف الأول من النص إلا أنّ المتلقي يلاحظ بعض المفارقات، بدءاً من استغرابه لنوعية تلك المنافسة بين هذه البطلة الأنثى و(أبناء القرية)، كذلك يلاحظ تلك الشخصية العجيبة للبطلة والتي قد تحدت العادات والتقاليد الريفية وأرادت المنافسة في الإبداع أمام الرجال واثقة من نفسها، تلك البطلة المتمردة والتي لم تحدها فقط جدران الساحة وإنما كذلك الفضاء الروائي (القرية) الذي تراءى من (الكوّة الصغيرة) متحدياً طموحات تلك البطلة في صراعها مع مجتمعها الذكوري (البطريركي)، فقد تعرضت البطلة إلى ما يعرف بالأنوثة المصادرة، و(تقترن هذه المسألة دائماً بالمباح الذكوري، فكل ما يباح للذكر يُصادر وتُمنع الأنثى منه، وتصور الرواية الذكورة (فعلاً) والأنوثة (قولاً) وهنا تظهر قوة الواقع على بطلة الرواية) [7] " عادت .. منكسرة، مذهولة .. تحاصرها نظرات الشامتين، وتطاردها كلمات المستهزئين، فودّت لو انها توارت، او ابتلعتها الارض. كان موقفا صعبا .. محرجا، لم يكن متوقعا مطلقا."، فمثّل ذلك انكسار الحلم الواقعي (الطموح) لدى البطلة وانهيار أحلامها بالفوز رغم ظهور بوادر هذا الانهيار منذ الأسطر الأولى: "لكنه صارم، لا يجامل .. أعرفه جيدا، هذا ما اخشاه، حقا سيسحق غروري اذا تجاهلني."

الكوة الصغيرة ذلك الواقع بشخوصه في تصويره المختزل المتقازم ليقهر ساحات من حلم البطلة بل ويقهرها بناره، ففي النصف الأول يسود ذلك التراوح بين (طرفين .. الطرف الأول الحُلم والطرف الثاني الواقع الذي يعني الانكسار- الحلم - الانكسار (الواقع). إذ يتحول العالم الذي يصوغه الحلم من ارتباط وثيق وعلاقة شبق وشغف بالعالم إلى انفصال كلي عنه وتذوب جميع الصلات القديمة بين الذات والعالم)[8]، " تحاصرها نظرات الشامتين، وتطاردها كلمات المستهزئين، فودّت لو انها توارت، او ابتلعتها الارض. كان موقفا صعبا .. محرجا، لم يكن متوقعا مطلقا."، فكان لجوء الشخصية إلى التقوقع والانفصال عن العالم حولها واللجوء إلى بيتها بغية تحقيق الانتقام من أجل حلمها المفقود (عادت الى بيتها منكسرة، مذهولة .. تحاصرها نظرات الشامتين... آفاقت من هول الصدمة، وقالت بغضب: سانتقم .. سانتقم ..)

فدخلت البطلة في طور أشبه ما يكون بالاغتراب (إن المقولات السابقة هي مقدمات طبيعية للوصول إلى حالة الغربة، أولاً عن المجتمع بقيمه ورؤاه ومن ثم الوصول إلى الاغتراب الداخلي ونفي العالم كله وفصله والتعامل معه ومع مكوناته كحالة غير منتمية، وكمصدر للخوف والقتل والموت)[9] فكان العزم على الانتقام والتفكير بالحيل المختلفة لها كامرأة (لذا ارتدت أفخر ثيابها، ووضعت أبهى زينتها، ثم اشارت لبعض صعاليك الرجال بكلمات منمقة، واغراءات ساحرة، فجاءوا يتهافتون، رجالا لبقين)

وأيضا كمبدعة فنانة لا يمكن التهاون بموهبتها وقدراتها (فجمعت قطعا من حديد ونحاس.. أوقدت عليها نار غضبها، وصهرتها بجمر احشائها، واضافت لها رماد حقدها الدفين، حتى لانت لها، فصيّرت منها تمثالا جميلا، قصير القامة، دعج العينين، ينظر شزرا، ولحية طويلة. وشقت في داخله قناة، تعلوها ثقوب اربعة، يمكنها التحكّم بها.)

 وكان لابد من لجوء الكاتب لهذا المكان المنغلق (البيت)، حيث (يلعب البيت دوراً مهماً، وهو ظاهرة بارزة في تشكيل عالم الرواية، لذلك ركز الأدباء كثيراً على إنتاج هذا البيت، الذي يعد ركن الإنسان الأول في العالم، على حد تعبير باشلار)[10]، فالبيت رغم عدم التطرق لوصفه كمكان يعكس الكثير من شخصية صاحبته بدلالاته المحتملة، إلا أن صورة الانعزال والانفصال داخله وكأنه عالم البطلة الخاص حيث تبدع هي، مما يعطي للمتلقي ومضة غير مباشرة حول ماهية دور المرأة في مجتمعها، فكان العمل داخل البيت على هذا التمثال بشكله الغرائبي وطريقة صنعه ما يعكس حالة الحلم الذي لا يفتر عن مراودة صاحبته بل ودفعها إلى تجنيد كل وسيلة ممكنة لمساعدتها في مهمتها " ثم اشارت لبعض صعاليك الرجال بكلمات منمقة، واغراءات ساحرة، فجاءوا يتهافتون، رجالا لبقين، يرتلوّن كلاما منافقا، .. ثم طلبت منهم ان ينفخوا في قناة التمثال ويصفّقون له، فصدر منه صفير، راحت تتحكم به عبر الثقوب الأربعة. فاضفت على اصواتهم موسيقى باهتة.. "

إنه تمثال الخواء لا شيء داخله سوى الهواء، يوهم من يسمعه كأنه يتكلم ويغني، أشبه بعجل بني إسرائيل في صناعته وصوته وإغوائه، يتحرك الخواء في هذا الحلم والوهم ليلتقي عند آخر نقطة في النص (نقطة الوهم) "نظرت الى نقطة بعيدة، تطوي الافق في عينيها...ولما حان وقت التحدي، ارادت ان تحمله، لكن ... صعقها خواء حلمها."، تلك النقطة الأخيرة تختلف كثيرا عن النقطة الأولى والتي كانت هي مركزها وسط دائرة حلمها، أما هنا فالنظرة إلى اللاشيء، نظرة بعيدة تفقد مرماها وملامحها على عكس النظرة الأولى، إنه ذلك الوهم الذي تلهث وراءه روحها أشبه بالسراب .

ويتضح من النص دور (الواقع الاجتماعي بالسيطرة الكاملة ومدّ سلطته على آفاق المرأة جميعها، هذا في طرف أوّل، وفي طرف ثان قام الواقع بقدرة فائقة على تحويل هذه المرأة من الحلم إلى الانكسار.. من التمرد إلى اليأس والخضوع والخنوع)[11]، ربما كان حلماً بالشكل الحقيقي المعروف، وربما هو حلم يقظة يتراءى للبطلة، وإنما في كلتا الحالتين كان نصيب البطلة الانكسار والخسار وليس السعادة كمفارقة لاسمها (سعاد) تلك السعادة المتقطعة (قالت: انا، انا (س ع ا د).. لكنه وهم .. وهم)، فكانت سعادة لا تكتمل .

خاتمة:

رغم سهولة لغة النص وتلاحق الأحداث والتي يتتبعها المتلقي بلا مشقة إلا أنه مليء بالانزياحات والدلالات والتي تفتحه على تأويلات مختلفة، فتكون كل قراءة بمثابة إضافة قيّمة للنص، فكثرة القراءات دليل على غنى النص، وهذا قمة الإبداع ... تحياتي لصاحب اليراع .

 ***

دينا نبيل

 24 - 1- 2012

..........................

المراجع:

1- مكونات السرد في النص القصصي الجزائري الجديد: عبد القادر بن سالم، اتحاد الكتاب العرب دمشق 2001 ص 66

2-المصدر ذاته ص 67

3- الطريق إلى النص مقالات في الرواية العربية: سليمان حسين، اتحاد الكتاب العرب، 1997 ص 98

4- المصدر ذاته ص 96

5- مناهج النقد الأدبي الحديث: أ.د. إبراهيم السعافين، د. خليل الشيخ، الشركة العربية المتحدة للتسويق والتوريدات، ط1 2010 ص 133

6- مكونات السرد في النص القصصي الجزائري الجديد ص 273

7- الطريق إلى النص ص 10

8- المصدر ذاته ص 11

9- المصدر ذاته ص 11

10- سيميائية البنية المكانية في رواية " كراف الخطايا ": د.صالح ولعة ـــ الجزائر – مجلة الموقف الأدبي عدد تموز-آب 447-448 اتحاد الكتاب العرب، دمشق

11- الطريق إلى النص ص 14

بطل القصة هو الإنسان المنخرط في المكان و المنغلق فيه وعليه وهو "محميته" التي خلقت عنده أوهام التوازن، إنه يتوجه إلى وعيه بالمركزية والعزلة المركزة،: 

"بعد ان قضى حياته داخل البيوت الرطبة، لا يتنقل الا في الظلام، او بين المقابر" 
بمجرد مغادرته منظومة المكان والزمان الخاصة به يصبحُ في مهب ريح مكان اخر وزمان اخر أو عالم آخر:
"كان مرتبكا حد اللعنة، يتلفت .. منظر لم يألفه،"
استفزته الحيرة"
" كيف يواصل الطريق؟" 
حيثُ الحقائق تختلف تماما والمكان مكان آخر والزمن زمن آخر على الرغم من وهم التشابه الظاهري: 
"بماذا أختلف عن تلك المرأة،
او ذلك الرجل الطويل".
وحيث يحاول استخدام نفس وسائل اتصاله وتفاعله مع واقعه الخاص جدا في المكان الجديد:
"عندما قرر اجتياز المكان، أعدّ بغلته جيدا، سمح لها بتناول ما تبقى من طعام."
وعلى الرغم من محاولته تجديد الوسيلة ولكن هيهات لان وسائله مهما تنوعت هي نفسها وتعود لنفس (الزمكانية) المتحكمة فيه والتي سوف لن تسعفه: 
"اتخذ قرارا مصيريا، استبدل بغلته بحصان، اختاره مطهما، ضمن لنفسه سرعة السير، سألحق بتلك العربة البيضاء،" 
هنا يحدث تصادم (الازمنة والامكنة) المختلفة والمتناقضة وتتجلى حالة الصدمة:
"ما كاد يرمقها ببصره، حتى مرت ثانية سوداء.. توالت بالوانها واحجامها المذهلة تلك العربات الخبيثة،"
"كان مرتبكا حد اللعنة، يتلفت .. منظر لم يألفه،"
"تسمّر في نهاية الطريق،" 
أن التساؤل ينبعث من كل الأشياء عندما تتجمع التناقضات بما فيها ذهن بطل القصة الذي يخيل الى القارئ أول وهلة ان الصدمة المتولدة من التقاء (زمكانين) مختلفين ستولد حالة تطورية ارتقائية تبعا لنظرية "التحدي والاستجابة" التي هي اساس التطور الحضاري حسب" توينبي":
"كلهم متشابهون، مثلي تماما، لا أجد فرقا بيننا،
اذن لماذا اراوح في مكاني.
بدأ يراجع أفكاره، يتفحصها"
" قال: أول الطريق ان أتخلى عن دابتي كي ألحق بركب الشارع الجديد،" 
لكن الصدمة هي العودة الى نقطة الصفر:
"ولما خطى مسرعا، اعاده رباطها الملفوف على رأسه الى حيث كان يعيش":
اذ لم يستطع البطل الاستجابة الملائمة للتحدي؛ فالمنظومة الفكرية التي ركبت رأسه المعتق في زمن سابق ومكان آخر غير قادرة على الاستجابة لزمن جديد ومكان جديد. 
ويطبق المؤرخ البريطاني (توينبي) هذا القانون على قيام الحضارات؛ فظروف التحدي هي التي تدفع البشر للانخراط في مغامرة بناء الحضارة، ولكن فضائل المشقة يجب أن تؤدي دفعها ضمن الوسيلة المناسبة التي تجعل من بعض المبتلين ب"الجمود" ايا كان "نوعه" رموزاً لصدمة تاريخية تحجرية لا أمل في حلحلتها زمنيا طالما كانت المنظومة الفكرية والوسيلية مؤطرة بزمن ومكان خارجين عن المعاصرة .
يبقى نص الكاتب الكبير ماجد الغرباوي نصا جدليا بامتياز لما يحمله من المساس الحي بالتطور الفكري للانسان وجدليته حضاريا.انه نص يتجلى فيه "الوجود والعدم" بامتياز كواقع انساني وفلسفة .
*** 
جلال جاف 
....................... 
قرار ارتجالي / ماجد الغرباوي
  
عندما قرر اجتياز المكان، أعدّ بغلته جيدا، سمح لها بتناول ما تبقى من طعام. 
خطى خطوته الاولى، فاجأه المكان .. طرقات مكتظة، مصابيح تتلألأ، عربات مسرعة، كاد ان يلحق بالأولى، عثرت بغلته، أوشكت أن تسقطه ارضا. 
عاد ثانية الى داره، أسرف في زينتها، في تنوع غذائها، غامر من جديد، كاد ان يختطفه قطار المسافات الطويلة، استفزته الحيرة.
فقد صوابه 
اتخذ قرارا مصيريا، استبدل بغلته بحصان، اختاره مطهما، ضمن لنفسه سرعة السير، سألحق بتلك العربة البيضاء، ما كاد يرمقها ببصره، حتى مرت ثانية سوداء.. توالت بالوانها واحجامها المذهلة تلك العربات الخبيثة،
كان مرتبكا حد اللعنة، يتلفت .. منظر لم يألفه، بعد ان قضى حياته داخل البيوت الرطبة، لا يتنقل الا في الظلام، او بين المقابر.
كيف يواصل الطريق؟
ظل يتمتم، يقارن نفسه بمن حوله
بماذا أختلف عن تلك المرأة،
او ذلك الرجل الطويل.
تفحص المارة، واحدا تلو الاخر، تسمّر في نهاية الطريق، كلهم متشابهون، مثلي تماما، لا أجد فرقا بيننا،
اذن لماذا اراوح في مكاني.
بدأ يراجع أفكاره، يتفحصها
اتخذ قرارا آخر
قال: أول الطريق ان أتخلى عن دابتي كي ألحق بركب الشارع الجديد، ولما خطى مسرعا، اعاده رباطها الملفوف على رأسه الى حيث كان يعيش
........؟؟؟؟؟؟
!!!!!!
  
 

ليس لديها متسع من وقت كزمن نصي أو قصصي فهي لا تريد أن تقف بالوسط - سعاد - بطلة النص والشخص الوحيد المؤكد والأكثر محورية و حضورا، في نص حافات قلقة للأستاذ ماجد الغرباوي..

في فن القص للسرد أولوية، ومكانة في العمل، لامجرد وجوده بل القصد إليه بحيث تبقى هناك حكاية، اي تطور حداثي وتشكيل للوقائع. ومن الواضح هنا ان الحدث مستخفي، يدور بذهن سعاد ويبرز مؤكدا ذاته. وان الوقائع المتخيلة يمكن ان تكون محورا للفعل ..

كثيرا ما تهمل القراءات النقدية المنطق الداخلي للقص، وتنشغل بجماليات بناء النص عن حيثيات حركته وولادته.. ولان أي إبداع لا يمكن أن ينفصل، عن منطقه الحيوي الداخلي .. فالمنطق الحيوي لحافات قلقة كان خارج عن القصد في تجربته، وفي فجيعته في تحقيق حلمه، باعتبار ان العمل الخاضع للقراءة النقدية يحمل مقاييسه النقدية بين طياته، وهو عمل ينظر إليه من الداخل. الكاتب هنا أيضا ينظر اليه من الداخل ويحاول ان يحلل عناصره .. يجرب أن يعيد ترتيب تلك المفككات. فالعمل السردي بالمحصلة هو معمار وتركيب هندسي لغوي، وهذا هو التحدي الأكثر صدمة في العمل الكتابي القصصي، حيث عليه أن يرصد البقعة القاتمة في ذات كل منا ...

في حافات قلقة نلاحظ حضور الواقعية النصية بكثافة (لكنه صارم، لا يجامل .. أعرفه جيدا، هذا ما أخشاه، حقا سيسحق غروري اذا تجاهلني.) هنا الزمن الخطي، الميتي التيولوجي يقتضي الإضاءة على الانا المسرودة بجدية، فهي تفتح التصدير / النص وهي ايضا الخواتيم التي تنغلق عليها نهاية النص من انا موغلة (ثم أفاقت فجأة، وماذا لو انكشفت اللعبة؟؟

نظرت الى نقطة بعيدة، تطوي الافق في عينيها، وابتسمت:

وماذا عن جوقة المطبلين؟ .. هكذا اجابت بثقة عالية.)

في تأكيد على ضرورة أن يقرأ العمل أي عمل إبداعي بعناية، وبكثير من الإكبار دون إقحام زائف، قد لا تتوفر السردية على الواقعية الهادئة بل تتدفق كما لو كانت شكلا من أشكال التداعي، أو تيار الوعي في الروايات النفسية..

(وكلما انتهى أحدهم من مهمته جلست تضحك، تتباهى، تعلوها ابتسامة صفراء، وهي تردد:

سترى .. سترى.)

تتميز حافات قلقة بالإضافة لعناصر السرد بوجود الحدث - (عادت الى بيتها منكسرة، مذهولة .. تحاصرها نظرات الشامتين، وتطاردها كلمات المستهزئين،) الذي يعني قليلا او كثيرا، القيام بمجموعة أفعال متتالية او مجموعة أحداث ووقائع تكون شبكة النص الأساسية، وتقوم بها مجموعة شخوص او فرد ذات سياقات محددة (وقالت: ما علينا الا ان نصّدق اوهامنا، ونجد من يدافع عنها، حينئذٍ ستكون هي الحقيقة في أعين الناس .. أليس أصدق الحقائق أكذبها؟؟). في مقتبل التعاطي لا بد من الإلمام والربط بين أواصرها، والتي يهضمها النص ببساطة لصالح التغيب، وذلك مدعاة إلى طرح سؤال التسمية حافات قلقة فان ما يلفت الانتباه انه تماما واقعية نصية ... في الوصف الواقعية النصية تحتاج الى وظيفة أو ذريعة هي بمثابة المنشط لدخولها النص – (.. لكن هل بمقدورنا ان نصنع انسانا كما نريد؟؟ ). هنا الحافات والقلق إشارة مضاعفة تضعك من أول النص بأجواء الترقب .. انه الطيف الباحث عن حريته او مأوى لروحه وجسده، وهو الوتر المشدود بين صراع الأضداد ليقيم التوازن راصدا مأساته الوجودية ومؤسسا ذاتا فاعلة عن طريق الوعي المكثف للمخيلة، أي الحلم او طابع الحلم الذي تفيق منه فيفاجئك تحول الكون من حولك (ولما حان وقت التحدي، ارادت ان تحمله، لكن ...

صعقها خواء حلمها.)

في حالة توهج بين الانا والعالم يتبدى ما يدعى أزمة النص .. (أمرتهم ان يصطفوا واحدا تلو الاخر، ثم طلبت منهم ان ينفخوا في قناة التمثال ويصفّقون له، فصدر منه صفير، راحت تتحكم به عبر الثقوب الأربعة. فاضفت على اصواتهم موسيقى باهتة..).

أما التحدي الأخر في حافات قلقة فهو ينتمي إلى بنية النص ذاته، من حيث تقشف الشخصيات المسرودة،، السارد هنا فرد وطيفه – سعاد - في شدة ودقة تفصيلاتها وبالاستناد الى الفهم الفردي وتأويل الشخصية الأساسية للنص أباحت للقارئ حرية استيلاد الأفكار وتنوع الصيغ أي ابتكار - أجمل - الموضوع بالأساس لم تضف جديدا فهو يندرج، ضمن عاديات السرد الكلاسيكي محادثة عبر الذات، لكن الرؤية ضمن الشخصية هي من يتجدد ليخلق أشكالا جديدة مختلفة وهذا برأيي مهم، لأنه تأكيد على مفهوم الكشف وقيمته. وثانيا كلما توغلت الشخصية بكشف دواخلها أمامنا عبر السارد البطل الذي هو استمرار في التأكيد على أهمية الجدل

(وماذا عن جوقة المطبلين؟ .. هكذا اجابت بثقة عالية)

يتفق القول السابق مع استخدام الخطاب السردي بمستوى تداول لغوي هو السياق الزمني الذي تنمو فيه الحكاية، والذي ينتمي بالطبع الى فضاء تاريخي محدد وهو هنا تعاقبي، تداخلي أحيانا ومتوازي ببعض مناطقه ودائري او متقطع يربط الأفعال والشخصيات بسلسلة من الأفعال الواقعية بمضمون السرد، أي ساحة الحكاية والحيز المكاني وتداخل سياقاته السردية محكومة أبدا بتاريخ وقوع الفعل هنا. وهواي الكاتب غير مدرك انها الحالة التي تصلح لهذا السياق ..

الطابع العام لكتابات الأستاذ الغرباوي على الرغم من أنها تحتوي على حيوية لا تخلو من كلاسيكية سردية لا يعيب النص بل هو نمط كتابي يتسم بمولدات كثيرة .. هذا طبيعي .. ومن التعسف أن نعتبره شكا بقيمة النص، بل هو يندرج ربما أكثر تحت بند الأدب التمثيلي الواقعي حتى الفهم والتشخيص.

وتأكيدا لثنائية الخير والشر، فلا بطولة مطلقة بل لحظة تجعل من الكائن بطلا، ولا شر مطلق بل جملة أسباب تخلق كائنا مشوها وشريرا - من حاجات الروح لا من حاجات المحيط، لكنها انعكاس له بالتأكيد مهما كانت أشكال حضورها أحلاما، رؤى، مسارات تأمل، او مساحات من الوصف السردي، بشكل ما يوائم بين مرور الفكرة وفكرة الكتابة عنها.

ولكن بطبيعة الحال يجب ان يقع كل ذلك في جوهر العمل ... لا على هامشه. بل ينصهر، في صميم نسيجه ولا يأتي من خارجه بالمعنى الخالص لو جاز التركيب اللغوي لصالح إنضاج الكائن الإبداعي المفترض.

هنا تتجلى حقيقة الكشف الذي يميط اللثام عن حقائق الوجود كخطوة في طريق طويل يحتاج إلى الشجاعة ويحتاج إلى قوة التحدي. عمل يقرأ بتأني وبشفافية مع الذكاء بالأسلوب .. يعري السراب الذي يتعب الساعين خلفه من حيث المقدرة على التعبير عن النفس.

في حافات قلقة مقولة النص تتلخص بان الانتقام ليس حقا من حقوق البشر، وهو طبق لا يفضل تناوله لا ساخنا ولا باردا بل لا يجب بالأصل أن يدخل في مفردات البشر، انما ينبغي استئصاله من قيمة البيئة الإنسانية، وجعله بلا ذاكرة مجتمعية او مكانية.. فلا كائن كامل، ولا خير مطلق، ولا شر منجز، بل هناك ظروف تؤهل لفعل الشر او فعل الخير والمحيط المجتمع بكل مكوناته هو المسؤول أولا وأخيرا عن جميع أفراده.

حافات قلقة نص ينفذ الى داخل القضية الإنسانية والنفس البشرية بكل مناقضاتها ليصور وجها من وجوهها المختلفة، قد يلغي احد الأوجه وجه أخر لكنهم في النهاية يمثلون الحياة كما هي وأحيانا كما يجب لها ان تكون نافذة بسعة الحلم.

 *** 

سمر محفوض - شاعرة وناقدة سورية

من السهل الادلاء بشهادة نقدية بسيطة كالقول .. ان هذا النص رائع .. وذاك النص عميق .. فهذا الحكم وصفي بحت وليس فيه اية رؤية للتقويم.. ان وظيفة الناقد الحقيقية هي كوظيفة الدليل السياحي .. لابد ان يكون الدليل على دراية بكل المثابات التي توصله الى اكثر الاماكن المثيرة للإبهار. فالقاريء العابر قد لايلتفت الى مطبات النص ومناطقه الممتعة والمخيفة معا. دون الاستعانة بدليل حاذق يرشده الى تلك المناطق ..

والنص الحديث قد يحمل إنزياحات مركبة. ودلالات وإحالات متنوعة .. ولكي تصل كلها الى المتلقي .. لابد لها من كاشف مستكشف .. حاذق ونبيل. لا لكي يصحح مسارات الكاتب كما هو شائع او الاقتصار على الإشادة او الذم .. او المدح او القدح .. . بل للأخذ بيد المتلقي لاستكشاف الجديد والمثمر معا.إن كان في الأساليب السردية او المضامين الفكرية ..

يثير نص الاستاذ ماجد الغرباوي مسألة قلما يجري الالتفات اليها من قبل كتاب القصة القصيرة الباحثين عن الجدة والابتكار. فتراهم يلوذون أحيانا بالغموض والتغريب حتى يستعصي فك ترميزات نصوصهم على كبار النقاد. ناهيك عن القاريء العابر .. وترى فئة غيرهم ما زالت تراوح في مضمار السرد التقليدي الذي تجاوزه كبار كتاب فن القصة في العالم ..

نص الاستاذ ماجد واقولها بدون مجاملة .. حاول ان يضرب المثال لعبور هذه الاشكالية في طرائق السرد .. فلم يركن الى الاسلوب التقليدي التعليمي الذي تجاوزه الزمن. ورغم حمولة النص باكثر من قيمة اخلاقية. لم ينسحب الى مطب الوعظ الاخلاقي الصريح والذي تحفل به بعض النصوص فيخرجها من دائرة الفن الى دائرة الكلام السائد .. وهو بالمقابل . لم يقع تحت إغراءات التغريب الغامض العويص. ولم يجعل تأويلات نصه ممتنعة .. عصية ..

أن جهدا نقديا بسيطا يمكن له ان يستكشف رسالة النص .. إن في المضمون. أو السرد .. .يمكن لما يسميه الناقد درايدن .. شهامة النقد .. (نقد الظاهرة) لا نقد النص او (شخوص النص ..) الأستاذ ماجد هنا .. لم يفكر بإدانة بطلة نصه سعاد. رغم الصورة التراجكوميدي التي رسمها لها .. بل هو يضرب في عمق الظاهرة التي افرزت وتفرز عشرات الابطال السلبيين مثل سعاد. ظاهرة تحشيد الاتباع وإن بالمكر والخيانة والدسيسة والايقاع بالآخر .. كذلك نقد ظاهرة صناعة الاصنام في المؤسسة السياسية و الدينية والاجتماعية .. فهناك الاف الاشباه الذين يصنعون ما صنعته سعاد من خلال الزيف والتزييف لتوكيد سطوتهم. وتأثيث خرابنا ..

قد تكون سعاد موهوبة وقد تستحق جائزة ما. وقد يكون المجتمع قد فرط بتقييمها .. لكن اساليبها اللاحقة. قد تتحول الى وبال عليها .. قبل ان تكون وبالا على غيرها. عندها سيغادرها حتى هؤلاء الأتباع الذين انتفعوا مؤقتا من هداياها وإغراءها .. .

النص وفق رؤيتي .. ابعد ما يكون عن الشخصنة. بل هو يعالج ظاهرة. اجتماعية سياسية .. موغلة في العمق تخومها .. .

 *** 

سلام كاظم فرج - أديب وناقد

قبل أن أخوض في إشكاليات النص القصصي (حافات قلقة) للأستاذ الأديــــب ماجد الغرباوي، رأيت أن أسلط الضوء أولا على ملامح أساسية في النــــص استوقفتني قبل كلّ شئ.  أولها ذلك الإيجاز الموحي الذي امتاز به النص، فقــــد تحاشى الكاتب السرد الطويل، الذي يلجأ اليه عادة الكثير من كتّاب القصـــــة والروائيين بما فيهم بعض المشهورين منهم. كان إيصال الفكرة عبـــــر أقصر الطرق هو الهمّ الشاغل للكاتب، الذي حاول بأقل ما يمكن من السطور أن يلحم المضامين ويضعها في إطارها الأخيرمع الحفاظ على عنصر التشويق، الذي يشدّ القارئ الى النص.

الجانب الثاني الذي استأثر باهتمامي هو رمزيّة النص، هذه الرمزيّة فتحت الباب على مصراعيه لتآويل كثيرة وتفسيرات شتّى، وبقيت رغم كلّ تلك التآويل والتفسيرات المحتملة تحتفظ بملمح أساسي لها وهو تنبيه وتحفيز القارئ للبحث عن العوالم والحالات، التي تتقارب من بعضها البعض على قدر نسبة التشابه القائمة بينها، ممّا اعطى للنص تلك الدفقة الحيويّة، التي تستثير مخيّلة القارئ .. بل تستفزّه بشكل هادئ وذكي، فالقارئ ونقصد به القارئ المثقف أمام أمرين لا ثالث لهما: إمّــا أن يرمي بشباك مخيلته على قدر ما يستطيع ليقتنص تأويلا من التآويل وهي كثيرة، وإمّــا أن يلجـأ الى التقييم العام مكتفيا بكشف الجانب الاستطيقي(الجمالي) للنص.

بعد أن اشرت الى هذين الجانبين المهمّين أحاول ان أوضح ما استنتجته من الدلالات بعد أن قرأت النص أكثر من مرّة. من بين تلك الدلالات ذلك الصراع المحتدم بين الوهم والواقع، والذي يظهر جليّا في النص وهو يرمز من ضمن ما يرمز الى التوتر القائم على مرّ العصور بين المبدع والمؤسسة، التي تمتلك النفوذ والقدرات الماديّة. فسعاد بطلة الرواية تمثل الإبداع، فهي تأمل من خلال اعتراف المؤسسة بها أن تحقق ذاتها وبهــذا تكون قد أرضت نفسها وأرضت الآخرين وحققت هدفها المنشود. فهي تطرح نفسها كفاعلة للخير تحرص على الحفاظ على قيم الحق. والحقّ هنا يعني بالنسبة لها أحقيتها بالفوز بالجائزة .

الكاتب يطرح علينا سؤالا مهمّا ولكن دون أن يفصح عنه... فهو يتساءل ضمنيا..

ما هو الخيــر؟ ما هي الحدود الفاصلة بين الخير والشرّ؟ هل ما نعمله نحن ونعتقد انّه خير هو خير في الحقيقة؟ يحاول الغرباوي أن يستثير القارئ من خلال التحوّل المفاجئ في سلوك (سعاد)، فهو يطرح علينا لغزا ويتركنا نفكّر ونراجع تصوراتنا الى الحدّ الذي يجعلنا نشكّ ونقف مشدوهين حائرين حين نواجه قناعاتنا. تبدو شخصيّة سعاد للكثير من القراء على أنها ضحيّة سلوك المؤسسة التعسفي، وانّها لجأت الى اساليب الغدر والمكر والسحر مضطرة لمواجهة المؤسسة، التي هي أقوى منها.

لكن الأمر في الحقيقة غير ذلك... فهي لما فقدت الأمل في الحصول على الجائزة، شعرت بخيبة مريرة و وبدلا من ان تستمرّ في خدمة الإبداع بتجرّد لكي تستطيع أن تستمرّ في الحياة أطول، صرعها وهمها، رغم الطرق والأساليب العديدة (أساليب الإبداع)، التي ابتكرتها لردّ اعتبارها، والتي كانت سببا في نهايتها.

بطلة الحكاية لم يكن عندها الصبر الكافي ولم يكن لها هدف غير تحقيق نوازعها الإنانية، فكان إبداعها سلاحا ذا حدين انقلب عليها فعجّل في نهايتها. لقد كانت متهوّرة ولم تكن شجاعة، فالشجاعة كما يقول الحكماء وسط بين الجبن والتهوّر.

وهي لم تكن فطنة، حيث انّها لم تتبيّن الحدود الفاصلة بين المناصرين والمنافقين، فقد أعماها الحقد والتعطّش للثأر، فاستعانت برجال الخصم، محاولة منها تغيير قواعد اللعبة. لقد حاولت أن تقفز على الواقع فغاصت في وحل المؤسسة، وبدلا من أن يلعلع صيتها، انكفأت على وجهها وأصبحت نسياً منسيا.

في الحكاية عبر ودروس، على القارئ أن يستخلصها بنفسه، وهي فضلا عن ذلك رحلة استكشافية سريّة في أعماق النفس البشريّة تستخدم لغة الرمز وكأنها لوحة من لوحات الرسام السريالي الشهير سلفادور دالي.

 ***

جميل حسين الساعدي - شاعر وروائي

من نافلة القول جميع الشرائع السماوية، وكل التقنينات والتشريعات الوضعية القانونيه تدعو لثقافة التعايش والتسامح بين الاديان والشعوب، ..بالطبع عالمنا المعاصر وبعد الازمات العاصفة بالارهاب في مناطق عدة من العالم يرنو إلى عالمٍ يخلو من العنفِ.. وثقافة القتل.. وتقارب الافكار بالحوار، وإذابة جليد العقد المستعصية بين الاثنيات ..والطوائف.. والاديان في العالم..فهناك مساحات مشتركة بين الانسانية بالايمان بخالق الكون وبعثة الانبياء والعمل الصالح لمنفعة البشرية بكل الاتجاهات الثقافية.. العلمية..الصناعية..الزراعية.. إلخ من الجوانب التي تستوجب التعاون الدولي..

إن ديننا الاسلامي ومن خلال دعوة القرآن الكريم والنبي العظيم محمد –صلى الله عليه وآله- وأئمتنا المعصومين وصحابة المصطفى الابرار قدموا دروساً في الحضارة الانسانية تدعونا للتمسك بتلك القيم، والمثل، والمباديء التي هي نبراس يهتدى بها، ..

فالدعوة الحقة هي السلام، الوئام، التعايش، التعاون، التآخي.. لكن ثقافة القتل هي صناعة الطغاة بأمتياز شرعها ابو سفيان ومعاوية ويزيد والحجاج والسفاح وصدام وبن لادن وجميع من إتخذ الارهاب وسيلة لقمع الحريات..

ففي كتابيه (التسامح ومنابع اللاتسامح .. فرص التعايش بين الاديان والثقافات) وكتابه الآخر( الضد النّوعي للإستبداد .. استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني) وجدت إن الرؤية الثاقبة لتحليل القضايا بشقيها- الماضوية والآنية- تتسم بالعمق، الشمول، التحليل المنطقي للأحداث مع معالجات لنزع فتيل الأزمات، وإستبدالها مفاهيم الحرية الفردية العقائدية وحقوق الانسان وهذا لعمري صميم الاطروحة الالهية في العقائد السماوية..

الشللية التي أصيبت بها الامة من الافكار المنحرفة عن مباديء الرسالة والقيم المحمدية والعلوية والحسينية أحد ابرز انتكاسات العقل المتحرر وبالتالي النكوص والتراجع الحضاري، فيما الامم تخطو سريعاً نحو البناء الحضاري بالتكنلوجيا والعلم والثقافة الحقيقية، فحققت الازدهار والتقدم، أما الضمور الحضاري الذي نشهده بالعودة الى إعتناق أفكار السلف التي تنبع من عقد إقصاء وتهميش المنهج المحمدي الاصيل بإقصاء من يحاول إتباع الحق وعدم مهادنة الباطل والانصياع للطغاة وهذا ماسار عليه أئمتنا الاطهار من إمام المتقين علي بن ابي طالب وسيد الشهداء الامام الحسين –عليهما السلام- والعترة الطاهرة والصحب الابرار بمحاولاتهم إتباع المنهج القرآني بإقامة دولة العدل وإنصاف الفقراء وتحقيق العدالة الاجتماعية ونبذ العنف ..

يطرح الباحث ماجد الغرباوي في المقدمة من كتابه الاول ص11 (لم يبق أمام الشعوب الاسلامية خيار للحد من ثقافة الموت والاحتراب والعداء والاقصاء المتفشية في كل مكان، سوى تبني قيم التسامح والعفو والمغفرة والرحمة والاخوة والسلام، لنزع فتيل التوتر وتحويل نقاط الخلاف الى مساحة للحوار والتفاهم بدل الاقتتال والتناحر، وهو عمل صعب يستدعي جهودا يتضافر فيها الخطاب الاعلامي مع الخطاب الثقافي والديني والسياسي والتربوي......) إن أزمة العقل التفخيخي المدمر التي تمليء عالمنا المعاصر من خلال فتاوى التكفير، ونشر ثقافة الكراهية والاستهانة بجماليات الحياة التي وهبت للأنسان ليحيى بالفكر والعلم والادب والفن تستدعي من طبقة الانتجليستا من نخب ثقافية واكاديمية وعلمائية اشاعتها واقتلاع تلك الروح الشريرة الهدامة التي تزرع الرعب في حياتنا وتحيلها الى جحيم ومأساة وأنين وثكالى وأيتام، بدلا من البسمة على شفاه الاطفال، وخضرة الحقول، وتطور التعليم، وبناء الامة.... في ص22 يكتب الباحث الرائع الغرباوي منابع التسامح (... ان التسامح نسق قيمي وأخلاقي يراد إحلاله محل النسق القيمي والاخلاقي الذي مازال يدير حركة المجتمع ويحدد اتجاهاته، ...)

كذلك يتناول الباحث إن العنف الذي أصبح سمة العصر، وكبت الحريات، والتذلل للحكام الطغاة الذي يقمعون شعوبهم ويحكمون بالتوريث السياسي غير الشرعي، ودون الاحتكام لصناديق الاقتراع..، او من ينصبهم الاستكبار العالمي ويمدهم بمصادر القوة الامنية.. والمخابراتية الاخطبوطية.. لتمكنهم من شعوبهم، وقمع، واخراس كل صوت مناهض لسياساتهم هو ديدن حكام العالم الثالث، ومنطقتنا العربية، فنادرا مانرى ويكاد يستحيل أن يأت حاكم عن طريق الانتخاب ويسلم السلطة ديموقراطياً ودستورياً..

أن يعي المجتمع ونخبه كما أسلفت أهمية ثقافة السلام والبناء يمكن تأسيس دولة حضارية ودولة الانسان وخلاف ذلك لايتم بل تزداد الامور تعقيدا، وتشرذماً وتصبح دولة الطوائف والاحزاب والقوميات هي المرتكز والمحور كما شهدت ساحات كثيرة فعل التقاتل الطائفي كما في لبنان قبل عقود والصومال واليمن ومصر والجزائر والعراق والباكستان والهند وعلى مدار التاريخ البشري حدثت مذابح للارمن والمسلمين والكاثوليك والبروتستانت وحروب دموية خلف ملايين الضحايا في بقاع الارض.. لقد استفادت شعوب الارض من التجارب المرة وخراب الحروب لتحولها الى دفع حضاري نحو العلم والفكر والثقافة والبناء وضد ثقافة العنف والاستبداد السياسي والديني...

في هذا السفر الجميل بالافكار الناضجة والآراء المعرفية التي تساهم بتعزيز أنساق ثقافية في جسد الامة قد كافح من أجلها علماء كمحمد باقر الصدر- ومالك بن نبي- ومحمود شلتوت- ومحمد مهدي شمس الدين -ومحمد الشيرازي - وحسن الصفار - ومحمد صادق الصدر وعشرات من الراحلين الافذاذ ...ولازال المئات من علمائنا ينادون بها لإيقاض الامة من هذا الغول الكاسح بالكراهية، والعنف ضد الآخر شاهدها العالم بأسره وآخرها وليس هو العمل الاجرامي الاخير قتل المسيحيين في العراق بكنيسة النجاة وماسبقها من اضطهداء وظلم وعنف طيلة 35 عاما من الدكتاتورية والجرائم اللاحقة ضد شعبنا بجميع مدنه،

نأمل من تلك المؤلفات القيمة ترسخ مباديء التسامح وثقافة السلام ..

***

صباح محسن كاظم - باحث

 

"تحدّيات العنف" كتاب في التصدّي، ليس بعنف مضاد. الكاتب ماجد الغرباوي الذي له أيضاً "التسامح ومنابع اللاتسامح"، هو عراقي الهويّة والهوى. وعى على محيط كلّه في المظلوميّة. الفرد، تنهال عليه، بكلّ القسوة، هراوات السلطات المتعاقبة المتصلة بالإفراط والتفريط، خصوصاً بالأمن، حتى وقع العراق كلّه، بشراً وشجراً وحجراً، فريسةً تمزّقُ بها أنياب ومخالب، ولا شفقة ولا رحمة. نظرَ بهذه المأساة المتتالية فصولاً وويلات، ولاحظ، أخيراً أيضاً، أنّالعنف لا يُجبه بالردع، وإنما بعنف همجي من الطينة ذاتها أو الثوب إيّاه، أي لا بصيرة، لا زمام، بل وحشٌ كاسر لا يُبقي ولا يُذر. 

من جهات العنف حركات متطرّفة، إنها فيما تدفع الأذى عن ذاتها من عنف مظلم واقع عليها، لا تقيم حرمة لطفل، ولا لامرأة، ولا لعجوز. حركاتُ إعصارٍ ينفجر في الأحياء السكنية، أو في الأسواق العامّة، أو في دور العبادة، فيما لو عقلتْ، كان أولى بها أن تدّخر غضبها لمنازلة جلودة، واعية، مدركة، بصيرة، مع العدوّ المجرم، المستبدّ، الغازي، الحقيقي، لا مع المدنيين، والعزّل، والأبرياء، أو العدوّ المفترَض بسذاجة وغباء، وربّما بشبهة، أسوةً بسيرة الرسول الصادق الأمين في صراعه مع قريش، وكيف نظرَ الرسول في هذا الصراع، وكيف انتهى إليه الفوز حتماً، لتقدّمه فيه بأخلاقه وعظيم بصره وبصيرته. 

القوّة عند الغرباوي هي غير العنف، بما هي مجال أيضاً للإقتصاد والسياسة والثقافة والفن والعمران، فيما العنف هو اتجاه واحد، محدود. القرآن الكريم في عنوان رئيسي له يحضّ على هذه القوّة الحضاريّة، الخلاّقة، ولا يحضّ على العنف العدواني. الشريعة الإسلاميّة، بتأكيد الكاتب أيضاً ودائماً، لا تقرّ المبادأة ظلماً وعدواناً. هي سمحاء، وفيها القاعدة وفيها الإستثناء. القاعدة هي آيات القربى والمودّة والحسنى، فيما الإستثناء هو آية السيف، خصوصاً ما دام القرآن المبين هو مصدر التشريع الأوّل. وعلى رغم ذلك فإن للسيف ضوابط،  حدوداً، قوانين، وإلاّ صار قتلاً وفساداً وإفساداً في الأرض. 

جوهر "تحديات العنف" هو الردّ على متمسكين بالدين، إنما على نحو مجتزأ، مبتور. إنهم يستسهلون حتى مبادأة أبناء جلدتهم ودينهم، وحتى مذهبهم، بالإجرام. يستسهلون التكفير، وليس من ذلك الإسلامُ. 

كتاب "تحديات العنف" وبمنطق يحاول أن يردّ على منطق لا منطق فيه، يردّ مهتدياً أيضاً بأئمّة، منهم مثالاً لا حصراً: جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا، وعبد الرحمن الكواكبي، والسيّد محمّد حسين فضل الله، حيث العقل كثير. 

نأمل ألاّ تكون صرخة ماجد الغرباوي في "تحديات العنف" صرخة في أرض مأهولة كلّها بالرمل.

 ***

شوقي مسلماني  - شاكر وكاتب - استراليا    

أيها الأنسان: لن تستطع الأنتصارعلى نفسك إلا بالتسامح، فهو قادر على دفعك إلى أمام، وإضاءة طريقك، ولفت نظرك إلى مالم تكن ملتفتاً إليه .

التسامح مصطلح غير قابل لأن نتخذ منه مسطرة نقيس به مايقع تحت إطاره من خلافات، فهو أن يصلح في مكان قد لايصلح لغيره، من هنا تأتي أهمية كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح، للباحث الأستاذ ماجد الغرباوي، حيت تناول في كتابه هذان المصطلحان من الجانب المعرفي الذي له مساس مباشر بعقائد الناس، وهذا الأشتغال من أصعب وأخطر الأشتغالات على الأطلاق، حيث يحاول الباحثون عدم الأقتراب منه، بإعتبار له مساس مباشر بإعادة صياغة الخطاب الديني، وإخضاعه لفحص ينسجم وتطور العصر والأنسان، وهذا الفحص لايتم، إلا بالمرور على آيات القرآن الكريم، والتي ترى بعض الواجهات الدينية أن المرور بها من غير طريق الفقهاء، غيرمسموح به، ولذلك يتجنب الكثير من الباحثين تسليط الضوء عليها، لما يشكله هذا الضوء من خطورة في كشف حقائق غير معلنة .

لقد حسم الكتاب منذُ البداية، في كشفه، من أن مصطلح التسامح، يعني الأنفتاح على الآخر، معرفياً، وعلمياً، وثقافياً، وعقائدياً، وهذا لايتحقق، مالم نتخلى عن الكثير من الأعتقادات الخاطئة التي تقلص فرص التعايش السلمي

مثلما يدعونا، لإعادة النظر، في تفسيرالآيات القرآنية، على ضوء الكشوفات العلمية الهائلة، والثورة المعرفية المعاصرة، لكشف وجهها المخبوء الذي يدعو للرحمة، ليدعم الباحث فيها فرضياته، ويعزز بها فرص قبول كشوفاته .

يقول الغرباوي : لم يبق أمام الشعوب الأسلامية خيار للحد من ثقافة الموت والأحتراب والعداء والأقصاء المتفشية في كل مكان، سوى تبني قيم التسامح

والعفو والمغفرة والرحمة والأخوة والسلام لنزع فتيل التوتر .، وتحويل نقاط الخلاف إلى مساحة للحوار والتفاهم ــ .

أنها دعوة لدراسة علوم الأديان، والأطلاع عليها، ومقاربتها مع مانؤمن به، لإستخلاص نتائج من مفرداتها، وطروحاتها، ورؤاها، والتي تلتقي في نهاية الأمر، بذات الطروحات، والمفاهيم، والرؤى، التي نؤمن بها، والتي تشكل عامل مشترك لجميع الأديان، حد وصول التطابق في الطقوس الدينية، في الكثير من الممارسات .

وعليه يجب أن نعترف أننا لسنا الوحيدين الذين نعيش على هذا الكوكب، وإنما هناك بشرٌ آخرون يشاركوننا هذا المشترك، وليس من بدٍ للتعايش السلمي ألا بخلق ظروف طبيعية تنظر بإحترام لرؤاهم، وبهذا الأنفتاح وحده، نستطيع أن نقلص نقاط الإختلاف .

أن دعوة الباحث الأستاذ ماجد الغرباوي : لمراجعة الذات ونقدها، والوقوف على مواضع الخلل فيها لتقويمها ومعالجتها ــ نابعة من إيمانه المطلق بقدرة الإنسان على خلق المستجدات التي من شأنها أن تعيد تأسيسه، وتحذف الكثير من المصطلحات القديمة الموروثة بعد أن يكتشف، أن المفاهيم القديمة بدأت تحد من قدراته، وطاقاته، سواء الفكرية منها أو الجسدية، مثلما يكتشف أنها بدأت تقلص فرص إستفادته من العلوم والمعارف التي تنتجها الحضارات الأخرى المنتمية لدين غير دينه .

ألم يدعو القرآن الكريم الأنسان، إلى النصح، والمعرفة، والعلم، وتقصي الحقائق في الكثير من آياته ؟ .

لقد وقف الغرباوي طويلاً أمام قيم اللاتسامح بأعتبارها ركيزة بحثه المهم، فهو يرى أن لافكاك من العنف الذي يتولد عن اللاتسامح إلا بتفكيك مفاقسه، إبتداءً من البيت إلى المدرسة ومن ثمة العشيرة وإنتهاء بالمنظومات الدينية التي تمجد العنف وتدعو إليه وصولاً للتخلي عن العادات والتقاليد المتعارضة وقيم المدنية .

لابد من الإشارة الى أن العنف لايشمل الدين الأسلامي فحسب وأنما لعبت الأديان الأخرى دوراً مهماً في تبني ورعاية مفاهيمه إبتداءً من محاكم التفتيش في أسبانيا والتي كانت تطارد المسلمين واليهود من أجل تغيير دياناتهم وليس أنتهاءً بالحملات التبشرية التي رافقت الحملات العسكرية ناهيك عن العنف العرقي إبتداءً من فلسطين وليس أنتهاءً بالبوسنة والهرسك .

وهذا عامل آخر قام بتأصل العنف الدموي لدى المتطرفين في الأسلام فيما بعد .

يقول الأستاذ الغرباوي في كتابه القيّم : يعتبر التطرف الديني أخطر منابع اللاتسامح، لتلبسه ببعد شرعي وتوظيفه للنص الديني، وسرعة تصديقه من قبل الناس، وقدرته على التخفي والتستر تحت غطاء الشرعية والواجب والجهاد والعمل الصالح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ــ .

هل يعني الجهاد في المفهوم الإسلامي إشعال حروب في المدن، والشوارع، وبيوت الله ؟ .

فإذا كان الجهاد لإصلاح الخطأ، فالخطأ موجود في كل مكان، حتى في نفوس أولئك الذين يدعون إليه، ليس هناك أحد معصوم من الخطأ سوى الله .

أليس هناك لغة أخرى للجهاد إذا كانت النية لإصلاح الخطأ وإشاعة العدالة، كلغة الحوار، المكاتبات، النصح، الإرشاد، المناظرة ـ وإلى آخره من الجهادات التي تعبر عن نصاعة وجه المجاهد وليس قبحه ؟ .

أليس من أولويات الجهاد الوقوف على الشرائع السماوية التي جاءت بها الأديان الأخرى، لتفحص خطابها وتقليبه من أوجه عدة، والتعامل على المشتركات التي تضع المجاهد أمام إختبار قدراته العقلية، وعلى إستيعابه تلك المشتركات والأيمان بها، بأعتبارها صادرة من سراج واحد كما جاء في القرآن الكريم ؟ .

أن المحنة تكمن كما أشار الباحث في رجل الدين الذي يعطي غطاءً شرعياً لممارسة العنف، من خلال إصدار فتاوي التكفير، والتصغير، والإلغاء .

لقد حاول الكثير من الباحثين فصل كلمة أصولي عن كلمة متطرف وحذروا من جمعهما بإعتبار أن للأصولي دور فقهي خالص لايمت للإرهاب بصلة، فيما المتطرف يشكل خطر على غيره وعلى الإسلام الذي ينتمي إليه .

أن هذا الغطاء الشرعي وبمرور الزمن حول التطرف من رغبة إلى غاية جهادية تمثل ركناً مهماً من أركان الإسلام، وطبعاً هذا إعتقادٌ خاطيء لايمت للدين الإسلامي بصلة، بعد أن تحول إلى تهديد إجتماعي، وإنساني، ومعرفي،ثم تحول من ملاحقة دم إلى ملاحقة فكرة ودم .

إذا كانت حجة المجاهد تعرض الإسلام إلى ضغوطات وملاحقات وإلغاء، فالجهاد لايأخذ برجليه الأخضر واليابس بل يقع على المعتدي، ولكن الذي يحدث الآن أن الناس تقتل في الشوارع والأسواق ومكانات التبضع وفي مجالس الأعراس، ومجالس الفواتح، في السيارة، في الطريق، فأي جهاد هذا ؟ وضد من ؟ إذا كان جميع الضحايا من الأبرياء المسلمين وغير المسلمين.

هناك في كتاب الباحث المجتهد الأستاذ ماجد الغرباوي محطات مهمة تناولت إضطهاد المرأة والسعي لإلغاء دورها الحضاري والمعرفي .

القبيلة ومساهماتها السلبية في تفعيل ونمو العنف لدى أبناء القبيلة، ولم يغفل الباحث الفلسفات الدخيلة ودور الكتب التربوية المستوردة من بيئات غريبة ومدى تأثيرها وأثارتها للنعرات والتطرف، وأشار بوضوح إلى المجموعات المرتدة في الإسلام،. ومن أخطر النقاط التي أشار إليها الباحث هي آيات التسامح وآيات القتال وكأنه أراد أن يؤكد ماذهب إلية هيجل حين قسم الآيات إلى مدنية ومكية، معتبراً أن الآيات المكية آيات تدعو لمحاورة الأنسان وأثارة دايلوك معرفة نفسه والكون وتحفيزه على إعادة النظر في مبادىء القسوة والعنف التي كانت تطبق في الصحراء، فيما الآيات المدنية إتصفت بالعنف ومحاولة إلغاء الأخر .

وعرج الباحث على تعدد المرجعيات وتباين القراءات والفهم بحسب الفقهاء وقابلياتهم وثقافاتهم وفهمهم للأحداث والقضايا الساخنة والمصيرية، ومدى إستجاباتهم لضرورات الزمان والمكان .

الكتاب غني ومليء بالموضوعات المهمة، وليس من صالحه وأنصافه قراءة بهذا الحجم القصير، فهو يستحق تأمله والوقوف أمامه طويلاً، وتحليله تحليلاً علمياً ومعرفياً .

مكي الربيعي

سيدني / إستراليا

من اشد ما واجهه الفلاسفة والمصلحون والمفكرون ومن قبلهم الانبياء والرسل، هو تغيير عادات وتقاليد المجتمعات وقيمها الموروثة واحلال قيم جديدة بدلا منها، خصوصا اذاكانت هذه العادات قد ترسخت عبر قرون من الزمن، فعسير جدا ان تنتزع الانسان من موروثه وما الفه من عادات وتقاليد وقيم تشكلت عبر الزمن ثم تستنبت قيما اخرى جديدة وتحلها محلها، ولهذا كان عمل المصلحين والمفكرين شاقا والعبء الذي تحملوه في سبيل ذلك كبيرا والتضحيات التىقدموها جساما، فقد لاقوا من مجتمعاتهم العنت والقسوة والحرمان والسجن بل والتنكيل بهم كما نرى ذلك جليا في تاريخ المجتمع البشري، لقد كانوا يتحاشون وضع اسمائهم على مؤلفاتهم في زمن حياتهم خوفا من بطش السلطة الدينية والسياسية آنذاك ؛

ومفهوم التسامح بما يحمل من معنى  قيمي هو جديد على ساحتنا العربية والاسلامية  التي تعج بالتعصب بكل ابعاده والعنف والاستبداد السياسي والديني واقصاء الاخر المختلف دينيا اومذهبيا او عرقيا بل محاولة الغائه تماما، وهو جديد على مجتمعاتنا  التي تسيطر عليها جماعات التطرف الديني نتيجة لتوظيفها للنصوص الدينية بما يخدم مصالحها، لان التسامح بمفهومه الجديد يعبر عن حق اصيل من حقوق الانسان، حقه في اختيار العقيدة والفكر والتعبير عن آرائه بكل حرية ويعني فيما يعني قبول الآخر المختلف دينيا او مذهبيا او عرقيا اوفكريا  وعدم اقصائه  او الغائه يعني التعايش السلمي بين  مختلف الديانات والملل والاعراق ، وبعبارة اخرى يعني نبذ التعصب بكل مظاهره وابعاده ولا يخفى على احد مدى الحاجة الماسة لمجتمعاتنا العربية والاسلامية للتسامح وخصوصا في ظل الظروف الراهنة  التي ادت فيها سيطرة الفكرالاحادي الالغائي على ساحتنا العربية والاسلامية الى ما نراه من  تقاتل وتطاحن طائفي مؤلم ومن ثم اشاعة  الثنائيات البغيضة عبر فضائيات الكراهية فهناك دار شرك ودار ايمان ودار كفر ودار اسلام فسطاط كفر وفسطاط ايمان الى ان اصبح القتل على الهوية وما يجري في العراق وافغانستان وباكستان دليل صارخ على سيادة منطق التعصب والعنف والاقصاء بل الاستئصال والالغاء.104 tasamoh2

من هنا تأتي اهمية كتاب "التسامح ومنابع اللاتسامح فرص التعايش بين الاديان والثقافات"  لللباحث والكاتب القدير الاستاذ ماجد الغرباوي  كتاصيل لهذا المفهوم ومحاولة لتبيئته، اي نقله من بيئته التي ولد فيها  واستنباته في بيئة اخرى، وهي مسألة ليست هينة بل تحتاج الى تظافر جهود وعمل توعوي وثقافي متواصل لغرس هذه النبتة الجديدة  وتعاهدها  حتى تؤتي ثمارها، ونحن عندما نقول ان هذا المفهوم بما يحمل من مضامين حديثة تعتبر جديدة على  بيئتنا الفكرية العربية لا ننفي  وجوده بمعناه الاخر الذي يتضمن المنة والتفضل،لان التسامح كمفهوم يحمل قيمة اخلاقية تتناسب مع مضمون الكلمة لغة لان التسامح في اللغة هو التساهل  والجود يقال فلان سمح اي جواد فالتسامح كان يدل على  تنازل الشخص عن حقه تكرما ومنة،  لكن هذه الدلالة – كما يقول المؤلف- "تطورت بفعل التنظير الفلسفي لتتحول الى جزء من واجب تفرضه الحرية الشخصية التي يراد لها ان تكون متساوية بين الجميع، فلكل فرد حقه في الاعتقاد وحقه في التعبير عن رأيه، وليس هناك ما يبرر احتكار هذا الحق لجهة دون اخرى، فقبول الآخر وفقا لهذا الرأي ليس منة وانما واجب تفرضه الحرية الشخصية "

وقد ولد مفهوم التسامح في العالم الغربي نتيجة  حاجة ملحة كما هي حاجتنا في مجتمعاتنا الى اشاعة هذا المفهوم  وهي حاجة كان يفرضها الواقع المؤلم الذي كان يعيشه آنذاك ش من صراعات سياسية وحروب دينية وعرقية  وتعصب ديني وطائفية ،  وقد كتب الفيلسوف الانجليزي جون لوك في اواخر القرن السابع عشر عندما كان هاربا الى هولندا   "رسالة في التسامح"  ضمنها المعاني الجديدة لهذا المفهوم، والعجيب انه لم يجرؤ أن يضع اسمه على هذه الرسالة خوفا من بطش السلطة الدينية والسياسية الا قبل وفاته بمدة قصيرة  ؛ثم استمر التاصيل لهذا المفهوم الى ان أصبح قيمة مهمة كما نراها اليوم في المجتمعات الغربية ؛

واضافة للحديث عن التسامح بمعنا ه المعاصر من حيث دلالاته ومساحاته التي يشملها  تحدث المؤلف عن الاسباب التي تحول دون اشاعة هذا المفهوم في مجتمعاتنا الاسلامية وقد عبر عنها بمنابع اللا تسامح وهي سيادة منطق العنف والاحتكام اليه لا الى القانون فقد  اعتبر في كثير من مجتمعاتنا  قيمة اساسية فالقوي يهاب ويبجل ويحترم لقوته وهوقوة فاعلة ومؤثرة في وسطه الاجتماعي بل  تحول العنف الى منهج في تفسير التاريخ وقراءة الاحداث،ومن هذه المنابع الولاء القبلي وما يسببه من صراعات عشائرية واحتكام لقيم القبيلة،وعدم الولاء للقانون والدولة،ومنها سيطرة القيم الموروثة والعادات والتقاليدوما تلعبه من دور في تشكيل وعي الفرد ثم المجتمع؛ ومنها الاستبداد السياسي الذي يعتبرالخصم الرئيس للتسامح لان الاستبداد السياسي يعني رفض الاخر وتهميشه لذا لا يمكن التوفيق بينهما،ومنها التطرف الديني الذي يعده المؤلف اخطر منابع اللاتسامح على الاطلاق وذلك لانه يوظف فيه النص الديني  فهو يمارس تحت غطاء شرعي كالجهاد والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرهما من العناوين الشرعية ؛

وبالرغم من تاكيد الديانات والشرائع السماوية على المحبة والعفو والرفق والمواساة وما اليها من اخلاق، الا  ان اغلب الحروب  والصراعات عبر التاريخ كان طابعها دينيا،فلا نعدم ان نجد  نصوصا في الديانة اليهودية والمسيحية  والاسلام  تتحدث عن محبة الاخر واحترامه والمساواة بين الناس والعدل والرحمة  بل هذه النصوص ليست قليلة في الشريعة الاسلامية الا اننا نرى ان الحروب في الغالب قامت باسم الدين  وبحجة الدفاع عنه، وهذا يعني توظيفا سيئا للنص الديني وتغييبا متعمدا لنصوص العدل و الرحمة والمحبة والمساواة والصفح ومقابلة الاساءة بالاحسان وغيرها، وهذا ما اشار اليه المؤلف عند الحديث عن بعض النصوص الموضوعة كحديث الفرقة الناجية وكيف وظف توظيفا سيئا عبر التاريخ وهو من الاحاديث الضعيفة جدا، في المقابل تم تغييب كم هائل من نصوص التسامح والعدل والرحمة والعفو بحجة النسخ وهي حجة واهية لاتصمد امام النقد ؛

ان مفهوم التسامح بما يتضمن من حمولة دلالية جديدة ليس آبيا على التطبيق لاننا نعيش بين ظهراني مجتمع- المجتمع الاسترالي - بالرغم من تعدد الاديان فيه والثقافات والتجمعات الاثنية الا ان الجميع يعيشون في ظل هذا المفهوم فلا اقصاء للآخر ولا تمييز عنصري او ديني،الكل يستطيع ان يعبر عن رايه  ويعتنق العقيدة التي يقتنع بها بكل حرية ولا عبرة بالشاذ النادر .

***

عاشور البدري

.....................

* بمناسبة حفل توقيع كتابي التسامح ومنابع اللاتسامح وتحديات العنف لماجد الغرباوي، في سيدني – أستراليا.

30-9-2010

جوهر الردّ على إسلام يأكل كبد إسلام حاضر يمكن العثور عليه بيُسر في القرآن الكريم، إلاّ أنّ الذين يكرهون الآخر ولا يقرّون وجوداً له لا طائفيّاً ولا مذهبيّاً يرون لمسافة محدودة أنّ آية القتال،  ولا يجوز تسميتها بآية الجهاد باعتبار أنّ "الجهاد" أوسع وأشمل وأبعد وأعمق من "القتال"، يرون أنّ آية القتال موافقة لكلّ زمان ومكان. أو الصورة هي أنّ القرآن الكريم أصله في الرحمة والعفو والغفران والتسامح والمحبّة والإعتراف بالآخر، وأكثر ما يتجلّى هذا الأصل في السور المكيّة التي استغرق نزولها ثلاث عشرة سنة، فيما العابر هو ما استجدّ حيث أغلظ الشرك للإيمان الناشىء واعتزم أن يستأصل شأفته. وما الواقع الممزّق الذي تُزهق فيه الأرواح في معظم العرب والمسلمين ومنهم العراقيين إلاّ لأنّ الفهم المعاكس هو السائد.

ولكي تعود المياه إلى جداولها ويعمّ الخير لا بدّ من تفكيك خطاب الفهم المعاكس وإثبات أنّه متهافت، وهذا بالضبط ما يطمح إليه ماجد الغرباوي في كتابه "التسامح واللاتسامح ـ فرص التعايش بين الأديان والثقافات" الذي صدر في بغداد عن مركز دراسات فلسفة الدين ضمن سلسلة "ثقافة التسامح".

ويتعمّق الكاتب في مفهوم التسامح مقِرّاً أنّ التسامح يفترض يداً أعلى من يد لكنّه في آن مقيّد بالفهم المعاصر لناحية قبول الآخر كما هو وعلى ما هو ومن يكون وأينما يكون وعدم الإنقطاع في الحوار من مدخل التكامل وليس من مدخل الهداية التي تفترض أن الواقف على الضفّة الثانية هو كافر، وليس إذا اهتدى فله وإذا لم يخلع عنه الضلال فليس هو على ما لم يخلع وحسابه هو في العالم الآخر كما جوهر الكتاب، بل يجب أن يستعدّ لحرب ضروس تسيل فيها النفوس.

ويطلّ الكاتب على مفهوم المواطنة الذي يليق بالوطن الحقّ حيث الناس كأسنان المشط في الحقوق والواجبات بغضّ النظر عن أي هويّة أخرى بالوراثة أو بالإختيار، أي على عكس القبيلة مثالاً لا حصراً التي لا تقيم وزناً للكفاءة وتُقدِّم اعتبارات لا سلطان فيها لكي يتصدّر المتصدِّرون ومنها اللون والعرق أو الدم أو النسب.

ويقف الكاتب من حديث الفرقة الناجية موقفاً، فهو لا يراه إلاّ موضوعاً ولا سويّة فيه ويؤسّس لاحتراب ظالم لا نهائي وهو الحديث الذي لم يرد لا في خزنة صحيح الإمام البخاري ولا في خزنة صحيح الإمام مسلم ويتطيّر منه العلاّمة السيّد محمّد حسين فضل الله الذي يقول في معرض التطرّق إليه: "لم يثبت عندنا صحّة هذا الحديث من جهة السند فلا مجال للإعتماد عليه كما أنّ دلالته قد تخلق بعض المشاكل المعقّدة باعتبار كلّ فرقة ذاتها بأنّها الإسلام وغيرها الكفر أو أنّها الهدى فيما الآخرون هم الضلال".

وزبدة كتاب "التسامح واللاتسامح .." هي نبذ العنف بكلّ أشكاله وأخصّه الدموي. والحقّ أنّ الكاتب راسخ في ثقافته الإسلاميّة التسامحيّة حتى أبعد آفاقها ولا يخشى معها ومع الإسلام الحضاري ومع الله تعالى لومة لائم ويقارب موضوعه بجلاء من أكثر من ناحية ولا تعوزه كفاءة الإستشهادات من الكتاب الكريم والسنّة النبويّة الشريفة والصحابة رضي الله عنهم والتاريخ والوقائع ومنطق العقل المعاصر. إنّما تبقى ركائز: هل النزاع حول النصّ المقدّس أم في ما يمكن أن توضع اليد عليه؟ هل هو في التفسير والتأويل أم في تضادّ المصالح؟ ماذا عن واقع أنّ مصلحة الحكّام في اختلاف المحكومين؟ ما هو دور الإحتلال في تأجيج الفتن وانقلاب الحال إلى أسوأ منقلَب؟ وأسئلة أخرى يكون الجهد معها أيضاً في المحلّ العالي.

    ***

شوقي مسلماني - استراليا

...................

كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح ... فرص التعايش بين الاديان والثقافات، صدر بطبعتين، الاولى عن مركز دراسات فلسفة الدين / بغداد .. والطبعة الثانية عن مركز الحضارة في بغداد ودار العارف في بيروت.

في‌ ضوء القراءات‌ المتعددة‌ للواقع‌ الراهن‌، يبقي‌ الوعي‌ هو الاسّ في‌ معادلة‌ الصراع‌ القيمي‌ الحاضر، والذي‌ يجب‌ علي‌ كل‌ باحث‌ اسلامي‌ ان‌ يستلهم‌ اشعاعاته‌ ويتمثل‌ أبعاده‌ ويعيد صياغته‌ من‌ أجل‌ القضية‌ الاساسية‌ التي‌ يواجهها في‌ مهمته‌ الشاقّة‌،  وهي‌ مهمة‌ التجديد والاصلاح‌ والنهوض‌ بالواقع‌ الذي‌ يعيشه‌  الشرق‌ والعالم‌ الاسلامي‌ ازاء مقولات‌ كابحة‌ وتقليعات‌ مدّمرة‌ لا زالت‌ في‌ توالد مستمر تكرّس‌ نزعة‌ الهيمنة‌ وتستعين‌ بتطورها المادي‌ الهائل‌  من‌ أجل‌ استعباد الشعوب‌ وتغليب‌  الاحادية‌ والفردانية‌ في‌ التفكير  والمنهج‌ السياسي‌.

 وبهذا الصدد يجي‌ كتاب‌ الاستاذ الباحث‌ ماجد الغرباوي‌: اشكاليات‌ التجديد، كدراسة‌ تتوغل‌ في‌ عمق‌ المشكلة‌ وتغوص‌ في‌ القاع‌ لتكتشف‌ وتثير وتحاور من‌ أجل‌ تحليل‌ داخلي‌ معرفي‌ للاسس‌ النظرية‌ التي‌ تتعكز عليها كل‌ من‌ الرؤية‌ الاخري‌ النازعة‌ للهيمنة‌ والتفرد، والرؤية‌ المقاومة‌ المتمثلة‌ للوعي‌ وعقلنته‌ لاثبات‌ الوجود والهوية‌ المعاصرة‌.

 تتوزع‌ الكتاب‌ فصول‌ ثلاثة‌:

 الوعي‌ الراهن‌.

 احياء الفكر الديني‌.

 الموقف‌ من‌ الاستبداد.  

 الوعي‌ بالتجديد

 يتطرق‌ المؤلف‌ في‌ الفصل‌ الاول‌ الى‌ محورية‌ دور الوعي‌ في‌ التجديد مشخصاً الواقع‌ الراهن‌ علي‌ ضوء تداعياته‌ الخطيرة‌ المماثلة‌ لتداعيات‌ الواقع‌ التأريخي‌ السابق‌ على‌ عصرنا، فيكتشف‌ المؤلف‌ المماثلة‌ في‌ ارهاصات‌ ذلك‌ التداعي‌ وعلله‌ الاساسية‌ والمتمثلة‌ في‌ غياب‌ حالة‌ الوعي‌ تجاه‌ الفكر والعقيدة‌ والحكم‌ الشرعي‌ والمنبسطة‌ سلباً في‌ اتجاهين‌ رئيسيين‌: عدم‌ التمييز بين‌ ماهو الهي‌ وما هو بشري‌، وعدم‌ التمييز بين‌ ماهو مقدّس‌ وماهو غير مقدّس‌. وهو بذلك‌ يتوخى‌ طريقه‌ لرسم‌ آلية‌ منهجية‌ بعيدة‌ عن‌ افرازات‌ الذهن‌ البشري‌ المحدود او الملغوم‌ بظروفه‌ الخاصة‌ وصولاً الي‌ (اسلوب‌ الامام‌ علي‌ (ع‌) في‌ تعميق‌ الحس‌ النقدي‌ لدي‌ آحاد الامة‌، الذي‌ بعث‌ فيها الحياة‌ وأعاد لها شخصيتها حتي‌ قال‌ معاوية‌ بن‌ ابي‌ سفيان‌ في‌ وصف‌ هذه‌ الحالة‌. مخاطباً أهل‌ العراق‌: (لقد لمظكم‌ علي‌ بن‌ أبي‌ طالب‌ الجرأة‌ علي‌ السلطان‌ وبطي‌ ما تفطمون‌).

 وهذا عند المؤلف‌ هو الكفيل‌ بالارتقاء الفكري‌ للفرد بعد ان‌ تتجسّر  العلاقة‌ بين‌ الامة‌ ومصادرها الفكرية‌ والعقيدية‌ من‌ الكتاب‌ والسنّة‌ ليتشكل‌ بعد ذلك‌ تيار ضاغط‌ يهدد النزعات‌ الشخصيّة‌ ويرسم‌ اتجاه‌ حركة‌ الدولة‌ والقيادة‌.

 ثم‌ يدخل‌ في‌ صلب‌ موضوعة‌ الكتاب‌ (التجديد) ويتوجس‌ من‌ مخاطرها لانها عبارة‌ عن‌ تقويم‌ الواقع‌ و(اعادة‌ صياغة‌ بنية‌ الفرد المعرفية‌ وفقاً لمتطلّبات‌ الحاضر وضرورات‌ المستقبل‌، وفي‌ اطار الثابت‌ والمتغير من‌ الدين‌)  .

 وهو ـ مع‌ هذا ـ يحثّ المفكر الخبير لخوض‌ غمار المعترك‌ وايقاد شعلة‌ الهّم‌ التجديدي‌ في‌ دواخل‌ ضمير الامة‌، لانه‌ ـ التجديد ـ حاجة‌ يتطلبها طبيعة‌ الظرف‌ الراهن‌ وهو يحوي‌ هذا التحول‌ المعرفي‌ الهائل‌ الذي‌ كلما تقدم‌ يوضح‌ بصورة‌ أكبر معركة‌ متبنيات‌ وآليات‌ التجديد والنهوض‌ لدى‌ الشرق‌ حيث‌ ينقسم‌ الى‌ متغرّبين‌ وسلفيين‌ واصلاحيين‌، وهنا تلتقي‌ مقولة‌ التجديد بالثقافة‌، فيعرّج‌ المؤلف‌ لمصطلح‌ المثقف‌ ويحدد عناصره‌ بثلاث‌:

 1 ـ المعرفة‌: وهو الخزين‌ الثقافي‌ الضروري‌ لنقد الواقع‌ واصلاحه‌ يمكنّه‌ من‌ قراءة‌ التراث‌ الاسلامي‌ والنص‌ القرآني‌ قراءة‌ كاشفة‌ عن‌ الابعاد والمداليل‌ والايحاءات‌ والفروقات‌ بين‌ ثوابته‌ ومتغيراته‌.

 2 ـ الوعي‌: وهو غير المعرفة‌ المتراكمة‌، بل‌ اضاءة‌ لفضائه‌ المعرفي‌ تحركّه‌ لنبذ المظاهر المتخلّفة‌ والمفاهيم‌ المقلوبة‌ وبكلمة‌ هو ادراك‌ الواقع‌ ومحاكمته‌، وبدون‌ الوعي‌ ـ كما يقول‌ ـ لا تتحرك‌ في‌ المثقف‌ دواعي‌ التجديد وهموم‌ الاصلاح‌. ثم‌ يذكر الامام‌ الخميني‌ كنموذج‌ انتج‌ وعيه‌ ادخال‌ عنصري‌ الزمان‌ والمكان‌ في‌ العملية‌ الاجتهادية‌ ارتقت‌ به‌ الي‌ مستوي‌ عصري‌ راقٍ.

 3ـ الموقف‌: وهو العنصر الاساس‌ في‌ بلورة‌ مفهوم‌ المثقف‌ في‌ العصر الحديث‌، وهنا يتساءل‌ المؤلف‌ بشجاعة‌: ماذا يترتب‌ على‌ المعرفة‌ والوعي‌ اذا لم‌ يتحولا الى‌ موقف‌ شجاع‌ يعلن‌ علي‌ رؤوس‌ الاشهاد، وينفع‌ في‌ اصلاح‌ واقع‌ الامة‌؟

 ويخلص‌ من‌ ذلك‌ كله‌ الي‌ ربط‌ المسألتين‌ معاً (التجديد والثقافة‌)  ربطاً جدلياً منتجاً، يتجه‌ نحو اصلاح‌ الانساق‌ الثقافية‌ بعد تفكيك‌ مكوناتها ثم‌ مراجعتها بغية‌ تقويمها وفق‌ صياغة‌ تخدم‌ مصالح‌ الدين‌ والامة‌ معاً.

 وكنموذج‌ للتجديد يتطرّق‌ المؤلف‌ لمدي‌ اهمية‌ الصياغة‌ الجديدة‌ لعلم‌ اصول‌ الدين‌ الذي‌ تطوّر نتيجة‌ بعض‌ السجالات‌ الفكرية‌ حول‌ العقيدة‌ الى‌ علم‌ كلام‌، والذي‌ أفرز جملة‌ من‌ السلبيات‌ اختزلتها مقولة‌ عزلة‌ الانسان‌ وعقيدته‌ عن‌ حياته‌ ومنهجه‌ السلوكي‌ في‌ المجتمع‌، فصار الانسان‌ بفعل‌ هذه‌ العزلة‌ غريباً عن‌ منهجه‌ القرآني‌ وفطرته‌ وصارت‌ العقيدة‌ تدور حول‌ مجموعة‌ من‌ المفردات‌ والابحاث‌ الكلامية‌ التي‌ انتجت‌ شرخاً كبيراً في‌ ما بين‌ اصحاب‌ العقيدة‌ الواحدة‌ فتشكّلت‌ الفرق‌ وتقاطعت‌ الافكار، وادّى‌ ذلك‌ كله‌ الي‌ رفد بوتقة‌ السياسات‌ المستبدة‌ واعانة‌ اصحاب‌ الاهواء والمصالح‌.

 ويناغم‌ الكاتب‌ بطريقة‌ ايحائية‌ اطروحة‌ علم‌ الكلام‌ الجديد الذي‌ يهدف‌ الي‌ اكتشاف‌ جوهر العقيدة‌ الاسلامية‌ وحقيقتهاالمتمثلة‌ بالعودة‌ الي‌ المنهج‌ القرآني‌ الذي‌ يمنح‌ الانسان‌ دوره‌ الفاعل‌ في‌ بناء الحياة‌ ومواكبة‌ التطوّر الحضاري‌ لتبقي‌ العقيدة‌ واقعاً متحركاً مبدعاً يواجه‌ التحدّيات‌ ويواكب‌ المستجدّات‌ ويشبع‌ التطلعات‌ ويسمح‌ بالاجتهاد وتبادل‌ وجهات‌ النظر وفق‌ منهج‌ علمي‌ منتج‌ ومبشّر بكل‌ ماهو جديد.

 وفي‌ ذات‌ الفصل‌ يستعرض‌ الاستاذ الغرباوي‌ الجذر التأريخي‌ لاشكالية‌ الحوار مع‌ الا´خر كمرحلة‌ اولي‌ تهي‌ الوسط‌ الناقل‌ للفكر  والفكرة‌، فيقول‌: ولم‌ يواجه‌  الحوار الحضاري‌ الاسلامي‌ في‌ مراحله‌ الاولي‌ تحدّياً الا من‌ قبل‌ شعوب‌ كانت‌ تحتفظ‌ بانساق‌ فلسفية‌ وسياقات‌ فكرية‌ تتحكم‌ باداء العقل‌ وتمنع‌ اي‌ مراجعة‌ من‌ شأنها تقويض‌ البني‌ الفكرية‌ له‌ .

 ولكن‌ هذه‌ الشعوب‌ في‌ الحقيقة‌ بقيت‌ تعاني‌ من‌ افرازات‌ انتماءاتها الخاصة‌ علي‌ فهم‌ النص‌ الديني‌ نفسه‌، الا ان‌ المسلمين‌ تمكنوا من‌ خلال‌ الحوار الجاد والمثمر من‌ التواصل‌ معهم‌ والتأثير بهم‌ وبناء الدول‌ الاسلامية‌ في‌ اماكن‌ متناثرة‌ من‌  العالم‌ الاسلامي‌ حتى‌ حقق‌ الاسلام‌ رفع‌ شقّي‌ الاشكالية‌ المتقدمة‌، الاعتراف‌ بالا´خر، والقدرة‌ علي‌ الانفتاح‌ والتفاعل‌ الثقافي‌ معه‌. وعن‌ الشق‌ الاول‌ تحدثت‌ التجربة‌ الاسلامية‌ وفتوحاتها، واما عن‌ الشق‌ الثاني‌ فيقول‌ المؤلف‌ أنه‌ مبدأ قرآني‌ رسخه‌ جمله‌ من‌ الآيات‌.

 وحول‌ مدى‌ حجم‌ الاشكالية‌ المتقدمة‌ في‌ الحوار الحضاري‌ الراهن‌، فاننا نؤيد الاستاذ الكاتب‌ في‌ ابتلائه‌ بالاشكاليتين‌ المتقدمتين‌ (شقّي‌ الاشكالية‌، (فليس‌ وعي‌ الغرب‌ للاسلام‌ يساعد علي‌ الحوار وليس‌ الانفتاح‌ الثقافي‌ لواقع‌ المسلمين‌ يؤيده‌)، فالاسلام‌ في‌ وعي‌ الغرب‌ هو المنافس‌ الآيديولوجي‌ الاول‌ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي‌ للاطروحة‌ الغربية‌ المعاصرة‌ التي‌ تشير مصادر دراستها (نهاية‌ التأريخ‌ لفوكوياما وصدام‌ الحضارات‌ لهانتغتون‌) لانها هي‌ خلاص‌ البشرية‌ ونهاية‌ جهدها الفكري‌ وحركتها الابداعية‌، وسعي‌ الغرب‌ لعولمة‌ هذه‌ الفكرة‌ مهمّشاً بها ايديولوجيات‌ العالم‌ وانساقه‌ الفكرية‌ الخاصة‌، ومادام‌ الغرب‌ لم‌ يعترف‌ بالآخر فسوف‌ لن‌ يتم‌ اشباع‌ هاجس‌ الحوار معه‌، وهذا يفرض‌ علينا ـ كما يذهب‌ المؤلف‌ ـ امتلاك‌ اللغة‌ التي‌ يفهمها الغرب‌ وهي‌ ـ عنده‌ ـ (لغة‌ القوة‌ والتطور التقني‌ والتعددية‌ والديموقراطية‌ في‌ الحكم‌ والحرية‌ في‌ ابداء الرأي‌ والصراحة‌ في‌ التعبير عن‌ قناعاته‌) كما (علينا نحن‌ أيضاً ان‌ لا ننغلق‌ على‌ الذات‌ الى حدّ نرفض‌ فيه‌ كل‌ مالدي‌ الغرب‌ من‌ ثقافة‌، لان‌ الآخر المختلف‌ من‌ شأنه‌ ان‌ يطوّر الثقافة‌ من‌ خلال‌ اشكالياته‌ واستفهاماته‌ التي‌ يثيرها باستمرار .

 وفي‌ نهاية الفصل‌ الاول‌ يتعرّض‌ المؤلف‌ لبعض‌ هموم‌ المجتمع‌ الاسلامي‌ ودور المثقف‌ في‌ الدولة‌ الاسلامية‌، فتراه‌ لا يستعرض‌ النشأة‌ التأريخية‌ لمقولة‌ المجتمع‌ المدني‌ بقدر ما يشغله‌ تسليط‌ الضوء على‌ مفهومها وفرزها بشكل‌ دقيق‌ عن‌ ملابساتها من‌ الطروحات‌ الوضعية‌ والتقليعات‌ المستجدّة،‌ اذ يركّز على‌ هدفية‌ الطرح‌ الذي‌ يتوائم‌ مع‌ المبادي‌ الاسلامية‌ والقيم‌ الدينية‌، فليس‌ هذا الطرح‌ بمتقاطع‌ مع‌ وجود الدولة‌ الاسلامية‌ او يمتد مقابلاً لحقوق‌ المجتمع‌ المرسومة‌ شرعاً، بل‌ يهدف‌ هذا الطرح‌ الى‌ اعطاء الفرد في‌ الدولة‌ الاسلامية‌ فضائية‌ ومساحة‌ اكبر لممارسة‌ دوره‌ في‌ النقد والدفاع‌ عن‌ حقوقه‌ من‌ خلال‌ طوعية‌ الانتماء واستقلال‌ الشخصية‌ وحريّة‌ الرأي‌.

 واما عن‌ دور المثقف‌ في‌ الدولة‌ الاسلامية‌ وتكوين‌ البنية‌ الفكرية‌ للمجتمع‌ والمساهمة‌ في‌ تجديد هويته‌ الثقافية‌، فيعقد الحديث‌ اولاً عن‌ الاشكاليات‌ التي‌ تواجه‌ دور المثقف‌ غير الاسلامي‌، فيقول‌: فالمثقف‌ غير الاسلامي‌ أما ان‌ يتخلّي‌ عن‌ كل‌ شي‌ء ليلتحق‌ بالآخر (الغرب‌) بدواعٍ (حداثوية‌) وحينئذ يعيش‌ غربة‌ حقيقية‌. او يحاول‌ ان‌ يجد صيغاً توافقية‌. بين‌ الاسلام‌ والآيديولوجيات‌ الآخري‌، فينتج‌ لنا اسلاماً مشوّهاً، وحينها سيعيش‌ هذا الفرد تناقضاً مريراً في‌ مجتمعه‌  .

 اما المثقف‌ الاسلامي‌ ـ وهذه‌ التفاتة‌ جوهرية‌ رائعة‌ من‌ المؤلف‌ ـ فانه‌ فرغ‌ من‌ مسألة‌ المرجعية‌ الثقافية‌، فلا غربة‌ ولا تكاسل‌، لان‌ مرجعيته‌ الثقافية‌ تشع‌ له‌ بالرؤي‌ والافكار والطموحات‌ التي‌ ليس‌ لها حدّ. وهذه‌ المصادر الاشعاعية‌ تزودّه‌ بطاقة‌ حركية‌ تجعله‌ في‌ عمل‌ متواصل‌ لانجاز مهامه‌ التي‌ يلخصها المؤلف‌ بـ: بث‌ الوعي‌، النقد،  تبني‌ قضايا الامة‌ .   

 احياء الفكر الديني‌:

 وفي‌ الفصل‌ الثاني‌ يتناول‌ المؤلف‌ جذور فكرة‌ الاحياء الديني‌ بالبحث‌ والكشف‌ والتحليل‌ مستفيداً من‌ التجربة‌ الاسلامية‌ التي‌ كانت‌ حيّة‌ في‌ مبدأ أمرها بفعل‌ العبقرية‌ الفكرية‌ والسياسية‌ للرسول‌ الاعظم‌ (ص‌) وعدم‌ ظهور تيارات‌ تخريب‌ قوية‌ في‌ عهده‌، فأرسى‌ ملامح‌ الفاصلة‌ الضرورية‌ بين‌ الدين‌ والحياة‌، ثم‌ اجتاحت‌ الامة‌ الاسلامية‌ موجة‌ من‌ التخريب‌ الفكري‌ والسياسي‌، ووجدت‌ لها صدىً في‌ ثلاث‌ حروب‌ ثارت‌ الاولى‌ علي‌ العدل‌ والثانية‌ علي‌ الشورى‌ والثالثة‌ على‌ العقل‌.

 وجر الدين‌ من‌ خلال‌ ذلك‌ لمصلحة‌ معاوية‌ وغيره‌ من‌ المتفعين‌، وانفصل‌ عن‌ السياسة‌ بل‌ تبعها، فكان‌ ذلك‌ من‌ اكبر حملات‌ التخريب‌ الديني‌ .. وهكذا يستعرض‌ المؤلف‌ تلك‌ الحملات‌ المتوالية‌ والممتدة‌ (13) قرناً حتى‌ جاءت‌ مرحلة‌ ما بعد الاحياء والمتمثلة‌ باشكالية‌ النأي‌ عن‌ مقاصد الشريعة‌ فتحمل‌ الاصلاحيون‌ الدينيون‌ مهمتهم‌ ابتداءً من‌ السيد جمال‌ الدين‌ الافغاني‌ الي‌ حين‌ قيام‌ الجمهورية‌ الاسلامية‌ في‌ ايران‌ .. ومرّ المؤلف‌ بمناسبة‌ الحديث‌ عن‌ التيار الاصلاحي‌ برموز الاصلاح‌ في‌ العالم‌ الاسلامي‌، السيد جمال‌ الدين‌ ودوره‌ في‌ مناهضة‌ الاستبداد واشاعة‌ تركيز الوعي‌ ومحاربة‌ الاستعمار ومشروع‌ الجامعة‌ الاسلامية‌ وتنقية‌ الفكر الاسلامي‌ من‌ الشوائب‌، والشهيد محمد باقر الصدر واسهاماته‌ الفريدة‌ والمتنوعة‌ في‌ الاصلاح‌، فكرياً وحركياً ومرجعياً، والامام‌ الخميني‌ واصلاحاته‌ الحوزوية‌ والسياسية‌ والاجتهادية‌ التي‌ أكدّت‌ دور العلماء وحجّمت‌  فقهاء السلاطين‌ وأتت‌ على‌ شاهنشاهات‌ ايران‌ وأذّنت‌ بانتهاء التبعية‌ للدول‌ الاستعمارية‌ وأعادت‌ للامة‌ دورها المغيّب‌ وانتهت‌ باقامة‌ دولة‌ اسلامية‌ على‌ أرض‌ الواقع‌ محققة‌ حلم‌ الانبياء والمصلحين‌.

 والمؤلف‌ من‌ خلال‌ ذلك‌ يركّز على‌ مفاتيح‌ العبقرية‌ الاصلاحية‌ واسرار التحرّك‌ الاصلاحي‌ الواعي‌ مدّللاً بذلك‌ على‌ امكانية‌ اعادة‌  دراسة‌ وتمثّل‌ تلك‌ المشاريع‌ وضرورة‌ استكمالها نهوضاً بالواقع‌ الراهن‌ الي‌ أقصي‌ مديً ممكن‌، وكل‌ ذلك‌ عبر لغة‌ معاصرة‌ كان‌ يلوّح‌ بها المؤلف‌ من‌ خلال‌ ثنايا الكتاب‌ وطبيعة‌ توجه‌ بحثه‌ ودراسته‌.   

 الموقف‌ من‌ الاستبداد

 ويدرس‌ المؤلف‌ الاستبداد في‌ الفصل‌ الثالث‌ ويبيّن‌ ماهيته‌ ومناوئيه‌ من‌ الاصلاحيين‌ كما يدرس‌ بشكل‌ مقتضب‌ جذره‌ التأريخي‌ ومعاناة‌ الامة‌ منه‌ ومن‌ اشكاله‌ التي‌ تتحدد بثلاثة‌: رضوخ‌ الفرد لتحدّيات‌ المستبدّ، الاستجابة‌ الطوعية‌ للمستبد وتسخير رجل‌ الدين‌ للشرعنة‌ وتطويع‌ الناس‌، الرفض‌ والتمرد وعدم‌ الاستجابة‌ لارادة‌ المستبد.

 والحقيقة‌ ان‌ الاستبداد هو العقبة‌ الكؤود امام‌ التجديد والنهضة‌، اذ يقضي‌ الاستبداد سواء كان‌ سياسياً ام‌ دينياً علي‌ دور الا´خر الفرد او الامة‌، ويعطّل‌ قدرته‌ الذاتية‌ على‌ التحرك‌ الرسالى‌، وينتج‌ نسخاً مستنسخة‌ عن‌ المستبدّ ورأيه‌، ولكن‌ مع‌ المستبد دائماً يوجد أسّ آخر في‌ معادلة‌ الصراع‌ وهو المصلح‌، (فلا يمكن‌ للاستبداد ان‌ يستمر مادام‌ هنالك‌ دعاة‌ مصلحون‌، ولا يسود الاصلاح‌ وهناك‌ جذر للاستبداد).

 ومن‌ هنا شرع‌ المؤلف‌ بدراسة‌ الخطوات‌ التي‌ اتبعها المصلحون‌ في‌ محاربة‌ الاستبداد:

 1 ـ فضح‌ الممارسات‌ الاستبدادية‌ ومثل‌ لذلك‌ بالسيد جمال‌ الدين‌ والشهيد الصدر وعبد الرحمن‌ الكواكبي‌ وغيرهم‌، وما لاقوه‌ في‌ سبيل‌ ذلك‌ من‌ محن‌ وابتلاءات‌ وصور شتّي‌ من‌ الاضطهاد والتنكيل‌.

 2 ـ تبني‌ مبدأ الشوري‌ والديموقراطية‌ كطرفي‌ النقيض‌ للاستبداد، وتطرّق‌ لآراء الكواكبي‌ ومحمد عبده‌ ومحمد حسين‌ النائيني‌ منظّر الحركة‌ الدستورية‌ في‌ ايران‌ والامام‌ الخميني‌.

 وفي‌ هذه‌ النقطة‌ جعل‌ المؤلف‌ المعارضة‌ وحرية‌ الرأي‌ علامة‌ صحّة‌ تكشف‌ عن‌ قوة‌ النظام‌ وجدارته‌ واقصاء المعارضة‌ دليلاً علي‌ الاستبداد والقمع‌ لارادة‌ الجماهير  ودّلل‌ علي‌ ذلك‌ بأقوال‌ للامام‌ الخميني‌ وهو ينظّر للدولة‌ الاسلامية‌ وعلاقتها بالامة‌.

 3 ـ سيادة‌ القانون‌، القانون‌ الذي‌ يبدأ الاستبداد بانتهائه‌ واحتقاره‌ من‌ قبل‌ المستبد، وراح‌ المؤلف‌ هنا يتتبع‌ كلمات‌ الامام‌ الخميني‌ وهو يمنح‌ القانون‌ السيادة‌ العليا على‌ الجميع‌ كخطوة‌ اساسية‌ لمحاربة‌ الاستبداد، ويوضّح‌ العلاقة‌ بين‌ ولاية‌ الفقيه‌ واحترام‌ القانون‌ او مناهضة‌ الاستبداد وانه‌ لا تضاد بينهما بل‌ توافق‌ وانسجام‌ لان‌ هدف‌ ولاية‌ الفقيه‌ هو احترام‌ القانون‌ ومنح‌ الامة‌ دورها وحجمها الطبيعيين‌ كما فعل‌ النبي‌ والائمة‌  حينما تصدّوا لقيادة‌ الامة‌ وبناء الدولة‌.

 واخيراً فكتاب‌ "اشكاليات‌ التجديد" الذي‌ بين‌ ايدينا هو نافذة‌ تقرأ من‌ خلالها وعي‌ المؤلف‌ المستمدّ من‌ وعيه‌ للواقع‌ على‌ صورته‌ التي‌ ينبغي‌ لكل‌ باحث‌ ودارس‌ ومثقف‌ أن‌ يعيه‌ ويعي‌ أسس‌ تشكّله‌ واشكالياته‌، تطلّعاً لنهضة‌ اسلامية‌ تعيد الرؤية‌ الاسلامية‌ الي‌ نصابها الواقعي‌ في‌ خضم‌ حملات‌ التشويه‌ والتهميش‌ وتمنحها مساحتها المرجّوة‌ من‌ لغة‌ العصر وشكله‌ الحاضر.

***

د. محمد سعيد الأمجد - العراق

....................

الغرباوي، ماجد، اشكاليات التجديد، ط2، 2001م،  بيروت، لبنان، دار الهادي.

 

تابعت ماكتبه الاستاذ الباحث ماجد الغرباوي تحت عنوان التسامح نظرة اولية للمفهوم بشغف وتلهف وذلك لعدة اسباب، الاول هو في الحقيقة انني اردت ان اتعرف على الشخص الذي فتح  افاقا كبيرة للكثير من المطلعين والمثقفين كي يكتبوا ما يجول في افكارهم وهم يعرفون ان مايضعوه على الورق يجد طريقه الى النشر ومن ثم الى المهتمين في عالم الثقافة، الثاني هو الموضوع وعنوانه بالذات فانه يؤثر على مسار الحياة في العالم عموما وفي عالمنا العربي والاسلامي على وجه الخصوص فانه اكثر المعنيين بمؤثرات معاني التسامح من عدمه، وبامر ذي صلة بما سبق فان هذا الموضوع اصبح في صلب اهتمام المفكرين والمثقفين على حد سواء وحسب اعتقادي بدأ هذا الاهتمام بعيد انتهاء الحرب الباردة، اثر سقوط الاتحاد السوفيتي في تسعينات القرن العشرين، واعني بهذا القول بداية تطبيق نظرية صراع الحضارات (لهينغنتون) اي بصريح العبارة انه موضوع يخص الدين عموما، والدين الاسلامي خصوصا، اما الامر الاخر هو ماذكره الباحث الغرباوي حول ماتناوله كتابه التسامح ومنابع اللاتسامح حيث يقول (فاطار البحث الاديان والثقافات، وقد يتعدى الى مساحات اخرى كالسياسة مثلا) وهنا اود ان اقول ان الدين والثقافة مفهومان قد تداخلا فيما بينهما، فمن الصعب ان لم يكن من المستحيل ايجاد صيغة تفكك بها مفاهيم ثقافية لبلد ما وتجردها عن المفاهيم والموروثات الدينية، وبذلك تكون المؤثرات على الباحث والمفكر هي ثقافية ممزوجة بتعاليم دينية مهما حاول ان يتجرد عنها وقد اصبحت هذه المؤثرات محركات اساسية للسياسيين في الغرب على وجه الخصوص، وهنا للتذكير اقول عندما جاء اوباما صيف 2009 الى القاهرة ليوجه رسالة الى المسلمين عبرها فهو لم يأت بجديد الاقوله ان العلاقة بين امريكا واسرائيل غير قابلة للكسر فالروابط بينهما هي روابط ثقافية وتاريخية، ولو عدنا الى الوراء نجد ان الطرفين لايمكن ان يوصفا بالبلدان بكل المقاييس الزمنية والحضارية وغير ذلك، لكن مايربطهما هو شيء اعمق من هذه واعني الرابطة الدينية فكلاهما يرتبط بالتعاليم التوراتية، فاساس امريكا ديني يؤمن بالمذهب البروتستانتي [1] وحتى رحلة كريستوفر كولمبس (هي في واقع الامر رحلة دينية تبشيرية ففي الواقع التاريخي اذا رجعنا الى ماقبل ذلك، لوجدنا لرحلة كريستوفر كولمبس اساسا دينيا، فضلا عن الاسباب التجارية التي تتمثل في اقتصاد الذهب والفضة لمحاربة المسلمين وتخليص بيت المقدس من ايديهم مع نشر المسيحية الكاثوليكية في اسيا) [2]وعن تبرير المهاجرين الاوائل لحربهم ضد السكان الاصليين في امريكا كان التبرير دينيا فـ (عندما قاتل المهاجرون الهنود الحمر اعتبروا انفسهم بني اسرائيل يقاتلون من حولهم من الاغيار) [3] وحتى (عندما ثار الامريكيون على الحكومة البريطانية في سبعينات القرن الثامن عشر، اعتبروا انفسهم مجددا بني اسرائيل والحكومة البريطانية هي فرعون موسى) [4]. اذن التأسيس على اساس ديني وتحرير الارض على اساس ديني فكيف يكون الحراك الثقافي لو صح التعبير وهل يستطيع الباحث او المفكر ان يفكك المفاهيم الثقافية عن الدينية، وهناك مفاهيم يشترك فيها الامريكي المسيحي البروتستانتي مع اليهودي عموما واليهودي الصهيوني على الاخص وهي مفاهيم شعب الله المختار، وارض الميعاد وغير ذلك، فلما تكون الهجرة على اساس ديني واقامة الكيان السياسي على المباديء الدينية فهل نستطيع ان نجرد الثقافة عن الدين، وايضا سؤال هل يستطيع احد ان ينكر ان اسرائيل قامت بحجج دينية، وانها استولت على ارض فلسطين بدعاوى تاريخية دينية، وشردت ساكنيها بحجة ان هذه الارض هي لشعب الله المختار، وانها ارض الميعاد لهم، واستولت على بيت المقدس بحجة وجود هيكل سليمان هناك واجرت عدة تنقيبات وحفريات هناك مما عرض الحرم القدسي الشريف الى خطر الانهيار، وادعت ان حائط البراق الذي يقدسه المسلمون هو حائط المبكى، ان هذه الادعاءات ليس من حاخامات اليهود بل هي من رجال السياسة الاسرائيليين. هذا من الجانب الامريكي الاسرائيلي، اما الجانب الاوربي نجد ان فرنسا اخذت على عاتقها مع المانيا ولو بصورة اخف معارضة انضمام تركيا المسلمة الى الاتحاد الاوربي المسيحي وتركيا هي عضو فاعل في حلف شمال الاطلسي، كذلك ان في فرنسا جدل اصبح شبه دائم ومن سنين حول النقاب في المدارس من قبل الطالبات المسلمات ويجهد الرئيس الفرنسي نفسه في هذا الوقت من اجل استصدار تشريع من البرلمان يمنع بموجبه ارتداء النقاب في الاماكن العامة وايضا يجري في بلجيكا مايجري في فرنسا. والسؤال السياسة هل هي من صلب الحراك الثقافي الديني ام تنفصل عنهما، فاذا اخذنا بقول الباحث الغرباوي بان اطار البحث هو الاديان والثقافات، وقد يتعدى الى مساحات اخرى كالسياسة مثلا، اقرأ من هذا النص ان التأثير معدوم وحتى لو وجد فهو قليل، لكنني اجد من الصعب الفصل بينها واقرب الى المستحيل ان يتجرد الكاتب او الباحث عن مفاهيمه او حتى الموروث الثقافي الديني الجمعي لو صح التعبير، وكذلك السياسي، وان الكاتب يكتب للسياسي وكلاهما في منظومة متكاملة، فمثلا عندما كتب المستشرق بروكلمان كتابه تاريخ الشعوب الاسلامية ماذا اراد ؟ الجواب من نفس المستشرق حيث قال (لاتزال كتابة تاريخ الشعوب والدول الاسلامية منذ نشأتها حتى الوقت الحاضر ضربا من المحاولة الخطرة، لان مصادر مثل هذا التاريخ لم تصبح بعد متناول البحث، ولم تخضع بعد للتحليل النقدي. وليس يجرؤ فرد واحد على النهوض بهذا العبء. ومع ذلك فمن الخير، في ما يبدو. ان نقدم للمعنيين بمسائل السياسة الدولية نظرة طائر عن مصاير المسلمين التي تتشابك اليوم بأحداث العالم على العموم بأكثر مم تشابكت في وقت مضى) [5] ويمضي بروكلمان بالقول (ولقد حاولت ان اقدم الى قراء هذا الكتاب، بالاضافة الى التاريخ السياسي، لمحة عن الحياة الثقافية والفكرية بقدر مايسمح مجال هذه الصفحات المحدودة) [6]. وهذا يؤكد القول انك عندما تدرس التاريخ السياسي او السياسة والحياة السياسية لابد لك ان تدرس الاسس والمنطلقات الثقافية والفكرية فلا استغناء مفهوم عن مفهوم، ويؤكد بروكلمان صعوبة ان يتحمل كاتب بمفرده او مستشرق يريد ان يدرس الشرق عبء هذا المشروع، وقد صدرت هذه الملاحظة عن بروكلمان فلأن المانيا لاتمتلك منظومة تتكون من السياسي والمستشرق والكنيسة للتحمل هذا العبء، (فالمانيا ساحة صراعها ليس البلاد العربية والاسلامية بل ساحة صراعها اوربا فهي مثلا لها اطماع في النمسا، وبعض اجزاء من يوغسلافيا السابقة وحتى في الحرب العالمية الاولى حدث تحالف بين المانيا والدولة العثمانية وفي الحرب العالمية الثانية لم يظهر هتلر اهتماما بالمنطقة العربية مثلما اهتم في وسط اوربا وشرقها وحتى الاتحاد السوفيتي) [7] لكن بروكلمان يدعي انه من الخير ان يتقدم بخطوة تفيد المعنيين العاملين بالسياسة، وعندما يأتي بروكلمان على ذكر البعثة النبوية الشريفة فانه لايشكك بل ينفي اي وجود للوحي السماوي، كذلك انه يصر على ان الرسول الاكرم صلوات الله عليه وعلى اله وسلم انه يبدل الايات القرانية الكريمة حسب مقتضيات الحالة الراهنة التي تجر عليه بالفائدة في نشر دعوته، ويصر على وجود ايات لاوجود لها اصلا في القران الكريم مثل اية الغرانيق، وللايضاح اكثر نقتبس هذه النصوص من بروكلمان وكتابه تاريخ الشعوب الاسلامية، فمثلا يذكر بروكلمان عن حياة الرسول الاولى وشبابه ومن ثم بدء الرسالة بكلام يعبر عن كل مايريده عن نفيه للوحي الالهي فيقول (شعرت خديجة نحوه بتعلق شديد، على الرغم من انها كانت تكبره بخمس عشرة سنة تقريبا، فعرضت عليه الزواج منها فقبل. والذي يبدو ان هذا الزواج لم يضمن له حاجاته المادية فحسب. بل حمل اليه الارتياح من نواح اخرى ايضا. ولقد ولد لمحمد من خديجة اربع بنات، وصبيان لم يلبثا ان توفيا في سن الطفولة. وليس من شك في انه انصرف بعيد زواجه الى تحقيق مشروعات زوجه التجارية في حماسة وعزم، كما لم ينكر في مراحل حياته التالية، انه كان تاجرا. وكان مولعا في حديثه المجازي بالصور والاستعارات التجارية) [8] واعتقد ان هذا علام خطير جاء به بركلمان في سياق فقرة تتحدث عن زواج الرسول من الصديقة خديجة الكبرى (عليها السلام) وعن رحلته التجارية في بضاعة للسيدة خديجة ليصور الرسول الاكرم بالتاجر ومارسالته السماوية الا تجارة مادية والدليل احاديثه المجازية.

ويمضي بروكلمان في محاولته تفنيد الهية الشريعة الاسلامية وسماويتها فيقول (ولكنه على مايظهر اعترف في السنوات الاولى من بعثته بالهة الكعبة الثلاث اللواتي كان مواطنوه يعتبرونها بنات الله. ولقد اشار اليهن في احدى الايات الموحاة اليه بقوله (تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن ترضى). اما بعد ذلك حين قوي شعور الني بالوحدانية فلم يعترف بغير الملائكة شفعاء عند الله، وجاءت السورة الثالثة والخمسين وفيها انكار لان تكون الالهة الثلاث بنات الله. ولم يستطع التقليد المتاخر ان يعتبر ذلك التسليم الا تحولا اغرى به الشيطان، ولذلك ارجئت حوادثه الى اشد اوقات النبي ضيقا في مكة، ثم مالبث ان انكره وتبرأ منه في اليوم التالي) [9]، وقد يقول قائل انك هنا تحاجج بكتاب عنوانه تاريخي ولابد من ذكر هذه الاحداث، والجواب على هذا التساؤل هو ان بركلمان لا يذكر حوادث تاريخية فيما اقتبسناه، بل هي فقرات تفند وتحطم العقيدة فهو يتكلم صلب العقيدة ويضعها في اطار تاريخي، وكأنه يسرد واقعة وليس تفنيدا لعقيدة، ورسالة سماوية، وما محمد الا شخصا قد هيأ له انه يستمع الى الوحي جبرئيل حيث نقرأ (ولكن بينما كان بعض معاصري النبي، كأمية بن ابي الصلت شاعر الطائف، وهي بلدة بحذاء مكة، يكتفون بوحدانية عامة، كان محمد يأخذ بأسباب التحنث والتنسك، ويسترسل في تأملاته حول خلاصه الروحي، ليالي، ليالي بطولها في غار حراء، قرب مكة. لقد تحقق عنده ان عقيدة مواطنيه الوثنية فاسدة. فارغة، فكان يضج في اعماق نفسه هذا السؤال: لماذا يمدهم الله في ظلالهم، مادام هو عز وجل قد تجلى، اخر الامر، للشعوب الاخرى بواسطة انبيائه؟ وهكذا نضجت في نفسه الفكرة انه مدعو الى أداء هذه الرسالة، رسالة النبوة، ولكن حياءه الفطري حال بينه وبين اعلان نبوته فترة غير قصيرة، ولم تتبدد شكوكه ألا بعد أن خضع لأحدى الخبرات الخارقة في غار حراء. ذلك بأن طائفا تجلى له هناك يوما، هو الملك جبريل، على ماتمثله محمد في ما بعد، فاوحى اليه ان الله قد اختاره لهداية الامة. وامنت زوجه، في الحال، برسالته المقدسة، وتحرر هو نفسه من اخر شكوكه بعد ان تكررت الحالات التي ناداه فيها الصوت الالهي وتكاثرت. ولم تكد هذه الحالات تنقضي حتى اعلن ماظن انه قد سمعه، كوحي من عند الله) [1. ]. في هذا الكتاب يلاحظ القاريء العادي فضلا عن الباحث بأنه يمثل في متنه المنظومة الدينية – الثقافية – السياسية، وهذا مادرج عليه المستشرقون في ابحاثهم والسياسيون في تنفيذهم (لأجندتهم) وهذا يبين (ان السياسي والكاتب لا يستطيع ان يتجرد عن تراكماته الثقافية وهو ما يحصل للمستشرقين في دراستهم لنا، والامر الاخر هو الايمان بأن الدين محرك اساس في السياسة الدولية خصوصا لامريكا) [11] وامامنا نموذج اخر يبين تلازم الثقافة مع العقيدة وهو المستشرق نيكلسون الذي ألف كتابا بعنوان (تاريخ الادب العباسي)، والحقيقة وقبل ان نسترسل مع نيكلسون اقول (أن المستشرقين اهتموا بالغا بدراسة الادب العربي، لا لدراسة انماطه الفنية، بل لدراسة التاريخ العربي من خلاله، وعلى وجه الخصوص دراسة العقائد التي وجدت في العصور الاولى في التاريخ الاسلامي، وكذلك دراسة الوضع الاجتماعي والحالة السياسية في ذلك الوقت ليبني عليها موقفا فكريا، ومن ثم سياسيا) [12]. وعليه فان رينولد نيكلسون يبدأ كتابه (وفي مدخل كتابه، في اول سطر نجد هذا القول (ان لاعتقاد المسلمين في ظهور مسيح منقذ خرق على تاريخهم الديني والسياسي، فلا عجب أن ينغمر الاف الناس المتذمرين تمام التذمر من الحياة كما في الفترة الشقية من حكم الامويين في احلام <زمان طيب مقبل > توقعوه مطابقا لنهاية القرن الاول للهجرة، وطافت التنبؤات الغامضة والاقوال المنسوبة الى محمد نفسه ونبؤات الحرب والخلاص جائية ذاهبة هنا وهناك، وعكف الناس على كتب الغيبيات وتساءلوا ما اذا لم تكن فترة التشويش والهرج التي تسبق –كما هو معلوم – ظهور المهدي قد بدأت فعلا) طبعا هو يعرف ان المسلمين وخصوصا الشيعة يعتقدون بظهور الامام المهدي، وان السيد المسيح سيصلي خلفه اعترافا بامامته، طبعا هو استخدم مفردة (مسيح) بدون الف ولام حتى لايقال انه يقصد المسيح لكن مجرد انه ذكرها اراد ان يهدم شيئا ويبني شيئا اخر، ثم انه يعزو استمرارية الظلم وعدم التغيير السياسي الى انتظار الناس الى الفرج دون فعل شيء، اي ان المسلمين شعب سلبي لايبادر بالقيام بعمل اي امر ضروري)، [13] ثم ينتقل الى التاريخ ويصل الى حركة الشيعة قبل الاطاحة بالحكم الاموي وكذلك حركة العباسيين التي ترمي الاستئثار بالسلطة قبل ان تستولي عليها، وذلك باستمالة الشيعة الى حركتهم ومن ثم الانقلاب عليهم حيث يقول (بينما كان دعاة الشيعة مشغولين بصورة فعالة في كسب التأييد لحزبهم الذي في علي وذريته، كما رأينا، الخلفاء الشرعيين الوحيدين لمحمد (ص) فان فرعا اخر من النبي (ص)- وهم العباسيين – دخل الميدان وهو يضمر قلب اعمال العلويين لصالحه، وقد ورثوا من جدهم الاعلى، العباس عم النبي (ص)، صفات الحذر والظهور بمظهرين والحكمة الدنيوية، وهي الصفات التي تضمن النجاح في التامر السياسي) [14] كذلك ان نكلسون كان لابد له وهو يتناول الادب العباسي والتاريخ السياسي، ان يدرس العقائد التي او الفرق التي وجدت بعد استلام العباسيين للحكم بعد ان قضى على حكومة بني امية ففي الفصل الثالث الذي اسماه (السنة والزندقة والتصوف) فانه درس فيه (المعتزلة) وافكارهم، وخصومهم، وكذلك نهايتهم وكيف (حولت اسلحتهم المنطقية والديالكتيكية ضدهم بنجاح ظافر) [15] لكنه يقول ان افكار المعتزلة ومبادئهم قد (مهدت الطريق لحركات حرة اخرى كحركة اخوان الصفا التي حولت ان توفق بين السلطة والعقل وبناء نظام عام لفلسفة دينية). [16]وكزميله سعى نكلسن الى ان يجعل كل فعل تقوم بها اي فرقة اسلامية مهما كان النظر اليها من قبل الشريعة نفسها فانه سعى ان يجعلها مستوحاة من تعاليم المسيحية، هنا يقتبس نكلسن عن دي غويه مايلي (اعتقد قبل كل شيء ان من الصواب التاكيد على ان المباديء الفلسفية للاسماعيلية متضمنة برمتها في رسائل اخوان الصفا ؛ وهذا مايفسر الاغراء الخارق الذي مارسه المبدأ بين صفوف الجديين من الرجال وباضافتها عقيدة (الامام المستور) الذي يجب ان يظهر يوما ما ليملأ الارض عدلا <كما ملئت جورا> حققت انصهار كافة المباديء المثالية للمسيحية والافلاطونية) [17]اما عن التصوف يقول نكلسن (لقد تتبعنا تاريخ التصوف في الاسلام من حركة التنسك في القرن الاول، تلك التي انبثقت معها الاجتياز الى خارج نطاق التاثير الاسلامي وتدخل طريقا غريبا لم يحلم به النبي) [18] بطبيعة الحال هو يبغي من هذه الفقرة نتيجة مؤداها ان التصوف ليس مبدئا محض اسلاميا وانما دخلت عليه المؤثرات الخارجية من الاديان الاخرى او كما ينقل عن فون كريمر الى تطفل عنصر اجنبي غير اسلامي، [19] ويلخص نكلسن مايراه البروفسور براون عن الصوفية مايلي، أ-التصوف مدين بوحيه الى الفلسفة الهندية ولاسيما الفيدانتا. [2. ]

ب-ان اكثر الافكار المميزة للصوفية ذات اصل فارسي. [21]

ج-ان هذه الافكار مستنبطة من الافلاطونية الجديدة [22].

وفي الصفحات التالية يحاول نكلسن ان يبين انه لايؤمن بان التصوف من هذه الاصول، لكنه يخلص الى النتيجة ذاتها وقوله هو (ليس من شك في ان اصل التصوف ونموه في الاسلام يعتمد في النهاية كما في سائر الاديان على اسباب وشروط عامة وليس على ظروف خارجية، فمثلا ان الفوضى السياسية في العصر الاموي، واتجاه الشك لصدر الدولة العباسية ولاسيما المراسيم الجافة للفقه الاسلامي لم تخفق في اثارة حركات مضادة تجاه المسكنة والسلطة الروحانية والايمان العاطفي ؛ولكن رغم ان التصوف لم يخلقه اي دافع خارجي (وهذا اوضح من ان يحتاج الى نقاش) فان التاثيرات التي انا على وشك التحدث عنها قد اسهمت اسهاما كبيرا في جعله على ما هو عليه وتلوينه تلوينا عميقا بحيث لايسع اي دارس لتاريخ التصوف اهمالها) [23]، لم يستطع نكلسن الا ان يكون هو فعاد وقرن التصوف بمؤثرات خارجية من خلال اشارته الى ائمة هذا المذهب مثل معروف الكرخي وذلك بقوله (لقد ولد في اطراف واسط احدى مدن بلاد الرافدين العظيمة ويدلنا اسم والده (فيروز) او (فيروزان) على ان فيه دما فارسيا وكان معروف مولى لامام الشيعة عي بن موسى الرضا وقد اسلم على يده لانه نشأ مسيحيا (هكذا تقول الروايات) او ربما صابئيا) [24]، مايهمني في هذا النص فقرة "على ان فيه دما فارسيا " ان نكلسن يريد ان يحاكي المشاعر القومية، وانه يعرف ان الاسلام مبدأه الاساس هو "لافرق بين عربي واعحمي الا بالتقوى " فالتقوى والعمل الصالح هي التي ترفع من شأن الفرد في الاسلام دون لونه، او طائفته، او قوميته، وحتى ماله ووجاهته، وكم من فقير رفعه الاسلام الى درجات عليا من خلال علمه وتقواه، وكذلك يريد ان يبين ان التأثيرات الفارسية موجودة في تصوف معروف الكرخي.

اما عندما يأتي على ذكر ابو سليمان الداراني وعلى بعض من تعاليمه نجده يعلق في هامشه بالقول (من المستحيل ألا نعترف بتأثير الفلسفة الاغريقية في هذا الادراك للحقيقة كجمال) [25] ولم يشذ نكلسن عن باقي المستشرقين في هذه الخاصية فاذا عدنا الى برو كلمان نجده يقول ان الرسول الاكرم (يكثر من الاشارة الى قصص هؤلاء الانبياء، والى قصة موسى بخاصة. وليس من شك في ان معرفته بمادة الكتاب المقدس كانت سطحية الى ابعد الحدود، وحافلة بالاخطاء وقد يكون مدينا ببعض هذه الاخطاء للاساطير اليهودية التي يحفل بها القصص التلمودي، ولكنه مدين بذلك دينا اكبرللمعلمين المسيحيين الذين عرفوه بانجيل الطفولة، وحديث اهل الكهف السبعة، وحديث الاسكندر، وغيرها من الموضوعات التي تتواتر في كتب العصر الوسيط) [26]، وقد وجدنا ان بروكلمان يكتب عن تاريخ الشعوب الاسلامية تصل الى حقبة فيصل الاول في العراق مثلا وتنصيبه ملكا على العراق بعد ان احتلت بريطانيا هذا البلد في 1917م، بعد ثورة العشرين وبعد ان وجدت بريطانيا ان الحكم المباشر يكلف الميزانية البريطانية ويرهقها. وهو قد بحث من وجهة نظره طبعا كل مايتعلق بالموضوع من اصل العرب وسلالاتهم، ودويلات الغساسنة والمناذرة قبل الاسلام، الى التاريخ الاسلامي، والعقيدة الاسلامية الذي تناولها كتاريخ وكحادثة تاريخية، لا كعقيدة وهذا بطبيعة الحال ذكاء من قبله، واسلوب عالي المستوى في الطرح والاسترسال في جمله التي يظن انها لا تصرح ولا تنطق الا بالحوادث ليس الا. كذلك ان نكلسن لايستطيع الا ان يكون مستشرقا له منهجه الواضح، فهو في الحقيقة يبحث ومن المفترض في الادب العباسي وتاريخه، لكنه في الحقيقة يدرس التاريخ السياسي انذاك والعقائد الاسلامية والمؤثرات الخارجية حسب رأيه التي دخلت وساهمت في بلورة هذه العقائد، وايضا هو لم يكتف بدراسة الواقع الاسلامي المنضوي تحت السيطرة العباسية، بل بحث في واقع الحكم الاموي الذي نشأ في الاندلس بعد سقوطه في الشام، اذن لافكاك بين الثقافة والدين ولا ابتعاد او انفكاك بينهما وبين السياسة، بل كل صلب الاخر.

وفي الحقيقة ان نموذج كارل بروكلمان ورنيولد. ا. نكلسن لم يأتيا بشي جديد بخصوص البحث فواقع الامور والمنطق يقولان ان الاندكاك بين هذه المعارف شيء بديهي واقصد (الثقافة، الدين، والسياسة) وبطبيعة الحال مفردة الثقافة شاملة وجامعة لشتى المعارف والفنون [27].

ونصل الان الى صورة اندكاك الدين في السياسة والعكس هو الصحيح وخصوصا في مركز القرار الدولي واعني بها امريكا ويتمثل في الصورة كل من "بات روبنسون " و"جيري فالويل "و"فرانكلين بيل غراهام ".

اما بات رونسون وهو (من رجال الدين المسيحيين الذين استغلوا التلفزيون والذي يقدم عبر شاشته (نادي السبعمائة) ويبلغ عدد مشاهديه الى (16، 3) مليون شهريا، "وهوالمؤسس والزعيم التاريخي لمنظمة (التحالف المسيحي) اكثر الحركات القاعدية نفوذا وسطوة في السياسة الامريكية المعاصرة " ويعتبر هذا المبشر الوجه البارز او قل هو واجهة التحالف المسيحي مع الحزب الجمهوري الامريكي، كذلك يملك مع زميله (فالويل) سطوة على السياسيين الامريكان). [28]

واما جيري فالويل فهو القس والمبشر الشهير او من اشهر الذين استخدموا التلفزيون وبشكل واسع جدا [29] (وهو الذي استخدم الاعلام منذ العام 1956حيث ابتدأ في الاذاعة ببث برنامجه الذي سرعان ما تحول الى برنامج تلفزيوني عنوانه (ساعة الانجيل القديم)بلغ عدد مشاهديه (5، 6) مليون مشاهد والبرنامج الثاني هو (جيري فالويل لايف) بلغ عدد مشاهديه (34) مليون مشاهد شهريا) [3. ] ويعتبر فالويل مناصرا شديدا لاسرائيل وقد انتقد بشدة موقف بيل كلنتون لانه ضغط على اسرائيل من اجل توقيع معاهدات سلام مع الفلسطينيين [31] وهو (الذي يقول في موعظة من مواضعه التلفزيونية "ان كل من يشير بأصبعه اشارة الى اليهودي، فكأنما يضع اصبعه في عين الله ولان اليهودي هو بؤبؤ الله) [32] وهو الذي يذكر ل(ميريل سايمون الذي الف كتابه الموسوم (جيري فالويل واليهود) يقول :اكدت مرارا ان وجود مجتمع يهودي عالمي مزدهر لايمكن تفسيره الا بالرجوع الى وعود ونبؤات العهد القديم بان الله سيحفظ اسرائيل الى الابد) [33]ونستمر مع فالويل رجل الدين والمبشر المسيحي في اندكاكه كرجل له صفة روحية عند الملايين او قل عشرات الملايين في السياسة واتخاذه خطا يجعل من نصرته امرا مقدسا، فهو يقول (في نفس الكتاب :الشيطان عدو الله، والله قد اختار الشعب اليهودي وباركه لانه عائلته المختارة لذلك فان الشيطان يحاب الله في الشعب اليهودي) [34]، وهذا زخم روحي بطبيعة الحال واعطاء قدسية لكل ماتقوم به اسرائيل، وكذلك اشارة الى الامريكان الساسة منهم ودافعي الضرائب على حد سواء بأن اسرائيل ورعايتها بكافة المجالات واجب له قدسية في امريكا، وان عكس ذلك محرم لا بل غير مسموح به. ويعتقد فالويل ان الله يوكل لمخلوقاته ويستعملهم كوسائل لتحقيق برنامجه لهذا الكون [35]، ولهذا يقول (انا شخصيا اشعر بمسؤلية كبيرة في تثقيف الشعب الامريكي حول اهمية دعم اسرائيل والشعب اليهودي في كل مكان، وانا ادرب الاف الدعاة والوعاظ الدينيين لحمل المسؤلية نفسها ففي كلية ليبرتي المعمدانية وفي مدارسها نتولى تعليم (6ألاف)طالب على هذه القضية) [36] وبطبيعة الحال ان هذا لايشمل مفصلا واحدا في المشهد السياسي الامريكي كالحزب الجمهوري واليمين المسيحي بل يشمل حتى قادة الحزب الديمقراطي.

اما العنصر الاخر في مشهد اندكاك الدين في السياسة الامريكية هو فرانكلين بيل غراهام وهو القس الذي يعتبر المرجعية الدينية بالنسبة الى الساسة الامريكان وخصوصا الرؤساء منهم، وهو (الذي جعله جورج دبليو بوش واعظا خاصا لوزارة الدفاع (البنتاغون)وكذلك له شخصيا) [37] وهو رجل ينظر الى الدين الاسلامي مثلا باستعلاء وعنصرية شديدة ونظرة فوقانية حتى على الله ان صح التعبير [38] فهو يقول ان الله الذي يؤمن به هوليس الله الذي يؤمن به السلمون، بطبيعة الحال ان فرانكلين غراهام قد جاء من فراغ سياسي اوديني حتى حط في اسرة الرئيس بوش، (فقد كان والده واعظا بل الواعظ الاول الخاص بالرؤساء الامريكان الجمهوريين) [39] مثل ايزنهاور ونيكسون وفورد وريغان وبوش.

اما اندكاك الساسة الامريكان في الدين فمشهده وصورته لاتقل اثارة عن المشهد والصورة في انكاك رجال الدين في السياسة، بل تفوقه اثارة، وحتى تطبيقا، وتفويضا للدين في كل حركة سياسية تروم الادارات الامريكية على المدى الزمني الكامل لعمر القارة الامريكية، والمعروفة باسم الولايات المتحدة الامريكية منذ الاكتشاف كما مر سابقا، والتأسيس، وحتى الان. ولو بدأنا بالوقت الحاضر ومن الرئيس جورج دبليو بوش الذي يقول وبنبرة استعلائية [4.] تشبه الى حد بعيد نبرة عرابه فرانكلين غراهام حيث يذكر بوش (ان الارهابيين يمقتوننا، لاننا نعبد الرب بالطريقة التي نراها مناسبة) [41] وكذلك ان بوش يعتبر نفسه رسول من الرب حيث يقول (لقد ارسلني الرب لانقاذ العالم، وان ذهاب الجيش الامريكي للعراق هو لحماية المسيح من الارهاب الاسلامي عندما ينزل الى الارض) [42] وهذا شيء فيه من الخطورة الشيء الكبير لان جورج دبليو بوش يتحدث كرسول الهي، وتارة يتحدث كظل الله في الارض، وان معتقداته واجبة التطبيق لانها في اخر المطاف تعاليم الهية [43] وكان جورج بوش قد بين عن توجهاته الدينية وبشكل عملي من خلال التعيينات في ادارته وخاصة عندما اختار جون اشكروفت كوزير للعدل وهو احد اكبر رموز التيار الكنيسي، و قد قال الوزير اشكروفت عن فلسفته الدينية والسياسية بان (لا رئيس لنا سوى المسيح، وهذا الجدار الفاصل بين الكنيسة والدولة ينبغي هدمه لانه جدار ظالم) [44] وكما تم غزو العراق بأمر الهي فان غزو امريكا اواخر القرن التاسع عشر لكوبا بزعم تخليصها من الاحتلال الاسباني كانت عملية الغزو ايضا باوامر الهية [45] ومن خلال استعراض السياسة الامريكية، وكذلك ممارسات الادارات الامريكية المتعاقبة يتبين لنا ان (الولايات المتحدة تتبنى سياسة تطويعية واستيلائية لاسياسة مشاركة، وانها سياسة تحقيق المصلحة الامريكية وليست سياسة المصالح المشتركة، ودائما الله هو القاسم المشترك في حركة الامريكان نحو تنظيمهم للعالم كما يريدون) [46] وعلى ذلك يقول احد الساسة الامريكان وعضو سابق في مجلس الشيوخ الامريكي هو البرت بفريدج (ان الله لم يعد خلال الف عام الشعوب الاوربية والشعوب الناطقة بالانكليزية كي تتامل نفسها بكسل ودون طائل حيث تسيطر الفوضى، وجعلنا جديرين بالحكم لكي نتمكن من ادارة الشعوب البربرية والهرمة، وبدون هذه القوة ستعم العالم ثانية البربرية وقد اختار الله الشعب الامريكي دون سائر الاجناس كشعب مختار لكي يقود العالم اخيرا الى تجديد ذاته) [47] ومثله اكد المبشر البروتستانتي (جوزيا سترونغ عام 1886)بان العنصر الانكلو – سكسوني قد تم اختياره من قبل الله لتحضير العالم [48] واذا للمتتبع يجد (ومع جوزيا سترونغ المبشر تقدم الجندي والتاجر وحرثا من اجلهما الاراضي التي لم يبق سوى الاستيلاء عليها) [49]وهنا ننقل نصا في الاستشراق والتبشير عن صموئيل هنغنتون عن توكفيل يقول فيه (الدين في الولايات المتحدة.. متظافر مع عادات الامة والمشاعر الوطنية التي تستمد منه قوة غريبة وتضافر الدين والوطنية جلي في دين امريكا المدني، كتب روبرت بيلا في عقد 196. يعرف الدين المدني "هو في افضل احواله فهم حقيقي للكون، والحقيقة الدينية المجردة كما شوهدت، او غالبا ما يمكن القول كما اوحت تجربة الشعب الامريكي فالدين المدني يمكن الامريكيين من التوفيق بين سياستهم العلمانية ومجتمعهم الديني والجمع بين الله والوطن ليضيفوا القدسية الدينية على وطنيتهم، والشرعية القومية على معتقداتهم الدينية، وهكذا فهم يدمجون ما كان ولاءات متنازعة محتملة في الاخلاص لوطن موقوف دينيا) [5. ]، ونمضي مع الاستشراق والتبشير الذي بدوره يمضي مع همغنتون في تقسيمه للعناصر الاساسية للدين الامريكي كما يعبر هو والاقسام الاول "هو الفرضية المركزية :ان نظام الحكومة الامريكية يقوم على اساس ديني وينطلق على اساس ديني وينطلق من فرضية وجود كائن اعلى " [51]، واما الثاني "هو اعتقاد الامريكيين بانهم شعب الله المختار او كما عبر لنكولن من ذلك الشعب المختار تقريبا، وان امريكا هي اسرائيل الجديدة. ذات رسالة مقدسة ان تعمل الخير في العالم " [52] يعني هذا ان كل ماتقوم به امريكا هو خير وهو مشروع ايضا لانه صادر من شعب قد اختاره الله.

واما العنصر الثالث "هو سيادة الاوهام والرموز الدينية في البلاغة والطقوس والشعائر الامريكية العامة، فالرؤساء الامريكان يؤدون القسم عند استلام المنصب على الكتاب المقدس " [53] واما الرابع قيخلص هنغنتون الى "تبدأ المراسم والنشاطات الوطنية نفسها بصلاة دينية جلية وتؤدي وظائف دينية وتاريخية " وهكذا يجد المتتبع لاحوال امريكا ان الدين متداخل مع الحياة السياسية والاجتماعية [54] في هذا البلد الذي يعتبر مركز القرار السياسي الدولي اعتبارا من منتصف القرن العشرين، وايضا مركز او عصب الاقتصاد العالمي وقد شاهد العالم ان ازمة مالية ضربت امريكا اواخر 2.. 8 تأثرت بها وبشكل واسع جميع دول العالم تقريبا، غنيها وفقيرها. لم يقتصر الامر على الساسة ورجال الدين في الولايات المتحدة الامريكية، فحتى دول الامبريالية الاوربية انتجت هذا النهج وبمثال او مثالين عما انتجت لنا فرنسا مثل (لويس ماسينون)فهو مبشر، ومستشرق، وعسكري، وسياسي ودبلوماسي، ومنقب عن الاثار بنفس الوقت و بالاضافة الى انه كان في خدمة الاطماع الفرنسية والاحتلال الفرنسي للبلدان الاسلامية (وظيفة) و(فكرا) [55] وهو الرجل الذي عمل مع جورج بيكو الشريك الفرنسي في معاهدة سايكس بيكو، وهو على الجانب الفرنسي يعتبر ك(لورنس العرب) عند البريطانيين، وهو الضليع باللغات العربية والفارسية والتركية، ان من (اهم دعوات ماسينون هي دعوته الكتابة بالعامية، وان يترك الحرف العربي والبدء بالكتابة بالحرف اللاتيني، وقد اطلق دعوته بالكتابة والنطق بالعامية في مصر) [56] وهذا غير مستغرب من رجل يعمل في وزارة المستعمرات الفرنسية، وبنفس الوقت هو رئيس الجمعيات الارسالية التبشيرية، ومن الامثلة الاخرى هو المستشرق الفرنسي (ارنست رينان) الذي يدعو ان يحكم الشرق من قبل الغرب لان الشرق غير مؤهل لحكم نفسه، وايضا هو ينكر ان يكون للعرب او المسلمين علما او تراثا علميا حيث يقول ان الفلسفة العربية هي الفلسفة اليونانية مكتوبة بحروف عربية)وهو هنا لايختلف عن بروكلمان او نكلسن

اما على الجانب البريطاني او الانكليزي لو صح التعبير فالامر لايختلف بل يتطابق كثيرا مع نفس المنهج الذي نحن بصدده وقد مر بنا المستشرق نكلسن في دراسته لتاريخ الادب العباسي، وهناك نماذج كثيرة، لعبت دورا فكريا، وسياسيا، واستخباراتيا، ومن هذه النماذج (الميجر سن) المبشر، والجاسوس، والرحالة، والحاكم العسكري في شمال العراق، وقد وضع كتابا اسماه (رحلة متنكر الى بلاد مابين النهرين وكردستان) وقد اتخذ من رحلاته واجهة للتجسس، وتسجيل نقاط الضعف في مناطق المسلمين، وهو من اخطر وابرع الناس الذين مارسوا هذا العمل، وقد برع في تعلم اللغة الكردية حتى بز في ذلك بعض من علماء الكرد في لغتهم.

ومن النماذج الانكليزية الفعالة هو غلوب باشا او (ابو حنيك) والذي عين قائدا للجيش الاردني من عام 1939 الى 1956، ان هذا القائد العسكري لم يكتف بان يكون عسكريا فقط، بل ومن خلال اهتمامه بالمنطقة، وتجواله في الصحراء العربية، ودراساته للتاريخ الاسلامي فقد الف كتاب (امبراطورية العرب) وكذلك كتاب (حرب الصحراء)، ولألقاء اكثر على دور هذا الرجل وطريقة عمله نقرأ هذه النصوص حيث يبدأ كاتبها ب (قلت لجون جلوب باشا، قائد الجيش الاردني في مكتبه بعمان :-يقولون انك قد (استعربت).. واسلمت.. واصبح جواز سفرك اردنيا ؟!

قال وابتسامته تسبق جوابه :

-   نحن اليوم في الخامس من مارس من عام 1955وحتى هذه الدقيقة لم استعرب.. ولم اعلن اسلامي.. ولم احصل على جواز سفر اردني ! والحقيقة التي لامجال للتشكك فيها ان جلوب باشا قد عاش الاربعين سنة الاخيرة من حياته، بشخصيتين وحياتين :شخصية العربي.. المستشرق.. المسلم.. البدوي.. من شروق الشمس حتى غروبها. وشخصية البريطاني المتعصب.. البروتستانت.. الانجليكي.. من غروب الشمس حتى شروقها !) [57]، ويمضي كاتب هذه النصوص ويصل بنا الى الجيش الاردني او مايسمى الجيش العربي ومزاياه حيث يقول (الجيش العربي اشبه بالجيش الانكشاري ! فيه اليوناني والارمني والشركسي والقبلي !فمن الارمن هناك الضابط (كريم اوهان) الذي اصبح فيما بعد قائدا للامن العام في الاردن !ومن اليونانيين هناك (قولا سمرايوتي) مدير العمليات الحربية !ومن الشركس، عزت حسن، وفواز ماهر، وكلاهما وصل الى رتبة (امير لواء).. ومن الشيشان هناك (عبدالله بهاء الدين) وجماعة من الضباط الصغار.. وكذلك هناك عدد من ابناء القبائل من خارج الاردن الذين يفرون من بلادهم ويلتجأون وظيفة الى الاردن هربا من جرائم كانوا يرتكبوها او جريا وراء وظيفة يتعيشون منها وفي ايديهم رسائل (توصية) من شيوخ قبائلهم الى صديقهم (ابي حنيك) قائد الجيش الاردني الذي يعرفونه جيدا) [58] ومن المفارقات في هذا المجال ان يطلب من هكذا جيش ان يدافع عن فلسطين ويقف بوجه المنظمات الصهيونية في عام 1948(فهو الذي اعترف بكل صراحة ووضوح وفي الصفحة 96 من مذكراته انه كان (مقررا للجيش العربي في حالة دخول ارض فلسطين، ألا يخوض الحرب.. وانما لكي يحتل الجزء العربي في فلسطين ضمن الحدود المقررة للعرب بموجب قرار التقسيم عام 1947) [59] ولم يقتصر الامر على هذا القرار بل كان القرار اخطر وهو انه(عندما صدر اليه الامر من حكومة فلسطين بالانسحاب من ارض فلسطين قبل نهاية الانتداب البريطاني وجلاء الانكليز، لم يأخذ مراكز للجيش في اقرب نقطة حدود.. على نهر الاردن مثلا.. وانما حمل (جيشه) ومضى الى قلب الاردن.. الى مابعد الحدود، والسلط، وعمان.. الى معسكر (الزرقاء)، على مسافة ساعتين من حدود النهر !..) [6. ]، ان اي فرد متخصص ام غير متخصص في الامور العسكرية يعرف انما الجيش هو للدفاع عن البلد " اي بلد " هو على الحدود وحتى في بعض الاحيان خارجها وليس داخل العمق، وكأنه يدعو الخصم للتقدم. ويمضي كاتب النصوص بالقول (وما من مرة وقع نظري فيها على سيارة (جلوب) الا ورأيت كتاب (اعمدة الحكمة السبعة)، للمستشرق لورنس، بجانبه. فاذا ما سأله احدهم عن الكتاب وقصته، اجاب جلوب :والله أنا احب المطالعة.. واحب بصورة خاصة هذا الكتاب !

فقد كان جلوب – في قرارة نفسه – يتمنى ان يلعب الدور الكبير الذي لعبه من قبله ت. ي. لورنس، صاحب الاعمدة السبعة) [61] ولااعرف هل الدور الذي لعبه جلوب في حرب فلسطين ومساهمته الفعالة في استيلاء المنظمات الصهيونية على هذه الارض هو دور اقل شانا من دور لورنس العرب، ومن هو لورنس العرب؟.

توماس ادوارد لورنس او لورنس العرب المولود عام 1888العسكري والجاسوس، والرحالة، والمنقب عن الاثار، والمتخصص بالقلاع الصليبية في الشرق، وخريج مدرسة الارسالية الامريكية في جبيل لبنان، وضابط استخبارات القوة الجوية البريطانية، وفوق كل هذا وذاك هو عراب اسرة الشريف حسين في الحجاز، وبالخصوص عراب الملك فيصل الاول ومربيه السياسي لو صح التعبير وقد كان له الدور الكبير في مناهضة الشريف حسين للدولة العثماني حتي قيل (انه وحده هو الذي قضى على الامبراطورية ا العثمانية) [62] ولكي نتعرف على ان لورنس وغيره من رجال بريطانيا لايعملون الا لها نقرأ هذا النص عنه (لو لم اكن مجنونا لاستطعت ان اتبين، انه اذا ربحنا الحرب، فلن تكون الوعود التي بذلناها للعرب لم تكن الا حبرا على ورق) [63]، انه هنا ينفي علمه بالخطط البريطانية، لكن الظروف والممارسات هي التي تحكم لا اقوال لورنس العرب، وهو من الشخصيات التي اثرت في الملك فيصل الاول وهم كثر واخذت خطواته تسير على هداهم [64](وكان اول من تاثر بهم هو والده الشريف حسين امير مكة، او كما يحب ان يطلق عليه قائد الثورة العربية الكبرى التي قامت بتحريض من بريطانيا واداتها لورنس وقد كان ( عراب الثورة العربية الكبرى كما هو عراب مراسلات حسين – مكماهون، المندوب السامي البريطاني في مصر وكلا الدلالتين تمثلان هزيمة في ذهنية العربي انذاك تواصلت اثارها الى عقد او اكثر مابعد القرن العشرين) [65]، وعن رأي لورنس العرب في نهاية المطاف بالشريف حسين وبعد ان ارادت بريطانيا ان تعقد معاهدة معه، فهي تشعر بانها صاحبة فضل عليه ويجب ان يرد هذا الفضل حيث توجت فيصل ملكا على العراق، وعبد الله اميرا على شرق الاردن، فكلفت عراب الاسرة لورنس الى الشريف حسين مفاوضا :وبعد عدة مماطلات عدة ابرق لورنس الى وزير الخارجية كرزن بقوله (اجتمعت بالملك عدة مرات وقد اعلن لي عن تخليه عن موقفه المبني على اساس رسائل مكماهون. ولكنه يثير افكارا عظيمة جديدة انه عجوز احمق لاحدود لغروره واطماعه ولكنه يبدي الكثير من التعاون ويؤكد انه صديق مخلص لنا) [66] وفي هذه المفاوضات مارس لورنس ضغطا نفسيا وتهديدا مكشوفا للشريف حسين الذي وضع كل ثقته بهم، واضعا مصلحة بريطانيا فوق كل الاعتبارات.

المس بيل: هي من اشهر النساء التي عملن في السياسة في العراق، والمنطقة العربية عموما، بل هي الاشهر، هي بصريح العبارة صانعة الملك وعرشه، اسمها الكامل (غيرترود بيل) وشهرتها المس بيل، الرحالة التي جابت الصحراء العربية في نجد والعراق وسوريا، خريجة جامعة اكسفورد، اتقنت اللغة العربية من خلال شغفها بالترحال في الوطن العربي [67]، وهي (من الشخصيات المهمة التي لعبت دورا مهما في حياة فيصل الاول، وبالاخص في اختياره ملكا على عرش العراق وسيطرتها على مجريات الامور في هذه البلاد الى درجة انها لقبت بملكة العراق بين الاوساط السياسية والشعبية، ولها خاصية اخرى انها تشترك مع لورنس العرب بعدة مشتركات، منخا الجاسوسية واتقان رسم الخرائط والبحث والتنقيب عن الاثار خصوصا في الشرق، واتقانها اللغة العربية، وبعض اللغات الشرقية، وعملها مع فيصل الاول كأمير وكملك، لكن المس بيل كان عملها ابرز مع فيصل الملك على العراق حيث مارست دور المتوج للملك، ومارست دور الملك، ودور المراقب على الملك) [68]، والحقيقة انها في سنينها الاخيرة مارست دورا يوحي انها معجبة بالملك فيصل الاول كأنسان مستغلة فراغه العاطفي نتيجة لابتعاد اسرته عنه، ان المس بيل لاتختلف عن اقرانها من الساسة البريطانيين في ممارساتهم لادوارهم خدمة للمصلحة البريطانية، الاان خاصيتها كأمرأة اعطاها زخما اعلى من غيرها، في زمن كان فيه رؤية امرأة في السوق من المحرمات، واذا بالمس بيل او الخاتون تتجول في بغداد ممتطية حصانها وهي تزور هذا الشيخ العشائري، او الوجيه وهلم جرا. ان المس بيل هي من ابرز المنادين بتقسيم العارقيين الى طائفة حاكمة بعينها، وطائفة محكومة، كما انها تغذي بعض الاراء التي تساعد على الفرقة مثل (يتركز الشيعة، كما ذكرنا سلفا في وسط وجنوب العراق، ومن مدنهم المشهورة المقدسة كربلاء والنجف وسامراء والكاظمين وان النجف وكربلاء (والنجف على وجه الخصوص) كانتا في جميع الاوقات مركزي التعصب الديني ذي الصبغة الفارسية، وكذلك مركزي العداء للسلطة القائمة، وستبقيان كذلك مهما كان نوع الحكومة التي تحكم بقية العراق) [69] والحقيقة ان كل مفردة من هذه المفردات تحتاج الى مناقشة وتفنيد لكن لايسع المجال الى ذلك.

وعلينا ان لاننسى الساسة البريطانيين صناع القرار في لندن، كلويد جورج رئيس الوزراء الذي صدر في عهده وعد بلفور عام 1917والذي يقول (نشأت في مدرسة تعلمت فيها تاريخ اليهود اكثر من تاريخ بلادي)وهو الذي تربى على يد خاله الواعظ في احدى الكنائس المعمدانية المعروفة بتعصبها وايمانها الشديد بضرورة عودة اليهود الى ارض فلسطين. وفي الختام استعير فقرة من كتابي الاستشراق والتبشير فأقول "نستخلص من هذا ان كل الوقائع السياسية او اغلبها لايمكن الا ان ترتبط بالمنابع والاصول الثقافية، والتي اساسها على الاغلب ديني يوظف لاجل السياسة، وانا هنا وان ذكرت جانبا سياسيا بحتا فمن اجل ان اؤكد ان الوقائع هي وليدة العقائد والثقافات، ولاانفصال بين الحاكم والمفكر وان ارادوا التجرد، وان زعما الاستقلالية، وان قال المفكر انما يكتب لاجل البحث المجرد، لكنه ينطلق من اسسه التراكمية، وكذلك الحاكم لا يستطيع التجرد عن تراكماته الثقافية وان انتمى الى حركة او حزب يدعي العلمانية، اذ نجد ان الاسس التي بنت المجتمع لا يمكن الانفصال او الانفصام عنها مهما حاول ان يوحي بذلك......

للكلام بقية.

 ***

رائد عبد الحسين السوداني

..............................

هوامش

1- رائد السوداني: الاستشراق والتبشير تاملات في دورهما السياسي ص22

2- رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص24

3- رائد السوداني: المصدر السابق نفسه نقلا عن عادل المعلم في مقدمة في الاصولية المسيحية الامريكية ص25

4- المصدر السابق نفسه ص25

5-كارل بركلمان: تاريخ الشعوب الاسلامية ص 8

6- كارل بروكلمان: المصدر السابق نفسه

7- رائد السوداني: الاستشراق والتبشير ص 125

8- كارل بروكلمان: المصدر السابق نفسه ص33

9- كارل بركلمان: المصدر السابق نفسه ص34 و35

10- كارل بروكلمان: المصدر السابق نفسه ص36

11- رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص11

12- رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص49

13- رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص49و50

14- رنيولد 0ا0نكلسن: تاريخ الادب العباسي ص 17

15- رنيولد0ا0نكلسن: المصدر السابق نفسه ص170

16- رنيولد0ا0نكلسن: المصدر السابق نفسه ص170

17- رنييولد 0ا0نكلسن: المصدر السابق نفسه ص 172

18- رنيولد0ا0 نكلسن: المصدر السابق نفسه ص186

19- رنيولد0ا0 نكلسن: المصدر السابق نفسه ص186

20- رنيولد 0ا0نكلسن: المصدر السابق نفسه ص187

21- رنيولد 0ا0نكلسن: المصدر السابق نفسه ص 187

22- رنيولد 0ا0نكلسن: المصدر السابق نفسه ص187

23- رنيولد 0ا0نكلسن: المصدر السابق نفسه ص189

24- رنيولد 0ا0نكلسن: المصدر السابق نفسه ص 189

25- رنيولد 0ا0نكلسن: المصدر السابق نفسه ص190

26- كارل بروكلمان: المصدر السابق نفسه ص 39

27- ان الخلاف يقع في مقاصد البحث ليس في تبويبه0

28- رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص73

29- رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص72

30- رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص72

31- : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه نقلا عن صبحي حديدي: بات روبنسون ومراة تنظير اليمين الامريكي المعاصر

32-- رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص 72

33- رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص74

34 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص74

35 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه عن عزمي خميس في نبؤات العهد القديم في صلب الثقافة الامريكية

36 : رائد السوداني: الاحتلال الامريكي للعراق 2002 مقدمات واسباب ص 247

37 : رائد السوداني المصدر السابق نفسه ص 246

38 : رائد السوداني المصدر السابق نفسه ص247

39 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص 248

40 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص 248

41 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص 248

42 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص248

43 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص246

44 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص175

45 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص176

46 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسهص176 نقلا عن كلود جوليان في الامبراطورية الامريكية

47 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص 175

48 : رائد السوداني المصدر السابق نفسه ص175

49 : رائد السوداني: الاستشراق والتبشير تاملات في دورهما السياسي ص92 نقلا عن صموئيل هنغنتون في (من نحن)

50 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص92

51 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص 92

52 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص 92

53 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص92

54 : رائد السوداني: الاستشراق والتبشير ص54

55 : رائد السوداني: المصدر السابق نفسه ص57

56 : ناصر الدين النشاشيبي: ماذا جرى في الشرق الاوسط ص128

57 : ناصر الدين النشاشيبي: المصدر السابق نفسه ص 129

58 : ناصر الدين النشاشيبي: المصدر السابق نفسه ص 144

59 : ناصر الدين النشاشيبي: المصدر السابق نفسه ص144

60- ناصر الدين النشاشيبي: المصدر السابق نفسه ص130

61- انتوني ناتنغ ولويل ثوماس: لورنس لغز الجزيرة العربية ص252

62- انتوني ناتنغ ولويل ثوماس: لورنس لغز الجزيرة العربية

63- رائد السوداني: حكم الازمة العراق بين الاحتلالين البريطاني والامريكي: مخطوطة

64- رائد السوداني: المصدر السابق نفسه

65- رائد السوداني: المصدر السابق نفسه نقلا عن علي الوردي في لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث

66- جعفر الخياط من مقدمة مذكرات المس بيل

67- رائد السوداني: المصدر السابق نفسه

68- المس بيل في مذكرات المس بيل

ـ عندما تعي الذات العربية سر تخلفها ستضع التسامح في سلم أولوياتها.

- الثّقافة والفنّ رسالة إنسانيّة، عليها تقع مسؤوليّة تطوير وعي الفرد والنّهوض به إلى مستوى أرقى  

هو كاتب وباحث عراقي يعيش في أستراليا، مؤسس ورئيس تحرير صحيفة «المثقف» الإلكترونية، ومؤسس ورئيس مؤسسة المثقف العربي بسيدني/ استراليا www.almothaqaf.com.

- شارك في عدد من الندوات والمؤتمرات العلمية والفكرية.

- مارس التدريس ضمن اختصاصه في المعاهد العلمية لعدة سنوات.

- حاز على عدد من الجوائز التقديرية على  أعماله العلمية.

- رئيس تحرير ومؤسسة سلسلة رواد الاصلاح.

- رئيس تحرير مجلة التوحيد (فكرية - ثقافية) الاعداد: 85-107

- عضو هيئة تحرير كتاب التوحيد

- صدر له 14 عملا مطبوعا (تأليفا وتحقيقا وترجمة) إضافة إلى عدد كبير من الدراسات والبحوث.

- من كتبه «إشكاليات التجديد» و«التسامح ومنابع اللاتسامح... فرص التعايش بين الأديان والثقافات» و«تحديات العنف»

 معه كان لنا هذا الحوار:104 tasamoh2

•عني الكتاب «التسامح ومنابع اللاتسامح...» بإرساء فكرة التسامح، فكيف يتجذر التسامح ثقافيا في ظل صراع الثقافات، ومحاولة تحويل الذات العربية الى الهامش الذي يدور في فلك الآخر؟

ـ عندما تعي الذات العربية سر تخلفها ستضع التسامح في سلم أولوياتها. لأن تعدد الثقافات أمر طبيعي، فتارة تتصارع وأخرى تتحاور أو تتكامل، والثقافة القوية في أنساقها المعرفية تؤثر بالثقافة الضعيفة. بمعنى هناك ثقافة فاعلة قادرة على  التأثير وأخرى منهزمة. مع التأكيد أن الأولى لا تؤثر ما لم تكن للثانية قابلية على التأثر. فمهما تكن الثقافة المقابلة قوية وفاعلة، إلا أنها ستنهزم أمامي عندما أكون متماسكا، قويا وفاعلا. وبالتالي فأسس المشكلة في ضعفنا، واستعدادنا للفرار عند أول منازلة ثقافية. ومن هنا فإن محاولة تحويل الذات العربية إلى الهامش الذي يدور في فلك الآخر (كما جاء في السؤال) نحن أحد أسبابه الرئيسية، وتارة يكون السبب محصورا بنا. وإذا أردنا النهوض وتجاوز محنتنا علينا العودة إلى الذات لنقدها بعنف كي تتحرر من أنساقها المعرفية، وإعادة بنائها بشكل آخر.

المشكلة الأساس في نظري هي الروح الاقصائية الثاوية في لا وعينا، فرغم حاجتنا للتسامح وقبول الآخر، لتعدد ثقافاتنا وخلفياتنا الدينية والمذهبية، إلا أننا مازلنا وسنبقى نتقوقع في حلبة الإيديولوجية، ونتحصن بها ضد الآخر. فالآخر بالنسبة لنا إما أن يشبهني وإلا فهو عدوي وإن لم أصرح، ويكفي دليل على ذلك انطباع كل دين عن دين، وكل مذهب عن آخر، وأيضا الصراعات السياسية المستشرية. فلغة التكفير والتنابذ سلاحنا في التفاهم مع أبنائنا وإخواننا، فكيف بالآخر البعيد؟. لذا تأصل فينا الضعف، وأصبحنا أجزاء متناثرة، تتشدق بعناوين فارغة لم تستطع الصمود في مواجهة التحديات الثقافية. وعليه يجب التخلص من الروح الإقصائية كشرط أساس لنهوضنا، والارتقاء بنظر الفرد العربي من مستوى الايديولوجيا إلى مستوى قيم الإنسان، ومن ثقافة الاقصاء والتنابذ الى  ثقافة التسامح، كي توحدنا الإنسانية، ونكون كتلة متماسكة في بنائها الثقافي والمعرفي. وهذا لا يتحقق ما لم تنتشر قيم التسامح، ويتبنى الجميع ثقافة قبول الآخر، بعيدا عن خصوصياته.

يجب أن يفهم الإنسان العربي أن الخصوصيات وجهات نظر لا تمثل الحقيقة المطلقة، وما دامت وجهات نظر فهي تحتمل الصواب والخطأ. وعليها تقبّل المراجعة والنقد.

إذن أعود للسؤال وأقول أن إرساء قيم التسامح ممكنة في ظل الصراع الثقافي (مع تحفظي على  الإطلاق في السؤال) شريطة أن تعي الذات العربية سر تخلفها، وتنوي التخلص من الروح الإقصائية، حينئذ سيكون التسامح الثقافة الأساس في  عملية إعادة بناء الذات العربية. 

هل ترى أن التسامح نسق ثقافي، وفكري، وعقيدي مغاير وليس مفهوما إيديولوجيا؟

ـ لا شك أن التسامح نسق ثقافي وفكري وعقيدي مغاير لمفهوم الإيديولوجيا. بل يتقاطعان، فالايديولوجيا ترتكز إلى تنزيه الذات، والشعور بالتفوق والفوقية، وامتلاك الحقيقة المطلقة، كما يرتكز الوعي في الايديولوجيا للعواطف والمشاعر والحماس، والدفاع عن العقيدة، وعدم مناقشتها فضلا عن نقدها. كما ان الايديولوجيا تحتكر الحقيقة وتحرم الآخر منها تماما، فلا تتوانى في اضطهاده، وتكفيره كمقدمة لاستباحة دمه. والتاريخ يعج بالصراعات الايديولوجية، وعدد ضحاياه يفوق التصور. لأن الفرد الايديولوجي مؤمن بما يعتقد إلى درجة يحرّم على نفسه قبول أي ملاحظة فضلا عن النقد العنيف، ومستعد للتضحية من أجل ما يحمله من أفكار مؤدلجة. فالحكم في الايديولوجيا ليس للعقل والمراجعة وإنما للعاطفة والمشاعر فقط.

أما التسامح، فيختلف جذريا عن الحس الايديولوجي، ويرتكز أساسا إلى العقل والنقد والمراجعة، ويرفض احتكار الحقيقة المطلقة، ومستعد للمراجعة والنقد، وتغيير وجهة نظره، إذا ثبت العكس بأدلة قاطعة وصريحة، ومستعد للتعايش مع الآخر على أسس إنسانية بعيدا عن الخصوصيات. من هنا صار التسامح نسقا فكريا وعقيديا وثقافيا مختلفا.  

• كيف ترى الثقافة والفنون دون نسق قيمي وأخلاقي؟

ـ الثقافة والفنون تجليات لنسق فكري وعقيدي وثقافي، ودائما تعكس في طياتها شحنة فكرية وثقافية عالية. فهي بالتالي تحمل نسقا قيميا وأخلاقيا ولو بنسب متفاوتة، إلا أننا نختلف في تحديد تلك القيم. هل القيم والأخلاق قضايا مطلقة أم نسبية؟، فمثلا ما نراه محرما قد لا تراه ثقافات أخرى كذلك. ويبقى كل إنسان وما يحمل من خلفية، وهناك من يقول بالفصل بينهما، وآخر لا يطيق ثقافة وفنونا بعيدا عن الأخلاق والقيم سواء الدينية أو الإنسانية والاجتماعية. وهناك من يتحدث عن الجنس أدبا وثقافة وكأنه يلهو بملهاة، لا يهتم لأحد. وآخر يتعفف في منطقه ويكتفي بالإيماء والرموز ان أراد التطرق للجنس.

ويبقى المجتمع هو السلطة التي تقيد منطق الفرد، لولا انهيارها في فضاء الانترنيت. أما بالنسبة لي، فأنا تهمني التداعيات الخطيرة المترتبة على ذلك، لأن الثقافة والفن رسالة، وإن لم تكن مؤدلجة، إلا أنها رسالة إنسانية، عليها تقع مسؤولية تطوير وعي الفرد والنهوض به إلى مستوى أرقى، وما لم تشتمل الرسالة على نسق قيمي وأخلاقي، سوف تفضي بالمجتمع إلى  الانهيار.

وربما تسألين: ولماذا لا تنهار المجتمعات الغربية الحرة؟ أقول المقارنة خطأ، ولكل مجتمع خصائصه ومصادر تماسكه. فمهما تحرر الفرد المسلم والعربي، إلا أن المجتمع بشكل عام ما زال يزخر بالقيم، يتبناها وتعهدها ويحافظ عليها، وهي سر تماسكه. 

• ظهرت ثقافة العنف وفنون العنف في مجتمعات القانون والمؤسسات، وخاصة ثقافة العنف التي تبخس المرأة كقيمة، والتي ترسي التوتر بين طرفي المجتمع، ما هي منابع العنف في المجتمعات المنظمة في رأيك؟

ـ في كتاب تحديات العنف (للكاتب نفسه) الذي صدر مؤخرا هناك فصل يتقصى علاقة الذات الإنسانية بالعنف، هل هي ذاتية أم لا؟ وهناك قلنا أن العنف ثانوي في اعماق النفس البشرية، وينتظر شروط فاعليته. فهو موجود سواء كانت الذات عربية مسلمة أو أجنبية غير مسلمة. كل إنسان يحمل استعدادا كامنا للعنف، متى توفرت شروطه يتحول الى  فعل خارجي. ومناشيء العنف متشابهة في  أغلب مصادرها. فالروح الاستعلائية لدى  الرجل والشعور الذكوري موجود، يلازم الإنسان، لكن يختلف من شخص إلى  آخر كلا حسب ثقافته وخلفيته. فهناك كبح مستمر للعنف في دول القانون فلا يظهر إلا نادرا لكنه غير معدوم تماما. وعندما أقول نادرا   أعني ما أقول باعتبار أنا أعيش في تلك المجتمعات، وأتابع مساراتها. وإنما يسلط عليها الضوء في أعلامنا لأسباب أيديولوجية، كي نثبت للمخاطب درجة انحطاط تلك المجتمعات من الناحية الأخلاقية، فيهول الخبر، لكن عند دراسة النسب المعلنة مقارنة بعدد السكان وطبيعة المحيطات الاجتماعية نجد النسب عادية. ولم يقتصر العنف في تلك الدول على  الرجل، بل المرأة أيضا تمارس العنف في حالات خاصة. ولو لا شدة القانون ورفد الوعي باستمرار ثقافيا وفكريا، ربما كانت الممارسات أكثر شيوعا فيها. لكن مهما كانت النسب لا تقارن بالنسبة في بلداننا العربية والإسلامية للأسف الشديد على الضد من قيمنا الدينية. 

• هل ترى أن الحداثة تحمل بين طياتها خطاب العنف، بما أنها تذيب الذات العربية والإسلامية وتهمشها وتهشمها؟

ـ لا أدري بالضبط إذا كنت الحداثة تحمل بين طياتها خطاب العنف، وحبذا أمثلة أخرى لتوضيح الصورة (إلا إذا رافق دخول الحداثة قوة عسكرية أو مخابراتية)، وأما الاستدلال بأن الحداثة تذيب الذات العربية والإسلامية وتهمشها وتهشمها، فهذا يحتاج إلى دليل. وأنا هنا لست أدافع عن الوافد الغربي، ولا أقوم بحمايته، وإنما أتسلح بالموضوعية للرد على  السؤال، لأني أشرت في الجواب الأول إلى  أن السبب الأساس في هزيمتنا مقابل الوافد الغربي هي القابلية على  التهميش والتهشيم، بسبب الروح المفككة والمتصارعة في داخلنا. ولولا ذلك لكانت لدينا حصون تقاوم الاختراق، إذ من الطبيعي أن تحمل الحداثة في طياتها انساقا ثقافية مغايرة، وقد أثرت بالفعل في جانبيها الإيجابي والسلبي. إلا أننا نحن المسؤولون أولا عن الشق الثاني.

 ***

حاورته: هيام الفرشيشي 

.................................

هذا الحوار خاص بصحيفة الحرية التونسية (عدد: الخميس 8-4-2010)، وقد تمت الموافقة على اعادة نشره في صحيفة المثقف، فيرجى ملاحظة ذلك.

تفكيك خطاب سوء الفهم، هو ما يطمح إليه ماجد الغرباوي في كتابه "التسامح واللاتسامح ـ فرص التعايش بين الأديان والثقافات" الذي صدر أخيرا في بغداد عن معهد الأبحاث والتنمية الحضارية بالإشتراك مع المعارف للمطبوعات الحضارية، وكان قد صدر سابقا في طبعته الاولى عن: مركز دراسات فلسفة الدين / بغداد ضمن سلسلة "ثقافة التسامح" .

يتعمق الكاتب في مفهوم التسامح مقِرّاً بأنه يفترض يداً أعلى من يد لكنه في آن واحد مقيّد بالفهم المعاصر لناحية قبول الآخر كما هو، وعلى ما هو، ومن يكون، وأينما يكون، وعدم الإنقطاع في الحوار من مدخل التكامل وليس من مدخل الهداية التي تفترض أن الواقف على الضفة الثانية هو كافر، وليس إذا اهتدى فله، وإذا لم يخلع عنه الضلال فليس هو على ما لم يخلع، وحسابه هو في العالم الآخر كما جوهر الكتاب، بل يجب أن يستعد لحرب ضروس تسيل فيها النفوس.

يطل الكاتب على مفهوم المواطنة الذي يليق بالوطن الحق حيث الناس كأسنان المشط في الحقوق والواجبات بغض النظر عن أي هوية أخرى بالوراثة أو بالإختيار، أي على عكس القبيلة مثالاً لا حصراً، التي لا تقيم وزناً للكفاءة وتُقدّم اعتبارات لا سلطان فيها لكي يتصدر المتصدرون، ومنها اللون والعرق أو الدم أو النسب.

يقف الكاتب من حديث "الفرقة الناجية" موقفاً، فهو لا يراه إلا موضوعاً ولا سوية فيه ويؤسس لاحتراب ظالم لا نهائي، وهو الحديث الذي لم يرد لا في خزنة صحيح الإمام البخاري ولا في خزنة صحيح الإمام مسلم، ويتطير منه العلاّمة السيد محمد حسين فضل الله الذي يقول في معرض التطرق إليه: "لم يثبت عندنا صحة هذا الحديث من جهة السند فلا مجال للإعتماد عليه كما أن دلالته قد تخلق بعض المشكلات المعقدة باعتبار كل فرقة ذاتها بأنها الإسلام وغيرها الكفر أو أنها الهدى فيما الآخرون هم الضلال".

زبدة كتاب "التسامح واللاتسامح" هي نبذ العنف بكل أشكاله، وأخصّه الدموي. والحق أن الكاتب راسخ في ثقافته الإسلامية التسامحية حتى أبعد آفاقها ولا يخشى معها ومع الإسلام الحضاري ومع الله تعالى لومة لائم، ويقارب موضوعه بجلاء من أكثر من ناحية ولا تعوزه كفاءة الإستشهادات من الكتاب الكريم والسنّة النبوية الشريفة والصحابة رضي الله عنهم والتاريخ والوقائع ومنطق العقل المعاصر. إنما تبقى ركائز: هل النزاع هو حول النص المقدس أم في ما يمكن أن توضع اليد عليه؟ هل هو في التفسير والتأويل أم في تضاد المصالح؟ ما هو دور الإحتلال في تأجيج الفتن وانقلاب الحال إلى أسوأ منقلَب؟ وأسئلة أخرى يكون الجهد معها أيضاً في المحل العالي.

 ***

شوقي مسلماني     

تكمن اهمية هذا الحوار رغم مرور اربع سنوات على اجرائه، ان الاستاذة القديرة الاعلامية والاديبة بريهان قمق قد اجرته مع رئيس التحرير، بعد عام على صدور المثقف، وحاورته من خلال منجز صحيفة المثقف، دون سابق معرفة بالمحاور حتى اسمه. لذا أرتأينا اعادة نشره لاهميته .. المثقف

- المثقف: يجب ان يحل التسامح بدلا من التعصب، ويسود منطق نسبية الحقيقة، ويتلاشى منطق احتكارها.

- ان صدور الصحيفة مجردة عن الاسماء ترمز الى تجرد المثقف وتعاليه عن كل خصوصية سوى بعده الانساني.

** يؤثر المثقف ان يكون فكرة لا شخص بعينه، لذا يبدو اللقاء غريبا ..وفي يوم "المثقف" تملكني الفضول، واجتاحتني حمّى الاسئلة .. ربما هو شيء من طبيعتي كمذيعة محاورة معجونة خلاياي بالتساؤلات، فها أنذا أحملها عبر الأبعاد السيبيرية ليتم التعرف على "المثقف" أكثر ونحن نحتفي بكل حميمية بمضي عامه الأول ونخطو معه عامه الثاني ..

المثقف: بالتأكيد، وبدوري اشكر مبادرتك الواعية للتعرف اكثر على صحيفة المثقف، واهلا وسهلا بك.

**كيف جاءت الفكرة ما هو المشهد الذي أصاب المثقف رعشة الحلم لانشاء موقعه.. ؟؟

المثقف: ثمة شعور عميق لدى المثقف (سيما المثقف المهمش) بالحاجة الى فضاء يوفر له هامشا حقيقيا من الحرية. فضاء يعبر فيه عن افكاره وارائه ومعتقداته بعيدا عن مقص الرقيب، ويمارس النقد دون اضطهاد او تعذيب. يصرخ ويفضح لا يطاله سوط السلطة او ملاحقة اجهزتها الامنية. انه حلم حرية التعبير التي عانى بسببها المثقف، دخل السجون، ارتقى المشانق، عاش مشردا، فقيرا، مهمشا، منبوذا. حلم حرية الاعتقاد ومناقشة العقائد، والوقوف ضد التزييف وقتل الانسان باسم الدين والاله ظلما وعدوانا. حلم التحرر من ايديولوجيا السياسة، والفهم المبتسرللدين، الذي قمع الرأي الاخر، واستأثر بالحقيقة، وشوه معالم المختلف ثقافيا ودينيا.

ففكرة الصحيفة –اذن- هي التوفر على فضاء يستوعب احلام المثقف في التحرر من ربقة الاضطهاد والاستبداد والتهميش، كي يكون وفيا لوظيفته، وتنطلق ابداعاته، وتتفتق قابلياته، وتتحرر انساقه الثقافية والفكرية، ويتمكن من خلق راي متميز يمثله ويعكس وجهة نظره، بعيدا عن اكراهات الاستبداد الديني والسياسي والاجتماعي.

ولما اطلت الشبكة العنكبوتية، وصيرت العالم قرية صغيرة، وجد المثقف ظالته في التوفر على فضاء سليم يستوعب احلامه، ويلبي حاجته في التعبير والنقد. ثم ان الانترنيت وفر له فرصة التواصل مع جميع مثقفي العالم. فبينما كان المثقف يعجز عن ايصال صوته الا لمساحة محدودة، وهي البقعة الجغرافية التي يمكن للمطبوعة الورقية وصولها، صار صوته يخترق الحجب والاسوار ويدخل كل زاوية على الارض ما دامت متصلة بالشبكة العالمية. وايضا كان لا يمكنه الاطلاع على الافكار والثقافات سيما المعارضة والتي تحمل وجهة نظر اخرى الا بقدر ما تسمح به الظروف السياسية والاجتماعية، غير انه وجد في الشبكة العنكبوتية امكانيات هائلة، فكان من الطبيعي ان يستثمر هذا التقدم التقني لخدمة اهدافه الثقافية، وينطلق من جديد خارج سلطة الاسوار الحديدية، التي كبلت ابداعه ورؤيته. وبالفعل راح المثقف، في جميع المجالات يقدم جديدا متميزا بفضل ما يتمتع به من هامش حرية كبير، وامكانيات عالية للتوفر على المعلومات والاحصائيات والبيانات من خلال محركات البحث التي تضع كل شيء بين يديك خلال ثوان.

من هنا وجد المثقف فرصته في تأسيس صحيفة ثقافية، تمثل صوته، ورأيه، وتوفر له هامشا كافيا من الحرية، وتحول دون اضطهاده او قمعه، وتجنبه سلبيات المواقع الالكترونية الاخرى. وبالفعل نجحت الفكرة ومر على الصحيفة عاما كاملا بدأت تظهر معالمها واضحة جلية.

فالفكرة ليست آنية وانما وجدت مناخا مناسبا لتتجسد عبره، حيث اتخذ المثقف من الانترنيت موقعا جديدا لمواصلة مسؤولياته التاريخية، وينطلق في مراكمة ابداعاته ونتاجاته الفكرية الادبية، من خلال الانفتاح والتفاعل مع الآخر بجميع اتجاهاته.

كانت الصحف الورقية تضيق بالمثقف وآرائه واحتجاجاته ومعارضته وتطلعاته الواسعة، كما كان المثقف يتذمر من سلطة الرقيب وقيود الرقابة وضوابط النشر التعسفية، وكثرة الخطوط الحمراء،وتزايد المحرمات، فتحرر دفعة واحده عبر فضاء الحرية على الشبكة العنكبوتية، وصار يؤسس لنفسه مواقع ثقافية وفنية وادبية تلبي كل حاجاته وضروراته، وقد تشجع اكثر عندما وجد اعداد المتصفحين والمتابعين في تزايد مضطرد، واتخذ التفاعل مسارا تصاعديا.

**المثقف عيناه ذكيتان ومكسورتان ايضا، تنمان عن رغبة في توليف الروحي والواقعي بهدفية احتضان الانسان في مطلق فوارقه ونتوءات سلبياته، ولكن ورغم محاولاته المضنية كي يكون ضد النسيان والتهميش إلآّ أن مرحلة ما بعد الحداثة التي راحت الى الإطاحة بمفاهيم كثيرة بما في ذلك مفهوم المثقف ..! فما رأي " المثقف " ..؟؟

المثقف: اذا كان المقصود ان ما بعد الحداثة اطاحت بوظيفة المثقف الايديولجي الذي لا هم له سوى شرعنة السلطة السياسية المستبدة وتبرير ممارسات السلطان، وتزوير الوعي، فالكلام صحيح، فلم يعد هناك مكانا لمثقف السلطة، سيما في الانظمة الديمقراطية، التي تعيش التعددية وتمارس النقد علنا. كما ان حرية الرأي عبر شبكة الانترنيت اخترقت كل التابوات والاسوار الحديدية، وباتت تسمى الاشياء بمسمياتها، وتغور في النقد حتى تصل الى عمق بنى الافكار والثقافات، وتمارس التفكيك بحرية، لا تتهيب مقدسا، ولا يصدها تقليد او عرف سياسي او اجتماعي. وبات كل شيء على المكشوف، بل بات مثقف السلطة يبحث عن مأوى في الارض او السماء فلا يجد سوى رشقات النقد تلاحقه في كل مكان. بهذا المعنى ما ذكرتموه صحيح.

واذا كان المقصود اضمحلال وظيفة المثقف بشكل عام، بسبب تطور المجتمع ودخوله مراحل حضارية راقية، فانا ما زلت اعتقد (والواقع يؤكد ذلك) بدور المثقف حتى في المجتمعات الراقية حضاريا فضلا عن مجتمعاتنا التي ستموت بموت المثقف، او عزلته. (ولا شك ان المقصود هنا المعنى العام للمثقف، فيشمل كل نخب المجتمع). بل لا يمكن ابدا ان تنتهي وظيفة المثقف، ما دام هناك ثقافة ووعي، وما دام هناك ابداع وتطور.

فوظيفة المثقف في النقد والتقويم لا تنتهي في المجتمعات الديمقراطية، بل ان قوام هذه المجتمعات هو النقد والشفافية والحديث علنا عن الاشياء مهما كان درجة خطورتها، وهي وظيفة المثقف بامتياز، لانه الاكثر وعيا، والاقدر على التضحية. واما في مجتمعاتنا التي ما زالت تعاني سلطة المستبد وتعيش احادية الفكرة والرأى، فما زال امام المثقف شوط طويل من اجل تعميق الوعي وتحريره من سطوة الايديولوجيا والخوف والانكفاء او الانزواء. والتصدي لكل ممارسات التزوير والخديعة تحت أي عنوان او لافتة، سياسية او دينية.

و ما زال للنخبة المثقفة دور الريادة، وما زالت قادرة على التغيير، وتوجيه المجتمع وتطويره، سيما اذا سمحت لها الظروف وتوفرت على قدر مريح من الاجواء الحرة، من هنا نحن نعول على المثقف وامكانياته.سيما اذا اخذنا بنظر الاعتبار جدوى التحولات الديمقراطية المنشودة فيالمنطقة، ورفض الشعوب لمنطق المؤامرة والانقلاب العسكري، والتحالفات العسكرية. وبالتالي ما زال للمثقف دور كبير في مستقبل التحولات السياسية والاجتماعية.

**الحزن منثور على الجغرافية العربية دون استثناء، بالإضافة إلى شرخ حاد بين المختلف أو المؤتلف بين الهويّات والمذاهب والأطياف والإثنيّات والأعراق ...هل يشكل ذلك عبئا على موقف "المثقف" أم العكس هو مصدر تنوع وإثراء ..؟؟

المثقف: احد اهدافنا هو ان تكون الصحيفة مساحة تلتقي عليها كل الاتجاهات الفكرية والثقافي والسياسي، باعتبار ان التنوع مصدر إثراء وتراكم وتثاقف يفتقر اليه الجميع. فنحن ضد المنحى الايديولجي الذي يفرض لونا واحدا من الثقافة، ويصادر الرأي الاخر. نحن جعلنا الاعتراف بالرأي الاخر احد مبادئ الصحيفة الاساس، اذا نعتقد ان الرأي لا يكتمل ويكتشف حقيقته الا بجوار الرأي الاخر. وان العلاقة بين الانا والاخر، علاقة تثاقف وتكامل، وليست علاقة عداء واحتراب، وهذا هو المنطق القرآني ايضا، (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك ولذلك خلقهم). فوجود الانسان يتوقف على الاختلاف وتعدد وجهات النظر، ولولا هذا الاختلاف لكان مسار البشرية شيئا اخر.

ان مبدأ رفض الاخر، ينتهي بنا – كما هو الحال – الى تفشي ثقافة الموت والعنف والاحتراب، بعد كراهية الاخر، وتكفيره. وعليه يجب التحرر من سطوة قبلياتنا من اجل الحفاظ على حقوق الانسان، ويجب ان يحل التسامح بدلا من التعصب، ويجب ان تتحول نقاط الخلاف الى مادة للحوار، ويسود منطق نسبية الحقيقة، ويتلاشى منطق احتكارها، الذي كلفنا باهظا على يد الاتجاهات الايديولجية، التي سمحت لنفسها بقتل الاخر بعد اقصائه وتهميشه وفق تضخم الذات وشعورها بالفوقية والتعالي على اساس استئثارها بالحقيقة دون غيرها. فكل ما عداها خطأ مطلق، منحرف، زنديق، كافر، يجب قتله وتصفيته، وللاسف وفق هذه المعادلة تسير العلاقة بين الاطراف المتناحرة، رغم انها من دين واحد، وربما مذهب واحد، او قومية واحدة، او هدف واحد.

نحن نؤسس في الصحيفة لمنطق نسبية الوصول الى الحقيقة، فلكل فهمه ورؤيته، ومن حقه التعبير عنها ونقد الاخر على اساسها، وفق منطق عقلي لا يجانب الاطار العام للاخلاق والقيم البشرية. وندعو لتحييد الخصوصية، وعدم صيرورتها سلطة فوقية تعيق التعايش بين الثقافات والاديان، ونؤكد الاساس الانساني في التعامل، مع احترام خصوصية الفرد، مادام يحترم الاخر ولا يصادر حقه في حرية التعبير والنقد.

**العرب ما زالوا على علاقة سيئة بالكمبيوتر والتكنولوجيا، ويرى البعض انها تتعارض مع الكتابة الإبداعية وما زال هنالك من ينظر اليها شزرا وتعاليا،وثمة ضعف شديد بالثقافة المعلوماتية حتى لدى المتعاملين معها، فهل كل هذا يسبب " للمثقف" أي اشكالية أو ارباك ..؟؟

المثقف: ابدا، لقد بات التعامل الصحيح مع الكامبيوتر والتكنلوجيا معلما حضاريا، سيما ان الشبكة العالمية وفرت امكانيات للكاتب والباحث لا تتوفر عبر أي آلية اخرى. والتراكم المعلوماتي يفوق التصور، ومن يجيد التعامل مع الانترنيت والحاسوب يمكنه الاستفادة منها في تطوير ثقافته وفكره وبحثه العلمي، كما يمكنه الاستفادة منها لتسويق افكاره ورؤاه ونظرياته، بالاضافة الى انه اسهل الطرق للتواصل مع العالم اجمع. فمثلا بات من السهل جدا متابعة بحوث الجامعات ومواصلة الدراسة والبحث عبر الانترنيت، كما بات من السهل الاشتراك بالندوات والسمينارات والقاء المحاضرات ومناقشتها عبر الشبكة العنكبوتية. وفي كل هذه مجال واسع للتطور، فكيف تتعارض مع الابداع، وكيف ينظر لها شزرا او تعاليا..!!

اعتقد ان سبب النظرة المتعالية هو الجهل كما تفضلتي والضعف الشديد بالثقافة المعلوماتية، وهو ديدننا مع كل وافد علمي، ومن كل جديد، (ولنا مع الاسف مواقف مخجلة من دخول المطبعة، والمذياع، ثم التلفزيون .. الى اخره). لكن ستتغير نظرة الناس اليه بشكل تدريجي سيما اذا اعتمدت مدارسنا وطلابنا عليه وارتكزت الى المناهج الرقمية، كما هو الحال في الدولة المتقدمة، التي تعتمد الانترنيت احد وسائل العملية المدرسية، فالطالب في الدول المتقدمة يعتمد في بحثه اليومي او الاسبوعي على الانترنيت بنسبة 90%. لكن للاسف ما زالت المشكلة في حواضرنا العلمية في مناهج البحث وطرق التدريس، واسلوب التوفر على معرفة صحيحة وعملية ونافعة.

واما عن النقطة لاخيرة، فان هذه الحالة لا تشكل لنا أي ارباك في الصحيفة، وبامكانك مطالعة التقييمات، التي كانت احدها لك انت، وانظري لمصداقية الصحيفة في الوسط الثقافي على لسان الاخوة الاساتذة الكتاب والباحثين، ممن ادلوا بشهاداتهم مشكورين، بحيادية وموضوعية عالية، لسبب واحد، هو ان علاقتهم كانت مباشرة بالصحيفة، منقطعة عن القائمين عليها.

ثم ان حالة الجفاء بالانترنيت ستتلاشى بمرور الايام ما دام هناك انفتاح على العلم والتطور التكنلوجي. فكم من نظام استبدادي دكتاتوري مقيت حرم شعبه من نعمة الانترنيت والفضائيات، لكنه في آخر المطاف فشل فشلا ذريعا، واستطاع الناس التحايل بفضل الامكانيات العالية، على مقررات الامن وسلطة الدولة واخترقوا الاسوار ووصلوا على الشبكة العالمية واطلعوا على ثقافات اخرى، واراء اخرى، وشاركوا اخوانهم في العالم بما جادت به امكانياتهم المطوقة.

**كثيرا ما لاحظنا ان بعض المواقع الثقافية الجادة الملتزمة الرائعة تعرضت الى هاكرز وتخريبات للملفات.. فما خطواتكم لحماية الموقع وتوفير الأمان للمتصفح وللمواد الإرشيفية التي باتت مرجعا عبر محركات البحث ..؟؟

المثقف: نحن على اتصال مستمر مع المهندس المختص ومع الشركة المضيفة لتأمين اكبر قدر ممكن من الحماية للصحيفة وملفاتها، لكن تارة يكون التخريب خارقا لا تنفع معه الاجراءات الاحترازية، ومن الله نستمد الامن، فهذه مشكلة ما زالت تؤرق العالم اجمع. بل كلفت البنوك العالمية مليارات الدولارات المسروقة بسبب الاختراق.

ثم لدينا بعض الاجراءات التقنية اعتقد ستساعدنا على الاحتفاظ بقدر كبير من الارشيف فيما لو تعرضت الصحيفة لعمل تخريبي.

لا اكتمك سرا، عندما علمت ان بعض الدول ارعبتها صحيفة المثقف وحجبت الموقع عن مثقفيها انتابني خوف شديد، وبت قلقا جدا، فربما تسول لهم انفسهم عملا تخريبيا، وللاسف راح بعض الكتاب يستغل هامش الحرية الكبيرة ليستفز بعض الحكومات، دون نقدها بشكل موضوعي علمي. نحن مع النقد الموضوعي العلمي المنطقي، ونعتبره حقا طبيعيا لنا ولكل الناس، غير ان بعض الكتاب لا يفهم منطق التعامل الا وفق رؤيته ومنهجه، التي غالبا ما تتعارض مع ضوابط النشر عندنا، بل بعضها يخرج عن اطر الاخلاق العامة، ونحن لا نسمح بتراشق الالفاظ، واستخدم الكلمات النابية والتجريحية، واذا حصل شيء فانا اعتذر للجميع عن ذلك، واؤكد انه لا يمثلنا، ولا يمثل مواقفنا، وانما هو استغلال لهامش الحرية، ساعده عليه ضغط العمل وتواضع الامكانيات.

** بالمناسبة .. شعار الموقع قلم وورقة، هل في ذلك رؤية ما أم انها رحلة البدء وثمة مساحة للتغيير واتجديد ..؟؟

المثقف: لا شك نحن نطمح دائما لتحديث الموقع وشعاره، نواصل التجديد ولا نتوقف عند نمطية خانقة. اما بالنسبة للشعار الحالي فاعتقد (وهذه وجهة نظر) انه يعبر عن اشياء تمت الى المثقف بصلة وثيقة، فالقلم والكتابة احدى ادواته التي لا يستطيع الانفكاك عنها، لكنها ثقافة غير منعزلة عن الواقع (وهذا ما نؤمن به) لذا كانت هناك مساحة شاسعة الى جانب القلم تمثل الواقع بامتداده العميق، ثم ان اللون الازرق يرمز الى صفاء الانسان عبر صفاء الماء والسماء، كما انه يرمز الى زرقة اثار التعذيب، وما يتحمله المثقف في مساره التغييري، فالتعذيب داخل سجون الطغاة والمستبدين يترك بقعا زرقا. ودائما هناك املا في الوصول الى الهدف من خلال البياض المتناثر على اللوحة، وتبدو اللوحة متموجة ومتدرجة لترمز الى صعوبات الحياة، وتحث المثقف على العمل ومواصلة الدرب، وليس الانزواء والتعالي، والاكتفاء بالخطابة والكتابة واللقاء الشعر. وايضا فان التغير مراحل ودرجات ولا يتحقق دفعة واحدة.

وربما لدى الاخوة والاصدقاء وجهة نظر اخرى او تصميم اكثر تعبير يتناسب مع مهمة ومصداقية المثقف، نحن نرحب بكل مقترح، ونطرحه للمدارسة والنقاش.

**هل هنالك رصد لطبيعة ونوعية واتجاهات المتصفحين والمتفاعلين مع الموقع ..؟؟

المثقف: اعتقد ان طبيعة المقالات والنصوص المنشورة تفرض لونا معينا من المتصفحين، فهي لا تستهوي سوى المثقف الباحث عن الحقيقة، والمتابع للمعلومة، ولديه توق للتطور، وايضا من يعشق الكلمة الصادقة، التي تستنبت قيم الانسان، والتحرر، وتنزع عن قلوبنا الاغلال والاحقاد. وهذا واضح من خلال التعليقات فانها تشي بصنف خاص من المتصفحين، فنحن ربحنا النوعية على حساب الكمية. فمثلا تارة الاحظ بعض المتصفحين يمكثون في مطالعة المواد المنشورة عدة ساعات، وهذا بحد ذاته شيء عظيم لا يقدر عليه سوى المثقف الذي أدمن المطالعة، ويهمه الوصول الى المعرفة. او ان بعض المعلقين يؤكد في نقده وتعلقه، انه ينتقد من باب الحرص على الصحيفة ومستواها الادبي والثقافي، وهذا شيء مفرح، ان تجد من القراء من يحرص على الصحيفة، وليس هناك تبرير سوى ان الصحيفة باتت تمثل طموح المثقف ولو بمستوى محدود نأمل في تطوره ان شاءالله تعالى.

لكن قبل ذلك علينا ان نحدد مستوى الصحيفة وتجاهها من خلال ما يكتب فيها، فان المستويات الراقية للباحثين والكتاب والشعراء والادباء اعطى للصحيفة رونقا وطعما خاصا وجعلها تتميز بنوعية الطرح العلمي والثقافي والادبي. ولا شك ان عددا كبيرا من الكتاب والادباء لهم حضورهم في مجال تخصصهم، وهذا بلا شك ينعكس على عمل الصحيفة ومستواها.

واجد من خلال الرسائل ان الصحيفة تطالع حتى من قبل مسؤولين على مستوى وزراء او مستشارين كبار في بعض الدولة، فيبعثون برسائل تهنئة وتشجيع، وانا بدوري اشكر جميع الكتاب ممن ساهموا حقا في رفع مستوى الصحيفة، واشكر جميع المتصفحين ممن احتضن الصحيفة وشجع على استمراراها.

** مَن هو " المثقف".؟؟ ومن هو المنشغل بالموقع متحملا مسؤولياته ...؟؟

المثقف: لا شك ان المنشغل بالموقع ومن يتحمل مسؤوليته قد امن بالفكرة، فكان مستعدا للتضحية، والصبر، وفاء لقناعاته وتطلعاته.

لا تحسبين سيدتي ان العمل هين، او سهل، انما جهد متواصل، وعلى مدار اليوم، وتواصل حميم مع الكتاب، ومتابعة يومية لكل شيء، اضافة الى نفقات العمل الباهضة. بل ان الصحيفة كانت على حساب مشاريعنا الكتابية الاخرى، للاسف الشديد، غير ان ثمار عملنا عوضنا الكثير، فقد ربحنا القارئ النبه، والكاتب الواعي، وتمكن المثقفون من بلورة تجاه ثقافي متميز من خلال الصحيفة. وصاروا يشعرون انها احدى منابرهم الثقافية والادبية.

تعلمين نحن لم نفرض أي ضابطة على الراي، وانما هناك ضوابط تحريرية، وتركنا مسار النشر يحدد تجاه الصحيفة، والحمد لله رب العالمين، اجد ان الصحيفة خطت لنفسها عبر كتابها وباحثينها وادبائها وفنانيها مسارا ثقافيا، وهو ما نطمح له من خلال هذا المشروع.

كم هو مفرح ان يتعامل المثقف مع الافكار مباشرة، بعيدا عن الاسماء وخلفياتتها؟ ويبقى متوازنا ضمن سياق البحث والتقرير. لذا رغم اصرار الاخوان على تثبيت الاسماء لكن ما زلت اعتقد ان التجربة ناجحة، ويبقى المسؤول الاول عن الصحيفة هو المثقف، مجردا عن أي خصوصية، وان احب الامتياز هو المثقف نفسه، فهو المسؤول وهو الكاتب وهو القارئ.

ان صدور الصحيفة مجردة عن الاسماء ترمز الى تجرد المثقف وتعاليه عن كل خصوصية سوى بعده الانساني، كما انها ترمز ايضا الى ان المثقف قد نزل عن عليائه، وصار يتنازل عن كل شيء من اجل الحقيقة، وتخلص من تضخم الذات، وبات يفكر بواقعية، ويلامس قضايا مجتمعه وشعبه، ويشاركهم آلامهم وافراحهم.

** قد أشاطرك ببعض الأفكار لكنني أظل أتساءل حول جوهر انكار الذات في سياق إبراز الفكر، وهذا يأخذني الى قلق الإنسان فيما هو وهم أو حقيقي، هي إشكالية معرفية جدلية في الفلسفة الوجودية والتصوفية.. ويبقى الهاجس أين الحقيقي في الذات، الذي يعبرنا بغية تطور الوعي الكوني أهو عبر الفكر أم هيكلنا وصورتنا من لحم وعظم ودم ..!! وبالتالي يصير السؤال كيف نزيل الوهم كي نتعاطى عبر الحقيقي فينا، ولكن يبدو ان الانسان يبقى ملتصقا الى حد كبير بهذا الهيكل وان تجاوزه ويصر على ذلك .. ولكن ليس بالامر السهل أبدا انكار الذات انحيازا لحيادية المعرفة، ويبقى علينا احترام هذا الاختيار.. ولكن ماذا يقول" المثقف" بعد مضي عام .. وأين وما هي أغصان الأمنيات للمرحلة المقبلة .. ؟؟

المثقف: هذا العام هو عام التأسيس، لذا لم نأسف اذا لم نستطع تحقيق كل ما كنا نصبو اليه، من برامج وخطط، وما زال الامل معقودا على همم المثقفين لمواصلة العمل مستقبلا لاكمال ما تبقى من برامج وخطط، مع الاقدام ان شاء الله تعالى على برامج جديدة، في تبني مواقف المثقفين والتعريف بهم وبنتاجاتهم و اعمالهم، والدفاع عن مواقفهم ازاء الاحداث والتحديات. واما مسألة الاسماء فالامر فيها سهل، وربما نعلن عنها او بعضها مستقبلا.

*قطعا الثقافة الحقيقية ليست عملا وثوقيا يقتنع ويجمد عند مرحلة، انها ابداع وعمل غير متناه ودائما وجوده، يتحدد فيه بل بما هو انتقال لولادة خصبة مفتوحة، أشكر البروق التي أضاءت عتمة أسئلتي .. وكل الود والورد للمثثقف ولأسرته الكبيرة في العالم السيبري ...

المثقف: بدوري اشكر الشاعرة والكاتبة المتألقة بريهان قمق التي سجل انضمامها الى الصحيفة اضافة حقيقة، فلها منا كل الود و الاخلاص..

 ***

حاورته: بريهان قمق

شاعرة وكاتبة واعلامية

تمور - 2007م

.............................

السؤال حول شعار الصحيفة، اشارة الى اللوحة الرئيسية القديمة.

- كنا نغرّد خارج «السّرب».. فطالتنا فتاوى التكفير

في الجزء الثاني والأخير من الحوار مع الباحث العراقي الاستاذ ماجد الغرباوي، يطال الحديث ظواهر التطرف والتسامح وتراث الكراهية، ويطرح الغرباوي تقييمه لبعض نماذج الإسلاميين في الغرب وإيران، ويقول أن ‘’العراقيين الموجودين في إيران كانوا أكثر التصاقا بالواقع الشرق أوسطي، فهم أقرب لإدراك حجم الهوة بين القيم الغربية والأبعاد الثقافية التي نعيشها’’.

ويضيف بأنهم ‘’عاشوا الاستبدادين الديني والسياسي، واكتووا بناريهما، وخبروا الفكر الديني، والتنظير المثالي البعيد عن الواقع’’.

مضيفاً بأنهم ‘’شاهدوا عن قرب تلوّن المسارات وفق إرادة رجل الدين. وكيف يُعاد تشكيل الواقع ضمن منظومة قيم معينة’’.

أما الإسلاميون العراقيون في الغرب فيقول بأنهم ‘’يعيشون ضمن شرائح اجتماعية بعضها مولود هناك، وقد تربّى على القيم’’ نفسها معتقدا أن ‘’مشاروعاتهم ناجحة في حدود المكان الذي يعيشون فيه’’ ولكنه يستدرك ويقول ‘’أشك بنجاح تجاربهم عندما يراد تطبيقها ضمن شروط ثقافية شرق أوسطية، لأن الواقع غير الأحلام الوردية الحالمة’’. وفيما يلي نص الحوار:

* ظاهرة اللاتسامح والتطرف والغلو الديني من الأمور التي تُطرح في مقام تشويه الإسلام وتقديم قراءات مبتسرة لمفاهيمه. على أي نحو تموضع ظواهر التطرف والغلو ومشابهاتها في العصر الحديث؟

- هناك أكثر من منشأ لظاهرة اللاتسامح والتطرف الديني، أهمها راهناً، كما في السؤال، الفتاوى التكفيرية التي تصدر من هذا الطرف وذاك، ففقهاء التطرف لا يتورّعون عن إصدار الفتاوى الواحدة تلوى الأخرى، وكلها تبعث على العنف واللاتسامح، وتدعو إلى تكفير الطرف الآخر، وجواز قتله وتحطيمه. وقد ساعد على انتشار هذه الفتاوى سعة وانتشار وسائل الإعلام الحديث من جهة، وتدني مستوى وعي الناس، الذي عمل رجل الدين على تحجيمه وشلّ فاعليته، حتى بات الفرد لا يعي من الدنيا سوى ما يقوله رجل الدين.

تراث الكراهية

كذلك هناك التراث الروائي المثقل بالعنف وتوليد الكراهية والحقد، وتلك النصوص التي تبيح قتل الآخر، وتصفيته فكريا وجسديا، ابتداء من حديث الفرقة الناجية وانتهاء بنصوص وفتاوى الفقهاء السلفيين وغيرهم. كلها ساهمت في تعميق الهوة بين أبناء الدين الواحد، وخلقت حواجز نفسية وشعورية بين أبناء الأمة الواحدة. وكل فرقة أو مذهب صوّر الفرق الأخرى على أنها ضالة، كافرة، تستحق العذاب، ومرتدة عن الإسلام، وَجَب قتلهم وتشريدهم وإبادتهم. فهي نصوص عبأت الأمة بعضها ضد بعض، وما فتئ رجال الدين وكتب التراث تتناقل هذه النصوص وتتباهى بها، لتثبت أحقيتها على الآخرين. تتداولها الأوساط العلمية وتعمل على تنقيحها وتثبيتها تاريخيا، سندا ودلالة، غير عابئة بتداعياتها. للأسف لقد ابتلت الأمة بتراثها، وتحوّلت الكتب الصفراء وباء عليها، لا تستطيع التحرّر من سلطتها، ولا تقدر على تحديها ومخالفتها، على رغم ما فيها من تناقض وتضارب، ورغم كثافة الأبعاد المدمرة.

* هذه دعوة مباشرة لإعادة النظر في التراث؟

- عندما ندعو إلى إعادة النظر بالتراث، والتحقق من تاريخية كلّ نص يرد فيه، ودراسة ظرفه الذي صدر فيه، فبلا شك نحن لا نقصد الدين والنص الديني الذي هو نصوص الذكر الحكيم وما صحّ من السيرة المفسّرة لآيات أحكامه، أو السيرة التي ترسي قيم المحبة والإخاء والصدق والتسامح، أو السيرة التي تدافع بجدٍّ عن قيم الإنسان، وتدعو إلى إحياء روح الإنسانية لدى الجميع.

نموذج الإسلاميين في الغرب

* ما هو تقييمكم للنموذج الإسلامي الذي قدّمه نجاح كاظم وليث كبه وغيرهم من الإسلاميين العراقيين في الغرب خلال العقدين الماضيين (بالمقارنة مع نموذج العراقيين الإسلاميين في إيران مثلا)؟

- لستُ مع استنبات قيم ومفاهيم وأنظمة تنتمي إلى واقع آخر، ما لم تُخترق ويُعاد تكيّفها ضمن الواقع الجديد. فمثلا عندما أدعو إلى المواءمة بين الديمقراطية والإسلام فيجب الأخذ بنظر الاعتبار الواقع الذي وُلدت فيه الديمقراطية، والأجواء الثقافية التي أحاطت بها، وإلا عند استنبات الديمقراطية في أجواء لا تنتمي إلى الثقافة والقيم نفسها، سوف تكون ديمقراطية شوهاء. أنا لستُ ضد الديمقراطية بل من دعاتها، وإنما أرفض طريقة الأخوان في استعارتها، ومحاولة فرضها بالقوة ولمّا نستكمل شروطها الثقافية والاجتماعية والسياسية.

* هل من الممكن الإتيان ببعض الأمثلة التوضيحية في هذا الجانب؟

- أضرب لك مثالا عندما يحتكم الرجل الغربي للانتخابات في فرز المرشح الأصلح - شخص أو حزب -، فإنه يحترم هذا الخيار ويدافع عنه، لان ولاءه للقانون، وليس لحزب أو شخص. ولا يهمه ماذا يكون موقف رجل الدين والكنيسة. لهذا تعمل الديمقراطية ضمن هذه الأجواء وتؤدي دورها. لكن هل ولاء الفرد في مجتمعاتنا للقانون؟ وماذا لو تحرّك رجل الدين أو رجل السياسة أو شيخ العشيرة ضد العملية الديمقراطية؟ هل سينحاز الفرد للقانون ويدافع عن الديمقراطية، أم ينصاع لفتوى الجهاد ويعلن براءته من الحكومة والقائمين عليها؟ بل لا يتردد في إشهار سيفه، والتضحية في سبيل الله والدين لإجهاض المشروع العلماني الكافر؟

أمة مغلوبة

أقدّر جهود العاملين المخلصين في الغرب، وأثمّن انجازاتهم، إلا أن تلك النماذج للأسف تواجه صعوبات شتى في عالمنا الشرق أوسطي. نحن أمة والحمد لله متدينة!، ملتزمة لا تخالف علماءها!، وتستجيب لرجل الدين فيها!، والديمقراطية التي يدعون لها تفترض شروطا لا تتوفر عندنا، ونحن بحاجة إلى ديمقراطية مفرغة من كل حمولتها الإيجابية، لتبقى إطارا نتحكم فيه متى شئنا! نحن نريد ديمقراطية متى ما كانت معنا، ونرفضها حينما تتصادم مع مصالحنا الحزبية والفئوية! نحن أمة لا يحترمنا حكامنا، ولا يخشون تمردنا، أمة مغلوب على أمرها، متى اعترضت توجّهت ضدها فوهات البنادق، أُبيدت عن بكرة أبيها إلى جهنم وبئس المصير! بينما تلك أمة حية، محترمة، يخشاها الحاكم، ويحسب لها ألف حساب، ويسعى لإرضائها بكل الوسائل والطرق.

التلقي الأسترالي للإسلام

* بالمناسبة، أنتم تقطنون حاليا في بلدٍ (أستراليا) ينتمي إلى الإطار الغربي من الناحية الحضارية، فكيف تقارنون بين التلقي الغربي للإسلام كما هو الحال في أوربا وأميركا وبين التلقي الأسترالي له، لاسيما بعد أحداث 11 سبتمبر أيلول وما تلاها من حوادث تفجيرية لبِس أصحابها العنوان الإسلامي؟

- الفرد الأسترالي غربي في ثقافته وسلوكه، وإن احتفظ ببعض الخصوصيات، فهو لا يختلف عن أي مواطن أميركي أو أوربي في نظرته للإرهاب، أو للإسلام الذي ينتمي له الإرهابيون، ممن تشبعوا بثقافة الموت، وكراهية الحياة، والحقد على الآخر، فشوّهوا سمعة الدين، وأطاحوا بقيمه الإنسانية الرفيعة. لقد دمّر هؤلاء كل الجهود الخيرة التي قام بها المسلمون في الغرب وأستراليا، تلك الجهود التي عكست وجها ناصعا نقيا عن الإسلام. ثم جاء هؤلاء ليقيموا ‘’دولة إسلامية’’ في سيدني، فبدأوا بمحاسبة النساء، كخطوة أولى على طريق إقامة الدولة المنتظرة! وعجبي أن هؤلاء من أي طينة خلقوا؟ والى أي ثقافة ينتمون؟ فكانت تداعيات تصرفاتهم أن خلقت فجوة كبيرة بين المسلمين وغيرها. وتبددت كل الجهود الخيرة، وأصبح المسلم مشبوها متهما أينما ولى وجهه.

تحوّلات جيل

* كيف ترصد التحولات الفكرية التي مرّرتم بها مع نخبة من جيلكم العراقي، خاصة صديقكم عبدالجبار الرفاعي، حيث كنتم قريبين من الفهم الأيديولوجي الديني أثناء عملكم الفكري والتحريري في منشورات إيرانية، فيما يبدو لاحقا أنكم - والرفاعي في مشروعه الجديد وآخرين - بدأتم تمارسون فعلاً نقداً من الداخل الديني)؟

- امتاز بعض الأخوة العراقيين في المهجر الإيراني بحس نقدي، قاومَ كل ألوان الضغط الأيديولوجي، ولم يفتّ في عضده الوعد والوعيد الذي يقدّمه الخطاب الديني. فلم يتحرّج من مقاربة الممنوع أو التحرّش بالمقدس، بل راح يغور بعيدا في آفاق قصيّة، سبّبت له تراكمات نقدية اجتاحت كل المنظومة القيمية بل والفكرية. وهذا لا يعني التنصل أو البراءة من كل شيء، وإنما خضع كل شيء لميزان العقل والتعقل، فكنا حالة نشاز، ضمن الأجواء الثقافية التي اعتادت التسليم والتلقي والانفعال مع حركات عيون وشفاه الخطيب المنبري. فكنا نتحدث همسا ونتناجى سرا، لا يمكننا البوح بكل قناعاتنا، وكنا نجبر على التماشي مع الوضع الاجتماعي، الذي نرفضه في أكثر تفصيلاته.

اختراق المسموح

لكن الشيء الجميل أن هذا الهم النقدي تحوّل إلى مشروعات ثقافية وفكرية، سواء كانت مستقلة، أو كانت ضمن المؤسسات الإيرانية. وهي نقطة إيجابية يجب أن تُذكر باستمرار للأخوة العراقيين في المهجر الإيراني. وأمامنا مركز دراسات فلسفة الدين، برئاسة الأخ عبدالجبار الرفاعي، الذي أصدر مجلة قضايا إسلامية معاصرة، وإلى جانبها سلسلة كتب منوعة. كما كانت هناك جهود أخرى فردية أو مؤسساتية، مستقلة أو ضمن المؤسسات الإيرانية، إذ إن المثقفين العراقيين تغلغلوا داخل الوسط الثقافي والإعلامي العربي الإيراني، وقدموا إنجازات مهمة وكبيرة، بل بعض المؤسسات يرجع الفضل فيها إلى الكادر العراقي. كنا في مجلة ‘’التوحيد’’ نسعى لتقديم رؤى نقدية متجاوزين في كثير من الأوقات حدود الهامش المسموح به من حرية الرأي، لكنها كانت مجازفات موفقة، وإنْ كانت محدودة، كما أصدرنا سلسلة رواد الإصلاح، وهي مشروع شخصي، أنفق عليه المتحدّث معك من ماله الخاص، وأشرف على تحريره وإصداره، كما ساهم في كتابة أحد كتبه.

العمل في جو تراجيدي

* ولكن ما هو تقييمك النقدي لجهدك في إيران؟

- التقييم الصحيح لجهود العراقيين لا سيما الدائرة الخاصة يجب أن يأخذ بنظر الاعتبار الاتجاه العام فكرا وعقيدة وسياسة، فقد كنا نغني خارج السرب، وأنت تعلم مسؤولية منْ يغني خارج السرب في الأجواء المغلقة! تعلم حجم المعاناة عندما تطرح رأيا يخالف الاتجاه العام عقيدة وفكرا. لقد أصدرتُ عددا خاصا عن الشعائر الحسينية في إيران، وفي قم تحديدا، تناولنا فيه الشعائر من زاوية نقدية. لا أحد يُقدّر قيمة هذا العمل إلا منْ عاش تلك الأجواء. إنها أجواء تراجيدية! في كل يوم تظهر لك بدعة جديدة، وتُؤسّس قداسة دينية جديدة، والاتجاه العام نحو اتساع الشعائر وممارسة كل الطقوس وبإشراف رجال الدين، حتى أصبح كل شيء مقدّس لا يمكن التشكيك فيه، ثم تأتي وتصدر عددا كاملا في مجلة إسلامية تنتقد فيها الشعائر الحسينية! هل تعلم ماذا يعني ذلك؟! حدّثني صديق فاضل ويحمل شهادة دكتوراه في تخصّصه، قال: عاتبني فلان عندما شاهدني أمشي معك في أحد شوارع مدينة قم، وقال لي كيف تمشي مع إنسان كافر؟ فقلت (والكلام للأخ الدكتور) معاذ الله، منْ هو الكافر؟ فأجابه: فلان رئيس تحرير مجلة التوحيد، الذي ينتقد الشعائر الحسينية؟ وهل تعلم تداعيات تهمة التكفير؟ إنها هدر الدم بلا تردد. ولا شك أن هذا الإنسان لا ينطلق من فراغ لو لم يستفتِ رجل دين بذلك؟ إننا متدينون، ملتزمون لا نخالف رجل الدين.

* أخيراً، أشكرك شيخ ماجد على هذا الحوار الممتع.

- وأنا أشكر جريدة الوقت على إتاحة هذه الفرصة.

 ***

الوقت - نادر المتروك:

 .............................

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=17171

15/9/2006

- لا تجديد في الفقه بمعزل عن تجديد مقولات العقيدة

في هذا الحوار؛ لربما يقع بعضهم مصدوماً وهو يقرأ آراء الباحث العراقي الاستاذ ماجد الغرباوي، 

إلا أن الأخير اُشتهر باجتهاداته الجريئة حتى وهو يمضي ما يقارب الربع قرن في الدراسات الاسلامية ويشرف على دوريات شبه رسمية، وقد صدرت له مجموعة مؤلفات وترجمات وتحقيقات، وفي كلّ ذلك يعبّر عن هاجسه الكبير في إصلاح النظام التقليدي للتعليم الديني. في حواره مع ‘’الوقت’’ يقول الغرباوي إن ‘’آفاق التجديد واسعة، وإمكاناته متاحة، لكن الأهم من كلّ ذلك هو المنهج في التجديد’’، فهذه هي نقطة الانطلاق كما يقول، لأن ‘’كلّ مشاريع التجديد للأسف ما زالت تحوم حول البناء الفوقي، وتتعامل مع الأسس كمسلمات وخطوط حمراء’’، ولهذا السبب لم تولد علوم دينية جديدة، لأننا ‘’لا نقارب الأسس المعرفية لها، وننشغل بالبناء الفوقي القائم ربما على أسس وهمية’’، وهذا ما جعل خطوات التجديد في نظر الغرباوي، ورغم أهميتها، ‘’غير كافية ولم تسد حاجاتنا الضرورية’’. وفيما يلي نص الجزء الأول من الحوار معه:

* هل لازال التجديد في السياق الإسلامي يأخذ مدى واسعاً؟ ما هي الآفاق الممكنة لحركة التجديد الإسلامي المعاصر؟

ـ أعتقد أن جميع الآفاق ما زالت مفتوحة أمام التجديد الإسلامي، وثمة مهام كبيرة تنتظر المفكرين والعلماء، وهو أمر متاح وليس مستحيلا أو متعذرا عندما يتوفر الباحث على منهج صحيح، وأدوات علمية ناجحة، لأن التجديد عملية منضبطة، وتحتاج إلى عدة معرفية كافية. التجديد لا يقتصر على حقل دون آخر، لأنه قراءة وفهم في ضوء العصر وحاجاته ومتطلباته، وهو عملية هدم وبناء، لا تقف عند حدود العمارة الفوقية، وإنما تغور في عمق الأسس والمقولات، لمعرفة حقيقة المسلمات والثوابت، التي هي محدّدات العقل الإسلامي وأسس بنائه الفوقي. هذا ما أفهمه عن وظيفة التجديد.

أنا لا أتفق مع المرابطين في دائرة البناء الفوقي، ممنْ تعتريهم هواجس غير طبيعية عند مقاربة الأسس والبنى التحتية. ودليلي هو جمود الواقع وعدم حصول النقلة المتوخاة من عملية التجديد، مما يعني أننا نختلف في تحديد دلالة المفهوم، ومصاديق الموضوع. كان التجديد يتحاشى التحرش بالأسس والبنى التحتية مخافة انهيار العمارة الفكرية والعقدية، لكن من خلال الاستكشافات المعرفية والمناهج العلمية الحديثة تبيّن أن مصداقية التجديد تتوقف على تجديد الأسس أولا وقبل كل شيء. فكثير من المسلمات في شتى العلوم الإسلامية بات من الضروري إعادة النظر في حقيقتها، ومدى صدقيتها، وإلا سيبقى الاشتغال المعرفي قائما وفق تزويرات علمية تعيق حركة التقدّم والتجديد.

تحليل مفهوم ‘’السّيرة’’

* هل يمكن تقريب الفكرة من خلال الأمثلة والتطبيقات العملية؟

ـ أضرب لك مثالا من خلال عينة في منتهى الحساسية كي تكون الفكرة واضحة جدا، ولكي يتحوّل التجديد والإصلاح الديني هماّ عاما وفاعلا. سوف لن أتطرق إلى أمثلة الفقه والأصول والتفسير والحديث وعلم الكلام، وكلها مجالات بحاجة ماسة إلى التجديد المتواصل، وإنما أذهب مباشرة إلى إحدى الأسس التي تقوم عليها هذه العلوم وغيرها، وهو ‘’السيرة’’ (قول المعصوم، وفعله وتقريره)، سواء كانت سيرة الرسول وفقا للرؤية السنية، أو سيرة الرسول وأهل بيته الكرام كما لدى الشيعة الإمامية.

السيرة كما تعلمون هي إحدى مصادر التشريع الإسلامي، إضافة إلى القرآن والعقل والإجماع، وإن كثيرا من الأحكام والتشريعات تعتمد السيرة مصدرا لتشريعها، بل حصرت بعض الفرق والمذاهب الإسلامية مصادر التشريع بالسيرة، وقالوا بعدم جواز الأخذ بالقرآن منفردا، مع التنكّر للعقل والإجماع، كما يقول الإخباريون، وأهل الحديث أو السلفيون مثلا. فلو أعدنا النظر في مفهوم السيرة، وفقا لرؤية قرآنية أيضا، فلا شك أن كثيرا من الأحكام ستتأثر بالفهم الجديد، وسنخرج بنتائج أكثر رحابة وسعة ورحمة.

إعادة بناء «السّيرة»

* نظراً لحساسية الموضوع؛ هل يمكن إعطاء صورة أكثر تفصيلا حول هذا التطبيق؟

ـ تعلمون أن للسيرة ما للقرآن من حجية، فهي (وفقا للفهم السائد) تخصّص آيات الأحكام وتقيّدها، بل إن خبر الواحد الثقة قادر من الناحية الأصولية على تقييد وتخصيص القرآن، مما يكشف التماثل في الحجية. فلو أعدنا النظر في مفهوم السيرة في ضوء الآيات الكريمة وبعيدا عن الصناعة الأصولية والمنطق الأيديولوجي، فإن وظيفتها ستنحصر في التفسير والبيان والتوضيح والشرح والتفصيل (كما هو منطوق مجموعة من الآيات: ‘’وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزّل إليهم ولعلهم يتفكرون’’). وبالتالي ستفقد السيرة قابليتها على التخصيص والتقييد، و تبقى بعض الآيات على إطلاقاتها، لنتوفر على مساحة أكبر من الحركة في إطار نصوص آيات الأحكام. وأيضا سيخرج من دائرة الحجية عدد كبير من الأحاديث، التي ليس لها علاقة بوظيفة السيرة الجديدة، إذ ليس كل ما صدر عن الرسول كان مرتبطا بالأحكام الشرعية الموجودة في القرآن الكريم، وليس في هذا إنكار لحجية شيء من سيرة النبي (معاذ الله) أو تحجيم لدورها (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)، وإنما يجب التمييز في سيرته بين أقسام:

أقسام السيرة الأربعة

القسم الأول: ما هو مختص ببيان وتفصيل الأحكام الواردة في الكتاب العزيز، فهي حجة ولا يمكن التخلي عنها. كما بالنسبة إلى العبادات، فبدون السيرة لا يمكننا معرفة عدد الصلوات وكيفيتها مثلا. والقسم الثاني: ما هو شأن شخصي للنبي الكريم، كأن يحب هذا اللون من الطعام، أو يرغب بذلك النوع من اللباس. ولا شك أن هذا القسم ليس أحكاما شرعية، وإنما تصرفات بشرية، (قل إنما أنا بشر مثلكم)، فالمثلية تقتضي أن يكون له (ص) رغبات خاصة وله ذوق مميز. فما يكرهه النبي من طعام أو شراب ليس محرّما أكله، وإنما هو شأن شخصي، فربما هناك طعام يتلذذ به النبي بينما لا نرغبه نحن أو بالعكس. فما لم يرد فيه نص قرآني أو تصريح بالحرمة الشرعية فليس بمحرم (قل لا أجد علي محرم ...).

والقسم الثالث: الأحكام الولائية، وهي مجموعة الأوامر والنواهي التي صدرت عنه بما أنه حاكم وولي أمر المسلمين، وقد صدرت عنه لمقتضيات زمانية وضرورات وقتية، ويضرب الشهيد الصدر مثالا لذلك بالماء والكلأ، فإن أوامره في هذا الخصوص ليست أحكاما شرعية لها ما للقسم الأول من إطلاق زماني وأحوالي. وأخيرا: أن يصدر عنه سلوك بوصفه رمزا للقيم الإنسانية، ومثالا للخلق الربانية الرفيعة. فهي أيضا أحكام أخلاقية غير إلزامية ما لم تكن منصوصة أو مشرّعة. والتأسي مفهوم واسع ذو مصاديق متعددة.

اكتشاف تاريخية النصوص

* ما الذي يمكن استخلاصه مما سبق من نتائج علمية؟

ـ خلاصة هذا الكلام بطوله؛ أن الفهم الثاني للسيرة يجعلها مقتصرة على البيان والشرح والتفصيل، ويسلب عنها صلاحية التقييد أو التخصيص، فضلا عن التشريع لأنه منحصر بالله تعالى، وعلى النبي تقع مسؤولية تبليغه إلى الناس. وهذه فائدة كبيرة جدا في عملية تجديد الفكر الديني، وبهذا ستختلف النتائج، ونتوفر على مطلقات قرآنية، كانت مرتهنة لقيود الفهم الأول للسيرة، ويمكننا تفسير النصوص القرآنية وفقا لقبلياتنا، وحاجات عصرنا، وفي ضوء مقاصد الشريعة وغاياتها. نحن لن نخسر شيئا من السيرة لو اعتمدنا الفهم الثاني لها، غاية الأمر أننا سنتوفر على فرص أكبر لتجديد وفهم قضايانا الفكرية والعقدية. كما أن الفهم الثاني للسيرة يكشف لنا عن تاريخية جملة كبيرة من النصوص، التي كانت وما تزال تحجب عنا النص القرآني.

مثال تطبيقي آخر: العصمة

* هل يمكن التطبيق على مثال مفهومي آخر ومن الداخل العقيدي إذا أمكن؟

ـ نعم، هنا مثال آخر لا يقل أهمية وخطورة من ‘’السيرة’’، أقصد مفهوم ‘’العصمة’’. فالملاحظ أن أساتذة البحث الخارج في الحوزات العلمية يشرعون في تدريس الفقه والأصول ونحن لا نعلم عن رأيهم العقيدي أي شيء، بينما ينقلب الفقه رأسا على عقب لو كان للفقيه رأي آخر عن مفهوم العصمة. لا نعلم ماذا يفهم ذلك الفقيه من العصمة؟ ما هي حدودها؟، كيف استفاد ذلك؟ هل درس عصر تشكـّل فكرة العصمة بشكل نقدي؟ ما هو دور ‘’هشام بن الحكم’’ في بناء الفكر العقيدي، باعتباره من الآباء المؤسسين للفكر العقيدي الشيعي؟ هل فعلا يؤمن بالعصمة كما يطرحها في مجلس الدرس، أم يجامل ويخادع؟! هل العصمة في حدود التبليغ أم أوسع من ذلك؟ وما هو مقدار السعة؟ مطلقة أو مقيدة؟

* من الواضح أن هذه الأسئلة تتصــل مباشــرة بالــرؤيــة العــقدية للفقيه، فما هي النتائج المترتبة عليها؟

ـ أنت تعلم أن نتائج البحوث العلمية تتأثر سلبا وإيجابا بتغير الأجوبة العقدية في هذه المسألة بالذات. فمثلا إذا قلنا بالعصمة المطلقة بالنسبة إلى الأئمة فسنعتبر تعدّد النصوص الصادرة في مسألة واحدة، أمرا داخليا، فنضطر إلى قواعد الجمع العرفي لرفع التعارض إن وجد. بينما إذا قلنا بالعصمة السلوكية، وأن الأئمة يمثلون أعلى درجات الكمال الإنساني وأنهم مستحفظون من قبل النبي، وعندهم علم بالقواعد الكلية التي تحتاج إلى رأي واجتهاد في تطبيقها على جزئياتها، (وهذا لا يتنافي مع صدور السهو بل والخطأ)، فحينئذ سيتعامل الفقيه مع الروايات على أنها جهات متعددة ولا يضطر إلى القواعد الأصولية لرفع التعارض، وربما جاء فقيه آخر واعتبرها آراء اجتهادية يمكن مناقشتها، أو طرحها إذا اكتشف زمنيتها وتاريخيتها. وربما يأتي فقيه ثالث ليعتبر الأئمة امتدادا للنبي، لكن لا تشملهم أيِّ من صفاته الخاصة بما في ذلك العصمة. والنتيجة العامة؛ أن ثمة اختلافات كبيرة إذا أُعيد النظر في القواعد والأسس التي يقوم عليها البناء الفوقي للفكر والفقه الإسلاميين.

تجديد مقولات العقيدة

* يتضح من ذلك أنك لا تتردّد في تحريك التجديد باتجاه العقيدة، أليس كذلك؟

ـ وكيف يحصل تجديدٌ في الفقه ونحن لمّا نجدّد في مقولات العقيدة؟ لم نفكّكها، لم نحاكمها محاكمة نقدية؟! نعم ندافع عنها، ونراكم فوقها، لكن لا يمكن مقاربتها بتجرّد، وبعيدا عن البعد الأيديولوجي والحس الطائفي! وهذا يتنافى مع التجديد. والجو العام الآن باتجاه إضافات أيديولوجية لتضخيم الجانب القدسي في العقيدة، وأنت تعلم أن كل إضافة هي حجر في طريق التجديد والإصلاح، لأن كثيرا من القضايا مرتبطة بمسائل العقيدة ارتباطا عضويا، فمنذ عقدين بدأ التنظير للولاية التكوينية، فمن يجرؤ على مناقشة العصمة التشريعية؟!

العلوم الإسلامية

* ماذا هناك أيضاً من تطبيقات وأمثلة؟

ـ هناك المقولات المشهورة التي على أساسها تصدّى المفكرون المسلمون لتأسيس علوم إسلامية (اقتصاد إسلامي، علم اجتماع إسلامي، نظام سياسي إسلامي..). فهل ناقشنا تلك الأسس بمنهج نقدي صريح؟ هل تصدى الإسلام فعلا لوضع نظام اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي، أو أن مهمة الدين شيء آخر، وأن الأنظمة المذكورة ما هي إلا تراكمات بشرية، تحكمها أطر أخلاقية ودينية؟ يجب أن يبدأ التجديد من الأسس التي يقوم عليها الفكر الإسلامي، يجب أن تُنقّح وتُصاغ وفق منطق عقلي، لا يحيل على المجهول، ويجافي منطق التسالم والإجماع والشهرة. وإنما أضرب هذه الأمثلة كي تتضح الفكرة، ونعرف ما هي الأسباب في عدم وجود تجديد حقيقي وفاعل. ونعرف أيضا أن ثمة آفاقا كبيرة ما زالت بكراً ولم تصلها يد التجديد وتنتظر جهودا موضوعية، غير مؤدلجة ولا ملوثة بالحس الطائفي، والتعاطف التاريخي.

زعزعة الثقة بالمسلمات

* يبدو أن جزءاً كبيراً من إعاقة التجديد يأتي مما تسمّيه بالتعاطف التاريخي. أليس كذلك؟

ـ يجب استدعاء التاريخ، لكن هذه المرة لفحص كلّ المقولات والمسلمات، بعد زعزعة الثقة بها، كي نتوفر على بناء فوقي يقوم على أسس معرفية لا تتقاطع مع العقل، وتمتلك أجوبة عقلانية لكل الإشكالات، دون مواربة أو خوف. كفانا إحالات غير مبرّرة، كفانا إحالات على اللامعقول، كفانا انكفاء إلى الخلف وتدحرجٍ إلى الوراء، يجب الاستفادة من معطيات العلوم الحديثة، ويجب تحديث وتجديد علومنا، ويجب علينا التحلي بشجاعة كبيرة لنعلن على رؤوس الأشهاد كلّ خطأ معرفي، حتى وإنْ كان يمسّ صميم العقيدة. ولنعلم أن المعيق الأول في عملية التجديد هو كثرة الثوابت والجزميات والنهائيات التي لا نعلم عن حقيقتها لحد الآن سوى التسالم والشهرة، حتى تحوّلت إلى بؤر حمراء لا يمكن مقاربتها أو التحرّش بها.

مشاريع الإصلاح والتجديد

* وماذا عن مشاريع الإصلاح والتجديد القائمة اليوم في أكثر من اتجاه ومكان؟

ـ المشاريع كثيرة، وقد سجّل بعضها إضافات حقيقة، وراكم رؤى وحلولا جذرية، وإنْ كانت محدودة. علينا ألا ننسى جهود السيد محمد باقر الصدر، الشيخ مرتضى مطهري، علي شريعتي، والشيخ مهدي شمس الدين، السيد محمد حسين فضل الله، محمد مجتهد شبستري، عبد الكريم سروش، مصطفى ملكيان، وغالب الشابندر وآخرين في الخط الشيعي، ويقع على رأسهم مشروع الشيخ عبد الجبار الرفاعي، أي مشروع مركز دراسات فلسفة الدين. كما يجب ألا ننسى جهود المعهد العالمي للفكر الإسلامي بما اشتمل عليه من علماء وأساتذة ومفكرين، إضافة إلى السادة طه عبد الرحمن، أبو يعرب المرزوقي، حسن حنفي، محمد أركون وآخرين. جميعهم يسعى لتجديد الفكر الإسلامي كي يستطيع مواكبة العصر ويلبي حاجات المسلمين. ولسنا بصدد جرد جمع الجهود، لكن علينا التوقف قليلا لنقارن بين منهج المفكر الإيراني عبد الكريم سروش مثلا، الذي يغور في أعماق العقيدة والفكر، ولا يتهيب من مقاربة الممنوع، ثم يخرج لنا بنتائج جديدة، وبين آخرين لا يغادرون العمارة الفوقية للفكر الإسلامي. أو بحوث محمد أركون وهو ينقب في باطن المسلمات والمقولات في ضوء مناهج العلم الحديث، لينتهي إلى نتائج جديدة.

الفهم العصري للدين

* في سياق حديثكم حول نقد الذات ومراجعتها، لا تترددوا في طرح ما تطلقون عليه بـ’’الفهم العصري للدين’’. إلى أي مدى تنطوي هذه المقولة على قيمة أصيلة خالية من إشكال التلفيق أو الدمج التلفيقي؟

ـ عندما أدعو إلى فهم عصري للدين، أنطلق من الفصل بين الدين والفهم أو المعرفة الدينية. الدين هو النصوص المقدسة (القرآن وما صح من السنة المرتبطة به). وأما المعرفة الدينية فهي الفهم البشري للدين. الدين ثابت والمعرفة الدينية متغيرة متأثرة بظروفها الزمانية والمكانية. الدين ملزم لنا، والمعرفة الدينية غير ملزمة لنا. أنا غير ملزم بتقليد السلف الصالح رضوان الله عليهم، هم لهم فهمهم ولنا فهمنا، لهم ظروفهم وحاجاتهم، ولنا ظروفنا وحاجاتنا. معطيات العلوم اختلفت، والحاجات تبدّلت، والآفاق المعرفية اتسعت. فكيف أستفتي الموتى عن قضايا لا يعرفون حيثياتها؟ وكيف أجبرهم على فهم عصر لا ينتمون له؟ ما قام به السلف الصالح هو قراءة وفهم للنصوص، وها هي النصوص بين أيدينا، فما حاجتنا لماض مثقل بمشكلات لا تعنينا؟ لماذا نرتبط بوضع لم نسهم في تأسيسه ولم نكتوِ بناره؟

الفقهاء بين العصر والسلف

عندما ندعو إلى فهم عصري للدين؛ نطالب الفقهاء أن يعيشوا عصرنا، ويتفهموا مشكلاتنا، ويعوا التحديات المحدقة بنا. لكن للأسف ما زال الفقيه يلتفت إلى الوراء كلما أراد استنباط حكم شرعي، انظر إلى الفقهاء كيف يتبارون في حشد أقوال السلف الصالح لإثبات صحة أقوالهم. يثق بعقل المفيد والطوسي أعلى الله مقامهم، وهو عقل ينتمي إلى مرحلة مختلفة، بينما لا يثق بعقله الذي ينتمي إلى عصر المناهج المعرفية الحديثة. فهو متقوقع في اللا تاريخ، يطلُّ علينا عبر سدٍّ منيع من القرون، فكيف يفقه الواقع ويشرّع لمشكلات لا يعي ملابساتها، أو يعي حقيقتها وظروفها لكنه يستعير لها حلولا وُضعت وفق ظرف تاريخي مغاير تماما؟!

مخاوف استعلائية من التجديد

* وكيف تعلقون على المخاوف التي تُطرح بشأن التسرّب ‘’الحداثي’’ في أمثال هذه المقولات، مما باتت تتوجسّ منه المؤسسة الدينية اليوم؟

ـ أعتقد أنه خوف غير مبرّر، فهم يخشون من انهيار الأسس المعرفية للعلوم الدينية إذا قاربتها العلوم الحديثة، ويعتقدون أنهم بمنأى عنها لأنهم يرتبطون بالإلهي والغيبي، وهناك تسديد ولطف مستمر في فقه النصوص واستنباط الأحكام الشرعية، فهم في غنى عن كل تلك العلوم؟ وبالتالي فهي مخاوف استعلائية متغطرسة، سبّبت لنا كارثة داخلية وعزلتها عن المجتمع والحياة. أو أن التخوّف نابع من مصالح شخصية، إذ يختص الفقهاء بمصطلحات وخطاب خاص، ولهم أسلوبهم الذي لا يفهمه إلا من عاش وترعرع في تلك الأجواء، وباتت معرفة تفسير النصوص المغلقة سلطة يستأنس بها الفقيه ويتباهى بها على الآخر المختلف. سلطة توفر له مكانة اجتماعية وأخرى علمية، ويستطع فرض سطوته على الآخرين. سلطة يشيّد بها مملكته وعلياءه الملكوتي. ألا تنظر كيف يلجأ رجل الدين إلى مصطلحاته الخاصة حينما يعجز عن الرد أو الإجابة على إشكال ما؟ وبالتالي فرجال الدين يحتمون بتلك العلوم، فكيف يُسمح لعلوم أخرى أن تتسلسل إلى دائرة مشاغلهم العلمية وتفسد عليهم كل شيء؟ فدأبه الاستهزاء بتلك العلوم، وتقديس علومه، التي ما فتئ ينسبها إلى الشارع المقدس، وإلى الغيب واللطف الإلهي، ليطمس بشريتها، كي لا يتجرأ احد على مناقشتها أو التمرد على سلطة القائمين عليها، إنها نتاج بشري، واجتهادات تمتّ في ظل شروط تاريخية، ونحن لا نستهزئ بتلك العلوم والكتب معاذ الله، إنها جهد بشري محترم، ونتاج عقل إنساني، إلا أننا نعترض على التشبّث بها، نعارض التنازل عن عقولنا، ونرفض الرجوع إليها واستفتائها في شأن يخصّنا

 ***

الوقت – حاوره: نادر المتروك

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=16025

 ............................

تابع القسم الثاني من الحوار مع الكاتب والباحث ماجد الغرباوي

(هذه ترجمة لمقال منشور من قبل الكاتب الأمريكي جارلس بول فرويند، لمعهد ميمري، أنشرها كما هي بترجمة الأستاذ الدكتور بهجت عباس مع تحفظي على بعض آرائه حول الدعوة لحذف فصول من القرآن، لأنها غير موجودة في الدراسة الأصل المنشورة في إيلاف وفي المثقف. لذا اقتضى التنويه... ماجد الغرباوي)

الكاتب العراقي ماجد الغرباوي يدعو إلى إصلاحات كاسحة (جذرية) في الثقافة الإسلامية والحوارات الدينية. كاتباً للموقع العربي اللبرالي إيلاف (ترجمة ميمري – معهد أبحاث الشرق الأوسط  للميديا)، يحاجج الغرباوي في ذكرى تفجيرات لندن بأنّ الأسباب النفسية والسياسية والأقتصادية للارهاب مهمة، إلاّ أنّها "أسباب ثانوية ."

السبب الدافع هو الإيديولوجية الدينيّة، حسب رأي الغرباوي. " باسم الدين اندلعت الحروب؛ دماءٌ أُهرِقَـتْ؛ قتلٌ أُحِـلَّ؛ حقوق أُنتُهِكَتْ؛ أنظمةٌ سُيطِـرَ عليها؛ واتّهم مَنْ هم بآراءْ مختلفة بالالحاد؛ والمسلمون الذين هم بآراءأخرى أتّهموا بالبِدَع ...كان الدين ويبقى غطاءً لتبربر أعمال إرهابيّة ولسياسة استبدادية...."

إنَّ حواراً دينيّاً مشوَّهاً " أعاد صياغة مفهوم الحركات (الإسلامية)، مبنيّاً على الاستهزاء بالحياة وحبّ الموت، كراهية الآخر وتعظيم الذات، إهمال الدنيا و(التهيّـؤ) لما بعدها...." ذاك التحريف "لم يثقّف أناسَ الحركات الإسلامية ليتبنّوا التسامح، الرحمة وتقبّـل الآخر.. ولكنْ علّموا (أنفسهم) كراهية الآخر وخططاً لقتل الآخر واستئصاله... هذه الثقافة لا صلةَ لها مطلقا بالقيم الإنسانية التي دعا إليها القرآن ...."

الغرباوي هو واحد من كتاب مسلمين كثيرين يطالبون باستجابة دينيّة لمحنة الآسلام العالمية. إنّ كثيراً من هؤلاء الكتّاب يدعون إلى إصدار فتوى دينيّة ضدّ أعمال الإرهابيّين، ولكنّ الغرباوي يعتقد أن ذلك ليس كافياً. يريد إعادة تفسير الشريعة، فهماً جديداً لحياة النبيّ وحتّى أخذ يكتب " ثمة حاجة أن نبحث بتركيز مسألة إلغاء فصولٍ في القرآن."

إعادة كتابة القرآن ليس ممكناً، ولكن تغيير مفاهيم ظاهرة تاريخية معروفة. فالمعتزلة مثلاً الذين سطوْا على الأرثوذكسية في أوائل بغداد (الحكم العبّاسي - المترجم)، اعتبروا القرآن كتاباً مخلوقاً. يوجد كثير من أمثلة عدّة على تغيير فهم القرآن في التاريخ الإسلامي.

العملية تستمرّ. كما  أصدرت النيتNYT تقريراً في ديسمبر الأخير (2004 – المترجم)، فإنَّ كثيراً من المسلمين في هذه الأيام "يرتعبون من الصورة الّدموية للإسلام حول العالم. وهم عازمون على إيجاد طريقة لاسترداد  الدين من المتطرفين. فمن الناحية الجوهرية يتوخّى المتسامحون أن يخفّفوا الذي انتقدوه بأنه احتكار دينيّ للتفسيرات المنتشرة للنصوص المقدّسة." إنّ ثورة المسلم على المدى الطويل ضدَ الإسلاميّين الذي طالب به الغرباوي وآخرون حاولت ذاتها أن تبدأ .

***

جارلس بول فرويند

 30 تموز 2005

.............................

Nailed to the Mosque Door

Charles Paul Freund | July 30, 2005

The Iraqi writer Majed Al-Gharbawi is calling for sweeping reform in Islamic culture and religious discourse. Writing for the liberal Arabic-language Website, Elaph.com (translation viaMEMRI), Al-Gharbawi argued in the wake of the London bombings that while the psychological, political, and economic reasons for terrorism are important, "they are secondary reasons."

"The driving reason is religious ideology," according to Al-Gharbawi. "In the name of religion, wars have broken out; blood has been let; murder has been legitimized; rights have been revoked; regimes have been taken over; those with different opinions have been accused of unbelief; and Muslims with different opinions have even been accused of heresy . . . Religion was and remains a cover for justifying acts of terror and for arbitrary policies . . . ."

A distorted religious discourse "has reshaped the logic of the [Islamist] movements, based on mockery of life and love of death, hatred for the other and self-glorification, neglect of this world and [preparation] for the hereafter . . . ." That discourse "has not educated the people of the Islamist movements to adopt leniency, mercy, and tolerance for the other -- but rather has educated [them] to hatred of the other and plans to murder and uproot the other . . . This culture is completely unconnected to the human values to which the Koran calls . . . . "

Al-Gharbawi is one of numerous Muslim writers demanding a religious response to Islam's global crisis. Many of these writers are calling for religious fatwas against terrorist deeds, but Al-Gharbawi thinks that's not enough. He wants a re-interpretation of Shari'a, a new understanding of the life of the Prophet, and even writes that "there is a need to discuss intensively the issue of abolishing chapters in the Koran."

A revised Koran may be unlikely, but changing perceptions of the Koran are a known historical phenomenon. The Mu'tazilites, for example, who controlled orthodoxy in early Baghdad, held that the Koran was a created book. There are numerous examples of changing Koranic understanding in Islamic history.

That process continues. As the NYT reported last December, many Muslims today are "dismayed by the ever more bloody image of Islam around the world. They are determined to find a way to wrestle the faith back from extremists. Basically the liberals seek to dilute what they criticize as the clerical monopoly on disseminating interpretations of the sacred texts." The long-term Muslim revolt against Islamism that Al-Gharbawi and others are demanding has been trying to start itself.

...............

https://reason.com/2005/07/30/nailed-to-the-mosque-door/

....................

رابط مقال الحركات الإسلامية والارهاب في المثقف

https://www.almothaqaf.com/component/content/article/966317

 

 

الصفحة 5 من 5