بأقلامهم (حول منجزه)
محمود محمد علي: قراءة صالح الطائي لمشروع ماجد الغرباوي في ميزان النقد (4)
من خلال المقالات الثلاث السابقة تبين لنا أن صالح الطائي يمثل واحداً من المجددين الكبار، فالرجل استطاع أن يرسم لفلسفته الإصلاحية هدفاً واحدا، وهو إخراج الفكر الإسلامي عامة، والشيعي خاصة من عالم التخلف والانحطاط، والسير به نحو النماء والازدهار، في معترك حضاري وصراع ثقافي بين عالم متخلف فكرياً وحضارياً .
ودعوة صالح الطائي إلى الإصلاح والتجديد ارتبطت بمخطط ارتبط فيه الهدف بالمبادئ والأصول وبالوسائل والمنهج، فكان ذلك عبارة عن استراتيجية تقوم أساساً على فكرة النقد، وفكرة إعادة البناء. أي إعادة بناء الفكر الإسلامي على النقد والتمحيص . فالنزعة الفلسفية والفكرية التي تقوم على النقد والتمحيص قادرة على الإلمام بالحقيقة التي تتطور معالمها وتتغير أوجهها من وقت لآخر، بفعل التفكير الفلسفي النقدي، وعلى ضوء هذا التفكير يمكن بناء فهوم ومواقف جديدة من الأشياء والحياة والوجود، تتجلي فيها الحقيقة، وينبني منها التفكير الإنساني في مرحلة من مراحل تاريخه .
أما ثقافة السكوت والسكون في القديم والتقوقع فيه، والقبوع فيما تركه الأسلاف بحلوه ومره فقط، أو الانغماس في الجديد بحلوه ومره، كل هذا يُفضي إلى الجمود والتحجر في الفكر، والضعف، والانحطاط في الحياة عامة، وتلك هي حال المسلمين في العصر الحديث . وفي جميع الأحيان ثبت المسلمون ما هو في أصله وطبيعته متحرك ومتغير ومتجدد باستمرار، كما عدلوا ما هو في أصله وطبيعته ثابت، وهذا مرده إلى غياب نظره نقدية فاحصة إلى الذات، وإلى الغير وحضارته .
ومن الغير نجد الحضارة الأوربية المعاصرة، والتي أعلن من خلالها "فريدريك نيتشه" عن نظرية موت الإله وموت الأديان، ومن خلال هذه النظرية ذكر صالح الطائي في كتابه ص 46-47، أنه وقع بين أيدينا نص من مداخلة لأحد القراء على مقال الغرباوي، بعنوان "دعوة لإنقاذ الدين من سطوة الفقهاء" الذي مر الحديث عنه، أوضح فيه بأنه: (لا يكفي أن تقول داعش وانحراف داعش هي الأعراض الواضحة على مرض الخرف الإسلامي إيذانا بالموت المحتم أسوة بموت المسيحية واليهودية والهندوسية وغيرها من شرائع عصور الإقطاعية . الإسلام بمذاهبه يعاني من مرض تصلب شرايين، وما الإفراط في الطقوس والشعائر إلا دليل استفحال المرض في جسم المريض الذي أدمن فهو يكثر من الطقوس المهدئات دون رصدي أخلاقي حقيقي لهذه الطقوس التي لم تردع سارقا ولا قاتلا ولا مزورا . حين اختفت الحضارة الرومانية كان ثلثا شعوبها قد مات في الحروب وسيختفي الإسلام أيضا بعد ان يأتي على معتنقيه فيمسحهم بحروبه (الهلالية) على وزن (الصليبية) وبعدها فلكل حادث حديث).. ثم يعقب الباحث صالح الطائي فيقول: "إذن يتضح من هذا القول أن هناك من يتنبأ بموت الإسلام إسوة بالأديان التي اعتقد بموتها، وهذا تصور قاصر مبعثه الخلل في بنية العقيدة الإسلامية المتداولة بين الناس، والذي أراه أن هؤلاء واهمون وأن الدين . ليس دين الإسلام وحده – وإنما كافة الأديان، لا زالت تلعب دوراً ملموساً في حياة المجتمعات المعاصرة، ولا زال تأثيرها على القوانين وسلوك الناس وعلاقة أتباع الأديان ببعضهم في أنحاء العالم كله فاعلا ومؤثراَ!
وهنا أحببت إضافة شيء، أن كلام الغرباوي في مقاله: "دعوة لانقاذ الدين من سطوة الفقهاء"، كان يؤكد على قضايا خطيرة ومهمة تهدد مستقبل الدين، وليس شرطا موته. ولا علاقة لماجد الغرباوي بكلام المعلق على مقاله، فعندما راجعت المقال وجدت الغرباوي يؤكد أن: "ثمة أزمة حادة تواجه الشريعة الاسلامية، بل تواجه الدين بأسره، لا تنفع معها تبريرات الفقهاء ومكابراتهم .. أزمة حقيقية، تضغط باتجاه مراجعة نقدية تطال الفكر الديني، وفق قراءة معاصرة تواكب مسار الحضارة، وتُعيد النظر في ثوابت الشريعة، بعيدا عن سلطة التراث والسلف والتراكمات التأويلية التي تكرّس اللامعقول وتحرّض باستمرار ضد الآخر، حتى صار الدين إما يدفع باتجاه العنف والارهاب، او يستقطب باتجاه الخرافة والسحر والشعوذة وجلد الذات، وتصديق هلوسات وأكاذيب بعض رجال الدين، وتقديس الماضي والتراث، وأسطرة الشخصيات التاريخية، واستبدال العبادة بطقوس فلكلورية، انقلبت معها مفاهيم الخير والعمل الصالح، وبات الارهاب دينا، والخداع دينا، والتبست المفاهيم حد الاحتراب فضلا عن الكراهية والتنابذ والاقتتال".
ويستطرد الغرباوي فيقول: ان مسؤولية التجديد ستخرج من يد الفقهاء، اذا تمادوا في تكاسلهم ولا مبالاتهم تجاه ما يجري. لقد صار الدين مع جمودهم وتخلّف الدعاة شبحا يطارد احلامنا، وباتت شعارات تطبيق الشريعة والاسلام هو الحل والحاكمية الالهية وولاية الفقيه تستفزنا، خاصة مع تمادي بعض الحركات الاسلامية في تطرفها، وارتكابها مجازر يندى لها جبين الانسانية. بل نَسَفَ سلوكهم أغلب ما كتبه المفكرون الاسلاميون عن الاسلام وحضارته ومستقبله في بناء الدولة والمجتمع، وسفّه جميع احلامهم، بل كذّب جميع التأويلات التي اعتادها الكاتب الاسلامي في تبريره لأحكام الاسلام وتشريعاته ونظمه، لكثير من القضايا كـ: المرأة والرق ونظرته للآخر، مما حدا بنا العودة لمراجعة أصل التشريع، واستدعاء ذلك السؤال الخطير، الذي نهرب من مواجهته دائما: (هل الخطأ في التشريع أم في التطبيق؟ أم الخطأ في تعميم الأحكام واطلاقاتها؟.
وهنا يجيبنا الغرباوي فيقول :" للامس القريب كنا نردد ما تردده الحركات الاسلامية وجميع الدعاة المخلصين، حينما نواجه اي خطأ سلوكي: (ان الخطأ في التطبيق)، حتى راحت بعض المذاهب والفرق الاسلامية تعوّل على ظهور (المهدي المنتظر)، لتعذر تطبيقها من قبلنا. ولا ادري ما فائدة تشريعات ودين لا يمكن تطبيقه من قبلنا، حتى يظهر المهدي ويرعى تطبيقه بنفسه!! .. وماذا نفعل اذا لم يظهر او تأجل ظهوره آلاف أخرى من السنين؟ ثم ماذا يريد ان يقدّم المهدي من حلول اسطورية لهذه المشكلة؟ هل سيُشرّع لنا أحكاما جديدة؟ وهذا مستحيل، لتعذّر التشريع بعد الوحي. أم سيوظّف عقله وفقاهته؟، اذاً فلماذا لا نوظّف نحن عقولنا بدلا من انتظاره؟. لا ادري هل نعي شيئا من سلوكنا ام نخدع انفسنا ونحسب اننا على حق وغيرنا على باطل!!!. لا اخفيكم، أجد هروبا في فكرة الانتظار، بل اجد فيها إدانة لنا من حيث لا نشعر، والفقهاء قادرون على فقه الشريعة وتقديم قراءة اخرى للدين. فأرى من الأفضل مقاربة المشكلة في بعدها التشريعي، مع مراجعة مكثّفة لآرائنا وفتاوانا، وفق رؤية علمية، واقعية، ترتكز لمنطق القرآن الكريم في اطار مقاصد الشريعة وغاياتها، سنكتشف حينئذٍ حجم الهوّة بين التشريع والواقع".
إن استعراض مقال الغرباوي كان نافعا، لنعرف عن قرب كيف يفكر؟ وكيف يشخص الإشكاليات الفكرية؟ ففهم الإشكالية أهم من حلها، وطرح السؤال أولى من الإجابة. فالمسألة ليس مسألة موت الدين، بل أن تزوير وعي الناس باسم الدين أخطر بكثير، لأنهم سيعيشون في حالة ضلال. أن الدين، خاصة ما يتمسك به الإرهابيون والتكفيريون، هو الذي جعل المعلق يتنبأ بموت الأديان، ولا تكفي الرهانات على بقائها، الأهم تشخيص المشكلة، وهذا ما فعله الغرباوي في هذا المقال، وكان جريئا جدا، وربما مثيرا، فقد كتب د. صالح الطائي في نفس الصفحة: (بت على قناعة تامة أنه حتى في أسلوبه [أي الغرباوي] الجاف الجريء المشاكس الهجومي الصراعي إنما يعمل على الدفاع عن الدين أمام آراء تسيدت الساحة اليوم). هل حقا هذا هو أسلوب الغرباوي؟. أعتقد أن المنهج العقلي هو الذي يجعل الآخرين يصفونه بهذه الصفات، فإنه يحاصر المقابل بأدلته وتحليلاته، وكشفه للمستور.
***
الكتاب الذي قدمه الدكتور صالح الطائي ملئ بالقضايا والإشكاليات التي لا حصر لها، ولكن في نهاية هذا المقال أود أن أبرز حقيقة هامة هناك اختلاف بين فكر صالح الطائي وفكر ماجد الغرباوي في قضايا مهمة، خاصة القضايا العقدية، ومثاله مناقشة صالح الطائي لقضية "الإمامتين الدينية والسياسية؟ (من ص 48-60)؛ وفي هذه النقطة بالذات كانت النتيجة متوقعة، وهو : اختلاف المنهج يفضي لاختلاف النتائج. غير أن صالح الطائي لم يستعرض كافة أدلة الغرباوي حول الإمامة، كي يقارن القارئ بينهما. فمثلا يعتبر الغرباوي مفاهيم مثل الإمامة، العصمة الصطفاء، مناصب إلهية. يقول في كتاب الفقيه والعقل التراثي، ص244: (فنفهم أن الوزارة والإمامة والاصفطاء كلها مناصب مرتبطة بالمشيئة الإلهية، ولم يفوضها لغيره. وبما أنها كذلك فتتوقف على وجود نص قرآني صريح. ولو كانت شأنا نبويا لاتخذ موسى قرارا شخصيا دون الرجوع إلى ربه. لكنه يعلم أن الله لا يشرك بقرارته وأحكامه أحدا: (مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا). أما لماذا يشترط هذا في هذه العناوين وتضاف لها المعاجز والخوارق فهو يجيب في نفس الكتاب، ص34: (وقد قررت قاعدة في كتاب مدارات عقائدية ساخنة.. حوار في منحنيات الأسطرة واللامعقول الديني. القاعدة تقول: "الممتنع عقلا، لا يُحتمل وقوعه خارجا، سواء كان الامتناع ذاتيا، كشريك الباري، أو لعدم تحقق شرطه كاقتراب النار من الورقة شرط لاحتراقها، او لطبيعة الشيء وتكوينه، كامتناع صدور المعجزات والخوارق الكونية على يد الإنسان حسب طبعه وتكوينه. وما أكد القرآن وقوعه، يُقتصر فيه على مورده").
وأما لماذا لا يقدم الروايات والأحاديث، ويشترط وجود آية قرآنية، يقول: (ولا يمكن رفع اليد عن هذه القاعدة لأن أحكام العقل لا تخصص، وبالتالي نشترط وجود نص قرآني، نرفع به اليد عن القاعدة، لنفهم أن المعجزة قد جرت وفقا لقانون آخر نجهله. وأمثلة هذه القاعدة كثيرة خاصة العقيدة الشيعية وأسطرتها لرموزها التاريخية والدينية. نرجئ الحديث عنها).
برأيي كان ينبغي استعراض أدلته العقلية، المطابقة لمنهجه. وعليه نفهم أن الغرباوي لا تعنيه الروايات والأقوال التي سردها الباحث الطائي، مادام موضوعها مناصب إلهية ممتنعة في ذاتها، كما يقول الغرباوي في ص360 من الكتاب: (لأن كل منصب إلهي، هو ممتنع بذاته، ما دام مفارقا للطبيعة البشرية، فيبقى حتى القاعدة العقلية، ولا يمكن رفع اليد عنها إلا بآية صريحة، لا لبس فيها، تورث العلم واليقين، فحينئذٍ، لا نخصص القاعدة العقلية، لأنها لا تخصص، بل نعيد النظر في فهمنا لتلك الظاهرة التي نحسب أنها مخالفة للطبيعة البشرية، وعندما نعيد النظر فيها سنكتشف مدى صدقيتها وحقيقتها ومدى مطابقتها للواقع).
فهناك اختلاف جوهري حول المفردات العقدية. كل منهما له أدلته، لكن النتائج مختلفة بين من يثبت أو ينفي العصمة والإمامة وفقا لأدلته.
وقد أكد الدكتور صالح الطائي في كتابه، ص 49: (وإي إضافة تفتقر لدليل صريح يدل عليها لا قيمة لها يمكن التعويل عليها خارج اتباعها ومعتنقيها). وهذا كلام دقيق وعلمي لكن الأصل عند الغرباوي كما تقدم، عدم ثبوت الإمامة والعصمة ما لم يدل الدليل القرآني عليها. فالاستدلال الصحيح إقامة الحجة على الغرباوي وفقا لمتبنياته كي يصدق النقد. وأما استعراض الروايات لاثبات ضعف رأيه فغير صحيح. وعليه امام الباحث الجليل ان يقدم روايات وفقا لشروط الغرباوي في الرواية.
من الأدلة التي ذكرها الطائي دليلا على العصمة مثلا آية:
1- (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)، وهذا حقه، ومناسب مع منهجه. لكن كان يفترض أن يذكر للقارئ أن ماجد الغرباوي له رأي آخر في هذه الآية، تجده في كتاب الفقيه والعقل التراثي، ص244 – 245. فهو لم يفهم العصمة من الآية وفهم منها شيئا آخر.
كما استدل الطائي بروايات على العصمة، ضمن منهجه:
2- قول الإمام علي: " إنّ الله طهّرنا، وعصمنا، وجعلنا شهداء على خلقه، وحجته في أرضه، وجعلنا مع القرآن، وجعل القرآن معنا، لا نفارقه ولا يفارقنا". والروايات بالنسبة للغرباوي لا تكون حجة ما لم تكن صحيحة، والصحيحة تورث اليقين فتخرج جميع روايات الآحاد، يقول في كتاب الفقيه والعقل التراثي، ص268: (وقد استعانوا لإثبات دعواهم بروايات لا نعرف عن حقيقتها شيئا لكنها تبقى محتملة وفقا للتصنيف الذي اعتمده للتمييز بين الروايات الصحيحة والمحتملة الصدور).
***
وبرغم الاختلاف العقائدي أو الايديولوجي كما أحب أن اسمية بين الطائي والغرباوي، إلا أنهما اتفقا على استعمال العقل وتحكيمه في أمور كثيرة (لا حصر لها)، كما اتفقا على أن المثقف القادر على توليد مقولات ثقافية عقلانية تساهم في تطوير مختلف جوانب المجتمع هو بالضرورة مثقف حر، تزود بثقافة عصرية لا تتعارض مع قيم المجتمع الأصيلة الموروثة بل تحميها من التشويه، فالمثقف الحر في نظرهما لا يتوقف من إنتاج تراث جديد من الثقافة يضاف إلى الماضي الذهبي ويغنيه بثقافة عصرية يحتاج إليها المجتمع في تبدلاته المستمرة في عصر العولمة.
كما اتفقا على أن السياسة وأنماط الحكم والتدبير في المرجعية العربية الإسلامية، لم تكن في يوم من الأيام شأنا دينياً أو شأنا للدين به صلة مباشرة، وإنما هي غرض دنيوي صرف موكل للفرد والجماعة للتفكير فيه، والعمل على إيجاد الصيغ والأشكال والنظريات القمينة بتحقيق الكرامة والسعادة الإنسانيتين للأفراد والجماعات، بناء على الاجتهاد العقلي والاستفادة من تجارب الأمم المتقدمة في هذا المجال، أخذاً في الحسبان معطي الزمان والمكان واستحضاراً للمصلحة العامة غاية أسمى.
وفي نهاية هذا المقال أقول تحية طيبة للأستاذ الدكتور صالح الطائي الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر المبدع الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.
د. محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط