بأقلامهم (حول منجزه)
محمود محمد علي: قراءة تحليلية - نقدية في كتاب ماجد الغرباوي "تحرير الوعي الديني" (1)
قراءة تحليلية - نقدية في كتاب المفكر العربي ماجد الغرباوي "تحرير الوعي الديني" (*)
مقدمة: ما زلت أومن بل ربما أكثر من أي وقت مضي، بأن الإشكاليات المعرفية التي يعاني منها الوعي الديني تنعكس مباشرة على الوسط الذي يعيش فيه الفرد، وعلى كيفية رؤيته له تفاعلاً وانفعالاً معه، فلما كان هذا الوعي منقسما ومتشتتا ومتأزما أثر هذا في الفكر الإجرائي، أي في أسلوب العيش في جماعة، أي في النظام الاجتماعي وفي مستوياته المختلفة؛ ففشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد الإسلامية، هو كما يري البعض من الباحثين، هو نتيجة عدم انشغال الفرد بمثل هذه السياسات من جهة، لأنها مفروضة من فوق، ومن جهة أخرى لأن الفرد نفسه لا يدرك أهمية التحدي الاقتصادي والاجتماعي الذي يواجهه، لأن زمنه الفكري زمن مضى أولاً، ولأن حضور الوعي والتميز في العمل، والفاعلية في الإدارة، يربطهم الفرد بمعاني فكرية فوقية لا بنتائج واقعية محسوسة ثانياً، وهذا ما أدي إلى كل المظاهر السلبية في الحياة العامة، والتفكك الاجتماعي، والتسيب الإداري، والاستقالة المحسوسة في كل الميادين. انفصام الوعي وانقسامه جعل الحياة الاجتماعية للأفراد تفقد معناها، فلم يعد هناك ذلك التلاحم بين أجزاء المجتمع، ولم يعد المخيال الاجتماعي يغذي تطلعات الأفراد إلى جدوي تحسين واقعهم، فالآفات التي طرأت على الواقع، كالانتحار، والهروب عبر الحدود، وعدم وجود رابط بين عدي رابط القهر، والعنف، والتشدد، ثم التبرم من كل وضع قائم، وانسداد الآفاق، واللجوء إلى الحلول الانتحارية، كل هذا يدل على أزمة في الوعي رداها خطورة هذا الخطاب الديني السياسي الذي يستغل كل الأزمات ليؤجج بذور الصراع والاختلاف بطرحه الإيديولوجي البعيد عن كل أسلوب حواري متسامح (1).
وعندما ننظر لديننا الحنيف، نجد أنه كان أهم معاني خاتمية الرسالة الإسلامية وخلودها، هو الإيمان ببلوغ العقل الإنساني درجة من النضج تسمح له بالاستقلال باستنباط الأحكام استقلالاً تاماً، أو تأسيساً على ما ورد في التشريع الإسلامي من أصول وقواعد وأحكام (2)
ومن ثم ظل سؤال “تحرير الوعي الديني ” هو أهم الأسئلة المحورية لنهضة الأمة من وهدتها، وبعثها من سباتها العميق على مدى عصورها المتطاولة.
وموضوع الوعي والتوعية الدينية من الموضوعات القديمة الجديدة، والتي تتجدد الحاجة إليه في كل عصر منذ عصر النبي صلي الله عليه وسلم، إلى عصرنا الحاضر. وتزداد الحاجة إليه في هذا العصر لما تشهده الساحة العربية من غزو إرهابي وتفش للجهل، وحين تعيش الأمة على هامش الأحداث وتتخلي عن دورها الريادي، وحين تفقد مصداقيتها فلا يحسب لها حساب، وحين تُضيع مبادئ دينها السمحة وقيمه العليا، فإن ذلك مؤذن بوجود خلل ما يتمثل في جملة منها: موجات الإرهاب الدامي التي تُفرض علينا، وحفلات القتل الجماعي باسم الدين، وضرورة استعادة الإسلام العظيم من قبضة التطرف اللعين. إنها مهمة الأمس التي تأخرت إلى اليوم، ولا يجب أن ننتظر للغد.
وأكثر هذه الإشكاليات أهمية فيما يخص تحرير العقل الديني تتمثل في المفاهيم، وتتعلق بقضية الخطاب نفسه، عموماً، يعني استراتيجية ما في القول عن الشيء، أي نمطاً للإفصاح الشامل عن واقع بعينه، ومن ثم فهو نتيجة مترتبة على واقع سائد بالفعل، لا يمكن تقديم صورة عنه ولا تؤيدها معطيات الواقعية وإلا افتقد الخطاب منطقه وتحول إلى محض صياغات بلاغية ومزايدات كلامية لا تقنع أحداً (3).
ويعني الخطاب الديني، خصوصاً، بكيفية عرض الدين، أو الدعوة إليه، أو الدفاع عنه ضد منتقديه، حيث يهيمن الطابع السجالي، على الأقل، إن لم يكن الطابع التبشيري. وهكذا يبقي مفهوم الخطاب الديني مهجوساً بالآخر، خصوصاً الغربي، وبتلك الرغبة الدفينة في الدفاع عن أنفسنا في مواجهاته، وتزويق صورة التدين الإسلامي القائم فعلياً لدينا، بينما المطلوب الآن لا يقل عن تجديد الفكر الإسلامي، في مكونه القيمي والإنساني، بإلهام المكون الاعتقادي المتسامي على التاريخ؛ أي تجديد (تديننا) وأفكارنا عن (إسلامنا)، وذلك عن طريق إعادة تعريف ماهية النص نفسه، قبل الولوج إلى مساءلته على مستويات مختلفة من العمق الجذرية تتوافق على مستويات إحكامه وتساميه، تطويراً لواقعنا نحو الأفضل (4).
قصدت أن أقدم هذه المقدمة عن الوعي الديني، لأمهد للحديث عن تحليلي للكتاب الشيق الذي بين يدي، وهو كتاب بعنوان ” تحرير الوعي الديني ” للأستاذ ماجد الغرباوي، وقد صدر الكتاب في سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة في دمشق – سوريا، ضمن سلسلة متاهات الحقيقة التي يشتغل عليها المؤلف (5).
أما المؤلف فهو الأستاذ ماجد الغرباوي باحث في الفكر الديني، ومتخصص في علوم الشريعة والعلوم الإسلامية، وهو عراقي مقيم في أستراليا.. مؤسس ورئيس مؤسسة المثقف العربي في سيدني.. كان رئيساً لتحرير مجلة التوحيد (الأعداد: 85- 106)، وكان عضو الهيئة العلمية لكتاب التوحيد، وقد مارس التدريس ضمن اختصاصه في المعاهد العلمية لسنوات عدّة، والحائز على عدد من الجوائز النقدية والتقديرية عن أعماله العلمية، وقد كتب عن منجزه الفكري والثقافي والأدبي عدد من النقّاد والباحثين، عرب وأجانب، وله أكثر من ثلاثين عملاً مطبوعاً: تأليفاً، وتحقيقاً، وحواراً، وترجمة، إضافة الى عدد كبير من الحوارات والدراسات والبحوث والمقالات في مجلات وصحف ومواقع الكترونية مختلفة. اشتغل على موضوعات نقد الفكر الديني، التسامح، العنف، الإصلاح والتجديد، فكر النهضة.
وقبل أن أتحول لقراءة هذا الكتاب دائماً ما أقول: لقد علمتني التجارب البحثية أن هناك أكثر من طريق لقراءة الأعمال الفلسفية قراءة نقدية، وأكثرها عفوية وسذاجة أن نلخص العمل الفلسفي أبواباً وفصولاً ثم لا شيء، وأعمقها أن نحاول تحديد مقولات العمل أولاً حتى نضع المتلقي معنا على أرضية واحدة مشتركة، ثم نخلص من ذلك إلى تجسيد رؤيتنا النقدية لهذه المقولات وإحالة هذه الرؤية النقدية في النهاية إلى قضايا وظاهرات.
وقد اخترت في قراءتي النقدية لكتاب الأستاذ ماجد الغرباوي (تحرير الوعي الديني)، تلك الطريقة الأخيرة التي ترفض الهشاشة وتكابد في طريقها إلى محاولة التنظير والتأصيل. . أولاً: لأن هذا الكتاب عمل علمي جاد يستحق بالفعل أن يعاني الناقد في قراءته وتقويمه، وأزعم أن هذا الكتاب سوف يضيفه التاريخ إلى أمهات الكتب الخوالد، لأن هذا المضاف يفتح السبُل أمام النظر، وإعمال العقل، وأمام البحث ومناهج العلم. . وثانياً الميزة التي يتميز بها الكاتب ” ماجد الغرباوي ” في هذا الكتاب، وهي هذه الجدية في النظر، وهذه الصرامة في المنطق، وهذا العكوف في العمل، وهذا الاحترام للنفس كاتباً وللغير قارئاً هو ما في نظري ما تعودت عليه أنا شخصياً مع ماجد الغرباوي (في هذا الكتاب)، يحتشد للموضوع الذي يبحثه من جوانبه التي تخصص فيها، ويتقدم للقارئ لا بالموضوع الذي يبحثه فقط، ولكن بالأدوات المنهجية التي يتعامل مع موضوعه بها، فيعرضها واضحة بما تستدعيه من منطق، ومن أسلوب تدليل ومن ترتيب سياق.
والسؤال الذي أود أن أسأله للأستاذ” لماجد الغرباوي: لماذا اختار لكتابه عنوان تحرير العقل الديني، ولم يختار له اسم “تجليات الوعي الديني”، أو “تنوير العقل الديني”، أو ” بؤس الوعي الديني في دارنا العربية كما ذهب د. برهان زريق، أو أزمة الوعي الديني كما ذهب فهمي هويدي. . الخ؟
وهنا يجيبنا ماجد الغرباوي ضمن ملاحظة سجلها في الصفحة الرابعة في جميع كتب متاهات الحقيقة: (قد لا ينطبق عنوان الكتاب مع تمام موضوعاته، لكنها تنتظم جميعاً ضمن حوارات متاهات الحقيقة). فيكون الوعي الديني جوهر موضوعاته، وهو ما يسعى له ضمن مشروعه الفكري والتنويري. والكتاب كما جاء في الإعلان عنه عند أول صدوره: (يقع في” 418″ صفحة من الحجم الكبير، وقد زينت لوحة الفنان التشكيلي الكبير أ. د. مصدق الحبيب غلاف الكتاب الجميل. وهو الكتاب الخامس ضمن سلسلة متاهات الحقيقة. حيث حمل الكتاب الأول عنوان: الهوية والفعل الحضاري. والثاني: مواربات النص. والثالث: الفقيه والعقل التراثي. والرابع: مضمرات العقل الفقهي).
تناول الكتاب مجموعة قضايا قاربها الكاتب ضمن الحوار المفتوح، منها: تطور العقائد، القلق المصيري، فلسفة الخلق، سؤال الوجود، المعرفة البشرية، منطق الخطيئة، فلسفة الخلق بين نظريتين، التأويل الموضوعي، سياقات التأويل، محددات القراءة، التداخل بين الأسطوري والديني، تشابه السرد، العناصر المشتركة، المعرفة الدينية، النهوض الحضاري، مواضيع غيرها متعددة.
من هنا جاءت الأجوبة في هذه الموسوعة الحوارية (متاهات الحقيقة)، تقارع حصون الكهنوت وتحطّم أسيجة تراثية تستغرق الذاكرة، وتطرح أسئلة واستفهامات استفزازية جريئة.. بحثا عن أسباب التخلف، وشروط النهوض، ودور الدين والإنسان في الحياة. فتوغّلت عميقا في بنية الوعي ومقولات العقل الجمعي، واستدعت المهمّش والمستبعد من النصوص والروايات، وكثّفت النقد والمساءلة، وتفكيك المألوف، ورصد المتداول، واستنطقت دلالات الخطاب الديني، بعد تجاوز مسَلَّماته ويقينياته، وسعت إلى تقديم رؤية مغايرة لدور الإنسان في الحياة، في ضوء فهم مختلف للدين، وهدف الخلق. فهناك تواطؤ على هدر الحقيقة لصالح أهداف أيديولوجيات – طائفية. ومذهبية – سياسية.
في هذا الكتاب اعتمد المؤلف على منهج نقدي – تحليلي – تاريخي قائم على استقدام مشاهد حية من الماضي في تاريخيتها وشخوصها، لتخليص الحقيقة الدينية كما يقول أستاذنا الدكتور “علي محمد اليوسف ” في النص القدسي من براثن مجاهيل التضليل والتشويه والانحرافات والأكاذيب على التاريخ في جنبة التنظير التوعوي، وفي تعرية النفاق الديني الذي اخذ بحكم تداوليته المجتمعية صفة البديل القار الثابت في اكتسابه الحقيقة الدينية الزائفة التي يعتقدها ويمارسها المجموع، وفي إعلان هذا التزييف نفسه فكراً مضللاً، وممارسة منافقة وحيدة في امتلاكها الحقيقة لوحدها لا من اجل تصحيح علاقة العبد بالخالق ولكن بعلاقة تقديم الطاعة والمبايعة العمياء لمن يدعي ان حكمه مستمد من روح وجوهر دولة الخلافة الإسلامية في عهد النبوة (6).
لقد أراد المؤلف لمشروعه أن يكون مشروعاً نقدياً مضمونياً، أشبه ما يكون بمحاكمة فكرية لتطور العقائد، التي جنحت عن الاجتهاد والفهم الصحيح، ففي نظر المؤلف أنه في كل الديانات القديمة، وبمرور الوقت تنشأ عقائد جديدة، نابعة من الأساطير التي يتحتم بها الموروث الشعبي لهذه المجتمعات، وبحكم الفلسفات التي يتداولها معتنقو هذه الديانات. . وقد تكون هذه الأفكار والعقائد كما يري المؤلف باعثاً على التجديد وعدم الركون لفكر ثابت (7).. وللحديث بقية.
الأستاذ الدكتور / محمود محمد على
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.
..............
* هذا هو العنوان الأصلي للمقال.
1- سعدي الهادي: الفكر الديني بين إشكالياته المعرفية ومشكلاته الواقعية، مجلة التربية والابستيمولوجيا، المدرسة العليا للأساتذة بوزريعة – مخبر التربية والابستيمولوجي، العدد الثالث، 2012، ص 80.
2- عمرو عبد الكريم: معركة الوعي: سؤال التجديد، الوعي الإسلامي، وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية، س52 ,ع600، 2015، ص 84.
3- صلاح سالم: الوعي العربي بين الإصلاح الديني والتنوير العقلي، شؤون عربية، جامعة الدول العربية، العدد 164، 2015، ص 170.
4- نفس المرجع، ص 171.
5-أنظر ماجد الغرباوي: تحرير العقل الديني (متاهات الحقيقة 5)، دار أمل الجديدة، دمشق، سوريا، ط1، 2012.
6- أنظر على محمد اليوسف: منهج النص في سؤال الحقيقة.. قراءة في فكر ماجد الغرباوي، صحيفة المثقف العدد: 4466 المصادف: 2018-11-16.
7- شاكر فريد حسن: ماجد الغرباوي المثقف التنويري والمفكر المضيء، العدد: 5652 – 2017 / 9 / 27 – 11:54.