بأقلامهم (حول منجزه)
سراب سعدي: قراءة في كتاب الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري
مازلت شغوفة بمطالعة كتب الأستاذ ماجد الغرباوي والكتب التي صدرت عنه. وأنا كامرأة أعجبتُ كثيراً بكتاب (الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري)[1] للأستاذ الدكتور محمود محمد علي. كتاب رائع ومفيد، أتمنى أن تطلع عليه النساء. لا فقط المرأة العربية بل النساء بشكل عام. كتاب استعرض هموم المرأة وعلاقاتها المختلفة، خاصة في ظل النظام الأبوي الاستبدادي. وتابع جذور إشكالياتها، ليصل إلى نتائج جديدة، أبعد من إشكالية الأمومة والأدوار البويلوجية لها. جاء في مقدمة الكتاب: (ومن أهم المفكرين الذين أولوا قضية المرأة عناية فائقة والمنظرين لأسس الفلسفة النسوية بمفهوم ورؤية خاصة تستحق الدراسة والتحليل هو الأستاذ ماجد الغرباوي)[2]. حيث أرجع إشكالية المرأة لإشكالية الوعي قبل كل شيء، لذا عَرّفَ الأستاذ الغرباوي الفلسفة النسوية: (تحرير وعي المرأة وإعادة تشكيله وفق رؤية إنسانية عادلة)، ليكون موضوعها (نقد مكونات الوعي وارتهانات تشكيله)[3]. بهذا وضع يده على الجُرح من خلال الوقوف على أصل المشكلة. مشكلة الوعي أولاً وقبل كل شيء. فنحن نعاني دائما من رثاثة الوعي المُشرعن. وهو ينطلق في بحوثه في هذا الكتاب وغير من نظرية الإنسان، التي تتبنى مركزية الإنسان ودوره المحوري في الحياة. في مقابل نظرية العبودية، التي تسلب الإنسان إنسانيته، وتصادر حقوق، وحقه في الحرية والاختلاف باسم الدين.
كما ركز الأستاذ ماجد على مفهوم الحرية، إضافة الى مفهوم الوعي، باعبترها إحدى مقومات وذاتيات الإنسان و(.. إذا لم تكن من ذاتيات الإنسان فهي من أخص خصائصه وأعراضه. وقد لا أجازف - والكلام للغرباوي - حينما أعتبرها فصلا في الحد المنطقي، لأنها ليست أقل خطورة من الناطقية)[4]. فالوعي لا يكفي ما لم تتمتع المرأة بمساحة كافية من الحرية التي تجسدت فيها إنسانيتها، وفرادتها. وبكل الأحوال النزوع للحرية هو نزوع إنساني. هذا ما أكده الأستاذ ماجد في رده على سؤال ورد في نفس كتاب الفلسفة النسوية: ومادامت كذلك فهي حق وجودي للإنسان. فللاستاذ الغرباوي آراءه الخاصة حول الإنسان والمرأة خاصة، على أساسها يقارب القضايا الإشكالية. فعندما سُئل عن موقفه من المدرسة النسوية (اللبيرالية) التي تراهن على الرأسمالية في استرداد المرأة حقوقها، كما يؤكد هذا الاتجاه النسوي الليبرالي، أجاب بشلك صريح وواضح: (تفترض هذه المدارس أن مشكلة النسوية مرتهنة لحلول البنى الفوقية بينما المشكلة الأساس في المقولات التأسيسية للوعي النسوي واهتزاز الثقة بالنفس)[5]. وهذا ما أكده عند تعريفه لمفهوم النسوية: (تحرير المرأة وإعادة تشكليه وفق رؤية إنسانية عادلة). ونحن في العالمين العربي والإسلامي بل وحتى الدول المتطورة، مازالت المرأة تعاني من عقدة المظلومية واضطهاد الرجل لها، لكنها لا تسأل عن سبب مظلوميتها؟ وهل سببها الرجل فقط أم أعانته المرأة على ذلك؟![6]. وهنا إجابة دقيقة، تجعلنا نعيد حساباتنا ألف مرة. والاخذ بنظر الاعتبار أهمية فهم صلب الموضوع، ومعرفة الأسباب الحقيقية، من أجل الوصول إلى تسوية مناسبة للإشكالات المطروحة.
وأما عن اضطهاد المرأة والأسباب الحقيقية لهذا الظاهرة التي لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات، خاصة مجتمعاتنا العربية، فهو يؤكد: لا شك أن ثقافة العبودية وقيمها الأخلاقية مازالت راسخة، ونحتاج لاستبدالها بالنظرية الإنسانية جهودا كبيرة، أهمهما معالجة الموروث الثقافي، وتحليل ونقد الخطاب التراثي الذي يؤصل لنقص المرأة وحاجتها المستمرة للوصايا، ويفرض عليها باسم الدين والقيم الأخلاقية الطاعة والانقياد وعدم معصية الرجل. واستبداله بخطاب إنساني، عقلاني، تنويري، يقوم على العدل والانصاف والرحمة والتراحم، وهي قيمنا التي حثت عليها النصوص المقدسة[7].
رموز الحركة النسوية
لا يمكن الاستهانة بالجهود التي بذلتها رموز الحركة النسوية في العالم منذُ القرن التاسع عشر ابتداءً من تمرد نساء نيويورك للمطالبة بتخفيض ساعات العمل وتحسين ظروفهن في المعامل، وهي جهود كبيرة حققت مكاسب أولية لصالح المرأة، ثم توالت تحركات النساء وقد شهدت أمريكا تحركاً جديداً سنة 1904م وسنة 1908وحتى أول مؤتمر سنة 1945. وفي موازاة هذه التظاهرات كانت هناك جهود ثقافية وفكرية تثري الحركة النسوية وتنظّر لها[8]. والإنصاف أن مشكلة المرأة مشكلة تاريخية يتمكن الباحث من رصدها خلال أحكام الشريعة التي تعكس وجود جدل محتدم حول المرأة ومكانتها وحقوقها، لأن آيات الكتاب كانت تتنزل استجابة للواقع، والحكم يكشف عن تناقضاته . بل بعضهم أدرج حتى نشاطات هيباتيا في القرن الخامس الميلادي ومن تلاها لجهود النسوية العالمية، بل يمكن إدراج جميع الجهود المبذولة في هذا الإتجاه فطالما كتبت النساء عن مظلوميتهن وحقوقهن المسلوبة[9]. وبهذا الصدد ذكر الأستاذ ماجد الغرباوي عددا من النساء التي ساهمت في الدفاع عن مظلومية المرأة، عربيات وعالميات وأشاد بها لأن المرأة أقدر على التعبير عن مظلوميتها. كما ذكر بعض الرجال المناصرين للمرأة.
المرأة والحركات الإسلامية
في الفصل الخامس من كتاب الفلسفة النسوية: الحركات الإسلامية والمرأة. أجاب الغرباوي إجابات تدل على مدى تفهمه لجميع المستويات الفكرية، فجعل أجوبته واضحة لا غموض فيها. من يقرأها يشعر بالأمان والثقة بفكره، حيث أكد: أن الموقف يختلف من إمرأة إلى أخرى باختلاف زاوية النظر. وعندما (تنظّر الحركات الإسلامية والناشطات والداعيات الإسلاميات بوجه عام إلى مفهوم النسوية نظرة استهجان وازدراء)، فلأنها تستمد موقفها من مرجعيات تختزل المرأة وتصادر إنسانيتها وحقوقها، تحت شتى العناوين، أخطرها الدين وشريعة سيد المرسلين، وهي حدود أغلبها تنظيرات فقهية، وتأويلات ذكورية للنص الديني، غير أنها مقدسة بالنسبة للعقل التراثي[10] .
ما بعد الكولونيالية
أما الفصل السادس فقد استعرض الغرباوي المنطلقات الفكرية لنسوية المرأة ما بعد الكولونيالية. وهي تارة يراد بها مرحلة تاريخية تأتي بعد مرحلة الاستعمار فيشار لها بهذا الاعتبار. وأخرى يراد بها تقصي آثار وتداعيات الاستعمار على الثقافات والمجتمعات التي عانت من سطوة الحكم الكولونيالي[11]. وقد بينها بشيء من التوسع ووضع النقاط على الحروف فيما يخص تلك المرحلة التي تعتبر مرحلة منفتحة ذات نسبة كبيرة من الحرية. وقد تختلط فيها ثقافات قد تكون غريبة في فترة ما قبل الاستعمار لذلك تعد هذه المرحلة من أخطر المراحل التي يمر بها اي شعب من الشعوب . وأعود وأضيف تعريف آخر للأستاذ ماجد بهذا الخصوص وفي هذا الفصل ذاته حيث عرف تلك المرحلة بانها" نقد الهيمنة الامبريالية وتداعياتها على الوعي الثقافي والاجتماعي"[12] وأوضح أن كل ذلك يقع ضمن مسؤوليات النسوية. التي هي حركة وعي مجتمعي تفكك الخطاب الاستشراقي.
فصول الكتاب شيقة، لأن إجابات المفكر والباحث الغرباوي كانت ردا على أسئلة مهمة جدا، يمكن أن تطرح على مر الأزمان. وردوده مشوقة وموثوقة، تشجع على قراءتها ومتابعتها.
قهر المرأة
لقد خصص الكتاب فصلا عن قهر المرأة لأهميته البالغة، بل "يعد القهر الذي تتعرض له المرأة موضوعا عالميا وليس موضوعا عربيا، فكيف تقهر المرأة من وجهة نظركم؟"[13]، هكذا سأل د. محمود محمد علي. فأجاب: يعني قهر المرأة اصطلاحا: "حالة نفسية سلبية تتعرض لها المرأة من جراء مواقفها أو مواقف ذكورية ظالمة"[14]. وأوضح: إن الحالة النفسية "ردة فعل لا شعورية، تخلق أجواء نفسية لدى المرأة من جراء مشاعر أو سلوك أو موقف يثير حالتها النفسية والعصبية"[15]. ثم استعرض خلال رده على السؤال، أسبابا موضوعية وراء قهر المرأة وشرحها بشيء من التفصيل بحيث عالج الكثير من الأسباب بطريقة سلسة، فكما نعلم أن معرفة الأسباب يعتبر جزءًا من حلها فكيف إذا وجد السبب والحل معاً وهذا ما ستجده أيها القارئ العزيز في هذا الفصل من هذا الكتاب الرائع.
مكونات الوعي النسوي
الفصل الثامن حمل عنوان: مكونات الوعي النسوي وارتهانات تشكيله. حيث دار الحديث فيه عن المساواة وما هو الأساس الذي تقوم عليه؟ هل هو بيولوجي أم يتعدها على ذات المعاني بل يتجاوز ذلك إلى المعاني ذات الصلة بعلاقات القوى بين الجنسين. وهل الاختلاف سواء كان بيولوجيا أم أوسع، موجب لقهر المرأة؟. ثم استعرض السائل مجموعة إشكاليات تخص المرأة، وذكرت أجوبة عدة من زوايا نظر مختلفة، وهنا علّق الأستاذ الغرباوي على ذلك بقوله "برأيي لا يمكن حسم الموضوع إلا من قبل المرأة نفسها، شريطة أن لا تنطلق من عقدة المظلومية والشعور بالنقص وتحدي الرجل وسلطته، ورغم مشروعية مطلبها، ورغم الاعتراف بما لحق بها من قهر وتنكيل، يجب عليها أولاً أن تعي ذاتها وانسانيتها واستقلاليتها، وتعي حدودها كي تتعاطى مع مطالبها تعاط موضوعي إنساني متوازن يأخذ بنظر الاعتبار خصائصها الوظيفية والنفسية والجسدية بحكم أنوثتها وتكوينها النفسي والفوارق البايولوجية"[16]. وأضاف "إن الفلسفة النسوية تقوم على وجود وجهة نظر خاصة بالمرأة، فهي تنظر إلى الإختلاف بين الجنسين، لا باعتباره اختلافا بيولوجيا فحسب بل يتجاوز ذلك الى المعاني ذات الصلة بعلاقات القوى بين الجنسين، والإختلاف من وجهة النظر النسوية لا يكون أبداً مبرراً للقهر) . كلام الأستاذ ماجد الغرباوي منطقي ومقبول ولا خلاف عليه فقد بين بشكل واضح ما للمرأة وما عليها وذلك لا غبار عليها .
المرأة والنظام الأبوي
يقصد بالنظام الأبوي اصطلاحا، كما جاء الفصل التاسع من الكتاب: نظاما اجتماعيا عموديا، يقوم على سلطة الأب ويتقوّم بالتبعية والانقياد واستعباد المرأة. ومازالت قيمه تسري، ضمن الأنظمة المتذبذبة بين الحداثة وقيم الآباء. والنظام الأبوي وليد شرعي لقيم العبودية، التي ارتهنت وعي البشرية ردحا طويلا من الزمن. لكن الأستاذ الغرباوي سجل عليه "عدم شموله لمصاديق أخرى للهيمنة، التي لها ذات السلطة الابوية فالتعريف ليس جامعاً مانعاً بالمفهوم المنطقي لذا أفضل تعريف له – والكلام للغرباوي - هو "النظام الابوي: "نظام الهيمنة الفوقية والانتقياد الطوعي"[17].
ثم جرى الحديث في نفس السياق حول نقطة مهمة تتعلق بالأصول الفلسفية للتبعية. يقول عنها الأستاذ ماجد الغرباوي: اختلفت الآراء حول الأصول الفلسفية لتبعية المرأة في هذا النظام، وثمة تفسيرات لبدايتها، جميعها تكهنات، لعدم وجود حقائق تاريخية يمكن الاستناد لها، ولا يكفي ما كشفت عنه الآثار والأبحاث الأنثربولوجية وعلم الأجناس، وأغلبها قياس الماضي على النماذج البشرية البدائية في أستراليا والأمازون وغيرهما، فهي استنتاجات تخمينية واستقراءات ناقصة[18]. ثم استشهد بآراء أنجلس وفرويد وغيرهما، وناقشها نقاشا موضوعيا.
المرأة واللاندسكيب
خصص الكتاب فصلين لاستعراض مشاريع النسوية لدى اربعة شخصيات مهمة: رفاعة الطهطاوي، محمد عبده، عبد الوهاب المسيري، ويمنى الخولي.
ثم انتقل الحوار في الفصل الثاني عشر الى موضوع المرأة واللاند سكب. إذ ابتدأه د. محمود محمد علي بقوله: (يري البعض أن دراسات الأنوثة تنطلق من الفرضية القائلة بأن المرأة عضو فاعل في المجتمع، غير أنها لا تحصل على حقوقها المفترضة، ولذا سعت المرأة بأن تقوم بتغيير مظهر سطح الأرض وتعديله "اللاندسكيب Landscape" بطريقة تختلف عن طريقة الرجل). فأجاب الأستاذ ماجد حول هذا الموضوع: يشتمل السؤال على مقدمات، ينبغي تحري صدقيتها، وأين نتفق أو نختلف معها، للتوفر على نتيجة موضوعية. المقدمة الأولى: (المرأة عضو فاعل في المجتمع)[19]. وهذا لا غبار عليه. ولا يمكن لأحد إنكاره إلا من كان ظالما لنفسه، معتدٍ أثيم. بل ليس في الكون سواهما. وهما يقتسمان مصيرا واحدا، وحياة مشتركة. أحدهما يكمّل الآخر، ولا يمكن الاستغناء عن بعضهما. ويكفي أدوار المرأة في الأمومة، وخدمة العائلة، ومشاركتها له في كثير من الأعمال. فضلا عن مسيرتها الحياتية في جميع المجالات. وتاريخها ومنجزاتها تشهد لمسيرتها. وهي مسيرة تاريخية. فالمرأة مضطهدة، مهضومة، وهذا معنى المقدمة الثاني: (غير أنها لا تحصل على حقوقها المفترضة). بفعل النظام الأبوي الذي يهمّش الأنوثة، ويمجّد الذكورة، بدوافع نرجسية واستعلاء جنسي. وقهر لتحديها الوجودي، المتمثل بتوقف وجوده على وجودها[20]. مما حدى بها بعد مسيرة طويلة من المعاناة، استعادة شخصيتها من خلال المطالبة بحقوقها وانتزاع اعتراف إنساني بها.
(ولذا سعت المرأة بأن تقوم بتغيير مظهر سطح الأرض وتعديله (اللاندسكيب Landscape بطريقة تختلف عن طريقة الرجل). وهي المقدمة الثالثة[21].
ثم تطرق الأستاذ ماجد الغرباوي في هذا الفصل إلى موضوع الجندر بطريقة تجعلك تفهم هذا المصطلح وارتباطه بالوضع الراهن الذي يعيشه العالم وخاصة فيما يتعلق بالمرأة.
الأبعاد السياسية في العلاقات بين الجنسين
الابعاد السياسية في العلاقات بين الجنسين عنوان لافت، تحدث فيه الباحث في الفصل الثالث عشر من الكتاب، عن مدى تأثير الدولة والسياسية على العلاقة بين الجنسين، وهل النسوية نظرية ذات بعد سياسي يؤكد على أن للدولة وللسياسات العامة وللمؤسسات تأثيرا على العلاقات بين الجنسين، وبالتالي هناك فارق بيولوجي طبيعي بين الجنسين؟. فتساءل الأستاذ ماجد: لكن هل يلزم من الفارق البيولوجي: تفاوت القدرات العقلية والقيمة الإنسانية حداً يقتضي مركزية الرجل ودونية المرأة، وهو ما تؤكده منظومة القيم الأبوية؟. أو هل يلزم من الفارق البيولوجي تبرير صلابة ورسوخ ثنائية الجنسين، وعدم هدرها. والتمركز حول الأنثى في مقابل التمركز حول الذكر، والسعي لإحلال الأنوثة محل الذكورة، وهو ما تتبناه النسوية الراديكالية المتطرفة؟[22].
فالنظرية المشار لها في السؤال وليدة النسوية الراديكالية المتطرفة، حيث تستدل لتأكيد رؤيتها، بتأثير الدولة ومؤسساتها وسياساتها على العلاقات بين الجنسين، حينما تتحيز للذكر دون الأنثى. ولا يخفى حجم التطرف في هذه النظرية وهي تصر على الفصل بين الجنسين، لكن لا ينكر دور الدولة وتحيزها للذكر دون الأنثى في دوائر القرار، وإدارة مؤسساتها.
الموقف من المدارس النسوية
في الفصل الرابع عشر بين الباحث الغرباوي موقفه من المدارس النسوية: النظرية النسوية الاصلاحية، النظرية النسوية المقاومة، والنظرية النسوية المتمردة. وكانت ردوده وافية. واختتم حديثه بملاحظة، مفادها: أن مشكلة المرأة ليست مشكلة أنثوية خالصة، ولا ذكورية متسلطة، بل مشكلة ثقافية عامة، يشترك فيها الفرد والمجتمع. فلايكفي التركيز على حضور المرأة، رغم أنه شهادة عملية تعزز إنسانيتها، لكن ينبغي أيضا إعادة تشكيل الوعي من خلال تفكيك الأنساق الثقافية والمهيمن الفكري، وتشكيله على أسس إنسانية، ينظر للمرأة نظرة إنسانية عادلة، خالية من الدونية والنظرة السلبية. بعيدا عن خصوصياتها، التي تفرضها طبيعتها. لكن الخصوصية لا تعني الدونية بأي شكل من الأشكال. فهي ليست نقصا تكوينيا، بل كمالا ينسجم مع دورها الحياتي. فكما لا يكتمل الرجل إلا بخصوصياته، فكذا المرأة مع خصوصياتها[23].
الوظيفة البيولوجية للمرأة
هل هناك قيم ثقافية تم الصاقها بالمرأة بالاعتماد على هذا الفارق البيولوجي أو الجنسي؟. أي أن ثمة قيم مكتسبة تعتمد على الوظيفة البيولوجية للمرأة والوظيفة التشريحية التي خصتها بها الطبيعة وهي قدرتها على الحمل والانجاب؟. هذا السؤال طرحه الدكتور محمود محمد علي في الفصل الخامس عشر من كتاب النسوية. فأجاب الغرباوي: لا يخفى أن الوظيفة البيولوجية للمرأة كانت وراء تصنيفها[24]. فهي بالنسبة للرجل جسد وطبيعة بيولوجية مغايرة. وثمة اختلاف في تفصيلات جسديهما. المرأة تحمل وتلد وتحيض وتعترضها حالات نفسيه خلال حملها وولادتها. وينتابها ضعف وإرهاق. مشدودة للعواطف والرومانسية. كما يجدها مرتهنة لقوته وإرادته جنسيا، يمكنه قهرها أو تجاهلها. وهنا هو لا يفسر الاختلاف تفسيرا إنسانيا، أو تكامليا كما نفهمه بعد تطور مختلف العلوم، ولا يجد سوى الاختلاف البيولوجي علة لذلك. وتبقى المرأة بالنسبة له رَحَمَاً ومبيضين. فالدونية قدر طبيعي، وليس ظلما أو عدوانا ضدها. بل أن أنوثتها تقتضي اختصاص الرجل بتدبيرها، وتحديد وظيفتها[25].
وقد حمل الغرباوي الفهم الخاطئ للأديان والثقافات مسؤولية النظرة الدونية للمراة ودورها في المجتمع .
سوء فهم الخطاب الديني للمرأة
في الفصل السادس عشر تحدث د. محمود محمد علي عن سوء فهم الخطاب الديني للمرأة، حيث أكد أن النسوية الإسلامية كما يزعم أنصار النسوية الأوربية تعاني من مشكلة التمييز بين الرجل والمرأة، حيث يتصورون بأن الإسلام هو من أكد على أن الذكر هو من حدد ما يجب أن يمنح للمرأة[26]. وأضاف السائل أن مشكلة التمييز تظل مشكلة عالمية، كل النساء عانت منها. حتى تبلورت نظرة دونية للمرأة. وتم تنميط لدور المرأة داخل الزواج والأمومة، حيث توجد حالة من تنيمط الدور الأمومي والزواجي وحالة من الاقصاء والتهميش للمرأة؟. وهنا أجاب الأستاذ ماجد الغرباوي: وبالتالي لا خصوصية للإسلام، مادامت القضية عالمية تاريخيا... المنطق الذكوري هو المنطق الذي ساد الحياة البشرية، ولا قياس على الأمثلة النادرة. ولا أدري مدى صحة تفصيلات مرحلة الأمومة، ولو صحت فأيضا الذكر كان وراء تقديس المرأة، لأن بنية الوعي كانت وما زالت بنية ذكورية، مادامت المسألة أبعد من الجانب الوظيفي وأدوارهما في الحياة[27]. ويؤكد على أن الإسلام ينتمي كدين وثقافة وعقيدة وروابط اجتماعية لبيئته وثقافته هدفه مكافحة الشرك والتصدي للكفر وانتشال الوعي من لوثة عبادة الاوثان و الأصنام وسيادة العدل. وعندما تولى قضايا المرأة لم يقدم فهما للأنوثة يبتعد بها عن الوعي المألوف وادوارها المرسومة مسبقا "المنزل ورعاية الأطفال وخدمة الرجل" وانما طالب الرجل بالرفق والعدل والإنصاف ورعاية خصوصيتها في تعامله معها.
من خلال بيان الأستاذ ماجد الغرباوي لهذا الأمر اتضح مدى عمق دين الإسلام فيما يتعلق بالمرأة ككائن حساس رقيق وفند فكرة الغرب فيما يتعلق بهيمنة الرجل على المرأة في ديننا الإسلامي السمح.
النسوية الراديكالية المتطرفة
أكد المفكر العراقي ماجد الغرباوي: لست مع جميع مطالب النسوية خاصة ما تتبناه النسوية الراديكالية المتطرفة. وقصد بكلامه كما هو واضح في هذا الفصل أن يتعاطف مع الثورة النسوية المتوازنة التي قامت ضد تداعيات التفوق الذكوري الذي افضى إلى تهميش الأنثى فهي دعوة لاستعادة إنسانية المرأة أساساً للمطالبة بحقوقها[28]. وهنا أتفق مع الأستاذ ماجد في هذا الخصوص فلو طالبت المرأة بفكرة التفوق الذكوري وبناء مجتمع البطريريكي الابوي إذاً بهذه الحالة ستنقلب الموازين وسيكون هناك ظلم ونعود إلى الوراء في هذه النقطة، فالمرأة يجب أن تكون منصفة في هذا الخصوص وتكون واقعية في تحديد مطالبها بشكل منطقي وعقلاني.
المرأة وقوانين الطبيعة
في الفصل الثامن عشرة بعنوان: المرأة وقوانين الطبيعة. طرح د. محمود محمد علي سؤالا، مفاده: ماذا نعني أن المرأة كوجود طبيعي أي مثلها مثل الرجل تخضع لقوانين الطبيعة. وما يميز المرأة عن الرجل أن الطبيعة خصتها ببنية تشريحية تسمح لها بالحمل والإنجاب، كما خصت الرجل ببنية تشريحية أخري تسمح له بالإخصاب هذا الفارق البيولوجي هو فارق طبيعي؟[29]. وهنا أجاب الغرباوي: ثمة قصدية وراء هذا الكلام مفادها إرتهان أدوار المرأة في حدود الأسرة والأمومة للفارق البيولوجي فتبدو الأنوثة حتمية بيولوجية مفروضة عليها ومسألة خارجة عن ارادتها، ولازمة نفي مسؤولية النظام الابوي والمنطق الذكوري والأمر يعود للطبيعة التي كيفتها مع مهام الأمومة بما يناسب انوثتها كما أن وظائف الرجل مرتهنة للعامل البيولوجي فكذلك المرأة[30].
إن فطنة وذكاء الأستاذ الغرباوي في اجابته على هذا التساؤل يجعل من المرأة سعيدة لأن من يحاول أن يقلل من شأنها ويقلل من موقعها قد فُندت من خلال هذه الإجابة الصارمة والواضحة لهذا وأنا كامرأة أرى إن الأستاذ ماجد الغرباوي منصف جداً في مناصرته لقضايا المرأة فهو غير منحاز في اجاباته حول كل التساؤلات السابقة.
التحيّز ضد المرأة
كان موقف الأستاذ ماجد في الفصل التاسع عشر، صارما من جميع أشكال التحيز والتمييز التي عانت منها المرأة. وكان في موقفه هذا بصدد الرد على سؤال السائل، الذي جاء فيه: (... فهل يعتقد الأستاذ أن النسوية - كإطار فكري وفلسفي وحركة سياسية - تمثل توجها يدافع عن حقوق المرأة، ووضع حد لأشكال التحيز والتمييز التي عانت منها المرأة على مدى التاريخ؟)[31]. يقول: لا شك أن الأطر الفكرية والفلسفية التي تم التنظير لها، ارتقت بالنسوية من مستوى حركة سياسية – اجتماعية ترفض الذكورية التي شكّلت وجودها القيمي، وتطالب بحقوق المرأة ومساواتها به إلى وضع أطر نظرية وفلسفية تتحرى الأسباب الحقيقية وراء دونية المرأة، ومعالجتها من خلال طرح بدائل فكرية وفلسفية، تسمح برؤية الهوية الحقيقية للمرأة، وأبعاد شخصيتها التي تستقل فيها عن الرجل، رغم اختلاف النتائج[32]. ونسب وعي المجتمع للمرأة ودونيتها لثقافة اجتماعية متأصلة، مصدرها فهم خاطئ للدين وقيمه، وقيم النظام الأبوي والاستبدادي والذكوري، وطالب بطرح بدائل للنظام الابوي والحتمية البيولوجية تستعيد المرأة كائنا انسانياً سحقته قيم العبودية . هذا الربط الرائع من قبل الأستاذ الغرباوي يجعلنا نعيد حساباتنا ألف مرة فمن خلال التشريعات السماوية ستجد المرأة حقوقها التي أخذت منها عنوة جراء الجهل والظلم الذي يبتعد عن كل تلك التشريعات وهذا ما أكد عليه.
حجاب المرأة
لقد كان موقف الأستاذ الغرباوي من الحجاب مفصلاً في الفصول الثلاثة الأخيرة من الكتاب. حيث تناول موضوع حجاب المرأة من جوانب عديدة. منها باعتباره زياَ من الأزياء، يحدد انتماء المرأة لثقافة ما. وباعتباراه واجبا شرعيا تفرضه الأديان. وقد حذر من المغالاة واللامبالاة من حجاب المرأة فكلاهما موقف غير صحيح. مادام الحجاب يعبر عن قناعة، مهما كان مصدرها. ثم نبه الأستاذ الغرباوي إلى أنواع الحجاب من حيث دوافعه وغاياته، بما يلي[33]:
1- امرأة ترتدي الحجاب عن وعي، باعتباره شَعيرة دينية، تخص المرأة، وتجد فيه كرامتها وعدم ابتذالها.
2- حجاب تفرضه العادات والتقاليد. يكسب المرأة مكانة اجتماعية، سواء التزمت بتعاليم الدين أو لم تلتزم. أم كان التزامها شكليا، فجميعه لا يؤثر، المهم أنها تجد في الحجاب ذاتها وتؤكد وجودها وتكرّس انتماءها، فيكون الحجاب هوية ورصيدا رمزيا، يضمن لها مكانة اجتماعية متقدمة.
3- وثمة حجاب يخفي تحته تمردا أنثويا وصدى لشراسة القمع ومعاناة القلق المصيري ورثاثة القيم والتقاليد ومصادرة حقوق الحريات والمساواة.
4- امرأة تكره الحجاب لديها نزوع للتحرر الراديكالي المتطرف، قد يكون ردة فعل ضد ثقل الموروث الاجتماعي، فهي تبحث عن هامش من الحرية لتتمرد عليه، فيكون هدفها الأساس ممارسة حرية متطرفة.
5- امرأة تعتبر تبعا لتقاليد مجتمعها الحجاب مقياسا لشرفها، يرتفع طرديا بزيادة عدد قطع القماش التي تلتحف بها، وبقدرتها على التواري عن الرجال.
ويستنتج الأستاذ الغرباوي مما تقدم أن المطالبة بإعادة قراءة حكم الحجاب في الشريعة، ودعوات خلعه، وحالات التمرّد عليه، في مقابل دعوات التمسك به، تتقاسمها أسباب ذاتية وموضوعية. يمكن رصدها[34].
***
وصلنا للمحطة الأخيرة من هذا الكتاب القيم الذي يعتبر إضافة رائعة لكل قارئ. تضمن الكثير من الآراء والأبحاث للأستاذ ماجد الغرباوي حول مسائل كثيرة متشعبة حيث أماط اللثام عن أمور من صعب فهمها وشرحها إلا انه ذلل صعابها. فكان أسلوبه في هذا المجال ممتعا وشيقا، وشاملا لجميع موضوعات الفلسفة النسوية ..شكري وتقديري للمفكر والباحث الكبير الأستاذ ماجد الغرباوي على إجاباته، وشكرا للدكتور محمود محمد علي على أسئلته القيمة التي كانت وراء هذا العرض المممتع لموضوع النسوية.
***
الكاتبة سراب سعدي
..........................
[1] - محمد علي، د. محمود، الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري، در الوفاء، الاسكندرية – مصر، 2020م.
[2] - المصدر نفسه، ص 7.
[3] - المصدر نفسه، ص 9.
[4] - المصدر نفسه، ص 28.
[5] - المصدر نفسه، ص 35.
[6] - المصدر نفسه.
[7] - المصدر نفسه، ص 39-40.
[8] - المصدر نفسهن ص 45.
[9] - المصدر نفسه.
[10] - المصدر نفسه، ص 53.
[11] - المصدر نفسه، ص 65.
[12] - المصدر نفسه.
[13] - المصدر نفسه، ص 79.
[14] - المصدر نفسه.
[15] - المصدر نفسه.
[16] - المصدر نفسه، ص 91.
[17] - المصدر نفسه، ص 99؟
[18] - المصدر نفسه، ص 101م.
[19] - المصدر نفسه، ص 137.
[20] - المصدر نفسه، ص 138.
[21] - المصدر نفسه
[22] - المصدر نفسه، ص 149.
[23] - المصدر نفسه، ص 160.
[24] - المصدر نفسه، ص 163.
[25] - المصدر نفسه.
[26] - المصدر نفسه، ص 175.
[27] - المصدر نفسه.
[28] - المصدر نفسه، ص 185.
[29] - المصدر نفسه، ص 193.
[30] - المصدر نفسه، ص 193.
[31] - المصدر نفسه، ص 199.
[32] - المصدر نفسه.
[33] - المصدر نفسه، ص 218 – 219.
[34] - المصدر نفسه، ص 219.
......................................
* مشاركة (29) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).
رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي
https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10