بأقلامهم (حول منجزه)
مريم لطفي: الفكر الديني وتأثيره على الفرد والمجتمع.. ماجد الغرباوي إنموذجًا
منذ ان بزغ النور في سماء الانسان وهو يبحث عن مرجع معتمد يجيب عن أسئلته حول الوجود والحياة والموت، وسبب وجوده، وما هو أصله، وكيف سيكون مصيره. فكان الدين دون مرجعية الانسان المؤمن لمعرفة تلك الحقائق، فراح يهتدي بهديه، ويتمسك بشرائعه، ويتحلى باخلاقه، وتطمئن به نفسه، ويتخذ من القرآن مصدرا لمعرفة كل القضايا التي تهمه، مادام الدين وحيا منزلا من عند الله تعالى. أنزله على صدر نبينا محمد (ص) لهدايتنا، فالدين مرجعية صائبة بالنسبة للمؤمنين، وهذا سبب تعلقهم بدينهم والافتخار بالانتساب له، والدفاع عنه. وقد دعا الله جل وعلا إلى تدبر آيات القرآن، في أكثر من آية، رغم أنه كتاب مقدس. فالتدبر يفتح للقارئ معاني جديدة لا تظهر بالقراءة العادية له. والاية تخاطب الانسان الذي جعله الله خليفة في ارضه، مهمته عمارة الارض، قد أوكلها الله له، فعليه أن يكون كفؤا لهذه المهمة. وهي مهمة صعبة تحتاج للدراسة والتحليل والتطبيق والغوص في غمار التفاصيل التي تتناسب مع حياته في ظل التقدم الذي يُليقي بظلاله على كل امور الحياة. وقد وضع القرآن العقل معيارا لفهم تأويلات الكتاب، وهذا يؤكد أهمية العقل واحترام الاديان له: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)[1] والالباب هي العقول واللب هو جوهر العقل، وكون الانسان مخيرا وليس مسيرا فلابد أن يتمتع بمساحة من الحرية لاختيار طريقة تفكيره على الأقل، لذا بات جليا أن تقاس جودة الاشياء بمدى تطابقها مع الواقع الحياتي للانسان الذي يستوفي شروط ديمومته من القيم العليا المتمثلة بآيات الله جل وعلا. غير أن مجتمعاتنا هجرت العقول وتمسكت بالأساطير حتى سادت فيها ضروب الخرافة والتسلط وانعدام الحريات وانتهاك الحقوق، والتمسك بالطقوس والشعارات بدلا من التخلق باخلاق الدين وتمثل قيمه الانسانية. والسبب ليس المجتمع وحده بل الخطاب الدين الذي لم ينجح في مواكبة العصر، ولم يلبِ طموحات الانسان الروحية والحياتية، لذا لابد ان من خطاب ديني جديد، وفهم ديني جديد يعيدان للناس ثقتهم بأنفسهم وعقولهم ودينهم. وقد تصدى عدد من العلماء والمفكري للتجديد الديني من خلال تقديم آراء دينية تنسجم مع القيم الاخلاقية والحضارية الانسانية، وعدو للتسامح والمحبة واحترام الآخر، منهم: الباحث والمفكر الاستاذ ماجد الغرباوي.
ماجد الغرباوي
ماجد الغرباوي كاتب وباحث بالفكر الديني، واجه خلال حياته ظروفا مختلفة، وهاجر الى أكثر من دولة، لكنه ظل وفيا لمبادئه وقيمه التي آمن بها. وحمل على عاتقه مشروعا دينيا وإنسانيا ينتمي للعقل والعقلانية، ويتخذ من الاخلاق ركيزة اساسية له. بعد أن مضى بدراسة وتدريس العلوم الدينية والعقلية المرتبطة به، سنين طويلة كما أشار الى ذلك في سيرته. إمتاز بدماثة الخلق وسرعة البديهية وقدرة على طرح الأفكار وشرحها وبيانها بكل سلاسة ووضوح ورحابة صدر منقطعة النظير. نشأ في أسرة متسامحة، ابتداء من رأس الهرم والده الذي أخذ منه كل القيم النبيلة ومبادئ الفضيلة، ووالدته التي كانت ينبوعًا أغدق عليه العاطفة والنبل والتسامح وحب الاخر. وزرعت في نفسه احترام الاخرين بعيدا عن أي اعتبار، وهذا ما انعكس على شخصيته فيما بعد (فالجذور الطيبة ثمارها طيبة). محاور من الطراز الأول، ينطلق من ثقافة ومعرفة واسعتين، أهلتاه ليكون قبسا يستضاء بعلمه وأدبه. يعتمد على الدليل والبرهان والعقل في آرائه فهو لا يطلقها جزافا او بدوافع عاطفية. هدؤه ينبع من منبته الطيب ودراسته العميقة وخبرته الحياتية وخلقه الكريم. يدعو في كتاباته الى التسامح واحترام الاخر. والدين برأيه معاملة حسنة، وأسلوب حياة، وليس طقسا يُردد دونما أدنى وعي. والايمان إيمان عقلي نقي، وليس أوهاما وخرافات. تعددت أعماله حتى بلغت أكثر من 30 عملا، تأليفا، وترجمة، وتحقيقا، وحوارا واعداد، وكتب حول منجزه كثيرون. كل هذا وغيره ذكره في سيرته، المنشورة في المثقف.
القارئ لمؤلفات الغرباوي يجد تأكيده الدائم على الانسان، باعتباره سيد المخلوقات. يتناول في بحوثه كلا بعديه المادي والروحي، دون تفريط. كما يدعو الى اصلاح الذات سبيلا لاصلاح المجتمع، ودعا الى التسامح لتدارك اخلاق الكراهية والعدوان المستشري بسبب الحروب والصراعات السياسية على السلطة. التسامح حاجة ملحّة لمجتمعات تفتقر له اساسا، مجتمعات سادها العنف والتعصب الاعمى والعنصرية المقيتة. بسبب الاستبداد وروح العبودية، لذا تعني الحرية عنده، حرية الرأي والتفكير الحر، والاعتقاد السليم دون مغالاة. ويمكن أن اضرب مثلا بالعراق لحالة التشرذم والصراعات الطائفية والسياسية وانعكاساتها على المجتمع. العراق بلد تتعدد فيه الاعراق والطوائف. وكان شعبه الى حد قريب يتمتع بالاخاء والمحبة والتسامح، ففي الحي الواحد تجد المسلم والمسيحي والازيدي والصابئي والعربي والكردي والتركماني يتشاركون الشمس نفسها والنهر نفسه والارض ذاتها تحتضن خطواتهم وتباركها بعيدا عن أي أي اعتبار، لكن هذا المفهوم تشرذم عندما تسيست أهدافه مما أدى إلى تنافر أقطابه وبالتالي حلت الكارثة!. لذا نجد الغرباوي يؤكد على التسامح وقد اتخذ من العراق بلده حينما ألف كتابه التسامح ومنابع اللاتسامح: (ولعل مشاهد العنف في العراق ستبقى ماثلة في ذاكرة الاجيال. هذا البلد الذي عرف بتنوعه الديني والمذهبي والقومي منذ قديم الزمان، غير انه تعرض لتحديات خطيرة في مصداقية وحدته، وتحولت خطوط التماس الى خطوط نار محفوفة بدماء الابرياء من الاطفال والنساء والشيوخ، وظلت تراكمات الخراب المدني وكل ما هو جميل في الحياة شاهدة على عمق الازمة الثاوية في لا وعي الشعب المتنوع، والتي انفجرت عندما استنشقت جرعة قوية من الحرية)[2].
من جانب آخر، أكد على الحرية كقيمة أساسية عنده، يرفض التفريط بها أو التنازل عنها، ويؤكد على حرية الفكر والرأي وحق التعبير، دون تعسف، مادم الانسان يلتزم بقوانين المنطق والعقل3. ويكون جداله بالتي هي أحسن ومن خلال الأدلة والبراهين. بينما القمع وتكميم الافواه سياسة سائدة في بلداننا، بحكم الاستبدادين الديني والسياسي. لهذا يقف الغرباوي بشدة بوطه الاستبداد، مهما كانت سلطته[3]. فالانسان كائن محترم يجب ان يتمتع بحرية كافية حدودها حرية الآخرين، والأنظمة والقوانين التي تشرع للصالح العام. حتى التقليد الفقهي يرفضه الغرباوي ما لم يكن عن بينة، يستوفي شروطه الموضوعية. ويدعو الى منهج جديد لاستنباط الاحكام الشرعية، يحفظ كرامة الانسان وفق ضوابط علمية وعلى اساس القيمة الاخلاقية الاصيلة، كالعدل والمساواة.
وقد نظر الغرباوي للمرأة باعتبارها قيمة انسانية أولا وقبل كل شيء،[4] بل أنها أعلى قيمة يستمد منها المجتمع طاقته وديمومته، وهي ليست مجرد رقم أوحاجة بل إنها الانسان الذي خلقه الله بأجمل تقويم وعليه يُعوّل بناء الانسان والحياة والمجتمع والحضارة، فهي تهب الانسانية سبل ديمومتها وحضورها ومعنى وجودها. وعلى اختلاف العصور كان لها دور قيادي وريادي واضح في مجمل ميادين الحياة العامة والخاصة ، فهي نصف المجتمع وتربي نصفه الاخر، وقد اثبتت حضورها كجوهر وغاية وليس مجرد وسيلة للتلاعب بمقدراتها، وقد استلهم الغرباوي آراءه وأحكامه بالنسبة للمرأة من بديع الايات القرآنية التي كرّمت المرأة وأنصفتها ورفعت مكانتها ووهبتها الحقوق التي حُرمت منها في العصور الغابرة، ومع اختلاف الدور البايولوجي للمرأة لكنها أخذت مكانتها بموثق من الله وإن أغفله الفرد المتسلط أو البيئة المتعصبة (يأيها الناسُ اتَّقوا ربكمُ الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زَوجها وبثَّ منهما رجالا كثيرا ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام)[5].
في الختام، هذه شهادة عبرت فيها عن وجهة نظري الخاص، اسال الله العلي القدير ان يبارك في مسيرة الاستاذ ماجد الغرباوي
***
مريم لطفي - أديبة وكاتبة
..........................
[1] - سورة الرعد، الآية 19.
[2] - الغرباوي، ماجد، التسامح ومنابع اللاتسامح.. فرص التعايش بين الاديان والثقافات، الحضارية، بغداد – العراق، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2008، ص 12.
[3] - أنظر موقف ماجد الغرباوي من الاستبدادين الديني والسياسي في كتاب اشكاليات التجديد، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، ص 209. وكتاب: الضد النوعي للاستبداد.. استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2010م.
[4] - هناك كتابان يشتملان على رأي الغرباوي في المرأة وحقوقها. الأول حوار د. ماجد غضبان مع ماجد الغرباوي في كتاب المرأة والقرآن.. حوار في إشكاليات التشريع، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2015م. وكتاب: الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري، للدكتور محمود محمد علي، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا، ودار الوفاء، الاسكندرية – مصر، 2021م.
[5] - سورة النساء، الآية: 1.
........................................
* مشاركة (35) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).
رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي
https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10