بأقلامهم (حول منجزه)

مراد غريبي: التكريم بوصفه إستنارة.. شكر وتقدير لمن شارك في تكريم ماجد الغرباوي

إنّ المنجزات الفكرية لعدد كبير من المفكرين والمجددين لم تنل الاهتمام والرعاية الكافية عبر تاريخ الفكر العربي والإسلامي إلا القليل، لتصنيف تلك المنجزات ضمن الآراء المحرّمة، التي تشكل تهديدا بعيد المدى للموروث الثقافي، المكبِّل للإبداع والتجديد والتنوير. لا ريب أن دراسة منجزات ومشاريع المبدعين في قضايا التجديد والتنوير والإصلاح مثلت ظاهرة استراتيجية في حياة الشعوب والأمم، ففي أوروبا وتحديدا ألمانيا هناك مؤسسات ثقافية غير حكومية لا تزال تركز على دراسة آراء جوته ونيتشه وكانط وهيغل ومارتن لوثر وهايدغر وغيرهم من الفلاسفة والمصلحين والشعراء، وكذلك  في الولايات المتحدة الأمريكية اتسع نطاق الفعل الثقافي الخاص بالشخصيات الفكرية الإصلاحية والتنويرية المؤثرة في الثقافة الأمريكية الحديثة والمعاصرة  وتوسعت مؤسساته الفاعلة عبر العالم، لقد برزت تيارات فكرية اتخذت من الاستنارة بأفكار المفكرين والفلاسفة والفنانين ميداناً لاشتغالها خصوصا بجامعات بريطانيا وكندا وروسيا والهند واليابان، حيث يتم دراسة المنجزات الفكرية، وحركة تطورها ومدى حضورها في مقررات الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية، خاصة منها  تلك التي تم تجاهلها وتمّ تجديد النظر والفحص والنقد لها، ويعتبر هذا الحدث حركة متجددة في مجال المعرفة التاريخية للأفكار والمفكرين وعلاقتها بالتحديات الراهنة، كون  مكانة المثقفين في المجتمعات المعاصرة ذات سلطة ومصداقية، ناهيك عن انخراط المثقف في الحياة العامة وتأثيراته الجوهرية في التصورات والمواقف والآفاق، ليس مثقف العصر وإنما كل المثقف كشاهد على أسس ومقتضيات ورهانات التنمية والتجديد والإصلاح والتغيير...

بينما نحن في العالم العربي، لانزال نحاول أن نقترب من المشاريع الإصلاحية والتجديدية في الفكر والثقافة والاجتماع والدين التي عرفها تاريخنا العربي والإسلامي سواء الحديث والمعاصر منه، فمنذ الموجة الأولى للإصلاح والتجديد نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ولغاية الموجة الثالثة التي كانت ما بعد الاستعمار الجديد نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين، كان التصور العام للمشاريع يتراوح بين اليسار واليمين وأحيانا  استغراق في الجدالات التاريخية بين الثنائيات والقطبيات وتكريس للعشوائيات الثقافية، لكن  رغم كل المؤاخذات حول التصور والرؤية والمنظورات لهذه التجارب الفكرية والمشاريع التجديدية وما أنتجته من تعدد لوجهات النظر حول القضايا والمسائل التي يجب تكثيف النظر إليها  في منجزات المفكرين التنويريين والتجديديين، أصبح النقاش والمقاربة لمنجزات المفكرين والمجددين ضرورة ملحة في هندسة الوعي ورسم معالم الإصلاح الثقافي وما هنالك من آفاق نهضوية..

ضمن هذا السياق، تسنى لي منذ سنة 2019م ولغاية يونيو 2024، أن أعيش فترات هامة ترتبط برعاية  وتعريف واستكشاف منجز فكري معاصر، ألخصه في علاقة الإبداع الفكري بالالتزام الإنساني، حيث يختزل الأمر بمفكر عربي بارز هو الأستاذ ماجد الغرباوي؛ وتلك العلاقة عاينت أهميتها الكبرى في نقاش العديد من المفكرين والأدباء والباحثين والأكاديميين من أغلب دول المشرق والمغرب العربيين وبلاد المهجر، خلال إعدادي لكتاب تكريمه في سبعينيته.

في هذه السطور وددت بداية أن أستعرض بشكل عام منجز فكري وأدبي  سيكون له دوره في إثارة ورفد الوعي بشتى صوره الفكري والثقافي والاجتماعي والديني، حيث تزينت به المكتبة العربية مؤخرا كإصدار تكريمي خاص تحت عنوان: "ماجد الغرباوي: أنسنة التراث وعقلنة النص الديني (عن دار العارف في بيروت سنة 2024م، في مجلدين (1250) صفحة)، والذي ضم 130 مشاركة من مقالات وشهادات ودراسات، وقام بالتقديم له قامتان في الفكر والفلسفة والتربية والاجتماع في  جغرافية الثقافة العربية المعاصرة، الدكتور عبد الجبار الرفاعي والبروفسور علي أسعد وطفة.

هاذان المجلدان هما ثمرة إتصال ونقاش وتشاور وحوار مع العديد من المفكرين العرب من طنجة إلى مسقط، ومن سيدني إلى أوتاوا، إنه منجز  يختصر منجزات شاهدة على مدى الأثر الذي خلفه ماجد الغرباوي في المشهد الفكري والثقافي التجديدي العربي والإسلامي، إذ كان الشخص الذي سلك بالعديد من رواد الفكر والتجديد والتنوير في الوطن العربي إلى التجربة النقدية وإثارة الوعي من خلال جهوده التي بذلها لإحياء الوعي الفكري عموما والديني خصوصا، حيث التأثير الكبير الذي أحدثه الغرباوي يبرز  من خلال موهبته النقدية التي  تفتقت في مرحلة مبكرة ( كما عبر عنها بــــ(ص 11 المجلد1 من الكتاب)، واستمر المخاض والنقاش والتفكر  إلى غاية مطلع القرن الراهن، حيث برز  ماجد الغرباوي المثقف المستنير بصورة كبيرة خلال السنوات العشرة الأخيرة التي قضاها في صياغة الرؤية وتحديد المنظورات، فكانت نموذجية  الغرباوي في هذا الكتاب ترتبط بقوة أفكاره الفلسفية، والموضوعات الجديدة التي اشتغل عليها وهي: الوعي والتسامح والأنسنة، والمنهج، والمستقبل، والنهضة والأخلاق.. فمضامين المجلدين من هذا الكتاب تتناول ماجد الغرباوي من خلال أفكاره المبثوثة في مؤلفاته ومن خلال قراءاته النقدية ورؤاه التجديدية المتطورة بحسب المقتضيات ويبدو البحث في منجزه هو أعمق لأنه تفاعل فكري حول القضايا والإشكاليات التي يطرحها ويناقشها، بل إنه فهم للبنية الثقافية والفلسفية للمفكر الغرباوي؛ كونها  كتاباته تسلط الضوء على بعض الجوانب الخفية من حياته، حيث حاولت الدراسات طرح تقييم نقدي لأفكاره، والمقالات كانت مصابيح على طول خريطة فكره ومؤلفاته ومطارحاته، والشهادات جاءت لتعكس مكانة المفكر ماجد الغرباوي الفكرية والأدبية وتعدد مجالات اهتمامه واشتغاله، حيث استهلت بشهادة وتقديم الدكتور عبد الجبار الرفاعي التي يعبر فيها بالقول: ماجد الغرباوي صديق صدوق نادر، انا محظوظ بهذه الأخوة الإيمانية والأخلاقية والمعرفية الأصيلة بيننا، لا شك أن هذه الأخوة استثناء من الصداقات الشائعة، أنا وماجد أصدقاء عمر، يقترب عمر صداقتنا من عمرنا الزمني، صداقة تناهز الستين عاماُ، إلتقينا بتوفيق إلهي في متوسطة قلعة سكر سنة 1968م، ولم ينقطع حبل المودة بيننا. (ص20 المجلد 1 من الكتاب)، ومونولوج الأستاذة بشرى البستاني والشجاعة والمثابرة الفكرية  عند الدكتور سامي عبد العال والدكتور صائب عبد الحميد والدكتور عبد الجبار العبيدي، والدكتور صالح الطائي والدكتور صلاح حزام، ناهيك عن الأسئلة التي خاض غمارها الأستاذ الغرباوي كسؤال الدين والأخلاق كما تناولها في شهادته الدكتور نابي بوعلي وقراءات لمشروعه لدى  الدكتور عدنان عويد وثامر عباس واياد الزهيري، وشهادات حول الفكر والرسالة والهدف والتنوير وسحر ذلك كله، حيث قاربت لب المنجز  كما حررها    الدكتور صادق السامرائي و الدكتور علي محمد اليوسف وطاهر أبو ألاء ودكتور سعد ياسين يوسف والدكتور جودت العاني والدكتورة شهرزاد حمدي والأستاذ أحمد راضي الشمري والدكتور قصي الشيخ عسكر والأستاذ شاكر عبد موسى، وعن شمولية الوعي كما وصفها الدكتور عبد الأمير المؤمن، وأثر المتاهات كما سلط الضوء عليها الدكتور صالح الزروق والأستاذ حسين علاوي،  دون أن نغفل تلك المقاربات حول شخصيته الفكرية والأخلاقية كما صاغها الأستاذ زيد الحلي والاستاذة صفاء الهندي، وقراءات للمفاهيم من قبيل رؤى الأستاذ عبد الستار نورعلي والأستاذ عقيل عبود.. والعديد من الشهادات التي عكست جمال شخصية الأستاذ الغرباوي وأناقتها وسماحتها.. ثم جاءت المقالات لتخوض غمار النقاش والنقد وتثير ما يرفع الستار على قصة الابداع وإثارة الوعي وفتق النباهة من خلال معاينة الدكتور علي المرهج لآفاق الفكرة عند الغرباوي والأستاذ علاء هاشم الحكيم والأستاذة آية محي الدين ويستنطق الدكتور عبد الباسط سلامة هيكل والدكتور حسنين جابر الحلو والدكتورة عفاف المحضي والأستاذة خولة خمري والأستاذ عباس أعموري والدكتورة رانيا عاطف والأستاذ سهام الجزار والأستاذ عاشور البدري والأستاذ شوقي مسلماني والأستاذ قيس العذاري والأستاذ نادر المتروك والأستاذة هيام الفرشيشي والأستاذ صباح محسن كاظم والأستاذ جمعة عبد الله والأستاذ محمد هروان، أسئلة التسامح واللاعنف، كما يفتح أسئلة نقد الذات والحقيقة والمنهج والمعرفة والتجديد والحوار وفلسفته وقضايا التراث والاعتقاد والنهضة، كل من الأستاذ بدر العبري والدكتور رائد جبار كاظم والأستاذ سلام كاظم فرج والدكتور أسعد عبد الرزاق الأسدي والدكتور محمد يونس محمد والدكتور محمد سعيد الأمجد والأستاذ إبراهيم جلال القصاب والأستاذة علجية عيش والدكتورة بثينة بوقرة والدكتور حفيظ أسليماني والأستاذة خيرة مباركي والدكتور عصمت نصار والأستاذ حسين بوخرطة...

هذه المقالات النقدية اتسمت أغلبها بقراءات لمؤلفات المفكر ماجد الغرباوي وكانت مواضيع الوعي وخاصة الديني منه والتسامح وتحديات العنف والتجديد أكثر حضورا واشتغالا ورعاية نقدية وتوصيفية وتحليلية بينما المجلد الثاني الذي قدم له البروفسور علي أسعد وطفة، المفكر العربي السوري الذي يصف المفكر ماجد الغرباوي بالقول :" وإذا كان لي أن أصف الغرباوي فإنني أراه اليوم وهو يكافح ويناضل أشبه ما يكون ببروميثيوس الذي نزع الشعلة من أيدي الآلهة ليضيء بها أرجاء الأرض فلا يترك منها ركنا خافيا في عتمة الظلام، وها هو يومض بقبس من النور ليبدد ظلام التخلف الثقافي والفكري في عالمنا العربي.". ( ص13 المجلد الثاني من الكتاب)، هذا المجلد الثاني نال القسط الوافر من التعريف بمنجز المفكر ماجد الغرباوي حيث تضمن دراسات وبحوث حفرت أعماق هذا المنجز الكبير وكشفت عن أغواره وقربته أكثر من القراء الكرام رافدة بذلك ما لم تتوسع فيه المقالات والقراءات، حيث رسم الدكتور قادة جليد المعالم العامة والعميقة لموقعية فكر الأستاذ ماجد الغرباوي في خريطة الفكر العربي المعاصر، و تناول الأستاذ عبد العزيز قريش بالتوصيف و التحليل، البعد النقدي في فكر الأستاذ ماجد الغرباوي، كما كشف ملامح الحوار النقدي العقدي الدكتور مجدي إبراهيم عند المفكر الغرباوي، في حين ركزت دراسات الدكتور عدنان عويد والدكتور محمود محمد علي على قضايا التجديد والآفاق النهضوية في فكر الأستاذ الغرباوي، وجاءت دراسة الدكتورة ابتسام مشقق مساءلة ومقارنة لفكر ماجد الغرباوي مع فكر نصر حامد أبوزيد ونال نصيبه سؤال التسامح من الدراسة والبحث في دراسة كل من الدكتورة إيمان عامر والدكتورة دنيا مسعود مخلوف،  بينما البعد الأدبي في منجز الأستاذ الغرباوي نال حظه في المقالات النقدية عبر ملاحقة تجليات نصوصه وتحديدا منها القصصية ومقاربة المدى الصوفي في البعض منها، وملاحقة لمديات الجمال فمذ تسمر الضوء وانشق القمر تمرّد المفكر ورفع القلم ورسم لوحات تملأ القلب ولعا وتحرق ذكريات الجهالة في عقل قد استبصر وسار على حطام المسافات مع هاتف الفجر على حافات القلق، ليقطف من عناقيد العشق ويعلن عن قراره الارتجالي بين مديات الحلم والكذبة المتوهجة، شظايا فكر وأدب وفلسفة وثقافة ...

كانت هذه سياحة خاطفة بين ثنايا فصول أربعة توجت كتابا بعد خمس سنين من التواصل والتشاور وعبر دعوات للعديد من أهل الفكر والثقافة والفلسفة والأدب والتربية والاجتماع والاقتصاد، هذا الكتاب في مجلدين كان في البدء فكرة احتضنتها كل الأسماء المشاركة في الكتاب وتفاعلت معها لا لشيء إلا كونها تحترم هذا المثقف المستنير الذي لا يعرفه نزيه إلا انشد إليه، هذا الإنسان الذي يعيش إنسانية الإسلام في تفاصيل يومياته مع أقرب المقربين إليه إلى أبعد أصدقائه ومعارفه، شخصيا لو كتبت عن ماجد الغرباوي فقلمي لا يتوقف ككل الذين حدثوني عنه وأكدوا لي ذلك كله، ليس عن شخصه فحسب ولكن عما أعرفه جيدا في هذا الشخص الفريد والثمين في زماننا، سواء في فكره وأسلوب حياته وسمو أخلاقه...

لقد كتبت هذه السطور لأتقدم بجزيل الشكر والتقدير والعرفان إلى كل الذين ساهموا وشاركوا في هذا المشروع التكريمي لمفكر نوعي وخاص ومميز وكذلك أشكر أولئك الذين اعتذروا لأسباب صحية قاهرة نسأل الله لهم الشفاء العاجل ولا أنسى هنا التنويه والتبجيل لفرقة الإعداد التي اتسعت مع الوقت لتضم أسرة  مؤسسة المثقف وأكاديميين من مصر والعراق وسوريا وتونس والجزائر والمغرب وبلاد الغرب وكذا المشاركات والمشاركين الذين وعدوا فأوفوا وإلتزموا بوعدهم بالمشاركة منذ كان المشروع فكرة مسطورة في دعوة، إنها كانت تجربة ثرية حيث إلتقت عقول وقلوب وأفكار ورؤى في رحاب حديقة غناء من الوعي والأخلاق والإنسانية والتسامح والحوار والمعرفة، وصدقت الحكمة التي تقول: من شاور الرجال شاركهم في عقولهم، يبقى العمل بكل التوصيات الهامة التي وردت بالمقالات والشهادات والبحوث والدراسات، لأن المفكر الغرباوي الكريم والمكرم بين أحبابه يأبى النكوص الفكري بل إنه دوما يدعو للتجديد والابداع والتطوير والتنمية والمنطق العملي، أملي أن يكون هذا الكتاب قد وفى ولو جزءا يسيرا من دّين المفكر الغرباوي علينا، حيث يكون مرجعا ببليوجرافيا للباحثين والأكاديميين والمهتمين بمشاريع التجديد والإصلاح والتنوير وإشكاليات الوعي والعنف وماهنالك من مسائل حيوية في مجال التنمية والنهضة في الأمة العربية والإسلامية..

أما بعد:

نحن في حاجة على الدوام إلى التكريم اللائق لمبدعينا ومفكرينا. لأنه استنارة مستمرة بمعالم الوعي في مشوار النهضة، مع ضرورة فتح مجالات النقاش والنقد العلميين لبناء عقلنة رصينة قادرة على التجديد والتنوير...  

وكل عام والمفكر الحر ماجد الغرباوي بألف صحة وسلامة وتألق وإبداع ...

***

ا. مراد غريبي

مُعد كتاب تكريم ماجد الغرباوي بعنوان: ماجد الغرباوي أنسنة التراث وعقلنة النص الديني

https://almothaqaf.org/k2/976967