بأقلامهم (حول منجزه)
مراد غريبي: ماجد الغرباوي وأسئلة الوعي الأربعة
أكثر من ثلاثين عملا بلغت إصدارت ماجد الغرباوي منذ ثلاثين عامًا تقريبًا، تُعد من المكونات الأساسية للتنوير الإسلامي المعاصر في جغرافية العالم العربي. "التجديد، التسامح، الوعي الديني، العقلانية، نقد التراث"، وفقًا للاسم الذي أعطى المفكر عمله، يتجاوز الإطار الصارم للدراسة الأكاديمية: كتبه تتعلق بالفكر الديني الإسلامي والفعل الحضاري لـ(الإنسان /المجتمع)المسلم. ومع ذلك، فإن كلمة مفكر، بالنسبة لديه ككاتب ومثقف هي: أن تكون منفتحا على الله، العقل، الإنسان، الحياة والمستقبل، إلى آخر لحظة من وجودك... هكذا يبدو أبو حيدر في كلية مطارحاته وجزئيات مقارباته للتجديد والاصلاح والنهضة...
على مدار عشرين عامًا الماضية، أدت كتبه إلى ظهور حقل ثقافي فرض على المفكر العربي والمسلم اقتحام مجال تفكيك التحديات. مثل أعماله التي فتحت في بعض الأحيان تحدي العقل التراثي، وأحيانًا تحدي التاريخ، أو حتى تحدي الهوية. كيف يمكن استدراك أمواج هذه التحديات؟
ماجد الغرباوي. بالضرورة وبشكل منهجي. كانت نصوصه، محايدة من الناحية السياسية -في حين كانت تحيزاته إلى اليسار الإسلامي معروفة، فلهذا كانت الثقافة والمثقف والإجتماع الثقافي دائمًا شغله الشاغل في مقاربة الدين على ضفاف الفلسفة، لا يمكنك أن تتعرف على أنساقه، أو تكتشف ما يريد التفكير فيه داخل المدارات الدينية المهيمنة. إلا إذا تشكل لديك اهتمام كبير لما يجري في معبد العقل التراثي.
ومع ذلك، يجب فتح كلمة فقه للنقاش ضمن مناهج التفكيك والتأويلية والظاهراتية التي بدأت تترسخ لدى الرأي العام الثقافي العربي والإسلامي. حتى يكون القارئ لنصوص ماجد الغرباوي قادرًا على توضيح فهمه لمفهوم التجديد الثقافي للوعي الديني عبر تحريره من أسر العقل التراثي.
منذ تسعينيات القرن الماضي، استهل ماجد الغرباوي، مشروعه التجديدي عبر رصد جميع أنواع الكتب والخطب والنقاشات، للتفكير في ما يمكن أن يكون عليه العقل التراثي، مع مراعاة تحديات العولمة، والمفاهيم الجديدة للثقافة وعلاقتها بالمجتمع. مسألة إعادة التفكير والتحليل والفهم لهيمنة العقل الفقهي، والضمور النقدي والمتناقض في حقول المعرفة الإسلامية المعاصرة...
لقد رسم ماجد الغرباوي بصمته على لوحة التفكير النقدي الإسلامي المعاصر. مفكر التجديد، الذي يقرأ له الكثيرون من طنجة إلى جاكرتا، ومن سيدني إلى ليما، محاطًا بالقراء المتحمسين وكذلك المنتقدين الأكاديميين..
في سيدني وبينما نحتفل عبر العالم بعيد ميلاده السبعين المبارك بالعديد من المقالات والنصوص والمؤلفات والحوارات والفعاليات دون أن ننسى المنبر الثقافي العربي العالمي "المثقف"، نتساءل: كيف نتصور دور المفكر ماجد الغرباوي في النقاش العام للعرب والمسلمين، فضلاً عن مفرداته الخاصة حول التراث والفقه والعقلانية والتسامح والمقدس والحضارة والتجديد والإصلاح والاختلاف الذي يجسده في تفاصيل آثاره الثقافية النقدية والتنويرية فيما يتعلق بالإقلاع الحضاري للمسلمين في ظل التحديات العالمية التي تشكك في كل شيء وتربك كل التوازنات وتنسف كل المعتقدات بإسم الحداثة والعولمة..؟
ولعلّ "ماجد الغرباوي" واحد من أبرز المفكرين والفلاسفة العرب المعاصرين، الذّين تناولوا بعمق وجد واجتهاد مشكلات الوعي الديني والعنف وجذور الأزمة في العقل التراثي. وهذه الأخيرة ستكون محور هذا النص، وتجدر الإشارة أنّ هذه القراءة قد تكون قراءة نقدية في بعض محطاتها من باب توسيع النقاش، أو إبراز بعض الأبعاد المهمة التيّ نأمل أن يتطرق إليها الأستاذ ماجد الغرباوي في قابل نتاجه الفكري، بينما عموما هذه قراءة توصيفية وشبه تحليلية لفكره، وبالتحديد مسألة النهضة وشروطها. ووقوفا عند كتبه: " الهوية والفعل الحضاري" و' تحرير الوعي الديني" "المقدس ورهان الأخلاق" " مقتضيات الحكمة في التشريع" وهو آخر مؤلفاته ضمن سلسلة متاهات الحقيقة، التي أعتبرها الباب المفتوح لكل مشروع يؤسس لوعي حضاري متكامل.
أساسيات ومضامين مشروع ماجد الغرباوي
حقيقة إن مشروع ماجد الغرباوي قد بدأ رحلته في العقد الأخير من القرن العشرين، وبرز بالتحديد مع صدور كتابه الشهير "إشكاليات التجديد "، واتضحت ملامح المشروع سنة 2008م مع كتاب "التسامح ومنابع اللاتسامح" وبعد ذلك توالت الأعمال في الصدور لتكتمل ملامح مشروع ماجد الغرباوي الفكري والفلسفي في أعمال قيمة أهمها: تحديات العنف، مدارات عقائدية ساخنة، سلسلة متاهات الحقيقة (نذكر منها كتب: الهوية والفعل الحضاري (2019م) وتحرير الوعي الديني (2021م) المقدس ورهان الأخلاق (2022م).
إنّ المتصفح لكتابات ماجد الغرباوي يلاحظ بأنه اهتم كثيرا بأدق مشكلات العالم العربي الإسلامي، وأهم القضايا المرتبطة بالمسألة الحضارية في بعدها الإنساني (الفكري الثقافي، الروحي والنفسي، الأخلاقي التربوي) لذلك اتسم مشروعه بالنزعة الإنسانية.
ولا شك أن هذا الاهتمام يرجع إلى بنائه الثقافي ومن الظروف التيّ عاشها، لذلك الإنسان كان ذا حضور كبير في كتاباته الأولى واستمر في فتح آفاق النظر والتوجيه والارشاد إلى معالم النزعة الإنسانية في الدين الإسلامي.
1- المثقف المستنير:
هذه النقطة الأساسية التيّ إنطلق منها المفكر الغرباوي في رسم أسس منظومته الفكرية هي عين تلك الرابطة الشديدة ما بين الثقافة الإنسانية والمجتمع الحضاري، فميلاد المجتمع الحضاري وتطوّره لديه، مرتبط بالموقف الثقافي المتمثل في المثقف المستنير " الفعل الثقافي الذي يؤكد مصداقية المثقف، فيشمل: النقد والمراجعة والتثقيف وترشيد الوعي، وبيان الخطأ وكشف الحقائق، وفضح التزوير والخداع باسم الحقيقة مهما كان مصدرها، عبر جميع الوسائل المتاحة. فالمثقف المستنير ملتزم بمبادئه وقيمه، ومواقفه، وفق عقلانية شاملة، لا تنحدر به إلى منطق الأيديولوجيا، فيكون مسددا بفعل النقد المستنير، الذي هو مران متجدد، متواصل، يستمد حيويته من مرجعياته المعرفية، ومبادئه الإنسانية، العامة، والشاملة، المتماهية مع قيم السماء وجميع الأديان. فهي مقياس حقيقي لنقد الذات والآخر، وركيزة أساسية لفهم الظواهر الاجتماعية. وملهمة لتبني هموم الناس وقضاياهم المصيرية"[2]. بمعنى أنهّ خلاص المجتمع فعل ثقافي نهضوي وتحرره من تحرر المثقف-الإنسان، يرى الغرباوي" أنّ المثقف شخص مستنير في معرفته ووعيه ومواقفه"[3]. ويؤكد بالقول: " فلا شك أن القيم الإنسانية هي مقياس المثقف المستنير في نقده للواقع ومحاكمته للأنساق الثقافية والواقع الاجتماعي والسياسي، وما لم يتمثل القيم الإنسانية لا يمكنه الدفاع عنها، أو مطالبة أحد بها، فمشاعر الحب الإنساني شرط في صدق مفهوم المثقف المستنير"[4].
وإعتبر المثقف المستنير الحجر الأساسي في عملية البناء الحضاري:" المثقف الرسالي المستنير، الأمين على مبادئه، يبقى الرهان عليه في تحقيق طموحات المجتمع في التحرر والرقي. لذا يتناسب تطور المجتمع طرديا مع حضور المثقف المستنير، ولا يمكن لمجتمع يروم التطور ما لم يمارس المثقف دوره في ترشيد الوعي، وكشف الحقيقة . فوراء التقدم في أوروبا كان هناك تيار ثقافي يقوده مثقف بمعرفته ووعيه ومواقفه"[5].
انطلق ماجد الغرباوي من فكرة محورية هي أن نهضة أي مجتمع تتم في نفس الظروف التي تشهد حضور المثقف المستنير في الواقع لترشيد الوعي ورفع الستار عن الحقيقة، وعلى هذا فإن إعادة بناء المجتمع المسلم المعاصر لا بد أن تنطلق من ثقافة التنوير كأساس لأي إصلاح وتجديد اجتماعي.
نلاحظ أنّ فكر الغرباوي يتأسس وفق محددين المثقف والمجتمع ضمن معادلة ترشيد الوعي، فمشروعه يتأرجح بين الواقع والتاريخ (التراث)، والنهضة (المستقبل) وهذا ما حدده في أساسيات التجديد ومأزق العقل التراثي. كما أن فكر ومشروع ماجد الغرباوي يتحدد في الجانب الثقافي والإجتماعي للمجتمعات العربية في النظر للغرب والمتمثل في الحضارة الغربية، "صورة الغرب في الوعي العربي قائمة على نموذجية الغرب، رغم عجرفته وتعاليه، بل لا ينسى العربي دور الاستعمار الغربي في تحطيم بنيته المعرفية، واستعماره، وسلب خيراته، لكنه رغم ذلك بات الغرب في وعي العرب هو النموذج والتحدي. هو نموذج إنساني في ثقافته وتقدمه وحياة الاستقرار السياسي والأمني التي ينعم بها، ويطمح كل عربي باللجوء لدول الغرب الديمقراطي الآمن، بينما تعيش الدول العربية في دوامة الصراع على السلطة، وبؤس ثقافي[6]، لكنه يؤشر في سياق حديثه عن أسباب الركود و التخلف إلى أن " المشكلة الأساس بالدرجة الأولى ثقافية، تتعلق ببنية العقل، والنظام المعرفي لشعوب المنطقة، لأنها القاعدة التي ترتكز إليها النهضة، أية نهضة كانت، فالحافز للتطور التكنولوجي عند الغرب(مثلا) مركوز في ثقافتهم، ونابع من وعيهم لأهمية التطور وضروراته، (كان الغرب يقتات على منجز الحضارة الاسلامية أيام ازدهارها، و كان يعيش فقرا فكريا وعلميا مقرفا، ويسوده استبداد ديني سياسي تقع الكنيسة على رأسه. تستهلكه حروب ومعارك طاحنة، لكنه انتفض على يد نخبة من الفلاسفة والعلماء والمفكرين، وحطم أغلال العبودية الفكرية والثقافية والسياسية والدينية، وتخطى حاجز الخوف حتى حقق فتوحاته المعرفية والعلمية، وحقق على مدى ثلاث قرون ما لم تحققه البشرية جمعاء. وعندما نريد النهوض علينا مراجعة ثقافتنا وتحليل مكوناتها، كي تنبثق نهضتنا من داخل بيئتنا وتنسجم مع ما نحققه من تطور علمي وتكنولوجي، بهذه الحالة فقط يتحقق الانسجام الأخلاقي، بين المنجز العلمي وقيم المجتمع..)[7].
ومن أهم مضامين مشروع ماجد الغرباوي الفكري والفلسفي أنه اهتم بأسئلة استراتيجية بالنسبة لبناء وعي متكامل وبناء لمستقبل العالم العربي الإسلامي (الحرية والأخلاق والعدل والتسامح ضمن رؤية متكاملة حول النهضة العلمية والحكمة التشريعية في الإسلام)، ومشكلات الثقافة والتراث والعنف وتحدياتها، كلّ هذه العوامل والمضامين حاول تفعليها داخل النقاش الثقافي العام عبر المثقف المستنير، سنركز على حيثياتها في السطور التالية، مستهدفين تقريب الرؤية والاستنارة بمطارحاته حولها.
1- سؤال الحرية:
لم يفشل الغرباوي في الإشارة إلى أن مشروعه لا يتكون من التشكيك في الرغبة في صياغة خروج صارم بين الحجة العقلية والقناعات الدينية، لأنه قد وصل بالفعل إلى هذا التوازن في وقت آخر . ولا أبالغ إذا قلت أن مشروعه بشكل أساسي هو العودة إلى أصل هذه الرغبة في شرح ضرورة تجديد الوعي وترشيده. وهكذا، لكنني أتساءل ضمن عمله الفلسفي على سؤال التفكير الديني، هل قام ماجد الغرباوي بصياغة علمنة تدريجية لقناعاته الدينية، بحكم العلمنة المعرفية أي "مواجهة الأسطرة بلا حدود"؟ التي قد تبدو في مقالاته الأخيرة كمسلم ناقد للتراث الإسلامي التاريخي والمعاصر.
إذا كانت عملية العلمنة بمعناها الأكاديمي قد برزت في آخر نصوص مشروع الغرباوي يبدو لي بلا شك تظل الحقيقة أن العلمنة الفلسفية قد مكنت الغرباوي من تحييد الأصل المعترف به لبعض الموضوعات- من بين "الله" و"المقدس" و"الوحي" و" الأخلاق" و"الإيمان"، التي أصبحت في أطروحته "تجديد" و"ترشيد"- مع دمجها في انعكاس فلسفي للأهمية الموجهة نحو فقهاء الحرية المسلوبة.
يجب تجديد الحرية، وأن الفقه هو ما يجعل مثل هذا التجديد ممكنًا، أكيد هذا ليس واضحًا، لا من وجهة نظر فلسفية ولا من وجهة نظر التراث الفقهي الإسلامي. عند تحقق ذلك، يفصح الغرباوي عن مقاربة غير مسبوقة تتكون بالفعل من محاولة ما يسميه لاحقًا (رهان المقدس والأخلاق: إنها مسألة البحث عن "فلسفة تجديد "الفهم الديني بطريقة تضع الفقه أقرب ما يمكن إلى الاعتراف بنسبيته وبشريته، منه إلى أن يكون الناطق الأوحد حتى نتجاوز القول بأنه "مقدس" في قبال المقدس الأساسي "القرآن الكريم".
ينطلق الأستاذ الغرباوي من فكرة مهمة جدا: "من أدمن العبودية لا يستوعب الحرية بسهولة، فهو بحاجة إلى تأهيل اجتماعي ونفسي، وكان بحاجة إلى ثقافة جديدة وبيئة جديدة كي يتحرر من ربقة العبودية والشعور بالدونية."[8] وبالتالي لا يمكن التخلص من هيمنة الاستبداد في أي مجتمع دون تجديد الثقافة في هذا المجتمع، وهذا ما يؤكده في موضع آخر قائلا:" إذا لم تكن الحرية من ذاتيات الإنسان فهي من لوازمه الوجودية...فهي – أي الحرية- صفة إرادية- في استخدامها لا في أصل وجودها: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا). فالشكر والكفر متفرعان عن حرية وإرادة الإنسان، وما إبداعات البشرية خلال تاريخها إلا دليل على حريته التي هي ركيزة قدراته في مختلف مجالات الحياة ... فتكون الأصالة لحريته دائما . ومقتضى هذه الأصالة عدم قدرة أي جهة سلبها إياه.."[9] فالحرية عند الغرباوي: (غاية إنسانية نبيلة تطمح لها النفوس المعذبة في جحيم الاستغلال والتبعية، لذا استنهض القرآن الكريم المسلمين لانتشال الإنسان (رجل/ امرأة / شاب أو شابة) المستضعف.. الحرية هي المناخ المناسب كي يعبر الإنسان عن قناعاته وآرائه..)[10].
و الحرية لديه: جوهر إنسانية الإنسان، بها يحقق شرط وجوده خارجا، وعلى أساسها يتحمل أعباء قراراته.[11]
2- سؤال الأخلاق:
الأخلاق لدى الأستاذ ماجد الغرباوي: "سجية وطبع، يشعر معه الفرد بالبراءة والإرتياح عندما يتماهى مع قيمه الإنسانية في سلوكه الإنساني، وعلى العكس يغمره الندم، وتأنيب الضمير واللوم عندما يقترف فعلا لاأخلاقياً"[12]. ووظيفة الأخلاق لا تقتصر على حاكمية الأخلاق، بل تمتد صلاحياتها لتشمل جميع مناحي الحياة، فتكون بهذا الشكل سلطة معرفية، توازن بين الحاجات الروحية والنزعات المادية لدى الإنسان. تمنع تمادي النزوع الأيديولوجي على حساب المبادئ والقيم الأخلاقية، التي هي مبادئ إنسانية عامة، وقيم دينية تتبناها رسالات السماء جميعا.[13]
ينطلق الأستاذ الغرباوي في تناول سؤال الأخلاق من واقع الأخلاق وعلاقتها بالدين والشريعة ومحورية الضمير ودور الإيمان في سلامته ورقابته، حيث يشير إلى ذلك عبر كشف حقيقة تهميش الأخلاق في واقعنا بقوله: دأب المنهج الفقهي التقليدي على تهميش الأخلاق، بمعنى عدم أخذها بالإعتبار في عملية استنباط الأحكام الشرعية، وفاء لمقدماته الكلامية والأصولية، التي في مقدمتها: "أن الحسن والقبح شرعيان ولا عقليان"، وأن الحسن ما أمرت به الشريعة، والقبيح ما نهت عنه"، وليسا مستقلين بذاتهما، كي تكون الأخلاق حاكمة على الأدلة الأولية للأحكام الشرعية، بعد توسعة مفهوم الشريعة ليرادف مفهوم الرأي الفقهي، رغم بشريته. وهذه القاعدة كانت وراء تراجع الأخلاق، وصدور جملة أحكام وتشريعات تتعارض مع القيم الأخلاقية، وقد استشهدت في حينه بمجموعة أمثلة، كإباحة المال العام، وهدر كرامة المرأة والإنسان، والحيل الشرعية."[14] بل أكثر من ذلك فصل الأستاذ الغرباوي في تفكيك مأزق تهميش الأخلاق بتسليطه الضوء على أبعاد مهمة وخطيرة تتعلق بالتقعيد الفقهي وما هنالك من مسائل ترتبط بالأدلة الشرعية والعقلية بلحاظ الأدلة الاولية، حيث فتح باب النقاش والمقاربة لما عبر عنه بالدليل الأخلاقي وحاكمية الأخلاق وأدلة هذه الحاكمية، كل هذه المطارحات التي تناولها الأستاذ الغرباوي فتحت نهجا جديدا في هندسة وعي الأخلاق في وعينا للشريعة والواقع، فتعمقه في الجذر الأخلاقي في التشريع وكشف معالم القانون الأخلاقي وماهية القداسة كلها فتحت باب النباهة والوعي الأخلاقيين للتشريع والواقع وإنسانية الإنسان في هذا كله ويضيف أيضا: الفعل الأخلاقي يضفي معنى أخلاقيا على الواقع، ويطبعه بطابعه الإنساني، قصده أو لم يقصده.. معنى يساهم في ترسيخ قيم الفضيلة وو الخير والعقلانية وسمو النويا البشرية، خاصة العلاقات الاجتماعية وعلاقة الـ أنا بالآخر، ويحول دون اتخاذ الإنسان وسيلة لتحقيق أهدافه، بغض النظر عن خصوصيتها. الإنسان يبقى إنسانا تحت أي ظرف كان. وبشكل أدق أن الاستجابة للفعل الأخلاقي كواب إنساني، يترك أثرا ينعكس على الواقع وروابطه الاجتماعية، وبذلك يكتسب المجتمع طبيعة أخلاقية تسودها العدالة، ويعم الخير، مادامت الأخلاق ممارسة سلوكية"[15] . كما يؤكد أن "الفعل الأخلاقي فعل سلوكي، يواجه بإستمرار تحديات تختبر صموده، وقد يخفق الضمير تجاهها، فيأتي دور الإيمان ليعزز دولاه الرقابي، ويحول دون تراخيه أو نكوصه، فدائرة إشتغال الدين "هي ديمومة يقظة الضمير الذي يرتهن له الفعل الأخلاقي في تحفيزه ورقابته". والضمير مشترك إنساني، يرتهن له الفعل الأخلاقي في إخلاصه ونقائه الإنساني، كما للدين دور كبير في صمود الفرد أمام النفس ومغرياتها، وأمام الواقع وتحدياته، مهما كانت قاهرة."[16]
لينتهي الأستاذ ماجد الغرباوي إلى فكرة جدا مهمة بل استراتيجية في مستقبل الوعي الديني: الأخلاق جوهر الدين، وحجر الزاوية في تشريعاته وتعاليمه، وتهميشها لأي عذر، يفقد المجتهد مصداقيته، ما دامت مقصودة في الخطاب ضمن مضمراته، وقد تحدثت عن هذه النقطة بالذات، فإن القيم الأخلاقية تشكل قبليات المتلقي، فتكون مأخوذة في عين الاعتبار، وعلى أساسها يتم فهم النص، وهنا لاأتكلم عن الأخلاق كمنهج مواز لمنهج الفقيه، بل لأن مبادئ التشريع مبادئ أخلاقية. قد يقال: الفقيه غير معني بعملية التشريع ومبادئه قدر عنايته بصيغة الحكم ودلالات الخطاب. أقول: مادام الفقيه متصد لإستنباط الحكم الشرعي فهو ملزم بفقه النص، الذي يعني إدراك ما وراء النص، ومقاصد التشريع، وحينما يتحرى مقاصد التشريع يلزمه تحري ملاكات الأحكام، ومبادئ التشريع، كمقدمة لفهم مقاصده . لذلك أجد من الضروري وضع شروط جديدة للإجتهاد، تستدعي معرفة الفقيه بمعطيات العلوم الإنسانية التي تمكنه من فقه النص، ودراسة تاريخ صدوره، وأسباب نزول الآيات، وكل ما يخصه، سيما مضمرات الخطاب."[17]
3- سؤال العدل:
تناول الأستاذ الغرباوي مسألة العدل، بكل رحابة ودقة وموضوعية على ضوء الآيات القرآنية والمقاربات المهمة لعدة نماذج وركز في رسم معالمها عبر مناقشة مسألة الظلم والجور والاستبداد في العديد من مؤلفاته، ونبه أن إقامة العدل لا تتوقف على أحد حتى الأنبياء، وقد أشاد النبي الكريم بعدل النجاشي ملك الحبشة...المقياس أن يصدر القسط والعدل من الناس جميعاً، عندما يتحول إلى ملكة دائمة في سلوكهم، لذا تجد المجتمعات الراقية حضاريا تلتزم القسط والعدل من خلال التزامها بقيمه وقيم القوانين الراعية له[18]. وفي سياق إثارة مسألة وعي العدل يعمل الاستاذ الغرباوي على تفكيك العبودية قائلا: ليست العبودية مجرد ثقافة وجهاز مفاهيمي ومنظومة أخلاقية، بل تستبطن رؤية لفهم الواقع والكون والحياة. وفلسفة تقوم على ثنائية السيد/ العبد، الشيخ/ الفرد، الأب / الولد، هي جوهر النظام العبودي، وركيزة وجوده.بشكل ينقلب الظلم والجور والاستبداد في إطار التفاوت الطبقي إلى شرط لوجود الكيان وديمومته الاجتماعية. فالمركز يبقى مركزا، وتبقى الأطراف تستمد منه وجودها وانتمائها وتحققها.[19]
4. سؤال الرحمة والتسامح:
يذكر الأستاذ الغرباوي عند مقاربته للتسامح والرحمة في الاسلام أنه هناك أكثر من ستين آية تخص التسامح غيبها النسخ، فقالوا أن آية السيف نسخت كل هذه الآيات !! فهل يعقل أن كل آيات الرحمة والمودة تنسخها آية نزلت في ظرف خاص؟ هذا غير ممكن مع وجود آيات محكمات تعد مرجعية نهائية في فهم النص وفقا للمنهج القرآني.إضافة إلى عدم وجود دليل قرآني على ما يقولون إنما هي رغبة السلطات الحاكمة كي تستبيح دماء معاريضها[20].
على هذا الأساس كانت رؤية الغرباوي واضحة بخصوص إنسانية الإنسان وماهية التسامح في تفاصيل حركته الوجودية " التسامح ليس ردة فعل إنما موقف من الحياة والعالم[21]. التسامح اصطلاحا: اعتراف بالآخر، شريكاً بالحقيقة، مهما كانت نسبتها. فهو تسامح حقيقي ونسق قيمي معرفي يصدر عنه موقف إيجابي متفهم من حرية العقيدة والفكر والرأي، يسمح بتعايش مختلف الرؤى والاتجاهات بعيدا عن الاحتراب والاقصاء، على أساس شرعية الآخر دينيا وسياسيا وضمان حريته في التعبير عن آرائه ومعتقداته. فالتسامح الحقيقي ينفي احتكار الحقيقة والاستئثار بالنجاة لطرف دون آخر. على الضد من المذاهب والفرق الكلامية التي تحتكر الحقيقة، وتحكم بردة الآخر وكفره وحرمانه من النجاة، لكنها تتسامح معه شكليا لضرورات أخلاقية واجتماعية وأمنية بل وحتى دينيا. لذا يتوقف قيام المجتمع المدني واستتباب الأمن الأهلي على التسامح الحقيقي. ولا يراهن على تسامح شكلي يرفض مقوماته، كالمواطنة والتعددية وحرية الاعتقاد والرأي. فهو تسامح قلق، ينهار في أول احتكاك ديني أو مذهبي أو طائفي. فالتسامح الشكلي يكرس منطق الفرقة الناجية، ويسمح بإقصاء ونبذ وإلغاء الآخر، مادام قائما على المنّة والتكرّم، وكل من يتسامح أخلاقيا أو دينيا، يضمر احتكاره للحقيقة والنجاة، وينفي الآخر في أعماقه... التسامح الحقيقي نسق قيمي أخلاقي يراد إحلاله محل النسق الذي مازال يدير حركة المجتمع ويحدد اتجاهاته، وهو نسق وليد منظومة قيم موروثة تشكلت عبر ماض سحيق، ظل الشعب يتوارثها ويتعهدها ويلتزم بها ويحافظ عليها. قيم تنابذية تتقاطع مع قيم التسامح، وتكرس العصبية والرفض والاقصاء. فلا يكون التسامح فاعلا مؤثرا في مجتمع مازال يتعهد تلك القيم الموروثة ويلتزم بها. أي مازال يتمثلها قيما أخلاقية يستمد منها وجوده ومكانته داخل الوسط الذي يعيش فيه. ولا يمكنه التخلي عنها أو التنكر لها. لأن في ذلك – كما يعتقد- مصادرة لموقعه وقيمته ورمزيته التي هي رأس ماله الاجتماعي، وعلى أساسها يقيم علاقاته ويتخذ مواقفه من جميع القضايا، بل يعتقد أنها أساس وجوده وهويته... بكلمة مكثفة: التسامح الحقيقي، مفهوم يعمل ضمن منظومة فكرية متكاملة، يرتبط بعضها بالآخر، يمكن توظيف بعده المعرفي المطلق خارج إطار بيئته، لتفتيت عقيدة الفرقة الناجية. وتتوقف فعلية تجلياته السلوكية على كامل شروطها. فالتسامح الحقيقي قادر على تفكيك بنية العقل الطائفي وإعادة تشكيل وعيه للحقيقة وطرق الوصول إليها، لكنه لا يتجلى ثقافة وسلوكا إلا ضمن بيئته ومنظومته المفاهيمية . فالتسامح وفق لما تقدم، ينقسم إلى قسمين:
الأول: تسامح حقيقي
يشتمل على بعدين:
1- بعد معرفي: يرتكز إلى نسبية الحقيقة، ونسبية المعرفة الدينية، و التلازم الضروري بينه وبين الحرية الشخصية، فيتجرد تلقائيا من مشاعر الكراهية والتنابذ، ليكون مطلقا لا يخصص، ولا يصدق إلا بصدق قيمه المعرفية التي هي أساس حقيقته.
2- بعد سلوكي: تتوقف فعليته على فعلية منظومة قيم المجتمع المدني، فهو نسبي تتوقف مصداقيته على مستوى فعلية ما يرتبط به من قيم حضارية، ولا يصدق حقيقة إلا بفعليتها واقعا.
الثاني: تسامح شكلي
تسامح أخلاقي قائم على المنّة والتكرّم، يكرس قيم التفاضل على أسس دينية أو طائفية أو مذهبية أو عنصرية، يكرس لاشعوريا مشاعر الكراهية والتنابذ. ويخلق شخصية منافقة، تستبطن غير ما تظهر، فهو تسامح قلق، لا يساعد على قيام مجتمع متسامح حقيقة. بل ويهدد سلامة المجتمع في الأزمات السياسية والاجتماعية والدينية والمذهبية.[22]
بهذا كان الغرباوي سباقا في وضع النقاط على حروف ماهية التسامح حقيقة، فلقد وجه نقاشه لواقع التسامح ومواصفاته وتجاوز الشكلية التي غالبا ما تسقط الحقيقة ضمن سياق المجاملات والمراوغات كالتي عرفتها مؤتمرات الوحدة والحوار والتعايش، لقد استطاع الاستاذ ماجد الغرباوي من خلال مشروعه الضخم والرصين والاستراتيجي أن يجيب على عدة أسئلة ملحة ومصيرية بالنسبة لمطلب الوعي، حاولت قدر المستطاع من خلال هذه السطور أن أقف على أربعة منها وتبقى الكثير يحتاج إلى استحضاره وتناوله بالمدارسة والتباحث لأن عصارة 70 عاما من إنسانية إنسان مؤمن ومثقف وصاحب ضمير حي ووعي متقد، تحتاج إلى جهود كبيرة ودراسات ومؤلفات ومحاضرات للوقوف على مباحثها وإشكالياتها ومقتضياتها ورهاناتها وخريطتها الثقافية كي تستطيع العقول الواعية والقلوب الشغوفة بالتجديد والتنوير والإصلاح، أن تنتقل بها نحو آفاق حضارية جادة وذات قوة وأفق في المعنى.
أختم بالشكر والعرفان والتبجيل لهذه القامة الفكرية الثقافية والأيقونة النقدية الخلاقة للوعي والفاضحة لكل الزيف والتزوير والتهميش والتحوير، فماجد الغرباوي المفكر والمثقف والأديب والناقد هو ذاته الإنسان الذي يتمثل القيم حقيقة بلا تلاعب ولا مجاملة هذه للأمانة أذكرها لأنني عايشتها في هذا الشخص المؤمن المؤدب الخلوق المنفتح على الله والإنسان والحياة والحقيقة كلها بتواضع واجتهاد وإحسان، متمنيا له طول العمر والصحة والسلامة ودوام العطاء المعرفي والثقافي، فنعم الأستاذ والصديق والمثقف، خير ما أعبر به عنه أنه: إنسان صدوق وصديق وفي ومفكر يستحق التبجيل العظيم والتقدير الأجمل...
***
بقلم: ا. مراد غريبي – كاتب وباحث
[2]- الغرباوي، ماجد، الهوية والفعل الحضاري، الكتاب الأول من موسوعة متاهات الحقيقة، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة، دمشق - سوريا، ط1، 2019م، ص210.
[3]- المصدر نفسه ، ص 211.
[4]- المصدر نفسه، ص215.
[5]- المصدر نفسه ، ص215.
[6] - المصدر نفسه، ص235.
[7] - الغرباوي، ماجد، تحرير الوعي الديني، الكتاب الخامس ضمن موسوعة متاهات الحقيقة، مؤسسة المثف، سيني – أستراليا، ودار أمل الجديدة، دمشق - سوريا، 2021م، ص394
[8] - الغرباوي، ماجد، مضمرات العقل الفقهي، الكتاب الرابع ضمن موسوعة متاهات الحقيقة، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة، دمشق – سوريا،2020م، ص 230.
[9]- الغرباوي، ماجد، الفقيه والعقل التراثي، الكتاب الثالث ضمن موسوعة متاهات الحقيقة، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة، دمشق – سوريا،2020م، ص 20 و21.
[10] - الغرباوي، ماجد، تحديات العنف، الحضارية، بغداد – العراق، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2009م، ص 80-81
[11] الغرباوي، ماجد، مقتضيات الحكمة في التشريع، الكتاب التاسع ضمن موسوعة متاهات الحقيقة، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة، دمشق – سوريا،2024م، ص 230.ص 206.
[12] الغرباوي، ماجد، المقدس ورهان الأخلاق، الكتاب الثامن ضمن موسوعة متاهات الحقيقة، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة، دمشق – سوريا،2022م، ص 66.
[13] كتاب مقتضيات الحكمة في التشريع، مصدر سابق، ص 212
[14] المصدر نفسه، ص 174
[15] المقدس ورهان الأخلاق، مصدر سابق، ص 36.
[16] - المصدر نفسه، ص 49
[17] - مقتضيات الحكمة في التشريع، مصدر سابق، ص 211.
[18] - الفقيه والعقل التراثي، مصدر سابق، ص 75-76
[19] - المصدر نفسه، ص 389
[20] - الهوية والفعل الحضاري، مصدر سابق، ص 71.
2- الغرباوي، ماجد، التسامح ومنابع اللاتسامح.. فرص التعايش بين الأديان والثقافات، الحاضرية، بغداد – العراق، والعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، 2008م، ص20.
[22] الهوية والفعل الحضاري، مصدر سابق، ص 239-243
...................
* مشاركة (60) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).
رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي
https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10