بأقلامهم (حول منجزه)

رانيا عاطف: رؤية تحليلية لكتاب التسامح ومنابع اللاتسامح للمفكر العربي الأستاذ ماجد الغرباوي

لا شك أن التسامح يعد مبدًأ أخلاقيًا أساسيًا وقيمة إنسانية سامية، وهو أحد أهم مبادئ تعزيز العلاقات بين أبناء المجتمع الواحد أو بين المجتمعات وبعضها البعض، كما أنه يعد أساسًا لكثير من القيم الأخلاقية مثل قبول الاختلاف، احترام الإنسان لكونه إنسانًا يجب أن يحترم لذاته، احترام حرية التعبير عن الرأي أيًا كان هذا الرأي، وإدراك أهمية تطبيق مبدأ العدالة في المجتمع، ومن هنا يأتي السؤال: بأي معنى يجب أن يتحقق التسامح؟ وهل يمكن أن يكون صفة ذاتية قاصرة على شخص بعينه؟ أم هو صفة اجتماعية يمكن أن تتجسد في مجتمع بأكمله؟ حاولت الباحثة الإجابة عن هذا السؤال في ضوء كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح (فرص التعايش بين الأديان والثقافات) هذا الكتاب الذي تم نشر الطبعة الأولى منه عام 1429ه – 2008م للمفكر القدير الأستاذ ماجد الغرباوي وذلك لما لهذا الكتاب من أهمية كبرى حيث جاء ليوضح كيف يمكن أن يتحقق التسامح، كما أبرز كذلك منابع اللاتسامح التي تعد –من وجهة نظر كاتبة هذه الأسطر- الخطر الأكبر الذي يهدد أي مجتمع متى ينتشر فيه، وهنا يأتي السؤال: ما أهمية تناول قيمة التسامح الآن؟ بمعنى أكثر دقة لماذا تم اختيار كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح كموضوع لهذه الورقة على وجه التحديد؟

عند الإجابة عن هذا السؤال نجد أنه رغم مرور سنوات طوال على نشر الطبعة الأولى من هذا الكتاب شهد عالمنا خلالها أحداثًا كثيرة من تقدم علمي وتكنولوجي، وحروب، ونزاعات، وثورات، وصراعات مختلفة، وغير ذلك من الأحداث التي تساهم بلا شك في تشكيل فكر الإنسان إلا أنه مازال يعاني من غياب ثقافة الحوار وعدم قبول الآخر المختلف وانتشار الكراهية والموت وازدراء الإنسان في كثير من الأحيان وذلك تحت مسميات دينية ومذهبية وقومية.

لا مجال لخلاف على أن الإنسان بطبعه كائن اجتماعي يسعى دائمًا لمشاركة غيره والتعايش معه وقد ظهر ذلك واضحًا منذ قيام أول مجتمع بشري على الأرض، لقد أدرك الإنسان أنه لا يستطيع أن يعيش بمفرده أو بمعزل عن غيره فلابد له من الاحتكاك بأبناء مجتمعه والتعامل معهم، ومع إدراك الإنسان أهمية ذلك الاحتكاك بغيره والتعامل مع أبناء مجتمعه أدرك أهمية تطبيق تلك القيم التي تنظم حياة أبناء المجتمع، وتحفظ لهم حقوقهم، وتضمن لهم حياة إنسانية هادئة دون ظلم أحد أفراد هذا المجتمع، ومن بين هذه القيم الأخلاقية التي تضمن للإنسان تضامنه مع غيره وتقبله للآخر سواء اتفق معه أو لم يتفق، وكذلك تضمن تكامل المجتمع وتحقيق أهدافه "قيمة التسامح" حيث أدرك الإنسان أهمية التسامح، وكونه ضرورة حياتية تبقى الحاجة لها قائمة مادامت الحياة مستمرة، وطالما أن هناك إنسانًا يمارس العنف ضد الآخر وإقصائه وتكفيره، وبرفض التعايش السلمي مع غيره المختلف معه سواء كان هذا الاختلاف فكريًا أو دينيًا أو سياسيًا أو ثقافيًا[1] كما جاء ذلك في مقدمة كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح، من هنا جاءت أهمية السؤال الذي تم طرحه في بداية هذه الورقة وهو: بأي معنى يجب أن يكون التسامح؟

لا شك أن هناك الكثير من الدراسات والمؤلفات التي أفاضت في تناول مفهوم التسامح لغة واصطلاحًا، وكذلك الحديث عن أهميته كقيمة أخلاقية عليا إذ لا سبيل لمجتمع أراد أن يعيش بسلام أن يتخلى عنه إلا أن هذا الكتاب الذي نحن بصدد الحديث عنه الآن نجده قد اتخذ طريقًا يختلف إلى حد كبير عن الطريق الذي اتخذته معظم الدراسات التي تناولت قيمة التسامح؛ وذلك لأنه حاول بيان الأسس التي يجب أن يرتكز عليها مفهوم التسامح  لتوطيد العلاقة بين الطوائف والقوميات المختلفة، أي تكريس مفهوم التسامح وفق الحاجة الاجتماعية له من حيث كونه حقًا للجميع قائم على أساس الاعتراف بالآخر واحترامه لأنه إنسان يجب أن يحترم لذاته سواء اتفق مع غيره أو اختلف مع ضمان حريته في التعبير عن رأيه وممارسة حقوقه كاملة، وعندما أدرك الإنسان خطر الحرب وانتشار التعصب والعنف والتطرف والإقصاء ونبذ الآخر المختلف في بعض المجتمعات لم يجد أمامه وسيلة للحد من هذا الدمار الذي لا محالة سينال المجتمع نتيجة غياب قيمة التسامح والعيش بسلام سوى التمسك بقيمة التسامح، إذ تعد تلك القيمة وسيلة النجاة لأي إنسان أدرك المعنى الحقيقي للإنسانية وما تتضمنه من حقوق وواجبات يجب احترامها والحرص على أدائها كما يجب أن تكون، هذا بالنسبة لأي إنسان، فماذا عن الإنسان المسلم الذي وجد التسامح جوهر دينه الإسلامي الوسطي الذي يدعو إلى احترام الإنسان لذاته واحترام إرادته وتحريم الاعتداء على كرامته، وكفل له حرية التعبير عن رأيه فما كان أمامه غير التمسك بالتسامح وبغيره من قيم العفو الرحمة والسلام كوسيلة للحد من خطر الموت والنزاع والعداء والإقصاء المنتشر في المجتمع كما أوضح لنا الأستاذ الغرباوي من خلال هذا الكتاب الذي نحن بصدد الحديث عنه الآن حيث يقول مفكرنا: "لم يبق أمام الشعوب الإسلامية خيار للحد من ثقافة الموت والاحتراب والعداء والإقصاء المتفشية في كل مكان، سوى تبني قيم التسامح والعفو والمغفرة والرحمة والأخوة والسلام لنزع فتيل التوتر وتحويل نقاط الخلاف إلى مساحة للحوار والتفاهم بدل الاقتتال والتناحر..."[2] ولكن كيف يمكن ترسيخ التسامح في المجتمع لكي يحقق أهدافه ويؤتي ثماره؟ يمكننا القول بأنه للابد للإنسان إذا أراد التمسك بقيمة التسامح أن يدرك أولًا أنه إنسان، أي أن طبيعته الإنسانية تجعله يخطئ ويصيب، وطالما أنه ليس على صواب دائم فلابد له من احترام طبيعته وكذلك احترام طبيعة الآخرين؛ ويظهر ذلك من خلال قبوله آرائهم وفي بعض الأحيان -قبوله أخطائهم- وتسامحه معهم إن لم يمتد خطر تلك الأخطاء لإيذاء إنسان آخر أو التعدي على حق من حقوقه، ومن ثم يكون علم الإنسان بكونه ليس معصومًا من الخطأ في سلوكه وأقواله يقتضي بلا شك تسامحه مع نفسه أولًا، أي قبوله لذاته وطبيعته وقبوله لغيره على ما هو عليه ومع قبوله لذاته وقبوله لغيره يسعى للتغيير للأفضل، وهذا من وجهة نظر الباحثة يمكن عده ممارسة التسامح بأسمى معانيه تطبيقيًا على أرض الواقع سواء كان ذلك على المستوى الديني أو الثقافي أو الاجتماعي أو حتى على المستوى السياسي، وهذا هو جوهر الدين الإسلامي كما أوضح لنا الكتاب، وبنظرة أكثر شمولية نجد أنه لا مجال لحياة إنسانية هادئة مطمئنة بعيدًا عما نعانيه ويعانيه عالمنا الآن من حروب وصراعات ونزاعات وإبادات جماعية لشعوب بأكملها إلا بالتسامح، إذ ليس من الإنسانية في شيء أن يحصل شعب بعينه على حقوقه كاملة، ويعيش حياة مطمئنة على حساب شعوب تفتقد أقل حقوقها وهى أن تعيش بسلام دون تهديد أو عنف أو فقد أو إقصاء أو معاناة، وبالمثل لا يمكن تحقيق التسامح إلا من خلال تضافر الخطاب الإعلامي مع الخطاب الديني والسياسي والتربوي، وذلك يتطلب تعاون الفرد مع المجتمع والشعب مع القانون والدولة مع الدستور.[3]3902 كتاب التسامح ماجد الغرباوي

أجاب الكتاب عن مجموعة من التساؤلات مثل ما معنى التسامح؟ ما المطلوب من المتسامح سواء كان فردًا أو مؤسسة أو دولة؟ وما هى الأشياء التي يمكن التسامح فيها؟ وغيرها من الأسئلة المهمة التي تفرض نفسها عند دراسة قيمة التسامح إلا أن الباحثة هنا سوف تركز اهتمامها على نقطة جوهرية ارتأت أنها في غاية الأهمية وعرضها الكتاب عرضًا وافيًا وهى كيف يمكن أن يكون الفهم الخاطئ لمفهوم التسامح سببًا لغياب قيمة التسامح؟ أي كيف يكون سوء فهم التسامح منبع اللاتسامح؟ وبأي معنى يمكن أن يكون التسامح حقيقيًا؟

يرى الأستاذ الغرباوي: أن التسامح في نظر الأوساط المتصارعة لا يعدو كونه قيمة أخلاقية تتحكم به مؤثرات اجتماعية وسياسية، وهو في رأيها منّـة وتفضل مشروط، قد ينقلب الى ضده إذا فقد رصيده الأخلاقي، وما نحتاجه فعلًا لتوطيد العلاقة بين الطوائف والقوميات مفهومًا يرتكز الى أسس متينة، تتفادى الاحتكاك على خطوط التماس، إلا أن المراد بالتسامح أنه موقف إيجابي متفهم من العقائد والأفكار، يسمح بتعايش الرؤى والاتجاهات المختلفة بعيدًا عن الاحتراب والإقصاء[4].

بهذا المعنى ارتأت الباحثة ضرورة تكريس مفهوم التسامح وفق حاجات الإنسان الاجتماعية بعيدًا عن المنـّة والتفضل والكرم، بحيث يكون التسامح حقًا لجميع الأفراد على أساس الاعتراف بالآخر وحقه في الاختلاف كيفما يشاء بشرط عدم الإضرار بغيره، وهذا يؤكد لنا أنه ثمة اختلاف جوهري بين تسامح شكلي، تفرضه دوافع السلم الأهلي أو الاجتماعي يقوم على المنّة والتفضّل، ويحمل في داخله نواة انهياره، في مقابل تسامح حقيقي، يعي صاحبه مفهوم الآخر، ويعترف به شريكًا بالحقيقة مهما كانت نسبتها، أي تسامح يسمح بتعايش مختلف الرؤى والاتجاهات بعيدًا عن الصراع والاقصاء، على أساس شرعية وجود الآخر دينيًا وسياسيًا وضمان حريته في التعبير عن آرائه ومعتقداته[5]، بهذا المعنى يكون التسامح الحقيقي ضد احتكار الحقيقة والاستئثار بالنجاة لطرف دون آخر بعيدًا عن إصدار أحكام برفض الآخر أو تكفيره لمجرد اختلافه مع من يتوهم أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، كذلك يكون التسامح وسيلة للقضاء على منابع اللاتسامح التي تتعدد تبعًا لطبيعة المجتمع ثقافيًا وفكريًا وعقيديًا، وأيضًا تبعًا لمستوى حضور الدين ومدى تمسك المجتمع بالقيم الدينية والاجتماعية، ولكن ثمة منابع تعد –في نظر مفكرنا- أكثر أهمية مما سبق وتتفق معه الباحثة في هذا الرأي من بينها المنابع التي تفضي إلى التعصب الديني والقبلي والسياسي، وما ينتج عنها وما يعمق وجودها ويركز فاعليتها من مفاهيم وقيم[6].

ومما سبق يمكننا القول بأن التسامح الذي يحتاجه عالمنا الآن وبالمعنى الذي يجب أن يكون هو التسامح الحقيقي لا الشكلي، التسامح الذي يقبل المختلف قبولًا حقيقيًا ويعترف بحقه في الاختلاف، وليس مجرد التظاهر بالتسامح الذي ينكشف زيفه وكذبه مع أول اختبار له بخلاف بين متبنيه والطرف الآخر المختلف معهم، ما نحتاجه هو تسامح تكون غايته أن يعيش العالم في سلام ووئام دون نظرة تعالي من طرف على غيره، نحتاج التسامح كصفة ذاتية وصفة اجتماعية في الآن نفسه، حيث يتبلور تسامح الإنسان كصفة ذاتية في قبوله لذاته من حيث كونها ذاتًا بشرية مهما تسامت لا يمكن أن تصل لمراتب الكمال المطلق أبدًا، ومن ثم يعد فهم الإنسان لذاته وطبيعته واعترافه بأخطائه وعثراته – لأنه إنسان يصيب ويخطئ- الخطوة الأولى لتطبيق التسامح الحقيقي مع الذات، ومحاسبتها بما يتوافق مع طبيعتها البشرية، وكذلك يكون التسامح أيضًا خطوة مهمة نحو قبول الآخر المختلف والتعامل معه تعاملًا سلميًا، إذ لا مكان ولا مجال لعنف أو تعصب بين أناس عرفوا معنى التسامح وأدركوا قيمته وطبقوه في علاقاتهم، ومن ثم يكون التسامح أيضًا المبدأ الأساسي لقبول التعدد والتنوع والاختلاف سواء بين أبناء المجتمع الواحد أو بين المجتمعات المختلفة، كما يتبلور مفهوم التسامح الحقيقي أيضًا من حيث كونه صفة اجتماعية في احترام أبناء مجتمع ما ثقافة وهوية المجتمعات الأخرى، إذ أن لكل مجتمع هوية تميزه وثقافة يرتضيها أبناؤه يجب أن تحترم.

فليس الهدف أن نتفق جميعًا على ثقافة ما أو سلوك بعينه؛ لأن هذا الاتفاق ربما يكون محالًا، وإنما يجب أن يكون الهدف هو أن نتعلم كيف نختلف، فللاختلاف أخلاقيات يأتي في مقدمتها الإيمان بأن هذا الاختلاف هو سنة كونية يجب قبولها، مما يتطلب تنمية روح التسامح واحترام التعددية بشتى صورها وترك التعصب والتشبث بالرأي الواحد جانبًا إذا ما أردنا النهوض بالمجتمع وتحقيق تقدم حقيقي، فليكن مبدأنا: لا مانع من أن نختلف كما شئنا ولكن يظل احترامنا لبعضنا البعض مرجعنا، ويظل تسامحنا متجسدًا في علاقاتنا مع بعضنا البعض، وليكن تسامحنا بالمعنى المطلوب باحترامنا لذواتنا دون رفض طبيعتها التي ربما تؤرقنا في بعض الأحيان واحترامنا لغيرنا مهما اختلف معنا، فليكن تسامحنا رحمة فيما بيننا، وليكن تسامحنا أيضًا رفضًا لكل عنف يمكن أن ينال الإنسان أيًا كان هذا الإنسان، وليتمثل تسامحنا في حب الخير لغيرنا حتى إن لم يحقق نفعًا لنا، فليكن تسامحنا في تحقيق تقدمنا دون إلحاق الضرر بغيرنا، فليتجسد تسامحنا في إيماننا بأنه لا خير في مجتمع لا يراعي القيم الإنسانية، وليكن تسامحنا تطبيقًا لا تنظيرًا فحسب.

ومن خلال هذا العرض الموجز لما تناوله كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح من تساؤلات ونقاط تعدها الباحثة في غاية الأهمية لكونها متجددة بتجدد مستجدات العصر تنصح الباحثة بقراءته وتناوله كموضوع لمزيد من الدراسات حول قيمة التسامح لكونها أساسًا لكثير من القيم التي يحتاجها عالمنا اليوم ووسيلة لحل كثير من مشكلاته.

***

بقلم: الأستاذة رانيا عاطف

باحثة دكتوراة فلسفة بكلية الآداب، جامعة المنيا، مصر

................................

[1] ماجد الغرباوي، التسامح ومنابع اللاتسامح (فرص التعايش بين الأديان والثقافات)، الحضارية للطباعة والنشر، العراق- بغداد، الطبعة الأولى: 1429ه – 2008م، ص: 11.

[2] المصدر نفسه، ص: 15.

[3] المصدر نفسه، ص: 15.

[4] المصدر نفسه، ص: 20.

[5] ماجد الغرباوي، التسامح ومنابع اللاتسامح (فرص التعايش بين الأديان والثقافات)، الحضارية للطباعة والنشر، العراق- بغداد، الطبعة الأولى: 1429ه – 2008م، ص: 23.

[6] المصدر نفسه، ص: 26.

.....................

* مشاركة (57) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10