بأقلامهم (حول منجزه)

عصمت نصار: قراءة الغرباوي لقضية المهدي المنتظر

في سياق حديثنا المُركز والمطول أيضاً عن نقد عقيدة المهدي المنتظر، يمكن القول: إذا كان "محمد عبده" ومعه أشهر رواد مدرسته، قد وقفوا موقف الناقد في الإصلاح - الجامع بين صحيح المنقول وصريح المعقول - والمُنتصر للمقصد الإلهي من جهة، والراغب في تخليص كُتب جُماع الحديث الشريف من الدَسّ والانتحال والكذب على رسول الله من جهة أخرى، فمن الطبيعي أن نجدهم على رأس المُعارضين الناقدين لهذه العقيدة الشيعيّة كما أشرنا فيما تقدّم، أملاً في الوصول إلى موقعها من الفكر الإسلامي، فانتهت معظم دراستهم إلى ثلاث نتائج:   

أولها: أنّ كتابات الشيعة الإثنى عشريّة المُروّجة لهذه العقيدة لا يُمكن درجِها ضمن أصول العقيدة، ولا الواجب من العبادات، ولا الأصيل من المُعتقدات، وذلك لافتقارها إلى ما يؤيّدها من صحيح الدين والمُتفق عليه من الواجب تصديقه والعمل به من الأخبار.              

وثانيها: أنها تحوي العديد من الأفكار والتصورات التي تتناقض مع المُسَلم بصحته من صُلب العقيدة الإسلاميّة، وعلى رأسها إلصاق صفة العِصمة بأشخاص غيّر الأنبيّاء، وادعاء أن (المهديّ المُنتظر) مُنَصب من قِبل الباري، ومن ثَم لا مجال للحديث عن شخصه أو سلوكه أو أوامره القدريّة سوى السمع والطاعة، أي أنه حاكم (ثيوقراطي).

أمّا النتيجة الثالثة: قد أجتهد العلاّمة "الطاهر بن عاشور" في شرحها والتأكيد على مضمونها ألا وهي مُخالفة هذه العقيدة للمقصد الإلهي، أو إن شئت قُلت: إنها من آليّات الإضلال والتشويش التي تَدفع العقل إلى إنكار النسقيّة التي تمتاز بها الخِطابات الإلهيّة إلى البشر، كما أنها تجعل المشهد الأخير من حياة الإنسان على الأرض مشهداً درامياً مأساويّاً (إمام مُحتجب شريف النسب، مؤيّداً بسُلطة إلهيّة، عاد من غيّبته ليُسفِك الدماء، ويُنكل بخصومه، حامل سيّف العدالة الجائر، فظً غليظ القلب، مُسيّطر لا يعرف الرحمة وغايّته توحيد الجنس البشريّ على عبادة قد نهى الخالق عن الإكراه فيها).

لذا سوف نناقش في السطور التاليّة، أهم مُبررات الشيعة الإثنى عشريّة لهذه العقيدة وكذا الدوافع التي أحتج بها بعض مُفكري أهل السُنة، والأسباب التي دفعتهم لقبولها رغم درايّتهم بهشاشة أصولها وانعدام نفعها.

فإذا تناولنا الاتجاه الثاني الذي يُمثل التيّار المُحافظ الرجعي من الكُتاب المُعاصرين، سوف نجد في مُقدمته: أعلام الفكر الديني لفِرقة الإثنى عشريّة، وهم ينقسمون إلى ثلاثة دروب:

الأول: يُغَلِب مصلحة الكيّان المِلي والوجود السياسي على غيره من الرؤى النقديّة أو التناول العقلاني لتلك العقيدة الموروثة، ويُعد الحرس الثوريّ الإيراني وقاداته والمُنظرين لسياسته والتابعين من العوام وسَدنّة التراث من الشيوخ في العراق وسوريا ولبنان يُمثلون الجانب الأعظم من هذا الاتجاه. أمّا المُتفلسفين من الكُتاب الرافضين للتقليد والراغبين في تحرير العقول من سجون الخرافة وقيود الجهالة وديكتاتوريّة التعصُب فيمثلون الدرب الثاني، وقد رغِبوا عن التصريح ولجأوا إلى الرمز والتلميح، مخافة سطوة الرأي العام القائد والمُتمثل في الحرس الثوري والميليشيّات المُسلحة في العراق وسوريا ولبنان، والجمهور المُتعصب الذي لا يتردد في اللجوء للعنف للإطاحة بمعارضيه.

وأخيراً: عُصبة المُفكرين الأحرار - الذين يُمثلون الدرب الثالث - فرغم انتمائهم للفكر الشيعي الإثنى عشري إلا إننا نجدهم يرفضون عقيدة ذلك (المهدي المُنتظر) الذي سوف يعود من غربته لإنقاذ الأمة، قانعين بأن ذلك الموعود لن يأتِ إلا عقب حركة إصلاح شاملة تبدأ بالتربيّة والتعليم وتوعيّة المُجتمع وإصلاح المُؤسسات السياسيّة والاقتصادية والعسكريّة، ومن بين القائمين على هذه النهضة الشاملة سوف يظهر المُنقذ المُجدد لقيادة خيّر أمة أُخرجت للناس، وسوف نتناول في السطور التاليّة واحداً من أهم أعلام الدروب الثلاث.

وحسبي أن أشير في هذا السيّاق إلى مُجدد مُعاصر يُمثل الدرب الثالث من هذا الاتجاه الشيعي، أحسبه من الثائرين المُستنيرين العقلييّن الذين عزفوا عن الانتماء المِليّ والعِرقي وارتضوا الانضواء تحت رايّة العقل والتجديد والإصلاح دون تجديف أو جحود أو تشكيك في بنيّة العقيدة الإسلاميّة وثوابتها الشرعيّة ومقاصدها المُجمع على صِحتها، وهو الناقد المُفكر العراقي "ماجد الغرباوي" الذي اجتهد في غربلة الفكر الشيعي الأمامي الذي اختلطت بنيّته بمؤثرات شتى، أبرزها التعصُب العرقي والاعتقادي والسياسي والاجتماعي، مُبيناً تهافت أصول العقيدة الشيعيّة الإماميّة واجتراء أئمتها على انتحال العديد من التصورات المثيولوجيّة والمذاهب الفكريّة المُنغلقة والآراء السياسيّة الراديكاليّة التي لا تستقيم مع الادعاءات التي يروج لها فقائهم ومُتفلسفيهم (حيث الوعي والاستنارة والعقلانيّة والتأليف بين المذاهب الإسلاميّة).                            

ولا يسع المقام سوى الحديث عن موقف "الغرباويّ" من عقيدة (المهديّ المُنتظر) التي لم يقوىَ دونه من أمراء المنابر (المُنتمين لفرقة الإثنى عشريّة) على فضح هشاشة رِكامها المُنتحل، فقد أكد في غيّر موضع من كتاباته أن جراثيم الكذب ساكنة في جذورها النصيّة، بداية من التأويلات الشاطحة والأخبار المُلفقة ومروراً بالآراء الزائفة المُتلاعبة بالعقول المُغيّبة والمُتعلقة بالأوهام الخرافيّة المصنوعة، وانتهاءً بالأساطير المُحرفة التي أخرجها كهنة المعابد من جيّف الديّانات المجوسيّة واليهوديّة وألصقوها بالإسلام و"بالإمام عليّ وبنيه"، بداية من حكاية ميلاد (المهديّ) المزعوم واحتجابه وغيّبته الأولى والثانيّة وسفرائه ورسائله ووصاياه التي تنضح إفكاً وبُهتاناً، وانتهاء بقصة عودته والانقلاب المأسويّ الذي يسبقها والأحداث المُشينة التي يتمنى المُخرفون وقوعها قبل قيام الساعة دون أن يَخطُر في بال أحد عقلائهم موت الإمام المزعوم أو زيّف البِدعة برمتها.

ومن أقواله في ذلك: (لذلك كله شَكّل طول غيّبته تهديداً خطيراً للعقيدة الشيعيّة، فراح مُتكلموهم يربطون ظهوره بمشيئة الله، وأن المسألة غيبيّة يتعذر على الإنسان معرفة أسبابها، فكان الغيّب وما يزال عِلة سحريّة؛ لتبرير ما يعجز العقل على تبريره، خاصة مع وجود روايات تؤيّده. إنه أسلوب مراوغ لكنه ناجح جداً مع سذاجة الوعيّ وغيّاب العقل ... إنّ المهديّ قضيّة وهميّة، فرضتها ظروف الطائفة الشيعيّة وعقيدتها بعدد الأئمة، فهي سالبة بانتفاء الموضوع كما يُعبر المنطقيون، فعدم إمكان رؤيته تحصيل حاصل وكان التوقيع صادقاً جداً ولازمه كذب من يدعي رؤيّة المهدي أو يدعي السفارة عنه، فالسفارة وفقاً لهذا الاحتمال كانت خطوة لتدارك انهيّار الوضع الشيعي، ومرحلة انتقاليّة بين الحضور والغيّاب المُطلق لامتصاص صدمة الفراغ القيّادي لعدم وجود من يتولى الإمامة من أبناء "الحسن العسكري" وقد اقتصر دور السفراء على قضايا إداريّة وتنظيميّة ترتبط بالحقوق الشرعيّة وأحالوا الشيعة على الفقهاء لمعرفة الأحكام الشرعيّة فانتفت الحاجة الفعليّة؛ ليكون الإمام ظاهراً وتكفي غيّبته المُبررة سياسيّاً وأمنيّاً لطمائنة نفوسهم وترسيخ إيمانهم بالإمامة، فاكتمل عدد الأئمة بإمام غائب، وهذا مطلب أساس وفقاً للمنظومة العقائديّة الشيعيّة).              

وأعتقد أن الحوار الذي أجراه "ماجد الغرباوي" مع "طارق الكناني" المُتضمّن في كتابه (مدارات عقائديّة ساخنة ٢٠١٧م) كان يُوحي بتصريحات أخطر يُمكن استنباطها من الإشارات الإحاليّة والتوجيهات المرجعيّة والإيماءات الرمزيّة التي ولج أبوابها المُتناظران، منها أن أصابع الساسة هي التي ما برحت تضغط على جهاز الكذب الاصطناعي؛ لإنتاج الحُجج الوهميّة والأحداث العدوانيّة التخديريّة التي تَبتدِعها العصابات الصهيّوأمريكيّة.

وليس أدل على ما ندعيه من أهميّة قراءة موقف "الغرباوي" من عقيدة (المهديّ المُنتظر) - مُفككين بنائها ومُحللين بنيّتها ومُراجعين سيّاقتها والأطوار التي تراءت عليها في مُختلف المجالات - تكشف المُخبئ وتُزيل الستائر عن الغوامض من الأفكار الثوريّة التي تحملها، ويترأى لي أن هذا المُنطلق يُمثل بؤرة تفلسُفه وأكبر عُمد تجديده، فمقصد مُفكرنا المُضمر والمُستتر وراء كلماته، هو ضرورة الانتقال من عبث الإصلاح السياسي إلى غربلة الموروث الديني الشيعي؛ وذلك إذا ما أراد كُتاب هذا الاتجاه الانتقال من طَوّر العبث واللعب على المسرح السياسي إلى اعتلاء منابر الإصلاح وتجديد الفكر الديني.

***

د. عصمت نصار - أستاذ الفلسفة – مصر.

 .................................. 

* مشاركة (61) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10