قضايا

ما نقصده بـ(البرودويلية) هي صيغة مصطلحية مشتقة من اسم المؤرخ الفرنسي الكبير (فرنان برودويل) الذي أضحى علما"بارزا"من أعلام التاريخ وفلسفته، لجهة الدور الذي لعبه في تغيير النظرة التقليدية الى طبيعة التاريخ وأنماط تمرحله . كما أنه أحدث ثورة في مجال المنهجيات التي كان المؤرخين يعتمدونها في تفسير عمليات تكوين (الحدث) أو تشكيل (الواقعة) التاريخيين، هذا بالإضافة الى بيان حدود التداخل ومستويات التمفصل ما بين علم التاريخ من جهة، وبين بقية العلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى التي تشاطره الاهتمام بأنشطة الكائن الإنساني وما ينجم عنها من مظاهر مختلفة وظواهر متنوعة من جهة أخرى .

وإذا ما حمل عنوان هذه المقالة اسم (برودويل)، فهذا لا يعني أنها معنية بالحديث عن مضامين فكر هذا المؤرخ عموما" واستعراض الانزياحات التي أحدثها في مجال تفسيره للسيرورة التاريخية وتأويل أنماط تطورها، بقدر ما اقتصرت على محاولة توظيف جانب من جوانب (المنهجية) التي اجترحها هذا المؤرخ كمقاربة للبحث في تاريخ المجتمع العراقي، الذي عجز الكثير من المؤرخين في الوصول الى تفسير مقنع يحلل ويعلل أسباب تقلباته وتناقضاته . نعم هناك ثلة من المهتمين بالشؤون التاريخية والحضارية والتراثية من حاول أن ينتهج هذا المنهج ويسلك هذا الطريق، إلا أنهم لم يوفقوا بالحصول على ذات النتائج التي أحرزها المؤرخ (برودويل) بالنسبة لمقاربة تأريخ بلده (فرنسا) عبر تطبيق منهجيته المبتكرة والمثمرة . ولعله من الإنصاف القول ؛ ان محاولات الباحث العراقي (سليم مطر) الرامية الى تحقيب التاريخ الجغرافي والحضاري والديني والاجتماعي للمجتمع العراقي تصب نسبيا"في هذا الاتجاه .

وللذين يجهلون أو لم يطلعوا على خاصية المنهجية (البرودويلية) في حقل الدراسات التاريخية، يمكننا القول أن ما يميّزها عن المنهجيات التقليدية السابقة عليها، هي أنها لم تقتفي أثر هذه الأخيرة وتحذو حذوها في تحقيب سيرورة التاريخ وتمرحل أحقابه الى (قديمة وحديثة ومعاصرة) مثلما يجري لحدّ الآن في معظم جامعاتنا العراقية البائسة، كما أنها لم تكتفي بانتهاج سبيل المفاضلة بين العوامل المحددة لصنع الحدث وصيرورة الواقعة (الجغرافي أو السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الديني أو الحضاري) كما تميل بعض الدراسات ذات الصبغة الإيديولوجية . وإنما هي منهجية عمد مبدعها (برودويل) الى تقسيم السيرورة التاريخية الى ثلاث آماد تاريخية مختلفة زمنيا"ومتباينة من حيث طبيعة المضامين التي تشتمل عليها . فالأمد التاريخي (الطويل) الذي قد يمتد لآلاف السنين تتمحور اهتماماته حول المعطيات الطبيعية (الجغرافية والايكولوجية) ذات النمط البطيء جدا"في الحراك والتطور . وأما الأمد التاريخي الثاني (المتوسط) فقد جعله يتمحور بالمعطيات الإنسانية (الاجتماعية والاقتصادية)، تلك التي تتعلق بتطور التشكيلات الاجتماعية وما تنطوي عليه من علاقات وذهنيات وسياقات . هذا في حين يرتبط الأمد التاريخي (القصير) بالأنشطة السياسية والفاعليات السلطوية وما يتمخض عنها من تفاعلات وصراعات وتحولات، غالبا"ما تكون معبرة عن المصالح والمآرب ذات الطابع الآني والسريع نسبيا".

ولعل هناك من يعترض على لجوئنا لمثل هذه المقاربة المنهجية (الغربية)، والتي قد يعتبرها بعيدة عن واقعنا وغريبة عن ثقافاتنا، بحيث ان اعتمادها في تحليل سيرورة التاريخ العراقي مسألة تنطوي على الكثير من المفارقات والمغالطات . والحقيقة أنه لو أنعمنا النظر في الخصائص الفريدة للشخصية العراقية المعاصرة وما تحمله بين جنباتها من تصورات عجيبة وسلوكيات غريبة، سيكون من الصعوبة بمكان البحث عن النوابض التي تحرك انفعالاتها وتوجّه سيكولوجيتها ضمن المتيسر والمعيش من الأسباب والدوافع، والتي يبدو أنها تتأثر بدينامياتها وتنقاد لسيروراتها وتنصاع لمآلاتها . فلو تسنى لنا قراءة التاريخ العراقي قراءة موضوعية مجردة من العواطف – رغم صعوبة هذا الافتراض – سنلاحظ ان الكثير من تلك السمات والصفات التي تتوفر عليها تلك الشخصية، تعود بأصولها الى عوامل فيزيقية وميتافيزيقية عديدة ومتنوعة لا يمكن لأي بحث أو دراسة ادعاء الواقعية والعلمية، دون استحضارها وتحيينها للشروع منها والبناء عليها والاحتكام إليها .

وهكذا، فان الضرورة العلمية والمعرفية تقتضي - للوقوف على حقيقة ما تضمنته سيرورات التاريخ العراقي من تقلبات وانقطاعات وارتدادات وصراعات من جهة، وإماطة اللثام عما تركته هذه الأخيرة في كينونة الشخصية العراقية من عصبيات وكراهيات واحتقانات وتوترات من جهة أخرى - أولا"؛ مراعاة العوامل التي تنتظم ضمن مكونات الأمد التاريخي (الطويل) من مثل (الجغرافيا والايكولوجيا) وما تنطوي عليه من تباينات مناخية واختلافات طوبوغرافية، والتي وان كان تأثيرها على الطبيعة الإنسانية بطيء وغير مباشر، إلاّ أنه عميق الأثر ودائم التأثير في كل ما جبلت عليه هذه الطبيعة من خصائص وسمات . وثانيا"؛ الأخذ بنظر الاعتبار ان الأطر الاجتماعية والأنساق الثقافية والسياقات الحضارية التي يعيش في كنفها الإنسان العراقي في الوقت الحاضر، ليست فقط وليدة المعيش الآني الذي يكتوي بناره ويتلظى بجحيمه، مثلما ليست حصيلة الظروف الصعبة القائمة والأوضاع المزرية السائدة فحسب، وإنما هي أيضا"نتاج تشكيلات اجتماعية اقتصادية ذات أمد (متوسط) تمتد أصولها لمئات السنين، لا تزال علاقاتها (الإقطاعية) وقيمها (البطريركية) تحدد أنماط الوعي وتؤطر أشكال السلوك . وحين ذاك ثالثا"؛ يتوجب توجيه دفة البحث صوب معطيات ومقتضيات الأمد التاريخي (القصير) الذي يشغل بضع سنين أو بضعة عقود، حيث الممارسات السياسية والتوجهات الإيديولوجية تحتل صدارة المشهد الاجتماعي اليومي وما ينطوي عليه من تصورات وتفاعلات وعلاقات، تعكس الحالة العامة لحراك المكونات الاجتماعية وهي تسعى لتأمين مصالحها وضمان حقوقها في المجالات الاقتصادية والثقافية والدينية والسياسية .

وفي ضوء ما تقدم، يمكننا الجزم ان أية محاولة تسعى لدراسة المجتمع العراقي واستكناه الطبيعة المعقدة والملتبسة لشخصيته الاجتماعية، ومن ثم استخلاص الفروض والاستنتاجات بشأن الكيفيات والمقاربات التي تمكّنه من طرح الحلول واقتراح المعالجات، لاسيما في إطار المشاكل التي يفرزها الواقع والإشكاليات التي يعيشها المجتمع، دون أن تضع باعتبارها تلك الآماد التاريخية (الطويلة / الثابتة) و(المتوسطة / البطيئة) و(القصيرة / السريعة)، سيكون مصيرها الفشل لا محالة . ذلك لأن ملابسات الطبيعة المزاجية لسايكولوجية المجتمع العراقي تمتح من نسغ تاريخ مديد تضرب جذوره في عمق الماضي السحيق بكل مواريثه، حيث تمتزج معطيات الجغرافيا والايكولوجيا مع مكونات السوسيولوجيا والانثروبولوجيا، مثلما تتفاعل وتتمفصل مع مرجعيات الاقتصاد والدين والثقافة والسياسة والحضارة، مكونة بذلك ماهية بشرية / انسانية ذات خصائص فريدة ليس فقط في مضمار الأصالة التاريخية والعراقة الحضارية فحسب، وإنما في مضامير الوعي والذاكرة والمخيال والهوية أيضا"! .

***

ثامر عباس – باحث عراقي

"في بارك راجات (ضفة الملك)، حيث يرقد غاندي، ألقيت نظرة ً عليه مأخوذًا بنهر بامونا الأسطوري، الذي يمرّ عبر دلهي قادمًا من جبال الهملايا، ومن الجهة الأخرى لراجات، هناك متحف ضمّ مقتنيات وكتب وصور غاندي، الذي ظلّت روحه ترفرف فوق الهند، حيث كان قد حلّق في سماوات بعيدة وسبح في بحور عميقة، لاسيّما وكان الإنسان في داخله هو المقياس لكلّ شيء، حسب الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس". هذا ما كتبته عند زيارتي قبر الماهاتما غاندي في العام 2009، كما كتبت بضعة مقالات عن انطباعاتي الشخصية، بما فيها علاقة غاندي بفكرة التسامح.

ومعروف أن غاندي اغتيل كردّ فعل لأفكاره وآرائه، وتلك إشكالية نظرية كبيرة ما تزال مطروحة على طاولة البحث من جهة وفي الواقع العملي من جهة أخرى وبصورة أكبر، لاسيّما  نشوء ظواهر اللّاتسامح، التي تثيرها أحيانًا أجواء التسامح، فتستغلّها القوى غير المتسامحة لفرض آرائها بالعنف أو بالتهميش أحيانًا.

وثمة أسئلة كبرى تتفرّع من هذه الإشكالية، وتتداخل معها، ومنها: ما السبيل للتعامل مع ظواهر اللّاتسامح ومع غير المتسامحين؟ هل ينفع نهج التسامح مع اللّامتسامحين؟ أم ثمة مواجهة، لا بدّ منها، بين التسامح واللّاتسامح وبين المتسامحين وغير المتسامحين؟ ومتى يكون الحزم مع غير المتسامحين ضروريًا؟ وهل التسامح أو اللّاتسامح هو اختيار أم اضطرار؟ وهل يؤدي عدم التسامح مع غير المتسامحين إلى الابتعاد عن قيم التسامح؟ أم أنه يقود إلى ترسيخها؟ ثم ما هي مبرّرات البعض في مواجهة اللّاتسامح  وغير المتسامحين بالوسيلة ذاتها  لإيقافهم عند حدّهم؟ أوليس تلك ذريعةً أو حجةً في نقض قيم التسامح ذاتها؟ وبالإمكان القول أن ثمة خيط رفيع بين استخدام القوّة والعنف في ردع غير المتسامحين وبين اللجوء إلى "حكم القانون" لمنع المغالاة في الاستفادة من بيئة التسامح بالضدّ منها، وهو ما يذهب إليه كارل بوبر في دفاعه عن قيم التسامح.

ويشهد تاريخ الهند على العيش المشترك لشعوب وأمم ولغات وأديان، حيث يتواصل الهندوس والمسلمون والسيخ والبوذيون والمسيحيون وغيرهم، ونحو 23 لغة رسمية وأكثر من ألف لهجة محلية، لسكان يبلغ عددهم مليار و440 مليون نسمة، في إطار نظام فيدرالي تعددي ديمقراطي يتكون من 25 إقليماً، دون أن يعني ذلك اختفاء التعصب ووليده التطرف ونتاجهما العنف، وكلّ ما يتعلّق بنقائض التسامح، من إشاعة روح الكراهية والتمييز والاستعلاء والزعم بامتلاك الحقيقة وادّعاء الأفضلية وعدم الإقرار بالتنوّع والتعددية والتنكر للحق بالاختلاف.

لم يكن غاندي الضحية الوحيدة للّاتسامح، فقد تبعته لاحقاً أنديرا غاندي وراجيف غاندي، والسبب دائمًا هو عدم الإيمان بقيم التسامح، حيث تكون مبررات القتلة، بالرغم من اختلاف مسوّغاتها، عدم قبول الآخر بسبب دينه أو قوميته أو لغته أو لوته أو جنسه أو أصله الاجتماعي.

الجدير بالذكر أن غاندي اختار نهج اللّاعنف والمقاومة السلمية المدنية، هو الذي أوصل الهند إلى الاستقلال في مواجهة بريطانيا، أعتى دولة إمبريالية في حينها، وهو ما ظلّ متمسّكًا به حتى يوم اغتياله، في حين كانت مبررات القاتل (ناتهورام غودسي) المعلنة والمضمرة، تدور حول موقف غاندي من تجزئة الهند، التي حاول البريطانيون العبث بوحدتها، وقد أصرّ على مبدأ التضامن والعيش معًا بين الهندوس والمسلمين وبقية المجموعات الثقافية، ورفض التقسيم بشدة لأسباب مبدئية ووطنية،  لم تكن بعيدة عن إيمانه بمبادئ التسامح، فشجع المسلمين وحثّهم على عدم الرحيل إلى القسم الباكستاني عندما أصبح التقسيم أمراً واقعاً، ودعا الهندوس وشجّعهم على التعايش مع المسلمين وعدم اللجوء إلى العنف، وكانت تلك السياسة المتسامحة تلقى رفض بعض القادة المتطرّفين من الفريقين.

بعد ما يزيد عن ثلاثة عقود ونصف من الزمن على اغتيال غاندي، مؤسس الهند الحديثة ورائد الاستقلال الأول، وتحديداً في العام 1984 سيقوم مرتكب آخر، يدعى جاسفير، باغتيال السيدة انديرا غاندي، وهو مرافقها من الطائفة السيخية، والمبررات هي ذاتها. وأنديرا غاندي هي إبنة زعيم الهند جواهر لال نهرو أحد قادة حركة الحياد الايجابي ومؤتمر باندونغ العام 1955 وحركة عدم الانحياز لاحقاً.

ولعلّ اسم أنديرا غاندي له أكثر من دلالة للتسامح فهي ابنة نهرو، ودرست في بريطانيا في أربعينيات القرن المنصرم في جامعة اكسفورد وهناك أحبّت زميلاً لها من أصول فارسية، وهو مسلم واسمه فيروز غفّار، لكن أجواء اللّاتسامح لم تكن تسمح باستمرار علاقتهما وبالزواج منه، وقد ناقشت المسألة مع والدها (نهرو) ومع غاندي، الذي تبنّى هذا الشاب اليتيم اللامع، فبادر إلى إعطائه لقبه بعد اقتناعه به وإيماناً منه بمساواة البشر وقيم التسامح، مؤكدًا بذلك أنه أبًا لجميع الهنود، الأمر الذي مكّن فيروز غفار (غاندي) من الزواج من أنديرا، وأصبح اسمها أنديرا غاندي لاحقاً.

لعلّ سبب مقتل أنديرا غاندي هو اللّاتسامح أيضًا، حيث كان بعض السيخ وقتها قد طالبوا في إقليم البنجاب بالاستقلال بما يسمى بكالستان باعتباره حقاً لهم، وكانوا قد تقدّموا باقتراح لها، ولكنها رفضته، الأمر الذي دفعهم للقيام بأعمال عنفية طالت أعداداً من الهندوس، فاضطرت حينها إلى التصدّي لهم في عملية سميّت ﺑ بلوستان Bluestan، خصوصاً بعد اعتصامهم في المعبد الذهبي في البنجاب، وحدوث معارك أدت إلى سقوط عدد من المدنيين، وعلى الرغم من تردّدها في قصف المعبد أو اقتحامه، الاّ أنها في نهاية المطاف أعطت الأوامر بحسم الأمر والتصدي بحزم إلى من اعتبرته سبباً في المشكلة ويتحمل نتائجها.

إن رفض أنديرا غاندي مطلب التقسيم (استقلال إقليم البنجاب) وتمسكّها بوحدة الهند كان وراء اغتيالها، مثلما لقي راجيف غاندي مصرعه أيضاً، لأنه وقف ضد حركة التاميل، ووافق على إرسال قوات هندية لدعم سريلانكا، يومها قامت سيدة في محاولة لتقديم باقة ورد له، لكنها بدلاً من ذلك فجّرت قنبلة فيه، وكان هذا قد حدث في إقليم كيرالا العام 1991، الذي يُعتبر من الأقاليم الغنيّة في الهند، والذي غالبًا ما كان يفوز فيه الشيوعيون في الانتخابات منذ الاستقلال ولعدّة دورات.

إن مسلسل الاغتيالات للزعامات الهندية، فضلًا استخدام العنف بين المجموعات الثقافية، بين الفينة والأخرى، يدعو إلى التأمل، فبذرة اللّاتسامح ما تزال قوية في المجتمع الهندي، الذي يشهد في الكثير من الأحيان نزاعات وصدامات واحترابات، لاسيّما بين الهندوس والمسلمين، وهو المرض الخبيث الذي بذرته بريطانيا قبيل اضطرارها للرحيل من الهند.

لقد حاول غاندي أن يطبع حزب المؤتمر الوطني الهندي بطابعه، بالدعوة إلى سياسة اللّاعنف والتسامح، وهذا الحزب العريق كان قد تأسس عام 1885 على يد السياسي الهندي المتحدّر من عائلة ثرية، واسمه دادا بهاي نروجي، الذي درس في بريطانيا، ثم ترأس تحرير صحيفة "حرية الهند" Azadi Hind وقد انضم إليه غاندي في العام 1920 وأصبح أحد أبرز قادته مؤسساً لفلسفة جديدة أساسها اللّاعنف،  لاسيّما بعد عودته من جنوب أفريقيا وسجنه هناك لعدة مرات حيث قضى فيها نحو 21 عاماً.

وكان غاندي قد تخرّج من كلية الحقوق في جامعة أكسفورد، وبسبب أوضاع جنوب أفريقيا والتمييز العنصري فيها، تبنّى نهجاً سياسياً فريداً، قال عنه أنه يتسم بالعقلانية والواقعية، لاسيّما بعد عودته إلى بلاده، واستغلّ وجود ضريبة على الملح تفرضها بريطانيا على الهنود، فدعا إلى تحرك جماهيري سلمي مدني واسع للامتناع عن دفع الضريبة، كما شجّع الحركة النسائية للتمسك بالوطنية الهندية من خلال ارتداء الملابس الهندية الشعبية، وكان أساس حركته هي إتباع الأساليب النضالية اللّاعنفية، وعدم الانجرار إلى رد فعل لقتل البريطانيين مؤكدًا أن "الحقيقة ستنتصر يوماً ما".

وإذا كانت بريطانيا قد استجابت "مضطرة" لاستقلال الهند، وتخلّت عن درّة التاج البريطاني لكنها زرعت لغماً كبيراً بين سكانها، لاسيّما بين الهندوس والمسلمين، الأمر الذي شجع بعض السياسيين للمطالبة باستقلال باكستان، ومنهم محمد علي جنت المدعوم من قبل بعض المتطرّفين الإسلاميين بسبب العنف الذي تعرض له المسلمون عشية الاستقلال، ولم يكن الأمر يخلو من يد بريطانيا، التي كانت سياستها تقوم على قاعدة " فرّق تسد" فشجعت على الاحتراب تمهيدًا للانفصال.

كان ردّ فعل بعض السياسيين الهندوس التسليم بالأمر الواقع مثل سردار بلب بهاتي باتيل وإلى حد ما جواهر لال نهرو، انطلاقاً من "فن الممكن"، وسياسة "الأمر الواقع"، حتى وإن كانا ضدّ التقسيم، في حين كانت نظرة غاندي المتسامحة تصرّ على التعايش ورفض التقسيم، وما تزال مشكلة كشمير منذ ما يزيد عن ثلاثة أرباع القرن من الزمن مشتعلة، وتشكّل قنبلةً موقوتة.

كتب ماركس وإنجلز عن حرب استقلال الهند الأولى في خمسينيات القرن الثامن عشر،  لاسيّما انتفاضة فيلور عام 1806 متنبئان باستيقاظ الشرق، فإضافة إلى الهند كانت الصين في صلب تصوراتهما. وكتب ماركس مقالات مكثفة في الفترة بين 1857-1859 في صحيفة نيويورك ديلي تريبونا New York Daily Tribuna تحدث فيها عن نهضة الهند والصين، مستنتجاً أن القضاء على الكولونيالية في الهند يعتبر أحد أهم الأركان التي سيتوقف عليها مصير الأوليغارشية البريطانية، لأنها ستؤدي إلى تدمير العلاقات الاقتصادية الإقطاعية وستنعكس إيجاباً على أوروبا. وقد كانت عملية استقلال الهند، وفيما بعد الشعوب المستعمرة والتابعة، المدماك الأساسي لغياب شمس الإمبراطورية البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية.

وبقدر اتساع دائرة التسامح في الهند ففيها تاريخ لامتسامح أيضًا، فبعد وفاة زوجة ملك الملوك شاهجهان "ألجو مان بانو بكم" الملقبة " ممتاز زمان" بنى لها الشاهجهان قصراً سمي بالقصر الأحمر Red Fort في أكرا وآخر في دلهي، وتعهد بعدم الزواج بعدها رمزية للوفاء، وحيث كان يرفل بحكمه قام ولده بسجنه في قصره، حتى وفاته بعد سبع سنوات.

سألت مرافقي الشاب في زيارتي الأولى عن رأيه بغاندي وسياسة التسامح؟ أجابني: غاندي رجل عظيم ورمز كبير، لكن أفكاره مثالية وغير واقعية وليست ممكنة التطبيق، إذْ لا يمكن حل الصراعات بدون العنف، لأن من بيده الثروة والمال والسلطة لا يستغني عنها لصالح المحرومين أو لتحقيق العدالة والمساواة دون وجود قوة ضاغطة عليه.

وسألته: هل تعني بالقوة العنف؟ وكنت أقصد رؤية ماركس عن دور العنف كمحرك للتاريخ، أم القصد منها المنع والردع؟ تململ الشاب ذو الثقافة التعددية الهندية- الشرقية- الغربية، فأردفته بالقول: المعرفة قوة بحد ذاتها على حد تعبير الفيلسوف فرانسيس بيكون، فهل توافقني على استخدامها؟ أم أنك تميل إلى استخدام العنف الفيزيولوجي؟ وكنت قد كرّرت ذلك بطرحي أسئلة على مرافقتي الهندية خلال زيارتي الثانية لحضور مؤتمر نظمه المجلس الهندي للعلاقات الخارجية في نيودلهي بخصوص العلاقات الآسيوية (2010).

أعتقد أن القضاء على الأمية والجهل وتحسين الأوضاع الاقتصادية والمعاشية، وتأمين ظروف عمل مناسبة وضمانات صحية واجتماعية، كفيل بنشر قيم التسامح ومقاربة العدالة وتهيئة الظروف للإقرار بالتنوّع والتعددية وقبول حق الاختلاف وحق التمسّك بالمعتقدات بحرية ودون عسف أو خوف، وهو ما تدعو له قيم التسامح، لاسيّما إذا تمّ ذلك من خلال التربية والتعليم ولجميع المراحل الدراسية، إضافة إلى التشريع والقوانين، ويلعب الإعلام دوراً مهماً على هذا الصعيد، إذ بمقدوره المساهمة بشكل كبير في نشر وتعميم ثقافة التسامح، وهنا يمكن أن تسهم مؤسسات المجتمع المدني بقسطها في التأثير على النخب الفكرية والسياسية والدينية، لتأكيد احترام الحقوق الإنسانية والاعتراف بحق الاختلاف والتنوع والتعددية. ولعل مهمة كتلك تحتاج في ظروف الهند إلى تراكم طويل الأمد لترسيخ قيم التسامح وفي مواجهة اللّامتسامحين الذين تصبح مهمتهم صعبة في المجتمعات المتسامحة.

وإذا كان نهرو باني الهند هو أول من رفع علم بلاده الوطني في 15 آب (أغسطس) 1947 معلناً نهاية الحكم البريطاني للهند، فإن روح غاندي المؤسس وصاحب فلسفة اللّاعنف والتسامح ما تزال ترفرف على الهند، ويشكل مرقده الأخير في راجات مزاراً للهنود وضيوفهم من شتى أنحاء العالم حتى وإن تحفظ البعض على فلسفته اللّاعنفية.

***

عبد الحسين شعبان

مفكّر وكاتب عراقي

لقد ورثت جميع الأديان السماوية موروث الرموز المقدسة سواءً كانت أصناماً أو نصباً أو قبوراً أو شجراً، فكانت اغلب المجتمعات القديمة تقدم لها القرابين والنذور، وتقام لها الاحتفالات والذبائح، ويكون الدم رمزاً هاماً فيهان فضلاً عن الشموع ومسح الخرق بتلك الرموز، وكان لاختيار المكان والزمان احتراماً لأوقات تلك الطقوس، فغيرت تلك الطقوس بعض أسس ذلك الموروث وعدلّت البعض الآخر.

وقد شيدت تلك المجتمعات وفق بعض فلسفاتها المادية والروحية جدرانها المقدسة، ووضعت تعاليمها في الزيارة والحج والصلاة والاحتفالات السنوية التي ترافق شكل تلك الاحتفالات الدينية، فكتبوا النصوص والمواعظ والأحكام لتنظيم العلاقات بين الناس، فكانت معابدهم المقدسة تفوح منها روائح البخور وهو جزء من الثقافة الشرقية، ونظموا مراتبية رجالاتهم وفق البنية للمؤسسة الدينية.

لكن من رفض تلك الطقوس والرموز المقدسة هم أصحاب الدين أو المذهب الأصلي الذي انقسمت عنه بعض الديانات والمذاهب، فشكلّت توجيهات مميزة في تياراتها السياسية والفكرية، ولو تأخذ مثالاً على ذلك (الكعبة المقدسة) و(حائط المبكى)، وقد أشار فيليب حتي في كتابه (تاريخ العرب) ص72، قائلاً: "أن الكعبة بناها آدم وفقاً لنموذج سماوي، ثم جاء الطوفان فتهدمت أركانها وأعاد بنائها بعد الطوفان إبراهيم وإسماعيل). ويؤكد فيليب حتي أن الكعبة صارت مكاناً مقدساً لـ(360) صنماً، واحد لكل يوم من أيام السنة القمرية، بينما يشير الدكتور الزيتوني في كتابه (الوثنية في الأدب الجاهلي) ص30: (إن ابن مسعود كان بمكة، عند فتح الرسول "ص"، لها ثلاثمائة وستون نصباً).

إضافة إلى ما هو شائع من أن في كل بيت بمكة كان هناك صنم، وكانت كل القبائل العربية تصنع الأصنام التي تقدسها، وحسب بعض الرواة قد خلط بين مفهوم النصب والأصنام مثلما هو في حديث ابن مسعود. كما تتضارب حجم القبائل وحجم اعداد الأسماء التي عثرَ عليها والمعروفة في الأدب الجاهلي؛ والتي ذكر أهمها الدكتور زيتوني في مؤلفه (الوثنية في الأدب الجاهلي).

وكان بعض رجالات قبيلة قريش هم المشرفين عليها ومنهم خرج الرسول وأهل بيته، وهم امتداداً للنبي إبراهيم وأبنه إسماعيل، وإلى جانب (كعبة مكة) كانت هناك (كعبة سنداد ونجران). كما كان لمعظم الأصنام بيوت مقدسة كاللات والعزى ومناة وذي الخلصة وفلس.

ويذكر ابن الكلبي عن وثنية العرب بقوله: (منهم من اتخذ بيتاً ومنهم من أتخذ صنماً ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت نصب حجراً أمام الحرم وأمام غيره مما استحسن. ثم طاف به كطوفانه بالبيت، وسماها الأنصاب)، فيليب حتي، تاريخ العرب، ص72.

وكان العرب القدماء يعتقدون أن (آساف ونائلة مسخا إلى حجرين لأنهما ارتكبا فاحشة في الكعبة). ويشير الجارم عن الزبير فأن بن بدر وهو من سادة العرب كان لهُ (بيت من عمائم وثياب وينضح بالزعفران والطيب، وكانت بنو تميم تحج ذلك البيت)، فيليب حتي، ص91.

وكان من طقوس الحج التعري، وهو طقس ديني مقدس يمارس في أمكنة مقدسة حيث الروح تنفصل عن الجسد في حظوة المكان المقدس بما في ذلك الفعل الجسدي، لذلك كان تجار قريش لهم الدور في تجارة الألبسة والقماش بعد أداء طقوس التعري. لذا كانت في بعض الديانات والمعابد تمارس الدعارة كونها نوعاً من الطقوس الدينية وتقديم القرابين للآلهة. لكن المفهوم العربي انقلب على الجسد والتعري بإعادة النظر في تلك الطقوس.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

(قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

قلتُ لـ(ذي القُروح)، في معرض استطلاعي رأيه حول ما يثيره أحد المتفيهقين المعاصرين:

ـ يعود (القبانجي) إلى القول، في بيان ما يزعمه تناقضًا في آيتين متجاورتين في ورودهما من (سُورة النساء: الآية 78 و79)، وهما: «أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ المَوْتُ، وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ. وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ، يَقُولُوا: هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّـهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ، يَقُولُوا: هَذِهِ مِنْ عِندِكَ! قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِندِ اللَّـهِ! فَمَا لِهَؤُلَاءِ القَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا؟!  مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ، فَمِنَ اللَّـهِ، وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ، فَمِنْ نَفْسِكَ. وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا، وَكَفَى بِاللَّـهِ شَهِيدًا.»  فيقول لك: ألم يَقُل كلٌّ من عندالله، أي الخير والشَّر؟! هكذا- وهو ينسب الشَّر إلى الله؛ لأنَّ مفهومه للشَّر عجيب؛ فالعقاب على الذَّنْب شَرٌّ عنده، ووَصْف الله نفسَه بالعِزَّة والكبرياء شَرٌّ، وهلمَّ جرًّا!- قال: فكيف يعود للقول: « وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ، فَمِنْ نَفْسِكَ»؟ 

ـ الحقُّ أنَّك لن تجد أبلغ من الإجابة عن سؤاله هذا بالسؤال القرآني نفسه، الوارد في الآية- المنطبق عليه وعلى أمثاله-: «فَمَا لِهَؤُلَاءِ القَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا؟!» ذلك أنَّ الآية الأُولى تشير إلى الإرادة الإلاهية المطلَقة في كلِّ شيء، من حَسَنٍ وسَيِّء، والثانية إلى السبب البَشَريِّ المباشر، حسب السُنَن في عالم الكون والفساد.  ولا تناقُض بين الأمرَين، إلَّا في ذهنٍ بَليدٍ مضطرب. 

ـ واستطرادًا، فإنَّ مأساة الإنسان، مؤمنًا وكافرًا، تتمثَّل في أنه غالبًا لا يتحمَّل مسؤوليَّته، ولا يسلِّم بسُنن الكون. 

ـ صحيح. ونضرب على ذلك مثالًا من حادث ذلك الطفل المغربي (ريَّان)، الذي وقع في بئرٍ سحيقةٍ في قرية (شفشاون)، في 1 يناير 2022، وبقي في البئر إلى ليلة السبت 5 يناير، في حادثٍ شهده العالم أجمع، وتفاعل معه، وكأنَّما جاء ليكون شاهدًا على طبيعة الإنسان وعقليَّته المريضة. 

ـ كيف؟

ـ ما حدث لم يكن حَدَثًا عَرَضيًّا، بل هو آية، بل آيات، على أمور.  أوَّلها أنَّ الإنسان لا يتحمَّل مسؤوليَّته في الحياة، بل ستراه يحفر بئرًا، مثلًا، ويتركها هكذا مصيدةً لمخلوقات الله، ولا يشعر بجريمته.  والإنسان، أبًا أو أُمًّا، لا يتحمَّل مسؤوليَّته، حتى في رعاية أطفاله، وحمايتهم، بل لعلَّه هو مَن يُعِدُّ لهم مثل تلك البئر بنفسه، ولا يشعر بجريمته.

ـ والمفارقة الملحوظة هنا أنَّ أواصر القرابة في المجتمعات التي ننعتها بالبدائيَّة، والشعور بالمسؤوليَّة فيها، أمران يبدوان أشدَّ من نظائرهما في ما ننعته بالمجتمعات الحضريَّة!

ـ بكثير. ولذا نادرًا ما تناهَى إلى ذاكرتنا عن العصور القديمة شيءٌ من أشباه الحوادث التي تقع في عصرنا، على الرغم من ضعف الإمكانيَّات قديمًا قياسًا إلى عصرنا. وشِعرنا القديم شاهدٌ على أواصر العلاقات بين الناس وإعلاء شأنها.  خذ مثالًا من قول الشاعر الجاهلي (طَرَفَة بن العَبْد، -562م)(1):

فَفِــداءٌ لِـبَـنِــيْ قَيْــسٍ عَلَـى

ما أَصابَ النَّاسَ مِنْ سُرٍّ وضُرْ

*

خـالَتِي والنَّفْـسُ قِـدْمًـا إنَّهُـمْ

نِعِمَ السـَّاعُونَ في القَوْمِ الشُّطُرْ

أو قول معاصره (عمرو بن قميئة، -540م)(2):

[أ] إِنْ أَكُ قَدْ أَقْصَرْتُ عَنْ طُولِ رِحْلَةٍ

فـيا رُبَّ أَصـْحابٍ بَعَثْــتُ كِــرامِ

*

فَقُلْـتُ لهُمْ: سِـيرُوا فِدًى خالَـتِي لَكُمْ

 أمــا تَجِــدُونَ الرِّيْــحَ ذاتَ سَـهامِ

فما علاقة (الخالة) لتُذكَر في مثل هذا السياق؟ 

ـ وكيف يستقيم هذا مع الصورة النَّمَطيَّة عن موقف العَرَبيِّ القديم من المرأة عمومًا؟

ـ إذا كان من المألوف التَّفدية بالأب والأم ، تعظيمًا لمكانتهما من الإنسان، فإنَّ المرء يستغرب هنا تفدية هذين الشاعرَين الآخَرين بـ«الخالة»!

ـ وإنْ كان التعبير الشَّعبي ما زال يقول: إنَّ: «الخال والد».  لكن ماذا أردتَ أن تقول، يا (ذا القُروح)؟

ـ ليس التعبير الشَّعبي وحده الذي يقول: إنَّ «الخال والد»، بل هذا قول عَرَبي قديم؛ وقد ورد أن (الأسود بن وهب بن عبد مناف بن زهرة)، استأذن على (الرسول، صلى الله عليه وسلم)، فلمَّا دخل عليه،  بسطَ له رداءه، وقال: «اجلس عليه؛ إنَّ الخال والد.«(3)  وإنَّما أردتُ أن أقول: إنَّ هذا نموذجٌ على ما كان يربط الإنسان من أواصر قويَّة بأفراد عائلته، وإعظام لعلاقته بهم، بل بأفراد عشيرته وقبيلته؛ حتى إنَّه ليصل به الحال إلى ذوبان شخصيَّته الفرديَّة في أهله وجماعته وقبيلته.

ـ يا حبيبي، تريد أن تعود بنا إلى القَبَليَّة، وإلغاء الحُريَّة الفرديَّة، وإلى عقليَّة «إنَّا وجدنا آباءنا...»؟! وتلك العقليَّة هي أساس البِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة في الثقافة العربيَّة! ألا ترى أنَّك هنا قد أخذت تناقض خطابك التنويري؟

ـ النظر إلى الأمور بمعيار (أبيض وأسود) عمًى مطلق! لكلِّ وجهٍ محاسنة ومقابحه. وإذا كانت للماضي سلبيَّاته، فإنَّ له إيجابيَّاته، ممَّا تقطَّعت عُراها في العصور المتأخِّرة في شرقنا العَرَبي، سَيرًا على أعقاب المجتمعات الغربيَّة.

ـ خرجتَ بنا عن الموضوع، كعادتك!

ـ الخارج مولود والداخل مفقود! حتى في هذا كثيرًا ما نقع في المغالطات، حين نتذرَّع بالموضوع، وداخل الموضوع، وخارج الموضوع.. إلخ.  ولكي أربط لك ما تراه خارج الموضوع بمسألة صاحبك (هبنَّقة)، المعمَّم بالسَّواد، أقول: إنَّ الإنسان، منذ أن ينشأ طفلًا، وهو يعرِّض نفسه وغيره للبلايا والمصائب، ولا يشعر بجرائره.  بل ستجد كلَّ هؤلاء يبكون أخيرًا، وينتحبون، ويجأرون إلى الله، إذا وقع ما أَوْكَتْه أيديهم وما نفخته أفواههم!  وهذا معنى الآية: «فَمَا لِهَؤُلَاءِ القَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا؟!  مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ، فَمِنَ اللَّـهِ، وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ، فَمِنْ نَفْسِكَ.»

ـ أمَّا أحسننا طريقة، في ظاهرنا الثقافي الإيماني، فستسمعه يُلقي بتبعة ما أَوْكَتا يداه وما نَفَخَ فوه على مشجب القضاء والقَدَر.

ـ لماذا؟ لكي يحمِّل الله سبحانه مسؤوليَّة حماقاته الإنسانيَّة، ثمَّ يدعوه ليجعل له منها مخرجًا! أمَّا هو، فحاشاه، فهو حَمَلٌ بريء! لم يرتكب خطأً، ولا إثمًا، في حقِّ نفسه، وحقِّ غيره! 

ـ قلتَ: إنَّ في ما حدث للطفل (ريَّان المغربي) آيات. وقد عرَّفتنا أُولاها، ماذا عن سائرها؟ 

ـ ثاني الآيات، التي تتجلَّى من مثل ذلك الحادث، أن الجميع لا يكادون يؤمنون بالله إلَّا وهم مشركون!

ـ يا لطيف! إيَّاك والتكفير!

ـ هذا الواقع، شئتَ أم أبيتَ! وإنْ تظاهر الناس بعكسه. فهُم، في الواقع، يؤمنون أشدَّ الإيمان بالحياة الدُّنيا، ويعبدونها عبادة مطلقة. «وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ، ...، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ». فأولئك المتظاهرون بالإيمان كانوا، خلال تلك الحادثة، يضجُّون بالدعاء، والنحيب، ويصيحون بجنون، ابتهالًا من أجل حياة (ريَّان)، موقنين بأنَّ الله لن يخيِّب دعواتهم ودموعهم وصراخهم، وكأنهم بضوضائهم كانوا يدعون أصمَّ، أو غائبًا، أو غافلًا، أو طاغيةً، يستمتع لإظهارهم كل ذلك التذلُّل، والإقبال- لا عليه، بل على الحياة من خلال التوسُّل به- فما انفكُّوا يَرْجُون أن يُستجاب دعاؤهم، وأن تَحُلَّ المعجزة بهم، وتنخرق قوانين الطبيعة، أمام مسرحيتهم الهزليَّة تلك! وما ذاك إلَّا اعتقادًا منهم بأن الحياة الدنيا هي غاية الغايات، وأقصى ما يتمنَّاه الإنسان. والغريب أنهم ما يفتؤون يحدِّثونك عن الآخِرة ونعيمها، وعن الشهادة، وعن جِوار الله، وبأنَّ الدُّنيا ظِلٌّ زائل...، ولو كانوا يؤمنون حقًّا بما يقولون، لما أصابتهم تلك «الهستيريا» التي أصابتهم، طلبًا للحياة، ثم أصابهم مثلُها جَزَعًا من مغادرتها. وعودًا إلى الآية الأُولى «وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ، يَقُولُوا: هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّـهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ، يَقُولُوا: هَذِهِ مِنْ عِندِكَ!»- حتى لا يُجَنَّ جنونُك لاستطراداتي الجاحظيَّة- فإنَّها قد جاءت في معالجةٍ خاصَّةٍ لقضية التطيُّر عند العَرَب، وما كانوا ينسبونه ممَّا يصيبهم إلى النَّحس، أو الجنِّ، أو الشياطين، أو حتى إلى الرسول نفسه. وهي عادة لدَى الشعوب البدائيَّة عمومًا، تنهض على ما يُسمَّى (المغالطة البَعديَّة، أو السبب المتوهَّم).  بمعنى: الربط التعليلي بين حدثَين لا رابط سببيًّا بينهما، سِوَى أنَّ ما تُنسَب إليه العِلِّيَّة جاء أوَّلًا.  يُروَى من ذلك، مثلًا، ما حدث في إحدى قرى (جنوب أفريقيا) من أنَّ بعض البِيض أهدى رجلًا من (البوشمن) عصًا مرصَّعة، كرمزٍ للسيادة، لكن- لمساوئ الصُّدَف- سرعان ما تُوفي الرجُل، وورَّث العصا ابنَه، فسرعان ما توفي هو الآخَر! فأعاد البوشمن العصا المشؤومة إلى مهديها، خشية أن يموت البوشمن جميعًا! ومن ذلك كذلك ما يُروَى من أن مرض الجدري انتشر بين شعب (الياكات)، وصادف أنْ كان ذلك بعد أن شاهدوا جَمَلًا لأوَّل مرَّة؛ فوَقَر في نفوسهم أنَّ الجَمَل الملعون هو السبب في حدوث المرض!(4) ولله في خلقه شؤون! وقد كان العَرَب في الجاهليَّة، وربما ما زال كثيرٌ منهم، كأولئك المتطيِّرين الأفارقة، أو أشدَّ منهم استطارةً في التطيُّر.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.......................

(1)  (1900)، ديوان طَرَفَة بن العَبْد البكري، شرح: يوسف الأعلم الشَّنْتَمَري، عناية: مكس سلغسون، (شالَوْن- فرنسا: مطبعة برطرند)، 66/ 68- 69.

(2)  (1965)، ديوان عمرو بن قميئة، تحقيق وشرح: حسن كامل الصَّيرفي، (القاهرة: معهد المخطوطات العَرَبيَّة- جامعة الدول العَرَبيَّة)، 39، 41/ 1-2.  وقد وقع في البيت الأوَّل (خَرْم)، لم يُشِر إليه المحقِّق: «إنْ أكُ قد...». وكثيرًا ما يُنسَب هذا إلى الشاعر، وربما وقع عن خطأ الرواي، أو الناسخ. وصوابه: «أإنْ أكُ»، أو «وإنْ أكُ».

(3) يُنظَر: الحلبي، علي بن برهان الدِّين، (2013)، السيرة الحلبية (إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون)، عناية: عبدالله محمَّد الخليلي، (بيروت: دار الكتب العلميَّة)، 2: 313.

(4) يُنظَر: مصطفى، عادل، (2019)، المغالطات المنطقيَّة: فصول في المنطق غير الصُّوري، (القاهرة: رؤية)، 177.

شهد عصر اليقظة العربية ظهور تيارات فكرية مختلفة، منها العلماني والإسلامي السلفي ومنها الوسط، اتفقت أغلبها إن لم نقل كلها على ضرورة الالتقاء مع الغرب والاستفادة من تجاربه وعلومه، على ألا يؤثر ذلك على مقومات الشخصية العربية والإسلامية كما أكد العلامة محمد عبده في أغلب كتاباته (1).

ونود هنا أن نلقي الضوء على العلاقة بين الأدبين العربي والغربي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى الثمانينات.

لقد قامت العلاقة بين الشرق والغرب منذ قدم التاريخ على أساس المنافسة والرغبة في تبوّء مركز الصدارة في مختلف ميادين الحياة، بدءاً من الفكر مروراً بالسياسة وانتهاءاً بالحروب التي كانت تتويجاً لفشل سياسة أحد الطرفين في إخضاع الآخر تحت سيطرته.

وعلى الرغم من حالات الحروب والاستعمار والعداء، التي اتسمت بها علاقات العرب مع الغرب في العصر الحديث، إلا أننا نجد الاهتمام الكبير من قبل الأدباء العرب بالنتاجات الأوروبية الشرقية والغربية والأمريكية يتعاظم باستمرار.

يُعد هذا الاهتمام امتداداً لنشاطات التنويري بطرس البستاني في مجال الترجمة الأدبية حيث ترجم الإلياذة لفرجيل، بينما نقل الشيخ رفاعة الطهطاوي صاحب "المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين"،"مغامرات فلنون" الرواية الفرنسية التعليمية (2).

إلا أن الاهتمام بالآداب الغربية من قبل العرب، أخذ في العصر الحديث طابعاً آخر يختلف كثيراً عن البدايات، من حيث التركيز على أنواع معينة في الأدب دون غيرها مثل قصيدة الشعر الحر، والقصة القصيرة، والرواية، وغيرها.

ولو نظرنا إلى تطور الشعر العربي الحديث مثلاً فسنجد أن التأثيرات الأوروبية والأمريكية لعبت دوراً هاماً، وإن كان غير ملموس في بداياته الأولى، مما يمكن ملاحظته في مدرسة أبوللو التي يدل اسمها اليوناني الأصل (أبوللو- رب كل شعر) على دلالتها وعلاقتها بالغرب.

تأسست هذه الجماعة في بداية العقد الرابع من القرن، بدعوة من الشخصية الألمعية الطبيب ورائد الشعر العربي والناقد الأدبي أحمد زكي أبو شادي (1892- 1955) أما خليل مطران (1872-1949)، الذي لُقّبَ بشاعر القطرين ومن ثم شاعر الأقطار العربية (1872-1949) فكان يعد أباً روحياً لها.427 ahmad zaki

أما جماعة (الديوان) التي أسسها الشعراء الثلاثة عبد الرحمن شكري، إبراهيم المازني، وعباس العقاد، والتي حملت اسمها نسبة إلى كتاب (الديوان) فهي في حقيقة الأمر ثورة ضد التقليدية.

لسنا بصدد التوقف بالتفصيل عند هاتين الجماعتين الرومانسيتين، لكننا نؤكد علاقتهما مع العصبة الأندلسية والرابطة القلمية في جنوب أمريكا وشمالها، وبالتالي مع الثقافة الغربية بهذا الشكل أو ذاك.

لقد كانت لمحمود عباس العقاد الذي ثار على شوقي وإبراهيم علاقة بميخائيل نعيمة، وهناك أوجه شبه مشتركة بينهما تظهر في (عابر سبيل) للعقاد. وكان هؤلاء جميعاً على صلة بالأدب الرومانسي الإنجليزي، وتتحرك في دواخلهم نزعات التجديد الأدبي فدعوا إلى ضرورة التعبير عن الذات وتجاربها وليس محاكاة للطبيعة وانعكاسها لها واعتبروا الشعرعمليةً لتوصيل المشاعر بين الشاعر والمتلقي، وأن المتعة الفنية يمكن تحقيقها في الشعر نتيجة لهذه المشاركة الوجدانية بين هذين الكائنين الحيين المتفاعلين مع كائن حي آخر هي الطبيعة.

أهم ما دعوا إليه من الناحية اللغوية هو كسر وحدة القافية الواحدة والتوجه نحو الشعر المرسل والابتعاد عن اللغوية العربية الكلاسيكية واستخدام اللغة الميسرة.

ظهرت هذه التوجهات التجديدية في الشعر قبل أكثر من خمس وعشرين سنة من نشر قصيدة (الكوليرا) وغيرها من بدايات الشعر الحر لنازك الملائكة والسياب.

وانتقدا شوقي وإبراهيم في مرحلة كان الأول يتصدر فيها الشعر في البلاط الملكي، والثاني قريباً للشعب من خلال تصويره مختلف المناسبات.

انتقدهما الناقد والمترجم والكاتب المتعدد المواهب إبراهيم المازني أكثر من مرة في الصحافة قبل صدور (الديوان) الذي تضمن كلَّ آرائهما هو والعقاد عن الشعر العربي التقليدي وإذا تمعنّا في مطالب الأخير نحو التجديد وجدناها لا تختلف كثيراً عن واقع الشعر الإنجليزي والأوروبي عموماً. إذن فإن التأثيرات الغربية واضحة المعالم هنا، وعلى الأقل من ناحية التنظيرات الأدبية وتوجهاتها.

لا أحد يستطيع أن ينكر دور الموهوبين والمبدعين في تطوير الأدب وتغيير مساراته، وخاصة أولئك المطلعين على ثقافات الأمم. هذا هو حال هؤلاء الشعراء المصريين مثل شكري وأبو شادي وإبراهيم ناجي وطه والمازني والعقاد ومطران، وكل المهجريين.

ولنتذكر أن روايات نجيب محفوظ الشهيرة في الوطن العربي كله تتسم بمقومات مثل الحوار والحوار الداخلي (المناجاة-المونولوج) والوصف الخارجي للمكان والأبطال الرئيسيين والثانويين والخ من مقومات سردية لم تكن موجودة عناصرها الأولى لا عند قصص ابن منبه ولا في ألف ليلة وليلة ولا في قصص العرب قبل الإسلام ولا بعده.

كان يمكن أن يحصل تطور لكل هذه الأشكال النثرية العربية القديمة فتنتقل من (التاريخية) واللغوية والاجتماعية والدينية إلى الحياة اليومية، لو استمر الأدب العربي بالصعود والتطور بعد الفترة العباسية التي شهدت بزوغ التجديد.

لم يحدث مثل هذا التطور حيث انشغل الكتّاب العرب بالتدوين التاريخي والاجتماعي والديني منذ سقوط بغداد على يد المغول عام 656 هج مما أدّى إلى بقاء العرب أسيري الماضي، وبقيت المقامة تراوح مكانها حتى في العصر الحديث عندما كتب اليازجي مقاماته (ليالي سطيح)، هذا إذا ما استثنينا إلى حد ما مقامة (حديث عيسى بن هشام) للمويلحي التي تميزت ببعض عناصر السرد الحديث ليس بدون التأثير الأوروبي. (5)

إذن من أين أتى محفوظ بهذه القدرة على الكتابة مستخدماً كل أساليب الرواية الواقعية الانتقادية كما عرفناها عند الكلاسيكيين الأوروبيين ومقومات الواقعية الاجتماعية؟428 khalil matran

إنها موهبة كتابة السرد أولاً وقبل كل شيء، والاطلاع الدقيق على الرواية الأوروبية الكلاسيكية والآداب الغربية بشكل عام، وهذا أمر لا يحتاج إلى الكثير من الأدلة والبراهين، فعلاقة جيل محفوظ بها معروفة، لكن الأهم هو كيفية إيجاد هذه التاثيرات في النصوص الأدبية من خلال التحليل النقدي المقارِن وليس بإطلاق الأحكام جزافاً.

فليس من الصعب مقارنة مقومات روايات محفوظ وأسلوبها بنظيراتها الأوروبية، لكن الأهم هنا برأيي هي الموضوعات والمضامين، التي اتسمت لديه بالمحلية بحيث أصبحت واسعة الانتشار في أوساط قراء العربية.

هذا هو سر نجيب محفوظ الذي جمع بين سحر الشرق وأزقته وتكنيك الغرب.

وعلى الرغم من أن نجيب محفوظ تربّى على العلماني سلامه موسى، كما قال هو بنفسه وأتقن صنعة الكتابة السردية ليس بدون الدور الإيجابي لاطّلاعه على الغربيين أمثال توماس مان ودوستوييفسكي وبلزاك وديكنز وغيرهم، وتوجهه نحو حارات مصر وأزقتها فأنتج "أولاد حارتنا" و"زقاق المدق" و"بدايه ونهايه"، وربط إلى حد ما بين مضامينه المحلية وأسلوب الكتابة الواقعية الأوروبية.

ولهذا نشرت الصفحات الثقافية العربية في السبعينات مقالاتٍ عديدةً تشير إلى تأثر نجيب محفوظ وأدباء عرب آخرين بالكتّاب الغربيين، لكن بعض "النقّاد" الصحفيين بالغوا ولايزالون يبالغون أحياناً في ترداد ما يقوله الآخرون عن تأثر هذا الأديب أو ذاك لمجرد سفره إلى أوروبا أو اطّلاعه على الآداب والنتاجات الغربية! فالاطّلاع على النتاج الأوروبي وحده لا يعني ضرورة التأثر به.

بلا شك، إننا لو توجهنا بهذا السؤال إلى هؤلاء الروائيين لأنكروا التأثر ولقدموا لنا تفاسير وآراء أخرى مختلفة، ويمكن أن يحصل التأثر من خلال لاوعي الكاتب وبدون إدراكه. وأحياناً أخرى يقر الروائي تأثره بهذا الكاتب الأجنبي أو ذاك كما هو الحال بالنسبة للراحل غسان كنفاني وتأثره بفوكنر، وغائب ط. فرمان مع إينازي سيلوني.

كما يتضح ذلك في تحليل خاص قمتُ به لرواية (النخلة والجيران) لغائب ط. فرمان وجدتها تشبه (فونتَمارا) للإيطالي إيناسيو سيلوني، ولا تخفى علينا قصة العلاقة بين الأولى ورواية نجيب محفوظ (زقاق المدق)، فمن تأثر بمن يا ترى؟ أم أنها العلاقات الأدبية "التايبولوجية" أوجه الشبه بينها لتشابه الظروف والبيئات الاجتماعية هي التي مارست فعلها؟

بالتأكيد أن تشابه الظاهرات الاجتماعية يؤدي إلى ظهور نتاجات أدبية متشابهة وليس بالضرورة نتيجة التأثر.

شهدت الخمسينات والستينات انتشار العديد من نتاجات الأدب الغربي، واطلع أدباء هذين العقدين على أعمال فوكنر وجويس وزولا ودوستويفسكي وشتانيبيك وأرثر ميلر وهمنغواي وسارتر وغيرهم الكثيرين أما عن طريق الترجمة أو القراءة المباشرة مما أثر على المستوى الفني لبعضهم من الفنانين الشباب آنذاك، الذين كانوا يسعون إلى إعادة خلق العالم من زوايا مختلفة عن تلك السائدة في أيامهم.429 almazni

وظهر كتاب عرب مثل إحسان عبد القدوس والسباعي والشرقاوي ومحفوظ وحنا مينا وغائب فرمان والطيب صالح والتكرلي وعبد الرحمن منيف ممن كتبوا رواياتٍ فنيةً، ولهذا يقال عنها إنها "متأثرة بالنتاجات الغربية".

وبما أن التأثير يفهم عند العرب تقليدياً، على أنه تقليد وسرقات أدبية، فنرى أن الأدباء العرب أكثر من غيرهم ينئون بأنفسهم عن هذه (التهمة) التي "تهدد" وسمعتهم وأصالتهم الأدبية. ونكرر هنا أيضاً بأن التأثر غالباً ما يُنظر إليه كأمرٍ غير مقبول أو سلبياً في فترته عندما ترفضه جملة العوامل الاجتماعية والبيئية التي يعيش فيها الكاتب بسبب اختلاف الظروف.

ولكن على أية حال، هناك تأثر بالمضمون، كالذي حدث بالنسبة للرومانتيكيين، الذين "استعاروا" موضوعات الحب وإرهاصاته، مثل الحب بين الفقير والغنية أو العكس، أو بين شباب ينتمون إلى فئات مختلفة كما هو الحال في قصص محمد عبد الحليم عبد الله مثل (لقيطة) و(تحت ظلال الزيزفون) و(شجرة اللبلاب) وغيرها من القصص الرومانتيكية، التي تذكرنا بـ (آلام فرتر) لغوته و(رفائيل) للشاعر الفرنسي لا مارتين وغيرهما.

أما موضوعة الفقراء وكفاحهم ضد الأغنياء، فهي بلا شك انتشرت انتشاراً واسعاً لدى الواقعيين بسبب الظروف الموضوعية المتشابهة مع البلدان الأخرى، متأثرين بـ (الأم) لغوركي أو (العقب الحديدية) لجاك لندن، وكانت حالات التأثر مختلفة حسب مستوى الكتّاب العرب فظهرت ما يسمى بالقصص الساذجة بسبب التصوير المباشر والتقريرية، التي لا يزال يعاني منها بعض الأدباء العرب.

الشرقاوي قدم لنا (الأرض) على نحو يختلف كثيراً عن الكتّاب الواقعيين المبتدئين فجمع بين المضمون الواقعي والمهارة الفنية ومقومات الرواية الأوربية، هناك مؤلّفون واقعيون لم يستمروا في الكتابة على نمط الواقعية فانتقلوا إلى تجارب أكثر تنوعاً مع المحافظة على مضامينهم الواقعية فقدموا نتاجات روائية أصيلة مثل أعمال صنع الله إبراهيم والقعيد والغيطاني وعبد الحكيم قاسم من الجيل الجديد الذي ظهر في السبعينات والثمانينات.

استمر كتاب الخمسينات الواقعيون مثل حنا مينا وغائب طعمه فرمان وغالب هلسا وآخرين ضمن هذا الخط، ولكن بأساليب أخرى، ومضامين مختلفة تنطبق عيها تسمية الواقعية الجديدة، أو الواقعية الفنية أو الواقعية المشوبة بالرومانتيكية، فهي فعلاً خليط بين مضامين واقعية ورومانتيكية بسبب ظروف الشرق وتكنيك الرواية الغربية، إذ إنهم (الواقعيون) استخدموا أدواتها إلا أن هذا لا يعني استنساخاً كاربونياً، بأننا لوغيّرنا أسماء شخصيات رواياتهم لحصلنا على نتاجات غربية، فالمحلية لدى أغلبهم قوية وعالم كبير يمارسون رحلاتهم فيه.

وهناك كتاب تأثروا بموضوعات تقع على الضد من المضامين الواقعية مثل الوجودية والفردية والعبثية في بعض الحالات القريبة من أساليب ألبير كامو وكافكا مثل الكاتب اللبناني جورج سالم صاحب رواية (في المنفى) 1962، وكتابات مطاع صفدي وثلاثية سهيل إدريس، التي طرحت الأفكار الوجودية.

اهتم نهاد التكرلي بالأدب الوجودي في العراق، كذلك سار على منواله الروائي فؤاد التكرلي بالأعمال الأوروبية وأعجب ببعض الأدباء، وكتب على طريقة الروائيين الفنيين المهتمين بالتكنيك، لكنه رفض فكرة تأثير فوكنر عليه لأنه أصلاً لم يُعجب به بسبب غموضه، ولكنه أديب يهتم منذ بداياته الإبداعية بالأدب الرمزي والتعمّق في وصف الشخصية من الداخل، قد يكون قبل اطّلاعِه على الوجودية.

لكن جبرا إبراهيم جبرا هو أكثر من أهتم بهذا النوع من الأدب، وبخاصة روايات وليم فوكنر فترجم (الصخب والعنف) ونشرها في بغداد عام 1961 وقرأها أغلب كتاب تلك الفترة وأعجب بها قسم منهم مثل غسان كنفاني بينما أنكرآخرون هذا الإعجاب أو التأثر بها، لكن يبدو واضحاً أن الجو العام الذي يحيط أعمال التكرلي وجبرا إبراهيم جبرا يختلف عن أجواء روايات عراقية أخرى لكتّاب واقعيين تتميز لغتهم بالوضوح والبساطة أحياناً.

سبق وأن أشرنا إلى (ظلال على النافذة) لغائب طعمه فرمان و(الصخب والعنف) لفوكنر التي قد تكون "أثرت" تكنيكياً فيها و(شرق المتوسط) لعبد الرحمن منيف و(الرجل الذي فقد ظله) لفتحي غانم. وكانت هذه الفكرة تتردد كثيراً في الصحافة العربية في السبعينات.

وهناك من يرى أن الراحل فؤاد التكرلي متأثر بنتاجات الوجوديين والغربيين، لكنه أكّدَ لي شخصياً في لقاءاتنا اليومية أثناء إقامته المؤقتة في دمشق، رفضَه لتأثره مثلاً بفوكنر لأنه أصلا لم يعجب برواياته!

هناك فرق كبير بين التأثر بنتاج غربي معيّن والكتابة على منواله وأسلوبه المتجسّد في الجو العام أو الموضوعة والشكل والتكنيك. يبدو هذا النوع من الروايات الفنية العالية لبعض التقّاد أنها كُتبت بفضل "التأثر" بالأدب الغربي، لكن هذا الأمر يحتاج إلى إثباتات أكثر دقة، وأوجه الشبه وحدها غير كافية.

ولكن هذا لا يعني بأن هؤلاء لمجرد أن قرأوا هذه الروايات الغربية تأثروا بها وكتبوا على منوالها، فهناك ذات الكاتب الإبداعية ووعيه وشخصيته وذات أخرى مستقلة "صورة الكاتب" تظهر أثناء عمله في مشغله هي التي تلعب الدور الحاسم في عملية الإبداع الأدبي وهي التي تظهر في حقيقة الأمر درجة مهارته وقدرته على الخيال والتصوير.

على الرغم من أن بعض النقاد العرب حاول ويحاول إعادة أصل النوع الروائي إلى التراث العربي، إلا أن هناك روايات عربية عديدة تثبت عكس ذلك، وتؤكد متابعة الكتاب العرب للتكنيك الغربي والمواظبة على ممارسته. ولم يصل الروائيون العرب إلى المونولوج إلا بعد مجهود كبير وفترة طويلة اطلعوا خلالها على أعمال كبار الأدباء الغربيين.

ولهذا فإن أغلب ما ظهر قبل نجيب محفوظ هو محاولات على طريق الرواية الفنية، وخطوات تمهيدية لم يكن للروائي العربي بدونها أن يصل إلى رواية اليوم المعاصرة المتميزة بالأصالة والفنية والقدرة على الاستيعاب والخلق والممارسة اللغوية ذات النغمات المتعددة.

هذه هي أهم خطوط العلاقة بين الرواية العربية والغربية، ولا بدّ للباحث في الأدب المقارن من توخي الحذر والدقّة عند مقارنتة للنتاجات العربية بالغربية لكي يجد التأثيرات الملموسة، وليس إطلاق الآراء "التعسفيّة" كما وصفها أكثر من روائي. في الثمانينات والتسعينات انتشرت الأعمال الروائية المترجمة من الإسبانية مثل روايات ماركيز وأمادو وغيرهما، وبلا شك أن هذه النتاجات جنباً إلى جنب مع الأعمال الأخرى المترجمة مارست حضورها في العملية الأدبية قد تكون مادةً مهمّةً لبحث موضوعات التاثير والتأثّر بين النتاجات الإبداعية.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

.........................

الهوامش:

نكتفي هنا بالإشارة إلى أهم الكتب، التي تُعد مصادر رئيسة في هذا المجال.

1- أبا عوض أحمد والمغاربي عبد اللطيف. الحركات الفكرية الأدبية في العالم العربي الحديث. المغرب 1979

- وانظر: د. أحمد هيكل، تطور الأدب الحديث في مصر من أوائل القرن التاسع عشر إلى قيام الحرب العالمية الثانية، ط2، 1971، القاهرة، محمد عبده الأعمال الكاملة، تحقيق د. محمد عمارة.

- د. عمر الدسوقي، في الأدب الحديث، ج1 -2، ط ح، 1980

2-  انظر د. لويس عوض، المؤثرات الأجنبية في الأدب العربي الحديث، ج1 قضية المرأة، ج2 في الفكر السياسي والاجتماعي ط4 دار المعرفة 1966.

- وانظر: د. محمد الكتاني، الصراع بين القديم والجديد، الرباط، 1982.

- أندريه ميكال، الأدب العربي، تونس، 1979، الفصل 1 عن الطهطاوي، فصل 2 بطرس البستاني

3- انظر حول هذا الموضوع: د. محمد الكتاني، الصراع بين القديم والجديد، الفصل التاسع

- د. شوقي ضيف، الأدب العربي المعاصر في مصر، القاهرة، ط4، 1971

4-  نشر عبد القادر المازني عام 1912 مقالاً في صحيفة (الجريدة) انتقدَ فيها حافظ إبراهيم وشوقي "شعرهم كلام منسجم وأسلوب رائع ولفظ شائق ... لكن شعرهما يفتقد إلى روح وشخصية الشاعر وروح العصر".. وفي عام 1914 كتب المازني مقالات في صحيفة (عكاظ) جمعها في كتابه (شعر حافظ) وفضل فيها شكري عليه. وفي عام 1921 صدر الديوان بالاشتراك مع العقاد حيث كرسا فصولا طويلة لنقد العقاد لشوقي، والمازني لحافظ إبراهيم.

هذه المراجع متوفرة في طبعات مختلفة.

5- لا أرى ضرورة لكتابة عناوين النتاجات الروائية العربية والغربية فهي معروفة للقارئ المتخصص وغير ضرورية للقارئ العادي، لا سيما وأنها كثيرة في هذا المقال الصحفي الموجز.

 

بقلم: ليديا مولاند

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

على الرغم من سمعة نيتشه في كراهية النساء، إلا أن أعماله ألهمت ناشطة بارزة في مجال حقوق المرأة في أوائل القرن العشرين.

***

يعد كوستين ألاماريو، وهو على الأرجح صاحب الاسم المستعار "منحرف العصر البرونزي"، إضافة جديدة إلى القائمة الطويلة من الشخصيات السياسية اليمينية ذات وجهات النظر العالمية الكارهة للنساء.كتب: "لقد استغرق الأمر 100 عام من وجود النساء في الحياة العامة حتى يتمكن من تدمير الحضارة بالكامل تقريبًا". ولاستبدال هذا الجنس الأنثوي، يدعو إلى "طبقة من الرجال الذين سيكونون قادرين على قيادة المجتمع نحو نحو أخلاقيات تحسين النسل" كما ادعى ألاماريو وجود أساس فلسفي لهذه النظرة العالمية. فى أعماله، المنشورة في وسائل التواصل الاجتماعي والكتاب المنشور ذاتيًا بعنوان "عقلية العصر البرونزي" (2018)، مستوحى من الفيلسوف الذي اشتهر بكراهية النساء: فريدريك نيتشه. كان نيتشه يشتاق إلى الإنسان المتفوق الذي يقلب الأخلاق التقليدية رأساً على عقب ويحرر الأقوياء من قيودها الخانقة. كان هذا الشوق يقترن أحيانًا بكراهية واضحة للنساء اللاتي اللاتي يقفن في طريق الرجال، مما يتطلب منهن أن يكونن عطوفات ومروضات بدلاً من التهور والقوة. يبدو أن هذا الاقتران يتناسب مع آراء ألاماريو، مما أكسبه امتياز تمثيل "الهامش النيتشوي" من المتطرفين المحافظين.

وما النساء في المجتمع الذي عاش فيه نيتشه وشتوكر، إن لم يكن الضعيفات؟

إن سمعة نيتشه الكارهة للنساء ليست جديدة: فقد كانت راسخة ونوقشت طوال حياته. لكن هذا لم يمنع امرأة ذكية للغاية من تبني قضية نيتشه ، ومن عجيب المفارقات، القيام بذلك باسم تمكين المرأة. إن احتضانها لنيتشه جعلها واحدة من أقوى النسويات الألمانيات في جيلها. كما سمح لها بتمكين نيتشه وهذه المثيرة للشفقة لانتصار الأقوياء.

ولدت هيلين شتوكر عام 1869 في ظل القيود الخانقة للاحترام البرجوازي الألماني. بعد أن كانت غاضبة من القيود الدينية والثقافية عندما كانت مراهقة، اكتشفت نيتشه في سن الحادية والعشرين. وكتبت بعد عقود: "من هذه اللحظة فصاعدًا... اهتمامي، وفرحتي، وإثراءي من خلال نيتشه... لم يتوقف أبدًا" (جميع ترجمات شتوكير كتبها ليديا مولاند). "لا أشعر بنفسي مرتبطًا بشدة بأي روح فانية أخرى." وجدت في نيتشه ازدراءًا لاذعًا للمعايير التي عفا عليها الزمن، ورؤية لإنسانية متحررة من التقاليد، وحضًا على أن تكون على طبيعتك، مهما كان الثمن. وكتبت: "أنا مدينة له بامتناني الخاص لتحريرنا من الدوغمائية والقانونية، ولسماحه لأولئك الذين يعيشون على ثروته الكبيرة بالحرية الداخلية لتطوير كيانهم". في عام 1901، دافعت شتوكر عن أطروحتها حول الجماليات الفلسفية، مما جعلها واحدة من أوائل النساء الألمانيات اللاتي حصلن على درجة الدكتوراه. في المحاضرات والمقالات، بدأت في الترويج لفكر نيتشه، وساعدت في إخراجه من الهوامش الأكاديمية المخزية إلى المكان المركزي في الشريعة الفلسفية التي يتمتع بها الآن.

مثّلت كراهية نيتشه للنساء مشكلة. في كتابه "في أصل الأخلاق" (1887) وأعمال أخرى، تصور مجتمعًا من النخب غير مقيد بالتعاطف مع الضعفاء، وغير مقيد بالروابط التقليدية. وما  النساء في المجتمع الذي عاش فيه نيتشه وشتوكر، إن لم يكن الضعيفات؟ ألم تكن مطالبتهن بإخلاص الرجال ولياقتهم عائقاً خانقاً أمام قوتهن الطبيعية؟ ألم تعق حاجتهن إلى الحماية «إرادة القوة» التي كانت الشيء الوحيد، بحسب نيتشه، الذي يمكن أن ينقذ الناس من انحطاطهم؟

يبدو أن شتوكر لم تشك قط في قدرتها على المطالبة برؤية نيتشه للحرية لنفسها ولجميع النساء. وفي وقت مبكر من عام 1892، بدأت باستخدام نيتشه للقول إن إزالة قيود المجتمع من شأنها أن تسمح للمرأة بأن تصبح حرة وقوية. لقد نسبت إليه الفضل في تدمير أخلاق الزهد التي ادعت أنها تجد "شيئًا فاسدًا وغير طاهر" في النساء. وأثنت على كراهيته للوداعة والرضا عن النفس، وحثت قراءها على أن "الوقت قد حان لنضال جديد ومبهج وبدلاً من القيود التقليدية، تصور ستوكر «أخلاقًا جديدة» قوامها القوة والمتعة. وكتب أن هذه الأخلاق الجديدة لم تعد بأقل من "إنسانية جديدة - رجال ونساء - بشر نيتشه المتفوقين، الذين يُسمح لهم بقول نعم للحياة ولأنفسهم". "أعتقد اعتقادا راسخا أن الوقت قد حان لكي تكون النساء أكثر وعيا بهذه السعادة القصوى التي لا يستحقها إلا البشر." كانت تعلم أن هذا كان جريئًا. وتحدت قراءها: "هل تقول إننا نطلب الكثير؟". وأكدت لهم: "أوه، نحن لا نطالب بذلك". "نحن نأخذها لأنفسنا: الطريقة المعقولة الوحيدة لإضفاء الشرعية في العالم."

ومع ذلك، كان ازدراء نيتشه للنساء محرجًا. تناولت شتوكر المشكلة بشكل مباشر. في مقال نشرته عام 1901 بعنوان «كراهية نيتشه للنساء»، اعترفت بأنه غالبًا ما كان يهاجم النساء، وخاصة الذكيات منهن، ويهدد بإحضار السوط عندما يزورهن. لكن الأحمق وحده، كما تزعم، هو الذي قد يفشل في رؤية أن نيتشه كان يقصد ذلك على نحو مثير للسخرية. وهي تعترف بأن نيتشه عرّف سعادة الرجال بأنها الإرادة الخالصة، وسعادة النساء، على النقيض من ذلك، هي إخضاع أنفسهن لإرادة الرجال. ومع ذلك، فهي تصر على أن هذا ينطبق فقط على النساء المشوهات من قبل المجتمع الفاسد الذي استنكره نيتشه. وتشير إلى فقرات يتخيل فيها نيتشه نساءً "نبيلات، متحررات العقل" "يناضلن من أجل رفع مستوى جنسهن". وتؤكد لنفسها أن نيتشه "تحدث بكلمات جادة ورائعة عن النساء... لدرجة أننا يمكن أن نسمي أنفسنا سعداء، إذا كان كل الرجال أعداءً للنساء" .ومع اكتمال تبرئة نيتشه من سمعته، عادت شتوكر إلى توضيح "دين الفرح" عند نيتشه... الذي يحول كل شيء أرضي إلى شىء متألق [و] إلهي" وإلى التخمينات اللاهثة حول "أي نوع من البشر سيصبح ممكنًا على هذا النحو!"

سعيًا وراء هذه الإمكانية المسكرة. فعلت شتوكر ما يبدو أقل شيء نيتشوي ممكن: ذهبت للعمل لمساعدة الضعفاء. أصبحت واحدة من أبرز الناشطات النسويات في جيلها، وكرست حياتها للقضاء على الظروف البائسة التي أبقت النساء في حاجة وتبعية. ناضلت من أجل الوصول إلى الإجهاض، وإجازة أمومة مدفوعة الأجر، والحماية القانونية للأمهات العازبات. نشرت اعتراضات قوية على القواعد التي تسمح للرجال بزيارة البغايا، لكنها طالبت بعفة النساء، ثم نبذت النساء بسبب الأمراض المنقولة جنسيا التي أصبن بها من أزواجهن.  أصبحت محاضرة معروفة عالميًا، مستخدمة رؤيتها للأنوثة المتحررة للدفاع عن ظروف عمل أفضل للنساء بالإضافة إلى وصولهن إلى التعليم العالي. وما أثار رعب حلفائها الأكثر تحفظا هو أن شتوكر دعت أيضا إلى الحرية الجنسية والإشباع الجنسي، زاعمة أن الحب المحقق بالكامل ــ الجسدي والروحي ــ هو الذي يمكن للمرأة أن تحقق إمكاناتها النيتشوية. ساعدت في تأسيس رابطة حماية الأمهات والإصلاح الجنسي وتحرير المجلات التي تعبر عن آراء المجتمع. في مقال تلو الآخر، زعمت أنه يجب السماح للنساء باختيار متى ومع من تنجب أطفالًا، ويجب تزويدهن بالرعاية الصحية التي من شأنها أن تسمح للأطفال بالنمو. وكتبت: "أتباع الأخلاق الجديدة يطالبون بأن تكون كل أم ألمانية قادرة على تغذية طفلها". وأضافت أنه لتحقيق هذه الغاية، “يجب أن تكون هناك شروط قانونية أساسية” لازدهار المرأة.

على الرغم من نسوية ستوكر التقدمية، إلا أن نظرتها للعالم أصيبت بموضوع نيتشوي أكثر قتامة والذي يتردد صداه أيضًا في كتابات ألاماريو. كانت ستوكر جزءًا من الجناح "الاجتماعي الراديكالي" لحركة تحسين النسل: وهي مجموعة ضمت ناشطات نسويات يرغبن في ضمان إنجاب النساء لأطفال "طبيعيين" أصحاء. وكان هذا أيضًا جزءًا من فكرة "الإنسانية الجديدة" النيتشوية التي ستكون خالية من المرض والتشوه. لم تدعو ستوكر صراحةً إلى التعقيم القسري أو القتل الرحيم. ولم تكن، على حد علمي، من دعاة تحسين النسل العرقي. لكنها أعطت مساحة في مذكراتها للآخرين الذين كانوا كذلك، واقترحت هي نفسها أن «المجتمع يجب أن يمنع الحمل» بين أولئك الذين يعانون من أمراض وراثية. وفي عالم أنشأته أخلاقياتها الجديدة، تخيلت أيضًا أنه سيكون من الضروري «إيجاد وسائل لمنع المرضى الذين يعانون من أمراض غير قابلة للشفاء أو المرهقين بسبب التكاثر ». كما أن استخدام ستوكر للمصطلحات النيتشوية التي استولى عليها النازيون لاحقًا، مثل الإنسان الأعلى والنظرة العالمية، كان له تأثير أيضًا على تشويه سمعتها كما أن صداقتها التي دامت طيلة حياتها مع شقيقة نيتشه، القومية الآرية إليزابيث فورستر نيتشه، ينبغي أن تجعلنا نتوقف جدياً.

سوف يسارع بعض علماء نيتشه إلى الرد بأن كل هذا غير عادل لنيتشه. لكن نيتشه غالبا ما يحصل على تصريح مجاني. الفلاسفة الذين أقدرهم يكتبون بشكل مؤثر حول كيف يمكن لنيتشه أن يساعدك على تحقيق الذات، أو التغلب على الاكتئاب، أو أن تكون متعاونًا بشكل أفضل في العمل. قد يبدو نيتشه الذي تم تصويره على هذا النحو وكأنه ليس أكثر من مجرد مدرب ودود للمساعدة الذاتية، يشجعك على أن تكون صادقًا مع نفسك، مهما كان ما يقوله رئيسك أو شريكك أو المجتمع. صحيح أن هذا النوع من الإلهام يمكن العثور عليه عند نيتشه. وصحيح أيضًا أن القانون الفلسفي سيكون أكثر فقرًا بسبب غيابه. ومع ذلك، يجب علينا أن نعترف أيضًا بأن فلسفته توفر أرضًا خصبة لهذا النوع من عبادة البطل الاستبدادية التي يمثلها ألاماريو وأن النشطاء والمدونين المحافظين اليمينيين المتطرفين ينشرون بنشاط إلى جمهور متزايد.

وكجزء من تحليله لألاماريو ومكانته بين المثقفين اليمينيين في صحيفة نيويورك تايمز، يحذر الصحفي دامون لينكر من أنه "من الصعب معرفة مدى جدية التعامل مع كل هذا". يبدو أن ألاماريو أحيانًا ما يكون كاريكاتيريًا وساخرًا عن عمد، ويكسر قواعد الجدل تمامًا كما يريد كسر النظام الاجتماعي. وربما تعلم هذا من نيتشه أيضا، ولكن مزيجه من الأساطير والسخرية والطيش أكسبه إعجاب العديد من الطلاب الجامعيين ــ وخاصة، في تجربتي، الطلاب الجامعيين الذكور.

إن تبنى شتوكر للمصطلحات النيتشوية التي استولى عليها النازيون لاحقًا قد شوه سمعتها أيضًا.

ومن المهم أن نلاحظ أن شتوكر نفسها لم تأخذ المخاطر الواضحة في رؤية نيتشه للهيمنة النخبوية على محمل الجد بما فيه الكفاية. ومع استمرارها في العمل من أجل تحرير المرأة بعد الحرب العالمية الأولى، بدأ الفاشيون الألمان في استخدام نيتشه للدفاع عن عصر «ما بعد الليبرالية». لقد أطلقوا على "الأرستقراطيين الطبيعيين" اسم "المتحدرين الروحيين" مثل بينيتو موسوليني وأدولف هتلر نيتشه. بدأ ألفريد بوملر، باحث نيتشه الرسمي في الرايخ الثالث وأستاذ الفلسفة في برلين، في الدفاع عن ما وصفه ستيفن أشهايم بأنه «إعادة تأكيد نيتشوية للقيم الذكورية البطولية والمجتمعية». هذا النوع من الحجج جعل شتوكر، التي تجرأت على تطبيق فلسفة نيتشه التحررية على النساء، منبوذة. ولسمعتها العالمية كمدافعة عن حقوق المرأة أدركت أنه عندما يصل النازيون إلى السلطة في عام 1933، سيكون اعتقالها وشيكًا. وبين  يوم وليلة، هربت: أولاً إلى سويسرا، ثم إلى إنجلترا، ثم إلى السويد. مع اقتراب الجيوش النازية، استقلت أخيرًا خط السكة الحديد العابر لسيبيريا عبر روسيا وباخرة من اليابان إلى سان فرانسيسكو. وبعد عقد من المنفى، توفيت لاجئة فقيرة في مدينة نيويورك. وعلى بعد محيط من المحيط، استمرت النخب الملهمة بنيتشه في السعي وراء نسخة من "الإنسانية الجديدة" التي كادت أن تدمر حضارة: ليس في غضون 100 عام، كما يزعم اتهام ألاماريو لسلطة المرأة، ولكن خلال العقد القصير الأخير من حياة هيلين ستوكر العاطفية المستوحاة من نيتشه.

***

..........................

المؤلفة: ليديا مولاند/Lydia Moland: ليديا مولاند أستاذة الفلسفة في جامعة جون دي وكاثرين تي ماك آرثر في كلية كولبي في واترفيل بولاية مين.  تشمل كتبها:  ليديا ماريا تشايلد: حياة أمريكية راديكالية (2022)، جماليات هيجل: فن المثالية (2019) المحررة لمجموعة (كلها إنسانية للغاية): الضحك والفكاهة والكوميديا في فلسفة القرن التاسع عشر (2018). وهي أيضا محررة مشاركة لكتاب أكسفورد القادم عن الفلاسفة الأمريكيين والبريطانيين في القرن التاسع عشر.

* ولدت هيلين شتوكر في 13 نوفمبر 1869 ونشأت في عائلة كالفينية متشددة في فوبرتال بألمانيا. كان تعليمها وتدريبها المهني، كما هو متوقع، محافظًا. وفي عام 1893 اجتازت امتحان المعلمين في المدارس الثانوية للبنات. حررت نفسها في منتصف العشرينات من عمرها: كانت واحدة من أوائل الإناث المقبولات في دورات التدقيق، ودرست التاريخ الأدبي والفلسفة والاقتصاد في جامعة برلين. لكن لم يكن مسموحًا للنساء بعد بالحصول على شهادة جامعية، لذلك ذهبت شتوكر إلى غلاسكو ثم إلى برن، لتصبح واحدة من أوائل الإناث اللاتي حصلن على درجة الدكتوراه في الأدب، في عام 1902. أصبحت ستوكر واحدة من أهم الأصوات في الحركة النسائية التي كانت تزداد قوة في ذلك الوقت، ودافعت عن قبول النساء في الجامعة، وناضلت من أجل تحررهن الجنسي. وفي وقت لاحق من حياتها، أصبحت من دعاة السلام بشدة ومعارضة للخدمة العسكرية. بعد وصول الاشتراكيين الوطنيين إلى السلطة، أصبح الوضع صعبًا بالنسبة لها: ففي عام 1937، تم تجريدها من جنسيتها ودرجة الدكتوراه، وم الاستيلاء على حسابها البنكي، ووضع كتاباتها على قائمة "المطبوعات الممنوعة وغير المرغوب فيها". وأحرقت مخطوطاتها. تمكنت ستوكر من الهجرة إلى سويسرا ومن ثم إلى الولايات المتحدة حيث توفيت بعد ذلك بوقت قصير فى عام 1943 .

وما النساء في المجتمع الذي عاش فيه نيتشه وشتوكر، إن لم يكن الضعيفات؟

إن تبنى شتوكر للمصطلحات النيتشوية التي استولى عليها النازيون لاحقًا قد شوه سمعتها أيضًا.

رابط المقال على سايكى /Psyche 29 فبراير 2024

https://psyche.co/ideas/how-the-feminist-philosopher-helene-stocker-canonised-nietzsche

 

لا يكاد يخلو عصر من العصور من جهودٍ لعلماء وباحثين في شؤون العلم والدين . ففي وقت لم يكن فيه العلم متمكناً من تقديم اجابات مقنعة، كان الدين حاضراً في تصورات الناس واعتقاداتهم . ثم جاء وقت انحسرت فيه قدرة البحث الديني عن تقديم اجوبة مقنعة أمام ما يحرزه العلم من انجازات جذبت الأذهان والنفوس اليها، ففي نهاية القرن التاسع عشر مثلاً كانت الآراء لصالح غلبة العلم في قدرته على اعطاء وصف مقنع للحياة واجابات كافية لأسئلة اثارتها طبيعة الاحداث . في هذا الصدد يذكر الكاتب المصري عباس محمود العقاد في كتابه (آراء المفكرين في القرن العشرين) ان جيمس فنز جيمس ستيفن كتب في سنة 1884م يقول: (اذا كانت الحياة الانسانية في نشأتها قد استوفى العلم وصفها فلست أرى بعد ذلك مادة باقية للدين، إذ ماهي فائدته وما هي الحاجة اليه ؟ إننا نستطيع ان نسلك سبيلنا بغيره، وان تكن وجهة النظر التي يفتحها العلم لا تعطينا ما نعبده فهي كفيلة ان تعطينا كثيراً مما نستمتع به ونتملاه) (1). وعن القرن العشرين يقول عباس محمود العقاد (نحسب اننا نجمل سمة القرن العشرين اصدق إجمال حين نقول: انها هي سمة الشك في الإنكار) .. ويقول العقاد (فليس من صحة الحكم ولا من صدق النظر ان يقال ان سمة الإيمان غالبة على القرن العشرين أو بينة الأثر فيه، ولكنه صحيح ولا ريب ان يقال ان المنكر في القرن العشرين لا يستطيع ان يستند الى اسباب من العلم يسلمها المفكرون كما كانوا يسلمون اسباب الإنكار في القرن السابع عشر، او القرن الذي يليه الى اوائل هذا القرن الذي نحن فيه) (2).

كان الأثر الذي خلفه اكتشاف كوبرنيكوس حول الأرض صادماً للمتلقين الذين يسيطر العقل الديني على تفكريهم لأن الارض في اعتقادهم مركز الكون، بينما هي كوكب صغير في مجموعة شمسية ضمن سلسلة كبيرة من المجموعات قد يصل عددها الى الآلاف في اعتقاد كوبرنيكوس .

ترى كيف هو تصور انسان اليوم في القرن الحادي والعشرين حيث التطور التقني المتسارع وثورة المعلومات والتدفق الهائل للبيانات، وهو يسمع تحليلات وتوقعات علمية تتحدث عن تهديد يتوعد الحياة على هذا الكوكب الصغير؟.

بالأمس كان لمذهب النشوء والارتقاء لـ (دارون) اثره السلبي في النفوس عندما عرف الانسان بالحيوان الناطق، وان نشوءه وتطوره لا يختلف عن الكائنات الحية الأخرى .

اليوم وفي مجال الذكاء الاصطناعي هناك مشاريع تعمل على انتاج روبوت يعيش مع الانسان، ومشاريع اخرى تعمل على تقنية متطورة لدمج الانسان بالآلة . فكيف سيكون تصور الانسان للدين في القرن الواحد والعشرين وعن حاجته اليه، اذا دخلت الروبوتات الصغيرة الدقيقة الذكية الى جسمه وراحت تنظم مستوى السكر في دمه وتنظم ضربات القلب وضغط الدم ولزوجته، الخ.. . يضاف الى كل ذلك ما تتناقله وسائل الإعلام ومراكز الابحاث من معلومات حول برامج ومشاريع عالمية تهدف الى تعميم ثقافة واحدة يفرضها الأقوى والأقدر اقتصادياً وعسكرياً وتقنياً، فأي تصور عن الدين سيكون عندئذ في ظروف لا يتوافر للناس فيها غير الإذعان لواقع الحال والقبول بالتبعية للأقوى ضماناً للبقاء .

لعلي لا أقلل من شأن الجهود المبذولة في دراسة تقارب الحضارات وحوار الحضارات اذا قلت انها مشاريع لا ترمي الى وحدة النوع الانساني بقدر ما ترمي الى جمع المتشابهات واعادة بثها من خلال مركز القوة الأكبر عالمياً بهدف إلغاء وتذويب الخصوصيات التي تتسم بها كل ثقافة، لكي يصبح الجميع تبعاً لحضارة جديدة واحدة على وفق تلك المشتركات، اذا اخذنا في نظر الاعتبار ان كثيراً من الجامعات العالمية الرصينة لا تقوم بأبحاث كبيرة مثل حوار الحضارات ووحدة الأديان وغيرها إلا بتمويل وإيعاز أو بطلب من جهات عالمية متنفذة، لها مآربها التي تريد ان تحققها من خلال النتائج التي يتوصل اليها العلماء .

واذا كانت ثنائية الخير والشر قد هيمنت على اجواء القرن العشرين بسبب تذمر الناس من الحروب العالمية بما نتج عنها، فإنني اعتقد ان ثنائية الوهم والحقيقة هي التي تهيمن اليوم على اجواء القرن الواحد والعشرين، فقد قدّمت التقنية المتطورة تعريفات جديدة لمفاهيم الحرية والكرامة والشخصية، وصارت هذه المفاهيم تتحرك وتعرف في مجال المال والاعمال ومشاريع الاقتصاد السياسي العالمي .

ارتبط ايمان عامة الناس بالدين من خلال حب الحياة المرتكز على ثنائية الرزق والعافية، فكانت حياتهم بسيطة حتى القرن العشرين تقريباً، إذ كان للقناعة فعلها المؤثر، وللقول (رزق قليل دائم خير من كثير منقطع) ما يعزز تلك القناعة، فكان الناس في العالم العربي الإسلامي يقبلون بالقليل ويقنعون باليسير، وكانت الطبيعة أكثر رفقاً بصحة الانسان منها اليوم إذ لم تسجل الارتفاع في عدد الامراض والاوبئة الذي تسجله اليوم . خدم ذلك حضور البعد الروحي للدين في تفاصيل حياة الناس، فكانت الاخلاق والالتزام الديني سمة بارزة في الهوية الشخصية للفرد العربي . فماذا عن الدين في تصورات الناس في القرن الواحد والعشرين وهم يقرأون ويسمعون عن اجندات ومشاريع عالمية تمول ابحاثاً علمية لانتاج اوبئة وفيروسات الكترونية وبيولوجية لحمل الناس على شراء اللقاحات والعلاجات التي تحميهم من الإصابات المحتملة بتلك الاوبئة المفتعلة ؟ لا شك انه امر مقلق .

ان قدرة الناس على التعامل مع التطورات المرحلية التي يترتب عليها المساس بالدين ، أو محاولة تغييره كانت كبيرة في الماضي بحكم الظروف المرحلية للبيئة المحلية والاقليمية والعالمية، كلها اجمالاً كانت الى جانب الحضور الفعال للبعد الروحي للدين في مفاصل الحياة . أما اليوم فقد أخذت طاقة تحمل الناس تتراجع عما كانت عليه بالامس، فالصبر لم يعد سلاحاً مؤثراً كما في السابق لأن ادوات العصر الجديد اختلفت عن السابق، هي اليوم اكثر تطوراُ وفاعلية وجاذبية . فعصر التقنية المتطورة قد لا يدعم تغييب الدين في حياة الناس لكنه بكل تأكيد يدعم وبقوة فاعلية حضور العلم المادي ويبشر بقدرته على حل جميع مشاكل الناس، فبرامج الذكاء الاصطناعي تعمل على توفير حلول مقبولة تناسب ظروف كل مرحلة، وان كانت تلك الحلول لا تتوافق مع المنطق الاخلاقي والديني والانساني  المسلّم به، وهذا بحد ذاته كاف لكثير من الناس الذين لم يعودوا يسألون ان كان مهماً تحقيق هذا التوافق ام لا، فالوضع العام اقتصادياً وثقافياً لم يعد يتقبل مفاهيم الدين والقيم والاخلاق والمثل العليا الا في الحدود التي لا يتقاطع تفعيلها مع المصلحة الخاصة . والذين لا يزالون يعتقدون بالدين والقيم والمثل العليا والاخلاق ويدافعون عنها بدأوا يشعرون بالغربة داخل مجتمعاتهم واوطانهم ولعلهم يعيشونها فعلاً، إذ لم يبق لهم في عصر السرعة وازدياد متطلبات الحياة سوى المجاملات الاجتماعية والثقافية وسيلة للتعامل مع الآخرين .

في إطار معطيات العصر الجديدة لم يعد الواقع قادراً على توفير أرضية خصبة للتفكير الموضوعي، كما ان البحوث الدينية لم تقدم ما يثير الفرد والمجتمع ويدعوهم الى التثبت والتشبث كما تفعل البحوث العلمية ومخرجات عصر التقنية الرقمية متسارعة التطور.

كان الذوق العام يشكل قوة كبيرة مانعة لحركة السلوكيات الشاذة والمنحرفة والغريبة، وكان الذين يعلنون عن مواقفهم وعواطفهم الغريبة او الشاذة يجازفون بحياتهم كونهم يعرضون النسيج الإجتماعي والبناء الإجتماعي الى الأذى والضرر . اما في عصر التقنية فبعد ان اخذ مفهوم الحرية مساحة فهم مرنة جداً عبر وسائل التواصل الإجتماعي فقد تجرأ كثير من الناس على استخدام تلك التقنية للتعريف بهواهم وميولهم وافكارهم وعواطفهم ومواقفهم دون اعتبار لما يمكن ان يلحقه ذلك من ضرر بالذوق العام للمجتمع، فانتشرت المحتويات الهابطة على مواقع التواصل الإجتماعي، منها ما يعرّض كرامة وسمعة وشرف صانع المحتوى الى الانتقاص بدافع نشر الغريب والمثير من أجل كسب اكبر عدد من المعجبين والمتابعين وهو ما يضمن كسباً مالياً اكثر بحكم سياسة عمل شركات الإنتاج الالكتروني المصنعة لتلك التطبيقات الالكترونية، ومضى الحال ببعض المحتويات الهابطة افتعالها الأكاذيب ونسبتها الى أشخاص والى مصادر معتبرة من الكتب والكتاب والمفكرين، مستغلين ضعف الإرتباط بين مجتمع اليوم وبين حقيقة ثقافته من جهة، والإعتماد الكلي لكثيرين على شبكة الإنترنت في استحصال المعلومات كمصدر وحيد بالنسبة لهم . وبرزت هنا مشكلة ثقافية خطيرة تتمثل في اقتحام بعضهم منصات التواصل والتطبيقات الرقمية لبث افكار مغلوطة أو مموهة أو منقوصة، واحياناً لتقديم افكار غريبة ذات صلة باعتقادات متأصلة في ثقافة العقل العربي عبر طروحات معتبرة يعاد صياغتها لعرضها على المتلقي على انها طروحات علمية وفكرية وثقافية واجتماعية، وهنا قد تدخل الخطورة على خط البث المباشر عندما تكون هناك اجندات تحركها شركات عابرة للانسانية تريد اعادة هيكلة الوجود البشري في اطار رقمي تقني يرتكز على ثنائية الانتاج والاستهلاك فقط دون اعتبار أو اهمية لمشروع انسنة الوجود البشري في العالم الرقمي .

في عصر التقنية المتطورة لا مجال لتعريض إيمان الآخرين الى التشكيك ما داموا لا يرون انفسهم خارج دائرة فكرة الإيمان وان اظهروا سلوكيات أو افكار قد تضعهم موضع الشك، لذا نحن بحاجة اليوم في واقعنا الثقافي الديني والعلمي الى نقد يتجاوز فكرة الإيمان ليصل الى نقد فكرة التعبير عن ذلك الإيمان .

يقول السير آرثر إدنتجون في كتابه (فلسفة العلم الطبيعي) (نحن حتى في العلم ندرك ان المعرفة ليست بالأمر الوحيد الذي نعتد به، ونسمح لأنفسنا ان نتحدث عن روح العلم .. وان اعمق من كل قضية من قضايا النكران لهي العقيدة التي هي قوة خالقة اهم مما نخلقه .. وفي عصر العقل تظل العقيدة راجحة لأن العقل بعض مادة العقيدة) .

عندما يتحرك العقل المعاصر بدافع القوة المادية للتقنية المتطورة في مناقشة أفكار وآراء وإعتقادات يدخل فيها البعد الروحي فإنه يعرض نفسه الى الخطر حين يسأل عن كيفية إثبات حقيقة الوحي تحت المجهر العلمي ولمّا تعذّر عليه ذلك انحرف عن حالة التوازن باتجاه حالة القلق الباعثة على الشك، وراح يترجم اضطرابه على شكل استفهامات عن حقيقة اتصال الأنبياء بالله عن طريق الوحي الذي لم يثبت له وجود في مختبرات العلم المتطور في عصر التقنية . لقد حصل هذا بالفعل وهو وان كان على نطاق محدود لكن لا يوجد في فضاء العالم الرقمي ما يمنع اتساعه . لذا يدعونا حسّنا الثقافي الى تحمل مسؤولية ما سيخيم على مناخ مستقبل ابنائنا من اعتقاد وتفكير خصوصاً وان انسان اليوم لم يعد يكترث للصورة التي كان عليها في الماضي بقدر انشغاله بالصورة التي سيكون عليها غداً في ظل مشاريع الذكاء الاصطناعي المثيرة والجذابة التي تعده بقدرتها على منحه العمر الذي يريده في حياته، وتشتغل بفاعلية كبيرة من اجل ان توفر علاجات لتقدم العمر .

يحتاج الواقع الثقافي الديني والواقع الثقافي العلمي الى علم موضوعي جديد يتناسب مع المتغيرات العالمية في كل المجالات، فعندما يتفق العلماء على ان حياة الانسان لم تخل في اي مرحلة من مراحلها من وجود دين فيها . كما يتفق العلماء على ضرورة العلم في تطور حياة الانسان، فإنني أرى ان هذا الاتفاق والتوافق لا يمكن ان يحدث في حدود العمر الزمني للانسان فقط دون عمره النفسي، كما ان الشخصية بشكل عام لا يمكن ان يحددها المظهر الذاتي للشخص دون المحتوى الموضوعي له . فعندما لم يصل العلم حتى اليوم الى طريقة صحيحة ودقيقة لتشخيص درجة ومقدار نضج الشخص فقد استحوذت التفاهة والاستغفال على مساحات نظيفة في حياة الناس، الأمر الذي ترك آثاره السلبية على نظرة الجمال التي يفترض ان يرى بها الناس وجودهم في الواقع او في الأذهان فقد ساءت الظروف حتى غاب الجمالي الحقيقي وحل محله المظهر المبرقّع بعمليات التجميل والشد والجذب والإضاءة والإعلام والتزييف الثقافي للحقائق . لقد تمكنت لغة الخداع والترقيع  من ثقافة المجتمع بعد إدخال تفعيلات رقمية عليها فصارت المشاريع الثقافية مشاريع استثمار تهدف إما الى مزيد من الكسب المالي أو الى مزيد من ترقيع ثقافة واقع مجتمعات اليوم فهي مشاريع توظيف لأجندات معينة اكثر منها مشاريع تثقيف يرتجى منها تمكين المجتمع ثقافياً، ففي انشطة ثقافة السلطة هناك قصور للثقافة في كل محافظات البلاد في العراق وهناك مكتبات مركزية يتم اعادة تأهيلها على وفق التطور التقني والعمراني وهناك دورات فنية ومسابقات أدبية وجوائز نقدية، ومعارض فنية ومعارض كتب . وهناك غياب واضح ومخيف للوعي الموضوعي كحالة اجتماعية عامة وكحالة خاصة في حياة كثير من الناس . فقد نجد أشخاصاً بمؤهلات اكاديمية يوظفون القضايا الكبيرة في اعتقادات الناس مثل رفض الاحتلال ورفض التطبيع ورفض الاستعمار عبر كتابات ولقاءات ومقاطع فديو يخضع انتاج نصوصها وموادها الى قوة واحدة غالبة على مشهد الحياة العامة في العالم وهي قوة العلم في مساره التقني والاصطناعي فيسوّقون للناس افكارهم المادية الأحادية الاتجاه على انها هي المنقذة والرامية الى تطور العقل الثقافي العربي من خلال إضعاف وتغييب فكرة ان قوة الدين لا يزال بمقدورها اقامة حضارة عربية جديدة في عصر التقنية، فيثيرون بدلاً عنها فكرة ان الدين انتهى كقوة امام قوة العلم التي باتت قادرة على اعطاء اجوبة وتفسيرات لكثير من القضايا التي هيمنت عليها ثقافة العقل الديني لسنوات طوال دون ان تتمكن من تقديم ما يقنع العقل المعاصر في ظروف العالم الجديدة . لذا فإننا اليوم بحاجة الى البحث في انثروبولوجيا الواقع من حيث التسليم بثنائية حضور الدين والعلم في منح الوجود صفة الحيوية الواعية التي يتميز بها الانسان عن غيره من الكائنات الحية . والتسليم باهمية حضور ثنائية الوعي التلقائي والوعي الموضوعي، واهمية حضور ثنائية العمر الزمني والعمر النفسي للانسان، واهمية حضور لغة الوعي الانساني أمام لغة التقنية الرقمية،  واهمية تفعيل مشاريع صناعة الوعي الإنساني أمام مشاريع صناعة الذكاء الآلي، لنصل الى حالة التوازن التي دعا اليها نبي الأمة الخاتم حين قال: (اطلبوا العلم طلباً لا يضر بالعبادة واطلبوا العبادة طلباً لا يضر بالعلم) .

***

د. عدي عدنان البلداوي

....................

1- كتاب أراء المفكرين في القرن العشرين - عباس محمود العقاد الصادر سنة 1984م عن دار المعارف في بيروت - ص23

2- كتاب أراء المفكرين في القرن العشرين - عباس محمود العقاد الصادر سنة 1984م عن دار المعارف في بيروت - ص27

التجربة الهولندية

(لماذا يعتبر النظام التعليمي في هولندا من افضل الانظمة التربوية في العالم؟)

من منا كان يتصور ان دولة صغيرة مثل هولندا ستصبح مصدر الهام للعالم اجمع في مجال التعليم؟ فبفضل تركيزها على تطوير مهارات التفكير النقدي والابداع، وتوفير بيئة تعليمية محفزة ومتنوعة، استطاعت هولندا ان تبني نظاما تعليميا يرقى الى مستوى التحديات العالمية. حقيقية لا مراء فيها ان هولندا هي المكان الذي يتناغم فيه الابتكار والتعليم.

ان هولندا ليست مجرد دولة تتميز بتقدمها في انتاج الاجبان والزهور كما نعرفها، بل هي ايضا دولة صناعية تستثمر بشكل كبير في راس مالها البشري، ايمانا منها بان التعليم هو مفتاح التقدم والازدهار. فمن خلال نظامها التعليمي المتطور، تسعى هولندا الى اعداد اجيال قادرة على مواجهة تحديات المستقبل وبناء مجتمع اكثر عدالة وازدهارا.

في هذه المقالة ضمن سلسلة التجارب العالمية في التعليم، سنتعمق في تفاصيل النظام التعليمي الهولندي، وسنستكشف العوامل التي جعلته من افضل الانظمة التعليمية في العالم. كما سنتطرق الى الاثار الايجابية لهذا النظام على الافراد والمجتمع ككل.

يتميز النظام التعليمي الهولندي، الذي يعتبر من ابرز الانظمة التعليمية عالميا، بتركيزه الشديد على تطوير الفرد بشكل شامل، متجاوزا حدود المعرفة الاكاديمية النمطية. فمن خلال تشجيع العمل الجماعي وحل المشكلات، وتطبيق المعرفة النظرية في مشاريع عملية، وتنمية مهارات التفكير النقدي والابداع، يعزز التعليم الهولندي قدرة الطلاب على التعلم المستقل والتكيف مع متطلبات سوق العمل المتغيرة. كما انه يوفر بيئة تعليمية متنوعة وشاملة تحترم الاختلافات الفردية والثقافية، وترسخ قيم التعاون والتسامح. هذا التكامل بين المعرفة النظرية والمهارات العملية، بالاضافة الى الشراكة الفعالة بين المدرسة والاسرة والمجتمع، يجعل من التعليم الهولندي نموذجا يحتذى به في اعداد اجيال قادرة على مواجهة تحديات المستقبل بثقة واقتدار.

لنتطرق فيما يلي الى ابرز الجوانب التي تجعل التجربة الهولندية من اغنى التجارب التعليمية والتربوية في العالم:

التركيز على التفكير النقدي والابداع:

يمتاز النظام التعليمي الهولندي بتشجيعه القوي على التفكير النقدي والابداع، مما يميزه عن العديد من الانظمة التعليمية الاخرى. ويتحقق ذلك من خلال مجموعة متنوعة من الممارسات التعليمية. فبدلا من الاعتماد على الحفظ والتلقين التقليديين، يشجع النظام الهولندي على التعلم النشط من خلال التجربة والاكتشاف، مما يمكّن الطلاب من تطوير مهارات حل المشكلات واتخاذ القرارات بشكل مستقل. كما يعزز النظام العمل الجماعي والتعاون بين الطلاب، وهو ما يهيئهم للعمل بفعالية في بيئات عمل متعددة الثقافات. وبدلا من تقديم المعلومات بشكل سلبي، يتدرب الطلاب على تحليل المعلومات وتقييمها وتكوين اراءهم الخاصة، مما يعزز قدرتهم على التفكير النقدي والابداعي. على سبيل المثال، قد يطلب من طلاب العلوم تصميم تجربة علمية لحل مشكلة بيئية محلية، او من طلاب الاداب تصميم مشروع فني يعكس قضايا اجتماعية معاصرة. وبهذه الطريقة، لا يقتصر التعليم في هولندا على اكتساب المعرفة النظرية، بل يتجاوز ذلك الى تطوير مهارات حياتية اساسية تمكن الطلاب من الاسهام بفعالية في المجتمع.

تعليم اللغات:

يتميز النظام التعليمي الهولندي بتعليم اللغات الشامل والمبكر، حيث يبدا الطلاب بتعلم اللغات الاجنبية، مثل الانكليزية والالمانية، منذ سن مبكرة كجزء اساسي من مناهجهم الدراسية. هذا النهج المتكامل يجعل الطلاب الهولنديين متحدثين متمكنين للغات متعددة، ويعزز مهاراتهم في التفكير النقدي والابداع، ويساعدهم على فهم الثقافات المختلفة وتقدير التنوع اللغوي والثقافي في العالم. من خلال الربط بين تعلم اللغة وفهم الثقافة وتوفير بيئة تعليمية متنوعة، يتمكن الطلاب الهولنديون من تطوير مهاراتهم اللغوية والمعرفية بشكل متواز، مما يهيئهم لمواجهة تحديات العصر الرقمي والعالمية المتزايدة.

التنوع والمرونة:

يتميز النظام التعليمي الهولندي بمرونته وتنوعه، حيث يوفر مجموعة واسعة من المسارات التعليمية التي تتراوح بين التعليم المهني الذي يركز على التدريب العملي والتطبيقي، والتعليم الاكاديمي الذي يوفر برامج دراسية متعمقة في مختلف المجالات. تشير الاحصائيات الى ان حوالي 60% من الطلاب الهولنديين يختارون المسارات التعليمية المهنية، بينما يختار 40% المسارات الاكاديمية. هذا التنوع يضمن ان كل طالب يمكنه العثور على المسار الذي يناسب ميوله وقدراته. بالاضافة الى ذلك، يشجع النظام على التعلم المستمر طوال الحياة، مما يتيح للطلاب تطوير مهاراتهم ومعارفهم بشكل مستمر، والتكيف مع متطلبات سوق العمل المتغيرة. هذا وتظهر الاحصائيات ان نسبة عالية من البالغين الهولنديين يشاركون في برامج التعليم المستمر، وهو يعكس ثقافة التعلم المستمر السائدة في المجتمع. فعلى سبيل المثال، يمكن للطالب الذي يدرس في مجال الهندسة ان يكمل دراساته العليا في مجال الذكاء الاصطناعي، او ان يتدرب على استخدام احدث التقنيات في مجال تخصصه. هذه المرونة تسمح للطلاب ببناء مسارات مهنية متخصصة وتلبية احتياجات سوق العمل المتغيرة باستمرار.

الاستقلالية والمسؤولية:

يشجع النظام التعليمي الهولندي على تنمية روح الاستقلالية والمسؤولية، حيث يشجع الطلاب على المشاركة الفعالة في عملية التعلم واتخاذ القرارات بشان مسارهم الدراسي. تخيل طالبا هولنديا في المرحلة الثانوية يختار دراسة العلوم الطبيعية لانه مفتون بكيفية عمل الكون. هذا الاختيار الشخصي ليس فقط يعزز حماسه للتعلم، بل يمنحه ايضا القدرة على تصميم مساره الدراسي ليلائم طموحاته المستقبلية. وفي مشاريع مدرسية، يتعاون مجموعة من الطلاب الهولنديين لتصميم تطبيق هاتف ذكي لحل مشكلة تواجه مجتمعهم المحلي. هذا النوع من المشاريع يعلم الطلاب كيفية العمل بشكل تعاوني، واتخاذ القرارات الجماعية، وحل المشكلات بطرق مبتكرة. ولتعزيز الشعور بالمسؤولية، يتحمل الطلاب مسؤولية تنظيم وقتهم وادارة مهامهم الدراسية، مما يهيئهم للحياة الجامعية والعملية. والهدف هو تذكير الطالب الهولندي الذي يتولى مسؤولية تنظيم جدول دراسته وتقديم المشاريع في مواعيدها. هذا النوع من الانضباط الذاتي يجهز الطلاب للحياة الجامعية والعملية، حيث يتعين عليهم ادارة وقتهم ومهامهم بشكل مستقل.

التكنولوجيا في التعليم:

يشهد التعليم الهولندي تطورا ملحوظا بفضل الاستخدام المكثف للتكنولوجيا الحديثة. تصور طالبا هولنديا يستخدم نظارات الواقع الافتراضي لاستكشاف اعماق المحيطات او يصمم مدينة مستقبلية باستخدام برامج التصميم ثلاثي الابعاد. هذه التجارب التفاعلية تجعل التعلم اكثر متعة واثارة، وتحفز الطلاب على الاستكشاف والابتكار. كما تتنوع الادوات التكنولوجية المستخدمة في التعليم الهولندي لتشمل الاجهزة اللوحية والحواسيب المحمولة والبرامج التعليمية التفاعلية ومنصات التعلم الالكتروني. هذه الادوات تسمح للطلاب بالوصول الى كم هائل من المعلومات والمعرفة، والتفاعل مع معلميهم وزملائهم بطرق مبتكرة. بالاضافة الى ذلك، توفر العديد من المؤسسات التعليمية الهولندية خيارات للتعلم عن بعد، مما يجعل التعليم اكثر مرونة ويسهل الوصول اليه. اثبتت التكنولوجيا الحديثة انها اداة قوية لتحسين نتائج التعلم في هولندا، من خلال توفير تجارب تعليمية مخصصة لكل طالب، وتنمية مهاراتهم في التفكير النقدي وحل المشكلات.

التركيز على الصحة النفسية والاجتماعية:

يولي النظام التعليمي الهولندي اهتماما كبيرا بالصحة النفسية والاجتماعية للطلاب، حيث يسعى الى توفير بيئة تعليمية امنة وداعمة تساعدهم على النمو والتطور. يتلقى الطلاب في هولندا دعما نفسيا واجتماعيا متكاملا، بدءا من برامج التوجيه المهني التي تساعدهم على اختيار مساراتهم الدراسية المستقبلية، ووصولا الى خدمات الدعم النفسي التي تقدم لهم المساعدة في التعامل مع الضغوط والتحديات التي قد يواجهونها في حياتهم اليومية. كما يشجع النظام على بناء علاقات ايجابية بين الطلاب والمعلمين، مما يخلق جوا من الثقة والاحترام المتبادل. ولا يقتصر التعليم في هولندا على نقل المعرفة الاكاديمية، بل يشمل ايضا تنمية المهارات الاجتماعية والعاطفية لدى الطلاب. ويسعى النظام الى غرس القيم الاخلاقية والمواطنة الصالحة في نفوس الطلاب، وتشجيعهم على التعاون والعمل الجماعي. ومن خلال ربط الصحة النفسية بالنجاح الاكاديمي، يسعى النظام الى تمكين الطلاب من تحقيق اقصى امكاناتهم.

نظام التقييم:

يتميز نظام التقييم في المدارس الهولندية بمرونته وتركيزه على التطور الفردي للطالب، حيث يعتمد بشكل اساسي على التقييم المستمر طوال العام الدراسي من خلال المهام والواجبات والمشاركة في الحصص والاختبارات القصيرة والمشاريع. وتكمل التقارير التقييمية الدورية والمقابلات مع الطلاب واولياء الامور هذه الصورة الشاملة لتقدم الطالب. هذا النظام، الذي يهدف الى تشجيع التعلم المستمر وتوفير تغذية راجعة مستمرة، يعطي الاولوية للتعاون بين المعلم والطالب ويوفر بيئة تعليمية داعمة تساعد الطلاب على تحقيق اقصى امكاناتهم.

التحديات التي تواجه التعليم الهولندي:

يعاني نظام التعليم الهولندي، رغم مكانته المرموقة، من عدة تحديات. فالتنوع الثقافي واللغوي المتزايد يفرض صعوبات في دمج الطلاب من خلفيات وبلدان مختلفة، وتفاوت المستويات التعليمية بين المدارس، خاصة في المناطق الحضرية والريفية، يمثل تحديا اخر. كما يعاني النظام من نقص في المدرسين المؤهلين، وزيادة الضغط على المدرسين الحاليين بسبب التوقعات العالية وحجم الفصول. بالاضافة الى ذلك، يتطلب التحول الرقمي استثمارات كبيرة وتدريبا مكثفا للمعلمين، بينما تواجه المدارس صعوبة في تلبية احتياجات سوق العمل المتغيرة. ولا يمكن تجاهل التحدي المتزايد المتعلق بصحة الطلاب النفسية، والذي يستدعي اهتماما اكبر من قبل المؤسسات التعليمية.

تسعى الحكومة الهولندية جاهدة لمعالجة هذه التحديات التي تواجه نظامها التعليمي. وتشمل هذه الجهود تطوير برامج مكثفة لدمج الطلاب الوافدين من المهاجرين، وتحديث المناهج الدراسية بشكل مستمر لمواكبة التطورات العالمية، والاستثمار بكثافة في التدريب المهني للمعلمين لضمان جودة التعليم. بالاضافة الى ذلك، تولي الحكومة اهمية كبيرة لتطوير البنية التحتية التكنولوجية في المدارس وتوفير الادوات الرقمية اللازمة للتعليم. كما تعمل على تعزيز التعاون بين المدرسة والاسرة من خلال برامج مشتركة تهدف الى خلق بيئة تعليمية داعمة للطلاب.

باختصار، النظام التعليمي في هولندا هو استثمار في المستقبل. فهو يهدف الى اعداد اجيال من الخريجين المتميزين القادرين على مواجهة تحديات المستقبل. من خلال التركيز على تطوير المهارات الحياتية الاساسية، مثل التفكير النقدي والابداع والتعاون، يضمن النظام الهولندي ان يكون خريجوه مواطنين فعالين وقادرين على الابتكار والاسهام في بناء مجتمعات اكثر ازدهارا. هذا النهج الشامل هو ما يميز النظام الهولندي ويجعله نموذجا يحتذى به في العالم. فبحسب الدراسات الدولية، يحتل الطلاب الهولنديون مراتب متقدمة في اختبارات PISA العالمية، مما يؤكد نجاح هذا النظام في اعداد اجيال من المتفوقين. كما ان نسبة الالتحاق بالتعليم العالي في هولندا مرتفعة، مما يعكس اهتمام المجتمع بالتعليم المستمر.

***

محمد الربيعي

بروفسور ومستشار - جامعة دبلن

 

أكثر الناس يرون السياسة عالماً بلا أخلاق. ثمة أشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. أنا واحد من هؤلاء، وكذا الكثير من الفلاسفة الأخلاقيين وعلماء السياسة وبعض رجالاتها. أما اتفاق الناس على خلو السياسة من الأخلاق، فمرجعه عاملان فيما أظن. أولهما أن السياسة نادٍ مغلق، عضويته حكر للنخبة العليا في المجتمع. أما العامل الآخر فهو أن الموضوع اليومي في مهنة السياسة، هو استعمال مصادر القوة وتوجيه نتائجها، بحسب ما يراه أهل هذه المهنة دون بقية الناس.

قد يقال إن النادي السياسي مفتوح لمن يطرق أبوابه، وليس لكل عابر، وإن السياسة كأي حرفة أخرى، تتطلب مؤهلات ربما لا تتوفر لكل راغب فيها. لكنني أجد أن انغلاق النادي معناه قلة الفرص المتاحة فيه. وأذكر هنا رأي المفكر الإيطالي القديم نيقولو ماكيافيلي، الذي قدمه في سياق تفسيـره لرغبة الناس في الحرية، حيث يقول إن الناس لا يطمعون في السلطة؛ لأنهم يدركون أن «مهنة الحكم» متاحة لعدد محدود جداً من الأفراد، وهم يشكون في أن أحدهم سينال الفرصة، دون عشرات الآلاف من الراغبين في دخول ناديها.

كون النادي السياسي مغلقاً، يعني أن معظم ما يجري بين جدرانه، مكتوم عن عامة الناس. مكتوم قصداً، أو بحكم اختلاف مجالات الاهتمام، وإمكانية الوصول إلى مصادر المعلومات، خصوصاً الحساسة منها. وطالما بقي عمل السياسيين سراً، فسوف يثير الارتياب، لا سيما بالنظر للعامل الآخر، أي كون موضوع عمل السياسي هو تحريك مصادر القوة وثمراتها بين الاتجاهات المختلفة، كما يدير السائق سيارته بين مسار وآخر، أو بين وجهة وأخرى. وكانت العرب تقول فيما مضى إن «المرء عدو ما جهل»، بمعنى انه أقرب إلى تفهم الأشياء التي يعرفها. والتفهم يعني تقبل مبرراتها حتى لو بدت - في ظاهرها - بغيضة أو ثقيلة على النفس.

- لكن يبقى السؤال قائماً: إلى أي حد يلتزم الفاعلون السياسيون بمعايير الأخلاق؟

هذا السؤال ينقسم - بالضرورة - جزأين: الأول ما هو المقصود بالأخلاق، هل هي طرق العمل المطابقة لما يمليه العقل السليم، أم هي - كما هو شائع بين عامة الناس - لين المعاملة والإحسان للناس وصدق القول والترفع عن الصغائر، وأمثال هذه؟

أما الآخر فيتناول موضوع العمل في النادي السياسي، الذي سنسميه اختصاراً «استعمال مصادر القوة»؛ لأن هذا التحديد يستدعي لزوماً السؤال: ما هي مصادر القوة التي نتحدث عنها، ولماذا نستعملها أو نحركها؟

سوف أبدأ بالآخر لأنه يوضح معنى الأول. إن «قانون الندرة» هو المبرر الجوهري لوجود السياسة والحكومة. يقول هذا القانون إن الموارد المتاحة لتسيير حياة الناس محدودة، بينما حاجات الناس متزايدة، ويمكن وصفها باللامحدودة، بمعنى أنها لا تتوقف عند حدٍ ولا تنحصر في إطار. توزيع الموارد المحدودة يعني أن كل فرد من الجمهور سينال حصة أصغر مما يطمح إليه. ولكي لا يعتدي على حصص غيره، احتجنا إلى القوة، أي إظهار العنف أو استعماله أحياناً، كي يرتدع المعتدي.

نحتاج طبعاً إلى تطوير الموارد كي تسد الحاجات المتزايدة. وهذا يتطلب استثمارات جديدة في الزراعة والصناعة والتجارة وغيرها. من هنا نعتبر المال والسلاح أبرز مصادر القوة، وهما محور العمل في مهنة السياسة. نحن نريد أن يلتزم رجال السياسة بالإنصاف والمساواة بين الناس، أن يعملوا ممثلين لمصالح المجتمع، وألّا يفرّطوا في الأمانة التي وُضعت في أيديهم. وهذا هو جوهر المضمون الأخلاقي للسياسة.

- هل يستلزم هذا ليناً في الكلام أو التعامل؟

أرى أنه لا يستلزم. وإن كان من مكارم الأخلاق، ومن علامات الكمال عند أي إنسان، سياسياً أو غيره. عالم السياسة مختلف عن العلاقات الاجتماعية العادية؛ ولذا فأخلاقياته مختلفة أيضاً. أي أن له أخلاقياته ومعاييره وإن خالفت توقعاتنا بعض الشيء.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

أحيي الحضور المستمع لما أقول أحسن تحية. وأشكر للصديق الأستاذ عبدالله فليفل ماتفضل به علىّ من تقديم ذي إضاءة تاريخية مهمة ومفيدة، كما أشكر لمنتدى الثلاثاء الثقافي دعوته إياي، لأتحدث اليكم عن تجربتي الشعرية التي سأقف، باختصار، عند المرحلة الجامعية منها فقط، لضيق الوقت المتاح لي. ولا أريد أن أتحدث اليكم عنها من حيث هي تجربتي، بل أريد أن أتحدث عنها لأنها تكشف الحياة الأدبية، وماكان بينها وبين الحياة الاجتماعية والسياسية من صلة في السبعينيات من القرن الماضي في العراق، فضلاً عن أنها مُعين لمن يود من الباحثين أن يعرف تطوري الشعري من الإحتجاج العاطفي في مراهقتي الى الإحتجاج الفكري في شبابي.. على أية حال قُبلتُ، في كليّة التربية في بغداد في سنة 1968م، كما ذكر الأستاذ فليفل في تقديمه، وكنت في الثامنةَ عشرةَ من عمري. وفي مطلع السنة الدراسية الأولى، كان أساتذة قسم اللغة العربية يستطلعون المواهب الأدبية بين الطلاب الجدد،. وحينما علم، أحد أساتذتي، أنّي أقول الشعر، خفّ إِليّ واستنشدني بعضاً مما عندي، فأنشدته قصيدة لي في رثاء والدتي. أقتطف منها الأبيات الآتية:

أَيا أُمِّي لمَن أَشكو؟ ومَن يَنصِتُ للشَّاكي؟

أَرَى حتَّى العصافيرَ تُجافي اليومَ شبَّاكي

لقد جَفَّتْ أَزاهيري. فيا أَهلاً بأَشواكي

وماإن فرغَت من إنشادها كاملة، حتى بشَّ لها محيّاه، وسُرَّ بها رضاً. كانت هذه القصيدة هي التي عرَّفت أساتذتي بباكورة شعري في الكلية، وجعلتهم يدعونني للمشاركة في احتفالاتها الشعرية. ولما حان موعد الحفل الشعري الأوّل لسنتي الدراسية الأولى، دعيت للمشاركة فيه. ولئن كانت مشاركتي هي الأولى في حفل جامعي، فماكانت هي الأولى في غيره، إذ ألِفت من قبل أن أشارك الشعراء في بعض المحافل النجفية التي تعلمت منها أنّ الخَطابة فنّ، وأنّ الشاعر قد يخيب مطلوبه إذا لم يحسن اختيار ما يلائم جمهوره ؛ لذا فكّرت في أن أختار من شعري ما يلائم البيئة البغدادية المتحضرة، فاخترت قصيدة لي في النسيب أي(الغزل). أذكر لكم منها الأبيات الآتية:

طلعت ليلى ما أحلاها*** سكرى ببهاء محيّاها

يتغنّى الطير بطلعتها*** ويضوع الورد بريّاها

لم تخشَ لصوصاً تتبعها ***حرستها منهم عيناها

حتى أقول:

لم أتمم زهرة عشريني*** وبُليت بشوك أذواها

إلى آخره.....

وعلى الرغم من أن هذه القصيدة لم تكن ذات حظ عالٍ من الجودة والإبداع، غير أنها قد اشتهرت في بغداد. وما كانت لِتشتهرَ بينهم لولا حلاوة وزنها أي موسيقاها. ولا أزعم أنّ البيئة البغداديّة كانت غير عميقة فنياً، بل على العكس مما يظهر.. ولقد لقيت فيها من بواعث التطور مالم ألقَ مثله في غيرها؛ ولاسيما الحرية الفنية التي جعلتني انطلق بشعري كلّ الإنطلاق، مصوّرا نفسي كما هي من دون أن أتحفظ أو أحترز؛ لأنّي اقتنعت، من ناحية، بأن الإنطلاق الفنيّ هو من حقّ الشاعر، ومن حقّ الفنّ عليه كذلك؛ واقتنعت، من ناحية أخرى، بأن خروج الشاعر على السلطات القمعية في العراق سواء أكانت رسمية أم غير رسمية لهو الفضيلة بعينها. فلأحتجَّ إذن عليها احتجاجا لايحيد عن الخير. واحتججت بالشعر فعلاً. وكان شعري الاحتجاجي خلال دراستي الجامعية على قسمين:شعرغزليّ حسّي وشعرسياسيّ وطنيّ.

أولاً شعري الغزلي الحسي:

لم أَنِ في أَنْ تمردت على سلطة المجتمع المهيمنة على العلاقة بين الرجل والمرأة، وعلى مفاهيمها المصبوغة بالطلاء الديني والعشائري. وبدأ تمرّدي يطرح شعراً ذاتياً مختلفاً عن الأشعار الذاتية المطروحة في زمني. ويظهر هذا الإختلاف في أني جهرت بمشكلة "الجنس" التي هي من أكبر مشاكلنا المسكوت عنها ؛ إذ رأيت الغريزة الجنسية ليست خارجة عن كينونتنا البشرية. ولا مفرّ لنا من تلبية ندائها. فإذا كانت هي فينا، ونحن منها، فلماذا إذن أتحرج من أن أذكر مايدلّ عليها في شعري؛ وقد ذكر الله ألفاظها صريحة في القرآن، بل بيّن حتى كيفية المجامعة وتوقيتها. ولم أكد أخجل بعد هذا كله من أن أتناول موضوع الجنس بكل تفاصيله في شعري. ومن الأمثلة عليه قولي:

رغبة الجنس ومن يوقفها*** أودع الله بها سر البقا

يالها من سبب أوجدنا*** كل مخلوق بها قد خلقا

أو قولي:

قدْ تَعَتَّقتِ خَمرَة *** وتَصفّيْتِ سُكَّرا

فوْق ساقيْكِ جَنَّة ٌ*** وجحيمٌ بها جَرَى

ونَبيذٌعلى فم ٍ*** قبِّليني لأَسْكَرا

وَلأَذ ُقْ منكِ مَرَّة ً*** مانسمِّيهِ مُنْكَرا

أوقولي في الكبت الأنثوي:

صارحِيْنيْ بالذي فيكِ بصمتٍ يتألمْ

هاهوَ الجنس بعينيكِ صريحاً قدْ تكلمْ

قبِّلِيْنيْ قبْلةً أبْرَدُها نارُ جَهَنمْ

أو قولي في الكبت الذكوري:

أرسم أنثى. أصرخ: ظمئٌ لشفاهك ياعطشى

مائي ظمئ ضوئى ظمئ طيني فارتشفيني

فأنا أتنفس من شفتيك نسائم أفراحي المقتولة.

وقد يبدو شعري من الأمثلة المتقدمة حسيّاً تغلب عليه الرغبة الجنسية تصريحاً وتلميحاً ؛ لكن من يقرأه كله بإزاء العلاقة بين الرجل والمرأة يجده مختلفاً عن هذا المفهوم الضيّق في شيئين:أولهما في نظرتي للمرأة، وثانيهما في نظرتي للرجل. أما نظرتي للمرأة، فإني كنت أراها نصفي الإنساني الآخر في الرغبة الجنسية. قلت في بعض ذلك:

شاركيني يا ابنة الكبت الهوى*** ولنطفئ به فينا الحُرقا

وليقل عنك وعني جاهل *** خالفا العرف وساءا خلقا

هي إذن ليست شريكتي في الجنس وحسب، وانما شريكتي في الإحتجاج على التخلف الاجتماعي أيضاً. ولطالما وقفت مبهوراً حِيالَ جلالِ أنثوتها وجمالِها. قلت:

وتعري لتريني* ماتخبى بالتعري

لأرى الله بعينيّ جليّاً فيك يسري

ولعلّ هذا المثال الأنثوي الأرضيّ الذي لم أتطلع إلى أكمل منه فيما وراء الطبيعة هو الذي صرفني عن أن أتصنّع التعفّف؛ لأنّ العفة ليست غاية بذاتها؛ وانما هي وسيلة لشئ آخر. قلت فيها:

أتخفين الهوى عبثاً بثوب *** وهل يخفى حريق بالثيابِ؟

وتبدين الوقار بخفض صوت ***وفي عينيك زلزال الشباب

تعالَيْ جَرِّبِيْ يوماً سمائي*** لتُطبِقَ فوقَ سهلكِ والهضابِ

هذه هي بايجاز نظرتي للمرأة التي عبرت عنها، بلغة شعرية مجازية في الجزء الثاني من ديواني. وأما نظرتي للرجل في مجتمعي، فإني رأيته مزدوج السلوك بإزاء المرأة. فهو من جانب يفرض الحصانة عليها، ويطالبها بالتعفف الجنسيّ ويبيح من جانب آخر لنفسه الحرية الجنسية. ولقد جاهدت أنا نفسي هذه الإزدواجية الذكورية في سلوكي لكي تتقوم شخصيتي. وتتجلّى تلك المجاهدة واضحة في قصيدتي"سيدة الليل" التي تناولت بمضمونها مشكلة البِغاء بنظرة مغايرة للنظرة الذكورية السائدة، لا لتبرير فعل البغي أي (الزانية)، وانما لإدانة فعل شريكها الرجل المسكوت عنه اجتماعياً. قلت فيها:

 سيَّدةَ الليلِ احكمي *** تاجُكِ تَحتَ المِحزَمِ

جسْمُكِ باللَّحم ِ يُنَادِيْ الناسَ لا بالكَلِمِ

مُسْتَهْزِئاً بالعُرْفِ، بالقانونِ، بالمُحَرَّم

لرَفْعِ ساقيْكِ انحَنَتْ *** رؤوسُ أهْل ِالشَّمَمِ

تعرض البغي في هذه الأبيات مفاتن جسدها لإغراء الرجل، وهو لايكاد يميّز الحُب من الجنس؛ إذ تصبح ماهية المرأة غير مهمة عنده. انما المهم هو جسدها وكيفية امتلاكه لتحقيق لذته الجنسية. هذا المفهوم المكتسب اجتماعياً يدفعه لتبجيل البغي مؤقتاً والخضوع لها تمهيدا للقضاء على شهوته كما قد تبيّن في الأبيات السابقة. وقلت فيها أيضاً:

مملكة اللّذات طوع أمرك المحترمِ

لافَرْقَ في الزوَّارِ بَيْنَ كافرٍ ومُسْلِمِ

 فخيْرُهمْ كَشرِّهِمْ***وُجُوْدُهُم ْ كالعدَمِ

سَاوَيْتِهِمْ كأنَّكِ الموْتُ، وهُمْ كالرَّمَم

حَيْثُ الزِّنَى الأعْمَقُ بالأرواح ِلا بالأجْسُمِ

إذا كانت النساء تتساوى عند الزاني في مفهومه اللذائذي، فإنّ الرجال يتساوون عند الزانية في مفهومها التجاري. ولئن تنجس بالبِغاء جسدها، فان الرجال الزناة قد تنجست به أرواحهم قبل أجسادهم، لأنهم هم المسؤولون عن النساء أخلاقياً في المجتمع الذكوري. ولا ريب في أن نجاسة الروح هي أشد من نجاسة الجسد؛ لأن قيمة الإنسان تكمن في مضمونه لا في جسده. وبهذا يكون فعل الرجل في البغاء أخطر من فعل المرأة. وعلى الرغم من خطورة فعله، فانه يرى المرأة هي المسؤولة عن إثمه لا هو. لماذا؟ لأنها هي الأضعف وهو الأقوى كما يظهر ذلك واضحاً في قولي:

سَيِّدَتي!نَحنُ قَتَلناكِ، ولَمْ نُتَّهمِ

ألحَقُّ في التاريخ ِلِلغالِبِ، لا المُنْهَزِمِ

وقلت على لسانه هو:

ويَسْألُ الإلهَ أنْ*** تَدْخلَ في جَهَنَّمِ

لأنَّها قدْ أثِمَتْ***وأنَّهُ لمْ يَأثمِ

هذا التناقض في المفهوم بين ما يفعله الرجل الزاني وبين مايقوله عن شريكته الزانية من سوء، جعلني أحتج شعريا على القيم السائدة في مجتمعي وأرفضها داعياً إلى التغيير بدءاً بثورتي أنا على شخصيتي الذكوريّة، وانتهاء بتثوير البغي نفسها على سلطة الذكورة في المجتمع. قلت فيما يتعلق بي أنا:

سَيِّدتي! لوْ تَعْلَمينَ مِنْ شَبابٍ سأمي

كرهتُ عشرينيَ حتى صرتُ صنوَ الهرِمِ

 مُنتفضاً للعدل ِوالإنْسان ِعبْرَ الأُمَمِ

وثائِرا ًمَعَ المَسِيحِ. رافِضا ًأنْ تُرْجمي

وقلت فيما يتعلّق بها هي:

 سَيِّدَةَ الليْلِ احكمي***قدْ آنَ أنْ تَنْتَقِمي

دُوْسِيْ عَلَى وَهْمِ الرجوْلاتِ وزَيْفِ الهمَمِ

وكلِّ منْ داسَ على***صَدرِكِ كالثوْرِ العَمِي

إعتقليهمْ واحداً ***فواحداً كالغَنَمِ

وعَلِّميهمْ ثورةَ الحقِّ، وَوَعْيَ المُلْهَمِ

وكَيْفَ تَكسرُ الحديدَ هِمَّةُ المُقتحِمِ

وبعد ذكر هذه الأمثلة الموجزة جدا من شعري في المرأة، استطيع أن أقول الآن إن هذا الشعر، قبيل العقد الثاني من عمري وفي أثناء المراهقة، هو مرآة نفسي، فيما نظرت به إلى المرأة من خلال علاقتي بها، وفيما نظرت به الى الرجل من خلال علاقته بها. وفي كلتا النظرتين هو شعر احتجاج على السيطرة الذكورية في مجتمعي. ومهما يكن الإحتجاج فيه؛ فانه ليس من أحبّ شعري عندي الآن؛ لأنني لم أحبب المرأة بعقلي ولا بقلبي في أكثره؛ وإنما أحببتها بحسي الشهواني. ولأنني لم أصف حالتها الداخلية في أكثره، وإنما وصفت صورتها الخارجية ورغبتي الجنسية فيها. وما إن جاوزت العقد الثاني من عمري حتى تخطيت هذه النظرة بحيث صار شعري الغزلي يدور كله أو أكثره حول الجمال المعنوى للمرأة لا المادي. وصار جمالها مرتبطاً عندي بحالتها الفكرية والنفسية لا البدنية.. وأكتفي، لضيق الوقت، ببعض الأمثلة دليلا على ماأزعم. ومنها قولي:

أَسمعها. تقولُ ليْ عيونُها:*** فكَّ قيودي. مَزِّقِ الأَسجافْ

وفَجرِ الأنهارَ في صحرائِنا*** حتَّى متَى يَحكمُنا الجفافْ؟

وقولي:

أَخرجيني من جنانٍ أَغلقتْ***كوَّةَ الضوءِ علَى كلِّ فَطينِ

خوَّفوكِ الأَهلُ منِّي وأَنا***منكِ باسم الدينِ أَهلي خوَّفوني

وقولي لها:

أَأَنتِ الإلهْ؟ يُميتُ، ويَبعثْ

سأُعلنُ رغم ذكوريّةِ الأنبياءْ،

سأُعلنُ أنَّ الإلهَ مؤنّثْ.

وأنّكِ كلِّي. وفيكِ اندمجتُ، وفيَّ اندمجتِ

أَأَنتِ أَنا أَمْ أَنا هو أَنتِ؟

تختفي في هذه الأمثلة الشعرية الثلاثة صفات المرأة الجسمانية تماما، ولايكاد يظهر منها غير فكرها الذي يكمن فيه جوهرها الإنساني. الإنسانيّ. وبتأكيدي على مضمونها دون شكلها تكون رؤيتي لها قد تغيرت في شعري تغيراً نوعياٍ. فأنا لم أعد أنظر إليها كما كنت بالأمس، وانما صرت انظر اليها نظرة إنسان يعيش في عصره في القرن الواحد والعشرين. أريد لها من الحرية والكرامة والحقوق مثل ماأريد لنفسي. كنت أجهر بهذا الرأي في العراق، وكان الناس يسخطون عليّ كل السخط، ثم شاءت الظروف السياسية في العراق أن تزيد على هذا السخط الإجتماعي سخطاً أشد منه وأخطر. أقصد السخط الحكومي..

ثانياً – شعري السياسي الوطني:

ظننت أني قد تحررت من قيدي السلطة الدينية والسلطة العشائرية حين أقمت طالباً جامعياً في بغداد المنفتحة اجتماعياً على الإختلافات العراقية بكل أشكالها. وهذا ماجعلني أتغنّى بها طرباً. مثل قولي: لالاوعينيك يابغداد ماضحكتْ*صحراء عمري ولا مسّ الندى ثمري كما أني ظننت أن طريق الحرية الفنيّة قد خلت لي للتعبيرعما يختلج في صدري، ولكن الأمر لم يكن كما ظننتت؛ إذ انضاف قيد سياسيّ جديد الى القيدين السابقين حين استولى حزب (النظام السابق) على السلطة في العراق في سنة 1968، وشرع يدير دفّة الثقافة والتعليم على هواه،، فألغى، مثلاً، كليتنا كلية التربية وألحقها بكلية الآداب، لإيقاف المد السياسيّ المعارض له فيها، واستبدل اأساتذتنا اأعضاء اللجنة الثقافية في الكلية بطلاب حزبيين يمثلونه ولايمثلون الثقافة. ولا أريد أن أستطرد هنا في ذكر تلك السلطة التي حكمت العراق خمساً وثلاثين سنة استطرادا مملا، ولا أن أعيد ماقيل فيها بعد سقوطها ولكن الشئ الذي أريد أن أقوله ؛ هو أنها حرفت الشعر العراقي عن مساره الفني، وأمالته عن الصدق والجمال إلا ماقلّ منه ؛ إذ أمسى جلّ الشعراء العراقيين مقيدين بأهدافها السياسية خوفا أو طمعا. ولقد إضطرّني هذا الإنحراف الشعريّ إلى أن أخرج عليه رافضاً أن أنافق ساتراً احتجاجي بقلبي، ومظهراً خلافه بلساني. ولئن تزعزعت أحلامي بالحرية ؛ فقد ترسخت قدمي في طريق الإحتجاج ضد القمع على الرغم من وحدتي واغترابي في وطني ؛ ولعل قصيدتي" الضياع"التي أنشدتها في أحد المهرجانات الشعرية في الكلية في سنة 1969م، قد كشفت كثيرا مما كنت أُعاني. ومنها هذه الأبيات:

مَلَّتْ من النَّغمِ المحزونِ ناياتي**وأَتعبتْ فَسَ الأَحزانِ آهاتي

أُناغمُ الجرفَ والأَقدارُ قد سحقتْ*منِّي الشراعَ وهَدَّ الموجُ مرساتي

وأَقتفي الشَّمسَ والأَشباحُ قافلتي***ودمعةُ الشَّعبِ يابغدادُ راياتي

عندما استمع الجمهور الجامعي إليّ وأنا أنشد هذه االقصيدة في الكلية، انقلبت صورتي عنده، من شاعر طرِبٍ غزِلٍ إلى شاعر حزِنٍ ضجِرٍ؛ وكيفما يرَني الجمهور، فإن أقلّ ماتدلّ عليه هذه القصيدة التائية شيئان: أولهما أن المحبوبة فيها لم تعد امرأة مثل ليلى التي ورد اسمها في قصيدتي المذكورة آنفاً؛ وانما هي مدينة اسمها بغداد. وقد استعملتها في معناها المجازي لا الحقيقي لتشمل العراق كله. وثانيهما أن عالمي الذاتي قد امتزج بعالمها الموضوعي حتى صرنا في الحزن واحداً. ومن هنا يمكن القول أن معاناتي الظاهرة في أغلب ابيات هذه القصيدة، هي في دلالتها العميقة تمهيد لمعاناتي

الوطنية التي ستظهر في قصائدي اللاحقات تلميحاً مرّة وتصريحاً أخرى، وباشكال مختلفة. ومما يدل على تلك المعاناة الوطنية تلميحاً

قولي:

بغدادُ ياظمأَ السمَّارِ بيْ ظماٌ***الى البكاءِ وبيْ شكوَى من السمرِ

إنَّا حزينانِ ماغنَّتْ ربابتُنا***إلاَّ بحشرجةٍ من ثغرِ مُحتضِرِ

ولازوارقُنا عبَّتْ مُهلِّلَةً***إلاَّ وأَفزعَها طيفٌ من الخطرِ

خلِّي الحكايةَ سكِّيناً تجزَّ بنا***وزغردي، فغداً لابدَّ من مطرِ

ومما يدل على تلك المعاناة الوطنية تصريحاً قولي :

بلاديَ أَذوَى صَرخةَ الفجرِ صمتُها**لوَى شمسَها ليلٌ، وأَطفأَها نهبُ

بلادي حبلى. راعها النزف. طفلة*** تضيع. نبي دربه القتل والصلب

وكلّما ضيّق الحزب الحاكم الخناق على الحياة في العراق، واشتدّت استهانته بكرامة الإنسان وقيمته، تحرّقت إلى الإحتجاج شعريّاً، وتهيأت للبذل من أجل الحق، ومما يدل على معنى ذلك قولي:

إِذا أَنا لم أُحرَقْ ومثليَ صاحبيْ*فمَنْ ذا يُضئُ الدَّربَ إِنْ أَظلمَ الدَّربُ؟

وقد مَلَّني صَبري. أُريدُ جنازةً***لحُبِّيَ، أَو شمساً يُغنِّي لها الشَّعبُ

أنا بيت شعر للجياع تخافني*** زبانية الوالي وتخشاني الكتب

لقد تسلط الحزب الحاكم على منابع الثقافة الجامعية كل التسلط، وعبث مسؤولوه بالحركة الأدبية شرّ عبث حتى خمدت شعلة الإبداع الأدبي في كلية الآداب. وما إن شاع خبر خمودها في الصحافة الحكومية في سنة1971 حتى بذل عميد الكلية ورئيس "الإتحاد الوطنيّ لطلبة العراق"وأتباعهما كل مالديهم من جهد لإحياء حفل شعري يثبتون فيه لذوي الشأن الثقافي في الحكومة خلاف ماشاع في الصحافة عن الأدب في كلية الآداب. ولعل استماتة أعضاء "اللجنة الثقافية"في إنجاح الحفل في الكلية، جعلتهم يتناسون مابيني وبينهم من صد واعراض، ويطلبون إليّ أن أشارك في ذلك الحفل الشعري الكبير. وشاركت فيه فعلاً بقصيدتي "قافلة الأحزان"التي كان مطلعها:

حملتُ شراعَ الموتِ في صمتِ آلامي*وأَرضعتُ من ثدي التباريحِ أَعوامي

ولم يخطر في بالي أن أرضي بقصيدتي رئيس الجمهورية الذي حضر الحفل نيابة عنه الفريق صالح مهدي عماش، ، ولا أن أرضي كبار مسؤولي الدولة والجامعة الحاضرين، ؛ وانما كنت أريد أن أرضي ضميري ووجداني لاغير. وما إن فرغت من حزني الخاص في البيت الأول من القصيدة، حتى اتسع ليعم حزن الناس كلها في البيت الثاني بقولي:

حملت دموع الأرض في جفن لوعتي*وخضبت في جرح الملايين أنغامي

ثم ختمت القصيدة بالبيت الآتي:

أَنا المغرمُ الهيمانُ شعبيْ حبيبتيْ*وأَنفاسُه لحنيْ، وعيناه إِلهامي

كان البيت الثاني والبيت الاخير في القصيدة صريحين في كشف مذهبي الذي جاوز البعد القومي الضيق ؛ إلى البعد الإنساني الأوسع. ومابين البيتين المذكورين(الثاني والأخير) كانت هناك أبيات شديدة النقد قد اغتاظ لسماعها ممثلو السلطة من الحاضرين، ولاسيما استاذي عميد الكلية الذي لم يقتدرعلى أن يكظم غيظه ضدي أمام الجمهور، فقال ماقال. لقد ألمحت محتجاً بهذه القصيدة إلى أهم الأشياء المسكوت عنها في المحافل الشعرية:ألمحت احتجاجاً إلى التفاوت الطبقي في ظل سلطة سياسية تدعو إلى مبدأ الإشتراكية دون أن تعمل به، حين قلت:

فذي دجلةٌ تَرغُو، وتلكَ حدائقيْ***تَجفُّ، وغصني يَلتويْ وردُه ظامي

وذا السنبل النامي وذلك منجلي * يحنّ إلى طيف من السنبل النامي

وألمحت احتجاجا إلى قمع السلطة للمثقفين الأحرار وهي تدعو إلى مبدأ الحرية؛ إذ قلت في عدم القدرة على الكلام:

خذي الحزنَ من عَينيَّ يَقصصْ حكايتي*ويُنبئْكِ كيف الريحُ أَلوتْب أَعلامي

وألمحت احتجاجا إلى أن العراق البلد الزراعي أخذ يتصحر إهمالاً وبدأ المواطن يُذل جوعا في دولة نفطية. قلت في ذلك:

أَنا القريَّةُ الخضراءُ قحطٌ أَذلَّني*فأَطفأتُ فانوسي وأَخفيتُ إِكرامي

وألمحت إلى موضوعات احتجاجية أخرى لم يتسع الوقت لذكرها. وقد يغض الحاكم الطرف عن التلميحات في القصيدة بسوء الأوضاع الاجتماعية والثقافية والزراعية وغيرها ؛ ولكن لن يغض الطرف عن التلميح بالثورة عليه احتجاجا حين طلبت من الجوع أن

يأخذ قمحه من دميْ لا من يدي بقولي:

تعال وخذ ياجوع قمحك من دمي *ودعني أمت وحدي على رمح آلامي

وإذا كان ذوالحكم أعجز من أن يصبر على المعنى المجازي ضده، أتظنه سيصبر على المعنى الحقيقي في وصف معاناة الشعب تحت قيادته بقولي:

أَنا قصَّةُ الجوعِ العراقيِّ. أَختبيْ**بضحكتيَ البلهاءِ، أَقتاتُ أَسقامي

أَنا البلدُ المنكودُ. أَتربني الأَسَى**وأَفزَعَني طيفي وأَشباحُ أَيَّامي

لقد أغضبت الحكومة بهذه القصيدة حقاً. وسرّ غضبها يكمن في أني أذعتها على الملأ وأنا حر طليق، ولم أذعها ضمن شروط العبودية وقيودها في العراق؛ إذ الشاعر بمفهوم الحكومة يتضمن التبعية لها، حيث سلطتها هي فوق سلطة الإنسان. وهكذا واجهت بعد إلقاء هذه القصيدة سلطة تساوي بين الشاعر والسلعة الإستهلاكية. وعندما فشلت تلك السلطة في أن تجعلني أداة مفيدة لها، لم تفكر في سبب

فشلها؛ وانما اتهمتني وأدانتني ونفتني وهي تحسبني سأندم حين

أتجرّع كأس الموت على يدها. ولم تحسب أن الموت الحقيقي للشاعر هو في جبنه حين يستسلم خاضعا للحكومة المستبدة، وإن منحته امتيازات ومكافآت، وبدا موظفا مسيطرا في مؤسساتها الثقافية، وشعره مسيطراً على الساحة الأدبية. إنّ الموت بالاحتجاج على الاستبداد من أجل الحق والعدل والجمال ليس موتاً في دلالته العميقة، وإنما هو إنتصار لجوهر الإنسان في الحياة ولقيمته وكرامته. .

***

بقلم عبد الإله الياسري

....................

* (آُلقيت هذه المحاضرة في"منتدى الثلاثاء الثقافي"بولاية أونتاريو بكندا،في اليوم الخامس عشر من شهر تشرين الأول/إكتوبر لسنة ٢٠٢٤م.ودونكم نصها)

"يمكننا أن نعيش بدون فلسفة،

لكننا سنعيش بشكل سيء"

Alain (Emile Chartier-)

***

خلف شخصية الفيلسوف آلان (Alain)، نجد الأستاذ إميل شارتييه ( Emile Chartier) الفيلسوف الملتزم والمثقف الثوري الذي ينتهي به الأمر إلى الاستقرار في "أعلى منصب في التعليم الثانوي"، هناك  العديد من الشهادات حول الكاريزما والموهبة التربوية للرجل، هو صاحب مشروع إصلاحي  وليس من المستغرب أنه كرس جزءا كبيرا من عمله لعلوم التربية والتعليم كان يحارب السذاجة او ماطلق عليه مصطلح التعليم السهل ودوره الاجتماعي والديمقراطي واضح للعيان . كتب على نطاق واسع عن التعليم الابتدائي، وعن العلاقة بين الطفولة والتعليم، وعن دور المدرسة.

ولد آلان في 3 مارس 1868 في مورتاني أو بيرش، في مقاطعة أورن. كان طالبا لامعا، وكان لديه سجل حافل في كلية Alençon، يقول ذلك بنفسه: "كنت خريجا من المدرسة العليا للمعلمين وأستاذا "  كان أساتذته سقراط وديكارت وأرسطو وأفلاطون ومونتين، ناهيك عن جول لاغنو، الذي اثر  بقوة على تفكيره.

تم تعيينه في بونتيفي، ثم لوريان. أدت محاضرة ألقاها في الجامعة الشعبية لتلك المدينة في عام 1897 إلى انتقاده من قبل الصحف الكاثوليكية. تجرأ على القول بأن "الشيطان غير موجود". تم قبول إميل شارتييه في برنامج بكالوريوس العلوم.وقد قدم، تحت إشراف جورج ليون، أطروحة حول نظرية المعرفة عند الرواقيين.

جاء إلى باريس كمدرس للرئيس الأول أو للفلسفة. وبعد اندلاع حرب عام 1914. في سن السادسة والأربعين، جند في المدفعية، معتقدا أنه لكي يتمكن من الحكم على الحرب، كان من الضروري أولا محاربتها. تم تسريحه في عام 1917 بعد حادث، واستأنف منصبه في هنري الرابع. نشر العديد من الكتب ومن المقالات حول الأدب والحرب والفن والدين والفلسفة، والتي أعيد طبعها جميعا عدة مرات.

توفي عن عمر يناهز 83 عاما في 2 يونيو 1951 في منزله الصغير في Le Vésinet، محاطا بأصدقائه، بما في ذلك أندريه موروا وموريس شومان وجورج كانغيلهيم.

هناك مفارقة حول مواقفه السياسة: إنه الجانب الذي ربما اشتهر به آلان، ولكنه أيضا الجانب الأكثر انتقادا. يجسد آلان بالفعل أول محاولة في فرنسا لفيلسوف للانخراط في السياسة، باسم الفلسفة. رجل من اليسار، مقرب من الحزب الراديكالي في ذلك الوقت، لكنه لم يكن خاضعا بأي حال من الأحوال لأي أيديولوجية، دافع آلان عن حقوق الفرد - دون اختلاف بين الجنسين، وهو أمر نادر في ذلك الوقت - حريته في الفكر والعمل. على الساحة الدولية، هو مدافع لا يكل عن السلام، وواحد من الشخصيات العظيمة.

حب الأعمال الأدبية في فلسفة آلان واضح، يقدم الأدب للفيلسوف رؤية نقية للعالم وعذاباته وجماله، ويسمح له ببناء فكره على عاطفة النصوص الجميلة، والتي يمكن الشعور بها أيضا عند قراءة الفلاسفة. قاد هذا آلان إلى العمل على أسلوبه الخاص، لإعادة تأهيل القيمة الفلسفية لمؤلف مثل مونتين في ذلك الوقت.

في فلسفة الان الثقافة والعبادة كلمات من نفس العائلة. لذلك فإن الرجل المثقف سيكون لديه بعض خصائص الرجل التقي. يقول :"  تخيل، كما رأيت، رجلا مثقفا يفتح Stendhal أو Balzac ويقرأ بصوت عال صفحتين مختارتين. هناك دين في تحركاته. وهذا الكتاب يؤخذ ككتاب مقدس أو قداس"

يؤكد الان ان المدرسة مكان مثير للإعجاب. يقول :" أنا أحب أن الضوضاء الخارجية لا تدخله. أنا أحب هذه الجدران العارية. أنا لا أوافق على تعليق أشياء عليها للنظر إليها، حتى الجميلة منها، لأنه يجب إعادة الانتباه إلى العمل. سواء كان الطفل يقرأ أو يكتب أو يحسب، فإن هذا العمل العاري هو عالمه الصغير، والذي يجب أن يكفي. وكل هذا الملل من حوله، وهذا الفراغ الضحل، يشبه درسا معبرا للغاية. لأنه لا يوجد سوى شيء واحد يهمك، أيها الولد الصغير، وهذا ما تفعله. سواء كنت تفعل ذلك بشكل جيد أو سيئ، هذا ما ستعرفه في الوقت الحاضر. لكن افعل ما تفعله" .

من أقواله أيضا: " المقاومة والطاعة، هاتان فضيلتان للمواطن. بالطاعة يضمن النظام. من خلال المقاومة يضمن الحرية"

شخصيات فلسفية وثقافية تحدثت عن الان

أندريه جيد

"قرأت بعض مقترحات آلان بإعجاب حيوي للغاية."

بول فاليري

"آلان، الذي يقول عنه النثر القوي والرائع كل ما يريده، وعلى عكس الآية الحقيقية، يريد كل ما يقوله."

فاليري، بول، La jeune Parque، تعليق على آلان، باريس، NRF-Gallimard، 76 صفحة، 1936 ؛ إعادة إد. 1953

سيمون ويل

أسر ويل لجيلبرت كان، في عام 1941: "هناك جزء من فكر [آلان] استوعبته لدرجة عدم القدرة على تمييزه عن فكري الخاص، وآخر رفضته".

في رسالة إلى آلان، من مايو 1941: "[لدي] وعي واضح للغاية بكل ما أدين به لك. وأنا مدين لك أكثر إذا كنت أكثر. ("رسالة إلى آلان"، Cahiers Simone Weil، II 4، ديسمبر 1979، ص 178)

جوليان جراك

« (…) الشيء الآخر الذي فاجأني كثيرا، لقد جئت من المقاطعات، هو أن الفاصل بين الفلسفة والأدب قد تم كسره. كل عام شرحنا فيلسوفا، كان يجب أن يكون هيجل، وبعد ذلك، في نفس الوقت، شرحنا كاتبا: كان بلزاك في ذلك العام. انتقلنا من واحد إلى آخر، اعتدنا على تحطيم أقسام المدرسة أو الجامعة التي تفصل بينهما. لذلك كان الأمر مثيرا للغاية. كان هناك عنصر من الجدة، بالنسبة لي، كان مذهلا للغاية، ثم كان هناك في آلان صورة رجل كامل: لقد كان ... ليس عملاقا، ولكن باختصار، كان شخصية طويلة وقوية ... (أ) نورمان؛ لقد شن الحرب. لقد أعطى انطباعا بوجود مادي كبير جدا، ثم عن توازن هائل أيضا. نعم، كان صلبا على ساقيه وأعطى انطباعا بأنه لا يتزعزع تقريبا، تحت أي ظرف من الظروف. في ذلك الوقت، كان في نفس الوقت معلما رائعا، وموهوبا، ومفكرا أيضا، لكنه كان أيضا نوعا بشريا مثاليا إلى حد ما. لقد ضربني. »

هذا هو صوت العرض حيث يتحدث Gracq:

ريموند آرون

"حتى اليوم، عندما أعيد قراءة الاقتراح الأخير قبل خطوبته، أو ندائه للأعداء في عام 1917، أرتجف من الاحترام أمام العظمة."

روجر مارتن دو جارد

"ما أنتجه الفكر الفرنسي ربما بأنقى طريقة منذ القرن الثامن عشر".

رومان رولاند

"[المريخ أو الحرب المحكمة] هو الكتاب الأكثر رجولة الذي كتب عن الحرب. كتاب ينتقم ويدمر المستنقع، بقوة الضوء المطلقة. كتاب، بينما يسخر من المريخ، "لا يسيء إلى الصبر ولا الشجاعة ولا العدالة".

أنا معجب بملاحظتك الغنية للروح. أنت واحد من الرجال القلائل، يا فيلسوف العزيز، الذي يضيف إلى مشهد الطبيعة البشرية بالنسبة لي - من خلال مساعدتي على فهمها. »

جان هيبوليت

"هناك في Propos sur l'éducation نظرية عميقة للطبيعة البشرية يمكن للمرء أن يبحث عنها عبثا في وجودية J.-P. سارتر »

جان هيبوليت، شخصيات الفكر الفلسفي، PUF

"برغسون وآلان، هذان العقلان العظيمان اللذان أساءا فهم بعضهما البعض واللذين يهيمنان بلا شك، بطرق مختلفة، على جميع الفلسفة الفرنسية المعاصرة."

"Alain et les dieus" في Figures de la pensée philosophique, Jean Hyppolite, Tome II, p 543, PUF, 1971

"نظرية آلان في الخيال ألهمت كل فكر سارتر"

"الوجود، التخيل والقيمة التي تشيز آلان" في شخصيات الفلسفة المعلقة، جان هيبوليت، تومي الثاني، ص 518، PUF، 1971

موريس ميرلو بونتي

"كان هناك في آلان من ناحية حكمة، علمها كما علم كل ما يدور في ذهنه، بالطبع. هذه الحكمة، على سبيل المثال في النظام العملي والسياسي، أدت إلى مواقف محددة للغاية ومحددة للغاية. ومن ناحية أخرى، كان هناك تعاطف كامل ومطلق مع كل ما يمكن تسميته فلسفة عظيمة، بما في ذلك، وفي المقام الأول، هيجل، بما في ذلك أيضا أوغست كونت، الذي كان على ما يبدو روحا معارضة جدا لآلان، والذي في الواقع جعله آلان معروفا أكثر من أي شخص آخر. بحيث يكون تأثيره ذا شقين: كان هناك في نفس الوقت ذلك النوع من وميض الحكم الذي كان حاضرا دائما والذي كان له تأثير على أحداث اليوم وكذلك على الماضي، ومن ناحية أخرى كان هناك كل هذا التقليد الثقافي العظيم الذي مثله والذي قدمه لتلاميذه. (…)

نعم، أعتقد أن التعريف دقيق تماما. ولإعطاء مثال أعتقد أنه يجسد حداثة هذه الفلسفة، أو على الأقل يجعلها محسوسة بوضوح، أود أن آخذ المثال التالي: هناك مشكلة، كانت دائما مشكلة فلسفية، لكنها ظهرت في شكل صريح فقط مع الظواهريين ومع الوجوديين، وهي مشكلة الآخرين. هذه مشكلة، على حد علمي، لم يقل برغسون كلمة واحدة عنها، وهي مشكلة لم يقل عنها برونشفيك كلمة واحدة. بالنسبة لآلان، سيكون الأمر أقل تأكيدا. آلان في بعض النواحي أقرب بكثير إلى مشاكل الوضع من الفيلسوفين الآخرين اللذين ذكرناهما للتو. »

مقابلات مع جورج شاربونييه، فيردييه، 2016

أندريه موروا

"لقد عرفت القليل من الرجال العظماء، أعني بدون أدنى قش في المعدن. يمكنك عدهم على أصابع يد واحدة. الفيلسوف آلان هو واحد منهم، وهناك عدد غير قليل منا عرف ذلك، من طلابه أو قرائه.

ماذا طلب وما هو القسم الذي يجب أن يؤديه لهذه الروح العظيمة؟

أعتقد أن هذا القسم يمكن تلخيصه في كلمة واحدة: الأمل. يطلب منا آلان أن نثق في الإنسان، مما يؤدي إلى احترام حرياته. الثقة في روحنا للذهاب، من خطأ إلى خطأ، نحو الحقيقة ؛ والثقة في إرادتنا لإيجاد ممرات عبر الكون الهائل من القوى التي لا تريد شيئا. من يعرف كيف يشك ويؤمن، يشك ويتصرف، يشك ويريد يخلص.

من بين كتاب هذا القرن، من سيستمر؟ بالنسبة للجزء الأكبر، لن أجرؤ على الإجابة. لكنني متأكد من هذا ولا أطلب أي مجد آخر لنفسي، بين أبناء إخوتنا العظماء، سوى أن أعلن عن ذلك ".

أندريه موروا، آلان، إصدارات دومات

جورج شتاينر

"كان حضوره بلا شك بارزا في التاريخ الأخلاقي والفكري لأوروبا. تغلغل تأثيره في التعليم الفرنسي وعناصر مهمة من الجسم السياسي من عام 1906، وهو عام إعادة تأهيل دريفوس، إلى أواخر أربعينيات القرن العشرين. يتميز نثره باقتصاد ووضوح لا مثيل لهما. سحرت نزاهته الرواقية أجيالا من الطلاب والتلاميذ. أصبحت المقارنة مع سقراط روتينية. كان آلان "الرجل الحكيم في المدينة"، "سيد الأسياد". بالإضافة إلى الكتابات الفلسفية والسياسية، بالإضافة إلى مقالات عن الفنون والشعر، مثل توضيحه لفاليري La Jeune Parque، نشر آلان تأملات في السيرة الذاتية. Histoire de mes pensées، من عام 1936، جوهرة. وكذلك تأملاته في الحرب، في المريخ. »

جورج شتاينر، الماجستير والتلاميذ، غاليمار، 2003

"فرنسا لديها تقليد رائع من المفكرين الذين هم أيضا من بين أعظم الكتاب، والكتاب العظماء الذين يجب على كل فيلسوف أن يأخذهم في الاعتبار. وهنا – سوف تضحك لأنه يبدو قديما جدا – أدعي فكر آلان، الذي لا يزال حاضرا بشكل مكثف بالنسبة لي. هو أيضا كان يقول دائما: "قراءة ستندال أو بلزاك هي ممارسة الفلسفة".

جورج شتاينر سبت طويل، ص 85، فلاماريون، 2014

روبرت ماجيوري

"تفلسف نيتشه بضربات المطرقة. كان إميل شارتييه، المعروف باسم آلان (1868-1951)، سيختار الفحم، أو قلم رصاص ميكانيكي ناعم أو ريش أوزة، إذا لم يكن صريرا. كان كل شيء ذريعة له للقيام بالفلسفة، صامتة وهادئة، لكنه أراد - كما يليق بالراقص ألا يسمح برؤية العمل في البار الذي يعدها في أرابيسك - ألا يظهر أي شيء مما يجعل الفلسفة قابلة للتحديد، الجهاز المفاهيمي، المراجع، تنظيم الأفكار، جمخانة الفكر. وهكذا، وباختصار من الكتابة والحكمة الحكيمة، ألقاها في مقترح شهير مخاطرة، صحيحا، بأن يعتبرها المتعلمون صحفيا، أو كاتب مقالات، أو في أحسن الأحوال، أخلاقيا. »

«عندما يكون الراقص نجما، فإنه لا يظهر في الأرابيسك الخفيف العمل الشاق في البار الذي يعدهم، ولا التدريب القسري والتعب والتشنجات. بالنسبة لآلان، نفس الشيء: الرغبة في عدم ظهور أي شيء يجعل الفلسفة قابلة للتحديد - الجهاز المفاهيمي، والإشارات إلى الفلسفات الأخرى، وتنظيم الأفكار، والإجراءات الجدلية - قدم لآلئ نقية من الحكمة التي بدت وكأنها لا تأتي من ورشة عمل، على غرار تلك المنحوتات الدقيقة التي تستخرجها شفرة جراحية من عود ثقاب أو رأس دبوس أو حبة أرز. نحن نختبر فيه الجمال والصغر، أعمال صحفي، كاتب مقالات، أو، في أحسن الأحوال، أخلاقي، وليس فيلسوفا".

جان بولهان

أول ما يذهلك بشأن آلان هو صحته الجيدة: لديه عين ثاقبة وخصر مرتفع وبشرة ملونة. إنه في مزاج جيد. يجعلك تريد أن تعيش. هذا ليس شائعا جدا بين الفلاسفة. يقول عن نفسه: "لدي شكل Percheron. إذا سافرت من Nogent-le-Rotrou إلى Argentan، فسوف تقابلني أكثر من مائة مرة. لذا، فإن آلان طبيعي. ورع! أنا لا أقصد عاديا. بل هو عكس ذلك. كان صديق لي يعاني من آلام في العين. قال له طبيب العيون الذي فحصه: "لديك عيون طبيعية تماما". وأضاف: "هذا غريب. لا يحدث مرة واحدة بالملايين.

آلان، أيضا، لا يصل مرة واحدة بالملايين. إنه ليس طبيعيا فحسب، بل يعرف ما يعنيه أن تكون طبيعيا. هذه معرفة لا يمكن وضعها في صيغ أو أنظمة. لكن يكفي أن نتذكر أقوال آلان المفضلة. مثل ماذا: نحن لسنا متأكدين أبدا من العثور على الأفكار حيث تركناها. على العكس من ذلك، يجب إعادة اختراعها في كل مرة.

ماذا يعني، ماذا يظهر بمثاله؟ هذا لأنه لا يوجد شيء للإنسان يعتبر أمرا مفروغا منه، لا الفكر ولا العلم ولا التكنولوجيا ولا المجتمع. هو أن كل شيء يجب أن يبدأ من جديد.

حسنا، هذا هو المكان الذي يكون فيه آلان طبيعيا، وإذا جاز لي القول، فهو شائع. عندما تذهب فتاة صغيرة إلى الكرة لأول مرة، فهي بعيدة كل البعد عن التفكير في أنها ستذهب بالفعل إلى الكرة لأول مرة. يبدو لها، في نقل السعادة، أنها أول فتاة صغيرة في كل العصور أعطيت لها للذهاب إلى الكرة.

إذا قرأت آلان، سترى بسرعة أن هذا هو حظنا جميعا، وعظمة مصيرنا: إنه أن العالم، مهما قال المرء، لم يخلق بعد. هذا لأنه كان ينتظرنا.

جان بولهان، 1952.

أوليفييه بوريول

(…) آلان فيلسوف. فيلسوف يستحق أن يدرس على هذا النحو، ليس فقط لصيغه التي غالبا ما تقترح كمواضيع البكالوريا، أو لدراساته التي تقدم سبينوزا أو أفلاطون أو ديكارت أو كونت أو هيجل، تأملات مكتوبة لموهبته كمعلم. إنه فيلسوف صعب، غالبا ما جعله جمال أسلوبه يبدو وكأنه كاتب ضائع في المفهوم، كما لو أن روسو لم يكن قد وضع بالفعل مثالا لفيلسوف يعرف كيف يكتب.

أوليفييه بوريول، آلان، لو جراند فوليور، لو ليفر دي بوتشي، 2006

أندريه كونت سبونفيل

"أين المزيد من الجمال؟ أين المزيد من الحقيقة؟ أين المزيد من الإنسانية؟ سيجد البعض أنه من الغريب أن آلان غالبا ما يساء فهمه أو نسيانه، على الأقل في الصالونات، عندما لا يتوقف الطهاة أو السفسطائيون أو الفاعلون على العكس من ذلك عن احتلال مركز المسرح.»

أندريه كونت سبونفيل، من المأساة إلى المادية والعودة، PUF 2015

***

علي عمرون – اختصاص فلسفة

تصفير الماضي بممسحة الحاضر البائس، دون غربلة نقدية موضوعية، يسطر مستقبلا محفوفا بالتشوه والاغتراب، كالباحث عن شماعة ليعلق عليها خيباته دون تبصر فيما حوله من تفاعلات لا تحتمها الوراثة!

والدعوة للنهضة الشاملة، إقرار بحالة النكوص والتقهقر والإنحطاط الشامل، الذي نجد أنفسنا فيه، بالمقارنة مع الاقران، ومع ما كنا عليه صعودا ونزولا، وما وصلنا اليه من نزول، ومع ما نطمح اليه من صعود، وهذا بحد ذاته علامة صحية وسوية ودالة على اننا مازلنا ننبض بالحياة، برغم كل تداعيات التبعية والإستهلاكية، والتوكلية، والدونية، وشيوع الاستبداد، والفساد، والجهل، والمرض، والفقر المادي والمعنوي الذي تخمر، وتخلل، وصار طقسا يفرض شروطه على كل مضارع فينا!

وعي الحالة وتشخيصها يستدعي البحث أولا في جذورها ومسبباتها، ثم أعراضها، والمعرفة هي رأس الحكمة هنا بحيث يقع على العارفين فيها فروض مزدوجة تجمع بين إجتهاد العين والكفاية، ولا يكفوا حتى يجعلونها فرض عين للعامة، بعد إجتهادهم في السعي للاولويات وثقتهم بما يعرضون من معالجات، ليصبح الحث صوبها قمة التثاقف العضوي، وهو مهمة الخاصة التي لا غنى عنها في اي إنتقال محمل بأثقال التنازع والإنكفاء  . 

دوران الحال يبعث فينا دوخة من يتعاطى زهورات الخشخاش،  الذي يُغيب البال لنشوة يهرب فيها من واقع الى آخر، ليس فيه مكان وزمان، وبالتالي ليس فيه منجز ولاعمران، وما يزيد الطين بلة ان يعمي بعضهم العيون بدلا من تكحيلها بإجتهاد نافذ ومتأصل ونابع من صميم بصمة وخصوصية مجتمعاتنا، يستسهلون الطريق مغتربين عن جادته بتعليقهم العلل كل العلل على شماعة التراث بكل ما فيه من دين وحضارة وثقافة ولغة، وكلسعات الزنابير تترك اوراما على الجلد تزول بعد حين ويبقى الجلد على حاله!

التعاطي النقدي البناء مع الماضي والحاضر لإستشراف مستقبل افضل يستلزم زاد وأدوات لا تحيد عن المعرفة الصرفة والموضوعية، وتجافي التبعية والتبصر بعيون مستعارة وينفض عن منهجه القطع في المحاولات والإستغراق في جلد الذات وإستسهال النقل عن إعمال العقل، وليس أي عقل، فالعقل عقلان، منضبط، ومنفلت، الاول ينطلق من الذات للموضوع ومن الخاص للعام ومن التخيير للتسيير، ويركز على جدل الظواهر والسمات ويخلص للحتميات ولا يجامل في الدفاع عن حصيلة فيها شفاء لعلة، والثاني مطلق العنان للمغامرة في المتاهات حتى لو كان فيها خراب غير منظور مادام للمتاهة سوق رائجة تشوش العقل وتجعله مغلوب على أمره، فمقارعة اي طبيعة كانت دون ضوابط واحكام، لها مآلات غير إنسانية خطرة خطورة الذكاء الاصطناعي، عندما يصبح خارج سيطرة الإنسان المسؤول عن بقاء النوع واحترام الطبيعة.

 البحث في التراث كأي إجتهاد وهو ليس ببدعة إنما هو قراءة متجددة بهدف إلتقاط ماينفع من النواميس، وله حسنتين إن أصاب، وحسنة واحدة إن أخطأ، وهذا ما نتعلمه من مذهب ابو حنيفة النعمان في القياس، ومن معطيات التراث نفسه ما يزكي ما ذهبنا اليه، ففي السيرة ما يعزز هذا المنحى، إجتهاد سليمان الفارسي في بلورة فكرة حفر الخندق التي تقبلها النبي رغم جدتها على نمط القتال عند قبائل العرب وقتها، وما قام به الخليفة عمر بن الخطاب المؤسس الثاني للنظام السياسي للدولة الاسلامية الاولى، الرشيدة، عندما أجاز إستخدام نظام الدواوين في شؤون الادارة وضمنها الكثير من أنظمة الضرائب بعد تعديلها لدواوين الخراج وبيت المال والجند وهي في الاصل رومية وأعجمية، في حوارات الامام علي مع الخوارج نفحات من التعاطي الإنساني مع المعارضة، والامثلة كثيرة .

واحدة من الإشكاليات في منحى التعاطي المعاصر مع التراث إرتباط النقد العمودي له بمواسم  الهزائم والانكسارات الكبرى، وبتغول نهج الاعتماد على الخارج في تلبية الضروريات،  بمعنى غياب المؤسسية النقدية التي تُقوم وتُقيم المواقف والحاجات وفي كل الاوقات، وهذه العلة لها جذر في طبيعة السلطة التي حورت مقتضيات الدولة بكل مرافقها وحولتها لغنيمة ووقف للمتسلطين!

الظلم مؤذن خراب العمران "إبن خلدون" :

لتقدم بلاد الغرب، وتخلفنا، علل داخلية وخارجية، وقبل الولوج فيها، لنتفق على ماهو مثبت، لم يكن الغرب مصدرا للاشعاع طوال الوقت بل كان الشرق هو مركز العالم، وكان قلبه النابض، ولم يجانب الصواب فولتير عندما قال : الغرب مدين بكل شيء للشرق وتقدمه، وكتاب " الجذور الشرقية للحضارة الغربية " لجون هوبسون المنشور عام 2007 يتكفل بشروحات تبرهن بطلان سردية التسلسل الانعزالي المتعمد، وذي النزعات الاستعلائية، التي تغذي الميول العنصرية للمركزية الاوروبية، كوازع للتفوق الذي يبرر الهيمنة بجعلها فطرية بنسبها، وعذراء بعذرية المجدلية، وكأنها نفحة قدرية بها قال الرب قولته حيث نهاية التاريخ، والانسان الاخير كما يذهب فوكوياما، بحكم يسوده شعب غربي ابيض هو المنتصر النهائي بل هو خاتمة الانسانية، بتزكية القوة التي يحتكرها وإعاقة المتطلعين والمتمردين بالترويض والخنق والإبادة ان تطلب الامر، اليونان القديمة انجبت روما، وتولدت عنها اوروبا المسيحية، وتمخضت، فولدت عصر النهضة، ومنها بزغ عصر التنوير، بمزج الديمقراطية السياسية والليبرالية الشاملة بالثورة الصناعية، ومن هذا المزيج نفحت الولايات المتحدة الامريكية التي تجسد الحياة والحرية والسعادة لتابعيها على الارض، ومن لا يركب قطارها، ذنبه على جنبه، حيث الانقراض والإبادة!!

 الحقيقة المطموسة ان الحداثة الغربية ذاتها لم تأتي من اليونان أو روما إنما من إحتكاكات بالثقافات غير الاوروبية وابرزها الشرقية الصينية والإسلامية، وعندما صدم المصدومون بها وعايشوا خرابها وتوحشها راحوا يبحثون عن ما بعدها، حداثة مجرمة إبتدأت بالإبادة الجزئية وتسرع الخطى نحو الإبادة الكلية حيث العبث بمصير الكوكب بما عليه!

يجافي المنطق من يصنف الحضارة اليونانية بالغربية، فهي ليست فقط جارة لصيقة بآسيا ولها بعد أفريقي عززته كريت مع المصريين وكما فعلت قبرص بالنسبة للفينيقيين، وإنما لم يكن لها مجال حيوي الإ في الشرق لان عمقها الجغرافي الشمالي بائر حضاريا، وبحر إيجة أرخبيل يعج بجزر التواصل وآسيا الصغرى تغذي وتضخ بما يفتق المعرفة المتنوعة بتنوع البضائع وتجار البر والبحر وحملات الجيوش، من إسبارطة نزولا الى أثينة وطروادة وإيونية الى الهوريين والحوثيين الى حيث الميزوبوتامية، الى التمدن الاول والارقى والاعمق والانبل، الى حيث السومريين لب التكوين وسره الاول، حيث طغيان النبوغ في مشاعة الحكم وحكمته والتنوع في التجاوز، والجاذبة لفضول المتطلعين للاندهاش، كالموشور يجمع ويفرد ويفرز جنائن وقوانين أكثر إنسانية من حداثة الغرب، من الوركاء وبابل وآشور من الصين والهند وفارس وآسيا الوسطى الى آسيا الصغرى لليونان والعكس كما في حملة الإسكندر المقدوني التي غزت الشرق وتفاعلت مع معطياته َ!

العلل داخلية وخارجية:

الاستبداد الداخلي والخارجي وتعاشقهما هو علة العلل في واقع تخلفنا، الذي يحتم الاضطراب وحجر الابداع المعرفي والحسي ويستبعد الاستقرار المجتمعي الذي يراكم الخبرات والثروات ويبعث بها روح الاستثمار المنتج للقيم المضافة، وخارجيا هيمنة الاستبداد الكولونيالي والاحتكاري ثم العولمي الذي يعمق تخلفنا وبالتالي تبعيتنا!

 الحريات العامة والخاصة وتفاعلها في ظل سلطة مؤسسات فعلية تقوم على اعتبار كل السكان شركاء في الوطن وهم مصدرسلطته ومناعته وثروته، ولهم جميعا حقوق وواجبات دستورية على اساسها يتم اختيار الحكام عبر آليات مستقلة فعليا وتتجسد عبر نظام التخصص وفصل السلطات، في دولة تترجم لوائح حقوق الانسان التي أبدع اصولها الشرق تحديدا قبل الغرب، ترجمة نافذة شكلا ومضمونا، دولة تنشد الرقي والرفاه، بالتحرر من الجهل والفقر والمرض والتبعية!

***

جمال محمد تقي

قيل ان يموت وهو على فراش المرض تمتم نيتشه بكلمات غامضة:" اضع يدي على الألف القادمة " واليوم تصادف الذكرى " 180 على ميلاده، ونحن نعيش عصر مواقع التواصل الاجتماعي وثورة الانترنيت لايزال الحديث عن نيتشه يشغلنا، ففي كل يوم يولد قارئ جديد سيقرأ فيما بعد سطراً من " العلم المرح " فيدهشه، أو كلمات من "هكذا تكلم زرادشت " فتسحره، او تغريه عبارة من إرادة القوة، ويظل هذا الفيلسوف الذي مات مجنونا لغز عالمي، فنيتشه كما كتب يوما الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز:"لا يمكن استنفاذه، وقد غرف كل جيل من نبع رؤاه، وسعى الى استنفاذه، وقد بليت كل الانية وتكسرت، غير انه في العمق، ما يزال النبع نضاحاً لا ينضب "  .

كان نيتشه رجلا ذا مظهر صادم، متوسط القامة، ملابسه بسيطة، له شعر مسحوب الى الخلف، شاربه الكث مرتب ترتيبا دقيقا تخبرنا لو سالومي في كتابها " سيرة فكرية " – ترجمة هناء خليف غني – انه كان هادئا في سلوكه، وله اسلوب واضح ودقيق في التحدث .وتختتم سالومي انطباعها بالقول:" كان الرجل الاكثر تاثيرا وجاذبية الذي قابلته على الاطلاق " ..عند النظر الى صورة نيتشه الشهيرة بشاربه الكثيف ونظراته الحادة التي تبدو متشائمة في كثير من الاحيان، والعينين التي تمنح صاحبها انطباعا بالعزلة والانطواء، وهيأته الانيقة المدروسة، نكتشف حالة الغموض التي حاول ان يحيط بها نفسه، ورفضه وجود مَثَلٍ أعلى،:" انتصتوا ! فأنني على هذا النحو أو ذاك . فبحق الله لا تخلطوا بيني وبين أي شخص آخر " - هذا هو الإنسان ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد - .

في الرابعة والاربعين من عمره كتب فريدريك نيتشه:" إذا قُدر لك يوما ما ان تكتب عني .. فاستعن بالحصافة التي لم يتمتع بها احد للأسف، حتى الآن، واذكر خصائصي، اي اكتب وصفا لي لا تقييما لي .. فليس من الضروري على الاطلاق، ان ينحاز احد الى صفي، بل على العكس، إذ يبدو لي ان جرعة من حب الاستطلاع، كالتي يتسم بها من يشاعد نباتا غريبا، الى جانب مقاومة ساخرة، تمثل موقفا ازائي لا يدانيه في الذكاء شيء " .

منذ صدور كتابه الاول " مولد التراجيديا " عام 1872 ادرك نيتشة قوة واهمية كلماته، حيث شبه نفسه " بالقوة القاهرة " التي تكتب لتنتشر الكلمات في العالم، تبرق كاصاعقة، ظل يؤمن ان بامكانه بجرة قلم أن يقسم تاريخ البشرية الى قسمين " قسم عاش قبله، وقسم يعيش بعده " هذه الكلمات التي كتبها في كتابه " غسق الاوثان " قبل شهرين فقط من فقده عقله، لم يتوقع العالم ان ما كتبه هذا الرجل المجنون كان صحيحا . لكنه سيثبت فيما بعد بانه كان على حق بعد ان اعلن ان هدفه الاساسي كفيلسوف هو كشف الاوهام:" ان الانسان يصل الى العظمة عندما يصبح قادرا على الرقص من دون خوف وهو على حافة هاوية الموت . على حافة هوة وفراغ الوجود اللامعقول ودون ان يتراجع.

منذ سنوات وانا اتابع كل ما يكتب ويترجم عن نيتشه، ولست وحدي من القراء العرب من أغرم بهذا الفيلسوف الغريب الأطوار، والذي كتب عنه الكثير منذ ان كتب فرح انطوان عام 1908 سلسلة مقالات عن فلسفة نيتشة التي وصفها بالنقدية، ثم اصدر عام 1914 مرقس فرج بشارة كتاب بعنوان " هذا هو نيتشه "، مبرراً كتابته بالسعي لبث الحيوية في التاريخ العربي وإلهام الأمم التي تريد أن تتقدم وتنمو وترتقي بالنوع الإنساني، وما خصصه سلامة موسى لنيتشه من مقالات نشرها في مجلته الجديدة ولقي نيتشه اهتماماً من دعاة النهوض العربي، فترجم فيلكس فارس " هكذا تكلم زرادشت " اراد من خلال الترجمة كما يخبرنا سحق مشاعر الذل والمسكنة في الحياة العربية، وبث روح القوة فيه، ثم توالت الكتب عن نيتشه واصدر عبد الرحمن بدوي عام 1939 اول كتبه عن نيتشه وقد كتب في المقدمة:" ما نحن اولا نضع بين يديك اول صورة من صور الفكر الاوربي: صورة حية قوية فيها عنف وفيها قسوة، وفيها تناقض وفيها اضطراب،وفيها خصب وفيها حياة . ونحن نعلم مقدما انك لن تطمئن اليها، وان الكثير من القلق سيساور نفسك بازائها، ونخالنا نرى عينيك الآن وهما تتسعا دهشة واستغرابا، ونحس بقلبك وهو يهتز جزها منها وقشعريرة . ولكننا نعلم ايضا ان هذه الهزة هي القادرة وجدها على انتشالك من الظلمة التي انت فيها الى نور الفكر الحر والنظر الصحيح الى الاشياء ."، ثم كتاب فؤاد زكريا اضافة الى ترجمة معظم كتبه باكثر من ترجمة الى اخر كتاب اصدرته المطابع العربية عن نيتشه بعنوان " الحكمة التراجيدية " من تاليف الفرنسي ميشيل أونفراي والذي يقول انه يقدم في كتابه:" نيتشه الذي ادفع به هش، يحب النساء لكنه لا يعرف كيف يعبر لهن عن ذلك، لذا فانه يحتمي منهن فيظهر كالكاره لهن،إنه صاحب رقة وكياسة ووقار في حياته اليومية، لكنه على الورق يطلق العنان لأحصنته، ويُسمع دوي مدافعه، وازيز رصاصه، ويقتحم جبهات الفلسفة متسلحا بالحكمة الصادقة فقط، انه انسان معطاء، يكتب مثل شاعر كبير " – الحكمة التراجيدية ترجمة جلال بدلة -

لقد ادرك نيتشه منذ سنواته الاولى ان الظاهرة الأساسية القادمة في ثقافة الغد ستكون حتماً هي حاجة الفرد الى تمييز نفسه من الجماعة، ومن أكثر أوصاف نيتشه تاثيرا في النفس وصفه للانسان، والذي يرى نفسه شبيها بالأله، ففي هذا الوصف لايعود للانسان قمة اخرى يسعى اليها . وثمة طابور طويل من الادباء والفنانيين والفلاسفة وجدوا في عالم نيتشه دغدغة لمشاعرهم وتحفيزا لافكارهم، ويتراوح هؤلاء من شبلنجر الى هرمان هسه، ومن ريلكه الى عزرا باوند ومن توماس مان الى أليوت وحتى سارتر وهيدغر وكامو، هؤلاء جميعا يجدون انفسهم في كتابات نيتشه، وفي اشعاره الفاتنه، ولا يمكن لاحد اليوم ان يتجاوز نيتشه فنراه أختار لنفسه قناع صاحب الفكر الحر، او الداعية الى الاخلاق، او عالم النفس، او النبي، او المجنون، غير ان فكره يبقلى في ذلك جميعه وجوديا وتجريبيا ونموذجيا، وجودي لانه عني بتشكيل حياة نيتشه نفسه، وتجريبي لانه يضع المعرفة والتراث الاخلاقي جميعه موضع الفحص والاختبار، ثم ان تفكيره نموذجي في الاجابة على مشكلة العدمية التي نادى بها استاذه شوبنهور ..لقد شكك نيتشه تشكيكا اساسيا في معظم المفاهيم الفلسفية .

غالبا ما يعتبر نيتشه احد الأباء الروحيين للفلسفة الوجودية الحديثة التي ظهرت في القرن العشرين، ويكتب عبد الرحمن بدوي ان تاثير نيتشه على سارتر وهيدغر وكامو ربما يفوق تاثير كيركجارد . لا يوجد هدف أبدي ولا يوجد معنى أو مغزى مطلق للوجود البشري، هكذا يكتب كامو في مقدمة اسطورة سيزيف، وهو يقتبس هذه العبارات من هكذا تكلم زرادشت، يصر نيتشه على ان ما نصادفه في الحياة  مجرد تفاهة، اطلق عليها تعبير تفاهة اللامعنى . أن أرادتنا وقدرتنا على اتخاذ القرارات هي التي تميز البشر عن باقي المخلوقات وان انحطاط الأنسان العصري يظهر في كونه جبانا يفتقر الى فضيلة الشجاعة، لكن ألأنسان المتفوق هو ذلك الذي لايخشى ان يمارس رغبته في بلوغ المجد حتى أعلى المستويات .

ورغم ان الفلسفة الوجودية تدين بالكثير الى نيتشه، وينظر اليه مع كيركغارد، على انهما من رواد الوجودية، الا ان نيتشه يقف في كثير من الاحيان بالضد من كيركغارد الذي يصور الانسان الفرد على انه ضعيف، وعاجز، وجبان، ويجرد الفرد من جميع القدرات الانسانية، ويرى ان فقدان الانسان للايمان بنفسه، يدفعه للايمان المطلق بالله لحل مشكلاته الحياتية . لكن نيتشه يرفض هذا الحل الديني ن وهو يرى ان كيركغارد يحاول حل مشكلات الانسان عن طريق ادارة عقارب الساعة الى الوراء، والعودة الى الحكم المسيحي الذي يفرض تسليم النفس لله، وهذا مستحيل في نظر نيتشه، لان الله قد مات، وربما تكون فكرة موت الاله هي ابرز اسهامات نيتشه في الفلسفة الوجودية .

والان ربما يسأل البعض: لماذا نقرأ نيتشه، ولماذا كتبه لاتزال بعد اكثر من 120 عاما الاكثر مبيعا، فيما لو قمنا بكتابة كلمة نيتشه في موقع " غوغل " ستظهر لنا الالاف الكتابات والصور عن هذا الفيلسوف الذي كان مؤمنا بان مهمة الفلسفة تعليمنا كيف نصير نحن ..وتعلمنا كيف نكتشف اعلى مقدراتنا، وكيف نكون اوفياء لها .

قبل اعوام قليلة صدر كتاب يطرح فيه مؤلفه الكاتب الانكليزي باتريك ويست فكرة تخيل عودة نيتشه الى حياتنا هذه الايام، ويناقش تاثير نيتشه على عصرنا الحاضر، فهذا لفيلسوف الذي اخترع كلمة السوبرمان، لاتزال افكاره حول طبيعة الخير والشر، وارادة القوى، تردد صداها في جميع أنحاء العالم، وفي وسائل الاعلام، ونجده يظهر في سلسلة هاري بوتر كانسان خارق، يطرح الكاتب سؤالا: هل نحن مدينون لنيتشه، الذي اكد ان " ما هو عظيم في الإنسان، أنه جسر وليس هدفًا ". .

يقول الكاتب أن نيتشه يحب أن يطرح أسئلة. وقد كان يعتقد أنه كلما زادت عدد الأسئلة التي نطرحها كلما زادت الحكمة التي نكتسبها ونطورها في حيانتا بشكل أفضل، وان الانسان عندما يعاني للوصول الى هدفه فان ذلك افضل له، فالشجاعة هي في مواجهة الصعوبة، والسماح لنفسك بالعيش بشكل تجريبي، واستكشاف خبرات الحياة بجرأة:" كن ممتنا لأنك لم تأخذ الطريق السهل وتستمر في ذلك مثل "متعرج ممل".

لقد احببت نيتشه منذ ان انتهيت من كتابه " هكذا تكلم زرادشت " قبل ما يفارب الاربعين عاما، ورحت منذ ذلك الوقت ابحث عن هذا الفيلسوف الغامض والغريب، جذبني شيئًا ما باتجاهه وبدأت أشعر بإغراء لكل ما كتبه وما كُتب عنه، وتعلمت منه أن اقرأ بتمعن لاتمكن ان اجيب عن سؤاله الذي يطرحه في كتابه " هذا هو الانسان ": هل فهمت؟ . هل يمكن ان تشاركوني افضل كتاب قرأتموه لنيتشه؟

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

توطئة: أفرد طه حسين في كتابه الموسوم " تجديد ذكرى أبي العلاء " (2) فقرة قصيرة خاصة أسماها [البعث] حاول فيها معرفة حقيقة موقف وقناعة أبي العلاء المعري في موضوعة القيامة بعد الموت أو النشور أو البعث، والموضوعة هذه تمثل واحداً من أركان الديانة الإسلامية كما هو معروف. بذل الدكتور طه حسين في سبيل ذلك جهداً كبيراً مستقصياً ما قال أبو العلاء في هذه الموضوعة من أشعار. لم تسعفه هذه الأشعار ولم تساعده للوصول إلى نتيجة قطعية بعد أنْ نقّب وقلّب يمنةً ويسرة ً حتى إنتهى إلى نتائج ليست قاطعة حاسمة فخلص مرة ً إلى القول إنَّ الرجل شكّاك لا أكثر، أو إنه ينفي البعث، أو أنَّ الرجل مسلم مؤمن ملتزم بأركان دينه، وثمة مرة رابعة أفاد فيها أنَّ أبا العلاء لا يستطيع الجزم في أمر البعث والآخرة والحساب، أي أنه متردد حائر. كانت هذه أبرز إستنتاجات طه حسين فيما يخص موقف المِعرّي مما يأتي الإنسانَ فيما بعد الموت. أكرر، إعتمد طه حسين على ما قال المِعَرّي من أشعار في هذا الصدد وهو منهج علمي سليم لا غبار عليه، لكني لا أراه كافياً وافياً بل وأحسب أنَّ الركون إلى هذه الأشعار وحدها لا يكفي ولا يشفي الغليل ولا يوصل الباحث إلى النتيجة المُبتغاة. ما هو البديل إذاً؟ البديل أو المتمم هو كتاب رسالة الغفران (1) لأبي العلاء المعري. نعم، في هذا الكتاب يجد الباحث ضالته ويقف على مواقف الشاعر الضرير الحقيقية ومعتقداته حول الآخرة والجنة والنار. من يدرس رسالة الغفران دراسة متأنية يجد المعري واضحاً فيما تناول وكتب في رسالته. يجده ليس رجلاً شاكاً في العالم الآخر (الآخرة) حسبُ، بل وساخراً منه أيما سخرية... سخرية تتبدى في كل كلمة قالها أبو العلاء وفي كل سطر دبّجه وفي كل فكرة تناولها. لكنه كان ذكياً جداً حذراً جداً فتوارى خلف أساليب لغوية وآيات قرآنية تجنبه نقمة الناقمين وغضب المتعصبين وتجنبه الكثير من المتاعب وهو الرجل الأعمى العاجز المكتفي بغيره. أجلْ، كانت السخرية أسلوب وسلاح الرجل في هدم أسطورة النار والجنة والحياة بعد الموت. إتخذ الأدب والشعر والعديد من آيات القرآن الكريم وسائلَ وأساليبَ لهدم كل ما راكمت الأديان من أفكار ومعتقدات وتصورات حول العالم الآخر الذي ياتينا بعد الموت. فلا قيامة في نظره ولا حشر ولا حساب ولا كتاب ولا من جنة ولا من نار. سأعتمد لإثبات صحة إستنتاجي هذا على مواقف محددة وردت في كتاب (رسالة الغفران) وأترك الحكم النهائي للقارئ الكريم. قبل أن أنصرف لعرض بعض ما ورد في رسالة الغفران من أفكار وحجج مبطنة تنسف العالم الآخر، عالم الغيب... سأنقل قبل ذلك بعض ما كتب طه حسين (2) حول الروح والبعث ثم أستعرض بإختصار شديد ما قال في بعض أشعار المعري ذات العلاقة.

[لا يشك أصحاب الديانات في البعث، ولا يمتري المسلمون في حشر الأجسام، بذلك نطق القرآن الكريم في كثير من آياته. فأما الفلاسفة الماديون فينكرونه جملةً. وأما الفلاسفة الإلهيون من اليونان " ولا سيما الأفلاطونية " فينكرون حشر الأجسام، ولا يؤمنون ببعث الأرواح كما نفهمه نحن من الدين، ولكنهم يقولون بخلود الروح، وإنها تنتقل بعد الموت إلى عالمها العقلي، فتشقى أو تُسعد بتذكار ما صنعت في الحياة. ولا بدَّ عندهم من أن تعودَ إلى صفائها بعد المحنة. فلما نُقل هذا المذهب إلى المسلمين صبغه الفلاسفة منهم صبغة الإسلام فسموا رجوع الروح إلى عالمها العقلي بعثا ً، أما أبو العلاء فقد إضطربَ رأيه في البعث إضطراباً شديداً فمرةً أثبته فقال:

وإني لأرجو منه يومَ تجاوزٍ

فيأمرُ بي ذاتَ اليمينِ إلى اليسرى

*

وإنْ أعفَ بعد الموت مما يريبني

فما حظيَ الأدنى ولا يديَ الخُسرى

وتارةً يُنكره نصاً فيقول:

ضحكنا وكان الضحكُ منا سفاهةً

وحُقَّ لسكان البسيطةِ أنْ يبكوا

*

تحطمنا الأيامُ حتى كأننا

زجاجٌ ولكنْ لا يُعادُ له سبكُ

على أنَّ أبا العلاء لم ينفِ البعث في هذين البيتين وحدهما، بل نفاه أكثر من ستين مرة في اللزوميات. ومن أشنع قوله في ذلك ما رواه القفطي وياقوت.... ثم يقول طه حسين: وتارةً يقف أبو العلاء في أمر البعث موقف الشك فيقول

يا مرحباُ بالموتِ من منتَظَرٍ

إنْ كان ثمَّ تعارفٌ وتلاقِ

وتارةً يجزم بمذهب أفلاطون في الروح فيقول

وإنْ صدئتْ أرواحُنا في جسومنا

فيوشكُ يوماً أنْ يعاودَها الصقل

ثم يواصل طه حسين سوق حججه فيقول: ومهما يكن من شك أبي العلاء أو إنتحاله الشك في البعث، فإنه لا يرتابُ في قدرة الله عليه، وفي ذلك يقول:

وقدرةُ اللهِ حتى ليس يُعجزها

حشرٌ لجسمٍ ولا بعثٌ لأموات ِ]

إنتهت مقتبساتي مما قال طه حسين.

لقد سبق المتنبي أبا العلاء في تناول موضوعة علاقة النفس بالجسد بعد الموت ولخص موقفه منهما بدقة وإختصار شديد وفي بيت شعري واحد بناه على شكل تساؤل نسبه لغيره مستخدماً أسلوب المبني للمجهول (قيلَ) لكي ينأى بنفسه عن إتهامات مبغضيه وأعدائه وكانوا كُثراً في حياته وبعد مماته قتلا غيلةً. قال المتنبي (3):

تخالفَ الناسُ حتى لا اتفاقَ لهمْ

إلا على شَجَب ٍ والخُلفُ في الشجَبِ

*

فقيل تخلصُ نفسُ المرءِ سالمةً

وقيل تشركُ جسمَ المرءِ في العطبِ

خلاصة دراسة طه حسين لمسألة البعث لدى المعري في أشعاره:

أولا / إنه يشك فيه يوماً

ثانياً / وينفيه يوماً آخر

ثالثاً / إنه حائر في الأمر عاجز عن القطع به.

رابعاً / وإنه لا يشك في قدرة الله على إتيانه.

وهذه ثنائية غريبة، يؤمن المعري هنا بالله وبقدراته الخارقة لكنه لا يؤمن في أماكن أخرى بالبعث أو يشكك به أصلاً. فهل من الممكن فصل الإثنين عن بعضهما، أي وجود الله الخالق وعدم وجود حشر وقيامة وحساب وجنة ونار؟ نعم، هذه هي عقيدة أبي العلاء كما أرى. أسالُ المعري وهو في قبره سؤالاً: إذا محونا النصف الآخر لعالمنا، عالم ما بعد موتنا، فما جدوى وجود إله خالق يقال عنه سرمدي لم يلدْ ولم يولدْ خارج المكان والزمان؟ هل يستمر في خلق بشر جديد يوماً بعد يوم يلقيهم على أديم الآرض ويقول لهم وداعاً لا أراكم ولا ترونني يا معشر البشر... لا من حساب ولا من جنة ولا نار؟ إذا صح ذلك {وجود الله بدون بعث وآخرة وقيامة وحساب} فإنَّ معكوسه سيصح بعد ذلك.أعني وجود البعث ولكن لا من وجود للرب الخالق!! وهذا هو منطق الأفلاطونيين ـ وربما تأثر بهم المعري ـ الذين (ينكرون حشر الأجسام ولا يؤمنون ببعث الأرواح، ولكنهم يقولون بخلود الروح وإنها تنتقل بعد الموت إلى عالمها العقلي فتشقى أو تُسعد بتذكار ما صنعت في الحياة، ولا بدَّ عندهم من أن تعودَ إلى صفائها بعد المحنة). الأجسام فانية تتفسخ تحت التراب لكنَّ الروح خالدة أكانت صالحة أم طالحة في الحياة. وفي عالم العقل تصفو وتتنقى الأرواح الشقية الشريرة التي لم تكن صالحة في الحياة أي تتطهر لتغدو متطابقة مع مثالية عالم العقل. إذاً ليس في عالم أفلاطون نارٌ للكفرة والملحدين تعذبهم فيها ملائكة النار، بل هناك ما يشبه المدارس أعدت لغسل أدمغة العاقين والكفار وغير المؤمنين يتطهرون فيها ليدخلوا بعد ذلك ملكوت العقل الأبدي الخالد. وهذا ما ذهب إليه دانتي في الكوميديا الالهية حيث أوجد منطقة تتوسط الجنة والنار أسماها المطهر. الروح هنا لا تتعذب ولا تٌشوى بنيران جهنم ولا من سلاسل حديد في الأعناق وحول الأرجل. الرحمة هنا وكل العناية بالإنسان سواء من قبل خالقه إذا كان هناك ثمة من خالق أو من قبل الموكلين بعالم العقل كما يتصوره الأفلاطونيون وبعدهم دانتي. ديننا الإسلام قاسٍ مقفل لا يعفو في الآخرة عن مسيء ولا يقبل توبة وهو شديد السادية فصور العذاب والتعذيب وأساليبها وأدواتها كثيرة في القرآن الكريم وقد تعلم منها البعثيون وتبنوا أسلوب الإسراف في السادية وقتل الناس وتعذيبهم والتمثيل بأجسادهم قبل وبعد قتلهم. ليس من خيار أو طريق ثالث للإنسان في الإسلام، إما الجنة أو النار. طرفان متناقضان كليةً ً، في غاية التطرف والتباعد. ليس من منطقة وسطى فيما بينهما. لا وجودَ للتدرج أو التوبة فالغفران في الآخرة. التوبة مقبولة في الدين الإسلامي ولكن في حياة الإنسان في دنياه الفانية. لا تُقبل التوبة منه بعد موته ما دام قد وصل الآخرة كافراً أو ملحداً أو غير مؤمن أو مشركاً أي يحمل رأياً أو معتقداً أو قناعة مخالفة للدين الإسلامي. لا الله ولا دينه الإسلام يقبلان الإختلاف في الرأي والمعتقد. لا أزعم أن المستبدين وجبابرة التأريخ جميعا ً تعلموا وأخذوا طبيعة وأساليب الإستبداد عن الدين الإسلامي فالإستبداد ظاهرة قديمة جداً بداياتها إنقسام المجتمعات البشرية إلى مسُتغِل ومُستغَل.

المِعَرّي والجنة

أعود للمعري ورسالة الغفران لأتناول مسألة الدخول إلى الجنة وكيف صورها وبأية سخرية رسم فصولها. إستغرق هذا الموضوع الصفحات 101 إلى 109 من كتاب رسالة الغفران مبتدئاً بالعنوان [حديث الدينونة] حيث يقص (إبن القارح) قصة دخوله الجنة فيقول:

[لما نهضتُ من الريم (الريم: القبر) وحضرت حرصات القيامة والحرصات مثل العَرَصات، أُبدلتْ الحاء من العين، ذكرتُ الآية <<تعرجُ الملائكة ُ والروحُ إليه في يوم ٍ كان مقداره ُ خمسين ألف سنة ٍ، فاصبرْ صبراً جميلاً >> فطالَ عليَّ الأمدُ واشتدَّ الظمأ ُ والومدُ، والومد شدة الحر وسكون الريح، كما قال أخوكم النميري:

كانَّ بيضَ نعام ٍ في ملاحفها

جلاه ُ طل ٌّ وقيظ ٌ ليلهُ وَمَدُ

وأنا رجلٌ مهياف، أي سريع العطش، فأفتكرتُ، فرأيتُ أمراً لا قوامَ لمثلي به. ولقيني الملك الحفيظ بما زُبرَ لي من فعل الخير، فوجدتُ حسناتي قليلة كالنفأ ِ في العام الأرمل، والنفأ الرياض، والأرمل قليل المطر، إلا أنَّ التوبة في آخرها كأنها مصباح آبيل (أي راهب) رُفع َ لسالك سبيل].

أين السخرية في هذا القول؟ وهل فيما قال الرجل شئ من جدية أو إيمان بدين ورب؟ قام إبن القارح من قبره فحضر أحد أماكن أو مشاهد القيامة على أمل لقيا خالقه وقد قدّم َ للمَلك المسؤول عن التحقيق والمساءلة والمحاسبة كشفاً أو حساب َ ما فعل في دنياه وكل ٌّ يحمل كتابه في يمينه حسب بعض نصوص القرآن. لكنه تذكّر وهيأ نفسه لإنتظار طويل جداً قبل أن يستطيع مقابله ربه. ماذا تذكر؟ آية ً قرآنية تقول (تعرجُ الملائكةُ والروحُ إليهِ في يومٍ كان مقدارهُ خمسين ألف سنة ٍ فاصبرْ صبراً جميلاً). على الرجل إذا ً أن ينتظر خمسين ألف سنة حتى يصله الدور فيحظى بلقاء وجه ربه. الطريف أنَّ المعري يسمّي مكان الإنتظار هذا " الموقف " وهو تعبير شائع معروف في عالم الشرطة في العراق في الأقل... وهو مكان أو غرفة مخصصة لإيداع من عليه تهمة أو وشاية أو قام بمخالفة أو جناية أو جنحة يقيم فيها إنتظاراً لساعة التحقيق معه فيما فعل. الموقف... أي الحبس المؤقت!! حبس مؤقت في دنيانا لكنه حبس طويل في عرصات القيامة... حبس يستغرق خمسين ألف سنة. هذه أول نكتة يسخر المعري فيها من عالم البعث والقيامة والحساب وطرق هذا الحساب ولا يستثني من ذلك فكرة الرب نفسها!!

مع رضوان خازن الجنان

بعد هذه المقدمة الساخرة وما إعتورها من فذلكات لغوية لا أرى لها من لزوم، وستتكرر هذه الفذلكات في الكثير من صفحات رسالة الغفران وسأشير إلى أبشعها وأكثرها بعدا ً عن الضرورة... بعد المقدمة هذه ينتقل المعري / أو إبن القارح إلى رضوان خازن الجنان فكيف كان لقاؤه برضوانَ هذا وما دار بينهما من حوارات؟ سألخص الطريف لكني سأثبت الهام جداً حرفياً كما كتبه المعري. نظم أبياتاً في رضوانَ هذا يسترضيه فيها ويجامله بل ويستعطفه ثم أُضطر َّ إلى مدافعة الناس حتى بلغ نقطة منه بحيث يسمعه ويراه ويبدو أنه قد قرأها عليه لكن رضوان تجاهله ولم يأبه به. لم يفقد الأمل، نظم أبياتاً شعرية أخرى بحيث ينتهي أحدها كقافية بالإسم رضوان (بانَ الخليطُ ولو طُوِّعتُ ما بانا...) وكرر محاولة الدنو من رضوان وقرأ الأبيات الجديدة فلم يعره الأهمية المطلوبة. كتب الكثير من الأشعار التي يمكن إدخال الإسم رضوان في آخر أحد أبياتها فلم يغثه أو لم يفهم هذه الأشعار ولم يقم لها وزناً. فقد إبن القارح (المعري) صبره:

[دعوتُ بأعلى صوتي: يا رضوانُ، يا أمين الجبّار الأعظم على الفراديس، ألم تسمعْ ندائي بك وإستغاثتي إليك؟ فقال: لقد سمعتك تذكر رضوانَ وما علمتُ ما مقصدك، فما الذي تطلب أيها المسكين؟ فأقول: أنا رجل ٌ لا صبرَ لي على الدواب أي العطش، وقد إستطلتُ مدة الحساب ومعي صك بالتوبة، وهي للذنوب كلها ماحية، وقد مدحتك بأشعار كثيرة ووسمتها بإسمك، فقال وما الأشعار؟... فقلتُ الأشعار جمع شعر وكان أهل العاجلة يتقربون به إلى الملوك والسادات، فجئتُ بشئ منه إليكَ لعلكَ تأذنَ لي بالدخول إلى الجنة في هذا الباب، فقد إستطلتُ ما الناسُ فيه وأنا ضعيفٌ مَنين ولا ريبَ أني ممن يرجو المغفرة وتصح له مشيئة الله تعالى.

فقال: إنك لغبين الرأي! أتأملُ أنْ آذنَ لك بغير إذن ٍ من رب العزة؟ هيهات هيهات! (وأنى لهم التناوش من مكان بعيد / من سورة سبأ)].

حوار ساخن مؤثر بليغ بين الخازن أو الحارس أو الأمين على الجنان ورجل كبير مريض قد يكون مصاباً بمرض السكري لأنه لا يصبر على العطش يقف بباب الجنة وجهاً لوجه مع الأول حاملاً صكاً بالتوبة أو كتاب براءة وحسن سلوك وعدم محكومية... يرجوه فيه منه الدخول إلى الجنة لكنَّ حارس الفراديس الأمين يتصلب في موقفه ولا يلين ويرفض طلب الرجل المسن العليل بحجة أنَّ الأمر منوط بقرار رب العزة. رضوان هذا موظف والله ِ نزيه مضبوط لا يحيد عن أصول وقواعد النزاهة والإستقامة في أداء واجبات الوظيفة، ينفذ فقط ما يأتيه من أوامر ونواه ٍ. صك التوبة لا يكفي لدخول الجنة. هذا الصك بحاجة إلى تزكية وتصديق من لدن رب العالمين... بحاجة إلى ختم أصلي وتوقيع أو بصمة الإبهام الأيمن. رضوان شرطي أمين صارم لا يخالف أوامر ربه فكم كان مقدار ما يتقاضى من راتب لقاء هذه الوظيفة المتعبة وبأية عملة يقبض مرتباته اليومية كعامل أو الشهرية كموظف أو الأسبوعية على الطريقة الإنجليزية؟ هل قرأنا سخرية أكثر بلاغة ً من سخرية المعري مما يدور هناك في الأعالي من مهازل وما يُعرض من أفلام هندية وأخرى كارتونية ملونة وبالسينما سكوب؟

مع زُفَر، خازن الجنة الآخر

يئس المسكين إبن القارح من رحمة رضوان القاسي الذي لا يفهم الشعر ولا يتقبله كرشوة والشديد الإلتزام بما يمليه ربه عليه فمال إلى خازن ٍ آخرَ إسمه زُفَر لعله يتجاوب مع نداءاته ويستجيب لتوسلاته فيسمح له بالدخول. إتبع ذات المنهج الذي سلك مع رضوان فنظم له أشعاراً كثاراً وسمها بإسمه على وزن ما قال لبيد:

تمّنى ابنتاي أنْ يعيشَ أبوهما

وهل أنا إلا من ربيعة َ أو مُضرْ

أي أن يستبدل كلمة مضر بكلمة زُفر مثلاً... تجاهله زفر كما فعل رضوان قبله. لم يهتم بما قال من شعر بل وعلّق قائلاً:

[لا أشعر بالذي حممتَ أي قصدتَ، وأحسب هذا الذي تجيئني به قرآن إبليس المارد ولا ينفق على الملائكة، إنما هو للجان وعلموه ولدَ آدم فما بغيتك؟ فذكرت له ما أريد فقال: واللهِ ما اقدر لك على نفع، ولا أملكُ لخلقٍ من شفعٍ، فمن أي الأمم أنت؟ فقلتُ من أمة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب فقال: صدقتَ، ذلك نبي العرب ومن تلك الجهة أتيتني بالقريض، لآنَّ إبليسَ اللعين نفشه في إقليم العرب فتعلمه نساءٌ ورجال، وقد وجبَ عليَّ نصحك فعليك بصاحبك لعله يتوصل إلى ما إبتغيتَ].

زفر أفضل من رضوان، إذ أخلص له النصح مقترحاً أن يتصل بعم النبي الحمزة بن عبد المطلب. زفر أكثر حنكة وذكاءً من زميله رضوان. إنه حكيم ساخر وفيلسوف. يعرف من أين وكيف أتى الشعر ُ أمة َ العرب. ويعرف علاقة الشعر بإبليس الغاوي والمستكبر والمغرور. يعرف ما قال القرآن بالشعر والشعراء. يعرف أن النبي نفسه كان متهماً بأنه شاعر وساحر وكاهن ومجنون فنفى هذه التهم عن نفسه. ثم، الأكثر طرافة، فهم زفر ما قرأ إبن القارح له من أشعار لكأنها قرآن!! قرآن إبليس. إنه لا ريبَ يعرف أسماء وأشخاص عدد من عرب الجزيرة ممن إنتحلوا أقوالا تحاكي آيات القرآن من أمثال سجاح ومسليمة الكذاب وغيرهما ممن لا نعرف. ثم في قول زفر إشارة جدَّ ذكية إلى الآيات الشيطانية التي جاءت في سورة النجم (4) من باب المساومة والمناورة العالية الدبلوماسية بين محمد وأبي سفيان... ثم أُضطر النبي وكان ما زال في بدايات رسالته إلى التنصل عنها وألغائها تحت ضغط زوجه خديجة وعمه العباس كما يذكر المؤرخون ومنهم أخذ سلمان رشدي وقائع فصلين من فصول روايته الآيات الشيطانية المعروفة. (قرآن إبليس)!! لمحمد قرآنه ولإبليس قرآنه الخاص. الجان لا الملائكة علموا بني آدم نظم الشعر، وإبليس أشاعه في إقليم العرب خاصة ً فإنتشر بين النساء والرجال على حد سواء!! إنه مقطع شديد التركيز كثير المغازي واضح السخرية من الكثير من الأمور التي تخص المسلمين ودينهم وتصوراتهم حول البعث والجنة. ليس دخول الجنة بالأمر اليسير كما نعلم وكما يخبرنا القرآن دستور المسلمين ولكن أبا العلاء المعري يقارب ثم يدنو كثيراً من أبواب الجنة هازئاً ساخراً ضاحكاً منها ومن حرّاسها الأمناء ومن كافة العقول التي يؤمن أصحابها بيوم فيه يبعثون ويحاسبون ثم يدخلون الجنة أو النار حسب أعمالهم في الدنيا العاجلة. كيف إجترأ هذا الرجل الضرير على قول كل ما قال بهذا الصدد؟ أما خشيَ العواقب الوخيمة؟ كيف وقف وحيداً يواجه طواغيت عصره من حكام وسلاطين ورجال دين؟ أكان عماه شفيعاً ومبرراً لجرأته غير المسبوقة في عالم تأليف الكتب من أمثال رسالة الغفران؟ كيف مرر هزءَه وسخريته على هؤلاء الحكام وعلى طبقات رجال الدين ووعاظ السلاطين؟ كيف؟

مع حمزة بن عبد المطلب

أصغى إبن القارح لنصيحة زُفر فيمم وجهه صوب الحمزة ونظم فيه شعراً جارى فيه أبيات كعب بن مالك التي رثى فيها الحمزة وخاطب صفية عمة النبي وأخت الحمزة:

صفية َ قومي ولا تعجزي

وبكّي النساءَ على حمزة ِ

ثم يقول

[وجئتُ حتى وليتُ منه فناديت: يا سيدَ الشهداء، يا عم رسول الله صلعم، يا إبن أبي عبد المطلب! فلما أقبل عليَّ بوجهه أنشدته الأبيات فقال: ويحك! أفي مثل هذه المواطن تجيئني بالمديح؟ أما سمعتَ ألآية " لكل إمرئ منهم يومئذ ٍ شأن ٌ يُغنيه ِ " فقلتُ بلى قد سمعتها وسمعتُ ما بعدها " وجوه يومئذ ٍ مُسفرة ضاحكة مستبشرة، ووجوه يومئذ ٍ عليها غبرة، ترهقها قترة، أولئك هم الكَفرة الفَجرة " فقال إني لا أقدرُ على ما تطلب، ولكني أنفذ معك توراً أي رسولاً، إلى إبن أخي علي بن أبي طالب ليخاطبَ النبيَ صلعم في أمرك. فبعث معي رجلاً، فلما قصَّ قصتي على أمير المؤمنين قال: أين بينتك؟ يعني صحيفة حسناتي].

هكذا نرى أسلوب المعري في التدرج ملتمساً شفاعة البسيط ثم الكبير الإسم والمسؤولية. تدرجاً منطقياً سلسا لا يجد القارئ فيه تعسفاً أو إفتعالاً أو مشقة لفهمه والإقتناع به. هدف المعري المركزي هو الوصول إلى نبيه بإعتباره الأقرب لمقام الله في الجنة. ليس في طوق عمه الحمزة الوصول إلى إبن أخيه ولكنَّ علياً قادرٌ على ذلك لسببين قويين أولاهما إنه إبن عم النبي وربيبه وثانيهما إنه صهره، زوج كريمته فاطمة الزهراء. لذا صرفه الحمزة ووجهه إلى علي بن أبي طالب مع رسول.

يغير المعري من سياق رسالة الغفران فيفرد بابا ً يسميه (مع أبي علي الفارسي) وهو أحد علماء النحو المعروفين. لم أجد في هذا الباب ما يضيف شيئاً جديداً لأطروحتي ووجهة نظري في فهم وتفسير رسالة الغفران وهي كالقرآن حمّالة أوجه ٍ متعددة متباينة سوى الفقرة الأخيرة فقد وجدت فيها أمرا ً ساخراً هازئا ً مرحاً يستوقف القارئ:

[... وشغلتُ بخطابهم والنظر في حويرهم (الحوير العداوة والمضادة)

فسقط مني الكتاب الذي فيه ذكر التوبة، فرجعتُ أطلبه فما وجدته].

هل كتاب التوبة هذا هو البينة التي سأل علي ٌّ إبنَ القارح عنها ففسرها هذا بأنها صحيفة حسناته؟ أظن ذاك. كيف ضيعها وأين ضاعت منه ثم أليس لديه نسخة ثانية منها كما نفعل في أيامنا هذه؟

مع الإمام علي

وقفة إبن القارح مع علي فيها الكثير من الطرافة بل والغرابة. هوَّن عليٌّ على إبن القارح من أمر ضياع كتاب توبته لكأنه كان على علم بهذا الضياع. قال له [لا عليك، ألك شاهد ٌ بالتوبة؟ قلت نعم، قاضي حلب وعدولها]. يشهد قاضي حلب بعد تردد على صحة توبة علي بن منصور إبن القارح فيتوجه هذا إلى أمير المؤمنين مذكّرا ً إياه بما التمس منه وهنا تحدث مفاجأة غريبة: يعرض عليٌّ عنه بجفاء وخشونة فيقول له [إنك لترومُ حددا ً ممتنعا ً ولك أسوة ٌ بولد أبيك آدم]!. ما تفسير هذا الإعراض والطرد وقد سبق وأنْ طالبه أمير المؤمنين بشهادة شاهد على توبته وقد فعل الرجل وأتاه بالشاهد الذي شهد له بالحق على توبته؟! أفما كان من الأوفق أن يطرد الرجل منذ لحظة اللقاء الأولى بدل تعنيته ومضاعفة شقوته وبلائه خاصة ً وقد ضاع منه كتاب توبته؟ ثم، ما تفسير كلام أمير المؤمنين [ولك أسوة بولد أبيك آدم]؟ يدل ظاهر هذا الكلام على تمسك علي ٍّ بمبدأ المساواة بين البشر سواءً أكان المقام أو المناسبة في الدنيا العاجلة أو الآجلة، على الأرض أو في السماء، فالبشر متساوون وهم سواء أمام ميزان العدالة. هذا ظاهر القول، أما الإحتمالات الأخرى المخفية فأراها غير بعيدة عن إحتمال أن يكون قصد الأمير أنَّ ابني آدم تخاصما فقتل أحدُهما الآخرَ... أي أن َّ الظلم وأنَّ الجريمة َ قديمتان وأنَّ طلب التوبة ليس بالأمر المستجد على بني البشر... فقد تكون يا إبن القارح أنت نفسك قاتلاً في دنياك رغم شهادة قاضي حلب ببراءتك ونظافة يدك؟ مَن قال إنَّ القضاة جميعاً نزيهون منزهون لا ينطقون إلا بالحق؟ فيهم المرتشون وفيهم المنحرفون جنسياً وفيهم السرّاق وفيهم وفيهم فهم في آخر الأمر بشر كباقي البشر. ما كان الأمير واثقاً من براءة وتوبة إبن القارح.

في نهاية هذه الفقرة من المواجهة الساخنة (الدرامية) بين علي ٍّ وعلي، عليٍّ الأمير وعلي ٍّ إبن القارح يعود المعري إلى سخريته اللاذعة التي تحمل أبعد وأعمق الدلالات. أحرج وأخجل موقف أمير المؤمنين إبنَ القارح، نشف ريقه وشفتاه، طلب الماء فقال:

[وهممتُ بالحوض فكدتُ لا أصل إليه، ثم نغبتُ منه نغبات ٍ لا ظمأ بعدها، وإذا الكَفرة ُ يحملون أنفسهم على الوِرد، فتذودهم الزبانية ُ بعصيٍّ تضطرمُ ناراً، فيرجعُ وقد إحترقَ وجههُ أو يدهُ وهو يدعو بويل وثبور]

هل هناك أكثر بلاغة وأروع تعبيراً من هذه الصورة التي شكلها خيال المعري؟ يطرده صهر الرسول ولا يحقق سؤلته... يشعر بالحرج وربما بالذل... يظمأ فيرى نفسه قريباً من حوض الكوثر... ينجح في تناول شئ من مائه السلسبيل... يفاجأ بوجود بشرغيره بالقرب منه ساعين بكل جهدهم لتناول بعض ماء الحوض... يفاجأ أكثر إذ يكتشف أنهم من الكفار، أي أنه وهم سواسية في الظمأ وفي المصيبة وفي القرب من حوض ماء الخلود... التائب بشهادة والكافر سواسية. الكل عطاشى فالعطش عنصر آخر يوحد ما بين البشر حتى لو كانوا هناك... في السماء ينتظرون قرار الحسم في قضاياهم والبت في مصائرهم. [... فتذودهم الزبانيةُ بعصيّ تضطرم ُ نارا ً، فيرجعُ وقد إحترقَ وجههُ أو يدهُ وهو يدعو بويل ٍ وثبور]. أية سادية مفرطة يمارسها بعض الملائكة المتخصصين بفنون التعذيب والتمثيل بحق المخالفين لشرعة أو دين ربهم؟ عصيٌّ من نار تحرق الوجوه والأيدي التي تتجاسر فتمتد لأخذ غُرفة ماء ٍ من حوض أبدي لا ينضب ما فيه!! من ذا يلوم يزيدَ بن معاوية أو عبيدَ الله بن زياد أو الحرَّ الرياحي الذين حرّموا الماء على الحسين بن علي ومَن معه في رمضاء الطف قريباً من كربلاء عام 61 للهجرة؟ كان الحسين مخالفاً ليزيد ومعارضاً لحكم خلافته أي أنه كان ذا موقف ورأي مخالفين كما هو شأن فئة الكفرة مع ربهم الذي سلط عليهم عذابين، نار العطش ونيران العصي الملتهبة. القوي يختار ويفرض نوع العقوبة على غريمه وخصمه. هذا جزاء الإختلاف مع الحكام في الرأي والمعتقد!!

يأخذنا المِعرّي بعد جولة مفاوضاته الفاشلة مع علي بن أبي طالب إلى زوجه إبنة الرسول فاطمة الزهراء. ها قد إقتربنا رويدا ً رويداً من سدرة المنتهى حيث كرسي العرش وحيث يجلس النبي إلى يمين رب العزة الذي خلق السماوات والأرض في سبعة أيام ثم إستوى على العرش وكان العرش فوق الماء. يتخذ المعري من فاطمة جسراً وسطاً للوصول إلى أخيها إبراهيم وقد أوصلته بالفعل.

مع فاطمة الزهراء

طاف إبن القارح قبل أن يلتقي فاطمةَ وهي تخرج من الجنة للسلام على أبيها إذ يقوم لشهادة القضاء... طاف على " العترة المنتجبين " وتضرع لهم أن يسألوها في أمره لعلها تسأل أباها فيه. أنقل فقرات مما قال المعري في أمر فاطمة لطرافتها وما فيها من غمزات ولفتات تثير التساؤلات والتفكير في الكثير من أمور ديننا:

[... فلما حان خروجها ونادى الهاتف أنْ غضوا أبصاركم يا أهلَ الموقف حتى تعبرَ فاطمة ُ بنت محمد صلعم، إجتمع من آل أبي طالب خلق ٌ كثير من ذكورٍ وإناث، ممن لم يشربْ خمراً ولا عرف قط منكرأ فلقوها في بعض السبيل فلما رأتهم قالت: ما بال هذه الزرافة؟ ألكم حال تذكر؟ فقالوا نحن بخير، إنا نلتذ ُّ بتحف أهل الجنة،.... وكان فيهم علي ٌّ بن الحسين وإبناهُ محمد وزيد وغيرهم من الأبرار الصالحين. ومع فاطمة، عليها السلام، إمرأة أخرى تجري مجراها في الشرف والجلالة فقيل مَن هذه؟ فقيل: خديجة إبنة خويلد بن أسد بن عبد العُزى ومعها شباب على أفراس من نور فقيل مَن هولاء؟ فقيل: عبد الله والقاسم والطيب والطاهر وإبراهيم بنو محمد صلعم. فقالت تلك الجماعة التي سألتُ: هذا ولي من أوليائنا قد صحّت توبته ولا ريبَ إنه من أهل الجنة وقد توصل بنا إليك صلى الله عليك، في أن يُراحَ من أهوال الموقف ويصيرَ إلى الجنة فيتعجلَ الفوز. فقالت لأخيها إبراهيمَ صلى اللهُ عليه، دونك الرجل فقال لي: تعلّقَ بركابي. وجعلتْ تلك الخيلُ تخلل الناسَ وتنكشف لها الأمم والأجيال. فلما عظُمَ الزَحامُ طارت في الهواء وأنا متعلق بالركاب].

أولاد النبي يمتطون صهوات أفراس من نور!! واحدة من لوحات المعري السوريالية وكان أحدهم إبراهيم الذي عرض على إبن القارح أن يتعلقَ بركابه، أي بركاب فرس من نور، فما أكبر حظوة هذا الرجل المرشح لدخول الجنة بتزكية من فاطمة ودعم من أخيها إبراهيم. بعد هذا المقطع يصل إبن القارح لحضرة نبي الإسلام ولسوف نرى ما يؤول إليه مصيره.

الرسول الشفيع

لقد شفع الرسول لإبن القارح بعد أن نظر في سجل عمله في الديوان الأعظم وقد خُتمَ بالتوبة. شفع له وحصلت الموافقة على دخول الجنة. الموافقات النظرية شئ ودخول الجنة شئ آخر. ما زالت أمام الرجل عقبات. تعلّق بركاب إبراهيمَ بعد إنصراف أخته فاطمة فأعانه على بلوغ الصراط المستقيم. هنا يواجه مشكلة أو محنة العبور. تعينه فاطمة الزهراء في أن توظف له خادمة ً إحدى جواريها. وبالفعل، تساعده الجارية على تخطي العقبة وعبور الصراط ولكن كيف؟ هنا تبلغ دعابة المعري وروح السخرية وجنوح الخيال أقصى المديات فيخلط الجد بالهزل والجنس غير الطبيعي المبطن بالشعر. وبعد كل هذه الدعابات والنجاح في عبور الصراط يواجه محنة آخرى هي الأخيرة في مسلسل محنه وتمحنه في الحياة الأخرى.

جعل المعري من محنة عبور الصراط فيلماً متحركاً نابضاً بالحياة والرمزية الساخرة لكأنه تعمد بذلك أن يضع أمام قارئه عقدة العقد بالنسبة للدين الإسلامي. فالجنة هي مبتغى المسلمين المؤمنين حيث الحور العين والولدان المخلدون (5) وأنهار الخمر واللبن والعسل والأثمار دانية القطوف والحياة الأبدية. الصراط هو عنق الزجاجة وهو الهدف والطريق لبلوغ الجنة. ليس عبور هذا الصراط بالأمر الهين على بعض الناس، إذ سوف يقاسي إبن القارح ويعاني من محاولات عبوره بل ويعجز عن العبور لولا مساعدة الجارية.

الصراط

بلغ إبن القارح الصراط لكنه لم يستطع إجتيازه... ربما لكبر سنه أو لدقة طريق العبور وضيقه أو ربما لفرحة ٍ أو رهبة ٍ تعتري مَن يحاول العبور والجنة في مرمى البصر. لكني أرى أن صاحبنا المعري قد تعمّد فأجاد في تشكيل لوحة عُسرة العبور عقبة ً أخرى تقوم في وجه التائب والمرشح لدخول الجنة. العِقاب كثارٌ فما جدوى التوبة إذا ً وعلام يتوب المخطئ والكافر والزنديق والمُشرك والناكر للدين الإسلامي أصلاً وفصلاً؟ أم أنَّ الجنة كالفنادق درجات ونجوم؟ للمؤمن الحق المثالي الذي لم يخالف ربه جنة درجة أولى بسبع نجوم وللمخالف العنيد الذي تاب في دنياه جنة أخرى درجة رابعة بنجمة واحدة مع عذاب وعراقيل وتوسلات ووساطات؟ ما هذا التفاوت ولِمَ يخدع القرآن ُ المسلمين؟ يا ناس!! ليس لكم إلا دنياكم!! ما عدا ذلك كذب وهُراء وهلوسات!! لا آخرة ولا من جنة ولا نار!!

أعود لفقرة الصراط فما قال المعري فيها؟ أقرأها فأغرق في الضحك. رجل بصير يرسم لوحات كاريكاتورية غير مألوفة يمتزج الهزل ُ والهزءُ فيها بالشعر والأخيلة التي لم تمر بخاطر بشر قبل المعري. سأنقل من هذه الفقرة اللوحات الأكثر طرافة وأهمية:

[... قيل لي هذا الصراط... فبلوتُ نفسي في العبور فوجدتني لا أستمسك فقالت الزهراء صلعم لجارية ٍ من جواريها يا فلانة ُ أجيزيه فجعلت تمارسني وأنا أتساقط ُ عن يمين ٍ وشَمال فقلتُ يا هذه، إنْ أردتِ سلامتي فاستعملي معي قولَ القائل في الدار العاجلة:

ست ُ إنْ أعياكِ أمري

فاحمليني زقفونة ْ

فقالت وما زقفونة ْ؟ قلت أنْ يطرحَ الإنسانُ يديه على كتفي الآخر ويُمسكُ الحاملُ بيديه ويحمله وبطنه إلى ظهره، أما سمعتِ قول الجحجول من أهل كفرطاب:

صلحت حالتي إلى الخلفِ حتى

صرتُ أمشي إلى الورى زقفونة ْ

(لعل الأصل والصواب هو: إلى الورا أي إلى الوراء بدل الورى والفرق كبير وواضح / الملاحظة مني).

... فتحملني وتجوزُ كالبرق الخاطف. فلما جزتُ قالت الزهراء عليها السلام: وهبنا لك هذه الجارية فخذها كي تخدمك في الجنان].

ما الذي جعل المعري أن يركب هذا المركب الصعب فيفتعل العجز عن عبور الصراط ليستعينَ على العبور بظهر إمرأة بدل ظهر رجل؟ أوليس في هذه الصورة الكثير من الجنس والتوق للمرأة التي حرّم نفسه منها في حياته؟ كان في إمكانه القول على سبيل المثال إنَّ الجارية قادته من ذراعه أو أركبته جحشاً أو مهراً من مهاري الجنة بدل أن تعرض ظهرها له فيمتطيه!! أي رجل لا يتهيج جنسياً وهو على ظهر إمرأة من نساء الجنة والجنة ونساؤها قد أُعدت للمتقين؟؟!! هذا هو منهج أبي العلاء وموقفه من مسألة الجنة. إنه يراها بحق مقلوب الأرض. إنها محض أحلام وأمنيات محرومين للطعام والجنس والشراب والنعيم السرمدي. فالقبيح على الأرض، كحال حمدونة، جميل هناك في الجنان والأسود، كما هو حال توفيق السوداء يغدو أبيض ناصعاً بلون الكافور{المصدر الأول ص 123} وعبور الصراط لا يصح إلا بركوب ظهر وركوب الظهر شذوذ جنسي مزدوج فيما يخص النساء. ثم، (وهبنا لك هذه الجارية)!! أبهذا الأسلوب الرخيص يتم التعامل مع النساء؟ يدخل الرجل الجنة ومعه إمرأة فكيف سيكون حاله حين تطأ قدماه أرض هذه الجنة مع بقية النساء من الحور العين اللواتي لم يطمثهن َّ أو يطأهن َّ إنسٌ ولا جان... خفيضات الطرف كأنهن َّ الدر المكنون؟

هل إنتهت رحلة إبن القارح وهل بلغ مركز الجنة المبتغى؟ كلا! سيجد عقبة أخرى أمامه. سيقابل الخازن رضوان الذي كان أول من قابلَ وسأله الإذن بدخول الجنة. سيطلب منه جوازَ مرور كما يحصل معنا في هذه الأيام لدى محاولتنا عبور حدود دولة إلى أخرى (باسبورت).

هل معك جواز؟

[فلما عبرتُ إلى باب الجنة قال لي رضوان: هل معك جواز؟ قلت لا، قال لا سبيلَ لك إلى الدخول إلا به].

ينقذه إبراهيم من ورطته الأخيرة هذه فيدخله الجنة.

الدخول إلى الجنة

[وإلتفتَ إبراهيمُ صلى الله عليه فرآني وقد تخلفتُ عنه فرجعَ إليَّ فجذبني جذبة ً حصلني بها في الجنة].

إستغرقت رحلة العذاب هذه ستة أشهر من شهور دنيانا حسب تقرير المعري قضاها في الموقف إياه، موقف المحجوزين والمحجور عليهم في إنتظار محاكمتهم والنظر في أمرهم!!

ملاحظات عابرة

تطرق المعري في رسالته إلى أمور لغوية لا قيمة كبيرة لها ولا من طرافة. فلقد تساءل عن وزن " أوِزّة " على سبيل المثال {المصدر الأول ص 121}... يسمي العراقيون الأوزة " وزّة " لا أكثر، تماماً كما يسمون الأرز / أرزْ " رُزْ " بحذف الهمزة ولا نجد في ذلك أية مشكلة أو إعواص. كذلك يتعسف المعري فيشتق من كلمة أعجمية لعلها فارسية... يشتق مصدراً ومن المصدر يشتق فعلَ ماض ٍ وفعلَ حاضر... أعني " زبرجد " وهو إسم أحد الأحجار الكريمة {المصدر الأول ص 100} علماً أن كثرة من الناس تسمي هذا الحجر " زُمَرّدْ " وهذا قريب من التسمية بلغات أخرى، فهو في الألمانية " زمراكد " وبالأنجليزية " إيزمرالد " وبالإيطالية " زمرالدو ". فكيف إشتق المعري مصدراً من " زبرجد "؟ حذف حرف الدال فكان المتبقي " زَبرَج ْ " وقال هذا هو المصدر... ثم ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك وأشد تعسفاً فإشتق فعلاً ماضياً من هذا المصدر وقال " زَبرَجَ " وإشتق فعلاً مضارعاً فقال " يزبرجُ ". معلوم أنَّ لكل فعل فاعل، تُرى، ما هو فاعل الفعل زَبرَجَ؟ وما معنى هذا الفعل إذ لكل فعل معنى أو أكثر؟

***

ا. د. عدنان الظاهر

آذار / نيسان 2008

......................

هوامش

أولا ـ كتاب رسالة الغفران لأبي العلاء المعري (دار الكتب العلمية. بيروت. الطبعة الأولى 1990).

ثانياً ـ طه حسين (كتاب من تأريخ الأدب العربي. الجزء الثالث / تجديد ذكرى أبي العلاء. دار العلم للملايين. الطبعة الثالثة 1980).

ثالثاُ ـ ديوان المتنبي (دار بيروت للطباعة والنشر. 1980 / الصفحة 436).

رابعاً ـ سورة النجم // ذكر بعض المؤرخين أن آيتين أو ثلاث وردت في سورة النجم ثم أسقطها النبي محمد بدعوى أنها جاءت من وحي الشيطان وليس من وحي جبريل الوسيط بينه وبين ربه. إنها الآيات الشيطانية... آيات سلمان رشدي... أذكر منها: تلك الغرانيق العُلى. وإنَّ شفاعتهن َّ لتُرتجى. وقد جاءتا قبل الحذف في سورة النجم بعد الآيتين: أفرأيتم اللاتَ والعُزى. ومناةَ الثالثة َ الأخرى.

خامساً ـ لقد كثر في القرآن ورود ذكر الوالدان المخلدين، الأمر الذي أثار في رأس المِعرّي بعض الأسئلة وبعض الشجن. ففي المحاورة بين إبن القارح وإبليس {المصدر الأول ص 137 و 138}يقول الأول لإبليس:

[إنَّ الخمرَ حرِّمت عليكم في الدنيا وأحلت لكم في الآخرة، فهل يفعل ُ أهل الجنة بالولدان المخلدين فعلَ أهل القريات؟ فيقول: عليك البهلة " أي عليك اللعنة "، أما شغلك ما أنت فيه؟ أما سمعتَ قوله تعالى: ولهم فيها أزواجٌ مطهرة ٌ وهم فيها خالدون؟].

أي أمر تركه المعري ولم يطرقه أو يناقشه أو يسأل فيه؟! عجيب أمر هذا الرجل الأعمى المكتفي بغيره؟!

لمن ينحاز المثقف، سؤال يجد البعض صعوبة في الاجابة عليه ويجد الاخر ان الامر بسيط ولايحتاج ثمة تفكير اذا اريد للاجابة ان تكون عائمة.

لكن الحقيقة ان الاجابة على هذا السؤال يتطلب المنعة الكافية  الغير منحازة الناجمة عن ديناميكية العقل بالتفكير الفردي والجمعي وبالتالي ايجاد الجواب المطلوب وعلى الاطلاق ارى ان ما يسمى مثقف السلطة او المنحاز كليا لفكر او معتقد تراه الاكثر تكوينيا على التنقل من حال الى حال. فتجد احيانا القومي يتحول الى ماركسي والماركسي الى قومي والمتشبث بالثقافة المكتسبة دينيا ينطبق عليه الامر.

اذن ونحن امام هذه المعطيات نرى التجرد العقلي والفكري يضع جام صحوته امام الفصل بين اي من المسلمات آنفة الذكر.

وحصرا فيما يتعلق بوحدة الرأي واستخلاص رؤية جامعة مانعة تدلنا على ما نحن عليه نجد الان جل الخطابات الفكرية والادبية في انحياز تام لما يجري حولنا وعلى الساحة الملبدة بالظلام المتأتي من حقب ظلامية استحوذت على ارادة مجتمعاتنا.

محنة المثقف تبدأ بعدم الركون للثقافة الجمعية لبناء المجتمع والتشبث برأي عقائدي ربما يمثله شخص ما بمرور الزمن فرضته ظروف غير موضوعية وبطرق مشكوك في تكوينها ليتبوأ المراكز القيادية لحزبه او المكون او الحزب الذي ينتمي اليه ليظل القائد التأريخي المنزل من السماءوتحت وعود الترهيب والترغيب تجري. استمالة المجتمع اجمعه مع الحكم البديهي انه من الممكن البقاء فترة قد يتوارثها ابناءه.

وما يهمنا ليست الحاكم بل ماهية المثقف في ظل الحاكم. ولعمري هناك ثمة اسئلة تتطلب الاجابة حول وجودجموع من الناس وعلى مختلف مذاهبهم يدلون بالطاعة والتقديس وخلق قائدا يكاد ان يعبد قد نجد الكثير من الاكاديميين والمثقفين شعراء ادباء وكتاب قصة لا بل حتى نقاد تنهار لديهم القيم الانسانية فيغرفون من مجدهم التليد او صمودهم ليقعوا في فك الانتهازية والوصولية المفضوحة.

ومن العجب نجد الكاتب اليساري والمتمدن والناطق باسم العلمانية يصطف مع الركب الرجعي  او يصطف مع احزاب عميلة جل وجودها ضد الوطن لا بل تراه يكتب القصائد ممجدا ذاك (القائد) او الحزب الذي وجد كي يتأمر على الوطن.

اما المثقف الاسلامي  تراه ينصب نفسا قائما على وصايا الناس معتقدا تمثيله. لعين الحقيقية ناكرا لوجود الاخرين ومعتقدا انه يمتلك كل الحقيقة وفق المعتقد والمذهب الذي يؤمن به، لذلك نحن امام اشكالية معرفية هي نتاج ما يمر به العراق والمنطقة.

اما الهرم الذي تتعكز عليه الثقافة والمتمثل بالاتحادات الثقافية والمنتديات فهي تعيش اسوأ حالات المجاملات الفكرية والدليل هو ما يحصل من مناكفات وصراعات بين بعض الادباء سيما ما ينشر في الفيس بوك من كتابات تسقيطية مبتذلة تدل بشكل كبير على وجود محنة ثقافية.

وفراغ فكري واسع ربما تكون مسبباته مرحلة الدكتاتورية او صراعات حالية لتشتت الارادة الفكرية واعتقاد الكاتب ان له مطلق الحرية باختيار الالوان، انها دعوة صادقة لمن يعاني هذه المحنة النأي بالنفس والاصرار على حيادية المثقف تجاه ما يجري وعدم الانغماس بسياسة الاحزاب وذلك للعبور بهذه المرحلة للعودة لعصر الثقافة  ووهجها وبريقها والتعافي المنشود بعد الخلاص من كل ضغوطات السلطات ترهيبا وترغيبا لاجل التناغم مع مصالحها.

***

عبد الامير العبادي

(قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

قلتُ لـ(ذي القُروح)، عَقِب ما أثاره في المساق الماضي، حول: الفارق بين حقيقة النصِّ وقراءة القارئ الرَّغْبَوي، وما يحدث غالبًا مع معظم الآيات القرآنيَّة، التي يمكن أن يُحتجَّ بها على سماحة الإسلام وبِرِّه وعدله وحكمته؛ إذ ما تلبث أن تجد أنَّ هناك من السَّلَف من تطوَّع للقول بنَسْخ ما يُمثِّل تلك المعاني المشرقة، في الوقت الذي يُعمِّم، ويمطُّ، وينفخ، ويُطلِق العنان للمعاني التأويليَّة في آياتٍ أخر، تتعلَّق بالقتال، ليُظهِر الإسلام حربًا ضروسًا على العالمَين لا تُبقي ولا تَذر: 

ـ على أنَّ في مقابل هذا خطابًا تمييعيًّا خانعًا، يَصعَد منابر العقلانيَّة ونَبْذ العنتريَّات!  وكم تُزَيَّن الهزائمُ بدعوَى العقلانيَّة تلك! 

ـ وأنت لا ترى جبانًا، ولا عميلًا، ولا مستسلمًا، إلَّا يسوِّغ موقفه بـ«العقلانيَّة»، و«السَّلام»، و«نبذ العنتريَّات»، وإنَّما صاحبك «العقلاني» مهزوم.. مهزوم.. مهزوم.. يا ولدي! تلك هي الحكاية والسَّلام! 

ـ (عنترة بن شدَّاد العَبْسي)- الشاعر والبطل الواقعي أو الأسطوري- الثائر على الظُّلم، والعنصريَّة، والاضطهاد.

ـ لكنَّ العَرَب العباقرة قد اشتقُّوا منه صفة العنتريَّة المذمومة، ليمتدحوا: الظُّلم، والعنصريَّة، والاضطهاد، والسكوت عنها!  ولذلك فأنت لا تكاد تقرأ خطاب العقلانيَّة العَرَبيَّة المدَّعاة في غير هذا السياق!  لا تكاد تقرأها في شأنٍ اجتماعي، أو ثقافي!  غير أنَّها تقفز إبَّان المواجهات الحربيَّة إلى الواجهة.  فتسمع أنَّ على العَرَب أن يكونوا عقلانيِّين مع (إسرائيل)، مثلًا، وأن لا يُظهِروا العنتريَّات القديمة، وإنْ أفناهم العدوُّ عن بكرة أبيهم وأُمِّهم.  عقلانيَّة عَرَبيَّة فريدة من نوعها، لا تراها عند عدوٍّ ولا صديق أبدًا!  لا تراها عند (إسرائيل)، ولا عند (أميركا)، ولا عند (روسيا)، ولا عند (الفُرس)، ولا عند أيَّة أُمَّة من الأُمم التي تحترم نفسها، لا في التاريخ القديم ولا في العصر الحاضر.  بل إنَّ تلك الأُمم كثيرًا ما تمجِّد جُنون جُنونها، وتُعلي ذِكر أبطالها وعناترها؛ لأنها ترى في ذلك القُوَّة المعنويَّة لأجيالها، لتحفظ عليها كيانها، وحوافز بقائها ومواجهاتها، وإنْ لم تَجِد تلك البطولات والعنتريَّات، اختلقتها اختلاقًا، في إطار الدعم النفسي للذات، والحرب النفسيَّة على الخصوم.  وتظهر هذه الحالة لدَى كلِّ الشعوب الحيَّة في ظروف المواجهات القوميَّة بصفةٍ خاصَّة. 

ـ على حين يظهر خلاف ذلك لدَى بعض العُربان في تلك الظروف عينها، وإنْ ظلَّت تظهر العنتريَّات بين القبائل العَرَبيَّة منذ عصر عنترة الجاهلي! 

ـ طبعًا. والسبب واضح، وهو لتبرير الهزائم بالتكتيكات، وتسويغ الخَور بالعقلانيَّات، وتمرير الاستسلام بالسَّلام والجنوح إليه، وإنْ من طَرَفٍ واحد، هو جناحهم هم فقط!  فلا يختلط، إذن، حابل هذا بنابل ذلك في هذا التحليل، فلكل مقامٍ مقال. 

ـ ثمَّ لا تنس، يا (ذا القُروح)،  في هذا السياق، أنَّ التاريخ قد صُنع معظمه صناعةً منحازة، عبر رحلته الطويلة خلال منعرجاتٍ صراعيَّة شتَّى!

ـ هذا صحيح، ولذا أشتغلَ بتفسير «القرآن» علماءُ كان أشهرهم ذا يَدَين في الكتابة، يَدٌ تكتب التفسير، ويَدٌ تكتب التاريخ، مغلولتَين كلتيهما بسياسة العصر، وفِقه الدولة التي يدين لها بالولاء.  ولذا وُظِّف النصُّ أحيانًا لمآرب متناقضة، وما لم يستجب من النصِّ لتلك المآرب، لُوِيَتْ أعناقه بالتأويل، وإنْ كان مُعارضًا لها على نحوٍ صارخ، فإذا لم يُفلِح التأويل لتحقيق الهدف، لُجئ إلى التأوُّل، أو مقولة الناسخ والمنسوخ، التي توشك أن تمسخ النصَّ مسخًا، بل أن تقول بفكرة «البَداء»، وتنسبها إلى الله، كما فعل مَن قبلهم مِن أهل الكتاب! 

ـ مثال ذلك؟

ـ لقد جاء، مثلًا، مَن قال بنسخ آية «لا إِكراهَ في الدِّين»، أو بتخصيصها، أو بغير ذلك من أساليب الالتفافات البَشَريَّة المعهودة، التي طالما أعرضتْ عن صريح ما جاء في النصِّ، لتنتهي إلى نتيجة حتميَّة من تشويهٍ شامل، بعد أن يُلغَى النصُّ أو يُفرَغ من محتواه. 

ـ ما الفرق، إذن، بين فعل هؤلاء وفعل (بني إسرائيل) الذين عابهم «القرآن» في قوله: «تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ، تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا»؟! 

ـ تشابهت قلوبهم! وإلى أمثال هؤلاء يرجع الطاعنون، أمس واليوم، متقوِّين بأقوالهم المبثوثة في كتبهم، التي وجدوا فيها ضالتهم، قائلين: ها هي تي كتبكم التفسيريَّة تكذِّب ما تزعمون مجيئه في كتابكم؛ ففريقٌ مؤوَّلٌ وفريق تنسخون!

ـ وإنْ تعجب من مغالطات الآخَر، فالعجب الأكبر من تدليس أهل بيتك!

ـ ومن هؤلاء صاحبك المعمَّم بالسواد، الذي حدثتني عنه في المساقات السالفة. فهو إذ يشنِّع على رجال الدِّين لتدجيلهم على الناس، كما يقول، يشتغل على الجبهة المضادَّة، داعيًا إلى دِين وجداني جديد.  ومَن هذه غاية فكره فلا يُستبعَد منه شيء. وكان المتوقَّع أن يبدو عِلميًّا عقلانيًّا، في الأقل، فلا يكذب هو الآخَر على العوامِّ وأشباههم. 

ـ أتريد المزيد ممَّا يقول؟

ـ هات ما لديك!

ـ يسترسل سماحته العظمى في القول: إنَّ من أوجه التناقض في «القرآن» أنه مرَّةً يقول: «وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ»، ومرَّةً يقول: «خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ»! 

ـ انظر كيف يزيِّف المعلومات هاهنا؟! وهذا في غاية السخف والتدجيل. فما في «القرآن»: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالعَذَابِ، وَلَن يُخْلِفَ اللَّـهُ وَعْدَهُ. وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ»، وفي الآية الأخرى: «تَعْرُجُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.»  فالآية الأُولى، من (سُورة الحج)،  تتحدَّث عن اليوم «عند ربك»، والأخرى، من (سُورة المعارج)، عن الزمن الذي تعرج فيه الملائكة والرُّوح.  فذاك يوم وهذا يوم.  فلا تَناقض، والآية واضحة في الاختلاف بين الأمرَين ومُدَّة اليومَين.  أمَّا الافتراض أنَّ مجرد استعمال مصطلح «يوم» يوجب أن يكون زمنه واحدًا، فتحكُّم بلا معنى؛ فهناك يوم من أربع وعشرين ساعة، ويوم من ألف سنة عند ربك، وأيام أخرى قد تطول وقد تقصر.  ونحن نعرف الآن، مثلًا، السنة الحسابيَّة المعروفة: 365 يومًا، لكن هناك ما يُسمَّى السنة الضوئيَّة.

ـ وقياسًا على ذلك هناك اليوم الضوئي، ونحو هذه من الفوارق، التي لا ينكرها عاقل. 

ـ الرجل لا يحترم عقول الناس، ولا يراعي الأمانة العِلميَّة في ما يسوق مما يَعُدُّه شواهد دامغة! 

ـ وهو بالطبع يغمغم بالآيات أمام الجمهور في محاضراته، ولا يقرؤها كما هي، لكي يدهش الناس بعبقرية اكتشافاته، فيقول هكذا: «مرَّة يقول «وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ»، ومرَّة «خمسين ألف سنة»!»  ولا يقرأ الآيات.

ـ أ فمثل هذا يحكِّم العقل أصلًا، أو يراعي أمانة النقل؟

ـ ومن اكتشافاته الوجدانيَّة في تناقض «القرآن» أيضًا الآية التي تورِد عبارة: «لا يتساءلون»، ثمَّ الآية: «فأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ».  كيف؟ 

ـ كيف.. اسأله هو، لعلَّه يجد لك إجابةً تحت العمامة! يقول تعالى: «حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ، قَالَ: رَبِّ ارْجِعُونِ؛ لَعَلِّيْ أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ! كَلَّا، إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا. وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ، فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَلَا يَتَسَاءَلُونَ.»  ويقول في آيةٍ أخرى: «فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: إِنِّيْ كَانَ لِي قَرِينٌ...». 

ـ وهذا تناقضٌ لديه، وبحسب تصوُّره أو دعواه! 

ـ دعنا نُحسِن به الظنَّ، فنقول إنَّ التناقض لديه ناشئٌ عن ضغط العمامة على يافوخه! ولا تستهن بهذا العامل! أمَّا ما زعمه، ففي منتهى الجهل بالأساليب والسياقات معًا. ذلك أنَّ الآية الأُولى تتحدَّث عن (الكافرين)، والآية الأخرى عن (المؤمنين)، من أهل الجنة.  ثم إنَّ قوله «يتساءلون» في الآية الأُولى بمعنى أنهم من ذهولهم عند النفخ في الصُّوْر لا يسأل بعضهم عن بعض، وإنْ كان من أنسبائه أو عائلته، «فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ».

ـ وهذا تعبير متداول حتى بالعامِّيَّة؛ فالذي «لا يسأل» هو الذي لا يكترث.

ـ نعم. أ فيقتضي التعبير بذلك القول: إنَّ التساؤل بعدئذٍ في مناسبةٍ أخرى لم يَعُد واردًا؟ وسيكون وروده مناقضًا لما جاء من قبل، كأن يتساءل أهل الجنة، أو حتى أهل جهنم، عن بعض شأنهم؟! 

ـ لست أدري كيف يفهم النصوصَ الرجُل؟ 

ـ هو غير مؤهَّل ليفهم ما دُون هذا، ما دام هذا قوله.

ـ الآيات أوضح من أن توضح، غير أن الغاية هنا إظهار مدى هذا التلاعب المؤدلَج بالنصوص.

ـ وهو- إلى جانب هذا كلِّه- ولفرط أمانته العِلميَّة، يفعل كما فعل القُمُّص المشلوح، الذي ناقشنا محاضراته هو الآخَر من قبل.

ـ تعدَّدت الأسماء- كتعدُّد أسماء العصر الأُموي بين (يزيد) و(الوليد)- والفعل واحد في النهاية، لا وليدَ ثمَّة ولا يزيد! 

ـ ذلك أنهما يرجعان إلى كتابٍ واحدٍ، هو «تأويل مشكل القرآن»، لـ(ابن قتيبة)، الذي عاش في القرن الثاني للهجرة، ويتظاهران بأنهما يكتشفان بفطنتَيهما مسائل جديدة، مفحِمة لا جواب عنها.  مع أن ابن قتيبة- قبل أكثر من ألف سنة- كان قد عرض تلك المسائل، وأكثر منها، في كتابه المذكور، مما سمَّاه «الحكاية عن الطاعنين»، من أجداد هؤلاء وسلفهم «الطالح»، ثمَّ ردَّ عليها واحدةً واحدةً بالتفصيل العِلمي، لُغويًّا وبلاغيًّا. 

ـ فما أشبه الليلة بالبارحة، والقُمُّص بالمُعَمَّم!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

 

دوامة التفكير، مدورةٌ غير منتهيه.

التفكير أساس مشكلات الإنسان المعاصر، لا بل منذ أقدم العصور، هو الذي يقوده إلى أسوأ المواقف في الحياة، يجعل منه لا يفكر بما يدور في داخله لارتباطه بالانفعالات فضلا عن ما يدركه في بيئته الخارجية ومن حوله، ليس بقصر التفكير فحسب، بل فيما يريد فعله ويعبر عنه بلغة توصل هذا الفكر عبر اللسان، هي  طريقة التفكير، والأصح أسلوب التفكير Thinking Style ، وليس اللغة، اللغة الحامل – الناقل لإسلوب التفكير، واللسان منفذ هذا الأسلوب. ولو أردنا إختيار تعريف يتناسب مع ما نريد قوله لأخترنا هذا التعريف المنقول " نشاط ديناميكي هادف"، وهو أيضًا تكوين فرضي يعتمد على مجموعة من المتغيرات الوسيطة ويظهر في صور من السلوك المختلف الذي يمكن التعرف عليه.

ويحق لنا أن نقول بأن التفكير يسبب الاضطراب النفسي والعقلي إذا أشتد عند صاحبه، التفكير يقودنا إلى حيث مواطن الضعف فينا، ويضرب المناطق الواهنة بالنفس، التفكير كما تراه أدبيات علم النفس والتحليل النفسي هو نظام معرفي يقوم على اسستخدام الرموز التي تعكس العمليات العقلية الداخلية إما بالتعبير المباشر عنها، أو بالتعبير الرمزي، ومادة التفكير الأساسية هي المعاني والمفاهيم والمدركات كما أوردته موسوعة علم النفس والتحليل النفسي، وربما ما نراه  بالمعنى الأدق أن التفكير يعتمد على الإدراك والتذكر في طرفي المثلث الذي في قمته الإدراك وفي طرفه الأيمن التفكير، وفي طرفه الأيسر التذكر، فالإدراك هو الذي يخزن في اللاشعور – اللاوعي، والتذكر هو الذي يعيد الأفكار بشقيها المسرة وغير المسرة، إذن هو مفتاح اللاشعور – اللاوعي، وكما عبر عنه  فرويد في مقالة التذكر والتكرار والعمل من خلال قوله: ان الشخص الذي يتم تحليله سوف يستسلم للرغبة القهرية في التكرار، والتي تحل الآن محل الدافع للتذكر، وهي علاقة في جميع الأنشطة والعلاقات المتزامنة الأخرى في حياته، ويبدو ذلك جليًا في جلسة التحليل النفسي العلاجية، عندما يختار شيئًا محببًا، أو قام بمهمة من السهل أيضًا رؤية مقدار المقاومة، وكلما زادت المقاومة، كلما تم استبدال التذكر على نطاق أوسع بالتمثيل " التكرار". ويؤكد فرويد بإن الإنسان عندما يستخدم من ترسانة الماضي المدججة بالأسحلة التي يدافع بها عن نفسه من مواصلة العلاج التي يجب أن ننتزعها منه شيئًا فشيئًا، هي بحد ذاتها مقاومة لا يمكن وصفها بالواقع، ولنا أن نقول ما هي قوة الإنفعالات المصاحبة لما أراد فرويد فعله في الجلسة النفسية التحليلية ونستعير هذا النص من مقالة كتبتها في العام 2007 ومنشورة في الحوار المتمدن: الحوار المتمدن - العدد: 1954 - 2007 / 6 / 22 لكاتب المقال     (اسعد الامارة) وورد فيها: أما الانفعال أو الانفعالات فتعرفه ادبيات علم النفس بانها حالات داخلية لا يمكن ملاحظتها أو قياسها مباشرة، وفي اثناء تفاعل الافراد مع الخبرات التي يتعرضون لها تنشأ الانفعالات فجأة، وهي بنفس الوقت تتصف بعدم القدرة على التحكم فيها، لايمكن بسهولة اصدارها أو كفها. لذا نستطيع أن نستنتج أن الانفعالات هي حالات داخلية تتصف بجوانب معرفية خاصة، واحساسات، وردود أفعال سيكولوجية وسلوك تعبيري معين، وهي تنزع للظهور فجأة ويصعب التحكم فيها. ويضم التفكير الانفعالي ثلاث حالات هي: القلق، الغضب والعدوانية، والابتهاج. وكما أكده لنا " سيجموند فرويد " في مقالته من قوة المقاومة. وأزاء ذلك فالكلمة التي تصدر بلغة رمزية مقطعة ومدغمة كما هو حال الفصامي ولغته التي لها دلالة ومعنى حتى وإن غابت عن التفسير في الوقت الحاضر.

التفكير هو نمط Patrn كانماط الشخصية، يختلف عنه ولكنه يشبهه، فانماط الشخصية معروفة لدى معظم العاملين في المجال النفسي وبالأخص في دراسات الشخصية. فالتفكير في حياتنا يضم  الجانب السلبي في حياتنا المعاشة وإن كان التفكير هو الدافع للنجاح في حياتنا اليومية، إلا أنه  بشقيه السلبي، أو الإيجابي هو مؤشر للقلق – الحصر، ويحمل بين طياته القلق، وربما يؤدي إلى الاضطراب، ويمكن أنه يؤدي إلى الإضطراب النفسي والعقلي إذا أشتد عند البعض منا حتى وإن نجح صاحبه في تحقيق ما يريد تحقيقة، أو فشل في تحقيق ذلك، كلاهما يترك الأثر في النفس، فالتفكير بشقيه السلبي أو الإيجابي يخلق العصاب ومنها  الوساوس القهري، ففي الوساوس تضيع عنده الحدود، وربما لا يفهم النية الحقيقية لدافعه القهري المغلف بالقلق – الحصر -  النفسي.

التفكير المسبب الرئيس للصراع النفسي، والصراع النفسي بأبسط صورة هو وجود أكثر من دافع متناقض مع الدافع الآخر، ويحمل أحدهما رغبة أو مطلب لا أخلاقي، أو بين شعورين متناقضين، ويرى التحليل النفسي وجود الصراع في النفس البشرية هو الأساس في تكوين الإنسان ووجوده، ومن أمثلة الصراع، الصراع بين الرغبة والدفاع، الصراع بين الرغبات والحوافز المحركة في دواخلنا، وهو صراع بالتأكيد مُحركهُ الأساس هو التفكير. ويقودنا هذا إلى "هيجل " الفيلسوف العظيم الذي يرى بوجود الأطروحة " الفكرة " ونقيضها " الاطروحة المضادة " الفكرة المضادة " وما يحدث بعد ذلك هو جماع بين الفكرتين بتسوية متناغمة، ولنا أن نقول لا يحدث الجماع بين الفكرتين، حتى وإن حدث فهو لا ينتج بالضرورة فكرة ثالثة متناغمة توافقية، بل فكرة جديدة هي نتاج ذلك الصراع في التفكير، لم يتوقف التفكير عن إنتاج أفكار، ولن يهدأ أو يستكين، بل يظل في صراع مستمر وينتج الجديد، ربما سبق المحلل النفسي الفرنسي " جاك لاكان  " الجميع بأفكاره وهي عدم قدرة الجماع بين الأطروحة والأطروحة المضادة، بمعنى أدق بين الفكرتين النقيضتين، لا يوجد جماع بينهما، يستمر الصراع بولادة فكرة جديدة  وهكذا.

 كنا نفكر بفكرة التقدم والاستمرار المستقيم في مواجهة تفكيرنا الفردي والجمعي في كل المجتمعات، ثم تعقدت الحياة وازدادت صعوبتها وأصبحت فكرة التفكير بشكل الحركة الدائرية غير المنتهية، تدور حول نفسها ، ومع تعقد النفس من داخلها أصبح التفكير اللولبي الذي يبدأ ولا ينتهي في كل الأحوال وهنا يصدق "جاك لاكان"  بأن جماع الأطروحتين  لا يحدث أبدًا بتسوية بينهما، ويقودنا هذا الحوار الفلسفي – النفسي إلى كون التفكير عملية مضطردة ومتجددة ودينامية لا تنتهي بقبول الفكرة فقط، وهذا ما نجده بشكل واضح في المذاهب بأنواعها في كل الاديان والفلسفات والفنون حتى تصبح فكرة الدين والمعتقد بعدة مذاهب فرعية يتمسك بها مجموعة قليلة، أو شريحة واسعة، ويكون داخل المذهب الواحد عدة انشطارات واتجاهات متنوعة، كانت مختلفة، أو متوافقة، هذا هو التفكير بشكله المختصر وهو الذي يقود الصراع داخل النفس لإنجاب وليد جديد من المذهب، أو الفكر ونتفق مع القول يولد الجديد من رحم القديم ويتخلق من خلاله.

يرى الدكتور فرج أحمد فرج بأن الصراع ليس تقاتل وأقتتال، بل  هو دافع نحو الإنجاز في كثير من الأحيان، وربما يحقق لصاحبه الكثير من النجاحات، والنجاحات لا تتوقف، والرغبة لا تتوقف في الاستمرار بتحقيق ما يطمح له  الإنسان ، ولكن على حساب التفكير وإجهاده، على حساب حالته النفسية وصحتها وقول فرويد أن الناس لا يمكن أن يصبحوا حكماء في الواقع إلا من خلال الضرر وخبرتهم الخاصة " مقالة التذكر، التكرار، العمل من خلال، ترجمة الصديق محمد أمين من اللغة الألمانية "، ونقول كاد تفكيرنا أن يقتلنا ونحن  بحالة الوعي  الكامل، فكيف هو في حالة اللاوعي – اللاشعور مكمن الأسرار وطريقته المختلفة التي لديها لغة أعمق من اللغة التي نتحدث بها مع المحيطين بنا.

نحاول جاهدين أن نستعرض لموضوع التفكير عبر التخييل، فالتخييل كما تقول الاستاذ الدكتورة " نيفين مصطفى زيور"  إنما هو نوع من تحقيق رغبات خفية ومقموعة وهو يحمي الأنا من الحصر الذي يتمخض عن ذلك التوتر الناتج عدم تفريغ الغرائز، وتضيف " نيفين زيور " التخييل إنما هو نتاج صراع، ويمثل تسوية بين هذين النوعين الشعوري – الواعي الواضح واللاشعوري – اللاواعي، وتقول  أيضًا التخييل بوصفه نوعًا من التفكير، وهو أيضًا نمط من التفكير البدائي " نيفين مصطفى زيور، 2013، ص14 -15" كتاب التخييل دراسة في التحليل النفسي.

أما الفيلسوف الفرنسي " جان بول سارتر" فيعرض بوجود تأكيدات التخيل، وإن عناصر الوعي المتخيل الفكرية هي عناصر الوعي نفسها التي نمنحها عادة أسم الأفكار ويضيف "سارتر " قوله: على مدى السنوات العديدة الماضية، كُتب الكثير عن التفكير الرمزي ولا شك تحت تأثير التحليل النفسي، ويقول أيضًا ينظر معظم علماء النفس إلى التفكير على أنه نشاط انتقائي تنظيمي من شأنه أن يصطاد صورة في اللاشعور – اللاوعي لترتيبها ودمجها وفقًا للظروف "، وعليه فإن التفكير يحمل في طياته رذاذ من اللاشعور – اللاوعي، ومن ثم تخرج هذه الأفكار لتؤثر في حياتنا اليومية في حالة السواء، أو حالة المرض، والأمر سيان بينهما ولكن خير عقار، أو وسيلة تستخدم في مواجهة التفكير بشقيه الايجابي والسلبي هو تعرفه على نفسه بنفسه من خلال هذا النمط من التفكير، وهنا هو أسلوب بالإمكان مواحهته كما هو في عملية الطرح الموجب – التحويل الموجب، وهي مواجهة مع النفس أيضًا، مواجهة لتفكيك بنية الفكرة، أو الخاطرة، التي من المحتمل أن تصبح عصاب أو ذهان إذا ما أشتدت، وإذا أستطاع الفرد ربما يمسك بداية الضوء من الفكرة المسببة لصراعه العصابي التي أنبثقت من التفكير في لحظة حزن، أو لحظة فرح، ولا يغيب عن أذهاننا أن المسافة بين السواء واللاسواء خط واهن يقطعه التفكير بلحظة غير متوقعة، في مرض شديد يقود صاحبه لفقدان المناعة بأكملها ومنها المناعة النفسية، كما يحدث في بعض علاجات الدواء الكيميائي في حالات مختلفة، وفي النهاية نقول دوامة التفكير، لولبية غير منتهية، تبدأ بمدورةٍ، وتنتهي بحركة لولبية غير منتهية. أتمنى أن لا أكون أنهكت القارئ الكريم بالتفكير وهو مدخل للتفكير ليس إلا. 

***

ا. د. أسعد الامارة

قُبيل السبعين عامًا، الدكتور عبدالجبارالرفاعي قائلًا: "الإنسان هو مجموع معانيه الروحية والأخلاقية والجمالية" خُلاصة هائلة مُكثفةٌ بالمعنى القيّم للإنسان. هنا تكمن فرادة الرفاعي، كيف يأخذك في طريق شجاع وحر، وأخلاقي في الحين ذاته، كأنك على وشك الوصول، أشرعة المراسي تلوّح لك على الشاطئ لكنك فعليًا لازلت وسط البحر والأمواج تعصف بك يمنة ويسرة، هذه طبيعة الوجود، والله شرّع الأمواج للعصف بك، ليس تحديًا إنما ليُخرجك من قاع البحر نقيًا على سبيل النجاة، لن ينقذك أحدٌ من الغرق، فكل أنواع الغرق تحيط بك، إنما الأمر مُلقى عليك، فأنت حرٌ في عُرفه، مُكرمٌ بدخول مدينته الفكرية الإيمانية. ألست إنسانًا؟ إذًا أنت موعود بالضوء، والضوء كافٍ لإنارة الطريق.

المفتاح في اللقاء الأول

للقاءات الأولى طبيعتها الاستشرافية وليست القطعية، يأخذنا الفضول المعرفي للغوص أكثر وأكثر في بحر المعرفة إذا انفتح طريق الماء، فكيف انهمر الماء؟ كما يلتقي الناس في ميادين الحياة الواقعية؛ يلتقي القُراء والكُتاب في ميادين الفكر والمعرفة والآداب على أرفف المكتبات المنتشرة في العالم، وبين دهاليز الصفحات المُعتقة والمُحدثة، وهذا ما يجعل الكاتب كائنًا عولميًا يخترق الجغرافيات بهوية مُخففة من مادتها، يُقارب الثقافات في الفضاء الرحب، ينفذ في الأدمغة نفاذ الأكسجين، ويجري في الوعي مجرى الماء، ليؤثر في الإنسان أثر الفراشة، ذلك أثر القراءة. وكقارئة على سبيل النجاة، اشتدت قرائتي الجادة بعد تخرجي من الجامعة عام 2011 بدرجة البكالوريوس في الأدب الإنجليزي، تعلمتُ من تلك الدراسة الأكاديمية أن الدين عامةً يحضر بشدة في الأدب الإنساني العالمي، كما أن الميثالوجيا تُسيطر على المجتمعات الإنسانية كافة وفقًا لسياقاتها الثقافية والتاريخية المتباينة، وأن قراءة الإنسان للأحداث مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بوعيه وقدرته على التأمل والتفكير المنطقي والقراءة النقدية، وفي ذلك كله لا يمكن أن نغفل عن أثر الدين في تفسير الإنسان للأقدار والأحداث الواقعة من حوله.

ومن دراسة وقراءة الأدب تلمستُ أهمية الإطلاع على تحولات الفكر الإنساني بصيغته المباشرة عندما أقتنيت كتاب ’’الدين وأسئلة الحداثة “ حوار وتحرير د. عبدالجبار الرفاعي، في طبعته الأولى 2015 الصادر عن مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد ودار التنوير للطباعة والنشر ببيروت، مدّ لي جسورًا هامة في ساحة تجديد الفكر الديني نحو قامات علمية أثرت المكتبة الفكرية الإسلامية، مثل د. محمد أركون، الأستاذ مصطفى ملكيان، د. حسن حنفي، د. عبدالمجيد الشرفي، فجاءت أشبه بالفتوحات على قراءة الفكر الديني الحديث، تعرفت أيضًا على الشيخ محمد مجتهد شبستري بكتاب “ نقد القراءة الرسمية للدين “ الطبعة الأولى 2013 الصادرة عن دار الانتشار العربي، ووجدت الدين برؤى مغايرة عن السائد والمشهور؛ فكتاب مثل “العقلانية والمعنوية“ لمصطفى ملكيان، يرفع منسوب التساؤل حول المعنى، أما أركون فبقوته يكسر حاجز التصالح والاستسلام والوهم بامتلاك الحقيقة بسؤال مائي “أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟“ في طبعته الرابعة الصادرة 2010 عن دار الساقي، ليترك القارئ في رحلة أشبه بالمعركة الجوانية أو الحرب السؤالية على الذات.

قرأت حتى بدأت أستشعر حسرة الجهل وغربة الوعي، تلمست تفكيك المفاهيم وهز المعتقدات المُعششة في الأذهان طويلًا مع جملة هؤلاء المفكرين، أعترف بأنهم هزوا قاعدة الثبات، ولكنهم لم يستطيعوا ازالتها كليًا أو استبدالها بما يُثبت الزلزال الفكري الحاصل، ليشعر القارئ بأنه عالقٌ في بحر عريض، لا هو قادرٌ على السباحة بأمان، ولا هو قادرٌ على العودة لشاطئ الراحة! وبين هذا وذلك كان لفكر الدكتور الرفاعي ملمحًا بارزًا بمحاولة تثبيت الزلزال وتهدئة الاهتزاز الشديد، برغم أن الفلسفة تعني بقرع جرس التساؤلات أكثر من تحصيل الإجابات، لكن ميزة الرفاعي أنه سعى لشد كل تلك الموجات والتذبذات نحو المركز - الذي هو انطولوجيا الدين -  تحقيقًا لمقاصد مركزية الإنسان في الأرض كامتدادٍ لمركزية الله في الوجود. كما أيقنت أن ما يواجه الإنسان من ظروف اجتماعية وسياقات جغرافية وثقافية وتاريخية لها الأثر البالغ في صناعته الفكرية، مع اعتبار أنّ لكل إنسان سياقًا خاصًا، يتمظهر فيه الدين تمظهرًا مُتغيرًا في بعده الشكلاني وثابتًا أزليًا في بعده الوجودي. وتأتي رسالة كتاب “الدين والظمأ الأنطولوجي“ للرفاعي، لتُمسك على الدين كمعنى أصيل بالنسبة للإنسان عامة، مهما تعددت أساليب التعبير عنه والتجسيد له، فالأهم أن يظل نبضه يقظًا في الروح وحيًا بالأخلاقية الإنسانية.

بيد أن طريق الوعي بهذا المعنى حسّاس وسالكه قد يشعر بغربة، فالناس لا تريد المعرفة، لأن المعرفة تتطلب الشك والتغيير الأمر الذي يهز منطقة الراحة، مما يدفع بالإنسان للثورة أمام الهزة البسيطة للمسلمات المتراكمة لدرجة التكلس، والمانعة للتغيير في حالات كثيرة، فهو يفرح بالوهم المريح أكثر، وهنا تكمن صعوبة تحريك القيم والمعتقدات السائدة لعصور وأزمنة طويلة، لكن الإشكالية أن هذا الركون له انعكاساته التراكمية السلبية جدًا، فقد يتسبب في إهدار العمر كاملًا، وتضييع فرصة الحياة بجودة عالية وتوازن معتدل بين الحاجات الإنسانية المادية والمعنوية.

الإنسان بوصفه مشروعًا تنويريًا

أؤمن بأن الفعل الفكري ينطلق من الإنسان بوصفه فاعلًا حيًا تنويريًا على المدى المفتوح، ينبثق وجوده - الفعل - بولادته الكتابية مُعبرًا باللغة عن أهم الأفكار التي تقرع في ذهن الإنسان، تُربك فكره، تهز عاطفته، تُثير شكوكه لتقوده إلى الإيمان في أفضل الأحوال أما الأسوأ فهناك ضياعات محتملة كثيرة! وأجمل ما يُميز هذا الفعل الجوهري هو البقاء المُرسل على سطوح المكتبات، مُتجذرًا في تاريخ الفكر البشري، محفوظًا كإرثٍ وجودي يُخلد صانعه أبدًا على قيد الحياة، ويظل يجري كالنهر السلسبيل دون توقف أو انقطاع موسمي، ليشق مسالكًا في الأذهان، ويُنشئ بنىً تحتية في فكر الإنسان الحديث، ليُشيّد عليها مبانيه التراكمية، فتبقى صروحًا يتوراثها علم الاجتماع البشري. على هذا النحو الوجودي، وقفت قِبالة مشروعه في تجديد الفكر الديني، وقد أتيتُ من موقعٍ مُختلف بكل أبعاده الاجتماعية والثقافية والتاريخية لأكتب بصفة لا تشبه ما كُتب سلفًا عن بعض الموضوعات من مشروعه في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، فأنا لستُ طالبة أبتغى شهادة علمية بكتابة بحثية، ولم أتبع يومًا أي انتماء. لستُ إلا قارئة على طريق النجاة، آتية من جيل الأبناء باعتباره من جيل الآباء، ومن بيئة اجتماعية وثقافية لا تشبه غيرها، فالتدين العنيف المُسلح الذي يتحدث عنه الرفاعي ويمقته بشدة ليس حاضرًا في مجتمعي – والحمد لله - بفضل الله ثم قوة الوطن الآمن، غير أن الحساسية المفرطة تجاه قضايا الدين هي المسألة الإشكالية، لكني أتلمس حاجة جوهرية لمشروع الرفاعي للإنسان الحديث لاسيما الأجيال المعاصرة والقادمة.

جدير بالذكر، أن فترة قرائتي تلك تزامنت مع تشكيلي للقاءات حوارية أشبه بالنادي القرائي للشابات في المنطقة، تدور الحوارات حول كِتاب مُنتخب أو موضوع مُجمع على تناوله، فتبدى لي ميلًا واضحًا لدى شريحة الشباب لقراءة الأدب الصوفي والفلسفي مثل رواية " قواعد العشق الأربعون " للروائية التركية أليف شافاق "، وكتاب "هكذا تكلمت زرادشت"  للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، بالإضافة لطرح أسئلة كثيرة حول الدين ومحدداته، نافرة من التقليدية. وكمشرفة على عملية الحوار - التي أخذت في النمو نموًا بناءً لتأسيس أرضية لاحترام الرأي والرأي الآخر - خاصة مع حصولي آنذاك على شهادة المدربة المعتمدة من مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني في المملكة العربية السعودية، وتقديمي لبرامج حوارية في مؤسسات متعددة ولشرائح متنوعة، لاحظت التعددية الفكرية وأدركت صعوبة ضبط الميزان بين تلك المستويات المتباينة من الوعي والإدراك بقيّم الدين، فالتدين مفهوم فضفاض في سياق تطبيقه الاجتماعي. فماذا يعني الدين؟ ماهو التدين؟ من هو الإنسان المتدين؟ ماهي ملامح المجتمع المتدين؟ هل هناك فرق بين المتدين والمؤمن؟ وهل الملامح الشكلانية برهان على جوهرية الدين في إنسان هذا المجتمع؟ وماهي العلاقة بين الدين والقيم العليا والأخلاق؟ تُطرح هذه الأسئلة باعتبارها خروجًا عن الفهم الشائع والسائد، لفتح نوافذ الفكر نحو إيمانية عقلانية، لأن جرس السؤال يفتح أبواب البحث والتقصي، وعليه؛ تنقشع أغشية وتسقط أقنعة وتنكشف حقائق وتتأكد براهين ويترسخ إيمان جديد، غالبًا ما يكون أقوى وأقوم من نسخة ما قبل البحث والسؤال. استخلصت من تلك التجربة الحوارية قناعة؛ الحاجة لفكر ديني حاضن للأجيال المعاصرة والقادمة، بمواصفات ديناميكية قابلة لمواكبة حاجات الإنسان العصري؛ باعتباره كائنًا عولميًا، منخرطًا في صيرورة الحياة، وعنصرًا أساسيًا في العالم الحديث، وليس كفردٍ محجوزٍ في أفقه الخاص، وهذا ينطبق على مشروع الدكتور عبدالجبار الرفاعي، لقيامه على مرتكزات تأصيلية في صناعة الوعي الديني، أذكر منها:

أولًا: الدين والمعنى

يقول الرفاعي: “الدين هو المعنى الذي يستجيبُ للمتطلَّبات الأساسية لحياة الإنسان، الجسديَّةِ والسيكولوجيَّةِ والأنطولوجيَّةِ، ويزوِّدُ الإنسانَ بطاقةٍ إيجابية، تكفلُ له خلقَ حالةِ توازُن بين مختلفِ احتياجاته، ويجيب عن سؤال الوجود والمصير، فيخفض وتيرة القلق الوجودي الذي يفترس حياة الإنسان إلى أدنى حد، ويحميه من وَحشة الوجود، ويمنحه مزيدًا من طمأنينة القلب وسكينة الروح"، من كتاب " الدين والاغتراب الميتافيزيقي " الطبعة 3 صفحة 57. وهنا ينبثق السؤال الأكبر عن المعنى، أعني المعنى الذي ينفثه الإنسان بوجوده في هذا الكون الهائل، وهو سؤالٌ يطرحه كثير من الناس إثر تفكير وتأمل أو استشعار بوقوع في مأزق الحياة.

فما هو المعنى الذي يقصده الرفاعي؟ يربط الرفاعي بين المعنى الوجودي للإنسان والدين باعتباره حاجة أنطولوجية تحقق للنفس البشرية الغنى والثراء والمعنى في الحياة، ومهما تعددت المسالك والطرائق وتباينت مظاهر معتقداتها وممارساتها، تبقى متفقة في أنطولوجيا المعنى المقدس، وأصالته للوجود الإنساني، كلبنة عميقة في بنيته الفكرية والروحية والجمالية والأخلاقية. ويأتي التنوع كطبيعة في التكوين البشري الذي أراده الله، في قوله:  " وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ " حقيقًا لسبل الوصول الملائمة لتباين الوعي الإنساني والمعرفة المتنوعة في مشاربها.

ثانيًا: أنسنة الأديان، نذكر ثلاث تجليات:

1. المحبة والسلام:

المجتمعات الحديثة التي تعولمت في سياق تطورها الحديث، تعي أهمية العيش المشترك بالحب الإنساني تجاه الإنسان الآخر بما تضمنه الأخلاقيات والقيم العليا، أقربها ما يمكن إدراكه في حيز الإمكان بقوله تعالى " لِتَعَارَفُوٓاْ " وأبعدها ما هو خارج حيز الإمكان في قوله: " إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"، سورة الحجرات (13) وهنا يمكننا تجاوز منطقة قبول الآخر في سياق النفعية الاجتماعية Social utilitarian إلى سياق علاقة إنسانية خلاقة تستند على أصالة الله في النفس البشرية على اختلاف رؤاها وأساليبها، وطقوسها، اعتمادًا على جوهرية الغاية التي هي الإيمان بالمطلق. فالرفاعي يُقيم مشروعه الفكري مُتكئًا على الإنسان كمحور أساسي تدور حوله الحياة على الأرض، وخليفة الله الذي هو مركز الوجود، وعليه، يقدم تعريفاته لهذا الإنسان مرتبطًا بمشتركات وجودية متعددة مثل:  الإيمان، الحب، الحرية، الرحمة.

2. الحرية:

يبدأ بناء الإنسان ببناء الذات الباطنية أولًا، مُنطلقًا من الداخل إلى الخارج، داعيًا لتحرير الذات الفردية من الذات الجمعية، والفكر الفردي من الفكر الجمعي، فالإنسان فردٌ في خلقه ووجوده، يأتي ذلك بمعنى تخليصها من القيود الخارجية المفروضة، اعتقادًا بحقها في الحرية، الحرية التي هي نقيض العبودية. فيسأل الإنسان ذاته في مرحلة التحرر:  من أنا؟ هذا سؤال الهوية الوجودية، الذي يصدم الإنسان بذاته كصورة منعكسة عن الذات الجمعية أو العقل الجمعي، كما عبر عنه عالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركايم، نتيجة لتراكم طبقات فكرية إنسانية أقوى، يصعب تحركها بصفة مستقلة، خارجة من إطار مُحدد لها سلفًا، فيظل الأفراد يتناسخون فكريًا عن نموذج واحد، وهذا ما اعتبره الرفاعي “ نمذجة “ في كتاب الدين والظمأ الأنطولوجي، واستعرضه بشكل وافٍ في فصل " نسيان الذات " إنما يعتقد الرفاعي بأن " الحرية ليست أمرًا ناجزًا قبل أن نشرع باستعمالها، وجود الحرية يعني ممارستَها. الحرية لا تتحقّق بعيدًا عن مسؤولية الفرد تجاه ذاته.  لحظة تنتفي الحرّيّة تنتفي الذات " من كتاب “ الدين والظمأ الأنطولوجي “ الطبعة 4 صفحة  36.

3. اللغة الرحمانية:

لغة الرفاعي تنفذ في النفس النبيلة، ذلك لأنه يكتب بقوة المفكر العقلاني والمؤمن الروحاني والإنسان الأخلاقي، هذا المزيج المتجانس هو ما يجعل تأثيره يتحقق بلين القول وشدة الحجة، فقراءة كتب الرفاعي لا تحدك بحدود أوراقها بل تفتح للقارئ أبوابًا على موضوعات أخرى وشخوص استثنائية وعديدة، فكأنك في حضرته بين التاريخ وعلم الاجتماع والفلسفة والدين في حصة واحدة، يحدث ذلك بلغة سلسلة بعيدة عن التعقيد الذي يحجب نشر المعرفة.  ويُمثل الحب في لغة وفكر الرفاعي قيمة عليا، تماثل الإيمان وترتبط بوجودية الإنسان، باعتباره كما ينص " الحب أعذب معاني الفرح " بالإضافة لكونه رافدًا ضد الكراهية والظلام في هذا العالم.

ثالثًا: مهمة الدين وتجديد علم الكلام

يعرف الرفاعي الدين بـقوله: "الدين حياةٌ في أُفق المعنى، تفرضُه حاجةُ الإنسان الوجودية لإنتاجِ معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياتِه الفردية والمجتمعية". وفيه يقترن الدين بالمعنى الروحي والأخلاقي والجمالي لحياة الإنسان على المستويين الفردي والجماعي، إذًا هي معادلة بين الحاجات الإنسانية المتعددة في إطار أخلاقي، وهذا يعني إرساء قاعدة أخلاقية لضبط تلك الحاجات. وشخصيًا أرى أن هذه القيمة هي الأهم في سلم الوعي الديني المعاصر، الذي يواجه تحديات التغيير، التغيير على جميع الأصعدة، وهو مطالب بمواكبة الحياة المتطورة دون التخلي عن الدين. وهذا ما تقوم عليه رؤية الدكتور الرفاعي في تجديد الفكر الديني في الإسلام، ذلك؛ بإعادة تعريف المسلمات المنطقية في علم الكلام وهي: تعريف الإنسان، تعريف الدين، تعريف الطرق إلى الله، تعريف الوحي، تعريف النبوة، تعريف الشريعة، تعريف التكليف. يتحقق ذلك بتوظيف الفلسفة والعلوم الحديثة في قراءة وفهم النصوص الدينية.

سبعينية من الزمن

" الإنسان هو مجموع معانيه الروحية والأخلاقية والجمالية " خاتمة القول هي افتتاحيته، فالحكمة رفيقة الفيلسوف الأخلاقي صانعٌ للمعنى الوجودي، وهذا ما يبزغ لنا بالنظر لسيرة الإنسان المفكر بتتبع هذه التجربة، يأخذنا التأمل والتعلم والإعجاب بسيرة أبدعت في تقديم معناها، وحفرت وجودها عميقًا في تاريخ فلسفة الدين، الدكتور عبدالجبار الرفاعي، يمضي قُدُمًا في سماء السبعين، حاملًا على عاتقه رحلة طويلة لمركز دراسات فلسفة الدين ببغداد، ومجلة قضايا إسلامية معاصرة، ومشروع ضخم في علم الكلام الجديد يقود به أجيالًا معاصرة وأخرى قادمة في طريق الدين الديناميكي، القادر على السير الموفق نحو اللانهاية. نسأل الله أن يبارك له في عمره وعلمه وعمله، ويسبغ عليه رداء الصحة والعافية.

***

رجاء البوعلي - أديبة وكاتبة رأي سعودية

..................

* المشاركة رقم: (19) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

تنويه: هذا الموضوع يتضمن رسالة تخص أدباء وفناني العراق .

***

الأدب هو انعكاس للمشاعر الإنسانية المختلفة التي تعبر عن مواقف الحياة بما تزخر به من أحداث وصراعات وخبرات سارة، وأخرى أليمة.. وإحدى أهم هذه الخبرات وأعمقها أثراً في النفوس هي حالة الأكتئاب التي تنتاب الإنسان من بدء الخليقة وحتى يومنا هذا..

الاكتئاب في تراث القدماء:

إذا تتبعنا الفكر الإنساني منذ أقدم العصور نجد الاكتئاب يشيع في ثناياه حتى ليخيل إلى المرء انّ الكآبة واليأس ترتبط بالإنسان منذ يولد وحتى يستقر في قبره. ففي ما وصل إلينا من التراث الحضاري لمصر القديمة نجد أنّ أساطيرهم تعبر عن مآس متنوعة. فقصة الصراع بين الخير والشر التي ترمز لها أسطورة "إيزيس وأوزوريس"، وارتباط نهر النيل بالدموع المنهمرة، أرست منذ ذلك الحين طبائع اكتئابية راسخة لا تزال قائمة في مصر حتى يومنا هذا حيث يشترك الشعب بأكمله في تقاليد عميقة للأحزان، بينما لا يوجد للأفراح لدينا عادات بنفس العمق والاتساع.

وفي بلاد ما بين النهرين،عراقنا، يشير أقدم لوح كتابي إلى أن ملحمة جلجامش شهدت أول إشارة إلى الحزن من خلال رؤية جلجامش لجسد صديقه إنكيدو الذي مات بصورة محزنة، فيقول له "الآن، أي نوم هذا الذي غلبك واستولى عليك؟"، وطوال سبعة أيام يظل ينتف شعره ويمزّق ملابسه هائما على وجهه خارج أسوار مدينة أوروك السومرية.

الاكتئاب في آداب الغرب:

في مسرحية (هاملت) الخالدة ، جسّد "شكسبير" الأكتئاب في شخصية " هاملت" وكيف يصف يأسه من كل العالم، وكيف فقد الاستمتاع بكلّ متع ومباهج الحياة

وارتبط الاكتئاب بالمثالية لدى العديد من الأدباء والكتاب، ومنهم "شوبنهاور" الألماني الذي حدثت في وقته واقعة الانتحار الجماعي في ألمانيا. ويذكر لنا التأريخ انّ العديد من العظماء والمبدعين في الفن والأدب والسياسة قد اتصفوا بما يشبه الاكتئاب النفسي الذي كان يبدو عليهم في أحوال من التطرف تصل إلى الجنون أحياناً، من هؤلاء "ابن الرومي" الشاعر العربي المعروف الذي اشتهر بالتشاؤم وتوقع النحس، وشاعر فرنسا "بودلير" الذي كانت تنتابه الكآبة باستمرار.

وفي السياسة هناك "تشرشل" رئيس وزراء بريطانيا أبان الحرب العظمى الأخيرة حيث كان يعاني من الاكتئاب في أواخر أيامه وكان يتوهم عند وفاته انّه مطارد من كلب أسود. و"فان جوخ" الذي كانت تنتابه حالة اضطراب نفسي شديد اوصلته الى ان يقطع أذنه اليسرى ليهديها إلى امرأة، وحملت احدى أشهر لوحاته عنوان "المكتئب"!، التي تشكل مع لوحة (الصرخة) للفنان النرويجي (إدفارت مونك) اكثر اللوحات الفنية شهرة في تجسيد الاكتئاب.

اما في الشعر العربي فان الأكتئاب فيه.تحول في خيال الشاعر إلى تجربة شعورية توحي إليه بأشجى الأشعار، ولعل من فضل المصائب على الإنسان انّها تعيده بالألم إلى إنسانيته فإذا به يتحول إلى قيثارة تعزف لحناً يفيض بالشجن. وتزدحم كتب الشعر العربي بأشعار تعبر عن هذه التجربة في مناسبات مختلفة..اليك نماذج منها:

قال جرير يبكي زوجته:

لولا الحياء لهاجني استعبار

 ولزرت قبرك والحبيب يزار

ورثى مالك بن الريب نفسه وهو يحتضر:

ألا ليت شعري هل ابيتن ليلة

بجنب الغضا أزجى القلاص النواجيا

*

فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه

وليت الغضا ماشي الركاب لياليا

فهو يتمنى لو تتأخر وفاته ليعود إلى أهله ووطنه ولا تنتهي حياته بهذه الصورة.

ونختمها بقول أبي العتاهية يبكي الشباب ويتمنى لو تعود أيامه:

بكيت على الشباب بدمع عيني

فلم يغن البكاء ولا النحيب

*

ألا ليت الشباب يعود يوماً

 فأخبره بما فعل المشيب

ان ما شهده العراقيون في الاربعين سنة الماضية من حالات اكتئاب، لم تحصل لأي شعب معاصر..فأين منها أدباء وفنانو العراق..هل استطاعوا تجسيدها بما يعكس وجعهم ؟! وهل وظّفوا فيها التفاؤل بان المستقبل لهم؟

تساؤل لهم..وليتهم اجابوا ..أدبا وفنا!

***

د. قاسم حسين صالح

إذا ما استبعدنا مثقفي بلدان العالم المتقدم (الغربي) عن دائرة المناقشات والمجادلات، إزاء طبيعة آرائهم ومواقفهم وتوقعاتهم حول فتوحات عصر (الذكاء الاصطناعي) وما يخبئه من نذر ومحاذير أو بشائر ومفاخر، باعتبار كونهم ينتمون الى ذات البيئة التاريخية والحضارية والمعرفية التي ساهمت بخلق الأسس العلمية والمقومات التكنولوجية، التي كان من شأنها تطور العقل الإنساني والارتقاء بمقومات وعيه الى مديات سامقة، لم يكن - قبل عقدين أو ثلاثة – حتى مجرد التفكير بها ناهيك عن تخيل أبعادها. بحيث ان كل مرحلة من مراحل التقدم العلمي والتطور المعرفي تأتي في سياقات اجتماعية وثقافية ونفسية (مهيأة) على نحو مسبق مما يتيح الانفتاح عليها واستقبال معطياتها، دون حصول تصدعات بنيوية وأزمات إنسانية تطال كيان المجتمع بعموم جمهوره من العامة والخاصة.

والحال، إذا ما أتيح لنا مقارنة ما تقدم على صعيد تعاطي مثقفي بلدان العالم المتخلف (الشرقي) مع تلك الفتوحات المتسارعة وما قد يتمخض عنها من نذر ويترتب عليها من مخاطر، فالواجب يستدعينا بداية مراعاة الخصائص النوعية للبيئة التاريخية والحضارية والمعرفية التي ينتمي إليها هؤلاء (النخبة)، قبل أن يصار الى البحث في طبيعة آرائهم ومواقفهم وتوقعاتهم حيال حصائل ونتائج ثورات (الذكاء الاصطناعي) المتسلسلة من حيث التتابع والمتناسلة من حيث الانتشار، والتي لا تني تستدعي فقط هواجس الخوف والقلق لدى شعوب البلدان (الرائدة) في هذا المجال البايوتكنولوجي فحسب، وإنما تثير الرعب والهلع لدى نظيرها شعوب البلدان (الراكدة) التي طالما كانت سرعة الانجازات العلمية وتوالي الابتكارات التقنية تباغتها وتفاجئها، إن لم تكن تحبطها وتجعلها في حالة من اليأس القنوط، على خلفية اتساع البون وبعد الشقة بينها وبين المراحل المعرفية والحضارية التي قطعتها شعوب العالم الأول. 

ومن هذا المنطلق، يمكننا تصور الكيفية التي يصوغ من خلالها (مثقفي) البلدان المتخلفة تصوراتهم ومواقفهم، ويعينوا طبيعة ردود أفعالهم وسلوكياتهم، ويرسموا حدود تطلعاتهم وتوقعاتهم، ويتاح لنا، بالتالي، الحكم على قدراتهم وإمكاناتهم في مواجهة المفاجآت والتحديات التي من المؤكد أن مخرجات (الذكاء الاصطناع) المتزايدة والمتسارعة، ستزعزع معمارهم المعرفي المتهالك، وستطيح بالكثير من ثوابت أفكارهم المبتسرة وتصوراتهم التقليدية التي ألفوها وتآلفوا معها، ليس فقط حيال الديناميات والسيرورات التي تتطور بموجبها المجتمعات المتقدمة والمتخلفة على حدّ سواء فحسب، بل وكذلك إزاء الخيارات والمسارات والمئالات التي ستتجه إليها في المستقبل.  

ولأن البنية الفكرية – المعرفية لمثقفي البلدان المتخلفة بنية رثة ومتآكلة لا تقوى على مغادرة معازلها الميثولوجية وأنساقها التصورية، فالمؤكد إن تعرض حاملي تلك البنية لصدمات عصر (الذكاء الاصطناعي) وما تحمله معها من زلازل ونوازل، من المرجح أنها ستطيح بكل ما تواضع عليه الإنسان من قيم ومبادئ ومثل على مدى أجيال متعاقبة، ستجعلهم في حالة من التيه والتخبط لا يحسدون عليها. ففي الوقت الذي لم يبرح فيه مثقفي (الطوائف) من التمترس والتخندق خلف انتماءاتهم البدائية وهوياتهم الهامشية وثقافاتهم الفرعية، ويحرصون كل الحرص على ثبات ولاءاتهم العصبية للجماعات المتشظية على أساس (القبائل / العشائر)، والمتذررة على أساس (المذاهب / الطوائف). فان فتوحات ومخرجات عصر (الذكاء الاصطناعي) وصلت الى حدّ إن كينونة الإنسان ذاته باتت محط شك وتساؤل !، لا من حيث طبيعته الاجتماعية ونزعته الحضارية التي جبل عليها فحسب، وإنما من حيث ماهيته البايولوجية كمخلوق بشري وتكوينه السايكولوجي كنوع ثقافي أيضا".

وهكذا، فالأرجح ان عصر (الذكاء الاصطناعي) التي باتت ملامحه تتكشف يوما"بعد يوم، سيكون وبالا"على مجتمعات البلدان المتخلفة والمتخلعة، ليس لأن ما يفصلها عن مسارات التطور العلمي والحضاري التي خاضت غمارها مجتمعات الغرب المتقدم سنين ضوئية، بحيث ان أي متغير يطرأ على تلك المسارات سرعان ما يجد صداها وقد انعكس بصيغ من الأزمات والتصدعات والصراعات فحسب، وإنما لكونها أدمنت حالة العبودية السياسية والعطالة الفكرية والقطيعة الحضارية. ولتدارك الوقوع في هذه المحنة – الكارثة، أو على الأقل التخفيف من شدة وطأتها والتقليل من زخم ارتداداتها، لا مناص أمام (مثقفي) هذه البلدان المتخلفة من إعادة التفكير بكل ما ألفوه من تصورات وتمثلات، وتواضعوا عليه من  علاقات وهويات، وإلاّ فان طوفان هذا العصر المرعب سيحيلهم الى كائنات ممسوخة أشبه ما تكون بالمومياءات المتحجرة لما قبل التاريخ!.  

***

ثامر عباس – باحث عراقي

 

تواجه ثقافتنا العربية في العقدين الاخيرين من بداية القرن الحادي والعشرين تحديات كثيرة من شأنها ان تهدد حركة تطورها في المجتمع يتعلق جزء كبير منها بالتطور التقني المتسارع الذي بات يفوق قدرة استيعاب الثقافة العربية لهذا التطور ولما يترتب عليه من تأثير في حياة الفرد.

يتطور العلم من حولنا تطوراً سريعاً بتقدم البحث العلمي وتكنلوجيا المعلومات وتقنية الأجهزة الآلية والحواسيب ومشاريع الذكاء الإصطناعي بشكل يتخطى قدرة استيعاب كثير من الناس، بل انه يتقدم بشكل يفوق الوقت الذي يحتاجه أحدنا لإعادة النظر في امور حياته، وإعادة ترتيب ما يستلزم منها . بالكاد يجد كثير من الناس وقتاً يتقنون فيه استخدام هذه التقنيات المتطورة، ويقضون في اعمالهم جزءاً كبيراً من يومهم كي يتمكنوا من كسب المزيد من المال الذي يجعلهم مواكبين لموديلات الأجهزة التي تطرحها شركات التقنية. بالتالي فغالبية الناس يجدون انفسهم - من حيث يشعرون ولا يشعرون - مجرد مستخدمين، يصنفهم المجتمع على وفق درجات إتقان أحدهم لإستخدام التقنية المتطورة. لم يعد لدى كثيرين وقت للتدبر والتفكير والتأمل، وسيترك التقدم المتسارع اثره النفسي السلبي على المستخدم، حيث شعوره بالضعف في شخصيته وقدرة تفكيره، بل وربما في جدوى حاجته الى التفكير في عصر تهيمن فيه الأرقام على الأفكار وتبتلعها في جوف سوقٍ عالمي يسلّع كل شيء. وسينتابه شعور متواصل بالتأخر، ليس في عجزه عن مواكبة تطور الدول الصناعية والدول الكبرى في العالم، وانما في عجزه عن إستيعاب هذه التطورات التقنية، فلا يكاد يجيد استخدام تطبيق تقني حتى يظهر أحدث منه، وهكذا. وهناك مسألة مهمة جداً، وهي ان المجتمع اخذ يتعامل مع تلك التقنية المتطورة كمعيار للحكم على ثقافة الفرد، فكلما كان بحوزته موبايل حديث كان مظهره اكثر ثقافة وامكانية من آخر يستخدم موديلاً أقدم من موديلات الموبايل.

في نهاية الفصل الأول من كتابه “ الدين والتحليل النفسي” يقول الفيلسوف الأمريكي من أصل الماني إيريك فروم “ ليس صحيحاً ان علينا التنازل عن إهتمامنا بالروح اذا كنا لا نقبل عقائد الدين، ذلك ان المحلل النفساني في وضع يسمح له بدراسة الإنسان عبر الدين وعبر نسق الرمز اللادينية “

التطور العلمي موجود قبل يومنا هذا، لكن ما يميزه اليوم هو ان عصر التقنية اتاح مخرجات التطور الصناعي للجميع فصار بمقدور الكل على اختلاف امكانياتهم المادية ان يقتنوا اجهزة الاتصال والحواسيب والانترنت. كما ان فكرة الاتصال والتواصل ليست بالجديدة فهي قديمة قدم بداية تعرف الانسان الى الطبيعة والى المجتمع عندما كان يسعى الى تطوير وسائل تواصله مع الاخرين، لكن ما يميز عالم الاتصال والتواصل اليوم هو ان التطور العلمي عمل على تمكين الجميع من استخدام هذه التقنية المتطورة حتى وان كانوا لا يعلمون شيئا عن علم الحاسبات او علم الاتصالات وهو بذلك يهيئ مساحة كبيرة جداً للاستخدام تتضمنها وفرة في المعلومات وتدفق هائل للبيانات وسرعة عالية في الوصول الى المعلومة والخبر، وحرية واسعة في التنقل والاختيار والاتصال، وحرية في التعبير والنشر. يقوم هذا التوسع على محتوى ضخم، وهذا المحتوى الضخم لا يخلو بحكم التوسع والتنوع من مادة جيدة ومادة رديئة، ومن نافع وضار، ومن خير وشر. وهذه الثنائة ليست بالجديدة، فهي قديمة قدم وجود الانسان على الارض وهناك حديث نبوي يورده اليعقوبي في تاريخه يخاطب فيه نبي الأمة الناس قائلاً : لا يقولن احدكم انا مع الناس.. وفي هذا القول اشارة الى نقطة ثقافية مهمة وهي ان الجو الغالب على مجتمع ما في فترة زمنية معينة لا يمكن اعتماده معيارا. كما لا يمكن اعتباره عذرا لتبرير السلوك. يقول النبي الخاتم: ايها الناس انما هما نجدان نجد خير ونجد شر.

اذا ثنائية الخير والشر فكرة قديمة زمنياً، لكن ما يميزها اليوم في عصر التقنية هو ان هذه الثنائية تتحرك بعيدا عن محور الانسانية.

الانسانية هي محور الثقافة، والثقافة هي مشروع انساني في المجتمع ، لذلك فإن القول بأن الثقافة هي ذلك العطاء الذي يقدمه المثقف للمجتمع لم يعد كافيا. وارى ان من الضروري جدا ان يصبح مفهوم الثقافة اليوم انها ذلك العطاء الذي يقدمه المثقف للمجتمع من اجل تمكين المجتمع ثقافيا. وبدون هذه الاضافة - تمكين المجتمع ثقافيا - اذا قارنا واقعنا اليوم بما كان عليه الحال في الماضي سنجد في عصر الجاهلية مثلاً شعراء مبدعون وخطباء متمكنون، لكن مجتمع ذلك الوقت لم يكن متمكنا ثقافيا، كما ان مجتمع اليوم غير متمكن ثقافيا. الفارق بين الزمنين هو ان ثقافة اليوم وظفت التطور التقني لصالح العطاء الذي يقدمه المثقف للمجتمع، فصرنا نرى اعدادا كبيرة من عنوانات الكتب واسماء كثيرة لكتاب ومؤلفين وصار هناك كتاب الكتروني وكتاب مجاني كما ان المحاضرات الثقافية تنوعت وتوسعت وصار بمقدور اشخاص في أماكن مختلفة ومتباعدة ان يتفقوا على عقد ندوة ثقافة في زمن محدد وان يتواصلوا مع بعضهم. لكن مع كل هذا الحراك لم تتطور الثقافة. وانا لست مع الذين يعدون هذا الانجاز تطوراً ثقافيا لأنني انسبه الى التقنية وليس الى الثقافة.

لكي تتطور الثقافة أرى من الضروري جدا اليوم ان تمر الثقافة من خلال الانثروبولوجيا علم الإنسان الذي يعنى بدراسة كل ماله علاقة بطبيعة المجتمع فهو علم يتناول الجانب الحياتي للانسان والجانب الاجتماعي والجانب الثقافي وتأثير اللغة.

علاقة الانسان بالآلة علاقة قديمة تعود الى ملايين السنين حيث الفأس الحجري، وكانت هذه العلاقة تتحرك في نطاق الوجود الطبيعي للانسان في الحياة، اما اليوم وبعد التطور العلمي والتوسع الصناعي ودخول الانانية على خط الانتاج الصناعي فقد تضررت الطبيعة واسيء الى المناخ وتعقدت سبل الحياة وكثرت احتياجاتها وفرض كل هذا على فهم علاقة الانسان بالالة تغيراً، فقد صارت الالة تتدخل في حياة الانسان ويراها بعض المشتغلين في التقنية انها تقرر مصيره، وحمل القلق بعضهم على التصريح بأن مستقبل عصر التقنية سيقضي على انسانية الانسان عندما يصبح كتلة بشرية فاقدة لمعنى الانسانية ويتحول المجتمع الى تجمعات فاقدة لمعنى المجتمع، وسيشمل القلق الثقافة حين تتحول الى مظهر حياتي بعد ان كانت جوهر الحياة.

المقلق في ذلك هو ان نشاط التقنية الرقمية لم يتوقف عند الخدمات الرائعة التي يقدمها للمثقف الباحث والمؤلف في الحصول على المصادر وسهولة الوصول الى المعلومة وسهولة التنضيد والاعداد للنشر ثم الطبع والتوزيع والنشر الورقي والنشر الالكتروني. فمشاريع الذكاء الاصطناعي تعمل على توفير تطبيقات ذكية تصل قدراتها الى تأليف كتاب، والى انتاج روبوت ذكي يقول الشعر. فهناك تطبيق يمكّن مستخدميه من اعداد كتاب من خلال عنوان ومضامين وحتى عدد الصفحات يحددها المستخدم، وما هي الا دقائق حتى يقدم التطبيق كتاباً مترابط المضامين. هذا العمل سيتسبب في ظهور القلق حيال ما ينتج من اعمال ثقافية وهذا القلق سيوصلنا الى الشك فيما نتلقى من مطبوعات وما نقرأ من مقالات وصحف ومجلات وهذا الشك سيغيّب المصداقية. عندها يبقى المعيار والرهان على الابداع، لأن الإبداع صفة انسانية لا الية.

يصنف العطاء البشري الى نوعين. نوع يراد منه اظهار الذات على انها ذات مبدعة، ونوع اخر يُراد منه تدريب المتلقين على تقليد الابداع لكي يبدعوا. اننا اليوم بحاجة ماسة الى تمكين المجتمع ثقافيا ليعتادوا على العطاء، ويتأتى لنا ذلك من خلال الانثروبولوجيا، ذلك العلم الذي يعرّف الثقافة انها دراسة طريقة حياة الناس والوسائل والسبل التي يستخدمونها للتعامل فيما بينهم من اجل تطوير تلك الوسائل والسبل.

في عصر التقنية اليوم وبعد وفرة وسهولة حصول الناس على منتجات التقنية المتطورة وتعقد سبل الحياة وصعوبة ظروفها لم يعد امام الفرد العادي متسع من الوقت للقراءة والتأمل والتفكير واصبحت التقنية الرقمية هي عالمه، وهي مصدر تشكيل ثقافته. رصدت دراسة ميدانية ان غالبية الشباب اليوم يعتمدون اعتماداً كلياً على الانترنت في الحصول على المعلومة، لذلك فإننا معنيون ومسؤولون اليوم عن تمكين المجتمع ثقافيا لأن عصر التقنية يشتغل على مشاريع الذكاء الاصطناعي التي توفر تطبيقات يمكن لها مستقبلاً ان تشكل خطورة على ثقافة الجيل القادم كتقنية التزييف العميق التي يمكن من خلالها تقديم احاديث وخطابات وتصريحات واراء واحكام على لسان شخصية لم تقل ذلك في الواقع، لكن التقنية الذكية ستتمكن من خداع المتلقي عبر دقة المقطع الصوتي الذي يتم انتاجه بواسطة هذه التقنية الذكية التي تحتاج الى صور للشخص وتسجيل صوتي مع فديو يظهر فيه حركات وجهه ويديه وبواسطة التزييف العميق يمكن اظهار هذه الشخصية للناس على غير محتواها الثقافي الحقيقي ومن شان هذا التطبيق ان يقدم مصادر مفبركة للجيل القادم الذي ستكون التقنية الذكية كل عالمه ومكتبته ومصادره.

يرى خبراء التقنية ان مستقبل التطور التقني ومشاريع الذكاء الاصطناعي ستتسبب في فقدان الناس القدرة على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مزيف وهنا يأتي دورنا الثقافي اليوم حيث تقع على المثقف الحقيقي مهمة تمكين المجتمع ثقافيا كي يمتلك قدرة التمييز بين الحقيقي والمزيف ويتأتى ذلك من خلال توضيح الخطوط العامة للحق الذي توفر معرفته قدرة تمكين الفرد من معرفة اهل الحق كما قال الامام علي عليه " اعرف الحق تعرف اهله "

إشباع الرغبات وتلبية احتياجات الانسان موضوع يشغل تفكير العقل الثقافي قديماً وحديثاً، لكن ما يميزه اليوم في عصر التقنية الرقمية المتطورة هو ان مشتريع الاستثمار الاقتصادي الصناعي لا تعطي مجالاً لوصول الى حد مقبول لإشباع هذه الرغبات، فدائماً هناك عروض جديدة واغراءات اكثر اثارة وتشويقاً من سابقاتها، وبهذا تقيدت حركة حياة الناس في حدود مواكبة الاصدارات الجديدة لسوق الاستهلاك في عالم التقنية الرقمية ووظفوا وجودهم في الحياة لخدمة ولمواكبة هذا التطور والتنوع، وصارت ثقافة الفرد تعني كثرة تسوقه وامكانيته المادية التي يمكنه من اقتناء موبايل احدث وسيارة افخم وارتياد مطاعم ارقى ومولات عالمية. نعم لقد نجحت مشاريع التقنية المتطورة في تحديد وربما في الغاء ظاهرة الموت جوعاً، لكن هذه المشاريع تسببت في نوع جديد من الفقر، يطلق عليه فقر الرفاهية. انها مرحلة ما بعد الجوع، مرحلة تعطيل الاعتقاد بفكرة القناعة واحلال مفهوم البراعة بديلاً عنه، إذ لم يعد تعليل الفقر في المجتمع على انه تقصير اداري في مؤسسات الدولة، وفشل سياسي وغياب للحس المجتمعي والمسؤولية الانسانية والالتزام الديني والاخلاقي، بقدر ما صار يعني فشل قدرة اولئك الفقراء في ركوب امواج التغيير الجديد في البلاد والعالم . تسبب هذا التعليل في دفع كثيرين الى تغيير اعتقاداتهم بخصوص ثنائية الحلال والحرام والمعقول واللامعقول في سبل كسب المال، وصارت ثنائية القبول والرفض بديلاً استهلاكياً مقبولاً يتيح لأشخاص توظيف الحيلة والغش على انها مواصفات معينة قابلة للقبول او الرفض ولا علاقة للأمر بالوعي الموضوعي الذاتي للفرد. وصار للشارع قوة فرض ثقافة المرحلة وان كانت ثقافة غير منتجة او غير صحيحة، لكن حرية استخدام وسائل التواصل وحرية النشر الالكتروني مع قلة وعي العامة من الناس وكثرة استخدامهم واعتمادهم الكلي على وسائل التواصل الاجتماعي، مكنهم من فرض ثنائية جديدة على المشهد الثقافي تتمثل في وجود نوعين من المثقفين. نوع مع ثقافة التبرير للتمرير، ونوع اخر مع ثقافة التغيير للتطوير. ثقافة التبرير اكثر إقبالاً وأكثر قبولاً في المجتمع، لأنها ثقافة تتناغم مع حاجة السلطة السياسية لفهم مجتزأ للثقافة ينحصر في الجانب الادبي والفني. كما تتناسب ثقافة التبرير مع محدودية استيعاب الشارع للنشاط الثقافي كدور فعال في التغيير، فقد شهدنا خلال العقدين الماضيين كثيراً من التظاهرات ومحاولات التغيير التي كانت تتم على يد وبجهود وسط جماهيري شعبي غاية مطاليبه تكمن في تلبية احتياجات المواطن الأساسية التي تنحصر في الماكل والملبس والمسكن والوظيفة الحكومية. النوع الأخر من المثقفين هو المثقف الذي يرى في الثقافة وسيلة للتغيير الحقيقي في عصر التقنية، لأن أساليب التغيير المالوفة كالتظاهرات والاحتجاجات والانقلابات لم تعد مجزية بعد ان تمكنت الآلة من التحكم في هذه الأساليب لصالح السلطات وقد لاحظنا ما حصل في تظاهرات هنا وهناك في دول العالم منها دول مصنفة ضمن الدول المتطورة صناعياً وعلمياً والاقوى نفوذاً مثل امريكا وكيف ان تظاهرات طلبة الجامعات المطالبين بإيقاف الحرب الصهيونية ضد الفسلطينيين لم تلق اهتماماً يرقى الى ثقافة انسنة الوجود البشري فقد طلبت رئيسة جامعة من قوات الشرطة الدخول الى الحرم الجامعي لفك اعتصام الطلبة، واعفيت رئسة جامعة اخرى لانها لم تتمكن من منع اعتصام الطلبة، ورفضت احدى الجامعات مطاليب المتظاهرين في فك ارتباط الجامعة بالمشاريع التي تقيمها مع شركات اسرائيلية واقترحت بدل ذلك مشاريع دعم للفلسطينيين.

ثقافة التمرير تنتج مثقفاً منهوماً بالشهرة والمظهر الذاتي للثقافة، بينما تنتج ثقافة التغيير مثقفاً مهموماً بالعبرة والمظهر الموضوعي للثقافة. فالمثقف المنهوم يتحرك بنشاطه الثقافي من اجل ان يصبح على مقربة من سلطة القوة ونفوذ المال والجاه. اما المثقف المهموم فإنه يتحرك بنشاطه الثقافي من اجل ان يصبح على مقربة من واقع الحال لتغييره الى ما ينبغي ان يكون عليه.

لا شك ان مناخات العالم المغبرة بشكل عام لها تأثيرها في ثقافات المجتمعات وفي تشكيل ثقافات جديدة بفعل هيمنة عالم الأرقام على طرق التفكير التي اخذت تنحرف عن انسنة نتاجات العقل الثقافي، وخلاصة القول كما يرى الأمريكي هاري ألين اوفر ستريت في كتابه (العقل الناضج) ص32 في الطبعة الثانية الصادرة سنة 1964م (ان الكائن البشري يمكن ان يصبح - في حدود معينة - أي شيء يراه محبباً اولئك الذين يحددون له المثيرات التي يستجيب لها..).

***

د. عدي عدنان البلداوي

لمناسبة انعقاد بطولة خليجي (25) في البصرة

كرة القدم والعنف

يقال ان لكل شيء جانبان مشرق ومظلم ، ايجابي وسلبي وكرة القدم عبر تاريخها الطويل لا تخلوا من هذه الصفة فهي ليست مجرد لعبة رياضية بل هي سياسة وثقافة وعادات تربط بين الشعوب.

لقد اختلف مؤرخو الرياضة في منشأ هذه اللعبة فمن  قائل ان اصلها من انكلترا ومن قال ان اصلها من روما وهناك من يقول ان منشـــأ كرة القدم من الصين مستندين الى مقولة قديمة تقول (لقد اخترعت الصين البارود وكرة القدم) وقد انكر الانكليز ذلك وقالوا ان الصين اخترعت البارود فقط اما كرة القدم فقد اخترعها الانكليز ، لكن اصر مؤرخي الصين يقول ان اول مباريات في لعبة كرة القدم جرت بين الصين واليابان عام 100 قبل الميلاد.

يقول لنا التاريخ ان الكرة كانت عبارة عن قطعة من الجلد تملأ بشعر من رؤوس النساء ثم تطورت الى قطعه من الجلد تملأ بالهواء وان الحضارات القديمة مثل بابل وآشور ومصر الفرعونية والرومان كانوا يعرفون هذه اللعبة لأغراض التسلية والضحك ، وكانت لعبة كرة القدم في روما والصين واليابان وحتى في بريطانيا نفسها تمارس بلا قيود وبلا قوانين وكانت ممارستها فيها الكثير من العنف والفوضى الى حد ان اهالي اسكتلندا لعبوا برؤوس القتلى الانكليز بعد انتهاء احدى المعارك بين الطرفين ، كما لعب الانكليز برؤوس قتلى الفايكنغ بسبب غزوهم لانكلترا الامر الذي جعل عدد كبير من ملوك برطانيا يصدرون اوامر ملكية بتحريم اللعبة والخالف تكون عقوبته الاعدام حين اصبحت المباراة عبارة عن معارك وحشية وظل الوضع في انكلترا على هذا المنوال حتى اصدرت جامعه كامبرج عام 1846م او قوانين مكتوبة لتنظيم هذه اللعبة   وفي عام 1863م صدر قانون اول اتحاد كروي نفذ فيه العنف داخل الملاعب وفي عام 1871م اقيمت اول بطولة لكرة القدم في انكلترا

اغرب حوادث العنف الكروية في اوربا وامريكا اللاتينية

في انكلترا وصل تحيز الناس الشديد لفريقهم ان وقعت معركة شديدة بين انصار الفريقين استخدمت فيها الاسلحة التي تستخدم عادة في الحروب مما ادى الى وقوع ضحايا من الجانبين مما اضطر ملك بريطانيا الى اصدار قرار بمحاكمة المتسببين في الحوادث وكان الحكم تحريم لعب كرة القدم على هذين الفريقين ثم الحبس على اللاعبين لمدة ثلاث سنوات مع الاشغال الشاقة وكما حصل في انكلترا حصل بين فرنسا وايطاليا ففي عام 1709م كانت هناك مباراة بين المنتخب الفرنسي والمنتخب الايطالي في ايطاليا وكانت الدولتان في حالة مشاحنات دولية وحروب مستمرة حيث سبق المباراة شحن نفسي رهيب للشعبين بسبب نتائج الحرب الاخيرة بينهما، وفاز الفريق الفرنسي على الايطالي بهدفين ضد لا شيء وسط آلاف الايطاليين المتهورين وبعد انتهاء المباراة القي القبض على كابتن الفريق الفرنسي وتم أستجوابه في غرفة الملابس وصدر الحكم عليه بالاعدام رميا بالرصاص ونفذ الحكم في الملعب وكان لهذا القرار اثر كبير حيث اشتعلت الحرب من جديد بين الدولتين .

وفي عام 1969 واثناء تصفيات كأس العالم لعام 1970 وقعت حرب بين دولتين من دول امريكا الوسطى هما هندوراس وسلفادور فقد كانت العلاقات متوترة بين البلدين وقد تزامنت لعبة كرة القدم بين البلدين مع هذه التوترات حيث بدات عمليات الشغب اثناء المباراة التي مهدت لقيام حرب بينهما 2 تموز من عام 1969 عندما شن الجيش السلفادوري هجوماً بالدبابات  على هندوراس وقد استمرت الحرب مدة اربعة ايام وسميت حرب الـ(100) ساعة ، اسفرت عن مقتل ثلاثة آلاف شخص واكثر من (15) الف جريح وآلاف المشردين .

***

غريب دوحي

سؤال مشروع يطرح نفسه علينا اليوم ونحن نعيش حالات عصيبة من فقدان الهويّة، بسبب مواقف ايديولوجيّة صماء مغلقة، أو بسبب عواطف جياشة تتحكم فيها رؤى سياسيّة تدفعنا لنكران الذات والتمسك بانتسابات تعود لجذور ثقافيّة لا تخلوا من البعد الأيديولوجي، على حساب انتسابات أعمق تاريخيّاً وأكثر أصالة تشكل القاع الحضاري الذي ننتمي إليه.

من هذا المنطلق دعونا نعود للنظر في ذاتنا، والبحث عن حقيقة وجودنا وانتمائنا كعرب، وذك من خلال طرحنا السؤال المشروع اليوم وهو التالي:

هل نحن ننتمي للحضارة العربيّة أم لحضارة دينيّة مسيحيّة كانت أم إسلاميّة؟.

لنتعرف بداية على معنى الحضارة؟.

الحضارة هي جملة المكونات المادية والروحيّة والقيميّة التي تعبر عن حياة مجتمع من المجتمعات أو أمّة من الأمم، كونتها تاريخيّاً هذه المجتمعات أو الأمم التي عاشت على أرض مشتركة، لها طبيعتها الجغرافيّة والمناخيّة التي تفرض تأثيراتها البيولوجيّة والنفسيّة والإنتاجيّة على هذه المجموعة البشريّة القائمة والمستقرة على هذه الأرض منذ لآلاف السنين، الأمر الذي أوجد لهذه الجماعة أو تلك تاريخاً مشتركاً، مثلما أصبح لها عبر السياق التاريخ لهذا الحياة المعيشيّة المشتركة تاريخيّاً علاقات مشتركة.. لغة وآمال وآلام ومصالح ماديّة ومعنويّة متمايزة عن غيرها من سمات وخصائص الحضارات الأخرى التي تأثرت بها أو أثرت فيها هي. هذا ويحدد حالة تمايز ونوعيّة سماتها وخصائص هذه الحضارة أوتلك، طبيعة العلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والخلقيّة الفاعلة في بنية هذه الحضارة. والحضارة تبدأ إرهاصاتها الأوليّة حيث ينتهي الاضطراب والقلق في حياة شعب من الشعوب، ويبدأ استقرار هذا الشعب في بيئته الجغرافيّة، فإذا ما أمِّنَ الإنسان على وجوده ومارس نشاطه الحياتي لإنتاج خيراته الماديّة والروحيّة، ستتحرر في نفسه دائماً دوافع التطلع نحو تنمية وتطوير ذاته وبلورة هويتها، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعيّة والاجتماعيّة والروحيّة والابداعيّة لدى أبناء هذه الحضارة من استنهاضهم بشكل مستمر للمضيّ قدماً في طريق فهم الحياة وإغناء حضارتهم فيها.

إذاً إن الحضارة عبر سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين، لا يمكن حصرها في الجانب الماديّ فقط كالمباني والقلاع والقصور، أو اختزالها في أنماطٍ سياسيّة كالإمبراطوريات والأسر الحاكمة والدول والطوائف والمذاهب فحسب، بل وبما أنتجه أبناء هذه الحضارة أيضاً من قيم روحيّة وفكريّة وأدبيّة وفنيّة وفلسفيّة، والأهم هنا برأيي إنتاج تلك المعطيات القانونيّة التي تسمح بتحقيق العيش المشترك بين المكونات الاجتماعيّة لهذه الحضارة أو تلك، على المستويات الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعية والثقافيّة، تبين بالضرورة درجة رقيّ هذه الحضارة أو تخلفها. فالحضارة مثلاً التي وصلت إلى تحقيق دولة القانون والمؤسسات وتداول السلطة والمواطنة واحترم الرأي والرأي الآخر، والاعتراف بدور ومكانة المرأة. هي غير الحضارة التي لم تزل تعيش حالة العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب، والتي لم يزل مفهوم الدولة الحديثة (دولة القانون) وكل مفرداتها غائباً حتى ولو تشكلت لديها دول وأصبح لها أعلام ومؤسسات ودساتير وبرلمانات.

أما مفهوم الدين: فهو شكل من أشكال الوعي البشري، تحدده منظومة متسقة إلى حد كبير من التصورات والأمزجة والأفعال، في الوقت الذي تشكل فيه هذه التصورات والأمزجة والرموز والأمزجة أبعاداً ميثيولوجيّة في البنية الفكريّة والعقيديّة الدينيّة، والتي غالباً ما تتحول إلى أيديولوجيا تربط الإنسان وعالمه بالمطلق المتعالي (يهوه – الرب – الله)، على مستوى الديانات السماويّة، أو بشخصيّة محددة أنتجت هذا الدين على المستوى الوضعي كـ(بوذا وكنفيشيوس) على سبيل المثال لا الحصر. وللدين في طبيعته عموماً، جذور معرفيّة واجتماعيّة. ففي جذوره المعرفيّة تكمن رؤى وأفكار معرفة الواقع وتفسير تشكله وحركته وفق رؤى متعالية على الواقع ومفارقة له. أما على مستوى الجذور الاجتماعيّة، التي تشكل جملة المعطيات الموضعيّة للحياة الاجتماعيّة، التي غالباً ما تُسْتُوعًبُ أيضاً من قبل المتدينين استيعاباً غيبيّاَ أو أيديولوجيّاً مغلقاً غير قابل في بنيته الفكريّة على الالغاء أو التعديل أو المراجعة. بل وكثيرا ما دخلت الخرافة والأسطورة في تفسير علاقات الناس الاجتماعيّة في مراحل تاريخيّة سابقة ولم تزل بقاياها حاضرة لدى الشعوب المنتمية لهذا الدين أو ذاك.(1).

نعود لسؤالنا المشروع لأي ننتمي نحن العرب للحضارة العربيّة.. أم للدين.. أم للحضارتين معا؟. وعلى هذه، علينا أن نتعرف على سمات وخصائص هاتين الحضارتين ومعطياتها.

أولاً: الحضارة العربيّة: بالرغم من وجود من يقرر هناك، بأن الحضارة العربيّة هي حضارة القبائل العربيّة التي انتشرت في صحراء الجزيرة العربيّة، وهذا الاقرار يفتقد برأيي إلى البحث العلميّ والتقصي التاريخي الدقيق والعقلاني لدوافع هذه الآراء، في مسألة تحديد من هم العرب وأين انتشروا.؟. وبناءً على هذا الإقرار من قبل بعض الباحثين بأن العرب هم تلك القبائل العربيّة المنتشرة في الجزيرة العربيّة قبل الإسلام، فإن هذا التحديد غالباً ما يسيئ للعرب وحضارتهم، بحيث تتجلى منتجات هذه الحضارة البدويّة فيما قدمه هؤلاء البدو من لغة وشعر وفروسيّة وغزو وتعصب للقبيلة وغير ذلك من معطيات وقيم الحياة البدويّة. لذلك هذا ما يساهم في تشوه العرب حضاريّا، علماً أن الحركات الشعوبيّة في تاريخ الدولة العربيّة الإسلاميّة، قد لعبت على هذه الآراء منذ بدء انتشار العرب وتداخلهم مع الحضارات الأخرى بفعل ما سمي الفتوحات الإسلاميّة، حيث راح العديد من الكتاب والمفكرين والأدباء ممن ينتمون للحضارات الأخرى وخاصة الفارسيّة منها، يعملون على تشويه العرب وإظهار ضعف انتمائهم الحضاري وتردي قيمهم. وهذه هي النظرة الشعوبيّة التي مورست ضد العرب في تاريخ الدولة الإسلاميّة في مراحل ضعفها.

أما حقيقة العرب وحضارتهم، فتكمن أيضا وهذا المهم برأيي في الشعوب العربيّة التي انتشرت تاريخيّاً أيضاً في بلاد المغرب وسورية والعراق بفعل الهجرات التي عرفت بـ(الساميّة) والتي شكلت في بيئتها الجغرافية التي هاجرت إليها مكونات حضارة متقدمة في معطياتها الماديّة والفكريّة، جاء الإسلام فيما بعد ليؤكد هويتها العربيّة، فالقبائل العربيّة التي قطنت شبه الجزيرة العربيّة وهاجرت مع الفتوحات وامتزجت بالشعوب العربيّة الأصل المهاجرة سابقاً إلى بلاد الشام والعراق ومصر وبلاد المغرب. استطاعت أن تؤسس قبل قدوم الإسلام، ومنذ ما قبل الميلاد تشكيلات حضاريّة عريقة كما بينت أعلاه، ربما اتسمت هذه التشكيلات الحضاريّة بسمات خاصة دلّت على كل مكوّن من مكوناتها، كالأشوريّن والفينيقيّن والآراميّن والكنعانيّن والبابليين وغيرهم من المهاجرين ماقبل الميلاد الذين انتشروا في بلاد الرافين وشمال أفريقيا، إلا أن مجموع هذه التشكيلات الحضاريّة استطاعت فيما بعد أن تفرض نفسها تاريخيّاً كحضارة واحدة هي الحضارة العربيّة. التي قدمت للعالم شيات كثيرة، إن كان على المستوى المادي ممثلاً بالبناء المعماري والتقدم الصناعي الحرفي والزراعي في ذلك الوقت، أو على المستوى الثقافيّ والحقوقيّ، حيث قدمت هذه الحضارات أول أبجدية في التاريخ وأول قانون تشريعي. وعلى المستوى السياسي، حيث تشكلت دول لها حكوماتها ونظامها الإداري وبنيتها القانونيّة.. إلخ.

أما بالنسبة لـ"لحضارة الإسلاميّة" وهي الأكثر حضوراً وتأثيراً في مجريات حياة أبناء هذه الحضارة العربيّة عموماً وبكل ما احتوته من مكونات اجتماعيّة ودينية وثقافية، فهي الحضارة التي تشكلت مع ظهور الدعوة الإسلاميّة، وما حملته هذه الدعوة من رؤى توحيديّة، وقيم إنسانيّة نبيلة كالدعوة إلى العلم والمساواة وحريّة الرأي وغير ذلك. إلا أن هذه الدعوة جاءت (أولاً) لقبائل الجزيرة العربيّة، حيث شكلت قيمها البدويّة الأساس القيمي والأخلاقي والثقافي. إن كان بالنسبة لتأثرها بقيم الأحناف أو الصابئة أواليهوديّة أوالمسيحيّة، أو تأثرها بقيم الحضارات الأخرى التي انتشر فيها الإسلام تحت مظلة الفتوحات، كالحضارة الفارسية والهندية والرومانية واليونانية.

على العموم نستطيع القول: إن الحضارة الإسلاميّة قدمت على المستوى الماديّ الكثير من الجوامع، وفنون الأرابيسك والخط العربي، أما بالنسبة للجانب الفلسفيّ فقد قدم الفلاسفة العرب والمسلمين الكثير من المعارف العلميّة والعقلانيّة، ولكن المحزن أن كل ما قدموه في هذا الاتجاه (الفلسفة أو الأدب أو الفن) وخاصة ما يحمل البعد العقلانيّ منه، قد حُورب وهُمش أو أُقصي من الساحة الفكريّة والعمليّة فيما بعد من قبل القوى السلفيّة الأصوليّة الامتثاليّة، التي حاربت الشعر لغوايته، وحاربت الرسم والنحت لكونهما يجسدان اشخاصاً تذكرهم بآلهة الأصنام السابقة للإسلام، وحاربت فن الموسيقي والغناء لأنه يلهي الناس عن عبادة الله.. وبالتالي كل من عمل في الفلسفة واشتغل على العقل في علم الكلام وغيره كفر وزندق وبعضهم قتل. وهكذا تبين لنا تاريخيّاّ كيف ضاع من الحضارة الإسلاميّة، أو الحضارة العربيّة الإسلاميّة كل المعطيات الإبداعيّة العقلانيّة كالفلسفة والشعر والفن والأدب والرياضيات والكيمياء والفيزياء. لتبقى علوم الفقه والكلام السلفي الامتثالي واللغة، وتسييد النقل على العقل، واعتبار كل جديد بدعة.

إن ما نريد الوصول إليه في هذا الاتجاه، هو القول: نحن العرب بكل مكوناتنا الدينية اليوم ننتمي أولاً للحضارة العربيّة بكل تفريعاتها التي تعود إلى ما قبل الميلاد، ونحن ننتمي ثانياً للقيم الحضاريّة الإسلاميّة الأكثر حضوراً بين الديانات الأخرى. بيد أن الدعوة الإسلامية التي جاءت بداية على أرض العرب وحملها العرب للعالم الاخر، راحت بعد الفتوحات يتسرب إلى نصها المقدس الكثير من التفسيرات والتأويلات التي عملت على تقسيم الدعوة ذاتها إلى فرق ومذاهب وطوائف لم تعد تخدم لا العرب ولا الحضارة العربيًّة، هذا إضافة إلى محاربة كل القوى العقلانيّة والعمل على اقصائها أو تصفيتها، بدءً من جعد بن درهم وغيلان الدمشقي مرورا بابن المقفع وابن رشد وصولاً إلى فرج فودة وحامد أبو زيد.

من هذا المنطلق نقول: لنعد إلى حضارتنا التي اثبتنا فيها وجودنا التاريخي ... لنعد إلى عقلانيتها والمواقف الحضاريّة التنويريّة فيها التي افتقدناها بسبب سيادة النقل على العقل من قبل القوى الحاكمة ومشايخ السلطان وباسم المقدس، فتركنا الدنيا من أجل الفوز بالآخرة، فأصبحنا في ذيل قائمة الأمم. دعونا نعرف أن الدين لله، أما الوطن فهو للجميع.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

......................

الهوامش:

1- راجع - د. عدنان عويّد – التبشير بين الأصوليّة المسيحيّة وسلطة التغريب – دار المدى – دمشق – 2000. ص17.

لا حاجة إلى إعادة التذكير بمطمح سوسيولوجيا الإعلام (العلم الجديد المنبثق عن مجال يحبل بالكثير من الاستيهامات والتأويلات السيميائية والبلاغية بكل شعابها وفواعلها)، في الاقتراب من مجتمع المعرفة، بما هي حقيقة واستشراف، يحتاج الفرد فيها إلى أن يكون فاعلا بمعرفته وأن يكون قادرا على استخدام المعرفة. أو بما يعني، أن المعرفة ليست بالضبط ما يعادل المعلومات، بل تذهب إلى أبعد من ذلك. وهذا يتطلب التكامل والاستخدام من قبل الفرد، ونجاعة في فهم خصوصياتها ومشاغلها العصرية المتحولة.

تتأسس فكرة المعرفة بهذا العقد الثقافي الجديد، على تحويل الإعلام في صراعه الأبدي مع الرسالة التي يحملها، والوظائف المتقاطعة التي يوظفها من أجل استمراره ومسؤوليته، على الاقتراب من تجسيد اقترابات "مجتمع المعرفة" ذاك، وبشكل أساسي في طريقة نقل المعلومات وتداولها واشتراكها مع باقي الاختصاصات الموازية لعالم التكنولوجيا. ويكون من اللازم أن تتأثر فوارق المعلومات، عندما يتم تجميعها، لتصبح المعرفة، بالإبدالات والأنشطة الأخرى، التي تستتبع مجال التوثيق والتدوين والاستقصاء، نسقا في الاستدلال وتعميق الرؤية واسترداد النصوص وما وراءها.

وبما أن وسائل الإعلام تساهم في زيادة كثافة المعلومات (تقنيات المعلومات والاتصالات الجديدة) والإنترنت، فإن معظم أنشطتنا البشرية والاقتصادية تعتمد على نقل المعلومات واكتساب المعرفة. وهو ما يعزز مكانة ضح أنفاس جديدة ومتحركة في علوم الإعلام، بالقراءات التي تمكننا من فهم نوازل العلوم الجديدة التي تسبح في كوكب يتحول في أزمنة مقتربة ودقيقة جدا.

ولهذا يتغلغل سؤال "السوسيولوجيا" في شكله، الذي ينهج إلى أن تكون المعرفة به علما واجدا ومنفردا ومتفردا، وأداة للقوة الصامدة والممتدة، وخاصة، لاختراع أسلحة جديدة سريعة التطور، والتي تنتصب على الحدود القصوى لكل التكنولوجيات الممكنة، التي تفسح المجال للتطور والمعرفة والإبداع.

وهو ما حاولنا، الاقتراب من إوالياته وأنساقه الواسعة والمضطربة، في مقالاتنا السابقة، والتي لا نبتغي من خلالها، تفكيك "سوسيولوجيا الإعلام والرقمنة"، على أساس إعادة قراءة تاريخ وذهنيات وسائل الإعلام، بروابطها المعقدة وغموض بياناتها الضخمة وأوثاق رقمنتها للمعلومات. ليس فقط بسبب إمكانات النمو التي تثيرها هذه الطفرات. ولكن أيضًا بسبب التحولات التي تولدها من حيث الممارسات الصحفية والتكنولوجية للنموذج الاقتصادي في عالم الرقمنة، كسياسة العرض وأنظمة إدارة الحقوق والوصول المستمر والفوري إلى المعلومات، وسياسة الاشتراك وعائدات الإعلانات، وتكاليف إنتاج المعلومات وطريقة الاستخدام والاستهلاك ..إلخ.

إن تسارع انفراط القيمة الأخلاقية والاجتماعية للمعلومات والبيانات، في عالم يضج بمتاهات التجذيف والاختزالية والتواطؤ والانحراف المهني، يشكل لدى الدارسين المهتمين، هاجسا يخفي من ورائه ندوبا عميقة، لم تكن لتوقفها تشابكات سياقات التطور المخيف لوسائل الإعلام، التي انزلقت في غفلة من الزمن، من سياق هش من البيانات إلى سياق مهول بملايين الوثائق والصور والتسجيلات ذات الإمكانات العالية، من خلال وضع جزء كبير من أنشطتها في المجال الرقمي. وكجزء من هذه الحركة، أضحى منطقيا وعلميا ومنهجيا تكييف الهياكل والأنشطة المتسارعة، مع هذه البيئة الجديدة.

صحيح أن هذا التكيف والاندماج ربما، سيأتي على حساب نقلة نوعية عميقة تحدث على مستويات متعددة. من بينها، رقمنة المعلومات التي أحدثت تحولًا جذريًا في القطاع السمعي البصري، والتزاماته في إيجاد أدوار ووظائف ملائمة مع ما أصبح يسمى ب "وسائط إعلام عابرة"، لتكون قادرة على المنافسة والصمود في وجه التيارات المتبدلة.

لكن إشكالية "الوصول إلى مصادر جديدة للبيانات"، أثارت دوما مصدر قلق متواتر، يؤرق فهوما جائلة تتغلف ب" خلق القيمة في اقتصاد المعرفة"، وتوفير الأدوات المخصصة لاستغلالها، كتقنيات البيانات الضخمة، وظهور مهارات وخبرات غير مسبوقة، سواء في مجال الكتابة، كمساهمات الروبوتات، ومستقبلات البيانات الحسابية الهائلة، واستكشاف أنساق فكرية وعلمية.. إلخ، من حيث إنشاء المحتوى مثلا، فيما يخص "السيناريوهات، الصور، المؤثرات الخاصة، مقاطع الفيديو". وهو ما دفعني، في خضم هذه الاعتبارات إلى محاولة الإجابة، عن أسباب بروز أحمال زائدة للمعلومات، واحتمالات مسخها وتدجينها وتطويرها إلى أخبار مزيفة، وما إلى ذلك.

***

د. مصطفى غَلْمَان

ليس معتاداً أن يتنازل الناس عن هوياتهم الفرعية، مهما كانت قليلة الأهمية عند الآخرين. بعد الحرب العالمية الثانية، تبنى الاتحاد السوفياتي ودول المعسكر الشرقي استراتيجية موسعة لتفكيك الهويات الدينية والقومية والإقليمية، واستبدال ما أسموه «هوية سوفياتية واحدة» بها. بعد أربعة عقود فحسب، رأينا كيف تحولت تلك الهويات المقهورة إلى عوامل هدم للهوية الكبرى. هذه التجربة المريرة تكررت في دول أخرى، وثبت عياناً أن القهر الآيديولوجي أو القومي والديني لا يفلح أبداً في تفكيك الهويات الصغرى أو قتل ثقافتها.

معرفتنا بهذه النتيجة لا تكفي لحل المشكل الواقعي، أي الارتياب القائم بين المجموعات الإثنية المختلفة، وهو ارتياب يتحول إلى قلق مزمن، وخوف عند كل طرف من نوايا الآخر.

لهذا السبب، نحتاج لفهم ظاهرة التنوع والتعدد في الهوية، سواء كان تنوعاً عمودياً كالاختلاف الديني والعرقي والجندري، أو كان أفقياً كالاختلاف الطبقي والثقافي والسياسي، إلخ. كما نحتاج لوضع الظاهرة في إطارها الصحيح، كي نشخص المشكلات بدقة، بدل أن نغرق في انفعالات اللحظة.

تلافياً للتعقيد الذي يلازم هذه المسائل، سأخصص هذه الكتابة لإيضاح أن التنوع قد يتحول إلى تضاد وتنافر بين الهويات، لكنه في غالب الحالات مجرد تزاحم، سببه مادي أو ثقافي، وقد يكون مؤقتاً. هذه نقطة مهمة لأن كثيراً من الناس يغفلون الفارق الكبير بين الاثنين. سوف أعرض في مقالات مقبلة جوانب أخرى...

هنا ثلاثة أمثلة واقعية على التضاد والتنافر بين الهويات. المثال الأول سياسي من آيرلندا الشمالية، كان يتحدث للتلفزيون قائلاً: «أنا آيرلندي ولست بريطانياً». فقال له المذيع: «أنت عضو في البرلمان البريطاني وتحمل جواز السفر البريطاني»، فيرد ذاك مرة أخرى «أنا آيرلندي». وقد سمعت تكراراً لهذه القصة بنفس التفاصيل تقريباً من أديب كردي – تركي، أكد خلال حديثه مرة بعد أخرى أنه كردي وليس تركياً. وسمعت شبيهاً لهذا من شخص مصري يقول أنا أتحدث اللغة العربية لكنني لست عربياً، ولا أريد الانتساب إلى العروبة. فالواضح أن هؤلاء الأشخاص ينظرون للهوية الأوسع كضد لهويتهم الخاصة، وأن إلزامهم بالأولى يؤدي بالضرورة إلى إلغاء الهوية الأخرى. الآيرلندي لا يرى بريطانيا وطناً له، ولو حمل جوازها، وكذلك الكردي في تركيا.

وفقاً لأبحاث أجريتها في سنوات ماضية، فإن الشعور بالتنافر والتضاد محدود جداً، ومحصور بين فئات صغيرة متطرفة. وهذا يشمل حتى المجتمعات التي تتعرض لقهر شديد، ولعل أقرب مثال على هذا هو العلاقة الحالية بين الروس والمسلمين من سكان الجمهوريات التابعة للاتحاد الروسي أو الجمهوريات التي كانت متحدة معه ثم استقلت. فرغم التاريخ الطويل للصراع، فإن الميل السائد حالياً ينحو للتسالم والتعايش وتناسي ذلك التاريخ. بل نجد هذا حتى في الدول التي شهدت صراعات أهلية كحال الشيشان ورواند ونيجيريا وآيرلندا وسريلانكا، على سبيل المثال.

تبدأ المشكلات حين يسعى أحد الأطراف للاستئثار بما هو مشترك بين المواطنين. وأوضحها الفرص المتاحة في المجال العام، كفرص الإثراء والوظائف والتعبير الحر عن الذات. ونعلم أن هذا حصل للأكراد في تركيا، حين حظرت طيلة 40 عاماً استعمال اللغة الكردية في المدارس والمؤسسات الرسمية والصحافة والاجتماعات العامة. وحصل شيء قريب من هذا في العراق وسوريا وإيران، الأمر الذي أدى إلى تفاقم التنافر بين الهويتين الوطنية والقومية، وتبرير الحديث عن كردستان كوطن قومي.

بعبارة أخرى، فإن الوضع الطبيعي لعلاقة الناس مع بعضهم هو التعايش والتسالم. وهو وضع سيبقى قائماً لأمد طويل، طالما لم يتعرض أي طرف لعدوان يتصل خصوصاً بمكونات الهوية. ولهذا فإن أبرز عوامل ترسيخ الوحدة الوطنية هو تبني الحكومات لسياسة عليا تحول دون امتهان الهويات الصغرى أو محاولة تفكيكها، أياً كان المبرر.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

كنت فيما سبق أرمز إلى الثقافة التي يمكن تطعيم المجتمع بها بالتصويبات القِيَمِيَّةِ بالثقافة النظيفة، لكني اليوم أؤكد أن هذا الطرح بات متجاوزا، ويمكن اعتباره من تنظير المثالية الفضفاض، لأن قضية الثقافة متناسقة البنيات. ففي ظل منشأ التحولات المتسرعة، بات المنتوج الثقافي والفني مغتصبا من قبل رُواد التفاهة والفن المزدوج. اليوم تحققت رؤية وبشارة من سلطة غزو الثقافة الرخوة، وبدت آلة التفكير في (الآخر) تستبد بالأفعال وحتى أنماط العيش، واحتلت ثقافة اللُّمجة السريعة عقول الناشئة، وسلوك البدانة المتفحمة باب النموذج الأمثل لمصفوفات الثقافة والفن.

هذه القضية الصحيحة نستوثق من صدقها نوعية المشكلات التي أسفرت عن موت المثقف العضوي، واندحار الثقافة الأصيلة الاجتماعية نحو فوهة المحروقات المدخنة، وخروج المثقف الوصولي الانتهازي من قمقم الريع (حلال). هي إذا خلطة لزجة عالقة، والتي أنتجت فعلا ثقافيا مشوها يستهدف رعاية التمييع، وقتل القيم الوسيطة. خلطة تكالبت عليها استلابا المنافع الذاتية والأنانية بالمفهوم الفرعوني (أنا رب ثقافتكم الأعلى... فلا تستفتوني في أمري) !!!

قد لا نقدر على توصيف جدوى الثقافة الاستراتيجي (النسق التاريخي) في المستقبل الذي يجيء، وبمحاذاة الماضي الذي ما ينفك يمضي بحاضره. ولكنا، قد نساهم قدر التمكين في نقد ثقافة المهادنة والمسالمة في نيل المكارم، والتي تتربع على عرش منح العطايا والدعم (حلال)، والتي باتت خبرتها الأولى تتفنن في كيفية إقصاء المنافسين المنتفعين، ومعرفة خلايا ملفات الدعم والموالاة  !!!

نعم، لن نختلف البتة في أن الثقافة المسنونة بفرائض الطاعة والخنوع، لن تُنتج بدا غير الثقافة الرخوة (أي أدلوجية)، والاستهلاك الفضفاض للفن والكتاب، وتشويه مفهوم القيم. هذه القضية بالضبط ينبغي بها البدء، أي أية ثقافة نريد ترسيخها ثقافة التمايز الطبقي أم ثقافة المطابقة والإنصاف؟ وأي متلق نستهدف من التذويب الفج للثقافة الرخوة؟ هل الثقافة والفن المدعومين من المال العام يمكن اعتبارهما ثقافة تحررية أم ثقافة إيديولوجية مفخخة؟ كيف يمكن أن نرتقي نحو الثقافة النسقية البنائية؟ أين يكمن الخلل هل في نوعية الثقافة والفن (المستورد) أو في أنماط الاستهلاك (الشعبوي) والتمويه بتمرير موجة  الثقافة النمطية غير الناضجة؟

فحين نتحدث عن السلوك ومنظومة القيم الاجتماعية، نجد بأن الثقافة عموما لم تنتج غير أوراق خريف مبعثرة برياح موسمية جراء منغصات العولمة القاسية (الحداثة البعدية)، وكذا رهانات (الآخر) الحاضر والغائب  بين الذوات المستلبة (حتى في نمط عيشها، وهيئة لباسها، واختمار تفكيرها المبنج بحفر الليل...) !!! نجد أننا بتنا قاب قوسين من ثقافة ذوي الأعراف (عمق التأخر) لا هي صحية ولا هي رخوة، ولكنها تحمل متاع الحياة، ونيل مكارم الدعم (حلال). إنها بحق ثقافة مدارك الارتباط وغباء المثاقفة المستفيدة من دعم القبة الحديدية الحمائية !!!

مشكلة الثقافة تتآخى بالرضاعة والنشأة مع مشاكل أخرى، ومن نفس فصيلة الطين المحموم، وقد تتوازى بالإضافة مع أزمة التعليم حدة، والخروج من سياسة محاربة الأمية والفرصة الثانية. مشكلة الثقافة، حين تفتتن بمسالك (شعبوية) التفاهة (التجريب الساذج)، والتي باتت سببا في دخول بوابة الإعلام و المؤتمرات الحصينة. تصطدم بحق المشكلة الثقافية في غياب الأثر النوعي للحمولة (الصدئة) الردمية، والغذاء الحار المقدم للمتلقي بطبع التطابق مع الذوق الرخو، وطمس (حكامة الدولة/ الحرية/ التاريخ/ العقل) مما ينتج لنا لازمة ( مَا بَغِيتُونَا نَقْراوْ.... مَا بَغِيتُونَا نَوْعَاوْ....بَاشْ تَبْقَاوْ فِينَا تَحَكْمُوا... !!!).

من الجهل الغبي، ألا نلتفت إلى العبارات المحرجة للمثقفين الجدد وأشباه المثقفين (المثقف الوظيفي) ورؤية الأنانية. من سوء التقدير الكمي ألا نفتش في تراكمات ثقافتنا ومنتجاتها الدانية والجافة بقلة استمطار الثقافة المدروسة، وإنشاء صيغة جديدة للتفكير في الثقافة الشعبية، ومتطلباتها الأساس. من التخوفات ذات المسؤوليات الدستورية، والقيم الاعتبارية تحصين الشباب بثقافة الثقة في الوطن والدولة والمؤسسات، لأن المساءلة اليوم بدت أشد تشاؤما، حين بات الشباب في ثقة عمياء في المواقع الإليكترونية (الهروب الجماعي عن الوطن)، هنا المحاسبة تفتح على السواء وبالتساوي مابين السياسي والمثقف، وما بين المؤسسات الكبرى التي تديرها الدولة (التعليم/ التشغيل/التأطير/الوعي والسلوكيات المدنية...).

قضية الثقافة عموما، هي قضية مجتمع يجب أن يكون متناسق البنيات. مجتمع ينتج التدافع السلمي لا الهروب من الوطن (الهروب الجماعي عن الوطن). مجتمع يصنع التفرد في البناء و الطموح ولا يوزع المآسي. مجتمع قادر على إنتاج التفكير والبدائل الممكنة. مجتمع يمتلك ثقافة السجال والجدال، ويرتقي نحو الانضباط للدولة والحق وعدالة القانون.

***

محسن الأكرمين

محاصرون في عالم الشاشات والمرايا، نتساءل عن هويتنا وعن معنى وجودنا، نعيش في زمن تسيطر فيه صورنا المعكوسة على حياتنا اليومية، حيث باتت المرايا، سواء كانت حقيقية أو مجازية، رمزًا لعصرنا. هذه الشاشات التي نقضي أمامها ساعات طويلة، تعكس لنا صوراً زائلة تتلاشى سريعاً في نهر النسيان، لم يعد يكفي أن نعيش ببساطة، بل علينا أن نعرض حياتنا ونوثق كل لحظة منها، وكأن وجودنا مرهون بالظهور في هذه المرايا الإلكترونية.

في عصرنا، لم يعد الترفيه أو العلم مجرد تجربة شخصية أو إنجاز فردي، بل تحول إلى استعراض دائم، الذهاب إلى حفل موسيقي لا يكتمل إلا بالتقاط صورة أو تسجيل مقطع فيديو، الباحثون، بدورهم، يسعون وراء الإعجابات، في محاولة ليُنظر إليهم ويُعترف بهم. لقد أصبحنا محاصرين في متاهة من الانعكاسات، وإذا لم تظهر صورتنا في المرآة، نشعر بأننا غير موجودين.

هذه الحالة ليست وليدة اللحظة، فمنذ أواخر القرن العشرين، تناول العديد من المفكرين هذه التحولات في الذاتية بأوصاف مثل "الثقافة النرجسية" و"عصر الفراغ"، لتتوالى الأبحاث والدراسات التي تبيّن كيف أثر النمط الحياتي المتسارع في تفتيت الذوات والسيطرة على أجسادنا وأفكارنا، ومع تزايد اعتمادنا على المرايا والشاشات، بات هذا التفتيت أكثر وضوحاً، حيث نجد أنفسنا نتعلق بصور متكاملة نراها في هذه المرايا المظلمة.

منذ القرن الماضي، اهتم العلماء بعلاقة الإنسان مع صورته في المرآة، كان "هنري والون" أول من تحدث عن "اختبار المرآة"، حيث يبدأ الطفل في التعرف على نفسه بين عمر 6 و18 شهراً، وهو في حضن والدته أو "الآخر الأول" كما يسميه بعض العلماء. عالم النفس الفرنسي "جاك لاكان" طور هذا المفهوم إلى ما يعرف بـ "مرحلة المرآة"، حيث يبدأ تكون (الأنا) لدى الطفل من خلال التماهي مع صورته في المرآة، في هذه المرحلة، يلعب (الآخر) دوراً حاسماً كداعم لتكوين هوية الطفل وتوفير "مساحة الدعم" التي تساهم في استقراره النفسي.

لكن اليوم، نعيش في ثقافة تهمش هذا الدعم البشري، فبدلاً من الاعتماد على الآخر، أصبحت المرايا هي التي تقدم لنا هذا الدعم الزائف والمؤقت. نحن نسقط في فخ "نرسيس"، ذلك الشخص كما تقول الأسطورة الذي ضاع في حب صورته حتى انتهى به الأمر في الظلام. وفي زمننا هذا، أصبح التعلق بهذه المرايا سبباً في انتشار أمراض الصحة النفسية مثل الاكتئاب والقلق، حيث يشعر الإنسان بالعزلة في مواجهة صورته فقط، دون وجود الآخر الذي يمكنه تقديم الدعم الحقيقي.

المشكلة ليست في الصورة ذاتها، بل في أن الصورة أصبحت فرضاً وجوديا في النسق الاجتماعي المعاصر، فنحن مطالبون بأن نظهر، وأن نبدو في أفضل حالاتنا، وأن نقدم لأنفسنا وللآخرين صورة مثالية عن حياتنا، لكن مع مرور الوقت، يصبح هذا الظهور عبئاً يزيد من شعورنا بالوحدة والعجز. الصور التي نراها في المرايا ليست كافية لدعمنا، بل هي وهم يتلاشى سريعاً، وكلما تعلقنا بها أكثر، زادت حاجتنا إلى الظهور أكثر.

الحل واضح، كما هو الحال في قصة "الرسالة المسروقة" لإدغار آلان بو، فالدعم الحقيقي يكمن في الآخر، في العلاقات الإنسانية التي تشكل الأساس الذي نقف عليه، المرآة لا تقدم لنا هذا الدعم، بل تعيد لنا صورة منعكسة لا حياة فيها. علينا أن نتذكر أن هناك دائماً آخرون حولنا، هم من يشكلون هويتنا ويساعدوننا على مواجهة هذا العالم، فقط من خلالهم، نستطيع أن نعيش حقاً.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

علم الأنساب أو جينيالوجيا هو علم مهتم بأنساب القبائل والعشائر والأسر المحلية. ويُسمى عالم الأنساب نسَّابَة أو الأنسابيّ. (ويكيبيديا).

فالنسّابة خبير بالأنساب وجذور القبائل، يعرف رموزهم وتاريخهم وانتسابهم داخل كل قبيلة.

ومنظمات الأنساب متعددة، تعمل على تدريب علماء الانساب واعتمادهم، ومن أبرز تلك المنظمات في اسبانيا وامريكا اللاتينية هي:

1.  مؤسسة ايدالغوس الثقافية الإسبانية، وتضم مدرسة الأنساب وشعارات النبل والنبلاء، وهي الأقدم في العالم، منذ تأسيسها عام 1959. وتقدم دورة تمنح فيها شهادة دبلوم في الأنساب وشعارات النبل والنبلاء.

2. مدرسة "ماركيز دي أفيليس" التابعة لرابطة خريجي علم الأنساب وشعارات النبل والنبلاء،

الجامعة الوطنية للتعليم عن بعد، وتقدم  عن بعد الدورات الأتية:(UNED)3.

- ماجستير في قانون النبل والجوائز وشعارات النبل وعلم الأنساب،  شهادة جامعية متخصصة في الأنساب. أو خبير جامعي في شعارات النبل والأنساب والنبلاء

- في كوستاريكا: الأكاديمية الكوستاريكية لعلوم الأنساب

في بيرو: المعهد البيروفي لأبحاث الأنساب

- في المكسيك: جمعية علم الأنساب وتاريخ العائلة في المكسيك "علم الأنساب في المكسيك"، والتي تقدم دبلومً في علم الأنساب.

- المعهد المكسيكي لاعتماد علماء الأنساب: والذي يقدم شهادات دبلوم في علم الانساب ذات صلاحية رسمية.

في نيكاراغوا: أكاديمية نيكاراغوا لعلوم الأنساب

- في الولايات المتحدة الأمريكية:

- رابطة علماء الأنساب المحترفين،

- الجمعية الوطنية لعلم الأنساب.

- مجلس اعتماد علماء الأنساب.

يمكن لعلماء الأنساب الانضمام الى جمعيات أنساب مستقلة على أي مستوى: محلي أو إقليمي أو على مستوى الولاية أو البلد. وأشهر أعمالهم ومساهمتهم في علم الأنساب هي: جمعية الأنساب في ولاية يوتا وعلم الأنساب في المكسيك وجمعية علم الأنساب الإسبانية.

مثال على علماء الانساب هو ألفونسو دي فيغيروا إي ميلغار، الذي ولد في مدريد 1936 بعد الحرب الاهلية الاسبانية، وهو عالم أنساب ومؤرخ وكاتب إسباني ويحمل اللقب النبيل للدوق الرابع لتوفار مع عظمة اسبانيا. ابن ألفونسو دي فيغيروا وبيرميجيلو، ثالث دوق دي توفار، كبير لإسبانيا، ماركيز دي غاونا.

بدأ حياته المدرسية في المدرسة الألمانية الى حد التسع سنوات. أكمل دراسته الثانوية مع أساقفة سان انتون ودرس القانون في مدريد وسالامنكا، وتخرج عام 1959. درس دورات العلوم السياسية في باريس، وكذلك درس اللغة والادب في فرنسا. في 1961 درس اللغة والادب الإنكليزي في دوبلين ووسع الدراسة في كامبرج. بين سنتي 1962 و1969 شارك في بوفيه خوليان بيرياتوا الزغاراي، وخورخ كابيثاس وخوس انتونيو بيكو كابايروا في مدريد.

يعد من علماء اسبانيا العظام، كرس وقته الى بحوث الأنساب التي ومنها الدراسة التاريخية عن بعض العوائل الاسبانية 1965-1974 (المجلد السادس) والنبل، الشرف، الاسبانية 1970. وايضا كتب مقالات مختصة للمجلات الاتية: الدائرة، والمملكة، والنبلاء، ومجلة دراسات إكستريمادورا، ومجلة الكانتارا، وكراسات البحث التاريخي، ...الخ. كان عضوا في عدة هيئات اكاديمية. من سنة 1967 الى 1970 ورئيس قسم البرامج الثقافية في التلفاز الاسباني، وهيء النصوص لبعض البرامج الوثائقية والثقافية. وأيضا أجرى عدة مقابلات لعدة رؤساء امريكيون ذات أصل اسباني. وعمل محاضرا نشيطا في اسبانيا وامريكا اللاتينية. كان وترشح لمجلس الشيوخ عن مدريد وللكونغرس عن غويبوثكوا في الانتخابات لعامي 1977 و1979 للقوة الجديدة الذي كان عضوا فيها.

في الأول من نيسان سنة 1978 في مشهد أقامته الكتائب الاسبانية والقوة الجديدة واتحاد المقاتلين السابقين في  وادي لاخارا دعي الى إنشاء "الدولة الزرقاء" بالقوة. في الخطبة اللاذعة واهان الملك آنذاك وعلى أثرها تمت محاكمته وإدانته.

كتب رواية قصة حياة مذهب المتعة دون ألفارو دي أولوا، مرآة المتكبر (1966)، جروميك(1971)، كتب القصص، و قلة الأرجل الظريفة (1972). من بين الاعمال الأدبية المتعددة ممكن ذكر حول الشرف (1968)، المؤتمر المنعقد في أتينيو،  مدريد، الأحكام المسبقة حول العمل اليدوي والتجارة في إسبانيا الباروكية (1975) ، الأنساب التي شكلت الاسبانية أو رودريغيز مونينو وعلم الأنساب (1970) . من اعماله المهمة جدا سفرته الرومانسية في اسبانيا (1971). نشر أيضا اول مجلد لمذكراته تحت عنوان إذا لا اروي، انفجر (2007) وفي 2009 نشر الجزء الثاني لمذكراته" إذا لا اروي، انفجر". في 1965 اخرج مجموعة دراسة تاريخية حول بعض العوائل الاسبانية. حاليا تعيد تحريرها دار النشر المعروفة فابيولا للنشر الاسباني، التي قام المؤلف بتعديل وتطوير المجموعة، المؤلفة من 6 أجزاء مقسمة في 8 كتب.

استطاع إعادة تأهيل عدة عناوين لكبار الشخصيات السياسية، وفي الشؤون المالية، الخ. لشخصيات معروفه جدا في المجتمع، في العقود 1960 و1970. من تلك الشخصيات التي تم العثور عليها باحتيال، مخترعا القاب لم تكن موجودة من قبل، أو تزوير المستندات (مثل شهادات الميلاد، الخ)، او بناء أشجار عائلية غريبة، مع التواطؤ للأحد العاملين في وزارة العدل، "تسلل" في الوزارة واستطاع إعادة تأهيل تلك الالقاب (خطأ شنيع). ولهذا السبب أدين وترك اسبانيا لتجنب الحكم.

تزوج سنة 1965 باوليفيا غونثالث-كونت بوربون ورويدا سنة 1941 وماركيسة فيامانتيا دي بيرالس والتي رزق منها بابنة سنة 1969 واسموها كرستينا وهي الان باكر وبدون نسل.

ومثال اخر على علماء الانساب هو خايمه دي سالاثار دي اشا ، وهو مؤرخ وعالم أنساب إسباني وفضلا عن دكتور في الحقوق، ولد في سان سبستيان -اسبانيا عام 1947، رجل شرف وتفاني في تنظيم مالتا شغله منصب محامي. درس وتخرج من الجامعة كومبلوتنسه في مدريد، عضوا في الأكاديمية الملكية للتاريخ، وأكاديمي كامل في الأكاديمية الملكية ماتريتانس لشعارات النبل وعلم الأنساب

ووسام القديس يوحنا القدس من رودس ومالطا السيادي العسكري والإسبتاري وفيلق النبلاء الملكي.

والده برناردو دي سالاثار وغارثيا فياميل (1906-1992)، خريج حقوق، ومستشار خاص لكونت برشلونة وعضو بيته، ووالدته ماريا كارمن اشا وسانشث ارخونا (1916-2013) اخت ماركيز اشا الثاني والثالث حفيدة ماركيز ارخونا ومرتين الحفيدة الثلاثية لثاني ماركيز ريوكابادو.

من اعماله المتعددة:

1. نشأة اللقب في إسبانيا وتطوره (1991). مدريد: أكاديمية ماتريتانسي الملكية لشعارات النبل وعلم الأنساب. ردمك 978-84-604-0109-4.

2. منزل ملك قشتالة وليون في العصور الوسطى (2000). مدريد: مركز الدراسات السياسية والدستورية. ردمك 978-84-259-1128-6.3

3. دراسة تاريخية عن عائلة إكستريمادوران: عائلة سانشيز أرجونا (2001). مدريد: أكاديمية ماتريتانسي الملكية لشعارات النبل وعلم الأنساب. ردمك 978-84-88833-01-3

4. أحد مشاهير شركة ميروبريجنسي من القرن الخامس عشر، السيد أنطون نونيز من مدينة سيوداد رودريغو، كبير المحاسبين لدى إنريكي الرابع (2004). سيوداد رودريغو: مركز دراسات الميروبريجنس. ردمك 978-84-933679-0-9.

5. دليل الأنساب الإسباني (2006). مدريد: معهد سالازار وكاسترو. ردمك 978-84-89851-52-8

6. علم الأنساب: العلوم الآلية وتقنية البحث (2010). مدريد: الاتحاد الإسباني لمراكز الدراسات المحلية. ردمك 978-84-614-2601-0.

7. عظماء إسبانيا، القرنين الخامس عشر والحادي والعشرين (2012). مدريد: طبعات هيدالجويا. ردمك 978-84-939313-9-1.

8. السلالات الملكية في إسبانيا في العصور الوسطى (2021). مدريد. الأكاديمية الملكية للتاريخ والوكالة الحكومية الجريدة الرسمية. ردمك 978-84-340-2781-7.

***

اعداد وترجمة: أ. لقاء محمد بشير حسن

جامعة بغداد/كلية اللغات/قسم اللغة الاسبانية

 

1- تمهيد: مع تزايد موجات انتهاك حقوق الإنسان وما شهده العالم أجمع من حروب وصراعات عبر التاريخ البشري عامة، والتاريخ العربي خاصة، برزت العديد من الحركات والثورات التي طالبت بإعادة صياغة قواعد وقوانين تحفظ كرامة الإنسان. ويعد المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي من مؤسسي علم الكلام الجديد وفلسفة الدين في العالم الإسلامي، وأحد رواد فلسفة الأخلاق، الذين سلطوا الضوء على موضوع الإنسان بدراسته من كل الجوانب أولا، والتأصيل لمبدأ الكرامة الإنسانية ومحاولة تطبيقها على الحياة الواقعية ثانيا.  وهو من أهم المفكرين ليس في العراق فقط بل في العالم العربي، لما يحمله مشروعه الفكري لتجديد الفكر الديني عامة وعلم الكلام خاصة، ولما يتبناه من رؤية ترى أن فهم الدين يتطور تبعا لتطور فهم الإنسان لنفسه. نحاول أن نرصد أبعاد الكرامة الإنسانية في مشروعه، إذ يعد مشروع تجديد الفكر الديني لعبد الجبار الرفاعي نقلة نوعية في الدراسات الإسلامية، ورؤية جديدة مهد من خلالها لتأصيل مسألة الكرامة الإنسانية بطريقة جديدة في الفكر الديني. ومن أجل الوقوف على رؤية عبد الجبار الرفاعي لمسألة الكرامة الإنسانية التي وأولاها النصيب الأكبر في مشروعه التجديدي، أتت هاته الورقة. وللإجابة عن هاته الإشكالية استعنا بالمنهج الوصفي وأرفقناه بألية التحليل. من خلال الوقوف على أرائه وأقواله ومحاولة فهمها وتحليلها. بغية الوقوف على جوهر الكرامة وبيان معالم التجديد فيها في كتاباته.

2- تعريف الرفاعي للإنسان:

في ظل التقدم المعرفي الذي يرتبط ارتباط وثيقا بمحور الإنسان، أصبحت تطرح مواضيع وتثار إشكاليات حول :حقوق الإنسان، وحريته، ومركزيته في الكون والتطور الحضاري. ولعل أبرزها في الوقت الراهن إشكالية الكرامة الإنسانية، فتمت دراسة هذا الموضوع من زوايا وخلفيات فكرية متعددة،كل حسب مجاله وتخصصه. ففي ضوء فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد كان سؤال الإنسان في فكر عبد الجبار الرفاعي هو السؤال المركزي، الذي يدور في مداره سؤال الكرامة وكل الأسئلة بشأن الإنسان، وتطوف حوله كل المباحث والمشاغل في أعماله. الرفاعي يستنكر تعريف الإنسان المتداول في التراث الأرسطي، فتعريف الإنسان بـ "الحيوان الناطق" يراه يختزل الإنسان في بعد واحد. الإنسان في نظره: كائن مركب غامض، وما يجري على قوانين الطبيعة لا تنطبق على عقله وعاطفته وروحه، وذلك ما دعاه للقول: "له لو أنفقنا العمر كله باكتشاف الإنسان لا يضيع عمرنا هدرا".

لا يمكننا أن نعرج إلى موقف الرفاعي من مسألة الكرامة الإنسانية قبل الوقوف على تعريف الإنسان عنده، حيث عرّف الرفاعي الإنسان قائلا: "يمكن أن نعرف الإنسان بأنه كائن عاقل ٌ، عاطفيٌ، أخلاقيٌ، دينيٌ، جمالي ٌ، اجتماعيٌ، تاريخيٌ. الإنسان كائن متفرد ٌ،يتميز عن غيره من الكائنات في الأرض بـ : العقل، واللغة، والعواطف، والمخيلة، وتذوق الفن والاستمتاع بالجمال، ووعي الموت، والشعور بالزمان، والحاجة للأخلاق، والدين، وإنتاج الميثولوجيا، والرموز".[2] مؤكدا أن هذا ليس تعريفا بمعنى الحد التام المنطقي. وفي ضوء تعريفه شدد الرفاعي على أنه: "لا يمكن أن نفهم الدين قبل أن نفهم الإنسان أولا، وحاجته لمعنى حياته، وحاجته للكرامة والمساواة والحرية، فإعادة تعريف الإنسان في نظره هي المدخل الصحيح لإعادة تعريف الدين وكيفية فهمه وتفسير نصوصه.كل محاولة لإعادة البناء التربوي والتعليمي والثقافي للفرد، وإعادة بناء المجتمع لا تبدأ بإعادة تعريف الإنسان، وإعادة تعريف الدين، وبناء فهم جديد لنصوصه، تموت لحظة ولادتها"[3].

مبينا الرفاعي أن "الانسان أثمن رأسمال، وأثرى أنماط الاستثمار، الاستثمار في بناء الإنسان ورأس المال البشري لا يضاهيه أي رأسمال، لا رأسمال يتفوق عليه أبدا، مالم يصبح هذا النمط من الاستثمار مقدمة ومادة لكل استثمار، لن تنجز أي تنمية ما تنشده من وعود في بناء الأوطان. مأزق أوطاننا هو فشل الاستثمار في الإنسان"[4]. الإنسان "كائن استثنائي في وجوده، فهو الكائن الوحيد في الأرض الذي لا يتماثل معه أي كائن اخر، فلا نجد دينا عالميا يرى وجود الإنسان شيئا كالأشياء المادية أو كائنا كبقية الكائنات الحية. الإنسان وجوديا كائن ٌاستثنائي، يستحق التكريم الإلهي في حياته وبعد موته. لا يمكن أن ينال المكانة الوجودية للإنسان أو يسمو إليها أي شيء أخر خلقه الله في العالم. وجود الانسان ينفرد بكونه مرآة لوجود الله. أودع الله في كل إنسان روحا منه، إلا أن هذه الوديعة تحتجب متى احتجب الإنسان عن الله"[5].

وفي حديثه عن الرحمة بوصفها أساسا لأنسنة الإنسان يقول "ينشد هذا الفهم للدين الوصول إلى الله عبر الانسان، لذلك تتغلب فيه المقاصد الإنسانية في كل فعل على الفهم الحرفي الذي يتورط في الاستغراق في الشكل ويهدر المضمون"[6] ويضيف: "تجديد الصلة بالله تبدأ بتجديد الصلة بالإنسان. السبيل إلى الله يمر عبر رعاية عيال الله" مستدلا على ذلك بحديث (الخلق كلهم عيال الله، وأحب الخلق إليه أنفعهم لعياله).[7]

يحذِّر الرفاعي من تحويل الدين إلى أيديولوجيا، ويركز على ضرورة الاهتمام بالبعد الأنطولوجي في الدين، والمعاني الروحية والأخلاقية والجمالية التي ينشدها الدين. يحدد لنا الرفاعي الفرق بين دين الأيديولوجيا ودين الأنطولوجيا، بوصفه كامنا في الرؤية المتباينة لماهية الإنسان وماهية الدين بين الأيديولوجيا والأنطولوجيا، ومتجليا في تصورين لله وللعالم والإنسان في الدين متنافرين كل التنافر. ويشرح هذه الرؤية في كتابه الدين والظمأ الأنطولوجي بقوله أن دين الأيديولوجيا (هو الدين الذي يستخدمك، فيسخر حياتك وطاقاتك ومواهبك لتخدمه، ويفرض عليك حدوده وإطاره وأسيجته التي إن تخطيتها يصادر عليك دنياك وأخرتك). ودين الأنطولوجيا (هو الدين الذي يخدمك، إذ يمنح عقلك حرية التفكير، ولا يفرض عليك اقتباس صورة لا تمثلك أو أن تعيش حياتك نيابة عن غيرك، أو تكرر نماذج بشرية تطمس ذاتك). ويرى الرفاعي أن: (دين الأيديولوجيا يفشل في بناء حياة روحية أخلاقية أصيلة، ويطمس الأبعاد الإنسانية في الدين، ويميت الروح والقلب والعقل والضمير. إذ لا إنسانية بلا ضمير أخلاقي، ولا ضمير أخلاقي بلا مصدر إلزام ذاتي)[8].

من هنا تتضح العلاقة التي يلح عليها الرفاعي بين إعادة تعريف الإنسان وإعادة تعريف الدين، فإهمال الأبعاد الجوهرية في وجود الإنسان يؤدي إلى تضاءل حضور الدين إلى مجرد تقنين حركات المسلم الجسدية، وتنظيم فضاءاته المادية مكانيا وزمانيا، وإقامة الحدود الردعية عليه في حال اختراقه المنظومة التشريعية[9].

3- الكرامة الإنسانية في مشروع الرفاعي:

طرق عبد الجبار الرفاعي باب الكرامة الإنسانية في الدين، وعالج هذه القضية الشائكة بمهارة، وجعلها محورا من محاور أفكاره، حيث بيّن الرفاعي أن (الكرامة قيمة أصيلة وأنها أحد مقومات تحقق إنسانية الإنسان، حضورها يعني حضور إنسانية الإنسان، وغيابها يعني غياب إنسانية الإنسان)[10]. الكرامة في نظره قيمة للفرد، (تبدأ الكرامة بالفرد لتنتهي بكرامة الأمة، فلا كرامة لأمة بلا كرامة أفرادها[11].كرامة الدولة والوطن والمجتمع والهوية تبدأ بتكريم الفرد، عندما تنتهك كرامةُ الفرد تحت آية ذريعة، فلا كرامة لأحد، كل مجتمع تكون كرامة الافراد الشخصية فيه مستلبة هو مجتمع مستلب الكرامة)[12].

ويجعل الرفاعي (الإنسان غاية الدين. وكل دين لا تكون غايته الإنسان ليس إنسانيا. جوهر إنسانية الدين حماية الكرامة)، ويرفض الرفاعي كل أشكال التمييز بين الناس: (فكل دين لا يحمي كرامة الإنسان ويصونها ليس إنسانيا. الإنسان وكرامته وسكينته وطمأنينته وإسعاده غاية ما ينشده الدين، ولا كرامة بلا مساواة، الله خلق الناس متساوين في انسانيتهم، فليس هناك إنسان كامل واخر انسانيته ناقصة)[13]. الكرامة عنده هي الأصل، لذلك يقول: (يحتاج الإنسان إلى الحب، والأمان، والحرية، والمساواة، والاهتمام، والعناية، والاعتراف، والمكانة، والشهرة، والنفوذ، والسلطة، لكن احتياج كل إنسان للكرامة يختصر كل هذه الاحتياجات ويتقدم عليها. فالكرامة قيمة أنطولوجية يطلبها وجود الإنسان من حيث هو إنسان. كل رسالة تحريرية في التاريخ البشري تستمد مشروعيتها من قدرتها على استرداد الكرامة الإنسانية المهدورة، الكرامة هي وعي الإنسان بالحرية)[14].

الكرامة عند الرفاعي ذاتية وجودية (الإنسان يوجد مكرما، لا يكتسب الإنسان الكرامة بعد ولادته، الكرامة توجد بوجود الإنسان وتلبث معه أبدا حيثما كان. الكرامة رديفة الإستخلاف، خليفة الله في الأرض جعله قيّمًا وحافظًا ووكيلاً ونائباً عنه في الأرض)[15].كما شرح الرفاعي أن الكرامة لجميع البشر لذلك صار: (الإنسان بوصفه إنساناً لا غير يستحق الكرامة والحريات والحقوق، الإنسانية قيمة كونية عابرة للأعراق والثقافات والأديان، والكرامة هي الإطار الأخلاقي الذي تتوحد فيه قيمة الإنسان ومكانته، وتقديره لذاته وتقدير الغير له. الكرامة تضمن إنسانية الإنسان، وتكريم الإنسان بوصفه إنسانا واجب أخلاقي وليس منة أو تفضلا من أي أحد. الكرامة قيمة انسانية عليا، معناها واحدٌ صريحٌ يتساوى فيه كل الناس، بغض النظر عن دينهم وثقافتهم وجنسهم وموطنهم ولونهم ومهنتهم)[16]. الكرامة عند الرفاعي قيمة كونية، لكل إنسان نصابه فيها، لذلك يفرض الضمير الأخلاقي على الكل حمايتها، (احترام الكرامة الإنسانية مقصد مقاصد الدين وأسمى أهدافه)[17].

الإنسان يستمد قيمته ومكانته ومسؤوليته من كونه إنسانا لا غير. ومعيار المصداقية الأخلاقية والموقف الإنساني لأي دين أو معتقد أو نظام اجتماعي يعتمد في قدرته على النظر للكائن البشري بوصفه إنسانا من دون اعتبار لما هو خارج إنسانيته، والتعاطي معه بعيداً عن أي تصنيفات تفرضها الهوية وحدودها الرمزية التي تضعها الإثنية واللون والجنس والجغرافيا والثقافة والمعتقد[18].

يرى الرفاعي أن الإنسان ينفرد في القران بتكريمه، وذلك من الأثار الوجودية لتكريم الإنسان، وهو ما نصت عليه الآية: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا"، الإسراء 70، وينفرد كذلك في تعليم آدم الأسماء، وذلك من الأثار الوجودية لتكريم الإنسان، وهو ما نصت عليه الآية: "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ"، البقرة 31. [19]

وأوضح الرفاعي في موضع أخر (أن الكرامة هي وعي الإنسان بالحرية،كل رسالة في التاريخ البشري تستمد قيمتها ومشروعيتها من قدرتها على استرداد الكرامة البشرية المهدورة، وحماية الحرية. فالمعيار الكلي لاختبار إنسانية أي دين هو كيفية تعاطيه وإعلائه للكرامة الإنسانية، والموقع الذي تحتله الكرامة في منظومة القيم لديه. إنسانية الدين تختصرها نظرته للكرامة بوصفها القيمة التي تستحضر كل قيمة إنسانية،[20] الكرامة هي القيمة المركزية في حياة الكائن البشري، الإنسان الأصيل يضحي بحياته من أجل أن تُخلِد ذاكرة الوجود كرامته. الكرامة مكونٌ لكينونة الإنسان الوجودية، عنوانُ تكريم خلق الإنسان هو كرامته لا شيء أخر سواها، لأن انتهاك الكرامة يفضي إلى انتهاك كل حريات الإنسان وحقوقه)[21]. عبد الجبار الرفاعي ترتبط عنده الكرامة بحرية الفرد فقد ذهب الرفاعي إلى ضرورة الدفاع عن الحرية بما هي قيمة من القيم الضامنة للكرامة الإنسانية، وأن تمهد السبل لها أبستمولوجيا وأنطولوجيا[22]، وذلك في رأيه سبيل التجديد الوحيد لكل مشروع كلامي تحرري. وهو الضامن الأكيد لاستئناف التفكير في ممكنات الإجابة عن سؤال اللاهوت الجديد في ظل صياغة أنطولوجية متعمقة في علاقة بذاتها وبالأخر[23]. الكرامة والحرية من أوضح تجليات رحمة الله بالإنسان، الكرامة وعي الإنسان بالحرية.

خاتمة

نال مبحث الإنسان الذي بني على مبدأ الكرامة الإنسانية اهتماما كبيرا في كتابات عبد الجبار الرفاعي، حيث أصّل لرؤيته وربطها بالدين، محاولا إيجاد مفهوم للإنسان المكرم وفق هذا المبدأ، وفي الختام نخلص إلى مجموعة من النتائج أهمها:

يحضر في مؤلفات عبد الجبار الرفاعي التوكيد على أن الإنسان مكرم وجوديا، كما هي هبة الله له عندما خلقه، لذلك يربط الرفاعي دوما بين هذه العناصر الأساسية: الإنسانية والدين والكرامة والحرية.

2. الإقرار بأن الإنسان خلقه الله مكرما، ولهذا يواصل مشروع الرفاعي بناء الرؤية التكريمية للإنسان في إطار الدين، والحرص على بناء مفهوم الإنسان وفق هذه الرؤية.

3. أكد الرفاعي على أن الكرامة شاملة يتساوى فيها كقيمة جميع الناس، بغض النظر عن جنس الإنسان ولونه وعرقه ومعتقده ودينه.

4. مشروع عبد الجبار الرفاعي تجديدي، لذلك تميزت جهوده بالتجديد على مستوى المنهج، الموضوعات، اللغة، والغاية، كما تتطلب للضرورات التي تفرضها مستجدات العصر.

***

هاجر فرزولي

باحثة جزائرية، ماجستير فلسفة

.............................

قائمة المصادر والمراجع

* ورقة مقدمة للملتقى الوطني حول الكرامة الإنسانية: تحديات وآفاق، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة بجاية، الجزائر، 26 سبتمبر 2024.

1- عبد الجبار الرفاعي، الدين والظمأ الأنطولوجي، ط04،صدر عن مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، 2023.

2- عبد الجبار الرفاعي، مقدمة في علم الكلام الجديد،  ط02، دار المصورات،  السودان،2021.

3- مقال، عبد الجبار الرفاعي، إعادة تعريف الإنسان، الحوار المتمدن، 2022.

4- عبد الجبار الرفاعي، الدين والكرامة الإنسانية، ط02، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد،2022م.

5- عبد الجبار الرفاعي، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، ط03، نشر من طرف مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد.

6- ايمان المخينيني، في تأويلية علم الكلام قراءة زمانية مركبة، ط01، دار زينب، 2023م،  تونس.

7- طه عبد الرحمان، سؤال العمل،ط02،  المركز الثقافي العربي، 2012م،  المغرب..

- بالإضافة إلى اعتماد الحوارات المباشرة عبر الواتساب.

الهوامش

[2] - عبد الجبار الرفاعي، إعادة تعريف الإنسان، الحوار المتمدن، 2022.

[3] - عبد الجبار الرفاعي، الدين والكرامة الإنسانية، ط02، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد،2022م، ص15.

[4] -  مرجع سابق،عبد الجبار الرفاعي، الدين والظمأ الأنطولوجي، ص78.

[5] - عبد الجبار الرفاعي، الدين والكرامة الإنسانية، ص50-51.

[6] -عبد الجبار الرفاعي، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، ط03، نشر من طرف مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، ص67.

[7] -عبد الجبار الرفاعي، الدين والاغتراب الميتافيزيقي،ص67.

[8] -، أنظر، ايمان المخينيني، في تأويلية علم الكلام قراءة زمانية مركبة، ط01، دار زينب، 2023م،  تونس، ص239.

[9] -مرجع نفسه ،ص238.

[10] - عبد الجبار الرفاعي، الدين والكرامة الإنسانية ،ص16.

[11] - المصدر نفسه، ص228.

[12] - المصدر نفسه، ص229.

[13] - المصدر نفسه، ص16.

[14] -عبد الجبار الرفاعي،  الدين والكرامة الإنسانية، ص229.

[15] - انظر: المصدر نفسه،  ص11.

[16] - عبد الجبار الرفاعي،  الدين والكرامة الإنسانية، ص17.

[17] - المصدر  نفسه،  نفس الصفحة.

[18] -المصدر  نفسه،   ص190.

[19] - عبد الجبار الرفاعي،    الدين والكرامة الإنسانية،  ص222.

[20] -  المصدر نفسه،   ص227.

[21] - المصدر نفسه،  ص296.

[22] - مصطلح مرادف لعلم ما بعد الطبيعة،  يبحث في طبيعة الوجود الأولية،   علم الوجود أو علم الكائن.

[23] - المرجع السابق،  ايمان خمينيني،   في تأويلية علم الكلام قراءة زمانية مركبة، ص252.

بحث الجزء الأول من هذا المقال عن منصب ودور ومفهوم رجل الدين في التاريخ. وأوضح المقال أن منصب رجل الدين كان معروفاً في الحضارات القديمة، وهو أيضاً معروف في الديانة المسيحية من خلال دور الكنيسة في أداء الشعائر والطقوس الدينية. وأوضح المقال، أن لا وجود لمنصب رجل الدين في الديانة الإسلامية ولا الحضارة الإسلامية، ولا يوجد مفهوم خاص ومعين لمصطلح رجل الدين (نشر المقال في صحيفة المثقف بتاريخ 2/10/2024).

ويبحث هذا المقال عن مفهوم رجل الدين في ثقافتنا المعاصرة، وكيف ومتى أصبح متداولاً في مجتمعاتنا.

كيف دخل مصطلح رجل الدين في الثقافة العربية؟

بعد كل هذا نتساءل إذن، من أين جاء مصطلح رجل الدين؟ متى ظهر ومتى أستُعمل؟ هي أسئلة لا يُعرف لها جواباً واضحاً ولا أكيداً، ولا يوجد دليلاً عليه في تاريخنا القديم ولا الحديث، ويبدو أنه دخيل على ثقافتنا وليس اصيل فيها.

الأرجح، إن مصطلح رجل الدين، دخل على ثقافتنا مع بداية عصر النهضة العربية، تحديداً بداية القرن العشرين. يبدو أن هذا المصطلح انتقل إلينا مع مبادئ النهضة الأوروبية، التي كانت تدعو إلى محاربة رجال الكنيسة (رجال الدين). ذلك لأن الكنيسة في العصور الوسطي الأوروبية، كانت تحتكر التعليم والمعرفة لرجالها فقط، وتُحرِّمه لمن ليس من رجالها، ولهذا السبب بنيت مبادئ النهضة الأوروبية على إن الكنيسة ورجالها (رجال الدين) هم السبب في تخلف المجتمع والعائق الرئيسي للنهضة. وعندما انفتح العرب على أوروبا في القرن التاسع عشر، وبدأت البعثات الدراسية الى أوروبا، ودرس المثقفين العرب عوامل وأسباب النهضة الأوروبية، حيث كان التركيز فيها على دور رجل الدين في تخلّف المجتمع، وتصوير رجل الدين بالمتخلّف والمشعوذ وغيرها من المسميات، فانتقلت هذه الصورة إلى مجتمعاتنا من خلال أفكارهم وكتاباتهم ونقاشاتهم. وتغلغلت هذه الصورة والفكرة في افكارنا وانتشرت في ثقافتنا، وأصبح متداولاً في مجتمعاتنا.

ماهي صورة رجل الدين في مخيلتنا الحالية؟

في الوقت الحاضر، تتمثل صورة رجل الدين في افكارنا عند ذكر كلمة رجل الدين، بأنه هو ذلك الشخص الذي يرتدي العمامة والعباية ويتكلم شططاً. وأنه هو الجاهل المتخلّف والمشعوّذ، الذي يُلام على كل مآسينا وتخلّفنا. وهذا تصور مغلوط، وناقص وغير صحيح لمفهوم رجل الدين. في الواقع، إن هذه الصورة تَهمل وتتجاهل وجود رجال الدين الصالحين، الذين هم بمثابة علماء الدين وفقهائه، وهم الذين يحضون باحترام المجتمع، ويركّز على فئة المدّعَين والجَهَلة ممن يطلق عليهم رجال الدين (وهم لا يستحقون هذا اللقب). إن مثل هؤلاء الأشخاص، المُدّعين، هم القلّة القلية من رجال الدين (إذا صح التعبير)، وفي الغالب فإنهم لا يحضون باحترام الناس. ونتساءل هنا: هل إن رجال مثل محمد عبده والدكتور احمد الطيب (شيخ الازهر) والعلامة محمد باقر الصدر والعلامة الشيخ الوائلي والكثير من امثالهم، يمثلون هذه الفئة المذمومة من رجال الدين؟ بالتأكيد كلا. إنهم رجال علم ودين وثقافة وقادة للمجتمع، يَسمع لهم الناس ويقتدون بهم. فلماذا ننساهم أو نتناساهم ونركّز على فئة جاهلة متخلفة، وهم قلة قليلة جداً، وليس لديهم ما يؤهلهم للقب رجل دين. ولماذا نعطيهم دور أكبر من حجمهم ونعتقد إن ما يقولونه سيؤثر في المجتمع؟ إن من يسمع لهم أو من يتبعهم هم رجال مثلهم، جهلة متخلّفون، ليس عندهم فكر ولا رأي، ولا يؤثرون في المجتمع. إن من يؤثر في المجتمع هم المثقفون والكتّاب والمؤلفون، الذين تُطرح آرائهم وافكارهم للنقاش والتداول، وهذا هو مجتمعنا الحالي، وليس مجتمع الجهالة والتخلف.

إن ما يقال عن رجال الدين (سواء الصالحين منهم أو المدّعين) أنهم ينشرون الاساطير والخرافات، فيه شيء من سوء الفهم والتجنّي. إن رجل الدين ينشر آرائه واجتهاداته النابعة من معرفته وايمانه بعقيدته الدينية. وهذا ما يؤيده فيه الناس الذين يسمعون له ويتّبِعونَه، انطلاقاً من اعتقادهم بأن هذه من مبادئ الدين وليست خرافات ولا اساطير. فلكل شخص حرية الرأي والمعتقد. وعلى العكس من هذا المنطق، فهناك من يعتبر كلام رجل الدين تخلّف واساطير وخرافات، لكن هذا يمثل رأيه الشخصي، وليس بالضرورة أن يكون مقبولاً من كل الناس. وهنا تبرز إشكالية حرية الرأي والمعتقد؛ إذ يجب على الجميع احترام الرأي الآخر مهما كان لا يتناسب مع أفكارهم وآرائهم. فما رأيك بمن يعبد البقرة ويتبارك ببولها، أليس هذا جهل وتخريف من وجه نظر البعض، لكنه بالنسبة لمن يمارسه عقيدة دينية مقدسة، ولا يجوز لنا أن ننتقص من عقيدته لكونها لا تتماشى مع آرائنا. وما رأيك بمن يقدّس الصليب ويعبده على الرغم من أنه مصنوع من الخشب أو المعدن، ليس فيه حياة ولا يضر ولا ينفع. هذه امثلة موجودة ومنتشرة في العالم، لكنها لا تعتبر وسائل تخلّف او جهل من قبل مجتمعاتهم، بل عقيدة وإيمان. فأين المقياس الصحيح. إن الانتقاص وازدراء الرأي الآخر لا يُصْلِح الأفكار أو العقائد بل ينشر الفرقة والتعصب والكراهية.

ثقافة التسامح

إن صورة رجل الدين المشوّهة هذه، إن كانت صحيحة، وهي بالتأكيد غير صحيحة، لا يجب أن تٌجابَه بالسخرية والازدراء، لأن هذا الأسلوب ينتج العداوة والكراهية، وبالتالي الفُرقة بين افراد المجتمع. إنهم إن كانوا يقولون بالخرافات والاساطير ويوصَفون بالمتخلّفين، كما يدّعي البعض، فالأولى بالذين يجابهونهم، خصوصاً إذا اعتبروا أنفسهم النخبة المثقفة في المجتمع، أن يَعمَلوا على تثقيفهم وتوعيتهم بالحجج والأدلة العقلية المُقنِعة، وأن يكونوا متسامحين معهم لا معادين لهم. فمن المعلوم إنَّ هؤلاء هم فئة لم يكن لها نصيب كاف في التعليم، ولا يملكون سعة الأفق أو رحابة في التفكير والمعرفة. إن معاداتهم والاستهزاء بهم يولّد ردود فعل معاكسة قد لا يُحمد عقباها. فإن لم يقنعهم الخطاب والحجج والادلة، فأعلم إن العيب ليس فيهم، بل في الخطاب والحجج والأدلة التي لم تكن مقنعة لهم ولم يتقبلوها. لذلك يتوجب على من يزدريهم، أن يجد سُبلاً أخرى لأقناعهم بدلاً من اتهامهم بالجهل والتخلّف. هذه سياسة التسامح التي انتهجها الغرب في نهضتهم بعد أن عاشوا سنين عصيبة من القتل والدمار بسبب المنهج الفكري المتعصب والمتطرف الذي كان منتشراً في أوروبا خلال العصور الوسطى. وبعد انتشار ثقافة التسامح في المجتمع الأوربي استقر المجتمع وبدأ ينهض ويتطور. وهنا يأتي دور المثقف العادل والعاقل، في مجتمعنا، في انتهاج سياسة التسامح والدعوة لها بدلا من الفوقية والتعصب والتطرف (وجَادِلهُم بالّتي هي أحْسَن). فالعبء الأكبر والدور الأهم يقع على المثقفين وأصحاب الفكر، في توعية وتثقيف المجتمع، وليس على غيرهم من افراد المجتمع، كونهم النخبة من المجتمع.

فليكن نهجنا سياسة التسامح واحترام الرأي الآخر، فمن حَسُن خُلُقه حَسُن لسانه ومن فَسَد خُلُقه فسد لسانه.

***

د. صائب المختار

لا شكَّ في أنَّ تراثنا العربي والإسلامي، قد نال حظَّه من الآثار السلبية المترتبة على الانفتاح الثقافي والتقدم التكنولوجي، بخلاف المجتمعات الأخرى التي تستغل ذلك الانفتاح والتقدم أحسن استغلال، وقد كنَّا نحن أولى بحسن التعامل مع هذه التقنيات الحديثة، لكن الغزو الثقافي والفكري أوجَدَ في بلادنا العربية والإسلامية مثالِبَ وسلبيَّاتٍ نسأل الله السلامة منها.

والعمل على حفظ التراث وصيانته والإفادة منه أمرٌ مطلوب وضروري؛ فالحاضر قائم على الماضي، وأمَّتنا العربية والإسلامية لها تراثها العريق على امتداد تاريخها الطويل؛ وهذا العمل ينبغي أن يقوم عليه ذَوُو العلم والفطنة والخبرة والدِّراية بعلوم التراث؛ فهو عمل حيوي لا مجال فيه للعبث أو التجريب الذي قد يقود إلى التخريب؛ وقد بذل كثير من العلماء المعاصرين والمحققين والباحثين جهودًا طيبةً في هذا الأمر، وقد وُفِّق كثيرٌ منهم إلى حدٍّ كبيرٍ في إنجاز أعمالٍ تدل على سعة علمهم وصحَّة فكرهم وسلامة منهجهم، وفي المقابل تعثَّر بعضهم بطريقة أو بأخرى، مع تفاوُتِ النتائج المترتبة على ذلك.

وفي السنوات الأخيرة ظهرت بعض المؤسسات التي تزعم الحفاظ على التراث، وتدَّعي لنفسها العلم والفكر والمنهجية، وهذه المؤسسات قد تتوافر لديها إمكانات العمل في هذا المجال، لكن بعضها يعمل من خلال باحثين ومحقِّقين لا تتوافر لدى بعضهم القدرات العلمية أو آليات البحث العلمي الصحيح، ونلاحظ أن الباحثين في علوم التراث عملوا من خلال مناهج مختلفة؛ فبعضهم يكتفي بنقل التراث من مخطوطات إلى كتب، دون بذل أي جهد علمي من تعليق أو استدراك، أو تنقيح لِما قد يكون لحِقَها من فكرٍ مدسوسٍ، أو تهذيبٍ علميٍّ ونقدٍ تحليليٍّ لِما قد يكون بها من أفكار متعارضة أو نحو ذلك؛ وهذا النوع من العمل الخالي من هذه الأمور ليس بشيء، والمؤسسات القائمة عليه لا جهد لها حتى تدَّعي لنفسها ما تدَّعيه.

في حين نرى مؤسساتٍ أخرى تقوم بدراسة التراث ونقده وتحليله، لكن دون علمٍ، فتنقد الصحيح زاعمةً أنه خطأ، وفي المقابل تنقل الخطأ كما هو، بإطراءٍ وإسهابٍ في الثناء عليه وجعْلِه حجَّة؛ وما ذلك إلا لِضَعف العاملين بهذه المؤسسات، وجهلهم بعلوم التراث قلبًا وقالبًا، وهذا النوع من العمل يسيء إلى التراث، ويزيد العبء على الباحثين الجادِّين والمحقِّقين المدقِّقين ذوي الخبرة والمهارة؛ الذين يجدون أنفسهم أمام أخطاء علمية مستحدثة وأفكار دخيلة ينبغي عليهم التخلص منها أولًا، ثم البدء من جديد في التعامل مع النَّصِّ التراثي بطريقة علمية ومنهجية صحيحة.

وبعض المؤسسات البحثية تلجأ إلى محققين ربما كانوا متخصِّصين تعليميًّا لكن بعضهم غير متخصص علميًّا، والفارق واضح بين المستوى التعليمي وبين المستوى العلمي؛ وتطلب منهم هذه المؤسسات تحقيق سلسلةٍ من كتب التراث في مجالٍ ما؛ كدواوين الشعر أو كتب الأدب واللغة أو الطَّبقات أو غيرها، وبعض هذه المؤلفات يحتاج تحقيقها إلى قدرات علمية خاصة؛ كدواوين الشعر مثلًا؛ فإنَّ تحقيقها يتطلَّب الإحاطة بعلم العروض، بجانب النحو والبلاغة وغير ذلك من آليات العمل في هذا الميدان، وبعض هؤلاء المحققين لا يتوافر فيهم ذلك، فيَنتج عنهم في النهاية عمل رديء قد يسيء إلى الشاعر الذي حقَّقوا ديوانه، أو الأديب الذي حقَّقوا كتابه!!.

وكما يبدو من قراءة الواقع؛ فإن السِّباق بين هذه المؤسسات ليس سِباقًا علميًّا تحاول من خلاله كل مؤسسة بذل ما لديها من قدرات علمية في هذا الجانب الحيوي من جوانب البحث العلمي والتحقيق والحفاظ على الهويَّة والفكر؛ لكنه سِباقٌ الهدفُ منه الكمُّ وليس الكيف، وكأنها مؤسسات أَخبارية تتسابق من أجل تغطية خبرٍ أو حدثٍ ما، دون الوقوف على أبعاده وملابساته؛ وهذا لا يصلح في العمل العلمي؛ الذي ينبغي أن يقوم على أساسٍ واعٍ متينٍ من البحث والتحقيق والتدقيق والاستنباط؛ من أجل إثبات الصواب، وإنصاف مَن قد يكون تعرَّض لظلمٍ من العلماء أصحاب تلك المؤلفات، لسببٍ أو لآخر.

والعمل الصحيح فيما يتعلق بالتراث يكون بالتَّبحُّر في علومه، وسَبْرِ مسائله، والوقوف على المستوى العلمي لمؤلِّفِيه، وموقف معاصريهم من مؤلَّفاتهم، والموازنة بينها وبين ما يتناقض معها من مؤلفاتٍ أخرى، وعرْضِ ذلك كله على ثوابت العلوم التي تندرج تحتها هذه المؤلفات، فما زال أناسٌ حتى اليوم يحتجُّون بآراء غير علمية لا لِسَببٍ سوى أنها وردت في مؤلفاتٍ قديمة، دون أن يكلِّفوا أنفسهم عناء البحث لكي يعلموا أن القدامى أيضًا قد فنَّدوا تلك الآراء وأثبتوا خطأها، أو أنها قد خالفت الصحيح لِما هو أقدم، أو أنَّ قائليها أنفسهم قد رجعوا عنها لمَّا عرفوا الصواب، بل إنَّ مِن هؤلاء مَن يتشبَّث بلفظةٍ مصحَّفةٍ أو معنى محرَّفٍ ناتجٍ عن أخطاء الطباعة أو نحو ذلك، ثم يسلِّم بصحَّتها دون بحثٍ أو تدقيق.

وقد كان العلماء قديمًا يتناولون مؤلفات أسلافهم بالشرح والتحليل في حلقات العلم، بما يشبه التحقيق العلمي للكتب والمخطوطات في هذا العصر، وكان من بينهم أيضًا من ينقل نقلًا دون تدقيق أو تعليق، ومنهم من كان يتناول كل مسألة بالتحليل والدراسة، تحسُّبًا لأخطاء الرُّواة في النقل ونحو ذلك؛ قال الصاحب بن عبَّاد [ت: 385هـ]: «وانتهيتُ إلى أبي سعيدٍ السيرافيِّ [ت: 368هـ]، وهو شيخ البلد، وفرد الأدب، وحَسَنُ التصرف، ووافر الحظ من علوم الأوائل؛ فسلَّمتُ عليه، وقعدتُ إليه، وبعضهم يقرأ "الجمهرة"، فقرأ (أَلْمَقْتُ)، فقلت: (لَمَقْتُ)، فدافعني الشيخ ساعة، ثم رجع إلى الأصل، فوجد حكايتي صحيحة، واستمر القارئ حتى أنشد قول [ت: 82هـ]:

رسمُ دارٍ وقفتُ في طَلَلِهْ*** كِدتُ أَقْضِي الغَداةَ مِنْ جَلَلِهْ

فأخطأ في ضبط كلمة (أَقْضِي) [بتسكين القاف وكسر الضاد]، فقرأها (أُقَضِّي) [بفتح القاف وتشديد الضاد المكسورة]، فقلتُ: أيها الشَّيخ؛ هذا لا يجوز، والمصراعان على هذا النشيد يخرجان من بحرين؛ الأول من الخفيف، والثاني من المنسرح؛ فقال: لِمَ لا تقول: الجميع من المنسرح، والمصراع الأول مخروم؟! فقلتُ: لا يدخل الخرم هذا البحر؛ لأن أوَّله (مستفعلن)، و(مفاعلن) هذه مزاحَفةٌ عنه، وإذا حذفنا متحركًا بقَّيْنا ساكنًا، وليس في كلام العرب ابتداءٌ به، وإنما هو (أَقْضِي) [بتسكين القاف وكسر الضاد]؛ فأمر بتغييره، ورفعني إلى جنبه».

وهذه القصة توضح طريقة التعامل الصحيح مع المادة العلمية؛ فابن عبَّادٍ في هذا الموقف استطاع بالحجة والمنطق إنصاف مؤلف "الجمهرة" من أن يُنسَب إليه خطأ زيادة ألِف التَّعدِية المقحمة على قوله (لَمَقْتُ)، وكذلك إنصاف الشاعر صاحب البيت المذكور مِن أن يُنسَب إليه خطأ في إقامة الوزن؛ ومن خلال ذلك وجَّه حلقة السيرافي إلى الصواب فيما يتدارسونه، ونلاحظ أيضًا أن استدراكاته على حلقة السيرافي لم تمنعه من الإقرار للسِّيرافي بِسَعة العلم والفضل.

وقد أتيحت في عصرنا الذي نعيشه الآن وسائل بحثية ومعرفية لم تكن متاحة في العصور السابقة، ولو تم استغلالها بصورة جيدة؛ لعرفنا أين تكمن القيمة العلمية في تراثنا العريق، ولاستطعنا صُنع جسور امتدادٍ معرفيٍّ، يساعدنا في إتمام ما شيَّده أسلافنا من حضارة علمية وفكرية، تُعِيد إلى أمَّتنا ريادتها وأمجادها؛ فالنظريات العلمية الحديثة لا تخلو من أساسٍ راسخٍ لها في التراث، الذي يجب العودة إليه ليكون نقطة انطلاقٍ مِن شأنها أن توفِّر الجهد والوقت، ولكن ذلك لا يمكن أبدًا أن يحدث إلا بإِعمال الفهم والاستقراء والاستنباط الصحيح، الذي نستطيع معه فهْم تراثنا الفهم الصحيح، وكم من نظرية في هذا العصر زعم بعض المعاصرين أنهم ابتكروها ابتكارًا، بينما هي في الواقع ضاربة بجذورها في أعماق تراثنا العربي والإسلامي!! والفارق الوحيد أن الذين يزعمون ابتكارها الآن لا يحسنون تطبيقها، أو أنهم انحرفوا بها تنظيرًا وتطبيقًا ثم زعموا الابتكار.

وقد يساهم فهم التراث ومعرفته، في إقامة الأدلة العلمية على صحَّة نظرياتٍ تراثيَّة لم يتطرق القائلون بها من أسلافنا إلى طرق إثباتها؛ ويفتح ذلك أيضًا المجال للإضافة والتعقيب، والتعميم أو التخصيص بحسب الموضوع وآليات بحثه المتاحة، وكذلك بناء نظريات مضادة قد تكون أدَّت إليها عوامل جديدة لم تكن معروفة عند أسلافنا؛ فالرجوع إلى التراث له فوائده الجمَّة في كل حال، لذلك يجب أن تُقدَّم المادة التراثية بشكل صحيح كما أرادها كاتبها، وليس كما نُقِلت عنه أو نُسِخت مصحَّفة أو محرَّفة أو مَشُوبةً بمغالطاتٍ لا يقصدها أو نحو ذلك.

فجَمعُ التراث وحِفظُه؛ لا بدَّ أن يتم من خلال منهج علمي صحيح يضمن صيانته وتهذيبه؛ حتى تتحقق الفائدة منه، على النحو الذي بيَّنَّاه في السطور السابقة.

***

حسن الحضري - عضو اتحاد كتاب مصر

(قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

قلتُ لـ(ذي القُروح)، في المساق الماضي:

ـ لنعُد إلى حسم تلك الفِرية الزاعمة أنَّ الآيات المتعلِّقة بالحُرِّيَّة الدِّينيَّة إنَّما كانت مَكِّيَّة لا مَدَنيَّة، كما يدندن بعض أصحاب هذا الرأي. 

ـ لنفعل ذلك، متنزِّلين بهذا عند قياسهم الأخطل، الذاهب إلى أنَّ القتال كان ينبغي أن يُصدَع به من أوَّل يوم، وإلَّا فإنَّ (محمَّدًا) كان يَلْبَس لكلِّ أوانٍ لَبُوسه، منتهين إلى أنَّ مبدأ الحُرِّيَّة الدِّينيَّة ليس بمبدإٍ إسلاميٍّ، بل الإسلام دِين الغزو والسَّيف والدَّم والهَدْم، لا يحفل باختيارات الناس، ولا باستقلال إراداتهم، ولا بحُرِّيَّاتهم، بل يمضي في إجبارهم على اعتناقه اعتسافًا، حسب دعاوَى هؤلاء وأسلافهم.  إلَّا أنَّه قبل بيان ما يناقض تلك الدَّعاوَى المتهافتة، لا بُدَّ من الإشارة إلى مبدأ الحُريَّة في الإسلام.  فالحقُّ الذي لا يجهله مطَّلع على الإسلام- إنْ كان نقيًّا من التعصُّب أو الغرض- أنَّ فِرية الجَبْريَّة الدِّينيَّة يصادمها المبدأ الإسلاميُّ حول ارتباط الدِّين أساسًا بالحُرِّيَّة؛ ذلك أنَّ من مناطات التكليف للمسلم الحُرِّيَّة، فكيف لا يكون ذلك أساسًا للدخول في هذا الدِّين ابتداءً؟!

ـ لا معنى أصلًا للإيمان، ولا للعمل، ما لم يكن عن اختيارٍ حُرٍّ. 

ـ وهذا هو الإسلام الحق، الذي يريد بعض أتباعه، وبعض خصومه، تصويره على غير وجهه. 

ـ ما خالف في هذا إلَّا بعض المتصوِّفة، الزاعمين أنَّ الناس وأعمالهم من عَمَلِ الله، بما في ذلك الشرور والقبائح، مستدلِّين استدلالًا تدليسيًّا بالآية: «وَاللَّـهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ»، (سُورة الصافات، الآية96). 

ـ أضحكتني أضحك الله سنَّك! وكجميع المدلِّسين تراهم يقتطعون النصَّ من سياقه، كيلا ينفضح زيفهم، موهمين أنَّ «القرآن» يقول إنَّ أعمال الناس من خلق الله.  على حين أنَّ سياق الآيات إنَّما جاء في كلام (إبراهيم) عن الأصنام وعُبَّادها، قائلًا: إنَّ قومه وما يعبدون من أصنام نحتوها بأيديهم مخلوقون جميعًا لله: «قَالَ: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ؟ وَاللَّـهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ.» (سُورة الصافات، الآيتان 95- 96).  وما من عاقل إلَّا يفهم المقصود هنا، ولن يخطر في باله أنَّ الآيتين تذهبان إلى أنَّ الله خلق لهم الأصنام لعبادتها، فضلًا عن أنَّه خلق عبادتها، وإلَّا فيم العتاب والعقاب؟!  لكنَّه خلق الناس وموادَّ ما يصنعون.

ـ ماذا عن الاستناد الواهي إلى أنَّ الآيات المَكِّيَّة كانت وحدها السِّلميَّة في حين جاءت الآيات المَدَنيَّة حربيَّة؟

ـ ذاك استنادٌ أوهَى من مزاعم الصهاينة في (فلسطين)!

ـ لأنَّ الأخيرة (المَدَنيَّة)- كما يقول هؤلاء- لا تعترف بحُريَّة الدِّين ولا بحُريَّة الحياة، بل تسعى إلى أن تُكرِه الناس حتى يكونوا مسلمين!

ـ أعلمُ ذلك الهراء. وكأنَّ لسان حال هؤلاء الزاعمين أنَّ آيات (مَكَّة) قد نُسِخت، وانتهت أحكامها، ومن ثَمَّ فهُم يعتقدون أنَّ آية، كقوله تعالى، من (سُورة الإسراء)، وهي مَكِّيَّة: «وَبِالحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالحَقِّ نَزَلَ، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ، لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ، وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا. قُلْ: آمِنُوا بِهِ، أَوْ لَا تُؤْمِنُوا؛ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ، يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا.»، أو قوله من السُّورة الأخرى، التي يصنِّفها المفسرون على أنَّها مَكِّيَّة أيضًا: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ، لَآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا؛ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟!»، لم تَعُد هذه ولا تلك قائمة الحُكم، بزعمهم، وإنْ تلوناها وصلَّينا بها!

ـ علامَ تقوم هذه المزاعم؟

ـ هذه المزاعم كلُّها لا أراها تقوم على شيء، لا من العقل ولا من النقل، فضلًا عن النصِّ، وإنَّما هي انتقاءات محض، ممَّا يريدون انتقاءه من النصوص لما يريدون الإدلاء به من الأقاويل.  وإلَّا فما أعمى القومَ عن آية (سُورة البقرة)- وهي سُورة مَدَنيَّة، لا مَكِّيَّة- وهي واضحة الدلالة قاطعة الحُجيَّة في ما يخوضون فيه: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ؛ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّـهِ، فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى، لَا انفِصَامَ لَهَا، وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.» 

ـ أين دعواهم من منطوق هذه الآية الذي ينفي عن الإسلام الإكراه في الدِّين؟! 

ـ بل لقد جاء في سبب نزول هذه الآية ما يدلُّ على ما هو أكثر من ذلك، في ضمان الحُريَّة الدِّينيَّة عمومًا، وذلك بمنع الأب من إجبار بنيه كي يتبعوا دِينه، فيكونوا مسلمين أو غير مسلمين، على نهج الجاهليِّين في اتباع ما وجدوا عليه آباءهم.  ولقد نزلت بذلك الحُكم في ذروة العهد المَدَني، إذ تمَّ للإسلام تمكينه وانتصاره على خصومه، من المشركين واليهود معًا. 

ـ ما سبب نزولها؟

ـ جاء في سبب نزول الآية، عن (ابن عبَّاس)، قال: «كَانَتِ المَرْأَةُ مِنْ نِسَاءِ الأَنْصَارِ تَكُونُ مِقْلَاتًا، [أي قليلة الولد]، فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ [أي قبل ظهور الإسلام]، فَلَمَّا أُجْلِيَتِ النَّضِيرُ، كَانَ فِيهِمْ مِن أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ، فَقَالُوا: لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ».»  وفي رواية أخرى أنَّها نزلتْ في رجلٍ من الأنصار، يكنى (أبا الحصين)، وكان له ابنان، فقَدِم تُجَّار (الشَّام) إلى (المَدِينة) يحملون الزيت، فلمَّا أرادوا الرجوع من المَدِينة أتاهم ابنا أبي الحصين، فدعوهما إلى النَّصرانيَّة، فتنصَّرا وخرجا إلى الشَّام، فأخبر أبو الحصين رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: «أأطلبهما؟» فأنزل الله عزَّ وجلَّ: «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ».» (انظر في هذا: تفسير الطبري، وتفسير الجلالَين، وغيرهما، في شأن الآية 256 من سُورة البقرة، وسبب نزولها). 

ـ وإذا كان ذلك كذلك في حقِّ الولد، فمن باب أَولى أن يكون في حقِّ غيره.

ـ ومن باب أَولى أيضًا القول، إذن: لا غَزْوَ في الدِّين. أي لا يُغزَى غير المسلم لمجرَّد إرغامه على الإسلام. 

ـ الجهاد جهاد دَفْع؟

ـ إنَّما الجهاد جهاد الدَّفْع، كما هو الوجه الراجح الموافق لهَدْي الإسلام، ومعروف رأفته وعدالته وسياسته العقلانيَّة، لا تلك السياسة الهوجاء التي تُسوِّغ الإرهاب، وتُبَرِّر العدوان على خلق الله من الشعوب الآمنة، باسم الغزو، وفتح البلدان، ونشر الإسلام. 

ـ ماذا عمَّا عدا جهاد الدَّفع قديمًا؟

ـ ما عدا جهاد الدَّفع لا يبدو إلَّا (جهاد سياسة)، وتوسُّع، وبسط نفوذ، وتأمين ممالك من العدوان الخارجي، بحُكم المدافعة البَشريَّة، وحُكم السَّعي إلى التغلُّب الإمبراطوري، كما هو الحال لدَى كلِّ الأُمم عبر التاريخ كلِّه، لا بحُكم الواجب الدِّيني أو تنفيذ أمر الله ورسوله.  وفرقٌ بين هذا وذاك. 

ـ سيرة الرسول شاهدة على أنَّه لم يُكرِه الناس حتى يكونوا مسلمين، ولم يَغْزُ للغَزْو، بل مضطرًّا، دفاعًا، وحماية، من عدوٍّ صائل متربِّص، محيق بمدينة الإسلام لاستئصال أهلها. 

ـ بل لم يطلب مرتدًّا عن الإسلام، ما لم يكن محاربًا، كما لم يرخِّص بطلبه، ولو كان الطالب والدًا والمطلوب ولدًا، كما جاء في قِصَّة (أبي الحصين) وابنَيه المتنصِّرين، الواردة في سبب نزول آية: «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ». 

ـ على أنَّ من الناس من يودُّ لو استطاع نسخ كلِّ ما لا يوافق هواه، أو سياسته، أو نزوعه العدواني، من «القرآن الكريم». 

ـ وهنا يتبدَّى الفارق بين حقيقة النصِّ وقراءة القارئ الرَّغْبَوي!  وهذا ما حدث مع هذه الآية بالفعل، كما يحدث غالبًا مع معظم الآيات الأخرى التي يمكن أن يحتجَّ بها المسلم على سماحة الإسلام وبِرِّه وعدله وحكمته؛ إذ ما يلبث أن يجد أنَّ هناك من السَّلَف من تطوَّع للقول بنسخ ما يُمثِّل تلك المعاني المشرقة. في الوقت الذي يُعمِّم، ويمطُّ، وينفخ، ويُطْلِق العنان للمعاني التأويليَّة في آياتٍ أُخَر، تتعلَّق بالقتال، ليُظهِر الإسلام حربًا ضروسًا على العالَمين لا تُبقي ولا تذر.  وما عُرِفت الحرب التي لا تُبقي ولا تذر- حقيقةً لا مجازًا- قبل العصر الحديث، على كلِّ حال؛ هذا العصر المسلَّح بأسلحة الغرب الجبانة، المُهلِكة للطَّرَف المقابل بلا مواجهة، التي صنعها حثالةٌ من شياطين المجرمين لشياطين من مجرمي الحروب أمثالهم في العالم أجمع. 

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

 

القراءة والكتابة متلازمتان فى النشوء، فالإنسان منذ القدم فى أى لغة، كان يمارسها صوتيًا دون تدوين. ولمَّا ظهرت الحاجة إلى التدوين وأراد الإنسان أن يدون على النقوش والجدران متجاوزًا طور الرسم، ظهرت هنا فكرة اصطلاح وابتكار شكل لكل حرف صوتى ينطق به الفرد داخل جماعته اللغوية. فكل لغة ابتكرت لنفسها أشكالا لحروفها وتعارفوها بينهم، بحيث يدل شكل معين على حرف صوتى مخصوص. ولكل لغة عدد حروفها طبقـًا للأصوات التى تستعملها فى نطقها، هذا منذ عهد اللغة السريانية التى هى أقدم اللغات مرورًا بكل اللغات التى عرفها اللسان البشرى حتى يومنا هذا.

ولم تكن عملية ابتكار أشكال الحروف عملا فرديًا فى كل جماعة لغوية، بل هو نشاط مجموع أفراد وجماعات اصطلحوا فيما بينهم على هذه الأشكال. فلم يأت واحد وابتكر هذه الحروف ثم فرضها أو نقلها إلى بقية أفراد جماعته اللغوية، بل هى عملية جماعية كما أشرنا.

وفى البداية لم تحظ عملية القراءة والكتابة بالانتشار الواسع والإقبال فى أى جماعة أو لغة، فلم يكن يعنى بها إلا أفراد قليلون ممن كانت لديهم الرغبة فى التدوين والتسجيل أو التعبير بالكتابة عن شىء ما. ثم أخذ الأمر يتسع شيئـًا فشيئـًا حتى زادت نسبيًا أعداد القرَّاء والكتـَّاب فى لغات عدة، ومنها العربية.

وتدوين العربية متأخر بطبيعة الحال عن نشأة العربية، وكذا فى كل لغات العالم، فإن تدوين أى لغة هو متأخر عن نشأتها، فاللغة تنشأ أولا، وبعدها عندما تظهر ضرورة التدوين الملحة تأتى حينئذ فكرة التدوين والكتابة. وقد اختلف الباحثون فى بداية تدوين العربية وظهور الخط العربى، إلا أن معظم الباحثين كما أشار الدكتور كريم حسام الدين فى كتابه " العربية تطور وتاريخ"، أنه ظهر فى أوائل القرن الخامس الميلادى بناء على تاريخ الآثار التى تم اكتشافها فى بلاد الحجاز ومكتوب عليها بالخط العربى. وهنا يعنى أن بداية القراءة والكتابة العربية كانت منذ حوالى ألف وست مئة سنة ميلادية.

وآراء أخرى لم تبعد بعيدًا عن تلك الفترة ومنهم الدكتور ناصر الدين الأسد فى كتابه " مصادر الشعر الجاهلى ". إلا أنه اتخذ وجهة أخرى، فالسابقون اتخذوا التقويم الميلادى، أما النفر الآخر اتخذوا التقويم الهجرى، وقد أفضى بهما الأمر إلى الاجتماع فى نفس المحيط الزمنى. فذهب الدكتور ناصر الدين الأسد إلى أن (كان العرب يكتبون فى جاهليتهم ثلاثة قرون على أقل تقدير بهذا الخط الذى عرفه بعد المسلمون). ومعنى ذلك أن تضيف ثلاث مئة سنة لقرننا الهجرى فتكون النشأة منذ ألف وسبع مئة سنة. إذن اجتمعا فى نفس المحيط الزمنى. وعلى ذلك يكون العرب قد عرفوا التدوين منذ حوالى ألف وست مئة سنة أو ألف وسبع مئة سنة. ومعنى معرفتهم التدوين أى الكتابة والقراءة على حد سواء فهما متلازمتان فى النشأة.

هل كانت الكتابة بنفس شكل الحروف التى نعرفها اليوم ؟

من المؤكد حدوث تطورات وتنميقات على الشكل الأوَّلِى الذى كانت عليه الحروف العربية، إلا أنها تكاد تكون هى نفسها، والدليل على ذلك هو أنه كيف عرف الدارسون الحروف المدونة بالعربية على بعض الآثار التى اكتشفوها فى الحجاز، فلو لم تكن حروفها هى نفس حروفنا اليوم لمَا عرفوا أنها عربية، إلا أنها بطبيعة الحال خضعت لشىء من التطورات والتنميقات. والسمة الأبرز أيضـًا فى هذه الحروف أنها فى صورتها الأولى كانت بلا نقط، فالقاف مثل الفاء، والباء مثل التاء والثاء، لا توجد نقط وإنما رسمة الحرف وشكله هى التى تحدد الفرق، فالقاف والفاء مثلا بلا نقط، إلا أن القاف فى شكلها عميقة لأسفل تشبه الحوض، أما الفاء فهى سطحية.

العرب الذين يجيدون القراءة والكتابة قبل الإسلام

يرى الدكتور كريم حسام الدين أن أمر القراءة والكتابة فى العصر الجاهلى وفجر الإسلام أيضًا، كان على قدر ضئيل من الانتشار فى مكة، وعلى درجة أقل فى غيرها من المدن، كما أن الكتابة كانت وقفـًا على أشخاص قليلين [العربية تطور وتاريخ – ص 70]. وهذا ما يتفق عليه الجميع وما يتفق معه الدرس اللغوى. ويشير أيضًا إلى أن عددًا من المصادر القديمة ذكرت أن قـُصَى بن كلاَّب جد عبد المطلب كان يعرف القراءة والكتابة، وكذا عبد المطلب جد الرسول ﷺ كان يجيد القراءة والكتابة، وكذا بعض أولاده كانوا يحسنون القراءة والكتابة أيضًا.

ويذكر البلاذرى فى كتابه " فتوح البلدان " (أنه ظهر الإسلام وفى قريش سبعة عشر رجلا كلهم يكتب، وهم: عمر بن الخطاب، على بن أبى طالب، عثمان بن عفان، أبو عبيدة بن الجراح، طلحة، يزيد بن أبى سفيان، معاوية بن أبى سفيان، سفيان بن حرب، أبو حذيفة بن عُتبة بن ربيعة، حاطب بن عمرو العامرى، أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومى، أبان بن سعيد بن العاص، خالد بن سعيد وأخوه، عبد الله بن أبى السرح العامرى، حويطب بن عبد العزى العامرى، جهيم بن الصلت.

ومن النساء : شفاء بنت العدوية، حفصة بنت عمر بن الخطاب وقد تعلمت من شفاء العدوية، أم كلثوم بنت عتبة، فروة بنت عائشة بنت سعد، كريمة بنت المقداد. أما السيدة عائشة رضى الله عنها فكانت تقرأ ولا تكتب وكذلك السيدة أم سلمة رضى الله عنها) [فتوح البلدان – ص 477، 478].

وهذا فى قريش فقط وليس فى كل العرب، إلا أن فى البقية كان أقل مما فى قريش. ونتعرف مما ذكره البلاذرى أيضًا أن أمر القراءة والكتابة لم يكن مقتصرًا على الرجال فقط، بل تعلمت عدد من النساء القراءة والكتابة. ولكن الأمر الذى نود أن نناقشه هو كيف بالسيدة عائشة رضى الله عنها والسيدة أم سلمة رضى الله عنها، تقرأ كل منهما وتجيد القراءة ولكنهما لا تكتبان؟ ذلك لا يعنى أنهما لا تجيد كل منهما الكتابة، فما دامت كل منهما تقرأ فهى على شىء من القدرة على الكتابة. إلا أنهما تبدوان أن كلا منهما لم تكن لديها ضرورة للكتابة.

وختامًا فإنا نرجو أن نكون قد حققنا قدرًا من الإفادة والمتعة فى تلك المسألة الأصولية، وختامًا نقول أيضًا إن دراسة الأصول متعة خاصة وذائقة تختلف عن أى ذائقة أخرى، وليست دراسة الأصول جمود ومتاهات كما يتصور كثيرون أو كما يصدرون تلك الفكرة الخاطئة للمتلقى.

***

د. أيمن عيسى - مصر

التجربة الكوبية

كوبا، جوهرة الكاريبي المتالق، سحرت العالم ليس فقط بجمال شواطئها وثقافتها الغنية، بل ايضا بتاريخها الثوري العريق ونهضتها التعليمية المميزة.

مرت كوبا بمحطات تاريخية متعددة كان التعليم فيها حجر الاساس لبناء مجتمع متعلم ومتطور فبعد الثورة الكوبية والاطاحة بنظام باتيستا اولت الحكومة اهتماما كبيرا بالتعليم معتبرة اياه سلاحا للتغيير والتقدم فتم توفير التعليم المجاني لجميع المواطنين وارتفعت معدلات التعليم بشكل ملحوظ. ان ارتباط التعليم بالنهضة في كوبا ليس وليد الصدفة بل هو نتيجة ايمان راسخ باهمية المعرفة في بناء الامم فالتعليم في كوبا ليس مجرد تحصيل اكاديمي بل هو وسيلة لتطوير الافراد والمجتمع وتحقيق العدالة الاجتماعية وتعزيز الهوية الوطنية تحت وطاة الحصار الاقتصادي والعقوبات الامريكية. في هذه الرحلة سنسافر عبر تاريخ التعليم في كوبا ونتعرف على ابرز التحديات والانجازات التي حققها هذا النظام وكيف ساهم في بناء كوبا الحديثة.

ميزات نظام التعليم في كوبا

يتميز نظام التعليم في كوبا بعدة مزايا جعلته نموذجا يدرس في العديد من الدول، ومن ابرز هذه الميزات:

الشمولية والعدالة الاجتماعية

تعتبر كوبا نموذجا يحتذى به في مجال الشمولية والعدالة في التعليم، حيث يوفر التعليم مجانا لجميع المواطنين في جميع المراحل الدراسية، بدءا من الروضة وحتى الجامعة، مما يتيح للجميع فرصة الحصول على تعليم عالي الجودة دون اي تكاليف مالية. على سبيل المثال، يمكن لطفل من اسرة فقيرة في منطقة ريفية ان يحصل على نفس مستوى التعليم الذي يحصل عليه طفل من اسرة ميسورة في العاصمة هافانا، وذلك بفضل السياسات الحكومية التي تضمن المساواة في الفرص التعليمية لجميع الاطفال بغض النظر عن خلفيتهم الاجتماعية او الاقتصادية. نسبة الأمية في كوبا تكاد تكون معدومة. نسبة الالتحاق بالمرحلة الابتدائية في كوبا تصل إلى 99% مقارنة بمتوسط 87% في باقي دول أمريكا اللاتينية. اما في المرحلة الثانوية، فتصل النسبة إلى 78% للأولاد و82% للبنات مقارنة بـ47% و51% على التوالي في باقي المنطقة. في كوبا، هناك معلم لكل 12 طالبا مما يعزز جودة التعليم ويتيح متابعة فردية أفضل للطلاب. بالاضافة الى ذلك، يتم توفير الموارد التعليمية بشكل متساو في جميع انحاء البلاد، بما في ذلك المناطق النائية، حيث يتم ارسال المعلمين المؤهلين وتوفير الكتب والمعدات الدراسية اللازمة لضمان حصول كل طالب على نفس الفرص التعليمية. هذا النهج الشامل ساهم في تقليل الفجوات الاجتماعية والاقتصادية وعزز من تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، مما يجعل كوبا واحدة من الدول الرائدة في مجال التعليم الشامل والعادل.

التركيز على العلوم والتكنولوجيا

يشجع النظام التعليمي الكوبي على دراسة العلوم والتكنولوجيا بشكل كبير، حيث يتم تضمين هذه المواد في المناهج الدراسية منذ المراحل الابتدائية وحتى التعليم العالي، مما يهدف الى تخريج اجيال قادرة على مواكبة التطورات العلمية والتكنولوجية. مثلا، يتم توفير مختبرات علمية مجهزة باحدث التقنيات في المدارس الثانوية والجامعات، بالاضافة الى تنظيم مسابقات علمية وتكنولوجية تشجع الطلاب على الابتكار والتفكير النقدي. كما يتم تقديم برامج تدريبية متقدمة للمعلمين لضمان قدرتهم على تدريس هذه المواد بفعالية. علاوة على ذلك، تتعاون المؤسسات التعليمية مع مراكز الابحاث والمؤسسات التكنولوجية لتوفير فرص تدريب عملي للطلاب، مما يعزز من مهاراتهم العملية ويجعلهم اكثر جاهزية لسوق العمل. هذا التركيز على العلوم والتكنولوجيا يساهم في بناء مجتمع متعلم ومبتكر قادر على مواجهة تحديات المستقبل.

تعزيز المسؤولية الاجتماعية

يربط التعليم في كوبا بين النظرية والتطبيق بشكل فعال، حيث يشجع الطلاب على المشاركة في الانشطة المجتمعية والعمل التطوعي، مما يساهم في تنمية روح المواطنة لديهم. يتم تنظيم حملات تنظيف الشواطئ والمناطق العامة بانتظام، حيث يشارك الطلاب في تنظيف البيئة المحلية، مما يعزز من وعيهم البيئي ويشجعهم على الحفاظ على نظافة مجتمعاتهم. بالاضافة الى ذلك، يتم تشجيع الطلاب على المشاركة في برامج محو الامية، حيث يقومون بتعليم الكبار القراءة والكتابة، مما يعزز من شعورهم بالمسؤولية الاجتماعية ويساهم في تحسين مستوى التعليم في المجتمع. كما يتم تنظيم ورش عمل ومشاريع مجتمعية بالتعاون مع المنظمات المحلية، حيث يتعلم الطلاب كيفية تطبيق ما درسوه في الفصول الدراسية على ارض الواقع، مما يعزز من مهاراتهم العملية ويجعلهم اكثر استعدادا لمواجهة تحديات الحياة اليومية. هذا النهج الشامل يساهم في بناء جيل من المواطنين المسؤولين والمشاركين بفعالية في تنمية مجتمعاتهم.

الجودة العالية

يتميز التعليم في كوبا بجودته العالية، حيث يخضع المعلمون لتدريب مكثف ومستمر لضمان تحديث مهاراتهم التعليمية وتقديم افضل مستوى من التعليم للطلاب، ويتم تطوير المناهج الدراسية بشكل دوري لتواكب احدث التطورات العلمية والتربوية، فيتم تنظيم دورات تدريبية وورش عمل للمعلمين بانتظام لتزويدهم باحدث الاساليب التعليمية والتكنولوجية، كما يتم تحديث المناهج الدراسية لتشمل موضوعات جديدة ومتنوعة تعكس التغيرات في العالم الحديث، بالاضافة الى ذلك، يتم تقييم اداء المعلمين والطلاب بشكل دوري لضمان تحقيق اعلى مستويات الجودة في العملية التعليمية، ويتم توفير الموارد التعليمية الحديثة مثل الكتب والمعدات التكنولوجية في جميع المدارس لضمان حصول الطلاب على تعليم شامل ومتكامل، هذا الالتزام بالجودة العالية ادى الى احتلال كوبا مراكز متقدمة في برنامج التقييم الدولي للطلاب (PISA) ، وساهم في تخريج اجيال متعلمة ومؤهلة قادرة على مواجهة تحديات المستقبل والمساهمة بفعالية في تنمية المجتمع.

تعليم اللغات الاجنبية

يشجع النظام التعليمي الكوبي على تعلم اللغات الاجنبية، خاصة اللغة الانكليزية، مما يوسع افاق الطلاب ويجعلهم قادرين على التواصل مع العالم الخارجي. يتم تدريس اللغة الانجليزية كلغة ثانية بدءا من المراحل الابتدائية، حيث يتم تخصيص حصص دراسية يومية لتعليم اللغة، بالاضافة الى تنظيم انشطة تفاعلية مثل المسابقات اللغوية والمسرحيات باللغة الانكليزية لتعزيز مهارات الطلاب في التحدث والاستماع. كما يتم ارسال الطلاب المتفوقين في اللغة الى برامج تبادل ثقافي في دول ناطقة بالانكليزية، مما يتيح لهم فرصة ممارسة اللغة في بيئة طبيعية وتوسيع مداركهم الثقافية. علاوة على ذلك، يتم توفير دورات تدريبية للمعلمين لتطوير مهاراتهم في تدريس اللغات الاجنبية باستخدام احدث الاساليب التعليمية، ويتم تحديث المناهج الدراسية بانتظام لتشمل موضوعات حديثة ومتنوعة تعكس التغيرات في العالم. هذا النهج الشامل في تعليم اللغات الاجنبية يساهم في اعداد الطلاب ليكونوا مواطنين عالميين قادرين على التواصل بفعالية مع مختلف الثقافات والمجتمعات.

التركيز على الرعاية الصحية

يهتم النظام التعليمي الكوبي بجانب الصحة بشكل كبير، حيث يتم توفير الرعاية الصحية الشاملة للطلاب في جميع المراحل الدراسية، ويتم توعيتهم باهمية العادات الصحية السليمة من خلال برامج تعليمية متكاملة. على سبيل المثال، يتم تنظيم فحوصات طبية دورية في المدارس للكشف المبكر عن اي مشاكل صحية وتقديم العلاج اللازم، كما يتم تقديم دروس في التغذية السليمة والنشاط البدني لتعزيز الوعي الصحي بين الطلاب. بالاضافة الى ذلك، يتم تنظيم حملات توعية حول اهمية النظافة الشخصية والوقاية من الامراض المعدية، حيث يشارك الطلاب في انشطة تفاعلية مثل ورش العمل والمحاضرات التي يقدمها متخصصون في المجال الصحي. كما يتم توفير وجبات غذائية متوازنة في المدارس لضمان حصول الطلاب على التغذية اللازمة لنموهم وتطورهم. هذا التركيز على الصحة يساهم في بناء جيل من الطلاب الاصحاء والواعين باهمية الحفاظ على صحتهم، مما يعزز من قدرتهم على التعلم والتفوق الاكاديمي.

اسباب نجاح النظام التعليمي الكوبي:

الاولوية التي توليها الحكومة للتعليم: تعتبر الحكومة الكوبية التعليم احد اهم اركان التنمية، حيث تخصص له جزءًا كبيرا من ميزانيتها، حيث تستثمر حوالي 13% من ناتجها المحلي الاجمالي في التعليم بينما تستثمر الولايات المتحدة حوالي 5% وكندا حوالي 6%. وهذا ما يتيح بناء مدارس جديدة وتحديث المناهج وتدريب المعلمين بانتظام، على سبيل المثال، تم انشاء العديد من المدارس في المناطق الريفية وتوفير الموارد التعليمية الحديثة لضمان حصول جميع الطلاب على تعليم عالي الجودة.

الاهتمام بتدريب المعلمين: يتمتع المعلمون الكوبيون بقدرات عالية بفضل التدريب المستمر الذي يتلقونه، حيث يتم تنظيم دورات تدريبية وورش عمل بانتظام لتحديث مهاراتهم التعليمية وتزويدهم باحدث الاساليب التربوية، مما يساهم في تحسين جودة التعليم وضمان تقديم تجربة تعليمية متميزة للطلاب في جميع المراحل الدراسية.

المشاركة المجتمعية: يساهم المجتمع الكوبي بشكل فعال في دعم التعليم، حيث يقوم الاهل بتشجيع ابنائهم على الدراسة والمشاركة في الانشطة المدرسية، وتساهم المؤسسات المختلفة في توفير الموارد اللازمة مثل الكتب والمعدات التعليمية، مما يعزز من جودة التعليم ويخلق بيئة تعليمية داعمة ومحفزة للطلاب في جميع المراحل الدراسية.

التحديات التي تواجه النظام التعليمي الكوبي:

يواجه النظام التعليمي الكوبي عدة تحديات تؤثر على جودته واستدامته، حيث يعاني الاقتصاد الكوبي نتيجة الحصار من بعض الصعوبات التي تؤثر على توفير الموارد اللازمة للتعليم، مما يحد من القدرة على تحديث البنية التحتية وتوفير التكنولوجيا الحديثة في المدارس والجامعات، بالاضافة الى ذلك، يعاني النظام التعليمي من هجرة بعض الكفاءات الى الخارج بحثا عن فرص افضل، مما يؤدي الى نقص في المعلمين المؤهلين والمتخصصين، ورغم هذه التحديات، تبذل الحكومة جهودا كبيرة للتغلب عليها من خلال تخصيص ميزانيات اضافية للتعليم وتطوير برامج تدريبية للمعلمين، وكذلك تعزيز التعاون مع الدول الاخرى للحصول على الدعم التكنولوجي والمالي.

ختاما

رغم التحديات التي تواجهه، يظل النظام التعليمي في كوبا نموذجا يحتذى به في العديد من الدول، وذلك بفضل تركيزه على الشمولية والعدالة والجودة، حيث يوفر التعليم المجاني لجميع المواطنين من الروضة حتى الجامعة، ويضمن المساواة في الفرص التعليمية بغض النظر عن الخلفية الاجتماعية او الاقتصادية، كما يتميز بجودة عالية من خلال تدريب المعلمين المستمر وتطوير المناهج الدراسية بانتظام، بالاضافة الى التركيز على العلوم والتكنولوجيا والصحة، وتعزيز المشاركة المجتمعية، مما يساهم في بناء جيل متعلم ومؤهل قادر على مواجهة تحديات المستقبل والمساهمة بفعالية في تنمية المجتمع.

***

ا. د. محمد الربيعي

............................

مقالات سابقة في هذه السلسلة:

1) التجربة البريطانية:

https://almadapaper.net/364910

2) التجربة الصينية:

  https://almadapaper.net/373065

3) التجربة الكورية:

https://almadapaper.net/374432

4) التجربة السنغافورية:

https://almadapaper.net/375856

5) التجربة الفنلندية:

https://almadapaper.net/376837

6) التجربة اليابانية:

https://almadapaper.net/377633

 

ضمن جدليات السيرورة التاريخية يتموضع الزمن (الحاضر) بين مرحلتين أساسيتين؛ الأولى مدبرة – مغادرة وهي (الماضي) حيث تستوطن الذاكرة الجمعية، والثانية مقبلة – آتية وهي (المستقبل) حيث تمتحن المقدرة الحضارية. ومن هذا المنطلق، يتوجب علينا - لكي نفهم معطيات الحاضر التي من طبيعتها أن تكون في حالة من السيولة والانزلاق - أن نقرأ بإمعان خلفيات الماضي ومرجعياته، مثلما نحسن تقدير توقعات المستقبل ومآلاته. وإلاّ فان كل ما نفعله أو نسعى إليه، لا يعدو أن يكون ضربا"من التأملات الخيالية، والاستنتاجات الطوبائية، والممارسات العبثية، التي لا رجاء فيها ولا طائل منها ولا اعتماد عليها.

ولما كان متعذرا"على الفاعل الثقافي تحديد ماهية الظاهرة الاجتماعية التي ينوي دراستها، فضلا"عن إمكانية تحليل مضامينها وفك شيفراتها، دون الرجوع الى الأصول التاريخية والخلفيات الحضارية والمرجعيات القيمية التي ساهمت في تكوين بنيتها وتحديد طبيعتها، في إطار سياقات سوسيولوجية وانثروبولوجية نوعية حتمت ظهورها بهذا الشكل دون ذاك، وبلورة خصائصها بهذه الصيغة دون تلك. نقول لما كان الأمر على هذه الشاكلة، أضحى من الضرورة بمكان إعادة النظر بكل ما ورثناه من سبل وأساليب تقليدية في الرؤى والتصورات والمنهجيات، والتي كانت معتمدة في تحليل الظواهر والمعطيات والإشكاليات التي يطرحها الواقع الاجتماعي باستمرار، ومن ثم تأويل ما قد يستعصي على التفكير المبتسر من أنماط مختلفة ومستويات متعددة من السيرورات والديناميات والتناقضات، التي أحيانا"ما تفضي الى احتجاب القوى الفاعلة والتيارات العميقة المسؤولة عن تلك الصيرورات والانبثاقات.

والجدير بالملاحظة، انه ليس كل ما تموضع في (الماضي) يتوجب علينا احتسابه ضمن فرشة الخلفيات التاريخية المؤثرة في معطيات (الحاضر)، والمعنية في تحديد خيارات (المستقبل)، كما لو أنها متشابهة في الواقعية ومتماثلة في الدور ومتساوية في التأثير. ولعل هذا الأمر قلل من مستوى القيمة المعرفية والمنهجية لبعض البحوث والدراسات التي كان أصحابها يتوخون الموضوعية في تناولهم للمواضيع الاجتماعية والثقافية والنفسية الملحة، مثلما أضعف الكثير من تحليلاتهم ودلل على فشل الكثير من استنتاجاتهم. ذلك لأن الكثير من تلك الخلفيات (المعيارية) المعتمدة كانت إما (مختلقة) من هذا المكون / الكيان أو ذاك، إما (ملفقة) من هذه الجماعة / العصبة أو تلك، في إطار إضفاء شيء من الأهمية التاريخية والمشروعية الحضارية على وجودها الاجتماعي وحضورها السياسي. هذا بالإضافة الى دور الحكومات / السلطات في المساهمة بهذه استغلال هذه العملية، لأغراض تتعلق بالمصالح الاقتصادية والأهداف السياسية والهيمنة الإيديولوجية.

وفي هذا الإطار، ينبغي التركيز على واقعة أن الجدليات الاجتماعية الناشطة، لا ينحصر دورها فقط على تأطير ما هو قائم في الواقع الاجتماعي المعاش من علاقات وتفاعلات وصدامات، فضلا"عما يمكن أن يتمخض عنها من توقعات وتنبؤات واحتمالات لاستشراف آفاق المستقبل، بحيث نعتقد واهمين ان المسارات التي تسلكها تلك الجدليات تقتصر على سلوك الاتجاهات التي لا تقبل الارتداد الى ما وقع في الماضي أو ما حصل في التاريخ. إذ ان من خصائص الديناميات الجدلية أنها قابلة للارتكاس والنكوص نحو الأزمنة الآفلة، مثلما هي قابلة للتطلع والاتجاه صوب الأزمنة المقبلة عبر اللحظة الراهنة.

وعلى هذا الأساس، ينبغي، حين نعتزم دراسة ظاهرة من الظواهر، أو تفسير حالة من الحالات، أو تحليل واقعة من الوقائع، تجنب حشرها في أطر تصورية جزئية وتحاشي التعاطي معها كما لو أنها أرخبيلات معزولة ؛ تارة ننسبها الى الجغرافيا (طبيعة قاسية وبيئة عدوانية)، وتارة ثانية نحيلها الى التاريخ (سرديات ملفقة وروايات مختلفة)، وتارة ثالثة نعزوها الى السياسة (استقطابات إقليمية وصراعات دولية)، وتارة رابعة نسندها الى الاقتصاد (مقاطعات تجارية وحصارات غذائية)، وتارة خامسة نوكلها الى الدين (انقسامات مذهبية وصراعات طائفية). هذا في حين ان كل هذه الميادين والمجالات تسهم – كل بحسب دوره وأهميته ضمن المنظومة والمرحلة المعنيتان - في صيرورة هذه الظاهرة أو تلك، وتشكيل هذه الحالة أو تلك، وتكوين هذه الواقعة أو تلك. فلو أخذنا – على سبيل المثال لا الحصر – ما حل بالمجتمع العراقي من كوارث بعيد أحداث الغزو والاحتلال الأمريكي في التاسع من نيسان عام 2003، سنلاحظ ان معظم الباحثين والكتاب الذين بحثوا في الأسباب والدوافع التي أقحمت هذا البلد في أتون هذا السيل الجارف من الدوامات والمتاهات، تفرقوا شيعا"إزاء تشخيصهم للعوامل التي اعتقدوا أنها كانت السبب وراء حدوث هذا الكم الهائل من التصدعات البنيوية، والانقسامات الاجتماعية، والانهيارات القيمية، والصراعات السياسية، على هذا النحو الدراماتيكي الفاجع.

والحال، فإن كل هذه المقاربات - وإن تضمنت جزءا"من الحقيقة - إلاّ أنها فشلت في الإحاطة بكل أوجه الحقيقة التي تؤكد على أن كل ظاهرة أو حدث أو واقعة، هي مدينة الى مجموع تلك العوامل الداخلية والخارجية، الطبيعية والإنسانية، الأسطورية والتاريخية، الاجتماعية والاقتصادية، النفسية والرمزية. إذ إن تضافرها البنيوي وتفاعلها الجدلي معا"هو ما يمنحها الكينونة النوعية التي تجعلها كما تبدو عليه في الواقع، من حيث الموقع والدور والوظيفة والتأثير.

***

ثامر عباس - باحث عراقي

 

 

ـ النطقية العظمى والانقلاب الالي اللاارضوي: 

يظل العراق محكوما من حيث الاشتراطات التاريخيه للطور اليدوي الى ما بعد انتهاء الفترة العثمانية، وحين يتلقى اثار ومفاعيل الالية فانه يتلقاها بما متوفرلدية من حصيلة الفترة المذكورة، خصوصا وانها انقطاعية انحطاطية، بينما يحل الغرب بالاخص منذ الاحتلال الانكليزي المباشر، بموقع الافنائية النمطية البنيويه، لتغدو هذه الواجهه وطليعة الحضور الغربي، بينما يكون العراق ساعتها واقعا مايزال تحت طائلة "اللانطقية" والعجز التاريخي عن التعرف على الذاتيه، فلا يتيسر في حينه وبديناميات متسارعة سوى الانقلاب الايديلوجي الماخوذ بقوة وزخم فعالية الاليات التكوينيه البنيوية، تلك العائدة الى التشكلية الحديثة المستمرة منذ القرن السادس عشر، مايعزز بقوة فعالية تبني وسائل الغرب استبدالا لمجابهة الحضور الغربي، بحيث امكن لقوة علمانيه ان تخترق المجال الاسفل اللاارضوي، بغض النظر عن مستويات "تخلفه" الاستثنائي المفترض، وعلمانيتها القصوى، بما استثار ردود افعال مضادة غير عادية من القيادة الاسبق الانتظارية النجفية، تجلى اخيرا في الفتاوى العلنيه المباشرة كما فعل المجتهمد "الحكيم"اوائل الستينات، بلا نتيجه تذكر.

ولاتعود الظاهرة المشار اليها مع قيام الحزب الشيوعي اللاارضوي القرمطي الكوراجيني (1934/1958) الى "اصطراع الطبقات" التي لاوجود لها ولا ماض، وهو ماشمل ايضا حزبا اخر قومي النزعه ( حزب البعث) لم يتاسس، بعد محاولات فاشله عرفها الحزب الشيوعي هو الاخر في بغداد، الا في الناصرية/ سومر، عاصمة المنتفك، ومنطلق التشكلية العراقية الثالثة الحالية، ليشكلامحور دينامية "دولة" مقابلة من أسفل، انتهت باسقاط وسحق الدولة البرانيه المركبه من خارج النصاب المجتمعي التي اقامها الانكليز عام 1921 في بغداد عاصمة البرانيه والانهيارمنذ هولاكو 1258 .

خلال اكثر من قرن عرف العراق محطتين افنائيتين، الاولى نموذجية كيانوية مفهومية، والثانيه احترابية ساحقة، الاولى تكفلت بها اوربا، والثانيه وريثتها زعيمة الطور الالي الثاني التكنولوجي الانتاجوي الامبراطورية المفقسه خارج رحم التاريخ، حضر فيها عنصر من خارج البنية التاريخيه هو "الريع النفطي"، وحل عالم من العيش الثاني على حافة الفناء مادي احترابي استمر من عام 1980 مع الحرب العراقية الايرانيه، حروبا واحترابات داخلية مع فقدان للاليات التي تبرر الكيانوية، كلها تعني مجتمعة مسارا موصولا ب "فك الازدواج المجتمعي التاريخي" متوافق مع انتهاء صلاحية وفعالية المجتمعية الارضوية على مستوى المعمورة، بينما تبدا علائم الانتقال الالي الثالث من " التكنولوجيا الانتاجية" الى التكنولوجيا العليا العقلية، ومايواكبها ويبدا في الافصاح عنها على مستوى المعمورة بصيغة افتقاد الكيانوية المحلوية والامبراطورية الامريكيه ممكنات الاستمرار.

كل هذا من شانه ان يتحول في مكان واحد بالذات على مستوى المعمورة، الى انقلاابيه عظمى مقابله لتلك التي عرفتها المجتمعات الارضوية مع بداية الانقلاب الالي، وبالذات في اوربا الطبقية وما قد طرا عليها في حينه من انتقال من المنظور اليدوي الى صيغة المنظور والنموذجية الالية الابتدائية، معرفة بالعلموية والعقلانيه الحداثوية، لتاتي ساعه الانتقال اللاارضوي الرافديني، من الحدسية النبوية، الى العليّة السببية، حين يصير المنظور اللاارضوي الاول السماوي تعبيرية وظاهرة "مجتمعية" مادية مصدرها الارض ونوع واشتراطات البيئة التي وجدت في غمرتها المجتمعية السومرية ابتداء.

ليس الانتقال الى الالية واحد على مستوى المعمورة كما كانت الحداثوية وعموم المنظور الغربي الحديث قد قرر، مكرسا صيغتة التي عرفها كطبعه وحيدة ثابته ، معتبر ا الالة مجرد انتقال في وسائل الانتاجية، وليس انقلابية فاصلة مجتمعية يدخل عندها عنصر ثالث على التكوين والبنيه المجتمعية التاريخيه المؤسسة على وحدة ( الكائن البشري / البيئة)، والتي لن تعود بعد حضور الالة هي نفسها وقد دخلت من حينه سيرورة اصطراعية نتائجها موكولة للمستقبل، تتعدد خلالها اشكال تفاعلية كل مجتمع بتدرجات، بحسب نمطيته الاولى اليدوية ومامتبق منها، ماينعكس على الالة نفسها مثلما على المجتمعات، فيؤدي الى تحولها وصولا لصيغتها الاعلى المتوافقه مع النمطية الاقرب لمافوق جسدية ومايتعداها، ذهابا الى الغاية العليا من الظاهرة المجتمعية، والى مايحكم وجودها ومسار تفاعليتها اللاارضوي الكوني.

هكذا ينقلب كليا المفهوم المواكب والناتج عن الانقلاب الالي، باعتباره بدئية ثانيه وليس عملية استمرار للاولى بوسائل جديده، مامن شانه تحدي القدرة العقلية البشرية التي تقع هي الاخرى بجانب الاصطراعية الالية المجتمعية الطارئه على محك الارتقاء لمستوى الانقلابية الكبرى الشامله، مع مايمكن توقعه من تعدد اشكال ومستويات التفاعلية ونتائجها بحسب الننمطية المجتمعية المتاحة والباقية من الطور اليدوي، وفي مقدمها النمط اللاارضوي الذي تحل اليوم لحظة اماطة اللثام عنه كمعطى اساسي غير مزاح عنه النقاب حتى حينه، بينما تكو ن عناصر الاصطراعية قد انتقلت نوعا، من اشكالها السابقة الجسدية الى المستوى الادراكي حيث العقل والتصور الكتابي الذي كان في الماضي وتاريخيا شكل تحقق اللاارضوية، ان صياغة مبتنى اللاارضوية الحدسي النبوي وتحققاته الكونية اللاكيانيه واللارضوية ابراهيميا، وفي التدرجات كمشروع اختراقي للمجتمعات الارضوية الاخرى، وصولا للختامية المحمدية الذاهبة الى الصين والهند، والى غرب اوربا، وقبلها المسيحية الاوربيه باعتبار مايشار اليه تعبير مجتمعي من نمطية بذاتها، مخالف ومناقض لتلك الارضوية على الطريقة المصرية ابتداء، والاوربية الطبقية ابتداء ثانيا.

لكم هي ضخمه وهائلة مترتبات العبور اللاارضوي من متبقيات الانقطاعية الانحطاطية الاخيرة، مع تحدي الالة وانقلابيتها، بالاخص ابان طورها التاسيسي، ومايواكبه من تاسيسية اوربية ارضوية توهمية طاغية، ان لم تكن كاسحه، بمقابل الاستئنافية البدئية الموجلة التحقق، والباقية بانتظار التفاعل المجتمعي التاريخي على مدى الدورات، قبل ان تتوفر الاسباب المادية للانقلابية العقلية العظمى، ومغادرة الجسدية، ومقابلها الاهم، الانطلاق التصوري التفكري العراقي المدخر والمنتظر الذي لااكتمال للانقلابية العقلية العظمى من دونه، وهو مايقف العقل العراقي اليوم ازاءه متهيئا لاجتياز متبقيات الغلبه التوهمية الغربية، باتجاه اللاارضوية العظمى التحققية العليةّ السببية التي تسقط سببية الغرب الاوربي الابتدائية، لتضع العالم على الطريق نحو الانقلاب الكوني اللاارضوي: هنا تتمثل مسيرة ومآلات الثقافة العراقية ومسيرتها الراهنه الحديثة، ذهابا الى الكونية الكبرى التحققية المؤجلة.

***

عبد الاميرالركابي

من بين الكتب التي كنت أقتنيها في سنواتي الأولى، كان هنالك عدد من كتب سلسلة  بعنوان " كتاب الهلال "، وقد احتوت تلك السلسلة على كتب من كل أنواع المعارف، فقرأت من خلالها كتبا للعقاد وطه حسين وأحمد امين وزكي نجيب محمود وجبران خليل جبران وسلامة موسى في بعض كتبه، وكانت هناك اسماء لم اقترب منها لجهلي بنتاجها الادبي والمعرفي، ومن هذه الأسماء كان اسم ابراهيم عبد القادر المازني، فقد كنت اعتقد انه كاتب من الصف الثالث  إلى أن قرأت ذات يوم مقالا كتبه العقاد يقول فيه ان المازني واحد من خمسة كتاب لا يمكن للقارئ  ان ينشغل عنهم، المازني المولود في الاول من آب عام 1890، عاش 59 عاما قدم خلالها العديد من الكتب التي وصفت بانها ذات أسلوب فني جديد

. قد يقول البعض ما الذي ذكرك بالمازني ونحن نعيش عصر ما بعد الحداثة . كنت قد قرأت المازني قبل اكثر من أربعين عاما، ايام ما كنت فضوليا في القراءة، ومع كثرة المطبوعات وتنوع مصادر المعرفة لم  يخطر ببالي انني ساعود يوما إلى المازني، لكني بالأمس وانا أتجول في اروقة معرض الرياض الدولي للكتاب لمحت المازني من بعيد يستقر على احد الرفوف، اقتربت منه فوجدت العنوان مثير للفضول "رحلة المازني المعرفية من القراءة إلى الكتابة " التقطت الكتاب وانا امني النفس بمتعة خاصة فتحققت الأمنية، كتاب يأخذك في رحلة مع المازني والكتب التي تاثر بها والكتب التي كان يسخر منها، وحياته التي تقلبت بين الفقر  والاهمال، وسخريته اللاذعة من العالم المحيط به، وشكواه من الحال التي وصل اليها المشتغلين بحرفة الأدب،  حيث يكتب :" اما الأديب فلا يزال مركزه الاجتماعي قلقا، وصفته يشارك فيها كل من هب ودب ".وتذهب به السخرية إلى أقصى حدودها حين يقول  :" ترى لو أراد في زماننا إديب لا عمل له غير الأدب أن يتزوج، وتقدم إلى أسرة يطلب مصاهرتها، وسألوه عن عمله أو صناعته، فقال لهم : إنه أديب، فماذا يكون رأيهم فيه وظنهم به؟ أما أنا فأرجح ان يتوهمونه عاطلا، ويحسبوه قد جاء يطلب مصاهرتهم ليسرق مالهم " . وفي واحدة من اجمل المقالات يكتب عن العشوائية في النشر، وهو الأمر الذي نعاني منه الآن، فتجد عشرات الإصدارات الأدبية المحلية الجديدة  يعلن عنها في مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها سرعان ما تتبخر، دون ان تترك إي إثر عند القارئ الذي لا يقترب منها، في الوقت نفسه نجد ان بعض المشتغلين في النقد يسودون صفحات كثيرة في شرح مزايا هذه الرواية، وعبقرية صاحب هذا الديوان، لكنك تسأل هل وصل هذا النتاج إلى القارئ، او هل اهتمّ القارئ بهذه الرواية او ذاك الديوان  بالشعر والرواية، فيكون الجواب صادما، فتعرف أن البعض يكتب وينشر من اجل عيون بعض الأصدقاء والنقاد، يوزع كتبه بالمجان ويطبعها على حسابه الخاص،بعدها سنجد  هذه  الكتب ملقاة على ارصفة شارع الرشيد تباع بالكيلو. يكتب المازني في مقالة بعنوان زيتون في قرطاس من الشعر " :" اتفق يوما ان اشتريت من بقال زيتونا اسود، فلقه لي في ورقة حملتها وانصرفت، فلما صرت في البيت أفرغت الزيتون في صحن، وهممت أن أرمي الورقة، وإذا بها منزوعة من ديواني الذي كنت قد بعت ما بقي منه بالوزن . في ذلك اليوم بدأ رأيي يتغير في الأدب وقيمته، وما قيمة أدب مصيره دكاكين البقالين "

***

علي حسين – رئيس صحيفة المدى البغدادية

 

عدد الساعات التي تعيشها مع الله قليلة جداً بالقياس لعدد الساعات التي تعيشها بالغفلة عنه، ثم التردي والنكوص مع تعمّد السّهيان.

لديك مثلاً في يومك كله:  خمسة فروض، ومع كل فرض نوافل من قبل ومن بعد، لو استطعت أن تحافظ على الفروض وكفى، أعددت نفسك بينك وبين نفسك من المجاهدين، ولا تقل أين النوافل والزيادات فضلاً عن رؤية التقصير؟!

لا تقل هذا .. لأنك لا تستطيع أن تفي حق الفرض عليك، وهو أن تؤديه في جماعة، وبحضور، وبحرص على أن يكون نور الصلوات المكتوبة ظاهرٌ عليك.

روى لي أحدهم - والعهدة على الراوي - أن ولياً من أولياء الله دخل مسجداً وقت الصلاة يوماً ما، فوجد المصلين على هيئة خنازير إلا ثلاثة منهم تبيّن له من طريق شهوده أنهم صُلحاء وعارفين.

والإشارة في شهود الولي أن جماعة المُصلين كانوا مجرّد أجساد لا روح فيها ولا حياة، ولا حضور مع الحق وقت الصلاة، بل خالطتهم الغفلة وعمّ أكثرهم الباطل الذي يبطل باطن الصلاة.

إذا كان هذا في المكتوبة، فكيف بغيرها وفي غيرها؟!

ربما يرجع هذا إلى قلة الشغل بالله، وإلى كثرة الغفلة عنه؛ لأننا في الغالب نشتغل بالله أقل ممّا ينبغي ونعطي الكثير لأنفسنا فيما لا ينبغي، فنفوّت عليها حياة جديرة بالحياة الحقيقية في رحاب الله، ومع الله، ومن أجل الله.

كلمة (اشتغل بالله) من أعمق وصايا العارفين عن مشكاة النبوة ميراث النور القديم، لأن الشعل بالله وفي الله هو أسمى ما يضيفه عمل اللطيفة الربانية، وهو بلا شك عملٌ قلبيٌ يقوده التوجّه نحو وحدة القصد واتصال الذات الذاكرة بسر حقيقتها الباقية وسر روحانيتها الدائمة، فالعمل بالله وفي الله يدعم تلك الناحية.

وبما أن العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره، بمعنى أنه لا مأوى ولا مثوى له في الدنيا ولا الآخرة إلا بالله، كانت أهم صفاته: أنه مسكون بالله على الدوام بغير انقطاع.

وكل مسكون بالله ساكن تحت مجاري أقداره. الرضى من علامات سكونه بالله، إذ ذاك يفهم العارف باليقين الذي لا مرية له فيه: أن الله قد أجرى لطفه في حكم قضائه، فمن غلب عليه اللطف وذاق حلاوة الإيمان، هانت عليه أحكام القضاء فمر عليها مرور الكرام. ومن نازع الله في أقداره، وعبس، وضجر، وفتر، وتردى، ولم يذق حلاوة التسليم وبرد الرضى، عوقب من فوره بزيادة الشكوى وقلة الحيلة وفتور الإيمان.

‏قال أحد العارفين واصفاً تلك الحكمة: « فمن آمن بالله، امتحنه وابتلاه، فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم ألبتة، وهذا أصل عظيم في باب الولاية ينبغي للعاقل أن يعرفه » ولذلك قال تعالى: (أحَسِبَ النّاسُ أَن يُترَكوا أَن يَقولوا آمَنّا وَهُم لا يُفتَنونَ).

وحين يكرمك الله بالبلاء، أعقل ما أنت فيه، فإنك في نعيم أختاره الله لك. البلاء الذي هو في الصحة، وفي الأسرة، وفي الأبناء، وفي الأعمال، إذا أنت عقلته وجدته نعمة. واذا توجهت بالحمد به إلى ربك كنت مرفوعاً لديه بأكبر درجات الرفعة. فقط ثق بالله وسلم له الأمر، وأسأله سِعة اليقين.

جعلنا الله وإيّاكم ممّن سكنوا باليقين تحت مَجَاري أحكامه، فعرفوا ألطافه في مجرى قضائه، فحمدوه حمد الشاكرين الأوّابين، أنه سبحانه نعم المولى، ونعم النصير ..

لو أنّ الله - سبحانه - أفاض علينا بأقل القليل من محبته؛ لسلب منا العقول، ولكنه عزّ وجل يعلم أن عقولنا محدودة مرهونة بالدُّون، ففتح أمامها مناشط الدنيا وأغلق بحجبها منافذ محبته إلا لمن يستحقها، ومن هم الذين يستحقونها؟!

أولئك الذين قضوا الساعات الطويلة في الشغل به بغير ملل ولا فتور، سائلين الله ذوق المحبّة، متوسلين بسيد الخلق، صلوات الله وسلامه عليه، وهو الذي قال تعالى عنه (قلّ إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله) فلا محبّة بغير إتباع، وهو صلوات الله وسلامه عليه القائل: (احبُّوا الله لمَا يغذوكم به من نعم).

اللهم قطرة من حبك: تزيل الهم، وتفرِّج الكرب، وتمكّن الوصال.

***

د. مجدي إبراهيم

سألتني السيدة ميرة، وهي مثقفة من دولة الإمارات الشقيقة، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني، أم نحتاج أيضاً إلى الرابطة الشعورية، أي الشعور بالتضامن والتكافل والانتماء الواحد؛ كي تكون مواطَنة صحية وبنَّاءة؟ لقد واجهت مثل هذا السؤال في واقع الحياة. كما سمعته موجهاً لأشخاص أعرفهم، من مواطنين يقولون: كيف تكون مواطناً مثلنا، وأنت تنكر كثيراً مما نؤمن به. وسمعت شخصاً كان مشهوراً في زمن سابق، يقول في حديث تلفزيوني: لو التقيت «فلاناً» لتفلت في وجهه. ثم شرح قائلاً: إننا لا ننتمي إلى ذات المكان والمرجع. وأعلم أن كثيرين قد شاهدوا تلك المقابلة التي أثارت جدلاً واسعاً في وقتها. والحمد لله أن تلك الصفحة قد طُويت، وارتاحت بلادنا من أثقالها.

يشير سؤال السيدة ميرة إلى رغبة في الارتقاء بمفهوم المواطنة إلى مستوى الهوية الكاملة، بمعنى تحقيق التماثل التام بين المواطنين، في القناعات السياسية والدينية والعاطفية والثقافية. ولا أظن أن هذا ممكن في الواقع. ولو قلنا إنه ممكن، فهو عسير المنال جداً. ولذا؛ لا أرى داعياً للسعي إليه أو المطالبة به؛ خشية تكليف الناس ما لا يطيقون.

على أنني سأطالع الموضوع من زاوية أخرى، تركز على معنى الهوية والمواطنة ومضمونها الثقافي. وسبب اهتمامي بهذه المسألة، هو ما أراه من خلط بين الهويات المختلفة، ولا سيما تحميلها على الهوية الوطنية وخلطها بالأعراف الدينية/المذهبية، من دون داعٍ.

في الوضع الطبيعي يحمل الإنسان هويات متعددة، بدءاً من انتمائه العرقي/القومي إلى العائلي والقبلي والإقليمي، وصولاً إلى هويته المهنية والطبقية وميوله السياسية، ودينه ومذهبه ولغته، والتاريخ الثقافي لبيئته الاجتماعية، إلى الوطن الذي يحمل جنسيته. كل من هذه الانتماءات الكثيرة يمثل خيطاً يشده إلى مكان ويؤثر في ثقافته وتصوره للعالم، أي في تشكيل ذهنيته. وبهذا المعنى، فإن هوية الإنسان توليف معقد ومتداخل من هويات متنوعة. وكلما تزايدت، كانت شخصية صاحبها أعمق تفكيراً وأوسع أفقاً.

أزعم أنه لا يوجد شخص واحد، أحادي الهوية، في العالم كله، بمعنى أن ذهنيته تشكلت في إطار هوية واحدة، أو انتماء واحد فقط. إن شخصاً كهذا ينبغي أن يكون منعزلاً عن العالم كله طوال حياته. وهذا – في ظني – مستحيل بحسب ما نعرف عن عالم اليوم.

حسناً. دعنا نتخيل صورة الهويات التي نحملها على شكل دوائر متداخلة. بعضها يقع في الوسط وبعضها في الأطراف، وبعضها فوق بعض، وهكذا. أفضل الحالات هي حالة التفاعل والتلاقي بين تلك الهويات، أي حين يكون الإنسان قادراً على التعبير عن نفسه وثقافته ودينه وانتمائه العائلي والقبلي والسياسي في إطار القانون الوطني. هنا يلتقي الجميع على أرض واحدة، وتمثل الهوية الوطنية دائرة واسعة جامعة، أو مظلة حامية للانتماءات والهويات الأخرى كافة.

في حالة كهذه لا يكون المجتمع الوطني حشداً هائلاً من الأفراد المستقلين، بل مئات من الدوائر التي لكل منها لون وعلامة، لكن جميعها يقع في داخل الدائرة الكبرى، أي الهوية الوطنية. هذا ما نسميه «التنوع في إطار الوحدة». وهو أرقى التعبيرات عن فكرة الوطن في هذا العصر.

ربما توجد حكومة فائقة القوة، تسعى لتذويب الهويات كافة، عدا واحدة. وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا بالقوة الغاشمة. ونعرف من السجلات التاريخية أن بعض الطغاة قد فكر في هذا أو حاول فعله. ونعلم أن تلك المشروعات فشلت في أولى خطواتها؛ لأنها ضد المنطق وضد المسار الطبيعي للحياة. خلاصة القول، أن المواطنة الكاملة متحققة فعلاً لكل من يحمل جنسية البلد، مهما اختلف مع بقية المواطنين. هذا كافٍ تماماً. فإن حاولنا فيما يزيد على ذلك، فقد نتحول من بناء الوطن إلى هدمه. التنوع إثراء للوطن، والوطن لكل أهله، مهما اختلفت مصادرهم أو مشاربهم وغاياتهم.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

تحاول هذه المقالة معالجة الثيوديسيا التي يقول بها عبد الجبار الرفاعي في ثنايا مشروعه الفكري. والثيوديسيا "كلمة مشتقة من اليونانية: θεός (theos) الله، وδίκη (justice) العدالة. تُعد الكلمة إذًا نوعًا من الاخترال الفني؛ دفاعًا عن عدالة الله وخيريته في مواجهة الشر وحقيقته"[2]. ينقسم الشرّ غالبًا إلى شرور أخلاقية، وشرور طبيعية، وشرور ميتافيزيقية. يميز ليبنيز Leibniz بين هذه الأنواع الثلاثة؛ قد يكون شرًّا ميتافيزيقيًّا، وفيزيائيًّا [طبيعيًّا]، وأخلاقيًّا؛ الشر الميتافيزيقي يكمن في نقص، أو عدم كمال محض، والشر الطبيعيّ يكمن في المعاناة، والشر الأخلاقي يكمن في الخطيئة.[3] تُعنَى هذه الورقة بالشر الميتافيزيقي، وبما أسميتُه الشرّ اللاهوتي باعتباره فرعًا عن الأخلاقي. أعني بالشرّ الميتافيزيقيّ النقصَ الوجوديّ الحالّ في الطبيعة عمومًا والإنسان خصوصًا باعتباره داخلًا فيها؛ وبالشرّ اللاهوتي ذلك الصادر عن الإنسان أخلاقيًّا تجاه آخرين باعتبار مقولاتٍ لاهوتية يؤمن بها.

I. الشر الميتافيزيقي:

الإنسان بوصفه مخلوقًا ظامئًا

الإنسان مخلوق ظامئ، يطلب الرِّيَّ في كلِّ شيء، فهو لا يلبث يُولَد إلا ويسلك في تحقيق نفسه، وتكميلها، وهو لا يكمِّل منها شيئًا إلا ويطلب التحقق بغيرها في سعي محموم صوبَ الكمال في كل شيء؛ كمال لا يصل إليه أبدًا لنقصانه الوجودي، ولطبيعة خلقه المبتور عن التمام. لا حول ولا قوة للإنسان، إذ لا تتقاصر نفسُه عن طلب الكمال، إلا وتنطفئ ذاتُه، وينمحي معنى وجودِها.

لا سبيل أمام هذا الإنسان إلا أن يعيش باطن هذا القلق الوجودي طول عمره؛ أو أن يُنهِي ذاته ويُفنيها؛ أو أن يطلب الريَّ في شيء لا ينقضي رِيُّه، ولا ينقطع معينُه، وما ثمة أمر كهذا سوى ما تصورته العقولُ الإنسانية في الموجود المطلق (الله): "لو توفرت كل حاجات الإنسان المادية والبيولوجية، مثل حاجته للهواء والماء والطعام، والنوم والجنس وكل الأشياء الأخرى المماثلة، كما نرى في حياة الأثرياء المُتخمين بتكديس الأشياء والإفراط في استهلاكها، فإن كل هذا الاستهلاك لا يضمن لهم توفير طمأنينة القلب وسكينة الروح، ويظل الإنسان محتاجًا إلى ما يُؤمِّن له سلامًا داخليًّا، ولن يتحقق ذلك إلا ببناء صلة وجودية بالله".[4]

يُعبِّر الرفاعي عن الظمأ الوجودي فيقول: "أعني بالظمأ الأنطولوجي الظمأ للمقدس، أو الحنين للوجود المُطلَق؛ إنه ظمأ الكينونة البشرية بوصف الإنسان وجودًا محتاجًا على الدوام إلى ما يُثريه، كائنًا متعطشًا إلى وجود غنيّ مُكثَّف بذاته يروي به ظمأه، ويثري به وجودَه، ويسقي عطشَه المُزمن"[5]. يفترض الرفاعي في هذا المورد وغيره أنّ الإنسان وُجود مُحتاج، وجود مُفتقِر إلى وجود آخر أغني منه يثبِّت كيانَه، ويثري بنيانه، ويكمِّل روحَه.

منشأ اغتراب الإنسان

وباعتبار الإنسان موجودًا ظامئًا يريد الرِّيَّ في كل شيء ولا يرتوى، فما من شيء يمكنه إشباعه حقًّا في هذه الدنيا بعلائقها المادية. نعم الإنسان موجود تشتمله الروح والجسد، ما يعني أنه ذو مطالب مادية وروحية (معنوية)، لكنَّ الانغماس في مطالب المادة مع إهمال مطالب الروح يُوقِع الإنسان في شَرَكِ الظلمة المادية. يقول الرفاعي: "الاغتراب الوجودي ينشأ من أن الكائن البشري يبحث عن ذاته داخل عتمة الوجود المادي. المادة ظلام تكتئب في فضائه الروح، الظلام أشد من قدرة الروح على تحمل وحشته. طاقة الروح أقوى من المادة، طاقة الروح تبدد عتمة المادة. لا يُشفَى اكتئابُ الإنسان ويُخمَد قلقُه الوجودي إلا بإيقاظ حياته الروحية والأخلاقية".[6]

لا بد من إيقاظ حياة الإنسان الروحية والأخلاقية إذًا، لأنها الحياة الوحيدة ضمن حيوات متكاثرة يمكنها إثراء الوجود الإنسان الواهن، فهي المَعين غير الناضب، والمَنهَل غير النافد الذي يمكن للإنسان من خلاله أن يغترفَ ما يرجوه من معنىً لا يتناقص، وأن يستقي ما يرجوه لنفسه الهشَّة؛ وإنّ رشفةً واحدةً لقادرة على تحويله عن إملاقه الوجودي، وعلى تدعيم نفسه، وتكميل روحه.

الشرّ الميتافيزيقي ينتفي بالعودة.

يُعالج الرفاعي في هذه السياقات ما اصطُلِح عليه بالشر الميتافيزيقي. "يتناول الشرُّ الميتافيزيقيُّ حقيقةَ التناهي، أو الأشكال محدودةَ الوجود، وما يكمن فيها من نقص"[7]، فالعالم بكل ما فيه يعتريه النقصانُ لا محالة (بما في ذلك الإنسان)، ذلك لأنه مهما بلغت درجةُ الكمال فيه إلا وهو ناقص عن اللهِ خالقِه ومُصدِرِه الذي هو الكمال المُطلَق. وبغض النظر عمَّا إذا كان الشرُّ موجودًا باستقلالٍ أم عالقًا بالخير مُنقِصًا من شأنه فإنَّ الرفاعيّ يرى أن هذا النوع من الشرّ يمكن دفعُه أو التقليلُ من حِدَّتِه على الأقل من خلال الإيمان والنزوع إليه، يقول: "الإيمان نور يكشف للإنسان حقيقة وجوده. ثمرة الإيمان تُعرَف بإثرائه لسكينة الروح، وطمأنينة القلب...".[8]

يسكن مفهومُ العود الأبدي لغةَ الرفاعي إذًا، لكنه يغاير المتكلمين فيه من الفلاسفة، لأنه يرى العودَ ضرورةٌ اختياريةٌ على الإنسان النزوع إليها بالإيمان طوعًا من خلال عودته بالوقوف على روحِه الصادرة عن الله في الأصل، فهو إن تلمَّس طريقَ الروح هذا وسلك فيه؛ ينتفي عنه الظمأ الوجودي والغربة الميتافيزيقية، ومن ثم ينتفي شره الميتافيزيقي الساكن كينونته بالاحتجاب عن الله.

II. الشرور اللاهوتية

مَنْشَأ الشر اللاهوتي

ليس الرفاعي حالمًا، فهو ليس من نوعِ المفكرين أو المتحدثين في الدين الذين يرون أنه متى آمن الناس، أو سلكوا مسالك الدين، فإن الحياة تُضحي خيرًا تامًّا، فهو مُدرِك تمامًا أن الإيمانَ مثلما يكون مصدرًا للخير قد يكون مصدرًا للشر. يُعرِّف الرفاعيّ الدينَ بأنه "حياة في أفق المعنى، تفرضه حاجة الإنسان الوجودية لإنتاج معنىً روحيّ وأخلاقيّ وجمالي لحياته الفردية والمجتمعية".[9] لا يُعرف الرفاعي الدين هنا بالحد أو الرسم، لكنه يعرفه بوظائفه، ومن ضمن وظائفه إنتاجه المعنى سواء كان روحيًّا أو أخلاقيًّا أو جماليًّا. هذا المعنى الناجم عن الدين مُنعكس على حياة الإنسان تجاه نفسه أو تجاه غيره، لكن هل يمكن أن يكون هذا المعنى قبيحًا مثلما يكون حسنًا؟ يُجيب الرفاعي صراحةً بأن هذا ممكن؛ ممكن إذا حصل تلاعب بوظيفة الدين في إنتاج المعنى. يحدث هذا في حدوث أمرَيْن: إفقار الدين روحيًّا بالأدلجة، أو حصره في البنية التاريخية للأفكار.

الشر اللاهوتي ينتفي بلاهوت المحبة

يربط الرفاعيّ بين الإيمان والمحبة ربطًا وثيقًا، فلا يظهر أحدُهما إلا بالقدر الذي يظهر فيه الآخر، ولا يغيبُ أحدُهما إلا بالقدر الذي يغيبُ فيه الآخر. يقول: "الإيمان والحب كلاهما كيمياء للروح، كلاهما منبثقان من جوهر واحد، يولَدان معًا، ويرتضعان معًا، ويتكرّسان معًا، ويتوحّدان معًا. حيث يشتد الإيمانُ يشتدّ الحب، وحيث يذبل الإيمان يذبل الحب".[10]

لا أظنّ الرفاعيَّ يطابق الإيمانَ بالمحبةِ، أو المحبةَ بالإيمانِ، لكنه يريد أن يقول أن أصل الإيمان هو المحبة فيما ينبغي ويجب. يعني هذا أن المحبة ينبغي أن تكون أصلَ الإيمان والنزوع إلى الله لا الخوف والرهبة مثلًا؛ وأن الإنسان إذا حقق في نفسه هذا المعنى، تنشَّا فيه الإيمانُ الحرُّ بالله من طريق المحبة التي لا يلبث معها إلا وتمتلئ حياتُه بالنور الإلهيّ الذي يُضيء نفسَه، ويُشعل روحَه، ويجعله سالكًا بين الناس بالمحبة أيضًا.

يتطلب هذا الأمر الخروج عن الأنساق الفكرية التي يفكر بها التراثيون الآن، فـ"لن يتحرر فقه المسلمين من نزعات التكفير والتشدد ما دام هذا الفقه متمسكًا بالولاء والبراء والأحكام التي وُلِدَتْ في سياقات تاريخية لا تعرف منطق الحريات والحقوق. لن يتحرر فقهُ المسلمين ما دام لا يرى الله والإنسان والعالم إلا في آفاق علم الكلام القديم. ولن يبلغ تفكيرنا الديني الآفاق المضيئةَ الرحبة للإيمان إلا من خلال بناء علم كلام جديد"[11].

ملامح التجديد الكلامي

لا تجديد في الدين إذًا إلا من طريق تجديد علم الكلام القديم الذي يتخذ المنطق الأرسطي مرجعيةً له، وينفصم معه النظرُ عن العمل، ويشيع فيه التقليدُ، ويُهمِل الإنسان، ويغيب عنه المضمونُ الاجتماعيُّ، ويُربِّي على الخوف، ويُرسِّخ اللاهوتَ الصراطي، ويُهمل الروحَ، ويفتقر إلى المضمونِ الأخلاقي، ولا يميز بين المقدس واللامقدس، ويتجاهل العوامل المؤدية إلى نشأة الفرق (مثل السياسة)، ويعتمد على الطبيعيات الكلاسيكية.[12]

والكلام الجديد الذي يُعنَى بابتناء مفهوم جديد للوحي يقوم أساسُه على أركان من أهمها: (1) تفسيرُ الوحي تفسيرًا ديناميكيًّا، لا يكون النبيُّ فيه الجانبَ السلبيَّ المنفعل، بل يكون فيه متفاعلًا معه، متأثِّرًا ومؤثِّرًا فيه. (2) نفي الصورة المرعبة لله في الكلام القديم، ومحاولة ابتناء صورة أخرى رحمانيّة مُفَعَّمَة بالرأفة الإلهيّة. (3) ابتناء صلة بين العبد والله تقوم على أساس من المحبة، لا على أساس القهر والخوف. (4) إيقاظ المعنى الروحيّ والأخلاقيّ والجماليّ الكامن في النصوص المؤسِّسَة. (5) إعادة تعريف الدين بصورةٍ يكون فيها منبعًا لما يُثْرِي حياةَ الإنسان بالمعنى الذي يتطلّبه وجودُه. (6) الانفتاح على تعدُّد قراءات القرآن بتعدّد الأحوال، والأزمان، والبيئات، والثقافات، والأشخاص. (7) الاستفادة من معطيات الفلسفة الحديثة، والعلوم الإنسانية المعاصرة، والأدوات الجديدة في الفهم والتأويل.[13]

يضع الرفاعي من بعد ذلك ضابطًا معياريًّا فارقًا بين ما يُعدّ كلامًا جديدًا وما لا يُعدّ كذلك: "ونظرًا، لعدم استناد الباحثين إلى معيار كلي يمكن العودة إليه في معرفة ما يصدق عليه بأنه علم كلام جديد؛ حدث التباس لدى أكثر الباحثين في تمييز المصاديق، ووجدنا عشوائية في انتقاء كتابات وإدراجها في الكلام الجديد مع أنها لا تنتمي إليه... المعيار العلمي الذي يمكن اعتمادُه، بوصفه مقياسًا لتمييز الكلام الجديد عن القديم، وعلى أساسه يمكن تصنيف أحد المتكلمين بأنه متكلم جديد، هو المبني على اجتهاد جديد يقدمه المتكلم لبناء مفهوم للوحي لا يكرر مفهومَه في الكلام التقليدي...".[14]

خاتمة

يمكن تلخيص ما سبق في عدة نقاط: (1) يرى الرفاعيُّ الإنسان مخلوقًا من روح الله، ما يجعله واقعًا في الظمأ الأنطولوجي لشعوره بالحنين الدائم وانقطاعه عن الأصل الذي صدر منه. (2) إذا ما طلب الإنسانُ الرِّيَّ في غير الله وقع الإنسان فريسةً للاغتراب الميتافيزيقي الذي ينهش كيانه. (3) يؤدي اغترابُ الإنسان الميتافيزيقي إلى شر ميتافيزيقي يوازيه، شرّ يعني فاعلية النقص فيه، وشعوره بهشاشةٍ ضمن عالم تفترسه المادةُ. (4) حتى ينفي الإنسانُ اغترابه وشرَّه الميتافيزيقيان؛ عليه العودُ الإيمانيّ إلى روحه التي هي من روح الله، ونفخةٍ منه، ومن ثم العود إلى الله، المعين الذي لا ينضب. (5) الدين موصوف بأنه منتج للمعنى في حياة الإنسان. (6) قد يضيق هذا المعنى ويفتقر إذا تأدلج الإيمانُ أو تأطَّر بالتاريخ. (7) يؤدي هذا إلى حدوث الشر اللاهوتي باعتباره شرًّا صادرًا عن إيمان عنيف. (8) لا ينفي الإنسان عن نفسه هذا الشر إلا بلاهوت الرحمة غير المُنبني على التراث الفقهي والكلامي. (9) يعني هذا ضرورة ابتناء علم للكلام جديد ما دام العلمَ الحاكمَ على ما سواه.

***

عبد العاطي طلبة

 كاتب ومترجم مصري من الجامعة الأزهرية

..............................

[1] هذه مقالة من كتاب يتناول: الرؤية الفلسفية لمشكلة الشر في فكر عبد الجبار الرفاعي.

[2] Hick, John, Evil and the God of Love (London: Palgrave Macmillan, Edition Number 2010), p. 6.

[3] انظر: كوبلستون، فريدريك، تاريخ الفلسفة، ترجمة وتعليق: سعيد توفيق، محمود سيد أحمد، مراجعة وتقديم: إمام عبد الفتاح إمام (القاهرة: المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى 2013)، المجلد الرابع، ص 437.

[4] الرفاعي، عبد الجبار، الدين والكرامة الإنسانية (بغداد: مركز دراسات فلسفة الدين، ودار الرافدين، الطبعة الثانية 2022)، ص 220-221. ص 220-221

[5] الرفاعي، عبد الجبار، الدين والظمأ الأنطولوجي (بغداد: مركز دراسات فلسفة الدين، ودار الرفدين، الطبعة الرابعة 2023)، ص 25.

[6] الدين والكرامة الإنسانية، مصدر سابق، بتصرف يسير، ص 42.

[7] Evil and the God of Love, ibid. p. 38.

[8] الدين والكرامة الإنسانية، مصدر سابق، ص 42.

[9] الرفاعي، عبد الجبار، الدين والنزعة الإنسانية (بغداد: مركز دراسات فلسفة الدين، ودار الرفدين، الطبعة الرابعة 2022)، ص 92.

[10] الدين والنزعة الإنسانية، مرجع سابق، ص 316.

[11] الدين والنزعة الإنسانية، مرجع سابق، ص 321.

[12] انظر: طلبة، عبد العاطي، الخلاصة في الكلام الجديد: موجز كتاب «مقدمة في علم الكلام الجديد»، موقع مؤمنون بلا حدود، أغسطس 2023.

[13] انظر: الخلاصة في الكلام الجديد: موجز كتاب «مقدمة في علم الكلام الجديد»، مرجع سابق.

[14] الرفاعي، عبد الجبار، مقدمة في علم الكلام الجديد (بغداد: مركز دراسات فلسفة الدين، ودار الرفدين، الطبعة الثالثة 2023)، ص 134-135.

في المثقف اليوم