قضايا

مجدي إبراهيم: المرءُ مع مَنْ أحَبَّ

عدد الساعات التي تعيشها مع الله قليلة جداً بالقياس لعدد الساعات التي تعيشها بالغفلة عنه، ثم التردي والنكوص مع تعمّد السّهيان.

لديك مثلاً في يومك كله:  خمسة فروض، ومع كل فرض نوافل من قبل ومن بعد، لو استطعت أن تحافظ على الفروض وكفى، أعددت نفسك بينك وبين نفسك من المجاهدين، ولا تقل أين النوافل والزيادات فضلاً عن رؤية التقصير؟!

لا تقل هذا .. لأنك لا تستطيع أن تفي حق الفرض عليك، وهو أن تؤديه في جماعة، وبحضور، وبحرص على أن يكون نور الصلوات المكتوبة ظاهرٌ عليك.

روى لي أحدهم - والعهدة على الراوي - أن ولياً من أولياء الله دخل مسجداً وقت الصلاة يوماً ما، فوجد المصلين على هيئة خنازير إلا ثلاثة منهم تبيّن له من طريق شهوده أنهم صُلحاء وعارفين.

والإشارة في شهود الولي أن جماعة المُصلين كانوا مجرّد أجساد لا روح فيها ولا حياة، ولا حضور مع الحق وقت الصلاة، بل خالطتهم الغفلة وعمّ أكثرهم الباطل الذي يبطل باطن الصلاة.

إذا كان هذا في المكتوبة، فكيف بغيرها وفي غيرها؟!

ربما يرجع هذا إلى قلة الشغل بالله، وإلى كثرة الغفلة عنه؛ لأننا في الغالب نشتغل بالله أقل ممّا ينبغي ونعطي الكثير لأنفسنا فيما لا ينبغي، فنفوّت عليها حياة جديرة بالحياة الحقيقية في رحاب الله، ومع الله، ومن أجل الله.

كلمة (اشتغل بالله) من أعمق وصايا العارفين عن مشكاة النبوة ميراث النور القديم، لأن الشعل بالله وفي الله هو أسمى ما يضيفه عمل اللطيفة الربانية، وهو بلا شك عملٌ قلبيٌ يقوده التوجّه نحو وحدة القصد واتصال الذات الذاكرة بسر حقيقتها الباقية وسر روحانيتها الدائمة، فالعمل بالله وفي الله يدعم تلك الناحية.

وبما أن العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره، بمعنى أنه لا مأوى ولا مثوى له في الدنيا ولا الآخرة إلا بالله، كانت أهم صفاته: أنه مسكون بالله على الدوام بغير انقطاع.

وكل مسكون بالله ساكن تحت مجاري أقداره. الرضى من علامات سكونه بالله، إذ ذاك يفهم العارف باليقين الذي لا مرية له فيه: أن الله قد أجرى لطفه في حكم قضائه، فمن غلب عليه اللطف وذاق حلاوة الإيمان، هانت عليه أحكام القضاء فمر عليها مرور الكرام. ومن نازع الله في أقداره، وعبس، وضجر، وفتر، وتردى، ولم يذق حلاوة التسليم وبرد الرضى، عوقب من فوره بزيادة الشكوى وقلة الحيلة وفتور الإيمان.

‏قال أحد العارفين واصفاً تلك الحكمة: « فمن آمن بالله، امتحنه وابتلاه، فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم ألبتة، وهذا أصل عظيم في باب الولاية ينبغي للعاقل أن يعرفه » ولذلك قال تعالى: (أحَسِبَ النّاسُ أَن يُترَكوا أَن يَقولوا آمَنّا وَهُم لا يُفتَنونَ).

وحين يكرمك الله بالبلاء، أعقل ما أنت فيه، فإنك في نعيم أختاره الله لك. البلاء الذي هو في الصحة، وفي الأسرة، وفي الأبناء، وفي الأعمال، إذا أنت عقلته وجدته نعمة. واذا توجهت بالحمد به إلى ربك كنت مرفوعاً لديه بأكبر درجات الرفعة. فقط ثق بالله وسلم له الأمر، وأسأله سِعة اليقين.

جعلنا الله وإيّاكم ممّن سكنوا باليقين تحت مَجَاري أحكامه، فعرفوا ألطافه في مجرى قضائه، فحمدوه حمد الشاكرين الأوّابين، أنه سبحانه نعم المولى، ونعم النصير ..

لو أنّ الله - سبحانه - أفاض علينا بأقل القليل من محبته؛ لسلب منا العقول، ولكنه عزّ وجل يعلم أن عقولنا محدودة مرهونة بالدُّون، ففتح أمامها مناشط الدنيا وأغلق بحجبها منافذ محبته إلا لمن يستحقها، ومن هم الذين يستحقونها؟!

أولئك الذين قضوا الساعات الطويلة في الشغل به بغير ملل ولا فتور، سائلين الله ذوق المحبّة، متوسلين بسيد الخلق، صلوات الله وسلامه عليه، وهو الذي قال تعالى عنه (قلّ إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله) فلا محبّة بغير إتباع، وهو صلوات الله وسلامه عليه القائل: (احبُّوا الله لمَا يغذوكم به من نعم).

اللهم قطرة من حبك: تزيل الهم، وتفرِّج الكرب، وتمكّن الوصال.

***

د. مجدي إبراهيم

في المثقف اليوم