قضايا

محمد الربيعي: كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟ (8)

التجربة الهولندية

(لماذا يعتبر النظام التعليمي في هولندا من افضل الانظمة التربوية في العالم؟)

من منا كان يتصور ان دولة صغيرة مثل هولندا ستصبح مصدر الهام للعالم اجمع في مجال التعليم؟ فبفضل تركيزها على تطوير مهارات التفكير النقدي والابداع، وتوفير بيئة تعليمية محفزة ومتنوعة، استطاعت هولندا ان تبني نظاما تعليميا يرقى الى مستوى التحديات العالمية. حقيقية لا مراء فيها ان هولندا هي المكان الذي يتناغم فيه الابتكار والتعليم.

ان هولندا ليست مجرد دولة تتميز بتقدمها في انتاج الاجبان والزهور كما نعرفها، بل هي ايضا دولة صناعية تستثمر بشكل كبير في راس مالها البشري، ايمانا منها بان التعليم هو مفتاح التقدم والازدهار. فمن خلال نظامها التعليمي المتطور، تسعى هولندا الى اعداد اجيال قادرة على مواجهة تحديات المستقبل وبناء مجتمع اكثر عدالة وازدهارا.

في هذه المقالة ضمن سلسلة التجارب العالمية في التعليم، سنتعمق في تفاصيل النظام التعليمي الهولندي، وسنستكشف العوامل التي جعلته من افضل الانظمة التعليمية في العالم. كما سنتطرق الى الاثار الايجابية لهذا النظام على الافراد والمجتمع ككل.

يتميز النظام التعليمي الهولندي، الذي يعتبر من ابرز الانظمة التعليمية عالميا، بتركيزه الشديد على تطوير الفرد بشكل شامل، متجاوزا حدود المعرفة الاكاديمية النمطية. فمن خلال تشجيع العمل الجماعي وحل المشكلات، وتطبيق المعرفة النظرية في مشاريع عملية، وتنمية مهارات التفكير النقدي والابداع، يعزز التعليم الهولندي قدرة الطلاب على التعلم المستقل والتكيف مع متطلبات سوق العمل المتغيرة. كما انه يوفر بيئة تعليمية متنوعة وشاملة تحترم الاختلافات الفردية والثقافية، وترسخ قيم التعاون والتسامح. هذا التكامل بين المعرفة النظرية والمهارات العملية، بالاضافة الى الشراكة الفعالة بين المدرسة والاسرة والمجتمع، يجعل من التعليم الهولندي نموذجا يحتذى به في اعداد اجيال قادرة على مواجهة تحديات المستقبل بثقة واقتدار.

لنتطرق فيما يلي الى ابرز الجوانب التي تجعل التجربة الهولندية من اغنى التجارب التعليمية والتربوية في العالم:

التركيز على التفكير النقدي والابداع:

يمتاز النظام التعليمي الهولندي بتشجيعه القوي على التفكير النقدي والابداع، مما يميزه عن العديد من الانظمة التعليمية الاخرى. ويتحقق ذلك من خلال مجموعة متنوعة من الممارسات التعليمية. فبدلا من الاعتماد على الحفظ والتلقين التقليديين، يشجع النظام الهولندي على التعلم النشط من خلال التجربة والاكتشاف، مما يمكّن الطلاب من تطوير مهارات حل المشكلات واتخاذ القرارات بشكل مستقل. كما يعزز النظام العمل الجماعي والتعاون بين الطلاب، وهو ما يهيئهم للعمل بفعالية في بيئات عمل متعددة الثقافات. وبدلا من تقديم المعلومات بشكل سلبي، يتدرب الطلاب على تحليل المعلومات وتقييمها وتكوين اراءهم الخاصة، مما يعزز قدرتهم على التفكير النقدي والابداعي. على سبيل المثال، قد يطلب من طلاب العلوم تصميم تجربة علمية لحل مشكلة بيئية محلية، او من طلاب الاداب تصميم مشروع فني يعكس قضايا اجتماعية معاصرة. وبهذه الطريقة، لا يقتصر التعليم في هولندا على اكتساب المعرفة النظرية، بل يتجاوز ذلك الى تطوير مهارات حياتية اساسية تمكن الطلاب من الاسهام بفعالية في المجتمع.

تعليم اللغات:

يتميز النظام التعليمي الهولندي بتعليم اللغات الشامل والمبكر، حيث يبدا الطلاب بتعلم اللغات الاجنبية، مثل الانكليزية والالمانية، منذ سن مبكرة كجزء اساسي من مناهجهم الدراسية. هذا النهج المتكامل يجعل الطلاب الهولنديين متحدثين متمكنين للغات متعددة، ويعزز مهاراتهم في التفكير النقدي والابداع، ويساعدهم على فهم الثقافات المختلفة وتقدير التنوع اللغوي والثقافي في العالم. من خلال الربط بين تعلم اللغة وفهم الثقافة وتوفير بيئة تعليمية متنوعة، يتمكن الطلاب الهولنديون من تطوير مهاراتهم اللغوية والمعرفية بشكل متواز، مما يهيئهم لمواجهة تحديات العصر الرقمي والعالمية المتزايدة.

التنوع والمرونة:

يتميز النظام التعليمي الهولندي بمرونته وتنوعه، حيث يوفر مجموعة واسعة من المسارات التعليمية التي تتراوح بين التعليم المهني الذي يركز على التدريب العملي والتطبيقي، والتعليم الاكاديمي الذي يوفر برامج دراسية متعمقة في مختلف المجالات. تشير الاحصائيات الى ان حوالي 60% من الطلاب الهولنديين يختارون المسارات التعليمية المهنية، بينما يختار 40% المسارات الاكاديمية. هذا التنوع يضمن ان كل طالب يمكنه العثور على المسار الذي يناسب ميوله وقدراته. بالاضافة الى ذلك، يشجع النظام على التعلم المستمر طوال الحياة، مما يتيح للطلاب تطوير مهاراتهم ومعارفهم بشكل مستمر، والتكيف مع متطلبات سوق العمل المتغيرة. هذا وتظهر الاحصائيات ان نسبة عالية من البالغين الهولنديين يشاركون في برامج التعليم المستمر، وهو يعكس ثقافة التعلم المستمر السائدة في المجتمع. فعلى سبيل المثال، يمكن للطالب الذي يدرس في مجال الهندسة ان يكمل دراساته العليا في مجال الذكاء الاصطناعي، او ان يتدرب على استخدام احدث التقنيات في مجال تخصصه. هذه المرونة تسمح للطلاب ببناء مسارات مهنية متخصصة وتلبية احتياجات سوق العمل المتغيرة باستمرار.

الاستقلالية والمسؤولية:

يشجع النظام التعليمي الهولندي على تنمية روح الاستقلالية والمسؤولية، حيث يشجع الطلاب على المشاركة الفعالة في عملية التعلم واتخاذ القرارات بشان مسارهم الدراسي. تخيل طالبا هولنديا في المرحلة الثانوية يختار دراسة العلوم الطبيعية لانه مفتون بكيفية عمل الكون. هذا الاختيار الشخصي ليس فقط يعزز حماسه للتعلم، بل يمنحه ايضا القدرة على تصميم مساره الدراسي ليلائم طموحاته المستقبلية. وفي مشاريع مدرسية، يتعاون مجموعة من الطلاب الهولنديين لتصميم تطبيق هاتف ذكي لحل مشكلة تواجه مجتمعهم المحلي. هذا النوع من المشاريع يعلم الطلاب كيفية العمل بشكل تعاوني، واتخاذ القرارات الجماعية، وحل المشكلات بطرق مبتكرة. ولتعزيز الشعور بالمسؤولية، يتحمل الطلاب مسؤولية تنظيم وقتهم وادارة مهامهم الدراسية، مما يهيئهم للحياة الجامعية والعملية. والهدف هو تذكير الطالب الهولندي الذي يتولى مسؤولية تنظيم جدول دراسته وتقديم المشاريع في مواعيدها. هذا النوع من الانضباط الذاتي يجهز الطلاب للحياة الجامعية والعملية، حيث يتعين عليهم ادارة وقتهم ومهامهم بشكل مستقل.

التكنولوجيا في التعليم:

يشهد التعليم الهولندي تطورا ملحوظا بفضل الاستخدام المكثف للتكنولوجيا الحديثة. تصور طالبا هولنديا يستخدم نظارات الواقع الافتراضي لاستكشاف اعماق المحيطات او يصمم مدينة مستقبلية باستخدام برامج التصميم ثلاثي الابعاد. هذه التجارب التفاعلية تجعل التعلم اكثر متعة واثارة، وتحفز الطلاب على الاستكشاف والابتكار. كما تتنوع الادوات التكنولوجية المستخدمة في التعليم الهولندي لتشمل الاجهزة اللوحية والحواسيب المحمولة والبرامج التعليمية التفاعلية ومنصات التعلم الالكتروني. هذه الادوات تسمح للطلاب بالوصول الى كم هائل من المعلومات والمعرفة، والتفاعل مع معلميهم وزملائهم بطرق مبتكرة. بالاضافة الى ذلك، توفر العديد من المؤسسات التعليمية الهولندية خيارات للتعلم عن بعد، مما يجعل التعليم اكثر مرونة ويسهل الوصول اليه. اثبتت التكنولوجيا الحديثة انها اداة قوية لتحسين نتائج التعلم في هولندا، من خلال توفير تجارب تعليمية مخصصة لكل طالب، وتنمية مهاراتهم في التفكير النقدي وحل المشكلات.

التركيز على الصحة النفسية والاجتماعية:

يولي النظام التعليمي الهولندي اهتماما كبيرا بالصحة النفسية والاجتماعية للطلاب، حيث يسعى الى توفير بيئة تعليمية امنة وداعمة تساعدهم على النمو والتطور. يتلقى الطلاب في هولندا دعما نفسيا واجتماعيا متكاملا، بدءا من برامج التوجيه المهني التي تساعدهم على اختيار مساراتهم الدراسية المستقبلية، ووصولا الى خدمات الدعم النفسي التي تقدم لهم المساعدة في التعامل مع الضغوط والتحديات التي قد يواجهونها في حياتهم اليومية. كما يشجع النظام على بناء علاقات ايجابية بين الطلاب والمعلمين، مما يخلق جوا من الثقة والاحترام المتبادل. ولا يقتصر التعليم في هولندا على نقل المعرفة الاكاديمية، بل يشمل ايضا تنمية المهارات الاجتماعية والعاطفية لدى الطلاب. ويسعى النظام الى غرس القيم الاخلاقية والمواطنة الصالحة في نفوس الطلاب، وتشجيعهم على التعاون والعمل الجماعي. ومن خلال ربط الصحة النفسية بالنجاح الاكاديمي، يسعى النظام الى تمكين الطلاب من تحقيق اقصى امكاناتهم.

نظام التقييم:

يتميز نظام التقييم في المدارس الهولندية بمرونته وتركيزه على التطور الفردي للطالب، حيث يعتمد بشكل اساسي على التقييم المستمر طوال العام الدراسي من خلال المهام والواجبات والمشاركة في الحصص والاختبارات القصيرة والمشاريع. وتكمل التقارير التقييمية الدورية والمقابلات مع الطلاب واولياء الامور هذه الصورة الشاملة لتقدم الطالب. هذا النظام، الذي يهدف الى تشجيع التعلم المستمر وتوفير تغذية راجعة مستمرة، يعطي الاولوية للتعاون بين المعلم والطالب ويوفر بيئة تعليمية داعمة تساعد الطلاب على تحقيق اقصى امكاناتهم.

التحديات التي تواجه التعليم الهولندي:

يعاني نظام التعليم الهولندي، رغم مكانته المرموقة، من عدة تحديات. فالتنوع الثقافي واللغوي المتزايد يفرض صعوبات في دمج الطلاب من خلفيات وبلدان مختلفة، وتفاوت المستويات التعليمية بين المدارس، خاصة في المناطق الحضرية والريفية، يمثل تحديا اخر. كما يعاني النظام من نقص في المدرسين المؤهلين، وزيادة الضغط على المدرسين الحاليين بسبب التوقعات العالية وحجم الفصول. بالاضافة الى ذلك، يتطلب التحول الرقمي استثمارات كبيرة وتدريبا مكثفا للمعلمين، بينما تواجه المدارس صعوبة في تلبية احتياجات سوق العمل المتغيرة. ولا يمكن تجاهل التحدي المتزايد المتعلق بصحة الطلاب النفسية، والذي يستدعي اهتماما اكبر من قبل المؤسسات التعليمية.

تسعى الحكومة الهولندية جاهدة لمعالجة هذه التحديات التي تواجه نظامها التعليمي. وتشمل هذه الجهود تطوير برامج مكثفة لدمج الطلاب الوافدين من المهاجرين، وتحديث المناهج الدراسية بشكل مستمر لمواكبة التطورات العالمية، والاستثمار بكثافة في التدريب المهني للمعلمين لضمان جودة التعليم. بالاضافة الى ذلك، تولي الحكومة اهمية كبيرة لتطوير البنية التحتية التكنولوجية في المدارس وتوفير الادوات الرقمية اللازمة للتعليم. كما تعمل على تعزيز التعاون بين المدرسة والاسرة من خلال برامج مشتركة تهدف الى خلق بيئة تعليمية داعمة للطلاب.

باختصار، النظام التعليمي في هولندا هو استثمار في المستقبل. فهو يهدف الى اعداد اجيال من الخريجين المتميزين القادرين على مواجهة تحديات المستقبل. من خلال التركيز على تطوير المهارات الحياتية الاساسية، مثل التفكير النقدي والابداع والتعاون، يضمن النظام الهولندي ان يكون خريجوه مواطنين فعالين وقادرين على الابتكار والاسهام في بناء مجتمعات اكثر ازدهارا. هذا النهج الشامل هو ما يميز النظام الهولندي ويجعله نموذجا يحتذى به في العالم. فبحسب الدراسات الدولية، يحتل الطلاب الهولنديون مراتب متقدمة في اختبارات PISA العالمية، مما يؤكد نجاح هذا النظام في اعداد اجيال من المتفوقين. كما ان نسبة الالتحاق بالتعليم العالي في هولندا مرتفعة، مما يعكس اهتمام المجتمع بالتعليم المستمر.

***

محمد الربيعي

بروفسور ومستشار - جامعة دبلن

 

في المثقف اليوم