قضايا
عبد الإله الياسري: الإحتجاج بالشعر اجتماعياً ووطنياً
أحيي الحضور المستمع لما أقول أحسن تحية. وأشكر للصديق الأستاذ عبدالله فليفل ماتفضل به علىّ من تقديم ذي إضاءة تاريخية مهمة ومفيدة، كما أشكر لمنتدى الثلاثاء الثقافي دعوته إياي، لأتحدث اليكم عن تجربتي الشعرية التي سأقف، باختصار، عند المرحلة الجامعية منها فقط، لضيق الوقت المتاح لي. ولا أريد أن أتحدث اليكم عنها من حيث هي تجربتي، بل أريد أن أتحدث عنها لأنها تكشف الحياة الأدبية، وماكان بينها وبين الحياة الاجتماعية والسياسية من صلة في السبعينيات من القرن الماضي في العراق، فضلاً عن أنها مُعين لمن يود من الباحثين أن يعرف تطوري الشعري من الإحتجاج العاطفي في مراهقتي الى الإحتجاج الفكري في شبابي.. على أية حال قُبلتُ، في كليّة التربية في بغداد في سنة 1968م، كما ذكر الأستاذ فليفل في تقديمه، وكنت في الثامنةَ عشرةَ من عمري. وفي مطلع السنة الدراسية الأولى، كان أساتذة قسم اللغة العربية يستطلعون المواهب الأدبية بين الطلاب الجدد،. وحينما علم، أحد أساتذتي، أنّي أقول الشعر، خفّ إِليّ واستنشدني بعضاً مما عندي، فأنشدته قصيدة لي في رثاء والدتي. أقتطف منها الأبيات الآتية:
أَيا أُمِّي لمَن أَشكو؟ ومَن يَنصِتُ للشَّاكي؟
أَرَى حتَّى العصافيرَ تُجافي اليومَ شبَّاكي
لقد جَفَّتْ أَزاهيري. فيا أَهلاً بأَشواكي
وماإن فرغَت من إنشادها كاملة، حتى بشَّ لها محيّاه، وسُرَّ بها رضاً. كانت هذه القصيدة هي التي عرَّفت أساتذتي بباكورة شعري في الكلية، وجعلتهم يدعونني للمشاركة في احتفالاتها الشعرية. ولما حان موعد الحفل الشعري الأوّل لسنتي الدراسية الأولى، دعيت للمشاركة فيه. ولئن كانت مشاركتي هي الأولى في حفل جامعي، فماكانت هي الأولى في غيره، إذ ألِفت من قبل أن أشارك الشعراء في بعض المحافل النجفية التي تعلمت منها أنّ الخَطابة فنّ، وأنّ الشاعر قد يخيب مطلوبه إذا لم يحسن اختيار ما يلائم جمهوره ؛ لذا فكّرت في أن أختار من شعري ما يلائم البيئة البغدادية المتحضرة، فاخترت قصيدة لي في النسيب أي(الغزل). أذكر لكم منها الأبيات الآتية:
طلعت ليلى ما أحلاها*** سكرى ببهاء محيّاها
يتغنّى الطير بطلعتها*** ويضوع الورد بريّاها
لم تخشَ لصوصاً تتبعها ***حرستها منهم عيناها
حتى أقول:
لم أتمم زهرة عشريني*** وبُليت بشوك أذواها
إلى آخره.....
وعلى الرغم من أن هذه القصيدة لم تكن ذات حظ عالٍ من الجودة والإبداع، غير أنها قد اشتهرت في بغداد. وما كانت لِتشتهرَ بينهم لولا حلاوة وزنها أي موسيقاها. ولا أزعم أنّ البيئة البغداديّة كانت غير عميقة فنياً، بل على العكس مما يظهر.. ولقد لقيت فيها من بواعث التطور مالم ألقَ مثله في غيرها؛ ولاسيما الحرية الفنية التي جعلتني انطلق بشعري كلّ الإنطلاق، مصوّرا نفسي كما هي من دون أن أتحفظ أو أحترز؛ لأنّي اقتنعت، من ناحية، بأن الإنطلاق الفنيّ هو من حقّ الشاعر، ومن حقّ الفنّ عليه كذلك؛ واقتنعت، من ناحية أخرى، بأن خروج الشاعر على السلطات القمعية في العراق سواء أكانت رسمية أم غير رسمية لهو الفضيلة بعينها. فلأحتجَّ إذن عليها احتجاجا لايحيد عن الخير. واحتججت بالشعر فعلاً. وكان شعري الاحتجاجي خلال دراستي الجامعية على قسمين:شعرغزليّ حسّي وشعرسياسيّ وطنيّ.
أولاً شعري الغزلي الحسي:
لم أَنِ في أَنْ تمردت على سلطة المجتمع المهيمنة على العلاقة بين الرجل والمرأة، وعلى مفاهيمها المصبوغة بالطلاء الديني والعشائري. وبدأ تمرّدي يطرح شعراً ذاتياً مختلفاً عن الأشعار الذاتية المطروحة في زمني. ويظهر هذا الإختلاف في أني جهرت بمشكلة "الجنس" التي هي من أكبر مشاكلنا المسكوت عنها ؛ إذ رأيت الغريزة الجنسية ليست خارجة عن كينونتنا البشرية. ولا مفرّ لنا من تلبية ندائها. فإذا كانت هي فينا، ونحن منها، فلماذا إذن أتحرج من أن أذكر مايدلّ عليها في شعري؛ وقد ذكر الله ألفاظها صريحة في القرآن، بل بيّن حتى كيفية المجامعة وتوقيتها. ولم أكد أخجل بعد هذا كله من أن أتناول موضوع الجنس بكل تفاصيله في شعري. ومن الأمثلة عليه قولي:
رغبة الجنس ومن يوقفها*** أودع الله بها سر البقا
يالها من سبب أوجدنا*** كل مخلوق بها قد خلقا
أو قولي:
قدْ تَعَتَّقتِ خَمرَة *** وتَصفّيْتِ سُكَّرا
فوْق ساقيْكِ جَنَّة ٌ*** وجحيمٌ بها جَرَى
ونَبيذٌعلى فم ٍ*** قبِّليني لأَسْكَرا
وَلأَذ ُقْ منكِ مَرَّة ً*** مانسمِّيهِ مُنْكَرا
أوقولي في الكبت الأنثوي:
صارحِيْنيْ بالذي فيكِ بصمتٍ يتألمْ
هاهوَ الجنس بعينيكِ صريحاً قدْ تكلمْ
قبِّلِيْنيْ قبْلةً أبْرَدُها نارُ جَهَنمْ
أو قولي في الكبت الذكوري:
أرسم أنثى. أصرخ: ظمئٌ لشفاهك ياعطشى
مائي ظمئ ضوئى ظمئ طيني فارتشفيني
فأنا أتنفس من شفتيك نسائم أفراحي المقتولة.
وقد يبدو شعري من الأمثلة المتقدمة حسيّاً تغلب عليه الرغبة الجنسية تصريحاً وتلميحاً ؛ لكن من يقرأه كله بإزاء العلاقة بين الرجل والمرأة يجده مختلفاً عن هذا المفهوم الضيّق في شيئين:أولهما في نظرتي للمرأة، وثانيهما في نظرتي للرجل. أما نظرتي للمرأة، فإني كنت أراها نصفي الإنساني الآخر في الرغبة الجنسية. قلت في بعض ذلك:
شاركيني يا ابنة الكبت الهوى*** ولنطفئ به فينا الحُرقا
وليقل عنك وعني جاهل *** خالفا العرف وساءا خلقا
هي إذن ليست شريكتي في الجنس وحسب، وانما شريكتي في الإحتجاج على التخلف الاجتماعي أيضاً. ولطالما وقفت مبهوراً حِيالَ جلالِ أنثوتها وجمالِها. قلت:
وتعري لتريني* ماتخبى بالتعري
لأرى الله بعينيّ جليّاً فيك يسري
ولعلّ هذا المثال الأنثوي الأرضيّ الذي لم أتطلع إلى أكمل منه فيما وراء الطبيعة هو الذي صرفني عن أن أتصنّع التعفّف؛ لأنّ العفة ليست غاية بذاتها؛ وانما هي وسيلة لشئ آخر. قلت فيها:
أتخفين الهوى عبثاً بثوب *** وهل يخفى حريق بالثيابِ؟
وتبدين الوقار بخفض صوت ***وفي عينيك زلزال الشباب
تعالَيْ جَرِّبِيْ يوماً سمائي*** لتُطبِقَ فوقَ سهلكِ والهضابِ
هذه هي بايجاز نظرتي للمرأة التي عبرت عنها، بلغة شعرية مجازية في الجزء الثاني من ديواني. وأما نظرتي للرجل في مجتمعي، فإني رأيته مزدوج السلوك بإزاء المرأة. فهو من جانب يفرض الحصانة عليها، ويطالبها بالتعفف الجنسيّ ويبيح من جانب آخر لنفسه الحرية الجنسية. ولقد جاهدت أنا نفسي هذه الإزدواجية الذكورية في سلوكي لكي تتقوم شخصيتي. وتتجلّى تلك المجاهدة واضحة في قصيدتي"سيدة الليل" التي تناولت بمضمونها مشكلة البِغاء بنظرة مغايرة للنظرة الذكورية السائدة، لا لتبرير فعل البغي أي (الزانية)، وانما لإدانة فعل شريكها الرجل المسكوت عنه اجتماعياً. قلت فيها:
سيَّدةَ الليلِ احكمي *** تاجُكِ تَحتَ المِحزَمِ
جسْمُكِ باللَّحم ِ يُنَادِيْ الناسَ لا بالكَلِمِ
مُسْتَهْزِئاً بالعُرْفِ، بالقانونِ، بالمُحَرَّم
لرَفْعِ ساقيْكِ انحَنَتْ *** رؤوسُ أهْل ِالشَّمَمِ
تعرض البغي في هذه الأبيات مفاتن جسدها لإغراء الرجل، وهو لايكاد يميّز الحُب من الجنس؛ إذ تصبح ماهية المرأة غير مهمة عنده. انما المهم هو جسدها وكيفية امتلاكه لتحقيق لذته الجنسية. هذا المفهوم المكتسب اجتماعياً يدفعه لتبجيل البغي مؤقتاً والخضوع لها تمهيدا للقضاء على شهوته كما قد تبيّن في الأبيات السابقة. وقلت فيها أيضاً:
مملكة اللّذات طوع أمرك المحترمِ
لافَرْقَ في الزوَّارِ بَيْنَ كافرٍ ومُسْلِمِ
فخيْرُهمْ كَشرِّهِمْ***وُجُوْدُهُم ْ كالعدَمِ
سَاوَيْتِهِمْ كأنَّكِ الموْتُ، وهُمْ كالرَّمَم
حَيْثُ الزِّنَى الأعْمَقُ بالأرواح ِلا بالأجْسُمِ
إذا كانت النساء تتساوى عند الزاني في مفهومه اللذائذي، فإنّ الرجال يتساوون عند الزانية في مفهومها التجاري. ولئن تنجس بالبِغاء جسدها، فان الرجال الزناة قد تنجست به أرواحهم قبل أجسادهم، لأنهم هم المسؤولون عن النساء أخلاقياً في المجتمع الذكوري. ولا ريب في أن نجاسة الروح هي أشد من نجاسة الجسد؛ لأن قيمة الإنسان تكمن في مضمونه لا في جسده. وبهذا يكون فعل الرجل في البغاء أخطر من فعل المرأة. وعلى الرغم من خطورة فعله، فانه يرى المرأة هي المسؤولة عن إثمه لا هو. لماذا؟ لأنها هي الأضعف وهو الأقوى كما يظهر ذلك واضحاً في قولي:
سَيِّدَتي!نَحنُ قَتَلناكِ، ولَمْ نُتَّهمِ
ألحَقُّ في التاريخ ِلِلغالِبِ، لا المُنْهَزِمِ
وقلت على لسانه هو:
ويَسْألُ الإلهَ أنْ*** تَدْخلَ في جَهَنَّمِ
لأنَّها قدْ أثِمَتْ***وأنَّهُ لمْ يَأثمِ
هذا التناقض في المفهوم بين ما يفعله الرجل الزاني وبين مايقوله عن شريكته الزانية من سوء، جعلني أحتج شعريا على القيم السائدة في مجتمعي وأرفضها داعياً إلى التغيير بدءاً بثورتي أنا على شخصيتي الذكوريّة، وانتهاء بتثوير البغي نفسها على سلطة الذكورة في المجتمع. قلت فيما يتعلق بي أنا:
سَيِّدتي! لوْ تَعْلَمينَ مِنْ شَبابٍ سأمي
كرهتُ عشرينيَ حتى صرتُ صنوَ الهرِمِ
مُنتفضاً للعدل ِوالإنْسان ِعبْرَ الأُمَمِ
وثائِرا ًمَعَ المَسِيحِ. رافِضا ًأنْ تُرْجمي
وقلت فيما يتعلّق بها هي:
سَيِّدَةَ الليْلِ احكمي***قدْ آنَ أنْ تَنْتَقِمي
دُوْسِيْ عَلَى وَهْمِ الرجوْلاتِ وزَيْفِ الهمَمِ
وكلِّ منْ داسَ على***صَدرِكِ كالثوْرِ العَمِي
إعتقليهمْ واحداً ***فواحداً كالغَنَمِ
وعَلِّميهمْ ثورةَ الحقِّ، وَوَعْيَ المُلْهَمِ
وكَيْفَ تَكسرُ الحديدَ هِمَّةُ المُقتحِمِ
وبعد ذكر هذه الأمثلة الموجزة جدا من شعري في المرأة، استطيع أن أقول الآن إن هذا الشعر، قبيل العقد الثاني من عمري وفي أثناء المراهقة، هو مرآة نفسي، فيما نظرت به إلى المرأة من خلال علاقتي بها، وفيما نظرت به الى الرجل من خلال علاقته بها. وفي كلتا النظرتين هو شعر احتجاج على السيطرة الذكورية في مجتمعي. ومهما يكن الإحتجاج فيه؛ فانه ليس من أحبّ شعري عندي الآن؛ لأنني لم أحبب المرأة بعقلي ولا بقلبي في أكثره؛ وإنما أحببتها بحسي الشهواني. ولأنني لم أصف حالتها الداخلية في أكثره، وإنما وصفت صورتها الخارجية ورغبتي الجنسية فيها. وما إن جاوزت العقد الثاني من عمري حتى تخطيت هذه النظرة بحيث صار شعري الغزلي يدور كله أو أكثره حول الجمال المعنوى للمرأة لا المادي. وصار جمالها مرتبطاً عندي بحالتها الفكرية والنفسية لا البدنية.. وأكتفي، لضيق الوقت، ببعض الأمثلة دليلا على ماأزعم. ومنها قولي:
أَسمعها. تقولُ ليْ عيونُها:*** فكَّ قيودي. مَزِّقِ الأَسجافْ
وفَجرِ الأنهارَ في صحرائِنا*** حتَّى متَى يَحكمُنا الجفافْ؟
وقولي:
أَخرجيني من جنانٍ أَغلقتْ***كوَّةَ الضوءِ علَى كلِّ فَطينِ
خوَّفوكِ الأَهلُ منِّي وأَنا***منكِ باسم الدينِ أَهلي خوَّفوني
وقولي لها:
أَأَنتِ الإلهْ؟ يُميتُ، ويَبعثْ
سأُعلنُ رغم ذكوريّةِ الأنبياءْ،
سأُعلنُ أنَّ الإلهَ مؤنّثْ.
وأنّكِ كلِّي. وفيكِ اندمجتُ، وفيَّ اندمجتِ
أَأَنتِ أَنا أَمْ أَنا هو أَنتِ؟
تختفي في هذه الأمثلة الشعرية الثلاثة صفات المرأة الجسمانية تماما، ولايكاد يظهر منها غير فكرها الذي يكمن فيه جوهرها الإنساني. الإنسانيّ. وبتأكيدي على مضمونها دون شكلها تكون رؤيتي لها قد تغيرت في شعري تغيراً نوعياٍ. فأنا لم أعد أنظر إليها كما كنت بالأمس، وانما صرت انظر اليها نظرة إنسان يعيش في عصره في القرن الواحد والعشرين. أريد لها من الحرية والكرامة والحقوق مثل ماأريد لنفسي. كنت أجهر بهذا الرأي في العراق، وكان الناس يسخطون عليّ كل السخط، ثم شاءت الظروف السياسية في العراق أن تزيد على هذا السخط الإجتماعي سخطاً أشد منه وأخطر. أقصد السخط الحكومي..
ثانياً – شعري السياسي الوطني:
ظننت أني قد تحررت من قيدي السلطة الدينية والسلطة العشائرية حين أقمت طالباً جامعياً في بغداد المنفتحة اجتماعياً على الإختلافات العراقية بكل أشكالها. وهذا ماجعلني أتغنّى بها طرباً. مثل قولي: لالاوعينيك يابغداد ماضحكتْ*صحراء عمري ولا مسّ الندى ثمري كما أني ظننت أن طريق الحرية الفنيّة قد خلت لي للتعبيرعما يختلج في صدري، ولكن الأمر لم يكن كما ظننتت؛ إذ انضاف قيد سياسيّ جديد الى القيدين السابقين حين استولى حزب (النظام السابق) على السلطة في العراق في سنة 1968، وشرع يدير دفّة الثقافة والتعليم على هواه،، فألغى، مثلاً، كليتنا كلية التربية وألحقها بكلية الآداب، لإيقاف المد السياسيّ المعارض له فيها، واستبدل اأساتذتنا اأعضاء اللجنة الثقافية في الكلية بطلاب حزبيين يمثلونه ولايمثلون الثقافة. ولا أريد أن أستطرد هنا في ذكر تلك السلطة التي حكمت العراق خمساً وثلاثين سنة استطرادا مملا، ولا أن أعيد ماقيل فيها بعد سقوطها ولكن الشئ الذي أريد أن أقوله ؛ هو أنها حرفت الشعر العراقي عن مساره الفني، وأمالته عن الصدق والجمال إلا ماقلّ منه ؛ إذ أمسى جلّ الشعراء العراقيين مقيدين بأهدافها السياسية خوفا أو طمعا. ولقد إضطرّني هذا الإنحراف الشعريّ إلى أن أخرج عليه رافضاً أن أنافق ساتراً احتجاجي بقلبي، ومظهراً خلافه بلساني. ولئن تزعزعت أحلامي بالحرية ؛ فقد ترسخت قدمي في طريق الإحتجاج ضد القمع على الرغم من وحدتي واغترابي في وطني ؛ ولعل قصيدتي" الضياع"التي أنشدتها في أحد المهرجانات الشعرية في الكلية في سنة 1969م، قد كشفت كثيرا مما كنت أُعاني. ومنها هذه الأبيات:
مَلَّتْ من النَّغمِ المحزونِ ناياتي**وأَتعبتْ فَسَ الأَحزانِ آهاتي
أُناغمُ الجرفَ والأَقدارُ قد سحقتْ*منِّي الشراعَ وهَدَّ الموجُ مرساتي
وأَقتفي الشَّمسَ والأَشباحُ قافلتي***ودمعةُ الشَّعبِ يابغدادُ راياتي
عندما استمع الجمهور الجامعي إليّ وأنا أنشد هذه االقصيدة في الكلية، انقلبت صورتي عنده، من شاعر طرِبٍ غزِلٍ إلى شاعر حزِنٍ ضجِرٍ؛ وكيفما يرَني الجمهور، فإن أقلّ ماتدلّ عليه هذه القصيدة التائية شيئان: أولهما أن المحبوبة فيها لم تعد امرأة مثل ليلى التي ورد اسمها في قصيدتي المذكورة آنفاً؛ وانما هي مدينة اسمها بغداد. وقد استعملتها في معناها المجازي لا الحقيقي لتشمل العراق كله. وثانيهما أن عالمي الذاتي قد امتزج بعالمها الموضوعي حتى صرنا في الحزن واحداً. ومن هنا يمكن القول أن معاناتي الظاهرة في أغلب ابيات هذه القصيدة، هي في دلالتها العميقة تمهيد لمعاناتي
الوطنية التي ستظهر في قصائدي اللاحقات تلميحاً مرّة وتصريحاً أخرى، وباشكال مختلفة. ومما يدل على تلك المعاناة الوطنية تلميحاً
قولي:
بغدادُ ياظمأَ السمَّارِ بيْ ظماٌ***الى البكاءِ وبيْ شكوَى من السمرِ
إنَّا حزينانِ ماغنَّتْ ربابتُنا***إلاَّ بحشرجةٍ من ثغرِ مُحتضِرِ
ولازوارقُنا عبَّتْ مُهلِّلَةً***إلاَّ وأَفزعَها طيفٌ من الخطرِ
خلِّي الحكايةَ سكِّيناً تجزَّ بنا***وزغردي، فغداً لابدَّ من مطرِ
ومما يدل على تلك المعاناة الوطنية تصريحاً قولي :
بلاديَ أَذوَى صَرخةَ الفجرِ صمتُها**لوَى شمسَها ليلٌ، وأَطفأَها نهبُ
بلادي حبلى. راعها النزف. طفلة*** تضيع. نبي دربه القتل والصلب
وكلّما ضيّق الحزب الحاكم الخناق على الحياة في العراق، واشتدّت استهانته بكرامة الإنسان وقيمته، تحرّقت إلى الإحتجاج شعريّاً، وتهيأت للبذل من أجل الحق، ومما يدل على معنى ذلك قولي:
إِذا أَنا لم أُحرَقْ ومثليَ صاحبيْ*فمَنْ ذا يُضئُ الدَّربَ إِنْ أَظلمَ الدَّربُ؟
وقد مَلَّني صَبري. أُريدُ جنازةً***لحُبِّيَ، أَو شمساً يُغنِّي لها الشَّعبُ
أنا بيت شعر للجياع تخافني*** زبانية الوالي وتخشاني الكتب
لقد تسلط الحزب الحاكم على منابع الثقافة الجامعية كل التسلط، وعبث مسؤولوه بالحركة الأدبية شرّ عبث حتى خمدت شعلة الإبداع الأدبي في كلية الآداب. وما إن شاع خبر خمودها في الصحافة الحكومية في سنة1971 حتى بذل عميد الكلية ورئيس "الإتحاد الوطنيّ لطلبة العراق"وأتباعهما كل مالديهم من جهد لإحياء حفل شعري يثبتون فيه لذوي الشأن الثقافي في الحكومة خلاف ماشاع في الصحافة عن الأدب في كلية الآداب. ولعل استماتة أعضاء "اللجنة الثقافية"في إنجاح الحفل في الكلية، جعلتهم يتناسون مابيني وبينهم من صد واعراض، ويطلبون إليّ أن أشارك في ذلك الحفل الشعري الكبير. وشاركت فيه فعلاً بقصيدتي "قافلة الأحزان"التي كان مطلعها:
حملتُ شراعَ الموتِ في صمتِ آلامي*وأَرضعتُ من ثدي التباريحِ أَعوامي
ولم يخطر في بالي أن أرضي بقصيدتي رئيس الجمهورية الذي حضر الحفل نيابة عنه الفريق صالح مهدي عماش، ، ولا أن أرضي كبار مسؤولي الدولة والجامعة الحاضرين، ؛ وانما كنت أريد أن أرضي ضميري ووجداني لاغير. وما إن فرغت من حزني الخاص في البيت الأول من القصيدة، حتى اتسع ليعم حزن الناس كلها في البيت الثاني بقولي:
حملت دموع الأرض في جفن لوعتي*وخضبت في جرح الملايين أنغامي
ثم ختمت القصيدة بالبيت الآتي:
أَنا المغرمُ الهيمانُ شعبيْ حبيبتيْ*وأَنفاسُه لحنيْ، وعيناه إِلهامي
كان البيت الثاني والبيت الاخير في القصيدة صريحين في كشف مذهبي الذي جاوز البعد القومي الضيق ؛ إلى البعد الإنساني الأوسع. ومابين البيتين المذكورين(الثاني والأخير) كانت هناك أبيات شديدة النقد قد اغتاظ لسماعها ممثلو السلطة من الحاضرين، ولاسيما استاذي عميد الكلية الذي لم يقتدرعلى أن يكظم غيظه ضدي أمام الجمهور، فقال ماقال. لقد ألمحت محتجاً بهذه القصيدة إلى أهم الأشياء المسكوت عنها في المحافل الشعرية:ألمحت احتجاجاً إلى التفاوت الطبقي في ظل سلطة سياسية تدعو إلى مبدأ الإشتراكية دون أن تعمل به، حين قلت:
فذي دجلةٌ تَرغُو، وتلكَ حدائقيْ***تَجفُّ، وغصني يَلتويْ وردُه ظامي
وذا السنبل النامي وذلك منجلي * يحنّ إلى طيف من السنبل النامي
وألمحت احتجاجا إلى قمع السلطة للمثقفين الأحرار وهي تدعو إلى مبدأ الحرية؛ إذ قلت في عدم القدرة على الكلام:
خذي الحزنَ من عَينيَّ يَقصصْ حكايتي*ويُنبئْكِ كيف الريحُ أَلوتْب أَعلامي
وألمحت احتجاجا إلى أن العراق البلد الزراعي أخذ يتصحر إهمالاً وبدأ المواطن يُذل جوعا في دولة نفطية. قلت في ذلك:
أَنا القريَّةُ الخضراءُ قحطٌ أَذلَّني*فأَطفأتُ فانوسي وأَخفيتُ إِكرامي
وألمحت إلى موضوعات احتجاجية أخرى لم يتسع الوقت لذكرها. وقد يغض الحاكم الطرف عن التلميحات في القصيدة بسوء الأوضاع الاجتماعية والثقافية والزراعية وغيرها ؛ ولكن لن يغض الطرف عن التلميح بالثورة عليه احتجاجا حين طلبت من الجوع أن
يأخذ قمحه من دميْ لا من يدي بقولي:
تعال وخذ ياجوع قمحك من دمي *ودعني أمت وحدي على رمح آلامي
وإذا كان ذوالحكم أعجز من أن يصبر على المعنى المجازي ضده، أتظنه سيصبر على المعنى الحقيقي في وصف معاناة الشعب تحت قيادته بقولي:
أَنا قصَّةُ الجوعِ العراقيِّ. أَختبيْ**بضحكتيَ البلهاءِ، أَقتاتُ أَسقامي
أَنا البلدُ المنكودُ. أَتربني الأَسَى**وأَفزَعَني طيفي وأَشباحُ أَيَّامي
لقد أغضبت الحكومة بهذه القصيدة حقاً. وسرّ غضبها يكمن في أني أذعتها على الملأ وأنا حر طليق، ولم أذعها ضمن شروط العبودية وقيودها في العراق؛ إذ الشاعر بمفهوم الحكومة يتضمن التبعية لها، حيث سلطتها هي فوق سلطة الإنسان. وهكذا واجهت بعد إلقاء هذه القصيدة سلطة تساوي بين الشاعر والسلعة الإستهلاكية. وعندما فشلت تلك السلطة في أن تجعلني أداة مفيدة لها، لم تفكر في سبب
فشلها؛ وانما اتهمتني وأدانتني ونفتني وهي تحسبني سأندم حين
أتجرّع كأس الموت على يدها. ولم تحسب أن الموت الحقيقي للشاعر هو في جبنه حين يستسلم خاضعا للحكومة المستبدة، وإن منحته امتيازات ومكافآت، وبدا موظفا مسيطرا في مؤسساتها الثقافية، وشعره مسيطراً على الساحة الأدبية. إنّ الموت بالاحتجاج على الاستبداد من أجل الحق والعدل والجمال ليس موتاً في دلالته العميقة، وإنما هو إنتصار لجوهر الإنسان في الحياة ولقيمته وكرامته. .
***
بقلم عبد الإله الياسري
....................
* (آُلقيت هذه المحاضرة في"منتدى الثلاثاء الثقافي"بولاية أونتاريو بكندا،في اليوم الخامس عشر من شهر تشرين الأول/إكتوبر لسنة ٢٠٢٤م.ودونكم نصها)