قضايا
عدنان عويّد: مقاربات عقلانيّة في الانتماء العربي
سؤال مشروع يطرح نفسه علينا اليوم ونحن نعيش حالات عصيبة من فقدان الهويّة، بسبب مواقف ايديولوجيّة صماء مغلقة، أو بسبب عواطف جياشة تتحكم فيها رؤى سياسيّة تدفعنا لنكران الذات والتمسك بانتسابات تعود لجذور ثقافيّة لا تخلوا من البعد الأيديولوجي، على حساب انتسابات أعمق تاريخيّاً وأكثر أصالة تشكل القاع الحضاري الذي ننتمي إليه.
من هذا المنطلق دعونا نعود للنظر في ذاتنا، والبحث عن حقيقة وجودنا وانتمائنا كعرب، وذك من خلال طرحنا السؤال المشروع اليوم وهو التالي:
هل نحن ننتمي للحضارة العربيّة أم لحضارة دينيّة مسيحيّة كانت أم إسلاميّة؟.
لنتعرف بداية على معنى الحضارة؟.
الحضارة هي جملة المكونات المادية والروحيّة والقيميّة التي تعبر عن حياة مجتمع من المجتمعات أو أمّة من الأمم، كونتها تاريخيّاً هذه المجتمعات أو الأمم التي عاشت على أرض مشتركة، لها طبيعتها الجغرافيّة والمناخيّة التي تفرض تأثيراتها البيولوجيّة والنفسيّة والإنتاجيّة على هذه المجموعة البشريّة القائمة والمستقرة على هذه الأرض منذ لآلاف السنين، الأمر الذي أوجد لهذه الجماعة أو تلك تاريخاً مشتركاً، مثلما أصبح لها عبر السياق التاريخ لهذا الحياة المعيشيّة المشتركة تاريخيّاً علاقات مشتركة.. لغة وآمال وآلام ومصالح ماديّة ومعنويّة متمايزة عن غيرها من سمات وخصائص الحضارات الأخرى التي تأثرت بها أو أثرت فيها هي. هذا ويحدد حالة تمايز ونوعيّة سماتها وخصائص هذه الحضارة أوتلك، طبيعة العلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والخلقيّة الفاعلة في بنية هذه الحضارة. والحضارة تبدأ إرهاصاتها الأوليّة حيث ينتهي الاضطراب والقلق في حياة شعب من الشعوب، ويبدأ استقرار هذا الشعب في بيئته الجغرافيّة، فإذا ما أمِّنَ الإنسان على وجوده ومارس نشاطه الحياتي لإنتاج خيراته الماديّة والروحيّة، ستتحرر في نفسه دائماً دوافع التطلع نحو تنمية وتطوير ذاته وبلورة هويتها، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعيّة والاجتماعيّة والروحيّة والابداعيّة لدى أبناء هذه الحضارة من استنهاضهم بشكل مستمر للمضيّ قدماً في طريق فهم الحياة وإغناء حضارتهم فيها.
إذاً إن الحضارة عبر سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين، لا يمكن حصرها في الجانب الماديّ فقط كالمباني والقلاع والقصور، أو اختزالها في أنماطٍ سياسيّة كالإمبراطوريات والأسر الحاكمة والدول والطوائف والمذاهب فحسب، بل وبما أنتجه أبناء هذه الحضارة أيضاً من قيم روحيّة وفكريّة وأدبيّة وفنيّة وفلسفيّة، والأهم هنا برأيي إنتاج تلك المعطيات القانونيّة التي تسمح بتحقيق العيش المشترك بين المكونات الاجتماعيّة لهذه الحضارة أو تلك، على المستويات الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعية والثقافيّة، تبين بالضرورة درجة رقيّ هذه الحضارة أو تخلفها. فالحضارة مثلاً التي وصلت إلى تحقيق دولة القانون والمؤسسات وتداول السلطة والمواطنة واحترم الرأي والرأي الآخر، والاعتراف بدور ومكانة المرأة. هي غير الحضارة التي لم تزل تعيش حالة العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب، والتي لم يزل مفهوم الدولة الحديثة (دولة القانون) وكل مفرداتها غائباً حتى ولو تشكلت لديها دول وأصبح لها أعلام ومؤسسات ودساتير وبرلمانات.
أما مفهوم الدين: فهو شكل من أشكال الوعي البشري، تحدده منظومة متسقة إلى حد كبير من التصورات والأمزجة والأفعال، في الوقت الذي تشكل فيه هذه التصورات والأمزجة والرموز والأمزجة أبعاداً ميثيولوجيّة في البنية الفكريّة والعقيديّة الدينيّة، والتي غالباً ما تتحول إلى أيديولوجيا تربط الإنسان وعالمه بالمطلق المتعالي (يهوه – الرب – الله)، على مستوى الديانات السماويّة، أو بشخصيّة محددة أنتجت هذا الدين على المستوى الوضعي كـ(بوذا وكنفيشيوس) على سبيل المثال لا الحصر. وللدين في طبيعته عموماً، جذور معرفيّة واجتماعيّة. ففي جذوره المعرفيّة تكمن رؤى وأفكار معرفة الواقع وتفسير تشكله وحركته وفق رؤى متعالية على الواقع ومفارقة له. أما على مستوى الجذور الاجتماعيّة، التي تشكل جملة المعطيات الموضعيّة للحياة الاجتماعيّة، التي غالباً ما تُسْتُوعًبُ أيضاً من قبل المتدينين استيعاباً غيبيّاَ أو أيديولوجيّاً مغلقاً غير قابل في بنيته الفكريّة على الالغاء أو التعديل أو المراجعة. بل وكثيرا ما دخلت الخرافة والأسطورة في تفسير علاقات الناس الاجتماعيّة في مراحل تاريخيّة سابقة ولم تزل بقاياها حاضرة لدى الشعوب المنتمية لهذا الدين أو ذاك.(1).
نعود لسؤالنا المشروع لأي ننتمي نحن العرب للحضارة العربيّة.. أم للدين.. أم للحضارتين معا؟. وعلى هذه، علينا أن نتعرف على سمات وخصائص هاتين الحضارتين ومعطياتها.
أولاً: الحضارة العربيّة: بالرغم من وجود من يقرر هناك، بأن الحضارة العربيّة هي حضارة القبائل العربيّة التي انتشرت في صحراء الجزيرة العربيّة، وهذا الاقرار يفتقد برأيي إلى البحث العلميّ والتقصي التاريخي الدقيق والعقلاني لدوافع هذه الآراء، في مسألة تحديد من هم العرب وأين انتشروا.؟. وبناءً على هذا الإقرار من قبل بعض الباحثين بأن العرب هم تلك القبائل العربيّة المنتشرة في الجزيرة العربيّة قبل الإسلام، فإن هذا التحديد غالباً ما يسيئ للعرب وحضارتهم، بحيث تتجلى منتجات هذه الحضارة البدويّة فيما قدمه هؤلاء البدو من لغة وشعر وفروسيّة وغزو وتعصب للقبيلة وغير ذلك من معطيات وقيم الحياة البدويّة. لذلك هذا ما يساهم في تشوه العرب حضاريّا، علماً أن الحركات الشعوبيّة في تاريخ الدولة العربيّة الإسلاميّة، قد لعبت على هذه الآراء منذ بدء انتشار العرب وتداخلهم مع الحضارات الأخرى بفعل ما سمي الفتوحات الإسلاميّة، حيث راح العديد من الكتاب والمفكرين والأدباء ممن ينتمون للحضارات الأخرى وخاصة الفارسيّة منها، يعملون على تشويه العرب وإظهار ضعف انتمائهم الحضاري وتردي قيمهم. وهذه هي النظرة الشعوبيّة التي مورست ضد العرب في تاريخ الدولة الإسلاميّة في مراحل ضعفها.
أما حقيقة العرب وحضارتهم، فتكمن أيضا وهذا المهم برأيي في الشعوب العربيّة التي انتشرت تاريخيّاً أيضاً في بلاد المغرب وسورية والعراق بفعل الهجرات التي عرفت بـ(الساميّة) والتي شكلت في بيئتها الجغرافية التي هاجرت إليها مكونات حضارة متقدمة في معطياتها الماديّة والفكريّة، جاء الإسلام فيما بعد ليؤكد هويتها العربيّة، فالقبائل العربيّة التي قطنت شبه الجزيرة العربيّة وهاجرت مع الفتوحات وامتزجت بالشعوب العربيّة الأصل المهاجرة سابقاً إلى بلاد الشام والعراق ومصر وبلاد المغرب. استطاعت أن تؤسس قبل قدوم الإسلام، ومنذ ما قبل الميلاد تشكيلات حضاريّة عريقة كما بينت أعلاه، ربما اتسمت هذه التشكيلات الحضاريّة بسمات خاصة دلّت على كل مكوّن من مكوناتها، كالأشوريّن والفينيقيّن والآراميّن والكنعانيّن والبابليين وغيرهم من المهاجرين ماقبل الميلاد الذين انتشروا في بلاد الرافين وشمال أفريقيا، إلا أن مجموع هذه التشكيلات الحضاريّة استطاعت فيما بعد أن تفرض نفسها تاريخيّاً كحضارة واحدة هي الحضارة العربيّة. التي قدمت للعالم شيات كثيرة، إن كان على المستوى المادي ممثلاً بالبناء المعماري والتقدم الصناعي الحرفي والزراعي في ذلك الوقت، أو على المستوى الثقافيّ والحقوقيّ، حيث قدمت هذه الحضارات أول أبجدية في التاريخ وأول قانون تشريعي. وعلى المستوى السياسي، حيث تشكلت دول لها حكوماتها ونظامها الإداري وبنيتها القانونيّة.. إلخ.
أما بالنسبة لـ"لحضارة الإسلاميّة" وهي الأكثر حضوراً وتأثيراً في مجريات حياة أبناء هذه الحضارة العربيّة عموماً وبكل ما احتوته من مكونات اجتماعيّة ودينية وثقافية، فهي الحضارة التي تشكلت مع ظهور الدعوة الإسلاميّة، وما حملته هذه الدعوة من رؤى توحيديّة، وقيم إنسانيّة نبيلة كالدعوة إلى العلم والمساواة وحريّة الرأي وغير ذلك. إلا أن هذه الدعوة جاءت (أولاً) لقبائل الجزيرة العربيّة، حيث شكلت قيمها البدويّة الأساس القيمي والأخلاقي والثقافي. إن كان بالنسبة لتأثرها بقيم الأحناف أو الصابئة أواليهوديّة أوالمسيحيّة، أو تأثرها بقيم الحضارات الأخرى التي انتشر فيها الإسلام تحت مظلة الفتوحات، كالحضارة الفارسية والهندية والرومانية واليونانية.
على العموم نستطيع القول: إن الحضارة الإسلاميّة قدمت على المستوى الماديّ الكثير من الجوامع، وفنون الأرابيسك والخط العربي، أما بالنسبة للجانب الفلسفيّ فقد قدم الفلاسفة العرب والمسلمين الكثير من المعارف العلميّة والعقلانيّة، ولكن المحزن أن كل ما قدموه في هذا الاتجاه (الفلسفة أو الأدب أو الفن) وخاصة ما يحمل البعد العقلانيّ منه، قد حُورب وهُمش أو أُقصي من الساحة الفكريّة والعمليّة فيما بعد من قبل القوى السلفيّة الأصوليّة الامتثاليّة، التي حاربت الشعر لغوايته، وحاربت الرسم والنحت لكونهما يجسدان اشخاصاً تذكرهم بآلهة الأصنام السابقة للإسلام، وحاربت فن الموسيقي والغناء لأنه يلهي الناس عن عبادة الله.. وبالتالي كل من عمل في الفلسفة واشتغل على العقل في علم الكلام وغيره كفر وزندق وبعضهم قتل. وهكذا تبين لنا تاريخيّاّ كيف ضاع من الحضارة الإسلاميّة، أو الحضارة العربيّة الإسلاميّة كل المعطيات الإبداعيّة العقلانيّة كالفلسفة والشعر والفن والأدب والرياضيات والكيمياء والفيزياء. لتبقى علوم الفقه والكلام السلفي الامتثالي واللغة، وتسييد النقل على العقل، واعتبار كل جديد بدعة.
إن ما نريد الوصول إليه في هذا الاتجاه، هو القول: نحن العرب بكل مكوناتنا الدينية اليوم ننتمي أولاً للحضارة العربيّة بكل تفريعاتها التي تعود إلى ما قبل الميلاد، ونحن ننتمي ثانياً للقيم الحضاريّة الإسلاميّة الأكثر حضوراً بين الديانات الأخرى. بيد أن الدعوة الإسلامية التي جاءت بداية على أرض العرب وحملها العرب للعالم الاخر، راحت بعد الفتوحات يتسرب إلى نصها المقدس الكثير من التفسيرات والتأويلات التي عملت على تقسيم الدعوة ذاتها إلى فرق ومذاهب وطوائف لم تعد تخدم لا العرب ولا الحضارة العربيًّة، هذا إضافة إلى محاربة كل القوى العقلانيّة والعمل على اقصائها أو تصفيتها، بدءً من جعد بن درهم وغيلان الدمشقي مرورا بابن المقفع وابن رشد وصولاً إلى فرج فودة وحامد أبو زيد.
من هذا المنطلق نقول: لنعد إلى حضارتنا التي اثبتنا فيها وجودنا التاريخي ... لنعد إلى عقلانيتها والمواقف الحضاريّة التنويريّة فيها التي افتقدناها بسبب سيادة النقل على العقل من قبل القوى الحاكمة ومشايخ السلطان وباسم المقدس، فتركنا الدنيا من أجل الفوز بالآخرة، فأصبحنا في ذيل قائمة الأمم. دعونا نعرف أن الدين لله، أما الوطن فهو للجميع.
***
د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة
......................
الهوامش:
1- راجع - د. عدنان عويّد – التبشير بين الأصوليّة المسيحيّة وسلطة التغريب – دار المدى – دمشق – 2000. ص17.