دراسات وبحوث

دراسات وبحوث

لا مِرَاءَ في أنَّ ظاهرة العنف في مختلف أشكاله ليست جديدة، إنَّمَا هي قديمة قِدَم الاجتماع البشريّ ذاته. إذ قلَّما نجد حقبة تاريخيَّة أو بيئة ثقافيَّة برأت فيها علاقة البشر بعضهم ببعض من عنف قَلَّ أو كثر، صغر أو كبر. فهو يكاد أنْ يكون فاعلاً في كُلِّ عصر وماثلاً في كُلِّ أمر. وعلى الرَّغْمِ من كون العنف شأنًا بشريًّا عامًّا و"قابلًة قانونيًّة" يلجأ جميعهم إلى الاستعانة بخدماتها من أجل بلوغ مآربهم وحلِّ تناقضاتهم الطَّبقيَّة والقوميَّة والإيديولوجيَّة المستشرية، إلاَّ أنًّه بات يُشَكِّل اليوم تحدِّيًا أو سِمًة بارزة تُمَيِّز، على نحو خاصٍّ، المجتمعات العربيَّة-الإسلاميَّة الَّتِي استحالت مرتعًا وافرًا للفوضى والاضطراب، ومنبتًا خصبًا للقتل والإرهاب. فالمواجهة الشَّاملة والدَّامية بين مختلف مُكَوِّنات هذه المجتمعات تجتاح جميع أرجائها بدءًا من افغانستان وباكستان مرورًا بالصومال ومالي واليمن والعراق وفلسطين وانتهاءً بسوريا ولبنان والسودان. وهي، في المناسَبة، أقسى ضراوًة وأشَدُّ مضاضًة من المواجهة فيما بينهم وبين أعدائهم الخارجيين، ولا يوفر مرتكبوها أخًا في الدِّين أو نظيرًا في الخلق سواء أكان ذكرًا أم أنثى، صغيرًا أم كبيرًا، مذنبًا أم بريئًا. بَيْدَ أنَّ ذلك لا يعني البتَّة صدق مزاعم القائلين بأنَّ الدُّوَل الأوروبيَّة هي واحة وارفة الظِّلَال حضاريَّة خضراء وَسْط صحارى همجيَّة جدباء، وحدائق غنَّاء مسالمة تسودها الأُلفة والوئام وَسْط ادغال تَعُمُّها شريعة الغاب والخصام. صحيح أنَّ المجتمعات الأوروبيَّة توصَّلت، وبعد حربين عالميتين داميتين في النُّصف الأوَّلِ من القرن المنصرم، إلى صيغة ضمنت لها الرَّخاء وإقامة ضرب من السَّلام الدَّاخلي بينها، غير أنَّ ذلك ما كان له أنْ يتحقَّق إلاَّ عَبْر الغزوات الأوروبيَّة الاستعماريَّة المتلاحقة للأُمَمِ المستضعَفة ونهب ثرواتها وخيراتها. إذ إنَّ تَخَلُّفَ الأخيرة هو الوجه الخفي لتقدُّم دُوَل المركز الرَّأسماليّ الَّتِي وما أنْ تستشعر منافسًا مُحْتَمَلاً أو خطرًا داهمًا يهدِّد هيمنتها الأحاديَّة المُطْلَقَة وتفوُّقها السِّياسيّ والاقتصاديّ والعسكريّ والتكنولوجيّ حَتَّى تعاجله بسلسلة من الإجراءات الشَّرسة المتتالية بدءًا من فرض العقوبات والحصار مرورًا بإثارة الفوضى والنَّعرات وافتعال الثَّورات المُلَوَّنة والانقلابات وصولاً إلى شَنِّ الحروب الخارجيَّة بالأصالة أو بالوكالة. لكن وبالرغم من كل هذه الإجراءات والآليَّات الخسيسة، فإنَّ الدُّوَل الأخيرة فشلت فشلاً ذريعًا في إبعاد شبح الحرب عن قارتها على ما تجلَّى ذلك في الحرب على يوغوسلافيا في تسعينيات القرن العشرين، ويتجلَّى حاليًا في الحرب الطَّاحنة الَّتِي تدور رحاها في أوكرانيا بين روسيا ودُوَل النَّاتو مجتمعة. وإنْ دَلَّ ذلك على شيء، إنَّمَا يَدُلُّ على أنَّ "العنف احتمال كامن في صميم الحاضرات الغربيَّة ينفجر عندما تتاح له الفرص المناسِبة والقنوات الملائمة،،، وأنَّ حروب الدَّاخل لم تعد تنفصل عن الحروب المعلنة من الخارج، وما من نزاع إلاَّ ويتغذَّى أو يصبُّ في دائرة أكبر وأوسع، حسبما عبَّر الفيلسوف علي حرب"(1).
وعلى وقع المخاطر الوجوديَّة المترتبة على هذا الانفجار غير المسبوق لكل ضروب العدوانيَّة والإرهاب في عصرٍ تترابط فيه المصائر والمصالح والأزمات، وتتَّسع فيه الهُوَّة بين التَّقدُّم المذهل في وعيه العلميّ-التقنيّ والنَّقص الحادِّ في جهاز مناعة وعيه الأخلاقيّ، تبدو الحاجة ماسَّة إلى مساءلة الأطروحات النَّظريَّة والمعياريَّة الَّتِي تنهض عليها إيديولوجيا العنف ويتصرَّف بوحيٍ منها غربان الخراب والنَّافخون في أبواق الفتن والإرهاب من أهل الأصوليَّات المتناحرة اللاهوتيَّة منها والنَّاسوتيَّة على حدٍّ سواء. ولئن كان صحيحًا أنَّ هؤلاء ليسوا كُلَّاً متجانسًا وأنَّهم على نزاع وتضادٍّ، فإنَّهم يستوون ويتماثلون في مسائل عدَّة، بخاصَّة، في مقاربتهم لإشكاليَّة العلاقة بين العنف والأخلاق، وفي أطروحاتهم الَّتِي يبرِّرون بها ممارساتهم العنفيَّة. ويمكن إختصار أطروحاتهم هذه بثلاث أساسيَّة: الأولى هي أنَّ العنف وسيلة محايدة أخلاقيًّا، وأنَّ لا تعارض جوهريًّا بين بعض الحالات العنفيَّة والخير؛ الثَّانية هي إدراج العنف في خانة الفضائل الأخلاقيَّة باعتباره رمزًا للبطولة والشَّهامة والكرامة، ما يعني، في المقابل، مماهاة اللاعنف بالفضائح الأخلاقيَّة بوصفه عنوانًا للجبن والذِّلَّة والخنوع أو نَعْتَه، في أحسن الأحوال، بالأوهام وأضغاث الأحلام؛ الثَّالثة هي استحالة تجاوز العنف من غير عنف مساوٍ أو أكبر في القُوَّة ومضادٍّ في الاتِّجاه.
فلننظر الآن في أمر هذه الأطروحات الثَّلاث مبتدئين بالأُولى. يُقال عادةً إنًّ العنف هو وسيلة أو أداة لغاية ما يفتح الأبواب و يُعَبِّد الطرقات، لكنَّه لا يُحَدِّد المُثُلَ والاتِّجاهات، وإنَّ العنف شيء ووجهة استخدامه شيء آخر تمامًا. فهو بمنزلة سلاح ذي حدَّين يمكن استخدامه تارًة من أجْلِ الخير وإحقاق الحقِّ، وتارًة أُخرى من أجْلِ الشَّرِّ والطُّغيان، أيْ إنَّ العنف يمكن أنْ يكون حصانًا أبيضًا يمتطيه الرُّوح المطلق أو أنْ يكون آلًة جهنميَّة ومكيدة شيطانيَّة. بعبارة أُخرى، العنف ليس خيرًا أو شرًّا بذاته، إنَّمَا يصير كذلك بغيره وبحسب نِسَبه واعتباراته الآتية: ا- الدَّوافع الكامنة وراءه والغاية المُتَوَخَّاة منه؛ ب- نتائجه المعنويَّة والماديَّة وتداعياته القريبة والبعيدة؛ ج- الجهة الفاعلة والجهة المفعول بها؛ د- الظُّروف التَّاريخيَّة والخيارات المتاحة واقعيًّا. وإلى مثل هذه الاعتبارات لجأ في حينه، على سبيل المثال لا الحصر، ليون تروتسكي (1879-1940) في مقالته الشَّهيرة الموسومة ب"أخلاقهم وأخلاقنا" المنشورة عام 1938، لدحض وجهة نظرٍ شائعة آنذاك في الأوساط الثَّقافيَّة والإعلاميَّة الغربيَّة مفادها أنَّ لا فرق جوهريًا بين سياسة البطش والتَّنكيل السَّتالينيَّة وممارسات تروتسكي نَفْسه القمعيَّة إبَّان الحرب الأهليَّة الرُّوسيَّة (1923-1917)، وأنَّ أعمال الرَّجُلَين الدَّمويَّة لم تكن البتَّة تدبيرًا مؤقَّتًا وخيارًا اضطراريًّا أملته ضرورات تاريخيَّة خانقة، بقدر ما كانت موقفًا مبدئيًّا وخيارًا إراديًّا واعيًا، ما يعني، بالتَّالي، أنَّ التَّروتسكيَّة هي نزعة عدوانيَّة لاأخلاقيَّة تمامًا كمثيلتها السَّتالينية. وفي معرض مرافعته الدِّفاعيَّة ضد هذه الدَّعوى يزعم ليون تروتسكي أنَّه وبالرَّغْمِ من التَّشابه الخارجيّ والصُّوْريّ بين الممارستين، إلاَّ أنَّه لا يصح مماهاتهما أخلاقيًّا بحكم الإختلاف الأصليّ في حقيقة دوافع كُلٍّ منهما ومقاصده، لأن من شأن ذلك معاملة جميع الحالات العنفيَّة بالتَّساوي، ما يُفضي، لا محالة، إلى طمس الفرق القيميّ، مثلاً، بين عنف ملَّاك العبيد الهادف إلى استغلال العبد ومصادرة حقوقه وعنف العبد المكافح من أجل حُرِّيته. وبما أنَّ العنف كوسيلة، على ما يرى ليون تروتسكي، يمكن أنْ يُستخدم لأغراض مختلفة ومتعارضة، فإنَّه من غير المعقول أو المقبول أنْ يُقَيَّم أخلاقيًّا بذاته بمعزل عن الغاية الَّتِي يرومها. فالرَّصاصة يمكن أنْ تقتل كلبًا مسعورًا لإنقاذ طفل من براثن خطر مُحْدِق ويمكن أنْ تقتل إنسانًا على سبيل النَّهب والسَّلب. ولَمَّا كان الفعل في كلتا الحالتين واحدًا، لكن المراد منه مختلف اختلافًا لا لَبْسَ فيه كان لا بدَّ من التَّمييز بين ضربين من العنف: "عنفنا" و "عنفهم"؛ عنف ثوريّ عادل مُبَرَّر أخلاقيًّا؛ وعنف رجعيّ جائر منافٍ للأخلاق(2).
بالطَّبع، لا اعتراض على القول إنَّ فعل العنف تُسَيِّره مقولة الغاية والوسيلة، وإنَّ العنف هو وسيلة مطلوبة لغيرها لا لذاتها. لكن العنف هو تلك الوسيلة الَّتِي تمتاز عن غيرها من الوسائل في كونها تنطوي في ذاتها مسبقًا على غايتها وتُحَدِّدها قبْليًّا. فالرَّصاصة (الأسلحة على أنواعها عمومًا) لم تُخْتَرَع لغرض المُدَافَعة ودرء الأخطار المفاجئة والمحتملة فقط، وإنَّمَا للقتل والطُّغيان والمُزَاحَمة والعدوان أيضًا. وبهذا المعنى يتعذَّر اعتبارها شأنًا بريئًا من النَّاحية الأخلاقيَّة. وهنا ثَمَّة حقائق مُرَّة متشابكة ثلاث لا بدَّ من الإشارة إليها: الأُولى وتتعلَّق باستحالة الفصل بين العنف وأدواته. فكل واحد منهما مربوط بالآخر ويتضاعف به. فالعنف لا يُرْمَى مع أدواته، ولا تُمْحَى ندوب جراحه، على ما يتجلَّى ذلك على الصَّعيدين المعنويّ والماديّ. فعلى الصَّعيد المعنويّ لا يكف أهل العنف عن التَّباهي بأسلحتهم، ونظم القصائد الشِّعريَّة فيها، وتزيين جدران منازلهم بها، وإقامة النُّصُب التِّذكاريَّة لها باعتبارها رمزًا لبطولات مجيدة وذكرى خالدة، وبشارًة لانتصارات جديدة قادمة. وتتجلَّى هذه المضاعفة المتبادلة بين العنف وأدواته، على الصَّعيد الماديّ، في تبدُّل الأدوار والأمكنة بين السِّلاح والحرب. وإذا كان البشر يصنعون الأسلحة في ما مضى من أجل الحرب، فإنَّهم اليوم يفتعلون الحروب من أجْلِ الاتجَار بالأسلحة بقدر ما يَدِرَّهُ هذا الاتجَار من ارباح فلكيَّة على الدُّوَلِ المعتمِدة في جزء كبير من اقتصادها ومدخولها القوميّ على الصِّناعات العسكريَّة. وهذه هي إحدى آليات نمط الإنتاج الرَّأسماليّ الَّذِي لا يُنْتِج سلعًة إلاَّ ويخلق مستهلكها وأسواقها وفضاءات استخدامها. والحقيقة الثَّانية تتمثل في استحالة الفصل بين العنف وأهدافه. إذ مهما تباينت أهداف العنف وتباعدت عنه، فإنَّها غالبًا ما تنتهي إليه وتعود إلى الارتماء في أحضانه. وكما أنَّ الغاية المولودة بالعنف لا يمكنها أنْ توجد بشكلٍ مستقلٍّ عنه، فكذلك يفقد العنف معناه بمعزل عن الغاية الَّتِي يرتبط بها. ومن يُحَقِّق مآربه ويشق طريقه إلى المستقبل بالعنف، فإنّه، لا محالة، يجر أثقاله ويزرُ أوزاره على مرِّ الزَّمان حَتَّى وإنْ تيسَّر له نيل مراده وتصفية جميع أنداده. أمَّا الحقيقة الثَّالثة والأخطر فتتمثَّل في تجاوز أدوات العنف لغاياته، واختلال العلاقة المعهودة بينهما. من المعلوم، طبقًا للنظرة السَّائدة إلى العلاقة بين الغاية والوسيلة، أنَّ الأُولى أثمن من الثَّانية، وأنَّ كل واحدة منهما مختلفة ومستقلَّة عن الأُخرى، وليس للوسيلة أنْ تعلو الغاية المطلوبة وتتخطَّاها. أمَّا في حالة العنف، بصفته وسيلًة، فإنَّه لا يُسهم في بلوغ الغاية فحسب، وإنَّمَا يواكبها على الدَّوام ويحرسها باهتمام حَتَّى يمسي جزءًا عضويًّا لا يتجزَّأ منها أيضًا. والأنكى من ذلك، أنَّ الغايات نفسها باتت اليوم محفوفًة بخطر أنْ تتجاوزها الوسائل والأدوات إلى ما ليس في الحسبان وما لا تُحْمَد عقباه. والحال أنَّ أدوات العنف قد تطوَّرت اليوم تقنيًّا إلى مستوى لم يعد معقولاً معه القول بوجود غايات سياسيَّة أو اقتصاديَّة أو إيديولوجيَّة تتناسب مع قدراتها التَّدميريَّة وتُبَرِّر استخدامها حاليًا في حلِّ التَّناقضات وفضِّ النِّزاعات بين مختلف الجماعات البشريَّة(3). إذ شَتَّان ما بين مفاعيل أدوات عنف الأقدمين ومفاعيل أدوات عنف المعاصرين، ما بين متوحِّش الزَّمن الغابر المُسَلَّح بِعَصا خشبيَّة ورماح معدنيَّة ومجانيق حجريَّة ومتوحِّش الزَّمن المعاصر المُدَجَّج بهراوات مختلفة أنواعها (كيميائيَّة وجرثوميَّة) و"مجانيق" فرط صوتيَّة ونوويَّة لا تُبْقي ولا تَذَرُ كفيلة بتحويل العنف من "قابلة قانونيَّة مُولِّدة للتَّاريخ" إلى "حفَّار قبر التَّاريخ". فالمرء لا يحتاج إلى حدس خارق وذكاء فائق ليرى بِأمِّ عينه كيف ينعقد القران القاتل بين أخطر ما في الحداثة وأردأ ما في التَّوحُّش والبربريَّة، بين جبروت العصر الرَّقميّ-النَّوويّ وأخلاق العصر الحجريّ وأكلة لحوم البشر cannibalism. ولئن كان صحيحًا أنَّ الأسباب العامَّة للعنف وغاياته بقيت إجمالاً على ما هي عليه، أقَلَّه على امتداد التَّاريخ المكتوب، فإنَّ ثَمَّة تَغَيُّرًا جذريًّا قد طرأ بالفعل، في عالمنا المعاصر، على أدوات العنف ومفاعيلها الكارثيَّة. وإذا كانت نتائج الحروب والغزوات في الأزمنة القديمة والوسيطة والحديثة مفتوحة على احتمال من ثلاثة: إمَّا النَّصر أو الهزيمة أو التَّعادل على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، فإنَّها اليوم (الزَّمن المعاصر) لم تعد تملك هذا "التَّرَف" في تَنَوُّع الاحتمالات. ذلك أنَّ النَّتيجة الوحيدة المُحَتَّمة النَّاجمة عن أيِّ نزاع تُسْتَخَدَم فيه أسلحة الدَّمار الشَّامل هي الهزيمة السَّاحقة والمتبادلة لطرفيِّ الصِّراع معطوفًا عليها تقويض صرح الحياة الكوكبيَّة بِرُمَّتِهِ، وتدمير الموضوع والذَّات، الوسائل والغايات معًا. ولا غرابة في ذلك، فلكم تمرَّدت أدوات الإنسان وأشياؤه عليه وأبت الإذعان له، لا سِيَّمَا، وأنَّه غالبًا ما يخشع لأصنامه ويقع ضحية نتاجاته وأوهامه.
إضافة إلى ما تَقَدَّم، يبدو لي أنَّ مسألة إمكان تسويغ العنف وتبريره أخلاقيًّا وما إذا كان ممكنًا للعنف أنْ يكون خيرًا وسبيلاً مشروعًا إلى الخير ترتبط عضويًّا بمسألة أُخرى، كانت وما تزال، من أشَدِّ المسائل تعقيدًا وأكثرها التباسًا لفلسفة الأخلاق، ألا وهي مشكلة التَّحديد اليقينيّ لهُوِيَّة الشَّخص أو الجماعة الَّتِي تملك الحقَّ الحصريّ للتَّكلُّم بِاسْمِ الأخلاق، وإصدار الأحكام المُبْرَمة غير القابلة للنَّقض في تقرير ما هو خير وما هو شَرٌّ، ومن هُمْ الأخيار ومن هُمْ الأشرار.
لقد سبق لسقراط أنْ أشار إلى أنَّ تمثيل الحقيقة الأخلاقيَّة والنُّطق بِاسْمِها يمكن أنْ يُنَاط شأنهما، طبعًا، بمعلِّمي الفضيلة الَّذِينَ استوفوا جميع الخصال الحميدة والشُّروط المطلوبة لاكتمال شخصيتهم الأخلاقيَّة. لكن المشكلة، في رأي سقراط ذاته، تكمن في أنَّه لا وجود لمُعَلِّمي الفضيلة على النَّحو الَّذِي يوجد فيه أساتذة رياضيات وأساتذة موسيقى وفنون… وما شابه، وأنَّه ليس في مقدور هؤلاء المُعَلِّمين، على افتراض وجودهم، ضمان توريث محاسنهم الأخلاقيَّة ونقلها إلى الآخرين وتأصيلها فيهم بدليل ظهور أبناء فاسدين من صُلْبِ آباء صالحين. هذا فضلاً عن أنَّ من أخصِّ سِمَات الإنسان الفاضل هو الاستنكاف عن الادِّعاء بالنَّقاوة والقدسيَّة الأخلاقيَّة حَتَّى وإنْ لم يجنح إلى اعتبار نَفْسِهِ شخصًا آثمًا. إنَّ مجرد اِدِّعاء الإنسان بأنَّه مثالٌ للكمال والمعصوميَّة الأخلاقيَّة لَهُوَ خير دليل على أنَّه ليس ما يدَّعيه. ذلك أنَّ "أشَدَّ النَّاس حماقًة، حسب عبارة الفيلسوف أبو حامد الغزالي، أقواهم اعتقادًا في فضل نفسه، وأثبت النَّاس عقلاً أشدُّهم اتِّهامًا لنفسه"(4). وفي سياق مُتَّصل، أنِّي لأعجب من اِدِّعاءات الوصاية الحصريَّة على الأخلاق الحميدة والمعرفة الأخلاقيَّة الصَّحيحة الَّتِي ينتحلها لأنفسهم منظرو التَّيارات الأصوليَّة الإسلاميَّة وأمثالهم من أهل المِلَلِ والنِّحَلِ الأُخرى. فكل طائفة منهم تنتحل لنفسها صفة الممثل الشَّرعيّ الوحيد لله ووكيله الحصريّ المُعتَمَد على الأرض مستندًة في ذلك إلى ادِّعاءات ثلاثة رئيسة مُعَرَّضَةٌ كلها لانتقادات قوية. الادِّعاء الأوَّل هو ادِّعاء الشُّموليَّة الَّذِي بموجبه تنظر كل فرقة إلى عقيدتها الدِّينيَّة باعتبارها محيطة علمًا بِكُلِّ الشُّؤون الدُّنيويَّة والأخرويَّة، وبالكُلِّيَّات والجزئيَّات، وبالنَّظريات والعمليَّات، وبالمعاملات والعبادات. وما على المرء سوى أنْ يُحْسِنَ تأويل النَّصِّ المقدَّس وتدبُّره على الوجه الصَّحيح حَتَّى يتيسَّر له استجلاء الحقائق الكثيفة والمقاصد الخفيَّة والمعاني اللَّطيفة والخبر اليقين عن كل ما مضى وفات وكل ما هو حاضر وكل ما هو آت؛ الادِّعاء الثَّاني هو ادِّعاء مطلقيَّة الأوامر والنَّواهي الإلهيَّة والقواعد والأحكام والمعارف الدِّينيَّة على اعتبار أنَّها عابرة للتَّاريخ والظُّروف الاجتماعيَّة والفروق الثَّقافيَّة، وصالحة، بالتَّالي، لكل مكان وزمان، ولكل مجتمع وعصر وإنسان؛ الادِّعاء الثَّالث هو القول بأنَّ الدِّين هو أصل الأخلاق الحميدة وفصلها، وله الأسبقيَّة المنطقيَّة والإبستيمولوجيَّة عليها. وينطوي هذا الادِّعاء على معانٍ وأفكار عدة متَّصلة، من أهمها: ا- مماهاة الخير بما يأمر اللهُ به، والشَّرِّ بما ينهى اللهُ عنه. لذا ينبغي الأخذ بالوصايا الإلهيَّة لا لكونها حسنة وصحيحة بذاتها، بل لأنَّها إلهيَّة. فأصلها الإلهيّ بالذَّات هو الضَّمانة الأكيدة لخيريتها ومصداقيتها وصحَّتها؛ ب- المعرفة الأخلاقيَّة الصَّادقة والحقَّة مُمْتَنَعَة من دون معرفة دينيًّة، ما يعني أنَّ معرفتنا لما يأمرنا به الله ولما ينهانا عنه هي الأساس الثَّابت والموضوعيّ والموثوق الَّذِي تنهض عليه معرفتنا لما هو حسن أو قبيح، ولما هو واجب أو غير واجب، صحيح أو غير صحيح من الوجهة الأخلاقيَّة. وطبقًا لهذا التَّصَوُّر، يبدو الإنسان، ومهما بلغ من العلم والفهم، عاجزًا بذاته عجزًا مبدئيًّا عن تبيان البَلِيَّة من العَطِيَّة، والنَّقمة من النِّعمة، والمحنة من المنحة، والخيط الأبيض من الخيط الأسْوَد في المسائل الأخلاقيَّة، وعن معرفة النِّظام الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسِّياسيّ الأصلح له أيضًا. لذا، ترى كل فرقة منهم أنَّ تعويض هذا العجز المعرفيّ المزعوم ليس ممكنًا إلاَّ بالعودة إلى كتابها المُنْزَل، وإلى تأويلات وفتاوى أولئك الَّذِينَ اصطفاهم الله لتجديد دينه وتمثيل إرادته وتجسيد رسالته، وخصَّهم بكل الخوارزميَّات والبرمجيَّات اللازمة الَّتِي تفضُّ مكنون السِّرِّ المكتوم والكنز المختوم، وتحسب بِدِقَّةٍ لامتناهية مستوى الكفر والإيمان، الخير والشَّرِّ، الصَّحِّ والخطأ في اعتقادات البشر ونِيَّاتهم وأفعالهم؛ ج- الإيمان وحسن الخُلُق صنوان متحابان بالطَّبع والغريزة، والكفر وسوء الخُلُق متلازمان بالضَّرورة. وإنْ كنت لا أرُوم في هذا المقام تفصيل الكلام على ما بين الدِّين والأخلاق من إتِّصال وانفصال، إلاَّ أنَّني سأتوقَّف لِمَامًا على بعض ما يعتري هذه المزاعم والاِدِّعاءات من عيوب ويشوبها من مغالطات وتثيره من إشكالات. فلو أخذنا الاِدِّعاء الأوَّل لوجدناه مستحيلاً من النَّاحيتين الواقعيَّة والمنطقيَّة. فالنُّصوص المتناهية لا تستوعب الوقائع غير المتناهية، على ما يقول وبحقٍّ الفيلسوف أبو حامد الغزالي(5). فلا يُعقل وجود كتاب مقدَّس أو غير مقدَّس يحتوي على حَلٍّ جاهز لِكُلِّ إشكال، وجوابٍ صحيح عن كل سؤال يمكن أنْ يُطرح حول ما نريد معرفته، وحول ما نحن ملزمون بإتيانه من أفعال وخيارات، على نحو ملموس، في هذا الوضع والزَّمان أو ذاك. وذلك لأنَّه لا حَدَّ ولا حَصْرَ لعالم الظَّواهر الكونيَّة، ولتنوُّع الأوضاع واختلاف الشُّروط والظُّروف الحياتيَّة الَّتِي يمكن أنْ يجد البشر أنْفُسَهم فيها وتستدعي منهم اتِّخاذ قرارٍ أو موقفٍ أخلاقيٍّ مُحَدَّد. فالحياة بالمستجدات حُبْلَى وبالمفاجآت ملأى، ما يجعلها عصيَّة على الحدِّ والتَّقييد بنظام نهائيّ جامد وبمجموعة ثابتة من القواعد والأحكام. أمَّا الادِّعاء الثَّاني القائل بمطلقيَّة الأوامر والنَّواهي الإلهيَّة، والقواعد والأحكام الدِّينيَّة، فإنَّه يواجه، بدوره، صعوبات جمَّة. نَعَّم، المبادئ الأخلاقيَّة المطلقة موجودة، لكنها موجودة فقط كوهم في الأذهان لا كواقعة في الأعيان. كما أنَّه لا وجود لداء مطلق ولا لدواء مطلق، فكذلك لا وجود لقاعدة أو مبدأ أخلاقيّ مطلق. فالشَّرط الضَّروريّ لحسبان إلزام ما إلزامًا مطلقًا هو استحالة تعارضه عند التَّطبيق مع أيِّ اعتبار آخر من نوعه، واستحالة نشؤ وضع حياتيّ يبطله أو يعلِّق العمل به. فلا شيء يضمن عدم تضارب المبادئ والقواعد والأحكام الأخلاقيَّة في ما بينها ولا عدم تعارضها مع الواقع المُعَاش. ففي كثير من الحالات والأحيان قد يجد البشر أنْفُسَهُم أمام معضلة الاختيار بين قاعدتين أخلاقيَّتين في وضع حرج لا يسمح سوى بتطبيق واحدة منهما واستبعاد الأُخرى. فالعمل بموجب قاعدة أخلاقيَّة على حساب قاعدة أخلاقيَّة أُخرى يثبت أنَّ لا واحدة منهما مطلقة. وبالانتقال إلى الادِّعاء الثَّالث، فإنَّه يغامر في جعل الأوامر والنَّواهي الإلهيَّة شأنًا تعسُّفيًّا، وجعل الأخلاق، بالتَّالي، أمرًا عشوائيًّا. وإذا كان حُسْن أو قبح شيء من الأشياء وفعل من الأفعال، كما لاحظ الفيلسوف عادل ضاهر، منوط حصريًّا بمدى موافقته وامتثاله أو عدم موافقته لأمر إلهيّ، فإنَّ موقفًا كهذا يُحَتِّم على أصحابه التَّسليم بوجوب ارتكاب الكبائر والفحشاء إذا ما أمرنا اللهُ بها لا لشيء إلاَّ لأنَّ الله وفقط لأنَّ الله يأمر بها. والحقُّ أنَّه ليس في وسع هؤلاء تَجَنُّب هذه النَّتيجة الخارقة بدعوى أنَّ الله لا يأمر ولا يمكن أنْ يأمر بالفحشاء، لأنَّ مُؤدَّى اعتراضهم هو خلاف مقالتهم(6). أمَّا فساد مقولة تأسيس الأخلاق على الدِّين وجعله معيارًا وحيدًا لها وقوَّامًا عليها، فينكشف، في أوضح صوره، إذا ما عَلِمْنا أنَّ الكلام على معرفة وجود الله وصفاته، وعلى وجوب طاعتنا له إنَّمَا يفترض مسبقًا امتلاك الإنسان لمعرفة أخلاقيَّة. إذ إنَّه ولكي نعرف أنَّ كائنًا ما هو الله وأننا ملزمون بعدم معصيته، فإنَّه لا يكفي أنْ نعرف أنَّه كائن كُلَّيّ المعرفة وكُلِّيّ الجمال وكُلِّيّ القدرة فقط، بَلْ ينبغي أنْ نعرف بالإضافة إلى ذلك أنَّ الكائن المعنيّ هو أيضًا كُلِّيُّ الخير والعدل والرَّحمة لطيف بعباده لا يفعل ولا يأمر إلاَّ بما هو أصلح لهم في الدُّنيا والآخرة. غير أنَّ معرفتنا للأوامر والنَّواهي الإلهيَّة، على ما يرى الفيلسوف عادل ضاهر، لا تشكل وحدها شرطًا كافيًا لمعرفتنا أنَّنا ملزمون أخلاقيًّا بإتيان أو عدم إتيان أفعال من نوع معيَّن، بل إنَّ ما يشكل شرطًا كافيًا هنا للمعرفة الأخيرة هو أنْ نعرف أنَّ هذه الأوامر والنَّواهي صادرة، بالضَّرورة، عن إرادة طيِّبة وخيِّرة على نحو مطلق تفرض ماهيَّة صاحبها عدم فعل أو تشريع أيِّ شيء يخالف الاعتبارات الأخلاقيَّة الصَّحيحة(7). وهذا يعني أنَّ جزءًا جوهريًّا من جهاز المعرفة الدِّينيَّة المفهوميّ متجذِّر في المعرفة الأخلاقيَّة ومُسْتَمَدٌّ من قاموسها. إذ إنَّه ومن دون امتلاك الإنسان لمعرفة أخلاقيَّة ولمعيار يسمح له بالتَّمييز بين الخير والشَّرِّ، فلن يكون في وسعه معرفة أنَّ بعض الأوامر والنَّواهي هي أوامر الله ونواهيه وصادرة عنه بالذَّات. فالتَّمييز بين وحي حقيقيّ ووحي مُتَوَهَّم أو مزيَّف، بين كتاب مقدَّس أصيل وآخر مُحَرَّف، بين إلهام إلهيّ وغواية شيطانيَّة ليس بمستغنٍ البتَّة عن سند عقليّ ومعيار أخلاقيّ ومعطيات أُخرى من النَّوع الواقعيّ والتَّاريخيّ. علاوة على ذلك، فإن القول بحاجة العقل إلى النَّقل لتمييز الخير من الشَّرِّ، والمعروف من المُنْكَرِ يثير فورًا تساؤلات عدة: لماذا يمكن للعقول الَّتِي وَهَبَنا الله إياها أنْ تكون قادرة، وبصورة مستقلَّة عن الدِّين والكتب المقدَّسة، على اكتشاف قوانين الطَّبيعة ومعرفة الحقائق العلميَّة الرِّياضيَّة والهندسيَّة، ولا تكون مُؤَهَّلة لمعرفة الحقائق الاجتماعيَّة والمبادئ الأخلاقيَّة، علمًا أنَّ المعارف من النَّوع الأوَّل لا تَقِلُّ تعقيدًا ولا تَقِلُّ أهَمِّيًّة بالنِّسبة إلى حياة البشر عن المعرفة الأخيرة، هذا إنْ لم نَقُل إنَّها أصعب منالاً منها؟!!! وهل يُعقل أنْ يهب اللهُ الإنسان عقلاً وأنْ يدعوه إلى إعماله في تَدَبُّرِ آياته والتَّفَكُّر في خَلْقِ السَّماوات والأرض، وفي التَّمييز بين الحقِّ والباطل، ثُمَّ يقوم، في الوقت عينه، بتجريده من هذه الصَّلاحية وتعطيل الخاصِّيَّة الَّتِي خلقه لأجْلِها؟!!! وفي ما يخص القول بوجود اقتران ضروريّ بين الإيمان ومكارم الأخلاق، من جهة، وبين انعدام الإيمان وسوء الخُلُق، من جهة أُخرى، فيمكن تبيان بطلانه بأدلة تاريخيَّة ومنطقيَّة. فالوقائع التَّاريخيَّة تثبت بما لا يترك مجالاً للشَّكِّ وجود حضارات وشعوب وثنيَّة ولادينيَّة أسهمت في إغناء التَّجربة الأخلاقيَّة للإنسانيَّة، وتبلورت في فضاءاتها الثَّقافيَّة القاعدة الذَّهبيَّة للأخلاق والكثير من الفضائل الرَّئيسة كالحكمة والاعتدال والشَّهامة والصَّفح والعفَّة والصِّدق. كُلُّ هذا يُعَدُّ إرثًا إنسانيًّا عامًّا لا يُقَدَّر بثمن، وما زال يحتفظ بقيمته إلى اليوم. وإذا ما انتقلنا من الحضارات إلى الأفراد، فإنَّ الحياة زخرت ولم تزل تزخر بوجود قامات علميَّة وفلسفيَّة وأدبيَّة وسياسيَّة تُعَدُّ ملحدة وفقًا لفيصل التَّفرقة بين الإيمان والكفر والزَّندقة المعتمَد عند أتباع الدِّيانات التَّوحيديَّة، لكن إلحادها لم ينهاها البتَّة لا عن تبنِّي أسمى القيم الأخلاقيَّة الرَّفيعة ولا عن قضاء بعضها العمر في الكفاح ضِدَّ جميع أشكال الفساد والاستغلال والاضطهاد والتَّمييز العرقيّ والدِّينيّ. وفي المقابل، يضع التَّاريخ، الماضيّ منه والمعاصر، أمامنا حقائق مُرَّة عن ممارسات مخزية لجماعات ورجالات دين من أتباع مختلف الأديان التَّوحيديَّة- هُمْ من أهل الغربة عن الحقِّ حَتَّى وإنْ تتوَّجوا بتيجان الحقِّ من غير استحقاق، بَلْ هُمْ عدماء الدِّين والأخلاق، ولا هَمَّ لهم سوى المتاجرة بالدِّين وإلقاء الإحَن وإذكاء نار الفتن وإشاعة أفانين العداوات بين النَّاس طمعًا بكسب الفوائد وأخذ الإتاوات، لا حبًّا لله ولا شغفًا بالصَّلوات والتِّلاوات. ومن النَّاحية المنطقيَّة، لا علاقة تصوُّريَّة أو ضروريَّة بالمعنى المنطقيّ بين انعدام الإيمان الدِّينيّ وسوء الخُلُق، لأنَّه لا يمكن تعريف الملحد على أنَّه شخص ذميم الخُلُق أو على أنَّه شخص عظيم الخُلُق. فقد يحدث أحيانًا أنْ يفقد الإنسان إيمانه الدِّينيّ أو يرتدَّ عنه لسبب أو لآخر من دون أنْ يتخلَّى، بالضَّرورة، عن القواعد الأخلاقيَّة لهذا الدِّين، لاعتقاده أنَّها صحيحة ومعقولة بحدِّ ذاتها(8). وقد سبق للشَّيخ الأكبر محيي الدِّين ابن العربي أنْ عَبَّرَ عن الطَّابع الجائز للعلاقة بين الإيمان ومكارم الأخلاق خير تعبير بقوله: "لو كان الإيمان يعطي بذاته مكارم الأخلاق، لم يُقل للمؤمن: افعل كذا وافعل كذا. وقد توجد المكارم ولا إيمان. للمكارم آثار ترجع على صاحبها في أيِّ دار كان"(9). فالدِّين مرتبط بالأخلاق وما الأخلاق مرتبطة به. ولو استنفد الدِّين حقيقتها ما كانت هي، ولو فقدها ما كان هو. قصارى القول، إنَّ من يجعل الأخلاق الحميدة والمعرفة الأخلاقيَّة وقفًا على أُمَّةٍ أو مِلَّةٍ بعينها كَمَنْ يجعل العلم واكتشاف الحقيقة وقفًا على واحدٍ من النُّظَّارِ أو على واحدةٍ من الأُمَمِ أو المِلَلِ بعينها. وما هذا وذاك سوى أباطيل يدحضها تاريخ الفتوحات العلميَّة والفلسفات الأخلاقيَّة. وكما أنَّ عالَم الحقيقة والمعرفة العلميَّة هو مشاع مشترَك مفتوح لجميع البشر، فكذلك هي حال الخير والمعرفة الأخلاقيَّة. بالطَّبع، ليس في مستطاع أحد أنْ ينكر الحقيقة القائلة بأنَّ المصادر الأوَّليَّة لأهَمِّ المعايير الإنسانيَّة العامَّة في الفضاء الثَّقافيّ للأديان الإبراهيميَّة هي التَّوراة والإنجيل والقرآن الكريم، وأنَّها مصاغة هناك بِاسْمِ الله وصادرة عنه. وقد يبدو، للوهلة الأُولى، أنَّ الاعتراف بهذه الحقيقة يُكَذِّب الفكرة القائلة باستقلاليَّة الأخلاق عن الدِّين، ويدحض معها أوَّليَّة المعرفة الأخلاقيَّة على المعرفة الدِّينيَّة. لكن لو أمعن واحدنا النَّظر مَلِيًّا فيها لوجدها حُجًّة إضافيَّة تَصُبُّ في مصلحة استقلاليَّة الأخلاق. إذ إنَّ رَدَّ المعايير الأخلاقيَّة إلى الله يمكن أنْ يُفْهَم على أنَّه اعتراف بأنَّ النَّاس جميعًا سواسية أمام الله وأمام الأخلاق، وأنَّ لا حقَّ استثنائيّ ولا وكالة حصريَّة لأحد منهم تمنحه صفة النَّاطق الرَّسميّ الدَّائم بِاسْمهما. فكُلُّ نَفْسٍ رهينة بما كسبت، وبما تتَّخذه من معايير تحدِّد مستوى سُمُوِّها الأخلاقيّ.
لا شَكَّ في أنَّ المنافحة الأخلاقيَّة عن العنف كان بإمكانها أنْ تكون نظيفة لا غبار عليها، وكان لا مُشَاحَّة في اعتبار العنف نَفْسِهِ استراتيجيًّة سلوكيَّة بنَّاءة فيما لو كان في الإمكان عمومًا تقسيم النَّاس إلى أخيار وأشرار بالمطلق، وكان العنف في الوقت نَفْسِهِ، هو الخيار الوحيد المتاح تاريخيًّا والأجدى عمليًّا لكبح جماح الشَّرِّ واستئصاله. فلو سار كُلٌّ من الخير والشَّرِّ على قدميه وعُرِفَت بِدِقَّةٍ إحداثيات مسار كل واحد منهما وموقعه لوجب عندئذٍ على الأبرار المباشرة فورًا في تطهير البلاد والعباد من الشَّرِّ والأشرار مثلما تُنَظَّف الحقول من النَّباتات الضَّارة ومثلما تُكَنَّس الشَّوارع من القُمامة والنُّفايات. لكن هيهات أنْ يكون الأمر بهذه البساطة. فالخير والشَّرُّ ليسا منفصلين وموزَّعين فرديًّا بحيث يكون الواحد أو البعض إمَّا صالحًا بالمطلق أو طالحًا بالمطلق. فالإرادة الطَّيِّبة المُطْلَقَة، على ما أوضَحَ كانط، لا يمكن أنْ تكون بأيِّ حالٍ من الأحوال إرادةً فعليًّة لأيِّ فرد واقعيّ كائنًا من كان ومهما علا شأوه الأخلاقيّ. ولئن كان بالمستطاع أنْ نتصوَّر إنسانًا يسعى إلى الكمال، لكن لا يمكن أنْ نتصور إنسانًا كاملاً. أمَّا الإرادة الشّريرة المطلقة فمن المحال أيضًا تَصَوُّر وجودها، لأنَّها تنفي ذاتها بذاتها. ثُمَّ إنَّ القول بوجود إرادة طيِّبة وإرادة شريرة على نحو مطلق وغير مشروط لا يعني الاعتراف بمشروعيَّة أكذوبة الاصطفاء الأخلاقيّ لجماعة من البشر فحسب، إنَّمَا يُشَكِّل بحدِّ ذاته مدعاةً إضافيَّة للعنف. ولعلَّ ما نشهده اليوم من جرائم حرب موصوفة وفتاوى دينيَّة تُشَرِّع القتل وتَحُثُّ عليه، ومن تصنيفات صارمة تُقَسِّم البشر قسمًة ثنويَّة نهائيَّة إلى معسكرين لا ثالث لهما: محور الخير ومحور الشَّرِّ، دول معتدلة ودول مارقة، حضارات رُوحانيَّة وحضارات ماديَّة، دار السَّلام ودار الكفر، حاكميَّة إلهيَّة وجاهليَّة بشريَّة ليس إلاَّ ترجمة حرفيَّة لوهم الاصطفاء بالذَّات. فمن هو المعتوه مِنَّا الَّذِي يجرؤ بعد كل هذه الدِّماء والأشلاء على القول إنَّه بلا خطيئة وليس من ذوي الاحتياجات الأخلاقيَّة الخاصَّة؟!!!! فالإرادة الطَّيِّبة أو الشَّريرة ليست من الخواصِّ الحصريَّة لأمَّة أو دين أو ثقافة أو عرق أو جنس بعينه من دون غيره. فليست غريبًة عن كُلِّ واحد مِنَّا كل خصال البشر الحميدة منها والخبيثة على حدٍّ سواء.
وما يبعث على الحيرة والاستغراب هو أنَّه وعلى الرَّغْمِ من تَعَذُّر تزويد العنف بمنظومة دفاعيَّة أخلاقيَّة متماسكة منطقيًّا، إلاَّ أنَّ كرنفالات سلخ جلود البشر وحرقهم أحياء على الملأ تقام على الدَّوام تحت تغطية أخلاقيَّة كثيفة وتعبئة قيميَّة شاملة. والحقُّ، على ما يرى فيلسوف الأخلاق المعاصر غوسينوف ع.ع "أنَّ ثَمَّة تلازمًا بين الدِّيماغوجيا الأخلاقيَّة والعنف لا انفكاك فيه لأحدهما من الآخر. فالدِّيماغوجيا الأخلاقيَّة تؤدِّي، حتمًا، إلى العنف، والأخير يفترض، بدوره، الدِّيماغوجيا الأخلاقيَّة بصفتها شرطه الضَّروريّ"(10). وكلَّمَا كان مقدار العنف أكثر همجيَّة وفداحة كانت المرافعة الأخلاقيَّة عنه أشَدَّ عهرًا ووقاحة. وكما أنَّ دخول الأماكن الموبوءة والملوَّثة يتطلَّب ارتداء كمامات معقَّمة وأقنعة واقية من المواد المُشِعَّة والسَّامَّة، فكذلك يأبى البشر الغوص في وحول العنف النَّتنة ومستنقعاته الآسنة من دون جُبَّة إكليريكيَّة أو عباءة أخلاقيَّة ناصعة البياض أو حَتَّى الاثنين معًا. وهذه المعادلة تنطبق على عنف الأفراد وبدرجة أكبر على عنف الدُّول والجماعات. ولا يقال ذلك على سبيل الاستعارة والمجاز، بَلْ على سبيل الحقيقة، لا سِيَّمَا، وأنَّ معظم الصِّراعات المسلحة على المسرح الكونيّ تُدَار حَتَّى يومنا هذا بِاسْمِ الله والقيم الأخلاقيَّة مشفوعًة مذابحها بصيحات التَّهليل والتَّكبير. وتلك هي مأساة أهل العنف من أصحاب المشاريع الصَّهيونيَّة، والدَّاعشيَّة الإسلاميَّة، والإنجيليَّة البروتستانتيَّة والمطامح الإمبرياليَّة والَّتِي تَنِمُّ عن انفصاماتهم الشِّيزوفرونيَّة المُرَكَّبة على غير مستوى وصعيد: فَهُمْ يستمرئون الحديث عن الأمر بالمعروف والنَّهي عن الفحشاء والمُنْكَر في الوقت الَّذِي يلهجون فيه بضلالات الفساد وينتشون بالممارسات السَّاديَّة وشهوة الاستبداد، وهُمْ لا يألون جهدًا في الادِّعاء بأنَّهم لا يحاربون إلاَّ من فرط عشقهم للسلام، ولا يدمِّرون إلاَّ من شدَّةِ ولعهم بالبناء، ولا يصادرون الأرزاق ويدقُّون الأعناق إلاَّ من أجل العطاء وخير البشريَّة جمعاء... وغير ذلك من المفارقات الخارقة الَّتِي تقلب الذَّيل رأسًا، والسُّقوط في الهاوية اعتلاءً للقِمَّة، والتَّوحُّش تحضُّرًا، والتَّخلُّف تطوُّرًا. والأدهى أنَّهم جميعًا بحمد الله يُسَبِّحون، وعليه يتوكَّلون، ومن آياته الحُجَّةَ يتَّخذون على ما يقولون وما يفعلون. والله، بلا أدنى ريب، منهم براء. ألم يزعم الرَّئيس الأمريكيّ السَّابق بوش-الابن أنَّ الله أوحى إليه بغزو العراق وكلَّفه نشر قيم الحُرِّيَّة والدِّيمقراطيَّة!!! وألم يضع الحرب ضِدَّ الإرهاب في إطار المعركة الفاصلة بين الخير والشَّرِّ في صورتهما الخالصة الَّتِي، حسب زعمه، لا يقف فيها الله نَفْسُهُ على الحياد، والَّتِي لا إمكان لأيٍّ كان أنْ ينأى بِنَفْسِهِ بعيدًا منها على قاعدة أنَّ مَنْ ليس معنا فهو حتمًا ضِدُّنا. ولا مِرَاءَ في أنَّ ما تقوم به الأصوليَّات المتناحرة، منفردة أم مجتمعة، من محاكمات ميدانيَّة وتصنيفات يقينيَّة ليس إلاَّ دراما أو صورة استباقيَّة مخادعة عن يوم الدِّين زيَّنت للبعض أنَّهم آلهة قبل أنْ يستحقوا حَتَّى أنْ يكونوا أشباه بشر. والحقُّ أنَّهم ليسوا سوى وحوش مفترسة من ذوي القرون النَّاطحة والنَّواجذ القاطعة والمخالب الجارحة. ولئن كانت أسماء الأصوليَّات متباينة، فإنَّها متشابهة في ممارساتها وفي منطقها وبديهياتها. فلا فرق جوهريًّا بين فتاوى كبار حاخامات الكيان الصَّهيونيّ المتطرِّفين المحرِّضة على إبادة الفلسطينيين عن بكرة أبيهم وفتوى المتحدِّث بِاسْمِ تنظيم الدَّولة الإسلاميَّة المدعو أبو محمد العدنانيّ الَّذِي يحكم ويقطع بوجوب استباحة دماء الأعداء من دون استثناء واعدًا "المجاهدين" بعظيم الثَّواب والإكرام على مجازرهم، بخاصَّة، في الشَّهر الحرام قائلاً: "لقد وصَلَنَا أنَّ بعضكم لا يستطيع العمل لعجزه عن الوصول إلى أهداف عسكريَّة، ويتحرَّج من استهداف ما يُسَمَّى بالمدنيين، فيعرض عنه لِشَكِّه بالجواز والمشروعيَّة، فأعلم أنَّه في عقر دار المحاربين لا عصمة للدِّماء، ولا وجود لما يُسَمَّى بالأبرياء... استهدافكم لما يُسَمَّى بالمدنيين أحبُّ إلينا وأنجع، لكونه أنكى بهم وأوجع، فهُبُّوا في كُلِّ مكان، عسى أنْ تنالوا الأجر العظيم في هذا الشَّهر الكريم..."(11). صحيح أنَّ الأديان التَّوحيديَّة تدعو إلى وجوب فصل الصَّالح من الطَّالح، الطَّيِّب من الخبيث، الاخيار من الأشرار، والقمح من الزؤان، غير أنَّ ذلك كله إنَّمَا يحدث يوم تزلزل الأرض زلزالها وتُخرج أثقالها بأمر ربِّها ويصدر النَّاس أشتاتًا أشتاتًا لتنال كُلُّ نفس جزاءها على ما عملت وما كسبت. والأهَمُّ من ذلك، أنَّ إنجاز هذه المهمة يقع بالتَّمام والكمال على عاتق الله وحده ولا أحد آخر غيره.
لكن الأسئلة الَّتِي تتبادر إلى الذِّهن فورًا في هذا السِّياق هي: إذا لم يكن العنف شَرًّا بذاته وكان شأنًا محايدًا من النَّاحية الأخلاقيَّة، على ما تزعمه الأطروحة الأُولَى للمرافعين عن العنف والمزاولين له والمدمنين عليه، فما الحاجة عندئذٍ إلى تنظيف سِجِلَّه العدليّ والبحث عن أعذار ومبررات له؟ وما قيمة الدَّعوة إلى نبذه واجتنابه؟ وهل يحتاج الحسن والجميل أصلاً إلى مساحيق تجميليَّة وعمليات تقويميَّة؟ وما تأثير اللجوء إلى الأخلاق والدِّين في العنف ذاته؟ وهل يسهم ذلك في كبح جماح العنف وتحجيمه؟
إنَّ أوَّلَ ما ينبغي تأكيده هو عجز أطروحات الجمع والتَّوفيق بين العنف والأخلاق عن اجتياز امتحان الجدارة في مادتيّ الأخلاقيَّات والمنطقيَّات على حدٍّ سواء. ولا أظنني أبتعد من جادة الصَّواب إنْ قلت إنَّ التَّهافت المنطقيّ والتَّناقض في الفكر والإرادة، والازدواجيَّة في المعايير والرِّياء والافتراء هي الأثمان الَّتِي يدفعها، بالضَّرورة، منظرو التَّبرير الأخلاقيّ للعنف ومؤيدوه. إذ إنَّه من المستحيل منطقيًّا أنْ نستنبط من القضية الكُلِّيَّة الموجبة: "إنَّ جميع البشر إخوة أو نظراء في الخلق وحياة كل فرد منهم مقدَّسة" حكمًا يجيز أو يبيح قتل إنسان ما تمامًا مثلما يستحيل منطقيًّا أن نخلص من القضية الكُلِّيَّة الموجبة: "كلُّ إنسانٍ فانٍ" إلى إستنتاج مفاده أنَّ هناك إنسانًا غير فان. أما التَّناقض في إرادة مُنَظِّري العنف فيتجلَّى بأوضح صوره وأوقحها في ما يُسَمَّى بسياسة الكيل بمكيالين أو المعايير المزدوجة الَّتِي يَتِمُّ بموجبها، وعلى نحو اصطفائيّ وتعسُّفيّ، تبرئة أو إدانة عنف من دون آخر وفقًا لمعادلة: أنْ نقتلهم هو أمر جائز ويستحق الثَّناء والتَّقدير، أمَّا أنْ يقتلونا فذلك هو الشَّرُّ المستطير. وهذا ما يُفَسِّر لنا جانبًا من العلاقة الملتبسة والمضطربة بالإرهاب الدَّوليّ والتَّخَبُّط الفاضح في تعريفه وتحديد الجهات والحالات الَّتِي تندرج تحته. فالإرهاب يُحارَب ويُدَان في مكان ويُدْعَم ويُسْكَت عنه في غير بلد وزمان. فالعالم الغربيّ بزعامة الولايات المتحدة الأمريكيَّة الَّذِي اتَّخذ من شعارات الحُرِّيَّة والدِّيمقراطيَّة وحقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب برنامجًا سياسيًّا وإيديولوجيًّا متكاملاً لفرض وصايته الإمبرياليَّة يُعيب علينا استبدادنا وإرهابنا مع أنَّه لطالما تعاوَنَ وما يزال يتعاون مع الأنظمة الدِّيكتاتوريَّة ويمعن في دعم المنظمات الإرهابيَّة واستنساخها. وهو ذاته يرى، مثلاً، في مقاومة محتل أو أسر جندي إسرائيليّ إرهابًا وجريمًة لا تُغتفر، أمَّا إبادة شعب بأكمله فمسألة لا تستوجب حَتَّى مجرد الإدانة أو النَّظر. والتَّشكيك في الرِّواية الصَّهيونيَّة للهولوكوست هو معاداة للسَّاميَّة والإنسانيَّة بينما تدنيس مقدَّسات الآخرين والإساءة إلى رموزهم الدِّينيَّة والتَّعدِّي السَّافر على حقوقهم وكراماتهم هي مظهر من مظاهر حُرِّيَّة التَّعبير والاعتقاد الدِّيمقراطيَّة. ومن الأمثِلة القريبة على ذلك هو الرِّسالة الموسومة ب"مبادىء التَّضامن. بيان"- المنشورة على الموقع الإلكترونيّ لمركز أبحاث "الأوامر المعياريَّة" التَّابع لجامعة غوته في فرانكفورت بتاريخ 13 نوفمبر 2023- والموقَّعة من قِبَلِ ثُلَّةٍ من المفكرين والأكاديميَّين المعروفين من أمثال الفيلسوف الألمانيّ يورغن هابرماس، ونيكول ديتلهوف رئيسة قسم العلاقات الدَّوْليَّة ونظريات النِّظام العالميّ، وراينر فورست أستاذ النَّظريَّة السِّياسيَّة والفلسفة، وكلاوس غونتر أستاذ النَّظريَّة القانونيَّة والقانون الجنائيّ وقانون الإجراءات الجنائيَّة.
وخشية التَّخلُّف عن الرَّكْبِ والشُّعور بالذَّنْبِ، ولتحاشي "تأنيب الضَّمير" وغضب الرَّبِ سارع هؤلاء إلى تجديد البيعة والولاء وتقديم واجب المواساة والعزاء بالمصاب الأليم لإسرائيل عسى أنْ "يلهمها الله" الصَّبْرَ والسُّلْوَانَ، ويغفر لهم ولأبائهم النَّازيَّين والإمبرياليَّين ما تقدَّم وتأخَّر من خطايا وجرائم ارتكبوها ضِدَّ الإنسانيَّة جمعاء.
إنَّ أوَّلَ ما يلاحظه القارئ في هذه الرِّسالة الملتوية النَّسج والمتهافتة النَّهج هو انحيازها المسبق وتأييدها المطلق للكيان الإسرائيليّ-الصَّهيونيّ الغاصب ودفاعها المستميت عنه. وإلى جانب ما يعلنه مؤلفو هذه الرِّسالة عن إدانتهم "المجزرة الَّتِي ارتكبتها حماس ضِدّ إسرائيل المصحوبة بِالنِّيَّة الصَّريحة على إبادة الحياة اليهوديَّة بشكل عام"(12)، وما يبوحون به من حرص أحاديّ فائق على وجود إسرائيل، ومن محاباة رخيصة لها ولليهود عمومًا؛ فقد انطوى موقفهم على جملة كثيفة من الآراء المنكوسة والأحكام المعكوسة والايحاءات المُضْمَرَة الخبيثة، أهَمُّها:
أ- اجتزاء عملية طوفان الأقصى من سياقها التَّاريخيّ والتَّشديد على أعراض الدَّاء لا على الاحتلال الَّذِي هو أصل العلَّة والبلاء متناسين أنَّ هذه الحرب بدأها الصَّهاينة وبرعاية مباشرة من الدُّوَلِ الكولونياليَّة منذ ما يزيد على الخمسة وسبعين عامًا. إذ فاتهم أنَّ الحرب والعدوان إنَّمَا يبدؤهما الطَّرف الَّذِي يعمل، عن سابق إصرار وتصميم، على خلق أسبابهما وتهيئة مقدماتهما، ويسدُّ، في الوقت عينه، جميع الطُّرق المؤدية إلى السَّلام العادل، لا ذاك الطَّرف الَّذِي يناضل من أجل استعادة حقوقه المسلوبة وأراضيه المغتصَبة المنهوبة؛
ب- عمدت الرِّسالة إلى القفز بخفة بهلوانيَّة مدهشة فوق الوقائع التَّاريخيَّة وقلب الحقائق رأسًا على عقب بحيث استحال السَّببُ نتيجًة، والجلَّادُ ضحيًة، والوحش الإسرائيليّ-الصَّهيونيّ حملاً وديعًا، وعدوانه المتواصل والممنهج "ردًّا دفاعيًّا مُبَرَّرًا من حيث المبدأ..."(13)؛
ج- تعمَّد هابرماس وأتباعه المُقَلِّدين طمس روح المسألة وجذور المشكلة، وحرف الصِّراع عن موضعه وحقيقته بإضفاء طابع دينيّ عليه ليبدو كأنَّه عدوانٌ حماسويٌّ (إسلاميّ ضمنيًّا) ضد اليهود عامًّة؛
د- التَّلاعب بالمفاهيم والتَّعريفات على ما يتجلَّى ذلك في مماهاة السَّاميَّة باليهوديَّة والصَّهيونيَّة-الإسرائيليَّة وكأنَّ دلالة هذه المفاهيم والألفاظ واحدة، علمًا أنَّها ليست متطابقة أو متكافئة لا من حيث المضمون ولا من حيث الماصدق. وليس هذا التَّلاعب بالمفاهيم والتَّعريفات سوى تشويش أو تعمية إيديولوجيَّة يُراد منها تأبيد وجود إسرائيل وتحصينها تحصينًا شاملاً ضد المساءلة والمحاسبة. ولا يخفى، في المناسَبة، كم وافق هذا الخلط المخادع- وما يزال- يوافق هوى محاكم التَّفتيش الصَّهيونيَّة في سعيها الدؤوب إلى ملاحقة ومحاكمة كل من يجرؤ على نقد الممارسات الإسرائيليَّة وإيديولوجيَّتها العنصريَّة المتطرفة، وعلى الدِّفاع عن حقِّ الفلسطينيين في الوجود وإقامة دولتهم الحُرَّة المستقلة بِتُهَمٍ أربع جاهزة، وهي: الإرهاب، ومعاداة السَّاميَّة، والعداء لليهود، والتَّحريض على الكراهية؛
ه- ثَمَّة آفة قاتلة مُرَكَّبة تسري في أوصال الرِّسالة كلها. وتتمثل هذه الآفة في ازدواجيَّة المعايير (سياسة الكيل بمكيالين)، والافتقار إلى التَّماسك المنطقيّ، وإلى أبسط مقومات تسويغ الأحكام الَّتِي تطْلِقَها لكأنها تأمرنا أمرًا عسكريًّا بوجوب التَّسليم والالتزام بها من دون الإشارة إلى أسُسِها والإبانة عن أسبابها. ومن نافلة القول إنَّه ليس يُعَوَّل على كُلِّ ما لا يُعَلَّل. ففي هذه الرِّسالة لم يشرح لنا هابرماس وصحبه، مثلاً، لماذا أفعال إسرائيل مغفورة ومقبولة، وأفعال خصمائها مدانة ومرذولة؟ ولماذا لا ينبغي أنْ تكون مبادئ التَّضامن معها تحديدًا موضع جدال؟ علمًا أنَّ الأساس الَّذِي ينهض عليه وجودها ويسوِّغه يثير ألف سؤال وسؤال ومحطُّ خلاف وسجال حَتَّى في بعض الأوساط اليهوديَّة. ولم يفسِّروا لنا كذلك كيف ولماذا "تنحرف، حسب زعمهم، معايير الحُكْمِ تمامًا عن الصِّراط المستقيم وتَضِلُّ عن الطَّريق القويم عندما تُعْزَى نِيَّات الإبادة الجماعيَّة إلى التَّصرُّفات الإسرائيليَّة(14). إنَّ السُّؤال الَّذِي يقفز ههنا إلى الذِّهن فورًا هو: هل هناك معايير حكم ومبادئ عقليَّة وأخلاقيَّة خاصَّة بتقييم نِيَّات وأفعال اليهود والإسرائيليين تميِّزهم من العالَمين وتُفَضِّلهم عليهم؟ الإجابة عن هذا السُّؤال هي طبعًا بالنَّفي، لأنَّ الكلام على معايير ومبادئ أخلاقيَّة أساسيَّة هو كلام على ما يتجاوز الفروق العِرْقيَّة والجنسيَّة والدِّينيَّة والثَّقافيَّة بين البشر، ويدخلنا في صميم ما هو إنسانيّ عام وذو أهَمِّيَّة عامَّة بالنِّسبة إليهم. فالمبادئ الأخلاقيَّة مُلْزِمة للجميع وموجَّهة بالتَّساوي إلى كل شخصٍ فعليّ وممكن من غير استثناء. إضافة إلى ذلك، وإذ يُسْقِط هؤلاء قَبْليًّا عن إسرائيل تهمة الإبادة الجماعيَّة نِيًّة وفعلاً، جملًة وتفصيلا، فإنَّهم لا يمنحونها، زورًا وبهتانًا، صكَّ براءة وغفران عمَّا تَقَدَّم وما تأخَّر من مسلسل مجازرها الهيستيريَّة فحسب، بَلْ يرتكبون أيضًا أغلوطة تحويل علاقة ممكنة واقعيًّا وجائزة منطقيًّا إلى علاقة مُمْتَنَعة عمليًّا ونظريًّا بحيث يبدو ربط التَّصرُّفات الإسرائيليَّة بدافع الإبادة الجماعيَّة ليس محالاً من النَّاحية الواقعيَّة فحسب، بل مُمْتَنَعٌ منطقيًّا أيضًا. لكن وكما هو معلوم، فإنَّ إثبات ارتكاب أو عدم ارتكاب إبادة هو أمرٌ تقرِّره، في المقام الأوَّل، الوقائع والأحداث لا مزاعم هذا المفكر أو ذاك ولا حَتَّى قوانين المنطق. وإذا كان ممكنًا لبعض البشر ارتكاب المجازر فلا شيء يبرِّر استبعاد احتمال توافر النِّيَّة الجرميَّة الإباديَّة خلف التَّصرُّفات الإسرائيليَّة اللَّهم إلاَّ إنْ أدرَجَت الثُّلَّةُ الهابرماسيَّة الإسرائيليَّين في عداد أولياء الله الصَّالحين والمعصومين، الأمر الَّذِي يعني أنَّ حمل نِيَّة الإبادة الجماعيَّة على أفعالهم يُشَكِّل تناقضًا بالتَّعريف. وما هذا وذاك إلاَّ وَهْمٌ وهراء. لكن وبالعودة إلى الواقع، فإنَّ الأدِلَّة تشير إلى العكس تمامًا ممَّا تدَّعيه هذه الثُّلَّة. فلا تَمُرُّ دقيقة إلاَّ وتمطرنا وسائل الإعلام بوابل كثيف وشلَّال غزير ممَّا لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على بال وخيال بشر من مشاهد حية لمآسٍ قَلَّ نظيرها في تاريخ البشريَّة. إنَّ أفعالاً من مثل التَّهجير القسريّ والحصار المزمن لشعب يعيش واقعيًّا تحت الاحتلال وفي معسكرات اعتقال، ومن مثل الإعدامات الميدانيَّة والقتل والجرح لعشرات الألوف من نسائه وأطفاله ورجاله، والتَّدمير الكُلِّيّ لمستشفياته ومدارسه ودور عبادته ومنازله، والتَّجويع والحرمان التَّام من الماء والغذاء والكهرباء والدَّواء - هي أفعالٌ تُشَكِّلُ، منفردة ومجتمعة، أمثلة نموذجيَّة للإبادة الجماعيَّة المكتملة العناصر والمواصفات. وبالاتِّفاق مع هذا يمكن القول إنَّه ولما كانت طبيعة الأفعال الإسرائيليَّة ضِدَّ الفلسطينيين وغيرهم من الشُّعوب لا تختلف جوهريًّا عن الأفعال النَّازيَّة ضِدَّ اليهود كان من غير الجائز أنْ نطلق عليهما حكمين متضادين أخلاقيًّا. فمن الإجحاف والعبث بمكان أنْ ندين الثَّانية ونقبِّحها وألا ندين الأُولى ونجرِّمها، وبالعكس. فالمسألة الأساسيَّة هنا هي أنَّ أفعالاً كهذه، بحكم طبيعتها، لا يمكن أنْ تكون حسنة وواجبة أخلاقيًّا. فاختلاف هُوِيَّة فاعلها والآمر بها وآليات تنفيذها لا يُغَيِّر شيئًا من طبيعتها، أيْ كونها أفعالاً من نوع معيَّن لا من نوع آخر. فالسرقة سرقة أيًّا يكن السَّارق والمسروق، والقتل قتل أيًّا يكن القاتل والمقتول، وكذلك، على المقلب الآخر، العِشْقُ عِشْقٌ أيًّا يكن العاشق والمعشوق. وطبقًا لهذه الرُّؤية يمكن القول إنَّه إذا كان اليهود هُمْ أحد ضحايا المحرقة النَّازيَّة، فإنَّ الفلسطينيين هُمْ ضحايا هولوكوست مركَّب ومضاعَف ومزدوج: الفاشيّ-الألمانيّ؛ والصَّهيونيّ-الإسرائيليّ. وَمَثَلُ الَّذِي يبرئ إسرائيل من دمِّ الفلسطينيين ومن تُهْمَةِ التَّطهير العُرْقيّ والإبادة الجماعيَّة في حقهم كَمَثَلِ الَّذِي يبرئ النَّازيَّة من المذابح الَّتِي ارتكبتها ضد الإنسانيَّة، لأنَّ الصَّهيونيَّة والنَّازيَّة صنوان ووجهان لعملة لاأخلاقيَّة واحدة. وفي الحقيقة، ما هُمَا إلاَّ صورتان في مرآة واحدة، وصورة في مرآتين. وكل واحدة منهما تتمرأى في الأُخرى. إذ إنَّ لوثة جنون العظَمة والتَّفَوُّق لدى الطَّرفين هي نفسها، وأفعالهما واحدة، وجوهرهما واحد، والادِّعاء بنقاء الأصل واصطفاء العُرْقِ واحد وإنْ اختلف اسْمُ الفاعل واسْمُ الضَّحية ومسرح الجريمة وزمانها. وكما أنَّ التَّطهُّر من نجاسةٍ لا يكون بنجاسةٍ من نوعها، والاغتسال من جنابة لا يصح بجنابة أقذر منها، فكذلك لا شرعيَّة للتبرؤ من الإثم النَّازيّ بمباركة انتقام دمويّ مَرَضيّ صهيونيّ-إسرائيليّ آخر أفظع منه وأشنع، بخاصَّةٍ، أنَّه يثأر لنفسه من شعب لا يَمُتُّ بأيِّ صلة نسب إلى الرَّايخ الثَّالث لا من قريب ولا من بعيد. وبلغت ازدواجيَّة المعايير على يد هابرماس ذروة اللامعقوليَّة عندما أخذ يجاهر ويُلحُّ- متذرِّعًا ب"الرُّوح الدِّيمقراطيَّة لجمهوريَّة ألمانيا الاتِّحاديَّة الموجَّهة نحو الالتزام باحترام الكرامة الإنسانيَّة- على وجوب إيلاء وجود إسرائيل والحياة اليهوديَّة حمايًة خاصَّة في ضوء الجرائم الجماعيَّة إبَّان الحقبة النَّازيَّة"(15) في حين أنَّه لم ينبس ببنت شفة عن حقِّ الفلسطينيين في الوجود وإقامة دولتهم الحُرَّة المستقلة. ولنا هنا أنْ نسأل هابرماس ونتساءل بدورنا أيُّ رُوح ديمقراطيَّة لجمهوريَّة ألمانيا الاتِّحاديَّة هي هذه الَّتِي تمالئ وتناصر كيانًا عنصريًّا لاديمقراطيًّا غاصبًا يضع إرادته فوق إرادة الشَّرعيَّة الدَّوْليَّة ضاربًا بعرض الحائط قراراتها ومواثيقها، ويضطهد الفلسطينيين ويُذِلُّ كرامتهم الإنسانيَّة؟!!! وأيُّ رُوح ديمقراطيَّة لجمهوريَّةٍ هي أعجز وأوهن من أنْ تحيد قِيْد أنملة عن ما ترسمه لها الاستراتيجيات الأمريكيَّة ولوبيات الضَّغط الصَّهيونيَّة على المستويات السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة كافة؟!!! ثُمَّ ماذا يبقى من معاني الدِّيمقراطيَّة لجمهوريَّة ألمانيا الاتِّحاديَّة إذا كانت "ثقافتها السِّياسيَّة تَعِدُّ الحياة اليهوديَّة وحقَّ إسرائيل في الوجود عنصرين مركزيَّين يستحقان حمايًة خاصَّة"(16)، وتستنفد استغراقيًّا حقيقة الرُّوح الدِّيمقراطيَّة والكرامة الإنسانيَّة في هذين العنصرين؟!!! فالكلام على عناصر مركزيَّة تستحق حمايًة خاصَّة في هذا السِّياق يفترض، بالضَّرورة، وجود عناصر ثانويَّة وهامشيَّة هي أقَلَّ أهمِّيًّة واستحقاقًا وجدارة بمزيَّة الحماية من غيرها. ولا شكَّ في أنَّ ثقافًة سياسيَّة كهذه تخالف وتقوِّض، على نحوٍ صارخ، جملة من أُسُسِ النِّظام الدِّيمقراطيّ، أوَّلها مبدأ ضرورة حياد الدَّولة الدِّيمقراطيَّة إزاء مختلف الأعراق والدِّيانات؛ ثانيها مبدأ المساواة في الحقوق؛ ثالثها عدم جواز قوننة الدَّولة الدِّيمقراطيَّة لأيِّ مادةٍ تقود، عمليًّا، إلى ترجيح حقِّ جماعة معيَّنة، أكانت عِرْقيًّة أم دينيًّة أم سياسيًّة، في الوجود والحياة على الحقِّ نفسه لسائر الجماعات. بالطَّبع، إنَّ حقَّ اليهود في الحياة وليس فقط في الحياة، بل في الحياة الحُرَّة الآمنة والكريمة هو حقُّ لا يمارى فيه ما دام هذا الحقُّ لا يتعارض مع إعطاء حقٍّ مماثل لكل من عداهم. بَيْدَ أنَّ مغالاة هابرماس في التَّشديد على وجوب إيلاء وجود إسرائيل والحياة اليهوديَّة عنايًة خاصَّة لا تَنِمُّ عن مَيلٍ معادٍ للرُّوح الدِّيمقراطيَّة فحسب، وإنَّمَا تتناقض أيضًا مع قوله الصَّائب: "إنَّ الحقوق الأساسيَّة في الحُرِّيَّة والسَّلامة الجسديَّة وكذلك في الحماية من التَّشهير العنصريّ هي حقوق غير قابلة للتَّجزئة وتنطبق على الجميع بالتَّساوي"(17). ويعني القول الأخير أنَّ الحقوق الأساسيَّة المذكورة ليست امتيازًا وشأنًا خاصًّا باليهود أكثر منها شأنًا خاصًّا بالبوذيين أو المسلمين أو المسيحيَّين أو الوثنيين أو غيرهم. إنَّها بهذا تصبح شأنًا وحقًّا إنسانيًّا عامًّا، ومن ثُمَّ، لا يُعْقَل أنْ تكون من امتيازات أيِّ دين من الأديان أو أُمَّة من الأُمَمِ أو طبقة من الطبقات. بعبارة أُخرى، لا مهرب لهابرماس من مواجهة مأزق منطقيّ حاد يُلْزِمَهُ باختيار واحد من بديلين متعارضين كلاهما غير مرغوب فيه، حَتَّى من وجهة نظره. البديل الأوَّل هو التَّمسُّك بالحماية (المعاملة، الرِّعاية، العناية) الخاصَّة لإسرائيل واليهود وعندئذ لا يعود ثَمَّةَ معنىً أو قيمةٌ للكلام على حقوق أساسيَّة متساوية لجميع البشر لا امتياز حصريًّا فيها لأُمَّةٍ أو لِمِلَّةٍ على غيرها. والبديل الثَّاني هو التَّمسُّك بمنطق المبادئ الأخلاقيَّة والدِّيمقراطيَّة فيبطل عندئذ مبرِّر المطالبة بامتياز حقِّ الحماية الخاصَّة. إضافة إلى ذلك، ينطوي موقف هابرماس على أغلوطة لا تخفى على عاقل. وتكمن الأغلوطة في هذا الموقف في أنَّه يعطي عامِلَ الانتماء إلى عِرْقٍ ودِينٍ معيَّنين أهمِّيًّة في تحديد كيفيَّة تعاملنا مع البشر إنسانيًّا وأخلاقيًّا، أيْ يمنح أهمِّيًّة لما لا أهمِّيَّة له على الإطلاق بالنِّسبة إلى المسألة الأخيرة. فلا علاقة ضروريَّة بين اختلاف السِّمَاتِ الجسمانيَّة كلون البشرة ولون العيون وشكلها ونوع الشَّعر، والتَّمييز في المعاملة الأخلاقيَّة. زد على ذلك، لا دليل على الرَّبط بين السِّمَاتِ العِرْقيَّة أو الجسمانيَّة والخصال الأخلاقيَّة، ولا هذه الأخيرة مشتقة من الأولى. كما أنَّ اختلاف المعتقدات الدِّينيَّة أو الفلسفيَّة أو العلميَّة، بدوره، لا يُعقل أنْ يُشَكِّلَ أساسًا لأيِّ اختلاف في المعاملة الأخلاقيَّة. وعلى المستوى الشَّخصيّ لا أعرف استدلالاً علميًّا يمكن لِحَدِّهِ الأوسط ومحمولات مقدِّماته أنْ يدعما دعمًا كافيًا الاستنتاج أو الحكم القائل بوجوب منح اليهود وإسرائيل أو غيرهما حمايًة خاصًّة استثنائيَّة مُطْلَقَة. وعليه، أرى أنَّه ليس في جعبة هابرماس الإيديولوجيَّة الرَّثَّة ما "يُسَوِّقُ" به إعطاء وجود إسرائيل والحياة اليهوديَّة مزايا تفضيليَّة سوى اجترار وتكرار مقيت لأُسطورة شعب الله المختار التَّوراتيَّة. وإذا كانت المحرقة الَّتِي تَعَرَّضَ لها اليهود إبَّان الحقبة النَّازيَّة هي المسوِّغ الرَّئيس لوجوب إيلائهم حماية خاصَّة، فأليس من باب أوْلَى أنْ يَنْعَمَّ الفلسطينيون بمثل هذا الامتياز في ضوء المجازر الَّتِي ترتكبها إسرائيل وأعوانها المتصهينين في حقِّهم؟!!! وماذا عن الأقوام والشُّعوب الأُخرى الَّتِي تعرَّضت عبر التَّاريخ للإبادة والمجازر الجماعيَّة؟ ألا تستحق معاملة خاصَّة مماثِلة لتلك الَّتِي لإسرائيل واليهود، يا تُرَى؟!!! لا شَكَّ في أنَّ هذه الأسئلة وغيرها تضع هابرماس وكل من يدور في فلكه أمام خيارين أحلاهما مُرٌّ: إمَّا أنْ ينفوا حقائق تاريخيَّة معروفة للقاصي والدَّاني وهذا منتهى الجهل والتَّجاهل أو أنَّ شعارات الحُرِّيَّة والدِّيمقراطيَّة والكرامة الإنسانيَّة الَّتِي يتبجَّحون بها ليست إلاَّ قناعًا جاذبًا وتَغَنِّيًا كاذبًا تتوارى خلفهما إرادة القُوَّةِ ونوازع العنصريَّة والإرهاب. والحال أنَّ رائد الفكر التَّواصليّ والدِّيمقراطيَّة التَّداوليَّة وأخلاقيَّات الخطاب لم يُحْسِن برسالته التَّضامنيَّة مع إسرائيل سوى انتهاك ما يُنَظِّر له ويدعو إليه. ولا أظنني أُجانب الصَّواب إنْ قلت إنَّ ثَمَّةَ قاسمًا مشتركًا وجوهريًّا يجمع بين بيان هابرماس وتصريح وزير الدِّفاع الإسرائيليّ يوآف غالانت الَّذِي عَدَّ الفلسطينيين حيوانات متوحِّشة في هيئة بشريَّة. صحيح أنَّ هذه العبارة الأخيرة غابت عن بيان هابرماس إلاَّ أنًّ معناها حضر فيه بِقُوَّةٍ من خلال إصراره الوقح على نفي نِيَّة الإبادة الجماعيَّة عن إسرائيل بغْيَة تأكيد تمدُّنها وسويَّتها مقابل همجيَّة الفلسطينيين وتوحُّشهم، ومن خلال اللُّغة الَّتِي يتحدَّث بها عن عملية طوفان الأقصى والنُّعوت الَّتِي يطلقها على منفِّذيها. فهو ينحى باللائمة عليهم ويصفهم بأردأ النُّعوت من مثل "الوحشيَّة الفائقة" extreme atrocity و"مجزرة حماس" Hamas massacre، في حين أنَّه يعفي إسرائيل كُلِّيًّا من المسؤوليَّة مكتفيًا بوصف ممارساتها الإجراميَّة ب"أفعال إسرائيل" Israel's actions أو "ردة فعل إسرائيل" Israel's response من دون أدنى إشارة إلى طبيعة هذه الأفعال ونوعها ومشروعيَّتها. ولا يحتاج واحدنا إلى كبير عناء ليدرك مدى افتقار ازدواجيَّة المعايير إلى المصداقيَّة وتعارضها مع المبادئ والقواعد الأخلاقيَّة الأساسيَّة من مثل القاعدة الذَّهبيَّة للأخلاق في صيغتَيها السَّالبة والموجبة (ما لا تحبه في الآخر لا تفعله أنت نفسك) و(عامِل الآخرين بما تحب أنْ يعاملوك به)، ومبدأ قابلية الكوننة (ينبغي معاملة جميع الحالات المتماثلة في السِّمات الأساسيَّة بالتَّساوي، وأنَّ أيَّ اختلاف في المعاملة ينبغي أنْ يعكس اختلافًا نوعيًّا ملحوظًا بين الحالات الَّتِي تُعَامَل على نحوٍ مختلف). فازدواجيَّة المعايير تُشَكِّل تناقضًا في الإرادة وتهافتًا في الفكر. وهذا التَّناقض يَنِمُّ، كما نبَّهَنا كانط، عن انتهاك فاضح للواجب الأخلاقيّ ولكُلِّيَّة قانونه. بعبارة أُخرى، تقتضي المبدئيَّة والمصداقيَّة اتِّساق الإرادة وإلاَّ فإنَّ المسافة الفاصلة بين ازدواجيَّة المعايير والعدميَّة الأخلاقيَّة قصيرة جِدًّا. وينبغي لمن يدَّعي محاربة الإرهاب والاستبداد والعنصريَّة ألا يكون منطقه ومسلماته وممارساته هي عين ما يستبعده وينفيه. وفي ضوء كل ما سبق عبثًا يحاول المرء العثور على "مبادئ التَّضامن" في هذه الرِّسالة الملئ بركام هائل من التَّضامن اللامبدئيّ غير المُبَرَّر بأيِّ وجه حقٍّ.
وبالانتقال إلى مسألة الاستنجاد بالأوامر والنَّواهي الإلهيَّة لتبرير العنف وحسم الخلافات بين البشر حول ما هو خير وما هو شَرٌّ لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ هذا الاستنجاد إنْ لم يكن هو بالذَّات واحدًا من العوامل المؤججة لها، لن تكون له نتيجة سوى نقلها إلى مستويات أُخرى تجعلها أعسر على الحَلِّ عمليًّا ونظريًّا. ذلك أنَّ إصرار كل جماعة أصوليَّة دينيَّة على أنَّ دينها هو الدِّين الحقُّ وكتابها هو الكتاب الصَّحيح غير ذي عِوَجٍ أو تحريف، وأنَّها شعب الله المختار وطفله المُدَلَّل والفرقة الوحيدة النَّاجية، باعتبار أنَّ لله حزبًا واحدًا لا يتعدَّد وأحزاب كثيرة أُخرى كلها للشَّيطان والطَّاغوت، وأنَّ هناك حقًّا واحدًا لا يتعدَّد والطَّريق إليه واحد أيضًا، وما عداه فهو الضَّلال(18)، سيؤدِّي، لا محالة، إلى إثارة خلافات ومجادلات عقيمة بيندينيَّة وضمندينيَّة وميتادينيَّة يستغلق فيها الفهم وتستعصي إبستيمولوجيًّا على الحسم. فكل فئة منهم تطحن الهواء وتقاتل ظلالها وظلال خصومها، لأنَّها تجاوزت حدود الخبرة الممكنة والتَّاريخ والعقل إلى حيث لا وجود لشيء يمكن لِمزاعمها القطعيَّة أنْ تمسك به وأنْ تستمر معه. وقد أدرك أبو العلاء المعرِّي بحدسه الفلسفيّ النَّفَّاذ هذه الحقيقة وعَبَّرَ عن تداعياتها الفتنويَّة على العلاقة بين أهل الشَّرائع بأُسلوبه الأخَّاذ: في اللاذقيَّة ضجَّةٌ ما بين أحمد والمسيح، هذا بناقوسٍ يدقُّ وذا بمئذنةٍ يصيح، كُلٌّ يُعَظِّم دِينَهُ يا ليتَ شِعري ما الصَّحيح. وحين أشار إلى تشَوُّشِ الأفهام النَّاجم عن التَّضارب الحاصل بين فتاوى أهل الشَّريعة الواحدة بقوله: أجاز الشَّافعيُّ فعالَ شيءٍ وقال أبو حنيفة لا يجوزُ، فَضَلَّ الشِّيبُ والشُّبَّانُ مِنَّا وما اهتدت الفتاةُ ولا العجوزُ. والحال أنَّه من المحال أنْ ينتهوا إلى غير هذا المآل ما دام كل طرف يُمَجِّد دينه ولسان حاله يقول إنَّ إنكار ديني أو العدول عن مذهبي ولو في قِيْد شبر هو كفر، ومباينته ولو في شيء نزر هو ضلال وخُسْر. وما نشاهده على المستوى الضُّمندينيّ هو غلبة الخلاف والشِّقاق بين أخوة الدِّين لا الاتِّفاق. فهؤلاء أيضًا يحقُّ عليهم قوله تعالى في الآية 14 من سورة الحشر: "تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى". وليست قلوب المشاركين في المِلَّة الواحدة متآلفة ولا آراؤهم متطابقة. فأتباع الدِّين الواحد، سواء أكانوا يهودًا أم مسيحيين أم مسلمين، ليسوا على اتِّفاق في كيفية تأويل نصوص دينهم اللاهوتيَّة منها والعمليَّة، ولا هُمْ رُحَمَاء بينهم ولا هُمْ رُحَمَاء على غيرهم. والحقُّ أنَّهم أشِدَّاء على بعضهم كما على غيرهم، ولا أحد من الخلائق في مأمن من شرِّهم. فالنَّفي الضُّمنديني المتبادل لا بدَّ وأنْ يُتَرْجَم، عاجلاً أو آجلاً، إلى نفي بيندينيّ مماثل. وفي ضوء ذلك كله نترك لك أيها القارئ الكريم أنْ تتخَيَّل نوع العلاقة بين أتباع الدِّيانات فيما لو بادر كل منهم إلى اقحام تعاليمه الدِّينيَّة في الفضاء العام وإقامة دولته ونظامه السِّياسيّ-الحقوقيّ بذريعة مفادها أنَّ من لم يَحْكُمْ بِمَا أنزل اللهُ فأولئك هُمُ الكافرون والظَّالمون والفاسقون، وأنَّ ما لا يَتِمُّ التَّكليف الإلهيّ أو الواجب الدِّينيّ إلاَّ به فهو واجب، وشَرَعَ، في الوقت عينه، في إحياء الأحقاد والثَّأرات القديمة وتفعيل "المادة" المتعلَّقة بوجوب قتل الكُفَّار والمشركين والمرتدِّين أينما وجدوا. وهنا تتولَّى السُّيوف والسِّنان حسم ما عجز عنه البرهان واللِّسان، فيسارع كُلُّ طرف إلى تطبيق فتوى "يستتاب وإلاَّ يُقتل" واِتِّهام من يخالفه الرَّأي والمعتقَد بالضَّلال والكفر والفساد والانحلال وغيرها من النُّعوت الَّتِي من شأنها تسفيه الخصم وأبلسته وإقصاؤه من دائرة الَّذِينَ يستحقون العيش والاحترام، وإلى تحويل الخلافات العقيديَّة إلى خطوط تماس مستقيمة لتبادل القصف والرِّمايات إلى أنْ يقضي الله أمرًا كان مفعولاً. وغنيٌّ عن البيان ما لهذا الميل الأصوليّ الأحاديّ والاستعلائيّ المغلق، سواء اتَّخَذَ صورة لاهوتيَّة أم ناسوتيَّة، من نتائج وخيمة عانت منها البشريَّة طويلاً، ماضيًا وحاضرًا، وستعاني منها مستقبلاً ما بقي هذا الميل قائمًا.
أخلص من ذلك كُلِّهِ إلى القول إنَّ التَّبرير الأخلاقيّ للعنف، لا سِيَّمَا، إذا ما اقترن بعناوين ومسوغات دينيَّة، لا يُخَفِّف من وطأته ولا يُلَطِّف شراسته كما يُعتقد عادةً، بَلْ على العكس من ذلك تمامًا. فمن شأن تبرير كهذا أنْ يُضفي على العنف طابعًا وجوديًّا شاملاً لا رجعة عنه ولا مُهَادَنة فيه ابدًا لا البارحة ولا اليوم ولا غدًا، ويخلق مناخًا مشبعًا بالكراهية والعدوانيَّة يغدو فيه الاستنكاف عن العنف مهانًة وذُلاًّ وعارًا وجبنًا وتواطوءًا شيطانيًّا مع الشَّرِّ لا يُغتفر. وهذه المماهاة بين نبذ العنف والخطيئة والخنوع تحيلنا إلى مساءلة الأطروحة الثَّانية لدعاة الجمع والتَّوفيق بين العنف والأخلاق.
بادئ بدء تجدر الإشارة إلى أنَّ مثال اللاعنف قلَّما حَظِيَ بتأييد أو قبول واسع في أوساط السَّاسة والمفكرين والنَّاس العاديين باعتبار أنَّه ليس أكثر من حلم جميل أو وَهْم نبيل، لكنه مستحيل. وغالبًا ما تَمَّ ازدراء مؤيديه، وإدراج الدَّعوة إليه في دائرة الشُّبْهة والاتِّهام باعتبارها تنظيرًا ونظيرًا للعجز والاستسلام والتَّحلُّل من واجب مقارعة الشَّرِّ الاجتماعيّ. وبالفعل، لو صحَّ هذا القصد لَفَقَدَ الخيار اللاعنفيّ قيمته ومعناه. غير أنَّه، وفي حالة الظُّلم أو القهر الاجتماعيّ، ثَمَّة إمكان على وجه الإجمال، لاستجابات عِدَّة منها طبعًا الخضوع والذِّلَّة والانهزام أو العنف المضادُّ ومقاومة الشَّرِّ الاجتماعيّ بالوسائل العنفيَّة ذاتها على قاعدة العين بالعين والسِّن بالسِّن و"المعاملة بالمثل" و"لا يفلُّ الحديد إلاَّ الحديد". بَيْدَ أنَّه لو اقتصرت الخيارات المتاحة واقعيًّا على هذين البديلين فقط لكان العنف المضادُّ، من دون أدنى شَكٍّ، هو الموقف الأقل سوءًا والأهْوَن شرًّا. وإلى هذا المعنى ذهب شيخ الطَّريقة اللاعنفيَّة ونصيرها المبدئيّ المهاتما غاندي بقوله: "لو خُيِّرت بين اثنين لا ثالث لهما: العنف أو الجبن، لاخترت العنف غير متردد، فلا محل للجبن في موقفنا..."(19). لكن هذين الخيارين لا يستنفدان جميع ردود الفعل الممكنة على الظُّلم الاجتماعيّ. إذ ثَمَّة بديل ثالث ممكن إلى جانب البديلين الأولَين ألا وهو النِّضال اللاعنفيّ الَّذِي يتطلَّب، في اعتقادي، قدرًا عظيمًا من الشَّجاعة والقُوَّةِ الرُّوحيَّة والسُّمُوِّ قَلَّ أنْ نجد نظيرًا له في الثَّورات العنفيَّة. ومن الشَّواهد على ذلك يمكن أنْ نذكر تجارب لاعنفيَّة ملهمة لقادة تاريخيين افذاذ أمثال المهاتما غاندي ومارتن لوثركينغ ونيلسون مانديلا وغيرهم ممن أناروا للبشريَّة معالم دروب آمنة ولائقة لحل تناقضاتها واجتراح مخارج لمآزقها من غير عنف أو بأقَلِّ قدر منه. وفي معرض التَّأكيد أنَّ العفو واللاعنف أقرب إلى الشَّهامة وأليَق بالمروءة الإنسانيَّة من الثَّأر يحضرني قول للفيلسوف أبي حامد الغزالي يتساءل فيه كيف يُستقبح العفو والإنعام ويُستحسن طول الانتقام... علمًا أنَّ العادة قاضية والعقول مشيرة إلى أنَّ التَّجاوز والصَّفح أحسن من العقوبة والانتقام، وثناء النَّاس على العافي أكثر من ثنائهم على المنتقم، واستحسانهم العفو أشَدُّ…(20)؟!!! وفي ضوء ما سبق أتساءل بدوري: هل يُعقل، حقًّا، أنْ يكون العنف هو الخيار الأكثر استحسانًا وتفضيلاً على أيِّ خيار آخر؟ وهل يصلح العنف أنْ يكون السِّلاح الأمضى والأنسب لاجتثاث أو تفادي عنف آخر أعظم على ما تزعمه أطروحة أهل العنف الثَّالثة؟
يبدو لي أنَّ العنف بصفته شَرًّا لا يمكن أن يكون خيارًا أخلاقيَّا وموضوعًا للاختيار الأخلاقيّ، بقدر ما أنَّ الشَّرَّ، وظيفيًّا، هو ما يريد الإنسان تَجَنُّبَه، أي ما لا يرغب أو لا يريد اختياره. ومن يقول عكس ذلك فهو كمن يقول، مثلاً، إنَّ اختيار أمر ما هو عين اجتنابه وعدم اختياره أو إنّ فعل شيء هو بمكانة عدم فعله. ولا شكَّ في أنَّ قولاً كهذا يوقع أصحابه في فخِّ اللَّغو الفارغ والمغالطات المنطقيَّة بقدر ما يمعنون في إثبات الاختيار في معرض نفيه وإثبات اجتنابه. إضافة إلى ذلك، فإذا ما فهمنا بالاختيار القرار الطَّوعيّ والواعيّ المسؤول للإنسان، وإنَّ مفردة "الاختيار" مشتقة لُغَويًّا من كلمة "خير" وتَمُتُّ إليها بِصِلَةِ نسب وطيدة، فسرعان ما سيتضح لنا، عندئذٍ، أنَّ الكلام على"اختيار العنف"، بما هو أكثر أشكال الشَّرّ تطرفًا والَّذِي لا يمكنه أنْ يكون أكثر صلاحًا وتفضيلاً على ما عداه، ليس إلاَّ لغطًا لَغْويًّا خارقًا وفذلكًة سوفسطائيَّة غير جائزة. والشَّيء نَفْسه ينطبق، أيضًا، على مقولة "اختيار أهْوَن الشَّرَّين وأخفِّ الضَّررين" الَّتِي كثيرًا ما يُستعان بها كصيغة مُنْقِذَة لإضفاء مسحة أخلاقيَّة على بعض الأفعال العنفيَّة كالقتل دفاعًا عن النَّفْسِ أو الموت في ساحات الجهاد. ذلك أنَّ هذه القاعدة، بدورها، أعجز عن أنْ تمنح العنف تأشيرة دخول إلى مملكة القيم الإنسانيَّة العامَّة، فما بالك بحقِّ اللجوء الأخلاقيّ إليها والإقامة الدَّائمة فيها!!! والأصل في ذلك يعود إلى كون المقولة المذكورة مُبَرَّرة فقط بقدر ما أنَّها لا تتكلَّم على اختيار الشَّرِّ بالمطلق، إنَّمَا على إتيان الشَّرِّ الأقَلِّ سوءًا في ظِلِّ ظروف خانقة وبدائل محدودة جِدًّا أو معدومة. فليس في هذه القاعدة أساس كاف يُسَوِّغ تحويلها (كما يحلو للبعض أنْ يفعل) إلى تعويذة سحريَّة تقلب الشَّرَّين الأكبر والأصغر أو أحدهما إلى خير. وهذه أغلوطة شنيعة يرتكبها القائلون بأنَّ الخير هو أهْوَنُ الشَّرَّين أو إنَّ الأقَلَّ شَرًّا هو "خير" من الأكثر شَرًّا و"أحسن" و"أصلح" و"أفضل" منه. فإذا قلنا، مثلاً، إنَّ المرض أ أشَدُّ خطورة على حياة الإنسان من المرض ب، فإنَّ ذلك لا يعني البتَّة أنَّ ب صار صحَّة وعافيًة بالمقارنة مع أ. ولو أخذنا قوله تعالى في الآية 191 من سورة البقرة "والفِتْنَةُ أشَدُّ مِنَ القَتْلِ"، وكذلك الآية 217 من السُّورة ذاتها "والفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ"، فإنَّه لا يمكن أنْ يعني أنَّ القتل خير من الفتنة وأنَّه صار مرغوبًا ومطلوبًا ومأمورًا به. فالآيتان تدلان على أنَّ الأمرين سيئان، وأنَّ الفتنة فاقت القتل في تلك الصِّفة، أيْ إنَّ الاختلاف بين المشبَّه والمشبَّه به هو اختلاف في درجة القبح والسُّوء لا في القبح ذاته. وأيًا تكن قواعد الصَّرف اللُّغَويّ والتَّحويل المنطقيّ واستراتيجيات التَّفسير والتَّأويل، فالسيئ لا ينقلب بقدرة قادر وسحر ساحر إلى جَيِّد حَتَّى عند مقارنته مع الأكثر سوءًا. فالشَّرُّ شرٌّ، والضَّرر ضرر سواء قَلَّ أو كثر، ظهر أو استتر. وتجدر الإشارة إلى أنَّ مقولة "الخير هو أهْوَن الشَّرَّين" تُلْزِم أصحابها بارتكاب أغلوطة أُخرى من نوعها تقتضي بتعريف الشَّرِّ على أنَّه أهْوَن الخيرين. ومن الواضح، أيضًا، أنَّه لا مهرب ولا مَفَرَّ من ارتكاب أغلوطة الاشتراك equivocation fallacy وتربيع الحدود المنطقيَّة وتبديل المفهوم لكل من يستدل من "الأهْوَن والأخف ضررًا والأقل شَرًّا" على أنَّه خير. فهو بذلك يستعمل، على نحو تعسُّفي، "الأقَلَّ شَرًّا" بمعنى "خير"، وكأنَّ دلالة هذه المفاهيم المختلفة واحدة ومترادفة. وهذا الأمر يشكل مخالفة صارخة لأحد أبرز قوانين التَّفكير المنطقيّ وعنيت به قانون الهُوِيَّة law of identity الَّذِي ينصُّ على عدم جواز تبديل أحد المفاهيم (الأفكار، الموضوعات) في سياق الاستدلال الواحد بغيره. فلا يصح تقديم المفاهيم المتطابقة (المتماثلة، المتماهية) على أنَّها متباينة، ولا يجوز، في المقابل، تقديم المفاهيم المختلفة معانيها على أنَّها متماثلة ومترادفة. إضافة إلى كُلِّ ما سبق، ينبغي القول إنَّه وفي حالة العنف والعنف المضادِّ، فإنَّ الأهْوَنَ أو الأقَلَّ لا يحصل بأيِّ وجه من الوجوه. فلكي نطفئ عنفًا بعنف مضادٍّ، فإنَّ الثَّاني ينبغي أنْ يفوق الأوَّل ويزيده، أيًّا تكن وحدة القياس المعتَمَدة. وبذلك فإنَّ شرَّ العنف لا يتناقص، بَلْ يتضاعف على الأقَلِّ، بمقدار كمِّيَّة الشُّرور والنَّوائب الكامنة في العنف المضادِّ فيكون المجموع العام: "شرَّين بعد شرٍّ واحد"(21)، حسبما عبَّر المهاتما غاندي. وإذا جاز لي التَّعبير عن العلاقة الكمِّيَّة بين العنف والعنف المضادِّ بلغة علم الحساب لقلت جازمًا إنَّ العلاقة بين النِّصَابين ليست علاقة طرح أو قسمة، إنَّمَا هي علاقة جمع وضرب. وبالفعل، فإنَّ الميل إلى استئصال شأفة العنف بمثله أدَّى عبر التَّاريخ إلى مضاعفة أعباء الوجود وزيادة أثقاله مضيفًا إلى المصائب القديمة مصائب أُخرى جديدة. ومن يعتقد أنَّ تجاوز العنف متعذِّر من دون عنف مضادٍّ له في الاتِّجاه يساويه أو يكبره قوَّةً فهو كَمَثَلِ من يعتقد أنَّ بالإمكان إطفاء حريق بواسطة إشعال حريق آخر إلى جانبه أو التَّطهُّر من نجاسةٍ بنجاسة من نوعها أو أوسخ منها، فيزداد بذلك نجاسًة على نجاسة وقبحًا على قبح. ولا مِرَاءَ في أنَّ اعتقادًا فاسدًا كهذا ليس هذيانًا فحسب، إنَّمَا هو أيضًا أسوأ الفتاوى والأباطيل الإيديولوجيَّة الشَّائعة والكامنة وراء موجات سباق التَّسلُّح المتلاحقة الَّتِي تضمن، حتمًا، إقامة سلام دائم وأبديّ بين البشر، لكن على مقبرتهم الجماعيَّة الكبرى فقط.
وعلى وقع تحدِّيات التَّاريخ المعاصر ومنزلقاته الخطرة يمكن القول إنَّ الطَّريق الملكيّ للوصول إلى عالمٍ خالٍ من جنون العنف هو التَّخلِّي عن استراتيجية العنف ذاتها وإطراحها من التَّداول العمليّ ومن فضاءات التَّرويج الإيديولوجيّ والتَّبرير القيميّ. فالعنف المعاصر، بأدواته الفائقة ومفاعيله التَّدميريَّة الشَّاملة لم يعد يترك مجالاً للقول بوجود حالات يُعتبر فيها العنف خيرًا أو موقفًا لائقًا من المنظار الأخلاقيّ. فليس هناك عنف شنيع وعنف بديع، عنف مقدَّس وعنف غير مقدَّس، بَلْ إنَّ كل عنف، بدرجة أو بأُخرى، مدنَّس. فالعنف لا يكون في شيءٍ إلاَّ شانه، ولا يُنْزَع من شيءٍ إلاَّ زانه. بَيْدَ أنَّ مثل هذا الاستنتاج العام ينبغي ألاَّ يُفْهَم منه وكأنَّ الأخلاق انفصلت عن الواقع وانعزلت في بروج عاجية عن عالم العنف بكل تعقيداته وملابساته، وتحوَّلت إلى شاهد زور أو مراقب مصاب بعمى الألوان لا مبالٍ تجاه الفروقات في موجباته و أشكاله وتداعياته، بَلْ المقصود منه فقط هو ألا ينقلب تدخُّلها فيه دفاعًا عنه وإبراءً له. لا خلاف، بالطَّبع، على أنَّه، وفي التَّجربة الواقعيَّة للحياة الأخلاقيَّة، لا يجوز الاقتصار على وجهة النَّظر الَّتِي تضع تعارضًا مطلقًا بين الخير والشَّرِّ طبقًا لقانون الثَّالث المرفوع: "إما...أو..." أو طبقًا للمعادلة الإنجيليَّة: "... نَعَّم نَعَّم أو لا لا وما زاد على ذلك فهو من الشَّرير "(22)، لكن، وفي الوقت عينه، لا يجوز الاستغراق عميقًا في هذه التَّجربة بحيث يصير التَّضادُّ المبدئيّ بين "النَّعَّم" الأخلاقيَّة و "اللا" الأخلاقيَّة منسيًّا بالكامل ومُهْمَلاً بالكُلِّيَّة. فالقول باستحالة التَّأسيس الأخلاقيّ للعنف لا يستبعد التَّحليل المُفَصَّل لمختلف مظاهره وحيثيَّاته في سياقاتها الواقعيَّة الملموسة، إنَّمَا يرسم فقط الأُطر العامَّة لمثل هكذا تحليل ويحدِّد غرضه الأساسيّ. فالتَّجربة المعاشة تضعنا في أحيان كثيرة أمام حالات وأفعال عنفيَّة يمكن أنْ نأسف لها أو أنْ نرأف بصاحبها أو حَتَّى تَصْعُب إدانتها، من دون أنْ يعني ذلك أنَّها جديرة بالمديح والثَّناء. ذلك أنَّه وعند النَّظر في الحالات العنفيَّة من المهم جدًا أنْ لا نفقد البوصلة الأخلاقيَّة درءًا لانحراف التَّقييم وخروجه عن سكَّة الوجهة العامَّة للتَّنافر الأصليّ بين الأخلاق والعنف بحد ذاتهما.
لا شكَّ في أنَّ العنف يمكن تعليله وتفسيره في حالات معيَّنة ملموسة انطلاقًا من مصالح سياسيَّة ومنافع اقتصاديَّة وغايات سوسيولوجيَّة وميول طبيعيَّة أنثربولوجيَّة وغيرها من الدَّوافع الواقعيَّة المتعدِّدة المُوَلِّدة له، ولكن لا يمكن تأسيسه وتبريره بواسطة حجج أخلاقيَّة كما لو أنَّه فعلٌ عقلانيّ ولائقٌ ومسؤولٌ للشَّخصيَّة الإنسانيَّة. فالفرق كبير والهُوَّة شاسعة ما بين التَّفسير وكُلٍّ من التَّبرير والتَّبجيل والتَّقدير. إذ إنَّ التَّباين بين المقاربة الظَّرفيَّة-البراجماتيَّة والمقاربة الأخلاقيَّة للعنف يعكس، بوضوح، العلاقة العامَّة بين الضَّرورة والأخلاق. فمن الممكن للضَّرورة أنْ تتطابق مع الأخلاق أو أنْ تتعارض معها أو أنْ تكون محايدة تمامًا بالنِّسبة إليها. ولو كان الأمر بخلاف ذلك لما كان للأخلاق، عندئذٍ، حُكْمها الخاص واستقلاليتها النِّسبيَّة. صحيح أنَّه ليس بمقدور الأخلاق بعد أنْ تعدم العنف من العالم أو أنْ تفعل الكثير حيال ضرورة العنف الَّتِي تضرب جذورها، على ما يبدو، في بيولوجيا الأفراد وسيكولوجيتهم وسوسيولوجيا عيشهم المشترَك، لكنها قادرة، حتمًا، على إدانة العنف، وأنْ تقول لِكُلِّ من تُخَوّله نَفْسُهُ ممارسته والتَّنظير له بأنْ لا يطمئن لِوَهْمِ الاعتقاد وكأنَّ موقفه مستساغٌ أخلاقيًّا. فالأخلاق تصادر الحقَّ في مثل هذا التَّفكير وتُبَشِّر أصحابه ببئس المصير. ففي صراعنا مع الوحش ينبغي ألاَّ نصير وحوشًا. فلا يغرَّنك التَّحديق طويلاً في هاوية العنف فتنفذ فيك وتسقطك فيها(23).
***
د. علي صغير / كاتب وباحث لبنانيّ
..........................
المراجع والهوامش:
1. علي حرب: التَّأويل والحقيقة (قراءات تأويليَّة في الثَّقافة العربيَّة). بيروت، دار التَّنوير، الطَّبعة الأُولى، 1985. ص ص 182، 185.
2. تروتسكي ل.د: أخلاقهم وأخلاقنا. مقال منشور في كتاب من سلسلة الفكر الأخلاقيّ تصدرها دائرة الأخلاق في معهد الفلسفة التَّابع لأكاديميَّة العلوم الرُّوسيَّة (الكتاب السَّنويّ لعام 1991)، موسكو. دار الجمهوريَّة، 1992، ص 212-244. باللُّغة الرُّوسيَّة. أنظر أيضًا إلى المقالات الآتية الَّتِي نُشرت كمناقشة وردّ على مقالة تروتسكي المذكورة أعلاه: أ- سارتر جان بول: إشكالية الغاية والوسيلة في السِّياسة (دفاتر في الأخلاق). منشورة بالرُّوسيَّة في: الفكر الأخلاقيّ (الكتاب السَّنويّ لعام 1991) ص 251-263؛ ب- ديوي جون: الغايات والوسائل. المصدر السَّابق. ص 245-250؛ ج- لوثر مارتن كينغ: حجي إلى اللاعنف. المصدر السابق. ص 162-181؛ د- غوسينوف ع.ع: الفكر الأخلاقيّ عند تروتسكي. المصدر السَّابق. ص 264-285. أنظر أيضًا للمؤلِّف نَفْسه غوسينوف ع.ع: الأخلاق والعنف. مجلة قضايا الفلسفة، 1990، العدد الخامس. ص 127-136. كذلك مقالته الموسومة ب أخلاق اللاعنف. مجلة قضايا الفلسفة، 1992. العدد الثَّالث. ص 72-82.
3. حنة أرندت: في العنف. ترجمة إبراهيم العريس. دار السَّاقي. بيروت. طبعة أُولى. 1992. ص 5.
4. أبو حامد الغزالي: جواهر القرآن. تحقيق الدكتور الشَّيخ محمد رشيد رضا القباني. دار إحياء العُلوم. بيروت. الطَّبعة الثَّالثة. 1990. ص 11.
5. أبو حامد الغزالي: المنقذ من الضَّلال والموصل إلى ذي العزَّة والجلال. اللَّجنة اللُّبنانيَّة لترجمة الرَّوائع. بيروت. الطَّبعة الثَّانية. 1969. ص 30.
6. أنظر: د. عادل ضاهر: الأُسُس الفلسفيَّة للعلمانيَّة. دار السَّاقي. بيروت. الطَّبعة الثَّانية. 1998. ص 210. (بتصرَّف).
7. أنظر: المرجع السابق. ص 203.
8. أنظر: د. عادل ضاهر: الأخلاق والعقل (نقد الفلسفة الغربيَّة). دار الشُّروق. عمَّان. الطَّبعة الأُولى. 1990. ص 285. ( بتصرَّف).
9. محيي الدِّين ابن العربي: كتاب العبادلة. الجزء الأُوَّل. الموقع الإلكترونيّ للمكتبة الأكبريَّة بإشراف الدكتور محمد علي حاج يوسف.
10. غوسينوف ع.ع: الدِّيماغوجيا الأخلاقيَّة كشكل من أشكال تبرير العنف. مجلة قضايا الفلسفة. 1995. العدد 5. ص 5. (باللُّغة الرُّوسيَّة).
11. نقلاً عن مقال الصِّحافيّ الأستاذ رضوان مرتضى منشور في جريدة الأخبار بتاريخ 11-06-2016.
12. https://www.normativeorder-solidaritat/
13. المصدر نفسه.
14. المصدر نفسه.
15. المصدر نفسه.
16. المصدر نفسه.
17. المصدر نفسه.
18. سَيِّد قطب: معالم في الطَّريق. دار الشُّروق. بيروت/القاهرة. الطَّبعة السَّادسة، 1979. ص 136-137.
19. ستيبانيانتس م.ت: المهاتما غاندي رسول اللاعنف. مجلة عصر العولمة. 2009. العدد الأوَّل. ص 155-162. (باللُّغة الرُّوسيَّة). وأنظر أيضًا لويس فيشر: غاندي الثَّائر القدِّيس. دار المدى للثَّقافة والنَّشر. 2012. ص 111.
20. أبو حامد الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد. تحقيق د. إبراهيم آكاه جوبوقجي و د. حسين آتاي. أنقرة. 1962. ص 187.
21. لويس فيشر: غاندي الثَّائر القدِّيس. ص 73.
22. الكتاب المقدَّس. العهد الجديد. إنجيل متَّى. الفصل الخامس.
23. أنظر فريدريش نيتشه: ما وراء الخير والشَّرِّ (تباشير فلسفة للمستقبل). ترجمة جيزيلا فالور حجَّار. مراجعة موسى وهبه. دار الفارابي/بيروت - ANEP/الجزائر. الطَّبعة الأُولى. 2003. ص 118.(بتصرَّف).

 

البُعد (Dimension) معنى قد يدل على الخط المستقيم او على البعدين (طول وعرض)، او الفضاء الثلاثي الأبعاد (طول، عرض، ارتفاع)، وفي اللغة العربية توزع معاني البعد بين المادي (المسافة) والمجازي (الجوانب غير الملموسة). او المفاهيم مثل البعد الروحي، الاجتماعي، النفسي، الوجودي …الخ
وفلسفة الأبعاد تتنوع فلربما تعلقت بالابعاد الخاصة بالأسس الميتافيزيقية، والمعرفية، والرياضية، والوجودية، سواء كان ذلك في الفضاء الفيزيائي، أو الإدراك البشري، أو حتى في الفلسفة الدينية والصوفية.
فمثلا تعتمد الرياضيات والفيزياء على مفهوم الأبعاد لفهم الفضاء والهندسة، اما الابعاد المعرفية فتنحو نحو إدراك الإنسان للأبعاد فيما إذا كانت الأبعاد مجرد تصورات ذهنية أم أنها كينونات مستقلة عن وعينا.
وفي علم المستقبليات والذي يقابله عالم الغيب (سواء غيب التاريخ ام غيب المستقبل) في القران يُنظر إلى الأبعاد بوصفها الاطار المفاهيمي لفهم الزمن والتغيرات المستقبلية، مثل الحديث عن “البعد الرابع” باعتباره الزمن، اما ما يخص فلسفة الدين والمعرفة الصوفية فترتبط مفهوم الأبعاد أحيانًا بالرؤى الروحية، مثل الابعاد الغير مادية للوجود، والعالم الغيبي، والعوالم الروحية، وأبعاد المعرفة الإلهية.
وقد نجد في القران نوافذ وجودية عديدة، يمكن وصفها بالابعاد، منها الابعاد التالية:
١- الزماني ٢- الغيبي ٣- المستقبلي ٤- الميتافيزيقي ٥- النفسي الباطني ٦- البعد المعرفي ٧- المادي ٨- العقلي ٩- المكاني ١٠- الروحي ١١- الاجتماعي ١٢- الوجودي ١٣- الانساني ١٤-الاعجازي.
واتصور ان مفهوم البعد يمثل جزءا من هوية الشيء، بمعنى ان يكون البعد الانساني الخاص بي او العلمي او بعدا الجسد والروح او بُعدي الذي يرتبط بالعالم الاخر او بُعدي الاجتماعي والنفسي والوجودي، الخ، كل هذه الابعاد اننا هي جزء من ماهيتي وهويتي، وقد يقال ان هذه ليست الا صفات للانسان او الموجود، ولعل ذلك يصح، لكن مفهوم البعد يعني الوجود الاخر المتميز لشيء ما.
حتى انه يمكنك ان تعد الموبايل بمثابة البعد الوجودي الالكتروني، وقد اصبح الجانب الإلكتروني اليوم، هو البعد الاهم، لانشغال الشعوب قاطبة به، ولفترات زمنية طويلة بالقياس الى معايشة العالم الواقعي، مما ولد فصلا وانعزالا عن ممارسة الواقع وامراض تتعلق بالنسيان والامراض البدنية والنفسية. وهذا البعد اصبح اشبه بالشخصية المعنوية، فوجودي في الفيس مثلا، اصبح واقعا يعتمد عليه، وهو بعد الكتروني يظهرني اكثر من وجودي الحقيقي للناس.
وساستعرض بشكل عجول بعض الابعاد الخاصة بالقران وهو الكتاب الخلاق الذي يقل بالتدريج الاهتمام به مع تطور العالم واتضاح افاقه، و الذي يتوجب قراءته بمخيلات خارقة متعددة وليس بالية الرتابة وعدم الاهتمام.
واعود للحديث عن الابعاد المختلفة فالبعد الزماني في القران، يتصف بالنسبية، فقد قال تعالى ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ (الحج: 47)، لكن لفظة الخلود تدل على بعد زماني مختلف، بمعنى انتقال الفرد من البعد النسبي في حياتنا المحدودة الى بعد اخر في حياة لا تنتهي، وهذا الامر لم نشهده بعد.
وقد يشترك البعد الزماني مع ابعاد اخرى مثل المكاني او الاعجازي او الغيبي، كما في تداخل حادثة الاسراء ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ (الإسراء: 1)
ومن الابعاد القرانية يبرز الغيب، فالقران يورد الغيب بقوله تعالى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ (البقرة: 3) وايضا “الروح” كبُعد غير محسوس قال سبحانه وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (الإسراء: 85)، وعن المستقبل وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ (الأنعام: 59) وتتداخل الابعاد هنا عند سؤال البعد المحسوس عن البعد غير المحسوس.
ان هيدكر يعد البعد الوجودي هو البعد الأساسي في حياة الإنسان في كتاب والزمان، فهو يرى أن الإنسان يعيش في حالة من الزمانية التي سيكون الماضي والحاضر والمستقبل جزء من وجوده وهذا البعد يتجاوز الزمن الفيزيائي إلى الزمن الوجودي، وقد لا يختلف هذا عن مفهوم البعد الوجودي عند سارتر وكيركيجارد، فهذا البعد يتعلق بأسئلة الوجود، الحرية، المسؤولية، والموت، والفلاسفة الوجوديون مثل سارتر وكيركغور يركزون على هذا البعد، اذ يعتبرون أن الإنسان يخلق معنى وجوده من خلال اختياراته وتجاربه.
وما يهمنا هنا هو ليس البعد الزماني، بل تداخل البعد الزماني مثلا بالبعد الوجودي وغيره في القران، وقد نوهنا ان الابعاد القرانية مفتوحة المصدر، فهي تتداخل وتتنوع وتتشابك، بوصفها منظومة متينة البناء، يقود بعضها لاكمال المشهد المعرفي والفكري والميتافيزيقي والتاريخي مع بعضها البعض، ولهذا فان بعض الابعاد قد تشمل مفاهيم مثل الروح، الخلود، أو الاتحاد مع الكون. او الخلق او المجتمع او التاريخ …الخ.
ولابد من الاعتراف بان مساحات حقيقة هذه الابعاد لم تكتمل لدينا نحن البشر البسطاء، ولهذا لايمكننا انتاج المعنى او العلم او المعرفة الافضل لكشف اسرار تلك العوالم او الابعاد. لانها ليست تجريبية ولاننا لم نرسمها وفق التنظير العلمي المبني على التجريد والبرهان.
ولا شك ان القرآن اورد عوالما متعددة تتجاوز عالمنا المادي، مثل عالم الملائكة، الجن، السماوات السبع، الروح، البرزخ، الجنة، النار، العرش، والكرسي. ويمكن وصف هذه العوالم بأنها "أبعاد" غير مرئية أو غير ملموسة للاخرين.
ان علم المستقبليات وايضا أينشتاين في الفيزياء او النظرية النسبية كبُعد رابع يكمّل الأبعاد الثلاثة للمكان، يستخدمان مصطلح “البُعد الرابع” كمفهوم رمزي للإشارة إلى الزمن بوصفه عنصرًا أساسيًا في تحليل التغيرات المستقبلية. لكن في المستقبليات، يتم استعارة هذا المفهوم لاستخدام الزمن كإطار لفهم التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتكنولوجية، في عوالمنا الواقعية وايضا استخدام نماذج الاستشراف، والتنبؤ السيناريوي، والتخطيط الاستراتيجي لفهم كيف يمكن أن تتطور الظواهر بمرور الوقت.
ولعل البعد المستقبلي في القران يحتاج الى وقفة اخرى بمقال اخر، فالقران تحدث عن النافذة المستقبلية، بل انه اعطى تصورا عن ابعد انواع الفهم المستقبلي بعد نهاية العالم وانهيار المنظومة الدنيوية، ليرسم بعد العالم الذي لا ينتهي، ويفصل بطبيعته وحياته الواقعية. مع هذا نجد القران يتحدث عن سيناريوهات واشارات مستقبلية مهمة مثل:
١-انتصار الروم على الفرس كما في {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (سورة الروم: 1-4). ٢- وفتح مكة (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ) (سورة الفتح: 27). ٣- وانتشار الاسلام (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ}** (سورة التوبة: 33). ٤-وعلامات الساعة (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَينَهُم يَومَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) (سورة المؤمنون: 101). ٥-وخروج ياجوج وماجوج وظهور عيسى.
ان العوالم في القران ليست الا الابعاد المختلفة، وهي ارخبيل معرفي غيب ولا يمكن توصيفها بدقة إلا بما عرفناه من النصوص الدينية التي عرفناها، لاننا لم نملك الادوات التي تجعلنا نخوض تلك التجربة، لكننا يتوجب علينا التنظير لتلك الابعاد وفق تجميع النصوص ومقارنتها وتحليلها، خذ مثلا عالم الملائكة وهم (عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (الأنبياء: 26-27). او عالم الجن وهم مخلوقات من نار، وهي غير مرئية لنا، ولكنها تعيش في عالم موازٍ لعالمنا {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} (الرحمن: 15).
وهذا البعد لم تناقشه الفلسفة لانها تعده من الاساطير في حين انه ينتمي الى الواقع واحيانا الى (الواقع المعزز الشخصي) لبعض البشر الذين يصابون بمرض الجن، فتتداخل العوالم لدى الفرد المصاب ليعيش في عالمين، وهو اقرب الى مشاكل المرض النفسي منه الى اللعبة والتسلية، ومثال ذلك ايضا التوحد وانفصام الشخصية، بل يمكنني اضافة تجربة الاحلام ايضا الى تلك المنظومة.
ان السماوات السبع والأرضين السبع هي عوالم وابعاد فيزيائية، وقد قال جل وعلى (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}** (الطلاق: 12). ولكن العملية ايضا تنتمي الى البعد الميتافيزيقي الغيبي. حتى ان النص هنا يتداخل مع البعد المعرفي والوجودي، وهذا يشمل منظومة خلق الروح، ذلك البعد الذي اشار له رب العالمين بانه يحتاج الى منظومة علمية خارقة (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (الإسراء: 85).
والروح هي بعد يرتفع عن المادة و يتعلق بالحياة والوجود.
ومثله مثل البرزخ، وقد قال الله سبحانه {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}وايضا الجنة والنار**
والعرش والكرسي و عالم الذر وهو البعد الوجودي الاول لاجتماع الناس مع خالقهم، وهو المعروف بعالم الذر، يقول الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ}** (الأعراف: 172).
ويمكننا ادراج الملاحظات الاتية:
١- الابعاد في القران تتوزع على بعد نسبي واخر مطلق، فدائرة الله وصفاته هي بعد لا يتناهى.
٢- البعد الأنطولوجي، وهو اهم الابعاد، يتوزع ايضا على محورين، الاول هو الأنطولوجيا النسبية، والاخرى الأنطولوجيا الخالدة وهي تمثل العالم الاخر.
٣- الابعاد المتعددة في القران تتركز حول الله والانسان، بين البعد المطلق والنسبي.
٤- تتداخل الابعاد فيما بينها، في عالمها الارضي وتتفاعل، ويحملها الانسان معه الى عالمه الاخر. فهي حصيلة وجوده وكينونته وماهيته التي لن تتغير، فكل نفس بما كسبت رهين.
***
ا. د. رحيم محمد الساعدي

الجبرية: أو الجبر:
الجبر لغة:
جاء في معجم المعاني الجامع – معجم في اللغة العربية: جبَرَ يَجبُر، جَبْرًا وجُبُورًا وجِبارةً، فهو جابِر، والمفعول مجبور – للمتعدِّي.
والجبر اصطلاحاً: هو إجبار وإكراه لإنسان على فعل أمر ما دون إرادته ورغبته.
وفي المصطلح الديني: هو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الله. وكما يقول الشهرستاني في الملل والنحل: (سُمِّي الجَبريَّة بذلك لأنهم يقولون: إن العبد مُجبَر على أفعاله، ولا اختيار له، وأن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى، وأن الله سبحانه أجبر العباد على الإيمان أو الكفر.). (1). وهذا ما قال به "أبو حسن الأشعري" في كتابه (مقالات الإسلاميين): (هو إجبار الناس وإرغامهم على فعل شيءٍ من غير إرادةٍ أو مشيئة لهم، ويرى الجَبريَّة أن الناس لا اختيار لهم في أفعالهم، ولا قدرة لهم على أن يغيِّروا مما هم فيه شيئًا، وإنما الأفعال لله سبحانه؛ فهو الذي يفعل بهم ما يفعلونه، وجعلوا هذا مطلقًا في جميع أفعالهم، فإذا آمن العبد أو كفر فإن الإيمان أو الكفر الذي وقع منه، والطاعة أو المعصية، ليست فِعلَه إلا على سبيل المجاز، وإنما الفاعل الحقيقي هو الله سبحانه؛ لأن العبد لا يستطيع أن يغير شيئًا من ذلك.). (2)
و(الجبريّة أصناف، هناك الجبرية الخالصة لا تثبت للعبد فعلا ولا قدرة على الفعل بالأصل. وهناك الجبريّة المتوسطة، وهي تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة، وهذا ما قال به الأشاعرة في "نظريّة الكسب.". وهذا ما جعل المعتزلة يعدون الأشعريّة جبريّة.). (3).
إن"الجَبْريّة أو المجبرة"، هي فرقة كلاميّة تنتسب إلى الإسلام، وجوهر عقيدتها هو أنها تؤمن بأن الإنسان مسيّر وليس مخيراً لأنه لا قدرة له على اختيار أعماله، ولذلك فقد اعتبرها علماء أهل السنة والجماعة. من الفرق الضالة المخالفة لمنهج وعقيدة الإسلام الحق. أي مخالفة لأهل السنة والجماعة. ويقال إن أول من قال بهذا المذهب الباطل هو "الجعد بن درهم" مؤدب "مروان بن محمد" آخر خلفاء بني أميّة، ولذا كان يلقب بـ"مروان الجعدى"، لأنه تعلم من الجعد مذهبه في القول بخلق القرآن والقدر وغير ذلك. (4).
هذا وقد اعتبر الأشاعرة وأهل السنة عموماً الجبرية في المقام الأول لوصف أتباع جهم بن صفوان (ت 746) وذلك لأن الأشاعرة يعتبرون عقيدتهم بموقف وسط بين القدريّة والجبريّة، ومن ناحية أخرى اعتبر المعتزلة والماتريدية أن الأشعريّة بمثابة جبريّة لأنهم حسب رأيهم رفضوا العقيدة الصحيحة المتمثلة في الإرادة الحرّة. وكذلك استخدم الشيعة (الزيديّة والاسماعيليّة والإماميّة الاثني عشرية) مصطلح الجبرية أو المجبرة متهمين به الأشعريين والحنابلة. مع أن الحنابلة والسلفيين عموما ينتقدون جميع الفرق الكلامية مثل القدرية والجبرية والمرجئة والجهمية المعتزلة. (5).
المرجعيّة المقدسة للجبريّة:
لقد اعتمد الجبريّة على نصوص مقدسة من القرآن والحديث لتأكيد موقفهم هذا، كقوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ).{التغابن: 11}. وقوله تعالى: ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾. [الأنفال: 17]. وقوله تعالى: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ* وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ). {التكوير: 28}. وقوله صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف. رواه الترمذي. (6).
مبادئ الفرقة الجبرية
الجبر في الأفعال والأقوال:
الجبر أهم هذه المبادئ وأشهرها عند الجبريّة، بل هو مبدؤهم الخاص بأفعال العباد، وأن العباد في أفعالهم مجبرون، وكل ما يصدر عنهم إنما يصدر اضطرارًا، فليس لهم إرادة أو قدرة أو اختيار، فالعبد - كما يقولون - كالريشة المعلقة في الهواء، يُسيِّرها الهواء حيث يشاء؛ فكذلك العبد، هو في يد القدر يُسَيِّره حيث يشاء؛ فجميع أفعال العباد اضطراريّة، والله تعالى أوجد الفعل في العباد، كما أوجده في الجمادات والنباتات، وإذا نُسبت الأفعال إلى العباد، فإنما تنسب مجازًا، ولا تنسب إليه حقيقة.(7)
نفي الصفات عن الله:
القول بأن القرآن حادث مخلوق، كما زعمته المعتزلة، حيث نفت الجبريّة قدم صفات الله، والكلام صفة من صفات الله؛ فإذا كان الكلام، صفة قديمة لله كان القرآن باعتباره كلامًا إلهيًّا قديمًا، وهم ينكرون القدم، إلا على الذات الإلهيّة وحدها، ومن ثم فلا يكون الكلام قديمًاّ، ولا تكون صفات الله قديمة، وينبني عليه القول بخلق القرآن.
لقد اعتقدوا أن الله واحد في ذاته، بمعنى: أنه غير مركب من أجزاء، وأنه لا شريك له في ذاته، بمعنى: أنه غير متعدد، وهو واحد في أفعاله، فلا شريك له، ومن هنا، ذهبوا: إلى أن الله تعالى، لا يتصف بصفات زائدة عليه من العلم والقدرة، والإرادة وغيرها.
وهم لا يصفون الباري تعالى، بصفة يوصف بها الخلق؛ لأن ذلك يقتضي تشبيه الله تعالى بالمخلوقين، ولذلك نفوا وصف الله تعالى، بأنه حيٌّ، عالٍ، سميع، بصير، غني، حكيم، رحيم، ونفوا هذه الصفات عن الله تعالى، وما يماثلها مما يوصف به الخلق.(8).
موقفهم من الجنة والنار:
يؤمنون بأن حركات أهل الخلدين -الجنة والنار- تنقطع، وأن الجنة والنار، تفنيان بعد أن يتنعم أهل الجنة، ويتعذب أهل النار المدة التي قدرها الله تعالى.(9).
الإيمان عند الجبرية:
إن الإيمان عند الجبريّة، يتحقق بمجرد المعرفة، حتى ولو لم يقر باللسان أو جحد اللسان؛ فمن عرف بقلبه، فهو مؤمن، حتى لو أنكر وكفر بلسانه. والمعرفة عندهم تجب بالعقل قبل ورود السمع؛ إذ أن العقل يمكنه معرفة الخير والشر، ويمكن أن يصل إلى معرفة ما وراء الطبيعة والبعث.(10).
انكار تجسيد الخالق:
ينكر الجبريون أن يكون الله تعالى على العرش، أو أن له كرسيًّا، أو أن يكون في السماء دون الأرض؛ بل الله في نظرهم في كل مكان. وهم ينفون رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة. والله يقول عن نفسه: ليس كمله شيء (11).
الرد على الجَبريَّة:
في التحليل السوسيولوجي والأنثربويولوجي (الأناسي) تعتبر الجبريّة في سياقها العام موقفاً سلبيّاً من الحياة بالنسبة للإنسان ودوره ومكانته في هذه الحياة، فتاريخ المجتمعات البشرية من خلال دراسات العصور التاريخيّة للبشريّة، بين لنا بأن بناء هذه الحياة في كل مفرداتها قام بها الإنسان منذ أن صنع وسائل إنتاجه الأوليّة بيده وصولا إلى كل حالات تطور هذه الوسائل، وما تركته هذه الوسائل ذاتها من تغيير في حياة الإنسان وإعادة تشكيل هذه الحياة بشكل مستمر ماديّاً وفكريّا.
إن النص المقدس (القرآن والحديث) كثيراً ما أشار إلى حريّة الإرادة الإنسانيّة في اختيارات وممارسة نشاط هذا الإنسان في بيئته الطبيعيّة والاجتماعيّة معاً.
فالآيات في ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ﴾ [آل عمران: 152]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 272]. وقوله تعالى ({ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف: 29 ]، وقوله تعالى: ({ إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلي رَبِّهِ سَبِيلاً } [ الإنسان: 29 ]، وقوله: ({ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ فصّلت: 40 ].
وفي الحديث روى الشيخانِ عن الخليفة "عمر بن الخطاب" قوله: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى). (رواه البخاري ومسلم.).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره) رواه البخاري.
***
كاتب وباحث من سوريّة
***
.....................
الهوامش:
1- (الملل والنحل للشهرستاني جـ 1 ص ـ 87). الناشر مؤسسة الحلبي. دون تاريخ النشر. بتصرف.
2- (مقالات الإسلاميين – أبو الحسن الأشعري - جـ 1 صـ 338). الناشر مطبعة الدولة – استانبول
3- (موقع اليوم السابع: من هم "الجبرية".. ولماذا رآهم أهل السنة والجماعة "فرقة ضالة"؟ محمد عبد الرحمن. ).
كذلك يراجع: (شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي جـ 2 صـ: 349).
4- المرجع ذاته. موقع اليوم السابع. بتصرف.
5- الويكيبيديا. بتصرف.
6- (موقع اسلام ويب.عقيدة القدرية والجبرية .(ولمعرفة عقيدة الجبرية والقدرية راجع كتب العقيدة، وراجع الفتاوى التالية مع إحالاتها: 9192، 36591، 35375.) كما وردة في مقال الموقع ذاته. بتصرف.
7- للاستزادة في معرفة مبدئ الجبرية راجع: موقع المعلومات: ما هي الفرقة الجبرية. محمود عاطف. بتصرف.
8- موقع معلومات – ما هي الفرقة الناجية – المرجع نفسه – بتصرف.
9- موقع معلومات – ما هي الفرقة الناجية – المرجع نفسه – بتصرف.
10 – موقع معلومات – ما هي الفرقة الناجية – المرجع نفسه – بتصرف.
11- موقع معلومات – ما هي الفرقة الناجية – المرجع نفسه – بتصرف.

نظرة استشرافية حول تشكيل نظام عالمي جديد

"الحرب أم الأشياء كلها فهي تجعل من بعضهم آلهة، ومن آخرين عبيداً، أو رجالاً أحراراً"

هرقليطس (Heraclitus) فيلسوف إغريقي (435/475 ق.م)

"إن أهداف الحرب الحقيقية ليست عسكرية، أو سياسية، أو اقتصادية.. بل هي حضارية.. لأن تحديات القرن21 كلها حضارية"

المهدي المنجرة مفكر مغربي (1933/2014)

***

الحرب والسياسة ومنطق الصراع

إن الحرب هي أعظم الظواهر الاجتماعية والتاريخية..، وعلم اجتماع الحرب (Polémologie) يتناول كل أشكال الحروب، وأسبابها ونتائجها ووظائفها، باعتبارها ظاهرة اجتماعية وتاريخها، لأنها ممتدة عبر التاريخ.. في حياة المجتمعات والدول، والإمبراطوريات..

وثمة تعريفات متعددة لهذه الظاهرة التاريخية المستديمة، واعتبارها حاله خاصه للصراع العام فمصطلح الصراع، له معاني عديدة.. وأشكالا متنوعة.. فالصراع ربما يتم بين أضداد.. أما الحرب، فإنها تتم بوجود نشاط منظم يخضع بفعل إرادي..

هناك أشكالا من الحروب، وكلها درجات متفاوتة في نطاق فرد السلطة والهيمنة على الآخر، للانصياع لمطلب ما..

يعتبر كلوز فيتز (K.Von Clause VISTZ)بأن الحرب عملا من أعمال الحرب يهدف إلى هذا أرغام العدو على تنفيذ إرادة خصمه..

القوى الطبيعية للصراع يدور حول المدة التي تسعى كل قوة إلى انتزاعها كشرط للبقاء، والتوسع من أجل الرفع من مركز السيادة..، وذلك بالاعتماد على عمق المجال الحيوي..

فجوهر الحضور الإنساني عند الفيلسوف نيتشه (1884/1900) يتمثل في إرادة القوة.. كإدراك للوجود على سيادة العالم.. والحرب المثلى عند نيتشه تبرر كل غاية كما تسمح بتقويم الأفكار والمبادئ.. فشاغل صاحب السيادة بسط سلطانه وإرادته بالقوة في الداخل والخارج..

وقد تصدرت الحرب كل العلاقات الأخرى.. فالحرب، داخل علاقات السلطة هي علاقات هيمنة.. والحرب هي السياسة في مظهر مغاير.. والسياسة هي الحرب، بوسائل أخرى..

إن الطبيعة المعقدة للمجتمعات البشرية جعلت ظاهرة الحرب من ظاهرات الاجتماع والعمران الجديرة بالتأمل، والدراسة، نتيجة أنه بالحرب تثبت الحضارات أو تزول..، نظرا للدور المحوري للمعارك، في تشكل أبرز المعالم التاريخية.. وذلك لكون جل الصراعات بين المجتمعات عبر العصور، تقوم على الحروب، من أجل التحكم والسيطرة، والاستحواذ على مقدرات العالم وثروته.. ومن هذا المنطلق أكد الفيلسوف أرسطو بأن فن الحرب مهارة طبيعية للسيطرة والتملك..[1].

المباحث الاجتماعية للحرب، تسعى إلى الإحاطة بالموضوع من كل جوانبه وزواياه المتعددة، بغية فهم تأثيراته وتحديد أبعاده..،

الحرب صراع سياسي بالدرجة الأولى، بحيث تتداخل في هذا الصراع السيناريوهات العسكرية والأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والقومية.

السياسة، هي مجال الصراع، والتدافع وأدواتها الكبرى، هي القدرات العقلية والمعرفية، والتخطيطي، والتنظيمي، والإعلامي، وقدراتها على التأثير الحضاري، والإقناع ودرجة إشعاعها في عالمها الذي تعيشه هي:

- القدرات الاقتصادية؛

- والقدرات العسكرية والأمنية..

وهي محصلة للقدرات العقلية والبشرية، ودرجة التطور الاقتصادي والتقني في المجتمع..

وستظل ثلاثة عناصر حاكمة في صراع الإنسان على مدى العصور، وهي القدرة على التنظيم البشري.. ونوع السلاح، والقدرة على الحركة.. إن القوة أصبحت قدرات في التنظيم العسكري، كماً ونوعاً..[2].

فعالم السياسة، هو عالم القوة.. وقد شهدت السياسة الدولية صراعاً من أجل حيازة القوة..

فالدول تصارع من أجل مصالحها وتوزن بالقوة..

هناك دول، تمارس الصراع طبقا لقواعد اللعبة الدولية..

وهناك دول تمارس التبعية المطلقة للقوى الدولية، وتضحي بمصالحها لإرضاء القوى الخارجية..

وهناك دول تتمرد على متطلبات اللعبة الدولية، بصورتها القائمة وهي تعلن رفضها للأوضاع التي خلفتها حركة القوى العظمى..

ومن ثم، يتم العمل في ضوء معطيات العالم الذي تتحكم فيه موازين القوة بهدف التحديد الدقيق لرؤية وكيفية التعاطي معه بشكل يرفع من العائد ويقلل من التكلفة..[3].

الصراعات، تجرى ضمن مخططات جيوسياسية، أي علاقة الدول بالجغرافيا بمحيطها الخارجي، والمشهد الدولي..

فالصراعات الدولية، لم تعد شأناً محلياً فهي تلقى بظلالها على العالم وتعيد صياغته، وفق أهداف جيوسياسية واستراتيجية على جميع الصعد، العسكرية، والاقتصادية، والتحالفات السياسية.. التي تؤثر على صياغة السياسة الخارجية لدول العالم..

إن صانع السياسة الدولية ينظر إلى العالم، باعتباره وحدة استراتيجية كبرى، مقسّمة إلى مناطق كلوحة شطرنج..

العالم أصبح رقعة شطرنج كبرى ومسرحاً لتنقلات، وتحركات القوى، الواقعة على هذه الرقعة..، إن تحريك أي قطعة من قطع الشطرنج سوف يؤثر على بقية القطع..

القوى متفاوتة، في أوزانها تفاوتاً كبيراً، فهناك قوى مؤثرة، وقوى تسعى للدخول في السباق والمنافسة، من أجل الحصول على دور على الساحة الدولية..[4]

ـ 2 ـ

الحرب الجيوسياسية والاستراتيجية

لقد تعدّدت النظريات الاستراتيجية وتعقّدت إلى الحد الذي أصبحت معه مزيجاً متداخلاً من الآراء والتصورات لكل منها مقوماته ومبرراته، ومن أمثلة هذه النظريات؛ نظرية الحروب الاستراتيجية، العامة، والحروب التكتيكية، ونظرية الردع، ونظرية الحروب الوقائية، وحروب الاستنزاف، ونظرية الحروب والدعائية، والحروب النفسية، ونظرية الصراع الممتد، ونظرية الاحتواء، ونظرية توازن الرعب النووي..

إن هذه المفاهيم الاستراتيجية، وما تنطوي عليه من خطط، وأهداف تتعامل مع حقائق القوة في المقام الأول، وما يترتب عنها من قوى ومصالح، وحقائق وأوضاع تدول ما دامت، موازين القوى صلبة ومتماسكة.. وعندما تختل الموازين تتغير العلاقات وتظهر موازين جديدة، وأوضاع جديدة تتشكل، ومصالح تتوزع..

ولكي نفهم هذه النظريات، لابد من الرجوع إلى المفهوم لمعرفة مدى مساهمة عامل القوة في حسم الصراعات، بين مختلف الجماعات البشرية عبر العصور المتطاولة..

ولابد أن نعي أن مفهوم الحرب عرف تطوراً كبيراً داخل المنظومة المعرفية الاستراتيجية أو الفكر الاستراتيجي الذي يحدد الطريقة التي تصاغ بها السياسة، وكيف تستخدم الدولة قوتها العسكرية لتحقيق أهدافها.

وبهذا الصدد يرى "كلاوز فتز" بأن الاستراتيجية هي فن إعداد الخطط الهامة للحرب، لأن الحرب هي فن استخدام القوة للوصول إلى أهداف سياسية..

ثم إن المسألة في جوهرها يمكن تحديدها في العلاقة الجدلية بين السياسة والحرب.. فالحرب وسيلة من وسائل عدة لتحقيق الأهداف الموضوعية للسياسات المقررة..[5]

ذلك أن الحرب تنشب إما من أجل قيام الامبراطورية، وإما عن طريق الاجتياح بهدف الاستعمار ونهب خيرات الشعوب وطرد أصحاب الأرض أو إبادتهم..

وسوف تتمخّض عن ثورة المعرفة ثورة موازية في طبيعة الحروب وموجات من الصراع بين مختلف الحضارات..[6].

إن أبعاد الحرب العسكرية، والحضارية والسياسية، الاقتصادية، والاستراتيجية والرابط الذي يجمع كل هذه الزوايا هو استشراف المستقبل لفهم الأبعاد العميقة للحرب..

الدراسات المستقبلية طريقة تفكير تحاول أن تتوقع ما هي التغييرات الجذرية، التي يمكن أن تحدث في المستقبل..، كما أن الدراسات المستقبلية الاستراتيجية تهتم بالميدان العسكري..

فما يجري في الشرق الأوسط يندرج ضمن مخططات التغيير الاستراتيجي الدفاعي، بهدف تكريس الغلبة العسكرية، والسياسية، والاقتصادية للعالم الغربي..، وهيمنة القيم الثقافية، اليهودية المسيحية.. التي تحمى المصالح الغربية..[7]

من دوافع الحرب اختيار الأسلحة المتطورة واختبار مزاياها وفعاليتها.. بحيث تستخدم تاركة المجال لأجيال جديدة من أسلحة فائقة التطور التكنولوجي في المستقبل..

إن من يمعن النظر في الصراعات والحروب الجارية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي..

سوف يتضح له أننا دخلنا عصراً جديداً سيتشكل فيه نظام دولي جديد.. لقد حدث انقلاب كبير تمثل في الانتقال من مجتمع الإنتاج والصناعة، والمواد الخام والرأسمال إلى مجتمع المعرفة..، وأكبر تحول سيكون في الأذهان..

إن الهدف الاستراتيجي للدول الغربية إبقاء الوضع على ما هو عليه (أي الهيمنة والسيطرة على العالم..) والحرب في الشرق الأوسط درس من الغرب لبقية دول العالم..

إلا أننا دخلنا في بداية النهاية، واستشراف نظام عالمي جديد..

لقد صدرت سنة 1988 دراسة يابانية حول جدول أعمال اليابان في القرن "21" ممهورة بمقدمة لرئيس المؤسسة اليابانية للتقدم العلمي يقول فيها: "إن العلمنة الحضارية الأمريكية انتهت، أننا دخلنا في عهد تعدد الحضارات ودخلنا في نظام العالم الجديد الذي سيتم بقيم ومفاهيم جديدة للسلام والتعاون الدولي..[8]

لقد كانت الحرب الباردة حرباً إيديولوجية..، أما الحرب في المستقبل، ستكون حرباً حضارية، ثقافية أكثر مما هي اقتصادية وسياسية. فالخطر يتجسّد في الهيمنة الحضارية[9] وبسط السيادة الغربية (الأوروبية) على العالم التي وصلت أوجها حوالي سنة 1900..

سنة 1919 في مؤتمر باريس للسلام، قرر قادة العالم الغربي (ولسون الأمريكي ولويد جورج البريطاني وكليمنصو الفرنسي) تقسيم النفوذ على العالم..

في سنة 1920، كان الغرب يسيطر على 49% من مساحة العالم وعلى 48% من مجمل النتاج الاقتصادي العالمي، وعلى 84% من النتاج الصناعي وعلى 45% من مجمل القوة البشرية العسكرية[10].

إن 80% من الميزانية المخصصة للبحث العلمي تمنح لمجالات أسلحة الدمار الشامل..

السلاح الفتاك جعل من الولايات المتحدة قوة عسكرية جبارة..

القوة تتيح للولايات المتحدة الأمريكية الهيمنة والسيطرة، والحرب تسمح بتجريب الأسلحة الجديدة.

إن القوة العسكرية الأمريكية هي نتيجة تحالف بين العسكرين وصناعة الأسلحة، والشركات المتعددة الجنسيات، وفرق بحث علمي استراتيجي من مختلف الجنسيات..[11]

منذ الخمسينات من القرن الماضي وضعت خطة للسيطرة والتحكم في العالم من جانب الولايات المتحدة وحلفائها..

وبعد سقوط القطبية الثنائية في الثمانينات من القرن العشرين..، سيدخل العالم في مرحلة جديدة من الصراعات الحضارية..، وبروز قوى عالمية صاعدة تسعى إلى إزاحة السيطرة الغربية على النظام العالمي..

تعتبر الصين ومعها دول جنوب آسيا، والدول الصاعدة في أفريقيا وآسيا، القوى المنافسة للهيمنة الغربية..

الاقتصاد الأمريكي في تراجع مضطرد، وبالتالي لن تظل الولايات المتحدة القوة الاقتصادية العالمية الأولى في غضون السنوات المقبلة..

إن التقدم الهائل للصين والدول الصاعدة سيؤدي حتماً إلى تراجع القوى الغربية كما سيؤشر على بداية الانحطاط..، ونتيجة شعور الغرب بهذا الانحدار يتم تخويف الناس حتى يتم إخضاعهم..

لقد دخلنا مرحلة تاريخية تتسم بانتشار وسائل الدمار الشامل..

إن القوي حين يشعر بالضعف يحاول بشتى الوسائل التشبث بشيء ما لكي يبقى قوياً..[12].

من هنا يأتي قرار شن الحرب الحضارية على الحضارات الأخرى..

إن الرؤية الغربية المتمركزة على الذات والتفوق العرقي، والثقافي، سائرة لا محالة إلى الزوال..

لقد صار مرتكز نقطة الضعف يتجلى فيما هو حضاري وثقافي.. وذلك في غياب تحرر حقيقي، مرتكز على رؤيا، وقيم، وبرامج، وأهداف..

ومع انهيار التوازن بين القطبين، وجد العالم نفسه في مأزق نتيجة لافتقاره للفكر الخلاف الدال على الإيمان بالمثل العليا كوسيلة لبلورة نظرية وسياسية للإصلاح..

لقد قام الغرب بحكم تجربته الاستعمارية بترسيخ هيمنته الثقافية والحضارية وقيمه.. فمرحلة ما بعد الاستعمار تكرس التبعية للإمبراطورية الأمريكية..، وطريقة لبقاء الاستعمار، بتوظيف جيوش الدول الاستعمارية ودبلوماسيتها ومخابراتها للهيمنة والسيطرة..، وصار الأمن مطبوعاً بعامل واحد هو القوة العسكرية التي تم اعتمادها للدفاع عن أنظمة فاقدة لشرعيتها وتخدم فقط المصالح الاستعمارية الغربية..

وإذا كان ما بعد الاستعمار موجهاً فقط للاقتصاد والسياسة.. فقد أصبح اليوم موجهاً لمحاربة القيم الدينية والحضارية..[13].

إن تزايد نفوذ اللوبي العسكري والصناعي ولوبي شركات النفط، وراء استعمال القوة المفرطة للتأكيد على عولمة العالم.. والدفع إلى حرب حضارية ضمن مخطط لإعادة رسم خريطة العالم..

إن أخطر ما يهدد البشرية هو سيطرة قيم تعتمد على القوة العسكرية، ولا تدع مجالاً للتنوع..[14]

تعتبر إسرائيل أداة محورية في الحرب الحضارية التي تقودها أمريكا في الشرق الأوسط.. من أجل الهيمنة الحضارية، والاستعمار..

إن جوهر أزمة الشرق الأوسط هو إصرار الغرب من امبرالية وصهيونية إلى تقويض أي قوة تبرز في منطقة البحر المتوسط وشمال إفريقيا وغرب آسيا..

من هنا يتعين فهم الصهيونية على أنها ظاهرة استعمارية والوجه الأكثر عنصرية وعدوانية للاستعمار الغربي..

إن الاستعمار الصهيوني هو أخطر أنواع الاستعمار الغربي، فهو يقف ضد التعايش السلمي، وضد إعادة تشكيل موازين للقوى والنظام الاقتصادي العالمي الجديد، من أجل هذا تعتبر الصهيونية حديثا رئيسيا للجبهة الاستعمارية بقيادة الولايات المتحدة.

إن الحرب على العراق سنة 1991 تجسد دلالات على احتلال النظام العالمي وانعطاف غير مسبوق في تاريخ العلاقات الدولية من نتائجه توجه العالم نحو "ميغا أمبريالية" يمكن وصفها بالحرب الحضارية الأولى..[15] فهي حرب عسكرية وإعلامية ونفسية ولا يجب اعتبارها حرباً بين الغرب اليهودي المسيحي والإسلام فقط، بل هي صراع بين الشمال والجنوب، وهو صراع حضاري تسعى فيه الحضارة الغربية إلى الهيمنة على جميع الحضارات الأخرى المغايرة..

إنها حرب عالمية حقيقية تختلف عن الحروب العالمية التي عرفتها الإنسانية عبر التاريخ.. ففتيلها أخطر، ولا يمكن إيقافها بقرار من مجلس الأمن أو مؤتمر سلام عالمي.

إنها حرب القرن "21" ستطول وتستعمل فيها أحدث الأسلحة المتطورة والفتاكة.. وستأخذ موجات ومظاهر متعددة على مسرح الأحداث..، بحيث سيتمحور الصراع على القيم الإنسانية، والدفاع عن التعددية الثقافية في مواجهة ادعاء الغرب الأسطوري بأن قيمه وحدها هي الكونية[16].

ـ 3 ـ

الحضارة والثقافة

يرى ألبرت سفايتزر (Albert Schweitza1875/1965) بأن الحضارة في جوهرها أخلاقية، وبالتالي فمشكلة الحضارة أخلاقية.. ولا شك بأنها تتكون من عناصر: تاريخية، وجمالية، ومادية..

إن الأعمال المبتكرة، والفنية والعقلية والمادية لا تكشف عن آثارها الكاملة الحقيقية إلا إذا استندت الحضارة في بقائها ونمائها إلى استعداد نفسي يكون أخلاقياً..

الإنسان لن تكون له قيمة حقيقية تتجلى في كفاحه إلا من خلال تشبثه بمنظومة قيم عليا توجهه إلى الفضائل والخصال الكريمة..، وتقوم سلوكه وتضبط غرائزه وأهواءه الهدامة.. فنظام القيم الأخلاقية هو الناظم والموجه للعلاقات في المجتمعات البشرية، على نحو يسمح للأفراد والجماعات أن تنمو وتتطور بطريقة مثالية..، بحيث إذا اختل نظام القيم، تداعت الحضارة إلى الأفول..[17]

العامل الثاني في انحلال الحضارة يعود إلى علاقة الحضارة بالكون.. فالتقدم الإنساني يتوقف على تصور نظرية الإنسان للكون، فبدون نظرية شاملة للكون لن يكون في وسعنا إيجاد حضارة جديدة.. الحضارة تعني بذل المجهود من أجل الرقي بالنوع الإنساني..[18]

إن كلمة حضارة (Civilisation) بمعناها العام الشامل وما تتضمنه من مفهوم الثقافة (Kultur) تعني تطور الإنسان إلى درجة من التنظيم الأعلى على المستوى الروحي والمادي وسمو أخلاقي..

إن مفهوم الثقافة يعني استنارة للذهن، وتهذيب للذوق، وتنمية لملكة النقد.. والحُكم لدى الفرد والمجتمع..

ومن ثم فالثقافة تربية الملكات العقلية وتنميتها وإثرائها..، وترويض العقل وتقويمه..

ويطلق لفظ الثقافة على المزايا المعرفية التي تجعل أحكامنا صادقة، وعواطفنا مهذبة..

في بحث كتبه "جمس روبنسون" (James Robinson) صدر في طبعة 1969 من الموسوعة البريطانية يفهم من سياقه أن مفاهيم الحضارة والثقافة لها مدلول واحد وصلات متداخلة، وعلاقات قائمة بين الجوهر والمادة..[19]

وقد يوجد بين الثقافة والحضارة اختلاف في الدلالة والمضمون رغم الترابط والتمازج بينهما..

الحضارة تضم جملة من العوامل من قيام المدن ونشـأت الحرف والصناعات واصطناع التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. والسلطة والقيم الأخلاقية، والمعرفة والعلوم والتكنولوجيا..

ولكل حضارة متطلباتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية..

وثمة تغييرات جذرية وسريعة تحدث في كل المجالات وبلا استثناء..

لقد دخل العالم في عصر حضارة الموجة الثالثة التي تبيع للعالم المعلومات، والأفكار، والإدارة والثقافة، والتكنولوجيا المتطورة وبرامج التعليم، والتدريب والرعاية الصحية، والخدمات المالية، والحماية العسكرية..[20]

وجملة القول أن الحضارة تعبير عن الانتظام في حياة حضرية، وأما الثقافة فهي ما يضفي على الحياة الحضرية أو الحضارة الإنسانية بمعناها الواسع معنى سامياً متعالياً يفسر مظاهرها، وأحداثها تفسيراً يستلهم المثل العليا، والقيم الجمالية.. وتعنى مجموع القيم التي توجه السلوك..

من هنا، لابد من التمييز بين الدلالتين لكلمة "حضارة" و"الثقافة". الثقافة تستمد وجودها من الجماعة المتصلة بها، فهي تعبر عن تلك الجماعة، وعن نمط معيشتها..، أما الحضارة، فلا ترتبط بمجتمع معين أو شعب معين..، فهي تتجاوز الثقافة..، رغم أنها تتولد عنها وتستمر عبر أشكالها..[21]

الدلالة الأولى تشير إلى حالة مجتمع المتقدم الناتج عن إنجازاته وإبداعاته في الميادين المختلفة..

أما الدلالة الثانية فتشير إلى الحضارات البشرية التي تتابعت على مسرح الثقافة.. لقد امتد المفهوم الدلالي المزدوج للحضارة والثقافة إلى حدود القرن التاسع عشر.. حيث تجاوزت الدراسات الانتربولوجية والسوسيولوجية إلى دائرة أكثر تحديداً تتجمع فيها الدلالات المادية والروحية..

ـ 4 ـ

الحضارة والبداوة

يرى ابن خلدون (1332/1406) أن الحضارة طور من أطوار الدولة يأتي بعد طور البداوة..

الحضارة تمثل الغاية التي تسعى البداوة لتحقيقها.. والعمران البشري أو الاجتماع الإنساني يفسر التحول من المجتمعات البدوية إلى المجتمعات الحضرية وما يترتب عن ذلك من تغيير في نمط السلوك والأخلاق، وأساليب الحياة..، وتكوين الدول وطبيعة الاجتماع الحضري، خاصة في الاقتصاد، والصناعة، وطلب العلوم.. واستخدام البرهان العقلي..

فالحضارة وإن كانت غاية العمران، فهي في الوقت نفسه جدل بين العمران البدوي والعمران الحضري يؤدي إلى سقوط الدول والحضارات وما يرتبط بها من أنماط وأشكال في الاجتماع البشري..[22]

إن المشكلة الجوهرية للإنسانية تتمثل في الثقافة والحضارة.. ولا يمكن لأي شعب أن يحل مشكلته، ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبنى الحضارات أو تهدمها..

إن الحضارات تعبير عن الملحمة الإنسانية منذ فجر التاريخ.. الحضارة تنحل إلى ثلاث مشكلات أولية (مشكلة الانسان ومشكلة التراب ومشكلة الوقت).

وهناك عامل محفز (Catalyseur) يؤثر في مزج العناصر الثلاثة، فيحولها إلى قوة فاعلة في التاريخ.

إن الفكرة الدينية المتجلية في العلاقة بين المبدأ الأخلاقي والذوق الجمالي.. تطبع الفرد والمجتمع بطابعها الخاص، وتوجهه نحو غايات سامية، كعامل يحدد اتجاه الحضارة ورسالتها في التاريخ..[23]

ـ 5 ـ

الاستراتيجية الحضارية

إن مفهوم الاستراتيجية الحضارية يطرح نفسه على كل من يهتم بموضوع الحضارة. إن الامبريالية نظام اقتصادي وسياسي يهدف إلى خدمة السيطرة الحضارية الغربية.. وقد تجلت في الحروب الصليبية، ثم في الموجات الاستعمارية التقليدية بين القرنين (14/19) وكذلك في المرحلة الإمبريالية حيث تم تغيير ميزان القوى بين الدوائر والمراكز الحضارية في العالم..[24]

لقد أصبح المؤشر الجغرافي المعيار الأساس في التمييز بين أشكال الحضارة.. وتحتفل الأدبيات بمصطلحات مثل الحضارة الشرقية، والحضارة الغربية الأوروبية..

وهذه المفاهيم تعكس مواصفات واقعية تعبر عن وحدة المصائر الثقافية..، وأثر البيئة على تطور المجتمع..

إن تغير العالم لم يعد قاصراً على الجانب الاقتصادي أو الاجتماعي..، بل اتجه إلى الإطار الثقافي الفكري، والمعرفي، والقيمي..، لمختلف الدوائر الحضارية لعالمنا المعاصر.. فلا يمكن فهم مغزى، ودلالة نهضة آسيا الشرقية من "يابان الميجى" إلى نهضة الصين..، بعيداً عن فهم فلسفة الكونفوسيوسية، والتاوية..، ولا يمكن فهم عداء فكر العولمة للإسلام بعيداً عن رفضه التفكك، والذوبان، والتشكل حسب نمط القوة العظمى..

إن العامل الحضاري يعود إلى مكانه المركز في تفاعل جدلي مرتفع الوتيرة، وخاصة البعد الجيوسياسي..

إن رفض هيمنة القطب الأمريكي سيؤدي إلى صدام وصراع حضارات..[25] ضمن التقسيم التقليدي إلى مناطق ثقافية وإيديولوجية تمثل القوى التي تنافس هيمنة الحضارة الغربية.. فالإمبريالية الغربية تسعى إلى تكريس الحضارة الغربية بوصفها الحضارة العالمية.. وفرضها بالقوة الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية على الثقافات والحضارات الأخرى..

ويتجسد الخطر في العقلية التي ترى العالم على صورة الغرب..، انطلاقاً من ظهور العالم الحديث منذ مطلع القرن التاسع عشر، حتى تشكل نظام القطب الواحد في مطلع القرن الواحد والعشرين.

إن الترابط بين الحضارة وحركة التاريخ امتد إلى مجال الأديان..، وقد استمر الترابط العضوي بين الحضارة والسياسة منذ مطلع القرون الوسطى إلى نهاية القرن الثامن عشر، حيث أصبحت الحضارة الغربية هي السائدة، والباقي مجرد هوامش غير مؤثرة، بل نابعة..[26]

إن اللحظة التاريخية التي يمر بها العالم توحي بأن العالم سيشهد صراعاً حضارياً من شأنه الحد من الهيمنة الحضارية الغربية.. كما يهدد مكانة الولايات المتحدة ومصالحها السياسية والاقتصادية والحضارية..

وإذا كان التاريخ تصنعه أحداث متراكمة وتوجهه موجات وتيارات عميقة وشمولية، فإن مرحلة ما بعد الاستعمار ستتسم بحرب ثقافات وحضارات، وهي حرب بين فكرة التسلط والاستبداد الحضاري وبين فكرة الاختلاف والتعدد..[27]

ـ 6 ـ

حرب حضارية أم صدام حضارات..

بعد نهاية الحرب الباردة، ودخول العالم في مرحلة بدأ يتشكل فيها عالم جديد تحكمه موازين قوى جديدة..

وفي ظل التغييرات التي يشهدها العالم، قام بعض الكتاب بطرح وجهات نظرهم وطروحات تسعى إلى تغليب مبررات استمرار الهيمنة الغربية، وتربع الليبرالية، والسوق على عرش العالم..

ونهاية الصراع التاريخي لصالح القيم الغربية.. حسب ما ذهب إليه "فوكوياما" صاحب كتاب "نهاية التاريخ"..

أما بول كندي صاحب كتاب "قيام وسقوط القوى العظمى"، فقد حذر ونبه إلى حدود استخدام القوة، وأشار إلى احتمال تخلي القوة الأمريكية عن تفردها بعد سقوط القطبية الثنائية..، ومن ثم زوال الهيمنة الغربية والمركزية الأوروبية.. كما تحدث عن التحديات التي تواجه الهيمنة الأمريكية.. والمتمثلة في ظهور قوى صاعدة على المسرح الدولي وأهمها الصين.. ولا يستبعد قيام تقارب بين الصين واليابان.

ويرى أن قوة الولايات المتحدة في تراجع مستمر.. رغم ما تتمتع به من قوة نسبية.. ونصح بأن تتجنب الولايات المتحدة التوسع الأمبريالي الذي يفوق إمكانياتها وقدراتها..، فالتزاماتها أكبر من قدراتها على الدفاع عنها.. لم يتح لأي قوة عبر التاريخ أن تظل متقدمة على غيرها..

هذه بعض الأفكار التي تبلورت حول مستقبل العالم، والصراع بين الحضارات، ويندرج في سياقها أطروحة صمويل هنتغتون (1927/2008) حول "صدام الحضارات" وأطروحة المهدي المنجرة (1933/2014) "الحرب الحضارية".

- حول مفهوم صدام الحضارات

ظهرت فكرة صراع الحضارات التي أقام عليها "هنتغتون" نظريته، انطلاقاً من أن الصراع بين الحضارات ما زال قائماً وسيحتد في المستقبل، بحيث سيحل محل صراع الدول، وصراع الإيديولوجيات.. فالصراع السابق كان دائراً بين أطراف أو دول داخل الحضارة الغربية..

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، سيواجه الغرب من أجل الإبقاء على تفوقه العسكري والاقتصادي، بردود فعل من الحضارات والثقافات المختلفة..

ضمن هذا الإطار، تبلورت أطروحة "هنتغتون" (صدام الحضارات).

في أبريل 1993، نشرت "فورينع أفيرز" مقالاً لصمويل هنتغتون، تحت عنوان "صدام الحضارات" ذكر فيه أن المصدر الأساسي للصراع في العالم الجديد لن يكون إيديولوجيا أو اقتصادياً.

فحسب 7% فمصادر الهيمنة ستكون ثقافية..، ومركز الصراع سيكون على المدى القريب بين الغرب والإسلام والكونفوشوسية..، وأن الصدام سيبدأ عند خطوط التماس، وفي مناطق التداخل بين الهويات الدينية والثقافية والمعرفية، ثم يتحول الصدام إلى القضايا السياسية، ويرى "هنتغتون" أن الصراع سيمتد ويتسع في القرن الواحد والعشرين.. وستتحدد بؤر التماس بين شمال البحر المتوسط وجنوبه، وفي البلقان وشرق أوروبا..، وفي أنجاء آسيا..

خلاصة الأفكار التي تضمنتها أطروحة "هنتغتون" ننطلق من أحكام مسبقة على الحضارات ودعوة إلى الصراع والصدام والحرب.. واستراتيجية الصراع أو الصدام التي نسج حولها "هنتغتون" أطروحته تهدف إلى الإبقاء على التفوق الغربي وهيمنته على العالم.

السؤال الذي يطرح نفسه هو ضرورة الجمع بين الفكر والعمل في جدلية الصراع الحضاري من أجل تفاعل وتكامل يؤسس لعالمية متعددة الأقطاب والأبعاد الدينية والفلسفية والأخلاقية..

- حول مفهوم الحرب الحضارية

على خلاف موقف "هنتغتون" الذي ضمنه مؤلفه (صدام الحضارات) والذي أشار فيه إلى أسبقية "المهدي المنجرة" في وضع مفهوم "الحرب الحضارية".

كان "المهدي المنجرة" قد عبر في نقاش حول مستقبل العلاقات الدولية ببرنامج المحطة التلفزيونية اليابانية K.W.N (2/10/1986) عن يقينه أن الحروب القادمة، ستكون حضارية..، وأكد هذا المفهوم في حوار مع مجلة "دير شبغل" الألمانية سنة 1991، هادفاً بذلك إلى إبراز دور القيم الحضارية والثقافية في إذكاء الصراع الدولي..

ثم تبلور هذا المفهوم في الكشف عن المخططات المضمرة في حرب الخليج الثانية، وعن طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي الذي يندرج ضمن لواء الحرب الحضارية..[28]

وقد ضمن المنجرة أطروحاته حول الصراع القيمي الثقافي، والحضاري، في مؤلفاته العديدة التي صدرت باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية..

نكتفي بالإشارة هنا إلى كتابه الحرب الحضارية الأولى الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1991 والطبعة التاسعة عن المركز الثقافي العربي سنة 2014 وكتابه انتفاضات في زمن الديمقراطية (2002) وكتابه الإهانة في عهد الميغا أمبريالية (2004)..

إن موقف المنجرة من إثارة مفهوم الحرب الحضارية، يرمي إلى تفادي الصدام من خلال الشروع في حوار حضاري بين الشمال والجنوب..، منطلقا من علم المستقبليات في إذكاء روح الأمل.. فالمستقبل يصنع بتكاثف الجهود، وحسن المقاصد، والتحرر الحقيقي يقوم على رؤيا وأهداف وبرامج وأفكار..، ومشاركة..

أما النزوع إلى القوة والعسكرة، فالغابة منه الهيمنة والسيطرة..، ومهما تكن الطريقة التي سيعاد بها رسم خريطة العالم.. فإن العالم سيشهد مرحلة جديدة يرتكز فيها الصراع حول الدفاع عن القيم والكرامة الإنسانية..[29]

يقول المنجرة إن هدفي من استعمال "الحرب الحضارية" هو وقائي، وليس عدواني، فرسالتي بأن حرب الخليج كانت أول حرب حضارية الغرض منه التنبيه إلى أن الحروب القادمة ستكون كذلك إذا لم يتم الاشتغال على واجهة التواصل الثقافي لأن مصادر الهيمنة ستكون ثقافية..

إن أطروحة "هنتغتون" على النقيض من طرحي، فمقاربته تظهر أنها ليست وقائية (أي الدعوة إلى التواصل الثقافي والحوار بين الحضارات..) فموقفه مبني على تصور عدواني بالقياس إلى الثقافة الغربية..

وإذا كانت العولمة قد تسببت في الحرب الحضارية التي يشهدها العالم اليوم.. فهناك حرب حضارية صغرى علينا أن نتغلب عليها قبل أن نواجه الحرب الحضارية الكبرى..[30]

في كتاب الحرب الحضارية الأولى، يتطرق المؤلف إلى الأبعاد الأربعة لهذه الحرب: العسكرية والحضارية، والسياسية، والاقتصادية، والاستراتيجية. غير أن الرابط الذي يجمع بين هذه الزوايا هو الرغبة الملحة في استشراف المستقبل استناداً إلى أدق مناهج وآليات البحث المستقبلي..، ولذلك لفهم الأبعاد العميقة لهذه الحرب..[31]

الدراسات المستقبلية تحاول أن تتوقع التغييرات الجذرية التي يشهدها العالم ومدى تأثيرها على الواقع..

الدراسات المستقبلية والاستراتيجية يتجه جزء منها بنسبة (40 إلى 45% ) في الميدان العسكري و (30 إلى 40% ) عند الشركات المتعددة الجنسية..[32]

إن الحرب في الشرق الأوسط، وهي حرب حضارية بامتياز، تجسد النموذج الغربي الاستراتيجي الدفاعي الرافض للتغيير.. والعرب ليسوا سوى حقل تجارب (أو فئران مخبرية Cobayes ) ضمن مخطط يستهدف إدامة الغلبة العسكرية والسياسية والاقتصادية للعالم الغربي..، وهيمنة القيم الثقافية اليهودية، المسيحية..، خشية تغيير النظام القائم في الشرق الأوسط، حتى لا تتضرر المصالح الغربية التي يجب صيانتها، والضمانة المؤكدة لذلك تتمثل في هيمنة السلام الأمريكي..[33]

إن إمعان النظر فيما يجري، سيفصح في مؤتمر بحثاً عن تشكيل نظام عالمي جديد..

إن الهدف الاستراتيجي لدول الشمال إبقاء الوضع الراهن (Statu-quo) بدون تغيير.

الحرب في الشرق الأوسط حرب حضارية ونزاع بين الإسلام والغرب المسيحي اليهودي..، وهذا النزاع له مؤشرات منذ (1976)، ومن ثم فإن الحرب في المستقبل المنظور ستكون حرباً حضارية هدفها الهيمنة الحضارية.

إن حرب الخليج كلفت 100 مليار دولار، وتعتبر بكل المقاييس حرباً عالمية حقيقية.. إلا أن أهدافها بالدرجة الأولى حضارية.. وسوف تنتهي حتماً بنهاية الهيمنة الأمريكية، وظهور نظام عالمي جديد يقوم على التعددية الحضارية، لأن أساس البقاء مرتبط بالتعددية، وبدون التعددية تنتهي الحضارة إلى الأفول والاندثار والفناء..[34]

إن الولايات المتحدة قوة عسكرية تعتمد على أسلحة الدمار الشامل وليست قوة أخلاقية أو حضارية.. وهي الآن دخلت مرحلة انحدار حضاري..

إن التخلف الحضاري هو نتيجة وجود هوة، بين الوقائع وتوقعها، فإذا كنا نندهش حين تقع الواقعة، فهذا برهان على عدم التوقع، وعلى انعدام النظر على المدى المتوسط والبعيد.. وكذلك برهان على عدم وجود رؤية.. لأننا نعيش برؤية الآخر وباستراتيجية الآخر..[35]

ـ 7 ـ

نهاية العصر الأمريكي

الحضارات في مجملها هي منظومات قيم عابرة للحدود، وتشير التعددية الحضارية إلى التمايز والصراع بهدف الوصول إلى نتيجة حاسمة في توازن القوة الاستراتيجية،

أو تحقيق مساواة وتوازن في المصالح..

ويتمخّض عن الصراع أو التنافس بين الحضارات..، ظهور نظام دولي مؤسس على قوة اقتصادية وعسكرية فائقة تمتلكها دولة عظمى أو تحالف دول في عصر بعينه..، تستطيع أن تجعل إرادتها فاعلة، ومؤثرة، ويستتبع ذلك بناء فوقي حضاري وسياسي مثله النموذج الديمقراطي البريطاني، وهو القوة الغالبة التي أفرزتها الثورة الصناعية الأولى في إطار عصر الرأسمالية..، وبلغ ذروته في العصر الفتكتوري..

والحق بذلك نمط من الحياة يتطلع الآخرين في العالم إليه ويسعون إلى تقليده، أو استلهامه في كل المجالات..[36]

ونظراً لأن القوة لها تكاليفها الباهظة في جدلية الصراعات التاريخية من أجل الغلبة.. فإن الامبراطوريات الاستعمارية الأوروبية (بريطانيا وفرنسا) خرجت منهكة وغير قادرة على الاستمرار، وكان من الحتمي ظهور بديل لها حسب موازين القوى التي تمخضت عنها الحرب العالمية الثانية.. بحق تعد القوة التي فرضت نفسها بعد هزيمة "هتلر" هي التي أدت إلى ظهور الولايات المتحدة، باعتبارها قلعة الثورة الصناعية لكي تقود النظام العالمي الجديد الذي استصف وصف العصر الأمريكي (Pax Americaina).

كانت القوة الاقتصادية والعسكرية هي الأساس.. ثم تأخذ معالم السيادة العالمية، مواقعها على الأرض، بحيث ظهرت القوة النووية الأمريكية لتكون حارسة الأمن العالمي، وانتشرت القواعد الأمريكية في كل القارات، وأصبح الدولار العملة الأولى المعتمدة في البورصات التجارية والمالية، ومن ثم أصبح النظام الأمريكي ومؤسساته القوة الغالبة التي أفرزتها الثورة الصناعية الثانية في عصر الرأسمالية.. وكانت وسائله هي البترول والكهرباء وإنتاج السيارات والطائرات..، وأسلحته حاملات الطائرات، والصواريخ النووية.. إلا أن القوة عندما تبلغ أوجّها، فإن الموازين سوف تختل بما لا يسمح للنظام الأمريكي بالاستمرار..[37]

وجميع الامبراطوريات عبر التاريخ عندما تصل إلى الذرى العالية تكتشف أن البقاء فادح التكاليف وعندها تظهر حتمية النزول، وذلك ما حدث لكل الإمبراطوريات في العالم القديم إلى الإمبراطوريات الأوروبية في العصر الحديث.. وكلها في حالة الصعود استعانت بالقوة، وكلها في اتقاء النزول قاومت بالعنف..[38]

من نافل القول أن عصر الرأسمالية ما زال مستمراً، وأن القوة الغالية في المستقبل هي القوة الصناعية الثالثة والقوة الأمريكية العظمى المتفوقة تحاول الاحتفاظ بسيطرتها العالمية..، إن معركة القرن الواحد والعشرين، ما زالت في بدايتها تختمر في المختبرات ومعامل التكنولوجيا المتطورة، وتتبلور في مراكز البحث والدراسات المستقبلية.. وأروقة صناعة السياسات في أفق تشكيل نظام عالمي متعدد..

إن النظم تنشأ وتظهر وتنمو نتيجة عوامل طبيعية في مجالات الصناعة والزراعة والتجارة، والمال والقوة العسكرية والمؤسسات الدستورية والسياسية والبنى الفكرية والثقافية وأنماط الحياة وأساليبها..

يجب أن نفرق بين نظام عالمي جديد وبين الترتيبات الجديدة والظواهر المستحدثة النظام العالمي القديم يحاول تثبيت دوره من أجل تحقيق مصالحه ورغباته مستجيباً للمتغيرات الجارية..[39]

كان القرن العشرون أمريكيا نتيجة السيطرة على البترول، كان البترول المحرك للقوة الأمريكية التي برزت في نهاية القرن التاسع عشر وبلغت أوجّها عند منتصف القرن العشرين.

أصبح البترول سلعة حيوية في التنظيم والحرب ضامن للنصر وقت الحرب وصانع السلام وقت الرخاء..

فإدارة شؤون البترول في 90% منها سياسية.

الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية تولّت إدارة شؤون البترول وتصرفت فيها خارج قيود القانون الدولي..

فالشركات الأمريكية تعاملت في المنطقة كأنها دول، لأن وراءها القوة الأمريكية المدبرة لشؤون العالم..، والقوة المستهلكة لأكثر قدر منه في زمن السلم أو الحرب..

وكانت تتصرف إزاء هذا الوضع على كل الجبهات السياسية والاستراتيجية بنفس الدرجة، وكذلك على الجبهة العلمية التكنولوجية..

كان الكنز محصناً بوسائل التفكير والتخطيط والتنفيذ، بمنطاق من حديد يحيط به ويحميه..، إلى درجة تحول دون الاقتراب منه..[40]

الولايات المتحدة هي القوة الأولى التي اكتشفت البترول وطوعته للإنتاج، وسادت في أسواقه.. واعتمدته لبسط نفوذها وسيطرتها العالمية، مما جعلها تملك الإرادة والجاهزية لحمايته.. ومن طبائع الصراعات التاريخية، أن تقاس بحجم التحديات التي تواجهها.. ويتجلى التحدي في ظهور خصم أو منافس، قادر على فرض إرادته على القوة الغالبة، ودفعها إلى التراجع والتنازل، والقبول بقواعد جديدة تعيد صياغة موازين القوى، وتؤسس لنظام عالمي جديد.

ولا يمكن بأي حال فهم الصراعات الجارية في العالم إلا في إطار عريض لتصور العلاقات بين الشمال والجنوب، مع الأخذ في الاعتبار أهمية التاريخ والرهانات على المستقبل..

منذ بداية عقد التسعينات، أصبح سيناريو القطيعة بين الشمال والجنوب لا محيدة عنه..، نظراً لرفض الشمال لأدنى تصحيح في النظام الدولي الذي تسوده اللاعدالة، والتوزيع اللامتكافئ (للثروة) بصورة فاضحة.. كما يرفض الشمال إعادة توزيع السلطة والمصادر (المادية) في العالم، لكي يبقى 20% من سكان العالم يستحوذون على 80% من مقدرات وإمكانيات الكرة الأرضية.. وهذا ما يفسر تمسك الغرب بالوضع الراهن للنظام العالمي الذي يكرس نزعية الانغلاق الإثني (Ethnocentrisme) الرافضة للقيم المختلفة عن القيم الغربية، وذلك بسبب الغطرسة الثقافية..[41]

إن قرونا من الهيمنة الغربية والاستغلال لشعوب العالم باسم "مهمة التحضر" ستؤدي إلى فرض نمط الحياة الغربية..

كما أن الهيمنة الأمريكية أدت إلى دخول العالم عصر "ما بعد الاستعمار" الذي جعلها تتحكم في الحكومات وتوجهها لخدمة مصالحها وسياساتها، مما ييسر لها الاستيلاء على موارد العالم على حساب رفاه وكرامة السواد الأعظم من سكان العالم.. وأيضا الوصول إلى المحيطات وحرية الحركة في الفضاء..[42]

ولا فرق في هذا كله بين الأمن العسكري والأمن الاقتصادي، فكل منهما مندمج في الآخر.. لأن توازن المصالح لا يتحقق في غيبة عن توازن القوى..

وعندما يتعلق الأمر بنظام دولي، اختلت موازينه نتيجة سيطرة القطب الأمريكي وأصبح يحمل بذور انهياره لافتقاده للأنسنة والإنصاف والعدل..

فإن العالم لكي يخرج من مأزق التدهور يبحث عن فكر استراتيجي جديد يتلاءم مع الظروف المتغيرة.. التي تجلت في دوائر الاقتصاد العالمي، تأسيساً على أن السياسة تصنع الاقتصاد بقدر ما يؤثر الاقتصاد في توجيه السياسة..

كما أن صناعات السلاح والفضاء تندرج ضمن التخطيط الاستراتيجي للدول..

في عالم متغير اختلت فيه الموازين على أكثر من صعيد بين الشمال والجنوب، واضطربت فيه الأوضاع، واتسعت فيه الحروب، وتمددت الصراعات التي تهدد الكيانات والمجتمعات بالاندثار..، وبدى النظام الدولي منهك وعاجز، ومعطل الإرادات غير قادر على تدبير الصراعات الجارية، أو قضايا السلم والحرب والتوازنات الاستراتيجية التي تسفر عن احتكاك وصدام بين القطب الأمريكي والقوى الصاعدة والتي تحصدرها الصين..

في ظل هذه التحولات التي تعصف بأركان النظام الدولي، فإن الولايات المتحدة تحاول البحث عن عدو لاستبقاء النظام القديم الذي استهلك أسباب قوته.. في حين تسعى القوى الصاعدة المنافسة لأمريكا على الساحة الدولية ملأ الفراغ وتوسيع دائرة نفوذها ودورها في شؤون العالم..

ذلك أن القوة حين تتراكم يؤدي تراكمها إلى تفاعلات تصنع حقائق جديدة، قادرة على تشكيل عصر بكامله، وضبط إيقاعه..[43]

ـ 8 ـ

الأبعاد الجيواستراتيجية للصراع على المسرح الدولي

إن مهمة السياسة إدارة الصراع بالرشد والوعي، وتجنب وقوع المأساة عن طريق الربط بين الإرادة والتاريخ..

لقد أدى انهيار الاتحاد السوفياتي إلى تفرد القوة الأمريكية لتصبح القوة الأولى في تاريخ العالم تحقق سلطة عالمية.. ومع ذلك تحتفظ أوراسيا بأهميتها الجيوسياسية..، ومن ثم انبثاق قوة أوراسية عدائية ومهيمنة.

مما يعد هاجسا يشغل صناع السياسة، وذلك خشية أن تفقد الولايات المتحدة تفوقها العالمي..[44]

وقد ركّزت السياسة الأمريكية على الجانب الجيوسياسي لكي تخلق حالة توازن قارية مستقرة..

تعتبر أوراسيا (أوروبا وآسيا) رقعة الشطرنج التي يجري حولها الصراع من أجل احتلال المكانة الأولى في العالم.. ويهتم علم الاستراتيجية بإدارة المصالح الجيوسياسية.. وتحديد القوى الفاعلة والمؤثرة في الشؤون العالمية، وتعتبر اليابان قوة بارزة تملك قدرات لممارسة دور سياسي من الدرجة الأولى كقوة اقتصادية..، ومع ذلك تتصرف متحاشية القيام بدور على الساحة الدولية مفضلة العمل تحت المظلة الأمريكية، مما يسمح للولايات المتحدة أن تتفرد بالدور الأمني الاستراتيجي في الشرق الأقصى..، ومن ثم فإن اليابان رغم أنها ليست لاعباً جيوستراتيجي، إلا أنها مؤهلة بإمكانياتها الضخمة أن تصبح أحد اللاعبين الكبار على المسرح الدولي[45].

وتجدر الإشارة إلى فكرة النظام العالمي الجديد فكرة يابانية..، وردت في المقدمة التي كتبها رئيس المؤسسة اليابانية لتقدم البحث العلمي للدراسة التي أصدرتها المؤسسة حول جدول أعمال اليابان في ميدان العلم والتكنولوجيا المتقدمة، وجاء في المقدمة أنه يجب على اليابان أن يهيئ للقرن الجديد وأن يبني برنامجاً جديداً أساسه التعددية الحضارية في جميع المجالات..، وأكّد رئيس المؤسسة أن المعاصرة والحداثة ليست في تقليد الغرب بل في المحافظة على القيم..[46]

فيجب إذن المحافظة على العلاقات الأمريكية اليابانية، لأن نهاية هذا التحالف سيكون مؤشراً على بداية عصر جديد..

وتعتبر الهند قوة إقليمية صاعدة وترى نفسها كلاعب عالمي رئيسي ومنافس الأقوى للصين في جنوب آسيا..

أصبحت الهند قوة نووية للتوازن مع الصين، كما أن لها رؤية استراتيجية الدولي الإقليمي في المحيط الهندي.. إلا أن مطامحها في المرحلة الراهنة تنحاز إلى المصالح الأمريكية في أوراسيا.. وبالتالي لا تشكل مصدر قلق على جيوسياسي للولايات المتحدة بنفس الدرجة التي تمثلها روسيا والصين.

تعد أوكرانيا ساحة جديدة ومهمة على رقعة الشطرنج الأوراسية ومحوراً جيوسياسيا، لأن وجودها كبلد مستقل يساعد على تحويل روسيا، فبدون أوكرانيا تكف روسيا عن أن تكون امبراطورية أوراسية.. بل تصير مجرد امبراطورية أسيوية.. ومن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى صراعات مع الدول الأسيوية الناشئة.. وقد تعارض الصين استعادة روسيا السيطرة على آسيا الوسطى.. نظراً لاهتمامها المتنامي بالدول المستقلة حديثاً..

إن أوكرانيا (بسكانها 52 مليون ومواردها الكبيرة)، إضافة إلى أنها تتيح لروسيا الوصول إلى البحر الأسود..

بذلك تستعيد روسيا دورها كدولة قوية ممتدة في أوروبا وآسيا.. فخسارة أوكرانيا لاستقلالها سينجم عنه عواقب على أوروبا الوسطى محولة بولونيا إلى محور جيوسياسي على الطرف الشرقي لأوروبا المتحدة..[47]

تعد أذربيجان مهمة جيوسياسياً بمواردها الطاقية الكبيرة.. فإذا سيطرف روسيا على الموارد النفطية لأذربيجان، وما قد يترتب عن ذلك من إلغاء استقلال أذربيجان وبنفس حالة أوكرانيا، فإن مستقبل آسيا الوسطى سيتحدد بما يمكن أن تؤول إليه روسيا..

أما تركيا وإيران وهما لاعبان منشغلتان، في تثبيت نفوذهما في منطقة بحر قزوين، وآسيا الوسطى مستغلتان تراجع القوة الروسية.. لذلك يمكن اعتبارهما لاعبين جيوستراتيجيين، كما تعدان في المقام الأول محورين جيوسياسيين مهمين، فتركيا تحفظ استقرار منطقة البحر الأسود.. وتوفر إيران على نحو مشابه مساندة لاستقرار التنوع السياسي الجديد في آسيا الوسطى.

وهي تسيطر على الشريط الساحلي للخليج العربي، بينما يقوم استقلالها عائقاً في وجه أي تهديد روسي طويل الأمد للمصالح الأمريكية في منطقة الخليج العربي بغض النظر عن العداء بين إيران وأمريكا..

تعد كوريا الجنوبية محوراً جيوسياسياً في الشرق الأقصى، فصلاتها القوية مع الولايات المتحدة مما مكّن الأخيرة من حماية اليابان ومنعها بذلك من أن تصبح قوة عسكرية كبيرة ومستقلة..

إن التغيير المهم في وضع كوريا الجنوبية سيكون عن طريق التوحيد، أو من خلال انتقالها إلى نطاق التوحيد، أو من خلال انتقالها إلى نطاق النفوذ الصيني، الأخذ بالاتساع سيؤدي بالضرورة إلى دراماتيكى في الشرق الأقصى، مغيراً الدور الياباني..[48]

إن القائمة الآنفة لللاعبين الجيواستراتيجي والمحاور الجيوسياسية ترسم صورة النظام عالمي متغير..

إن ظهور الصين كقوة استراتيجية رئيسية، سيجر معه صداماً مع الصين، الأمر الذي قد يؤدي إلى توتر العلاقات اليابانية الأمريكية، وخروج اليابان من مظلة التحالف الأمريكي، مما يعني أن اليابان لا توافق على سياسات الاحتواء التي تنهجها الإدارات الأمريكية.. وقد يكون للصراع مع الصين عواقب جذرية تؤثر على نظرة اليابان لدورها الإقليمي، مما سيؤدي حتماً إلى إنهاء الوجود الأمريكي في الشرق الأقصى..

ومن المحتمل أن يتمخض عن الصدام الصيني الأمريكي إلى انفراط الحلف الثلاثي: الأمريكي الياباني الكوري، مما سيدفع بكوريا إلى التوحد واليابان إلى العسكرة..

إن من تبعات الصراع الصيني الأمريكي دفع أمريكا خارج القارة الأوراسية، مما يهدد مكانتها كقوة عالمية..[49]

أما السيناريو المعتمد والأخطر سيكون قيام ائتلاف مضاد للهيمنة الأمريكية بين الصين وروسيا وربما إيران، وسيكون هناك تغيير جذري في استشراف اليابان لعالم ما بعد الامبراطورية الأمريكية..

أما خيار روسيا الجيوستراتيجي هو أن تمنح درواً في أوروبا الموحدة.. حتى تتجنب الوقوع في العزلة الجيوسياسية الخطيرة..[50]

والخلاصة أن التعددية الجيوسياسية على الأجمال، لن يتم تحقيقها ولا ترسيخها دون تفاهم أمريكا والصين..

وقد يشمل الحوار الاستراتيجي الجاد الهند واليابان، في خطوة ضرورية للاعتراف المتبادل بالمصلحة الاستراتيجية..، وفي توافق يعكس المصالح الجيوسياسية العديدة، لا سيما في شمال شرق آسيا وآسيا الوسطى.. على أمريكا أن لا تدفع الصين إلى أن نقود ائتلافا مناوءا للهيمنة الأمريكية لأن الصين وحدها تمثل قوة الجذب الأساسية لمثل هذا الائتلاف..[51]

ستواجه الامبراطورية الأمريكية في القرن الجديد تحديات كبرى على الصعيدين الاقتصادي والعسكري، بحيث لن تظل إرادتها غير قابلة للتحدي ودورها غير قابل للمنافسة..

ولا شك أن قيادة العالم نحو عصر جديد مهمة يصعب تحقيقها بالسلاح وحده، أو بسباق فضائي أو نووي ضد طرف منافس..[52]

عندما نمعن النظر فيما يجري أمامنا من متغيرات، سيتبدى لنا بوضوح أن العالم يتجه على المدى المتوسط إلى نهاية العصر الأمريكي، وبداية تشكل نظام عالمي متعدد الأقطاب الحضارية..

وسيشكل المجتمع المبني على المعرفة لب الحضارة الجديدة الذي سيخلف مجتمع ما بعد الثورة الصناعية والمركزية الغربية.. التي تستحوذ على 90% من المصارف الدولية و 90% في ميدان البحث العلمي.. وسوف تتسع الفجوة بين الشمال والجنوب، بحيث سينخفض سكان الشمال سنة 2050 إلى 12% من مجمل سكان الكرة الأرضية، ومن غير الممكن أن يستمر استغلال الشمال على كل ذلك في المستقبل..[53]

إن الصراع الجاري في العالم لم يعد حول المشكلة الاقتصادية، بل بالدرجة الأولى حول المشكلة الثقافية والحضارية..، وبالتالي فإن الهيمنة الأمريكية الحضارية على العالم بدأت في الأفول ويستعد العالم إلى ولوج عالم مبني على تعدد الحضارات، ممّا سيتمخض عنه تغيير النظام الدولي.. والانتقال من دائرة الهيمنة الغربية إلى دائرة تسود فيها القيم الحضارية.. الأسيوية والإفريقية والإسلامية..

إن الهدف من النظام الدولي تغيير العالم، مما يعني إلغاء الهيمنة الأمريكية (هيمنة المركز الواحد) الذي جعل الولايات المتحدة الدولة الأولى من حيث الإنتاج والاستهلاك والتبادل..، ولابد من إعادة النظر في هذا النظام الذي يقوم على أولوية الاقتصاد والتحكم في السوق، والسيطرة على دوائر الفكر والعلم والإعلام والاجتماع.. وما دام تصور العالم واحد (Mondialisation du monde) ، فإن الوعي بعالمية العالم يتطلب إعادة تشكيل النظام العالمي وتحقيق توازن استراتيجي ونهوض حضاري..

إن أزمة العالم تكمن في هيمنة القطب الأمريكي على الحياة العالمية.. ولن يتغير العالم إلا إذا تغير نظام القطب الواحد الذي تمثل الولايات المتحدة مركزه الأقوى المهيمن على الاقتصاد والسياسة في العالم، وأصبح يهدد التوازنات في المجال الدولي، مما ينعكس على مصائر المجتمعات البشرية..

إن مشكلة الإنسانية لم تتغير فتتجسّد في إحداث تغيير جيوسياسي واستراتيجي يخلص العالم من الهيمنة الأحادية البعد.. إلا أن تغيير العالم في حاجة إلى صياغة مشروع حضاري جديد تقدمه الدوائر الجيوثقافية التكوينية الأصلية للفكر والعمل تقدم إلى الإنسانية رؤية عالمية جديدة يتداخل فيها الروحي والمادي بصورة متزنة خلاّقة..

إن فكرة صياغة مشروع حضاري إنما يطرح في الوقت عينه فكرة صياغة الاستراتيجية الحضارية أداة له وشرطاً لتحقيقه وضماناً للمستقبل..[54]

خاتمة

إن ما عرضناه من مسائل وأثرناه من إشكالات، كنا نروم من وراءها تجلية ما تنطوي عليه الصراعات الدولية من أبعاد استراتيجية وجيوسياسية وحضارية، وذلك بقصد فهم دوافعها وأهدافها ومآلاتها في المدى المتوسط أو البعيد..

لقد حاولت مقاربة الصراعات من زاوية طبيعتها بغرض تحديد أهدافها.. هل هي جيوسياسية واستراتيجية أم ثقافية وحضارية قيمية..؟

لقد مهّدت الثورة المعلوماتية الرقمية إلى بداية حضارة الموجة الثالثة (ما بعد الصناعية)، بحيث حدثت تغييرات كبرى على كافة المستويات: التكنولوجية والثقافية والاستراتيجية..

لقد كان مفهوم الحرب في عصر الثورة الزراعية يتركز الصراع بين المجتمعات حول فائض الإنتاج الزراعي.. ثم كان الصراع قبل حدث الثورة الفرنسية (1789) صراعاً بين الحُكّام.. وبعد الثورة أصبح الصراع بين الشعوب والدول.. ثم أدى التصنيع إلى تطوير الأسلحة، وإلى تحسين الموانئ والمخزون والاتصالات، مما وسّع دائرة العمليات العسكرية.. فكان هدف الحرب هو تحطيم العدو وإخضاعه..

ومع بداية حضارة الموجة الثالثة، وصل السباق على التسلح إلى أقصى مداه من حيث القدرة التدميرية بما في ذلك السلاح النووي..

وأصبح المطلوب ثورة حقيقية في التفكير العسكري يستجيب لمتطلبات الموجة الثالثة..، فاقتصاد السرعة يقوم على الأدوات الذكية وينتج أسلحة ذكية..، كما أن تكنولوجيا الفضاء أصبح لها دوراً رئيسياً في كل نشاط يؤدي إلى تغيير موازين القوى العسكرية.. وبالتالي فإن من يحكم القمر يهيمن على الفضاء حول الأرض ويتحكم في نظام الأقمار الأرضية.

وتؤكد الدراسات المستقبلية أن العالم يتجه إلى الاعتماد الكامل على التكنولوجيات الجديدة، مما سيترتب عنه ثورة في مجال الاستراتيجيات العسكرية، ويؤدي إلى قلب موازين القوى العسكرية ويدفع بالصراع إلى دائرة المعرفة التنافسية..[55]

تأسيساً على ما سقناه من أدلة وأفكار وطروحات، أردنا من خلالها أن نقدم حقيقة أساسية تلخص استراتيجية الصراعات بين الأمم عبر التاريخ، وتندرج ضمن العلاقة المتشابكة بين الحرب والسياسة من أجل الوصول إلى نظام للسلام يحقق الأمن والمصالح بشكل متوازي ومتوازن.. وذلك وفقاً لجدلية الصراع الأزلية بين الدول والحضارات..

وقد تطرقنا في قراءتنا إلى وجه آخر من أوجه الصراع بين الجماعات البشرية عبر التاريخ، ويتعلق الأمر بصراع "الحضارات" أو "حرب الحضارة".

يندرج صراع "الحضارات" ضمن صراع القوى، حيث تعلو فيه إرادة القوة الغالبة فوق إرادة القوى المنافسة أو المناوئة بقصد إخضاعها وإجبارها على القبول بشروطها، والتسليم بمطالبها..

أما الحرب الحضارية، فتندرج ضمن مخططات الهيمنة الحضارية نتيجة هيمنة القطب الأحادي الأمريكي على النظام العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي..

تستمد أمريكا قوتها التي تهيمن بها على العالم باعتمادها على احتكار شركاتها والمركبات الصناعية والتجارية والمالية والخدماتية.. جميع النشاطات الحيوية، وتستحوذ على كل القرارات الهامة.. ونتيجة للعولمة التي تكتسح العالم، فإن مراكز القرارات العلمية المؤثرة أصبحت إما في مراكز البورصة والمضاربات المالية، أو في مراكز الإنتاج والتوزيع والتسويق، أو بين أيدي فريق من المديرين والمهندسين وخبراء العلاقات العامة..[56]

لقد مكّنت هذه القدرات الفائقة والإمكانات الهائلة.. الولايات المتحدة أن تصبح الدولة الجبارة (Hyper-Power) والنموذج الأمثل للتقدم.. ولكي تحافظ على هيمنتها العالمية انخرطت في صراعات جيواستراتيجية وحرب حضارية..

لم تعد الحرب صراعاً سياسياً بالدرجة الأولى وحسب، تتداخل فيه السيناريوهات العسكرية والأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية..

لقد دخل العالم في الحضارة المبنية على المعرفة.. وستكون أسلحة القرن (21): الأدمغة والعلم والتكنولوجيا والمعرفة..

وفي مرحلة ما بعد الاستعمار، ستكون الحرب حرب ثقافات وحضارات بين الشمال والجنوب..، وهي حرب بين فكرة التسلط والاستبداد الحضاري، وبين فكرة الاختلاف والتعدد..

إن خطر الاستغلال الغربي لدول الجنوب.. خطر حضاري من شأنه الحد من هيمنة الحضارة الغربية..[57] وإن أكبر تحديات المستقبل هو بناء نظام عالمي مبني على احترام الحضارات..

إن فهم حقيقة الصراع الحضاري كامنة في دور القيم الثقافية والحضارية في البناء العقلاني، والتخصيب الخلاق..

فليس هناك بداهة إبداع بالتقليد، وليس هناك بحث علمي بالتقليد..[58]

وليس هناك حضارة بالتقليد، فالدعوة إلى التنوع الثقافي والحضاري تشكل رهانا في المجابهة بين شمولية القيم الحضارية وبين المركزية الإثنية الغربية الهادفة إلى ترسيخ نظام حضاري عالمي أحادي البعد للهيمنة على العالم.

إن السجالات الدائرة حول مشروع نظام عالمي جديد تشهد على مكانة ثقافة في عادة تصور استراتيجيات قوة، في عالم أخذ بالتشكل والتبلور ضمن جدلية التثاقف والمساواة، والموازنة بين استراتيجي والجيوسياسي في عالم متغير.

***

أحمد بابانا العلوي

.............................

[1] - أحمد بابانا العلوي: فصول في الفكر والسياسة والاجتماع. منشورات أبي رقراق، ط 1/2008. ص.37.

[2] - جاسم سلطان: جيوبولتيك عندما تتحدث الجغرافيا (نشر تمكين الأبحاث) ط 1/2013. ص. 28.

[3] - نفس المصدر، ص 47.

[4] - نفس المصدر، ص 86-87.

[5] - فصول في الفكر والسياسة والاجتماع، ص 38-39.

[6] - المصدر السابق، ص 43.

[7] - المهدي المنجرة: الحرب الحضارية الأولى، المركز الثقافي العربي. ط 9/2014، ص 21.

[8] - المصدر السابق، ص 49/52.

[9] - المصدر السابق، ص 81.

[10] - الشرق والغرب رينه جينو، ترجمة أسامة شفيع السيد. ط2/2020. مدارات الأبحاث، القاهرة، ص 21.

[11] - المهدي المنجرة: في عهد الميغا إمبريالية، المركز الثقافي العربي، ط 5/2007، ص 15.

[12] - نفس المصدر، ص 45.

[13] - نفس المصدر، ص 57-58.

[14] - نفس المصدر، ص 99.

[15] - نفس المصدر، ص 98. انظر أيضا أنور عبد المالك تغيير العالم، ص 69/70.

[16] - الحرب الحضارية الأولى، ص 95.

[17] - ألبرت سفايتزر: فلسفة الحضارة، ترجمة عبد الرحمن بدوى، دار الأندلس، ط 2، 1980، ص 4.

[18] - نفس المصدر، ص 5.

[19] - انظر مقال محمد العربي الخطابي: الثقافة لغة وفكرة وتنظيماً، مجلة المناهل، عدد 3، سنة 1975. (ص 19/39).

[20] - فصول في الفكر والسياسة والاجتماع، ص 44.

[21] - مجلة دراسات عربية عدد 4 السنة العشرون فبراير 1984. انظر مقال محمد علي كبسي (الثقافة بين أشكال التجانس والتمايز)، ص 32.

[22] - محمد عبد الله عنان: ابن خلدون حياته وأثره الفكري، مؤسسة المختار، القاهرة، ص 109.

[23] - مالك بن نبي: شروط النهضة، ط – 2018، ص 10/14.

[24] - أنور عبد المالك: من أجل استراتيجية حضارية، مكتبة الشروق الدولية، ط 1/2005، ص 14.

[25] - المصدر السابق، ص 256.

[26] - المصدر السابق، ص 253/254.

[27] - المهدي المنجرة: الحرب الحضارية الأولى، مصدر سبق ذكره، ص 78-79.

[28] - الحرب الحضارية الأولى، ص 4.

[29] - المهدي المنجرة: في عهد الميغا أمبريالية، المركز الثقافي العربي، ط 5، 2007، ص 102.

[30] - المهدي المنجرة: في زمن الذلقراطية، ط 1، 2001، ص 89.

[31] - الحرب الحضارية الأولى، ص 4.

[32] - المصدر نفسه، ص 14.

[33] - نفس المصدر، ص 21.

[34] - نفس المصدر، ص 114.

[35] - في زمن الذلقراطية، ص 102.

[36] - محمد حسين هيكل: حرب الخليج أوهام القوة والنصر. ط1/1992، مركز الأهرام للترجمة والنشر، مؤسسة الأهرام، ص 52.

[37] - نفس المصدر، ص 53.

[38] - محمد حسين: هيكل الامبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق، ط 7، 2007، ص 11.

[39] - حرب الخليج، ص 56.

[40] - المصدر السابق، ص 202.

[41] - الحرب الحضارية الأولى، ص 21/22.

[42] - نفس المصدر، ص 29.

[43] - حرب الخليج، ص 606.

[44] - زييعينو بريجنسكي: لعبة الشطرنج العظمى، ترجمة سليم براهام، دار علاء الدين، ط 4، 2008، ص 7.

[45] - نفس المصدر، ص 54.

[46] - الحرب الحضارية الأولى، ص 12/13.

[47] - بريجنسكي: لعبة الشطرنج، ص 55.

[48] - نفس المصدر، ص 57.

[49] - نفس المصدر، ص 63/64.

[50] - نفس المصدر، ص 132.

[51] - نفس المصدر، ص 229/230.

[52] - الامبراطورية الأمريكية، ص 118.

[53] - الحرب الحضارية الأولى، ص 36.

[54] - د/ أنور عبد الملك: تغيير العالم، سلسلة عالم الفكر الكويتية (عدد 95) نوفمبر 1985/ ص 254-255.

[55] - فصول في الفكر والسياسة والاجتماع، ص 44/45.

[56] - نفس المصدر، ص 34/35.

[57] - الحرب الحضارية، ص 78/79.

[58] - المصدر السابق، ص 114.

مقاربة بيو ايتيقية
ترجمة: د. زهير الخويلدي
***

مقدمة
تتكون جميع الكائنات الحية من خلايا، لا يزيد عرض كل منها عن شعرة الإنسان. وتحتوي كل خلية من خلايانا على نفس المجموعة من الحمض النووي التي تشكل الجينوم البشري. ويشكل تسلسل الحمض النووي لجينوم كل شخص المخطط الأولي لتطوره من خلية واحدة إلى كائن حي معقد ومتكامل يتكون من أكثر من 1013 (10 ملايين مليون) خلية. ويحتوي تسلسل الحمض النووي على العوامل الأساسية التي تحدد القدرات العقلية ـ التعلم واللغة والذاكرة ـ الضرورية للثقافة البشرية. كما يحتوي تسلسل الحمض النووي على الطفرات والاختلافات التي تسبب أو تزيد من قابلية الإنسان للإصابة بالعديد من الأمراض المسؤولة عن الكثير من المعاناة البشرية. إن التطورات غير المسبوقة في علم الأحياء الجزيئي والخلوي، وفي الكيمياء الحيوية، وفي علم الوراثة، وفي علم الأحياء البنيوي ـ والتي حدثت بمعدلات متسارعة على مدى العقد الماضي ـ تحدد هذه اللحظة باعتبارها لحظة فريدة ومواتية في تاريخنا: فلأول مرة يمكننا أن نتخيل الحصول على سهولة الوصول إلى التسلسل الكامل لثلاثة مليارات نيوكليوتيد في الحمض النووي البشري وفك رموز الكثير من المعلومات الواردة فيه. والواقع أن التطورات المتقاربة في تكنولوجيا الحمض النووي المؤتلف وعلم الوراثة تجعل الحصول على مجموعة كاملة من استنساخ الحمض النووي المنظم والمفهرس على خريطة الارتباط الجيني البشري هدفاً واقعياً ومباشراً. وحتى تحديد التسلسل النوكليوتيدي الكامل أمر ممكن التحقيق، وإن كان طموحاً. إن الحمض النووي في الجينوم البشري مستقر إلى حد ملحوظ، كما يجب أن يكون لتوفير مخطط موثوق لبناء كائن حي جديد. ولهذا السبب فإن الحصول على الارتباط الجيني الكامل والخرائط الفيزيائية وفك رموز التسلسل من شأنه أن يوفر قاعدة دائمة من المعرفة بشأن جميع البشر ـ وهي القاعدة التي سوف تزداد فائدتها في جميع أنشطة علم الأحياء والطب مع التحليل والبحث والتجريب في المستقبل. إن التسلسل الكامل للحمض النووي في الجينوم البشري لن يفسر بحد ذاته علم الأحياء البشري. ولكنه سوف يعمل كمورد عظيم، وبنك بيانات أساسي، يسهل البحوث المستقبلية في علم الأحياء الثديية والطب. إن البشر، مثلهم كمثل جميع الكائنات الحية، يتألفون إلى حد كبير من البروتينات. وبالنسبة للبشر، يقدر عدد البروتينات بنحو مائة ألف نوع مختلف. وبشكل عام، يشفر كل جين لإنتاج بروتين واحد، ويمكن ربط الجين والبروتين ببعضهما البعض عن طريق الشفرة الوراثية. وبالتالي، سوف يتمكن العلماء من اللجوء إلى تسلسل الحمض النووي في الجينوم البشري والحصول على معلومات مفصلة عن بنية ووظيفة أي جين أو بروتين موضع اهتمام. وبالإضافة إلى ذلك، سوف يتم تصنيف جميع الجينات والبروتينات إلى مجموعات عائلية كبيرة توفر أدلة قيمة على وظائفها. وبهذه الطريقة، سوف تصبح العديد من الجينات والبروتينات البشرية غير المعروفة سابقًا متاحة للدراسات البيوكيميائية والفسيولوجية والطبية. وسوف يكون للمعرفة المكتسبة تأثير كبير على الرعاية الصحية والوقاية من الأمراض؛ كما أنها سوف تثير قضايا صعبة فيما يتعلق بالاستخدامات العقلانية والحكيمة والأخلاقية للعلوم والتكنولوجيا.
الجينومات والجينات والخرائط الجينومية
لفهم أهمية المعرفة حول الجينوم البشري، يجب علينا أولاً فهم وظائف الجينوم. تتكون الجينومات من جزيئات DNA التي تحتوي على العديد من الجينات ;يتكون جينوم جميع الكائنات الحية من DNA، وهو بوليمر كيميائي طويل للغاية مكون من سلسلتين. يتكون كل خيط DNA من أربع وحدات مختلفة تسمى النيوكليوتيدات، والتي ترتبط من طرف إلى طرف لتشكيل سلسلة طويلة. يتم ترميز هذه النيوكليوتيدات الأربع بالحروف A وG وC وT، والتي تمثل القواعد الأربع - الأدينين والجوانين والسيتوزين والثايمين - التي تشكل أجزاء من النيوكليوتيدات. يختلف جزيء DNA، الذي يشكل مع بعض البروتينات المرتبطة به كروموسومًا، عن جزيء آخر في طوله وفي ترتيب النيوكليوتيدات الخاصة به. يحتوي كل جزيء DNA على العديد من الجينات، والتي تعد وحداته الوظيفية. يتم ترتيب هذه الجينات في ترتيب محدد على طول جزيء DNA. إن أغلب الجينات تشفر جزيئات بروتينية ـ إنزيمات أو عناصر بنيوية ـ تحدد خصائص الخلية. ففي البكتيريا، تكون تسلسلات ترميز الجين ـ عبارة عن سلاسل متصلة من النيوكليوتيدات، ولكن في الثدييات تكون أجزاء الترميز في الجين (والتي تسمى الإكسونات) منفصلة عن بعضها البعض عموماً بأجزاء غير مشفرة (وتسمى الإنترونات). وكثيراً ما يشفر كل إكسون منطقة بنيوية (أو مجالاً) مختلفة من جزيء بروتيني أكبر. وقد تبين أن العديد من الإكسونات تشكل جزءاً من عائلة من تسلسلات الترميز ذات الصلة التي تستخدم في بناء العديد من الجينات المختلفة. ونظراً للعدد الكبير من الإنترونات في الجينات الثديية، فإن الجين الواحد غالباً ما يتجاوز طوله عشرة آلاف نيوكليوتيد، والجينات التي تمتد على مائة ألف نيوكليوتيد ليست نادرة. ولكي يتم التعبير عن المعلومات الموجودة في تسلسلات الترميز الخاصة بالجين، فلابد أولاً من نسخ الحمض النووي الخاص بالجين إلى جزيء من الحمض النووي الريبي. وقبل أن يترك خيط الحمض النووي الريبي نواة الخلية، يتم قطع تسلسلات الإنترون من خيط الحمض النووي الريبي هذا من خلال عملية تسمى ربط الحمض النووي الريبي، وبالتالي يتم ربط تسلسلات الإكسون. وبعد ذلك يمكن ترجمة الحمض النووي الريبي إلى جزيء بروتيني وفقاً للرمز الجيني (كل مجموعة من ثلاثة نيوكليوتيدات تشفر حمضاً أمينياً واحداً). وتقوم تسلسلات النيوكليوتيدات المجاورة لتسلسلات الترميز في كل جين بتشفير الإشارات التنظيمية لتنشيط أو تعطيل نسخ الجين. إن نشاط الجين عملية ديناميكية؛ ففي أي وقت معين وفي أي نوع من الخلايا، تكون مجموعة فرعية فقط من الجينات نشطة. وتحدد هذه الجينات النشطة مسار التطور الجنيني وخصائص الخلايا والكائنات الحية. يتكون الجينوم البشري من 24 نوعًا مختلفًا من جزيئات الحمض النووي. كما يتكون الحمض النووي البشري من وحدات منفصلة ماديًا تسمى الكروموسومات. البشر كائنات ثنائية الصبغيات، تحتوي على مجموعتين من المعلومات الوراثية، مجموعة موروثة من الأم ومجموعة أخرى من الأب. وبالتالي، تحتوي كل خلية جسدية على 22 زوجًا من الكروموسومات تسمى الصبغيات الجسدية (عضو واحد من كل زوج من كل والد) وكروموسومين جنسيين (كروموسوم X وكروموسوم Y في الذكور وكروموسومان X في الإناث). يحتوي كل كروموسوم على جزيء DNA خطي طويل جدًا. في أصغر الكروموسومات البشرية يتكون جزيء الحمض النووي هذا من حوالي 50 مليون زوج من النوكليوتيدات؛ تحتوي أكبر الكروموسومات على حوالي 250 مليون زوج من النوكليوتيدات. وبالتالي يتكون الجينوم البشري ثنائي الصبغيات من 46 جزيء DNA من 24 نوعًا مميزًا. نظرًا لأن الكروموسومات البشرية توجد في أزواج متطابقة تقريبًا، فلا يلزم تسلسل سوى 3 مليارات زوج من النوكليوتيدات (الجينوم أحادي الصيغة الصبغية) للحصول على معلومات كاملة بشأن الجينوم البشري التمثيلي. وبالتالي يُقال إن الجينوم البشري يحتوي على 3 مليارات زوج من النوكليوتيدات، على الرغم من أن معظم الخلايا البشرية تحتوي على 6 مليارات زوج من النوكليوتيدات. الحمض النووي عبارة عن حلزون مزدوج: كل نوكليوتيد على خيط من الحمض النووي يحتوي على نوكليوتيد مكمل على الخيط الآخر. وبالتالي فإن المعلومات الموجودة على خيط واحد من الحمض النووي تكون زائدة عن الحاجة بالنسبة للمعلومات الموجودة على الخيط الآخر (وذلك بسبب الاقتران القاعدي التكميلي (الشكل 2-2أ)، حيث يمكن للمرء من حيث المبدأ تحديد تسلسل النوكليوتيدات في خيط واحد من الآخر). ومع ذلك، فمن الضروري حاليًا تحديد تسلسل النوكليوتيدات على خيطي الحمض النووي بشكل منفصل لتحقيق الدقة المطلوبة لأي تسلسل من الحمض النووي، مع استخدام تسلسل كل خيط كاختبار للخيط الآخر. ولهذا السبب، لابد من تسلسل ما مجموعه 6 مليارات نيوكليوتيد فعليًا لترتيب 3 مليارات زوج نيوكليوتيد في الجينوم البشري أحادي الصيغة الصبغية. يسمح الحجم المتوسط لجزيء البروتين بالتنبؤ بوجود ما يقرب من 1000 زوج نيوكليوتيد من تسلسل الترميز لكل جين. ولأن البشر يُعتقد أنهم يمتلكون حوالي 100000 جين، فلابد أن يكون هناك ما مجموعه حوالي 100 مليون زوج نيوكليوتيد من الحمض النووي المشفر في الجينوم البشري. ولأن هذا لا يمثل سوى حوالي 3% من الحجم الإجمالي للجينوم، فإن المرء لابد أن يستنتج أن أقل من 5% من الجينوم البشري يشفر البروتينات. والجزء الأكبر من الحمض النووي البشري يقع بين الجينات وفي الإنترونات. ويلعب بعض الحمض النووي غير المشفر دورًا في تنظيم نشاط الجينات، في حين يُعتقد أن أجزاء أخرى مهمة لتنظيم الحمض النووي إلى كروموسومات وتكرار الكروموسومات. إن وظيفة أغلب المناطق غير المشفرة في الجينوم البشري غير معروفة؛ وقد لا يكون لمعظم هذا الحمض النووي أي وظيفة على الإطلاق.
رسم خريطة الجينوم البشري
في الواقع يمكن رسم خريطة الجينوم البشري بعدة طرق مختلفة. سيكون من المفيد للغاية تحديد ترتيب وتباعد جميع الجينات التي يتكون منها الجينوم. ويقال إن مثل هذه المعلومات تشكل خريطة جينية أو جينومية. ونظرًا لوجود 24 جزيئًا مختلفًا من الحمض النووي في الجينوم البشري، فإن خريطة الجينات البشرية الكاملة تتكون من 24 خريطة، كل منها في شكل خطي لجزيء الحمض النووي نفسه. إن أحد أنواع خرائط الجينوم المفيدة هو خرائط الحمض النووي الريبوزي الرسولي (mRNA) أو خرائط الإكسونات. حيث تقوم الإنزيمات الخلوية بنسخ أو نسخ جميع جينات الكائن الحي إلى خرائط الحمض النووي الريبوزي الرسول بحيث يمكن التعبير عن وظائف الجينات. ويمكن تصنيع الحمض النووي التكميلي (cDNA) لجميع خرائط الحمض النووي الريبوزي الرسول الموجودة في الكائن الحي بواسطة إنزيم النسخ العكسي. ومن الممكن بعد ذلك استنساخ هذه الخرائط واستخدامها لتحديد الجينات المقابلة على خريطة الكروموسومات. وبهذه الطريقة، يمكن رسم خريطة للجينات في غياب معرفة وظيفتها. وهناك نوع آخر من خرائط الجينوم يتكون من مجموعة مرتبة من نسخ الحمض النووي المتداخلة التي تشكل كروموسومًا كاملاً. وعادة ما يشار إلى كل من خريطة الإكسونات والمجموعة المرتبة من نسخ الحمض النووي بالخرائط الفيزيائية. ومن ناحية أخرى، يمكن رسم خريطة لموقع الجين من خلال تتبع تأثير التعبير عن الجين على الخلايا التي تحتوي عليه. هنا، يتم إنشاء خريطة على أساس ترددات الوراثة المشتركة لعلامتين وراثيتين أو أكثر. يشار إلى هذا النوع من الخرائط بخريطة الارتباط الجيني. تتم مناقشة التمييز بين خرائط الارتباط الفيزيائية والجينية بالتفصيل في الفصل الرابع. يمكن عمل خرائط الجينوم البشري بمقاييس أو مستويات مختلفة من الدقة. تم استخلاص خرائط فيزيائية منخفضة الدقة من الأنماط المميزة للأشرطة التي يتم ملاحظتها على طول كل كروموسوم بواسطة المجهر الضوئي للكروموسومات المصبوغة. تم ربط الجينات جسديًا بأشرطة أو مجموعات أشرطة معينة بعدة طرق. تسمح هذه الارتباطات برسم خرائط الجينات بشكل تقريبي فقط حيث يمكن تعيين جين معين لمنطقة تضم حوالي 10 ملايين نوكليوتيد تحتوي على عدة مئات من الجينات. يجب تحديد موقعه الدقيق على الكروموسوم بطرق أكثر دقة. تعتمد الخرائط ذات الدقة العالية على مواقع في الحمض النووي يتم قطعها بواسطة بروتينات خاصة تسمى إنزيمات القيد. إن كل إنزيم يتعرف على تسلسل قصير محدد يتكون من أربعة إلى ثمانية نيوكليوتيدات (موقع تقييد) ويقطع سلسلة الحمض النووي في نقطة واحدة ضمن التسلسل. ونظرًا لأن إنزيمًا واحدًا أو آخر يتعرف على عشرات التسلسلات المختلفة، وأن هذه التسلسلات متقاربة في جميع أنحاء الجينوم، فيمكن إنشاء خرائط فيزيائية عالية الدقة من خلال تحديد الموقع النسبي لمواقع التقييد المختلفة بدقة. وتكتسب مواقع التقييد شديدة التغير (أو متعددة الأشكال) في السكان قيمة خاصة في رسم خرائط الجينات البشرية. فالحمض النووي الذي يفتقر إلى موقع تقييد محدد ينتج شظية تقييد أكبر عند قطعه بواسطة الإنزيم من الحمض النووي الذي يحتوي على الموقع؛ ومن هنا جاء تسمية تعدد أشكال طول شظية التقييد. وقد تم حتى الآن تحديد مئات مواقع التقييد متعددة الأشكال ورسم خرائطها في الجينوم البشري. وقد تم بالفعل تحديد موقع بعض الجينات المرتبطة بالأمراض من خلال تحديد تواتر الوراثة المشتركة لتعدد أشكال طول شظية التقييد والأمراض الوراثية. ومن أمثلة هذه الأمراض التليف الكيسي، واعتلال العضلات دوشين، ومرض الزهايمر، والورم العصبي الليفي. ومن شأن تحديد عدد أكبر كثيراً من مواقع التقييد المتعددة الأشكال المفيدة أن يجعل من الممكن رسم خريطة للجينات المرتبطة بالأمراض بدقة كافية لتسهيل عزل أي جين بشري إلى حد كبير. إن الخريطة القائمة على مجموعة من النسخ المنظمة من الشظايا الجينومية لها قيمة خاصة (انظر الفصل الرابع). ففي مثل هذه الخريطة، لا نعرف فقط المواضع الجينومية لشظايا التقييد، بل إن كل شظية متاحة كنسخة يمكن نشرها وتوزيعها على الباحثين المهتمين. وتشكل هذه النسخ قيمة هائلة لأنها تعمل كنقطة انطلاق لعزل الجينات، والتحليلات الوظيفية، وتحديد تسلسلات النوكليوتيدات. والخريطة النهائية ذات الدقة الأعلى للجينوم البشري هي تسلسل النوكليوتيدات، حيث تُعرف هوية وموقع كل من أزواج النوكليوتيدات الثلاثة مليارات. إن مثل هذا التسلسل وحده يكشف عن كل أو كل المعلومات الموجودة في الجينوم البشري. وقد تم بالفعل تحليل عدد من المناطق المحددة من الحمض النووي البشري بهذه الطريقة، مما يوفر معلومات حول بنية الجينات والبروتينات المشفرة في الأفراد الطبيعيين وغير الطبيعيين على حد سواء وحول التسلسلات التي تنظم التعبير الجيني. ومع ذلك، في الوقت الحاضر، فإن تسلسل النوكليوتيدات لأقل من 0.1 في المائة من الجينوم البشري معروف. وهذا يشمل التسلسل الذي يحتوي على 0.5 في المائة من جيناتنا.
التأثيرات الطبية لخرائط الجينوم البشري التفصيلية
إن التقدم المحرز في علم الوراثة الجزيئية على مدى العقدين الماضيين كان له بالفعل تأثير كبير على البحوث الطبية والرعاية السريرية. لقد أدت القدرة على استنساخ وتحليل الجينات الفردية واستنتاج تسلسل الأحماض الأمينية للبروتينات المشفرة إلى زيادة فهمنا للاضطرابات الوراثية والجهاز المناعي والاضطرابات الغدد الصماء ومرض الشريان التاجي والأمراض المعدية والسرطان. هناك عدد قليل من البروتينات المنتجة على نطاق تجاري باستخدام طرق الحمض النووي المؤتلف متاحة للاستخدام العلاجي أو في التجارب السريرية، والعديد منها في مراحل نمو مبكرة. إن التقدم الأخير في تحديد الأساس الجيني لمثل هذه الاضطرابات العصبية والسلوكية مثل مرض هنتنغتون، ومرض الزهايمر، ومرض الهوس الاكتئابي يعد برؤى جديدة لهذه الحالات الشائعة والخطيرة. إن الخرائط ذات الدقة العالية للجينوم البشري سوف تعمل على تسريع التقدم في فهم مسببات الأمراض وتطوير أساليب جديدة للتشخيص والعلاج والوقاية في العديد من مجالات الطب. وفي الفصل الثالث، نناقش التأثير الطبي المحتمل لخريطة جينومية بشرية مفصلة بمزيد من التفصيل.
التداعيات على علم الأحياء الأساسي
إن إنشاء خريطة مادية للجينوم البشري وتحديد تسلسل النوكليوتيدات الخاصة به سوف يوفر أداة بحثية مهمة لعلم الأحياء الأساسي. وهذا صحيح بشكل خاص لأننا نتوقع أن يدعم مشروع الجينوم البشري تحقيقات رسم الخرائط والتسلسل التي يتم إجراؤها في نفس الوقت في الكائنات الحية الأخرى التي تمت دراستها على نطاق واسع، بما في ذلك بكتيريا الإشريكية القولونية، والخميرة حقيقية النواة، ودودة الخيطية، وذبابة الفاكهة، والفأر، وربما أيضًا نبات مثل الذرة أو نبات أرابيدوبسيس. إن تحليل هذه الجينومات من شأنه أن يضاعف تقريباً إجمالي كمية الحمض النووي المطلوب رسم خرائطها وتسلسلها. ولكن الجهد الإضافي سوف يجعل من الممكن اختبار وظيفة الجينات التي تم تحديدها لدى البشر في كائنات حية أخرى يمكن الوصول إليها تجريبياً والتي توجد لها تقنيات وراثية قوية. وبالتالي سوف يكون من الممكن تحديد الدور الدقيق لهذه الجينات في العمليات البيولوجية المهمة. وعلى العكس من ذلك، فإن البروتينات التي يتم اكتشاف أنها ذات أهمية خاصة في أي من هذه الكائنات الحية الأخرى يمكن التعرف عليها على الفور من خلال تشابه الأحماض الأمينية في الإنسان، وبالتالي تمكين الباحثين من إجراء دراسات محددة جيداً لوظيفة البروتين البشري المقابل وجينه. كما أن تسلسل الحمض النووي الواسع والمقارنات الوظيفية التي يتم إنشاؤها سوف تمثل أيضاً مورداً لا يقدر بثمن لعلماء الأحياء التطوريين. إن هذه التداعيات وغيرها من التداعيات على البيولوجيا الأساسية يتم مناقشتها بمزيد من التفصيل في الفصل الثالث.
التطورات التكنولوجية المتوقعة التي قد تولدها مشاريع الجينوم البشري وتأثيرها على البحوث البيولوجية
من المرجح أن تسفر عملية رسم خريطة الجينوم البشري وتسلسله عن نتائج ثانوية مهمة في شكل تقنيات جديدة ذات قابلية تطبيق واسعة في كل من البحوث البيولوجية الأساسية والتطبيقية. على سبيل المثال، لا تزال الأساليب الفعّالة لرسم خريطة الجينومات المعقدة قيد التطوير، ومن شأن مشروع الجينوم البشري أن يسرع من هذه العملية. وتشمل هذه الأساليب تحسينات في إنتاج وفصل واستنساخ قطع كبيرة من الحمض النووي وطرق بناء مجموعة مرتبة من المستنسخات الجينومية. وسوف تكون هذه المنهجية قابلة للتطبيق بشكل مباشر على تطوير خريطة مادية لجينومات العديد من الحيوانات والنباتات المهمة تجريبياً وتجارياً. على نحو مماثل، فإن الجهود المبذولة لتسلسل الجينوم البشري سوف تتطلب تكنولوجيا تسلسل النوكليوتيدات أكثر كفاءة بكثير مما هو موجود الآن. إن هذه التحسينات سوف تعمل على تقليص الوقت الذي يقضيه العلماء في تسلسل الحمض النووي في مختبرات الأبحاث الفردية إلى حد كبير. وفي المستقبل، فإن تطوير مرافق تسلسل الحمض النووي على مستوى المؤسسات أو المناطق والمجهزة بأجهزة عالية الأتمتة من شأنه أن يخدم عدداً كبيراً من العلماء، ويحررهم من التركيز على المراحل الأكثر تقدماً من مشاكلهم البحثية. وأخيراً، فإن إنشاء خريطة مفصلة للجينوم البشري سوف يتطلب أساليب جديدة تعتمد على الكمبيوتر لجمع وتخزين وتحليل الكم الهائل من المعلومات المتوقعة. ومن السهل تكييف هذه الأساليب للتعامل مع البيانات المماثلة من الكائنات الحية الأخرى. وبالتالي فإن العلماء سوف يتاح لهم على الفور من خلال شبكات الكمبيوتر مخزن هائل من المعلومات البيولوجية مدعوم بأساليب لاستخدامها، مثل جمع النسائل؛ ومن المرجح أن يكون لهذه الموارد تأثير مفيد كبير على الطريقة التي يمارس بها العلماء الأفراد أبحاثهم.
التأثير على البحث الطبي الحيوي اليوم
إن إحدى السمات الرئيسية والجاذبية التي يتسم بها البحث الطبي الحيوي اليوم هي أنه يعتمد في المقام الأول على جهود مجموعات صغيرة مستقلة من العلماء. ويمكن إرجاع التقدم الكبير الذي تحقق في العقود الماضية إلى إبداع هذه المجموعات، أو حتى إلى أفراد منفردين، غالباً في بداية حياتهم المهنية. ومن ناحية أخرى، من المرجح أن يتطلب رسم خريطة الجينوم البشري وتسلسله ترتيبات تنظيمية على نطاق أوسع كثيراً مما هو معتاد في البحوث البيولوجية الأخرى. ويرى البعض أن هذا يشكل تهديداً لاستقلال الباحثين الأفراد. ولكن من وجهة نظر اللجنة، ينبغي لمشروع رسم الخريطة وتسلسلها أن يكون هدفه الأساسي زيادة قوة ونطاق الإمكانات البحثية لمجموعات صغيرة من الأفراد. إن تسلسلات النوكليوتيدات الكاملة لجينومات العديد من الكائنات الحية ذات الأهمية التجريبية الرئيسية سوف توفر قاعدة بيانات مرجعية حاسمة لتفسير ودراسة العديد من الجينات البشرية التي سيتم اكتشافها. ولنأخذ مثالاً واحداً فقط، فالباحث في مجال السرطان الذي يكتشف جيناً جديداً في ورم بشري سوف يكون بوسعه الوصول فوراً عن طريق البحث على الكمبيوتر إلى جميع البروتينات التي من المرجح أن يكون لها وظيفة مماثلة في الكائنات الحية الأدنى. ولأن هذه الجينات يمكن التلاعب بها تجريبياً بطرق مستحيلة في البشر، فإن وظيفة الجين المقابل يمكن تحديدها بسهولة أكبر في ذبابة الفاكهة، أو دودة الخيطية، أو خلية الخميرة. ومن المؤكد أن النتائج سوف تقدم رؤى مهمة في مجال سرطان الإنسان لا يمكن الحصول عليها من خلال البحث المباشر على البشر. وعلى العكس من ذلك، فإن الباحثين المهتمين في المقام الأول بخلايا الخميرة سوف يستفيدون من المعلومات حول جينات الخميرة التي يمكن استخلاصها من الدراسات التي أجريت على نظائرها والتي أجريت في البداية على كائن حي آخر. وحتى بين الباحثين الذين تقتصر جهودهم على البشر حصرياً، فإن الجهود التي تبذلها مجموعات صغيرة سوف تحظى بالتشجيع. وسوف تكون خريطة الجينوم البشري ومجموعة منظمة من نسخ الحمض النووي البشري متاحة كمورد لاستخدام جميع الباحثين، مما يمكنهم من التركيز على الأجزاء الأكثر إثارة للاهتمام في أبحاثهم. بالإضافة إلى ذلك، من المرجح أن تظهر مجالات بحثية جديدة نتيجة لهذا المورد، وخاصة فيما يتعلق بصحة الإنسان. باختصار، تعتقد اللجنة أن مشروع رسم الخرائط والتسلسل سيقدم مساهمة مهمة في البحوث الأولية التي تجريها مجموعات صغيرة من المحققين المستقلين، مما يوسع نطاقهم ليشمل المشاكل التي يصعب الوصول إليها حاليًا. يتألف مشروع رسم الخرائط والتسلسل للجينوم البشري من العديد من المكونات المختلفة. فماهي الآثار التجارية والقانونية والأخلاقية المترتبة على الطب والعلوم ورسم الخرائط ومعالجة البيانات وتحليلها واستراتيجيات التنفيذ؟
***
د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي
.............................

References
Alberts, B., D. Bray, J. Lewis, M. Raff, K. Roberts, and J. D. Watson. 1983. Molecular Biology of the Cell. Garland, New York. 1146 pp.
Alberts, B., D. Bray, J. Lewis, M. Raff, K. Roberts, and J. D. Watson. 1989. Molecular Biology of the Cell, 2nd edition, editor. , Garland, New York, in press.
Doolittle, R. F., D. F. Feng, M. S. Johnson, and M. A. McClure. 1986. Relationships of human protein sequences to those of other organisms. Cold Spring Harbor Symp. Quant. Biol. 51:447–455. [PubMed]
Egeland, J. A., D. S. Gerhard, D. L. Pauls, J. N. Sussex, K. K. Kidd, C. Allen, A. M. Hostetter, and D. E. Housman. 1987. Bipolar affective disorders linked to DNA markers on chromosome 11. Nature 325:783–787. [PubMed]
Gusella, J. F., N. S. Wexler, P. M. Conneally, S. L. Naylor, M. A. Anderson, R. E. Tanzi, P. C. Watkins, K. Ottina, M. R. Wallace, A. Y. Sakaguchi, A. B. Young, I. Shoulson, E. Bonilla, and J. B. Martin. 1983. A polymorphic DNA marker genetically linked to Huntington's disease. Nature 306:234–238. [PubMed]
Lewin, B. 1987. Genes, 3rd ed. John Wiley & Sons, New York. 737 pp.
St George-Hyslop, P. H., R. E. Tanzi, R. J. Polinsky, J. L. Haines, L. Nee, P. C. Watkins, R. H. Myers, R. G. Feldman, D. Pollen, D. Drachman, J. Growdon, A. Bruni, J.-F. Foncin, D. Salmon, P. Frommelt, L. Amaducci, S. Sorbi, S. Piacentini, G. D. Stewart. W. J. Hobbs, P. M. Conneally, J. F. Gusella. 1987. The genetic defect causing familial Alzheimer's disease maps on chromosome 21. Science 235:885–890. [PubMed]
Watson, J. D., J. Tooze, and D. T. Kurtz, 1983. Recombinant DNA: A Short Course, W. H. Freeman, San Francisco.
Lien :
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/books/NBK218247/#:~:text=Since%20humans%20are%20thought%20to,human%20genome%20codes%20for%20proteins.

تقويم العلاقة بين الجيل القيمي والجيل الرقمي

بعد الحديث عن أثر التكنولوجيا على تربية وتعليم جيل اليوم، ماذا في جعبتنا لكي نحقق التوازن بين التطور التكنولوجي والقيم السلوكية التي نلقّنها لأبنائنا وأحفادنا؟

اليوم تواجه المربين تحديات كبيرة في تربية النشء، أهمها المد التكنولوجي ودوره في اكتساح منظومة القيم والمُثل الأخلاقية التي أمدّنا بها الدين والمجتمع، ويفصل عالم الآباء عن عالم الأبناء؛ الذي تنامت فيه حالة الفردانية المتضمنة للانطواء، والاستلاب الذاتي (الجسدي، والنفسي، والعصبي، والعقلي)، والاستلاب الاجتماعي (اغتراب الطفل عن عالمه الاجتماعي المتضمن للعائلة والمجتمع العام)؛ والإنسان بطبعه كائن اجتماعي.

كيف يمكن الحفاظ على منظومة قيمنا ومثلنا إذا كنا نصدق أن التكنولوجيا قد حققت السعادة المادية، وأن الحياة مريحة ولا بأس بها، ونحن نسير في طريق التحضر، وكل شيء متوفر لدينا؛ فالتربية أيضا سهلة وليست صعبة كما نتصور؟

في الحقيقة تكمن مسؤولية ترشيد العلاقة بين جيل الآباء (جيل القيم)، وجيل الأبناء (جيل التكنولوجيا) في عاتق العائلة، والمدرسة، والدولة، والشرائح المثقفة من المفكرين والكتّاب، والمتصدّين من رجال الدين.

بالنسبة للعائلة فإن من الأوْلى للمقدمين على الزواج شبابا وشابات قبل كل شيء أن يعلموا أن شريكهم التربوي اليوم هي التكنولوجيا إذا كان همهم تكوين الأسرة والإنجاب؛ لذا فعليهم أن يفهموا أن الوعي والخبرة بعلم نفس الطفولة في العالم الافتراضي يتطلّب منهم الانخراط في دورات مراكز "محو الأمية الرقمية" للمربين، وتعليم تقنية طرائق التربية[1]. وإن أول قضية ينبغي للمربين فهمها في التربية هي حالة الشره والاستهلاك عند الطفل؛ للوفرة المادية بكل شيء في وقتنا الحاضر. ويستخدم الطفل البكاء كوسيلة لابتزاز الأهل واستنزافهم ليحصل على المزيد، فيستجيبون لرغباته بسهولة إذا كانت العائلة ذات دخل مالي عالٍ؛ والاستجابة السريعة هي الطريق لإفساده.

التدليل يؤدي إلى إلحاق الضرر الكبير بالطفل حينما يكبر وفي كل فصول حياته، وعدم الاستجابة لمتطلبات الطفل أو استخدام أسلوب بطيء في تلبيتها هو أفضل الوسائل لتعليمه الصبر[2]. يؤدي التدليل المفرط إلى حالة تضخم الذات والتمركز حولها، ومحاولة تدليلها بكل الطرق وفق مبدأ اللذة، مما يعيق الابن من التكيف مع الحياة وعواقبها ومفاجآتها، وكذلك يعيقه من إقامة علاقات متكافئة مع المجتمع، وتنجر عليه عواقب التدليل إلى آخر حياته، فيكون ضعيف الشخصية، خائفا، مترددا، وضعيف الثقة بالنفس، وغير قادر على مواجهة العقبات والمشكلات، ويكون اتكاليا، وغير شجاع حينما يكبر. والصبر يعلمه السيطرة على رغباته وميوله الشخصية المفرطة في الكبر، وإن الحد من متطلباته من ألعاب التسلية، وحثه على الألعاب الجماعية مع الأصدقاء خارج المنزل برفقة الأهل له دور كبير في تفتّح عقله وتعليمه فن الحوار، والنقاش، والتفاهم، المستقبلي في حل الأزمات التي تواجهه بجدارة، وتأمّل، وصبر، وحكمة، وثقة عالية بالنفس. إن الحد من تدليل الطفل يساهم في نمو شخصيته بشكل كبير، حيث تقوى إرادته بسبب الصبر والتحمل. هذا ما نراه في الأسر ذات الدخل المنخفض أو الفقيرة، حيث لا تتمكن العائلة من تلبية متطلبات الطفل المتكررة.

ترشيد الإنفاق والاستهلاك بكل شيء يعتمد على ثقافة الأهل، والتدليل المفرط للأبناء يضرهم في مستقبل أيامهم "وهم في الحالات الحادة معوقون عاطفيا، ويصعب عليهم أن يتكيفوا مع الظروف الطبيعية. لقد فشلت الحماية المفرطة التي مارسها الوالدان أو الأسرة في إعطائهم حيزا كافيا لكي تنمو فيه شخصيتهم على نحو سوي، ومن المحتمل جدا أن يكون أحد الأقرباء قد دأب على تولي مسؤولية حل المشكلات المهمة في طفولتهم دون أن يترك للطفل حيزا، أو وقتا كافيا لكي يقوم بذلك بنفسه. وعندما يذهب الطفل المبالغ في حمايته إلى المدرسة فإنه يواجه عادة مشكلات مهمة مع زملائه ومعلميه ويمكن أيضا أن يفشل في دراسته"[3].

إن عادة الطلب في الوقت الحاضر تتزايد عند الطفل؛ ومنها طلب المزيد من الوقت لإمضائه أمام الشاشات. ضبط عادة الاستهلاك لدى الأبناء تعلمهم الصبر والانتظار، ويعتبر هذا عامل مهم في تأخير دخولهم إلى عالم الانترنت، واستخدام قنوات التواصل الاجتماعي حتى بلوغهم أربعة عشر عاما، ومراقبة الأبناء حال استخدامهم الجهاز الخاص بهم. أما إذا اقتضى الأمر أن يستفيد الطفل من الجهاز الإلكتروني، أو أي وسيلة اتصال في عمر مبكر فعلى الأهل أن يكونوا بجنبه ولا يتركوه لوحده مع الجهاز خشية عليه من مردودات العالم الجديد السلبية سيما هو لا يعيه، ولا يفهمه، وأن لا يكون في جهازه اتصال بالإنترنيت.

كشف تقرير أعده خبراء فرنسيون بتكنولوجيا المعلومات يوصي "بعدم السماح للأطفال باستخدام الأجهزة والألواح الذكية حتى بلوغهم ثلاثة عشر عاما لأسباب عدة، ومنعهم نهائيا من الوصول إلى وسائل التواصل الاجتماعي، تحقيق الربح لجذب الأطفال والسيطرة عليهم وإشراكهم وتحقيق الدخل منهم هو القصد؛ فأصبح الأطفال سلعة في سوق التكنولوجيا الحديثة بحسب ما نقلته صحيفة (غارديان)، وأوضحت الدراسة أن الأطفال دون سن الثالثة يجب أن لا يتعرضوا للشاشات بما في ذلك التلفزيون ولا ينبغي أن يكون لدى طفل الحادي عشر من العمر أي جهاز هاتف، وإذا منح في هذا السن أو في سن الثالثة عشر يجب أن يكون هاتفا لا يمكنه الوصول إلى الإنترنيت، وأشار التقرير أن الشاب ذا الخامسة عشر ربيعا يجب أن يكون قادرا على الوصول إلى وسائل التواصل الاجتماعي "الأخلاقية". وكشف التقرير بمنع الشاشات بشكل كامل عن رياض الأطفال والمدارس الابتدائية، ولا ينبغي إعطاء الأطفال أجهزة لوحية، أو رقمية فردية للعمل عليها إلاّ في حالات الإعاقة، وحضر التقرير الألعاب المتصلة بالإنترنيت باستثناء تلك المستخدمة لسرد القصص، كل هذا سوف يضر بالنمو العاطفي لدى الشباب"[4].

ويقع أيضا على عاتق الأسرة تشجيع الأبناء على الانخراط في دورات تعليم اللغة الإنكليزية، لغة العالم الرقمي، وعلم الرياضيات بشكل خاص لتنشيط أذهانهم وتحفيزها على طرح الأسئلة دون وجل، والتحليل، والتأمل، والإنتاج المفيد، والإبداع، والتفكير الدقيق والعميق، والنقد؛ لتمكينهم من حل المشكلات والإشكالات التي تواجههم بسهولة، وطرح المقترحات في حقل الطفولة عبر لغة التفاهم في العالم الرقمي، خاصة الألعاب الإلكترونية التي قد تفيد في تطبيق برامج فكرية ثقافية تناسب أعمارهم، فتقوى قدراتهم العقلية على المناقشة وتنمو بشكل آمن في الفضاء الرقمي، والتشذيب والتعامل بحذر بكل ما يزخر به هذا العالم. وعلى الأهل أن يبحثوا للطفل عن الألعاب التي تعتمد على شخصيات كرتونية تعلم الطفل الأخلاق والسلوكيات السليمة والفاضلة منها الصدق، عدم الغش، حب العائلة والمجتمع والأصدقاء، وحب البيئة المحيطة والحفاظ عليها من كل عبث وتلوث. وهناك ألعاب فكرية تعلم الطفل فن التفكير، وقوة الملاحظة، والتركيز، وسرعة البديهة، وتدعم الخيال الخصب لديه، وتقوّي ذاكرته، وتنشّط ذهنه. وعلى الأهل أن يشاهدوا الألعاب أولا بأنفسهم، ثم يقيّمونها، ومن ثم يسمحوا للأبناء من الجلوس عليها. ولنعلم أن وظيفة الآباء والأمهات الأولى هي إغداق المحبة والاحتضان للأبناء وخطابهم باللغة اللائقة الهادئة[5].

وتوجيه الأبناء للانخراط في دورات تدريبية في فهم الذكاء الاصطناعي وكيفية الاستفادة من تطبيقاته، والذكاء الاصطناعي عالم شاسع جدا لا يمكن الخوض في تفاصيله المعقدة، ويكمن فيه النافع وغير النافع، والصحيح والخطأ، والأمان والخطر؛ فهو محيط مجهول شاسع يكمن فيه الكثير من المعلومات، ويخفي الكثير من المجهولات. الذكاء الاصطناعي سوف يكتسح مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية. وينبغي جدا على الأهل والمدرسة تنبيه الأبناء عند استخدامهم أي جهاز من الأجهزة الذكية من خطر سلبيات الذكاء الاصطناعي، وتعلّم مختلف العلوم والمعارف والفنون، وفن التخاطب والتعامل مع الروبوتات والتحكم فيها، والتعلم منها. "ويرى الخبراء أننا عندما نربي الأطفال لا نعرف بالضبط المواقف التي سيواجهونها. نحن لا نزودهم بالإجابة عن كل سؤال يطرحونه علينا بدلا من ذلك نعلمهم كيفية العثور على الإجابة بأنفسهم"[6]. وما ينبغي على الأهل هو استخدام اسلوب الصرامة غير الحادة وغير العنيفة في توجيه الأبناء نحو الاستفادة من تطبيقات العالم الرقمي، ويمكن للأهل مناقشة الأبناء فيما يعرض لهم على الشاشات وتوضيح الجيد منه والمناسب لهم، وتجنّب ما لا يتناسب مع أعمارهم، ومداركهم، ومصالحهم، وإغراؤهم بالتشجيع وتقديم الهدايا لهم.

ويتعين على الأهل خوض حوار هادئ مع الأبناء لأجل إيجاد صيغة توازن بين محيطهم الخاص بتشجيعهم على ممارسة الأنشطة الرياضية البدنية واللعب مع أقرانهم في المحلة، أو المدرسة، أو أماكن الترفيه العامة، والحدائق، والطبيعة، وتوضيح سبل التعامل مع العالم الرقمي، وسبل ترشيد استخدام وسائله بنحو إيجابي لا يتعارض مع سلوكيات وأخلاقيات الأبناء التي تربوا عليها. وإشراك الأطفال في اجتماعات العائلة الأسبوعية. تشير الكاتبة سوزان إلى أن شركات التكنولوجيا بمختلف تطبيقاتها تتظاهر بتقديم الرعاية والعناية للأطفال بزرع المودة في نفوسهم، والتغلب على نقاط ضعفهم، ولكنها في نفس الوقت تنظر إليهم على أنهم مصار ربح، وتشجّعهم على المضي الطويل على الشاشات، وتضعف بذلك روابطهم الأسرية، وتشير الكاتبة إلى أن الشركات تلك لا تهتم بأوقات نمو الأطفال بقدر اهتمامها بأرباح الإعلانات. قصد الكاتبة هو حماية الأطفال من الاستغلال من قبل تلك الشركات التجارية الإعلانية[7].

إذا كان الطفل في عمر يسمح له بالتواصل عبر جهازه فإن الملاحظة الأولى التي من الأوْلى للأهل أن يتنبهوا لها هو الوقت الذي يمضيه أمام الشاشة، وهذا يعتمد على عمره، وخصائصه الفردية، وسياق حياته الأوسع. إن أجهزة الاتصال ومواقع الانترنيت تجمع معلوماتهم وبياناتهم الشخصية؛ وهذه مسألة يجهلها الكثير من الأهالي. وعلى الأهل توضيح أضرار الجلوس الطويل على الأجهزة الذكية للأبناء، وتقنين فترات استخدامها، ويخصص الأهل أوقاتا ليكونوا إلى جنب الأبناء لتوجيههم وتعليمهم بكل حرص وحصانة وأمان السلوك الإلكتروني الآمن عبر التأكّد من القنوات التي يتعاملون عبرها كالمواقع، والألعاب، ووسائل التواصل الاجتماعي، وتأثيراتها وسلامة وصواب معلوماتها. وينبغي على الأسرة استخدام تطبيقات على الأجهزة التي يستخدمها الأبناء لحمايتهم من المواقع غير المناسبة التي تشكل خطرا على حياتهم، فضلا عن إيجابيات تقليص ساعات المضي أمام الشاشات التي تنعكس على سلامتهم الجسدية والنفسية والعصبية والعقلية. أكّدت دراسة جديدة "أن الحد من وقت استخدام الأطفال للشاشات ل3 ساعات أسبوعيا فقط له تأثير إيجابي على السلوك والصحة العقلية. وبحسب شبكة "فوكس نيوز"الأميريكية فقد أجريت الدراسة على 181 طفلا ومراهقا بأعمار تتراوح ما بين 4 و17 عاما، تم تقسيمهم بشكل عشوائي على مجموعتين، وكان على المجموعة الأولى التخلي عن هواتفهم الذكية وأجهزتهم اللوحية لمدة أسبوعين، والحد من استخدام وسائل الإعلام الأخرى -مثل التلفزيون وأجهزة الكومبيوتر إلى ثلاث ساعات أو أقل في الأسبوع. أما المجموعة الأخرى الضابطة فلم يكن لديها أي قيود. وأكملت عائلات المشاركين جميعا استبيانا لقياس الحالة النفسية والعقلية للأطفال ونقاط القوة لديهم والصعوبات التي واجهوها في فترة الدراسة. ووجد فريق الدراسة التابع لجامعة جنوب الدانمارك أن المجموعة التي حدت من وقت استخدام الشاشات إلى ثلاث ساعات أسبوعيا شهدت تحسّنات في الصحة العقلية، وخاصة في كيفية إدارتهم لمشاعرهم والتواصل مع أقرانهم. بالإضافة إلى انخفاض الصعوبات السلوكية التي واجهوها"[8].

أما بالنسبة لدور المدرسة في تقويم العلاقة بين قيم جيل الآباء وجيل الأبناء فإنه لا يقل أهمية عن دور الأسرة. وإن على المدرسة بطاقمها التعليمي تعليم الأبناء فن الاستفادة من تكنولوجيا المعلومات وتقنين المدة التي يمضونها على مواقع الانترنت. وأن يتولى مهمة توجيه الأبناء نحو طاعة الأهل في تقنين فترات الجلوس أمام الشاشات والاندماج في أجواء العائلة، و"أن يوجّه الطفل للتعلم الجاد المنتج عن طريق العناية بتثقيفه العلمي، وشحن تصوراته وأفكاره بقصص تتحدث عن إنجازات العلم الباهرة ومستقبله المضيء في إطار من الموضوعية، وبما يتناسب مع كل مرحلة عمرية"[9].

وأيضا ينبغي على المدرسة "ربط العلوم النظرية التي يتلقاها الطفل بواسطة القنوات والوسائط المختلفة بالتطبيق، وتثقيف الطفل علميا، أو تكنولوجيا بشكل صحيح بهدف إنماء التفكير العلمي لدى الأطفال"[10].

وعلى المدرسة أيضا "تعليم الأطفال القدرة على التفكير والنقد والتحليل والتحقق من أهداف ما يعرض لهم حتى تصبح لديهم القدرة على الانتقاء والتقييم"[11].

ويمكن أن تتعاضد العائلة مع المدرسة في تعليم الأبناء فن التعامل مع التكنولوجيا، ونموذجها الذكاء الاصطناعي بنحو إيجابي الذي يساعده في تطوير مهاراته العقلية والعلمية والفنية والاجتماعية. ويمكن للتربويين من طرح استراتيجيات تخص الموازنة بين القيم التربوية التي تربوا عليها؛ مثلا عقد الاجتماعات الأسبوعية التي تخص الآباء والمعلمين من جهة، والطاقم التعلمي والأهالي والأبناء من جهة أخرى، يتم فيها تناول إيجابيات وسلبيات التطور التكنولوجي الذي يفرض سلطته على الأبناء بقوة، وترشيد العلاقة بين قيم الآباء وقيم الأبناء. وأن تكون الاستراتيجيات متجددة مع تجدد وتطور التكنولوجيا. و"تعليم الأطفال المواهب العلمية بدءا من البيت ثم المدرسة، والمؤسسات المهتمة بتنشئة الطفل، وهو ما يفتح الآفاق أمام الأجيال في مستقبل اللغة الأساسية بما تمتلك الأجيال من علم وتقنيات ووسائل متطورة، وأن يستثمر هذا الجانب ويقدم لهم ما يناسب مجتمعهم وتوفير الحماية اللازمة من مخاطر التكنولوجيا المعاصرة"[12].

جاء في تقرير اليونيسف بشأن الطفولة في العالم الرقمي لعام 2017. "ومن خلال مناقشة ودراسة قضايا الطفل والعالم الرقمي فإن بعض الحقائق بدأت بالتبلور. الوساطة اليقظة والداعمة من قبل الأسرة والمدرسة تعد بالتوصل إلى أفضل النتائج في تمكين الأطفال من الاستفادة القصوى من الوصول إلى الانترنت بالحد الأدنى من التعرض لمخاطره. وفي هذا السياق ينبغي إيلاء مزيد من الاهتمام بأنشطة الأطفال التي يمارسونها من خلال تجاربهم الرقمية بدلا من حصر الاهتمام بالمدة التي يقضونها في الفضاء الرقمي. وينبغي على الدراسات والبحوث المستقبلية أن تأخذ بنظر الاعتبار سياق حياة الطفل بالكامل؛ عمره، وجنسه، وشخصيته، وأوضاعه الحياتية، وبيئته الاجتماعية والثقافية، وغير ذلك؛ لغرض رسم الخط الفاصل بين الصحي والنافع والضار"[13].

أما مسؤولية الدولة فهي أن تأخذ على عاتقها فرض قوانين تخص الرقابة الصارمة على مواقع الإنترنيت التي تضخ المعلومات بشكل متسارع، وتوضيح المخاطر التي تكتنف عملية الاستفادة منها، وتشذيبها من كل ما يشين عملية التربية والتهذيب، أو نسف القيم التربوية التي تربى عليها الأبناء. وهي مسؤولية وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات التي نأمل أن تُخصص وزارة خاصة بها في كل البلدان العربية؛ نموذجها (وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات القطرية) التي "تأسست عام 2021،  وتتحدد اختصاصاتها في الإشراف على قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وتطويره بما يتفق مع متطلبات التنمية الوطنية، والإشراف على إيجاد بيئة تنظيمية مناسبة للمنافسة العادلة، ودعم وتنمية وتحفيز قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وتشجيع الاستثمار فيه، وتأمين ورفع كفاءة البنية التحتية التكنولوجية والمعلوماتية، وتطويرها، وتوعية المجتمع بأهمية استخدام الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بطرق آمنة لتحسين حياة الفرد والارتقاء بالمجتمع، وصولاً إلى بناء مجتمع المعرفة القائم على أساس الاقتصاد الرقمي، وتنفيذ برامج الحكومة الإلكترونية والمجتمع الذكي والإشراف عليها، وتعزيز البنية التحتية والقدرات الحكومية في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات"[14].

ثقافة القيم لدى الطفل في ظل التكنولوجيا تفرض على المثقفين، والمفكرين، والكتّاب، والتربويين المهتمين، أن يشمّروا سواعد الجد ويضعوا قواعد لفهم العالم الافتراضي، وتحديد المواقع التي تعود بالفائدة على الطفل وتحفظ حياته من الخطر، وإعداده لمواجهة العقبات والمشكلات التي تعتريه في المستقبل، وتحمّل مسؤولية "البناء القيمي المتين الذي يمكّن الأفراد من مواكبة التكنولوجيا والتصدي لآثارها السلبية، ومنها حث الأطفال في أوقات فراغهم على إكساب المهارات في الأعمال التي تنمّي لديهم الإحساس بالمسؤولية الأخلاقية تجاه مجتمعاتهم، وإنشاء برامج توعوية في نشر ثقافة الالتزام بالقوانين المجتمعية ومعاييرها واحترامها، وكذلك تمكين الأفراد من مواكبة التطورات العلمية والتكنولوجية من خلال تعزيز الرغبة في التفوق العلمي والتكنولوجي لاكتساب القيم والمعارف العلمية، ومنها نشر ثقافة احترام الآخر، وقبول التعددية، والاختلاف الديني والثقافي والفكري والاقتصادي والاجتماعي"[15]. وهذه العملية هي "التي يتم بها انتقال الثقافة من جيل إلى جيل، والطريقة التي بها يتم تشكيل الأفراد منذ طفولتهم حتى يمكنهم المعيشة في مجتمع ذي ثقافة معينة، ويدخل في ذلك ما يلقنه الآباء والمدرسة والمجتمع للأفراد من لغة وتقاليد وقيم ومعلومات ومهارات"[16]."ومن ثم فهي تهدف إلى إكساب الأطفال أساليب سلوكية معينة، ودوافع، وقيمًا واتجاهات يرضى عنها المجتمع الذي يعيش فيه الفرد بحيث تشكل طرق تفكيره وأنماط سلوكه وحكمه على المعاني والأشياء"[17]. ويقع على عاتق الشرائح المثقفة عقد المؤتمرات والندوات والحوارات الهادفة لإيجاد صيغة توازن بين التقدم التكنولوجي وأثره على سلوك الجيل، والموروث القيمي الذي استمدوه من العائلة والمجتمع العالم.

ومسؤولية رجال الدين أيضا تكمن في دعم العائلة، والمدرسة، والدولة، وكافة الشرائح المثقفة، في توجيه الجيل نحو الحفاظ على القيم السلوكية التي تلقوها عن المحيطات التربوية بإصدار الأحكام الشرعية في هذا الشأن، والمواعظ الأخلاقية.

حينما تُطبّق تلك الإستراتيجيات من قبل العائلة، والمدرسة، والدولة، والمفكرين والمثقفين والتربويين، ورجال الدين؛ فإنها بلا شك سوف تقوى عضلة السلوك لدى جيل اليوم، وتجعله يواجه العالم الجديد بكل قوة واقتدار وجدارة وحصانة ذاتية، كما يقوى الجسم على ممارسة الرياضة بشكل يومي، ويتّزن سلوكه، وينشأ قويا في مواجهة التحديات التي يفرضها عليه العالم الرقمي.

ولا ننسى الإشباع العاطفي من قبل الأهل، فالطفل المشبع عاطفيا ينشأ محبا لنفسه، ومجتمعه، والمحيط، والطبيعة، معبرا عن نفسه، أمام العائلة، وحرا صريحا، وشجاعا جريئا في المحيطين الواقعي، والافتراضي.

نخلص مما سبق أن العائلة المحيط الأول الذي فيه يتلقى الطفل كل القيم السلوكية، والمعايير الأخلاقية، والأعراف، والتقاليد، وتبقى العائلة المحيط الأساسي الأول الذي يشكل صمام الأمان لحماية الطفل من تداعيات المستقبل. وقد تطرّقنا إلى كيفية تربية الطفل التربية الصحيحة التي تؤهّله ليكون قادرا على الانسجام مع المحيط الاجتماعي العام الذي يلي محيط العائلة، المتمثل بالطبيعة، والمدرسة، والمجتمع العام؛ والمحيط الافتراضي الذي يشكل شريكا موازيا للعائلة والمدرسة في عملية التربية بكل حذر وحيطة واقتدار من جهة أخرى.

القول الأخير: تبقى المحيطات الثلاثة؛ العائلي، والاجتماعي الواقعي المتمثل بالمجتمع العام، والمدرسة، وجغرافية المكان، والافتراضي؛ هي الحاضنات الأساسية لطفل اليوم في كل مراحل حياته؛ التي إما يكون نتاجها جيلا سالما إذا حظى بكل ظروف التربية الناجحة من تغذية، وتدريب، وتحصين ضد الأوبئة المختلفة، ورفاهية نفسية وعاطفية وسلوكية، ومخاطر المجتمعات الثلاثة؛ العائلي، والواقعي، والافتراضي، متمتعا بعلاقات متينة في كل محيطاته. أو جيلا مريضا محمّلا بالعاهات، والإعاقات البدنية والأخلاقية والسلوكية، وحالات الفقر، والحرمان، والفشل، والإحباط، والقسوة، والإهمال، والعنف، والتشرّد، والنبذ، والتمييز، والتفريق العنصري، ورفاق السوء، والإصابة بالحوادث، والكثير من مردودات التكنولوجيا السلبية على الطفل. وكل ذلك مرتبط بطبيعة البيئة المسؤولة عن التنشئة الأخلاقية والتربوية والتعليمية والسلوكية للطفل في سنواته الأولى؛ وهي السنوات الحاسمة من عمره.

المعايير التي تساوي بين ذات الفرد وكينونته الأصل وبين تابعيته الاجتماعية ومسؤولياته العامة تُحدث توازنا في شخصه، وإذا تحقق التوازن في العوالم الثلاثة ستكون مثرية له، حينئذ سيكون الجيل الرقمي يتحلى بالوسطية والاعتدال على مختلف الصعد الشكلية، والظاهرية، والمعنوية.

ما دام العقل البشري في حالة اكتشاف، واختراع، وإبداع أبدي، والذكاء الاصطناعي ليس آخره، والروبوتات بأنواعها الآمنة والخطيرة إحدى تطبيقاته؛ فإنه يتعين علينا أن نكون على بصيرة، وحذر، وصرامة، ونقف وقفة حازمة لنحمي أبناءنا من مخاطره.

كل ما يدور في أفكارنا يحضر بسرعة الإلكترون دون بذل الجهد؛ هذا ما تفرضه علينا عالمية العقل البشري.

***

إنتزال الجبوري - باحثة

........................

[1]  أنظر: الحلقة الثانية من هذه الدراسة، الشرط الرابع لإيجاد المحيط التربوي الملائم.

[2] أنظر: كانط. في التربية، مصدر متقدم، ص56-60.

[3] موقع قناة العربية(مايو 2024).

[4] نفس المصدر.

[5] أنظر: سيد حامد، مصدر متقدم، ص134-136.

[6] جودت، مو. المؤلف والرئيس التنفيذي السابق للأعمال في جوجل إكس. في موقع BBC.

[7] أنظر: ندمان، محمد خير. "في هذا العصر الرقمي.. من يربي أبناءنا؟". صحيفة الشرق الأوسط (9 أكتوبر2022) (تحقيقات وقضايا).

[8]ما المدة الآمنة لتعرض الأطفال للشاشات يوميا؟). صحيفة الشرق الأوسط(12 أغسطس2024- 7 صفر 1446)(يوميات الشرق).

[9] بركات، مصدر متقدم، ص14.

[10] نفس المصدر، ص15.

[11] عبد الرحيم، هناء محمد. أطفالنا والكومبيوتر. القاهرة: دار الفكر العربي، 2005، ص34، نقلا عن بركات، مصدر متقدم، ص15.

[12] الحيلة، محمد محمود. الألعاب التربوية وتقنيات إنتاجها. عمان: دار المسيرة للنشر والتوزيع، ط3، 2005، ص211

[13]تقرير اليونيسف بشأن الطفولة في العالم الرقمي لعام 2017.

[14]موقع رابطة العلماء العرب.

[15] إنظر: سرحان، وليد. تأثير التكنولوجيا على القيم الأخلاقية. موقع موضوع (7 ديسمبر2022).

[16]جبريل، ثريا، وآخرون. الخدمة الاجتماعية والأسرة المصرية المعاصرة. القاهرة: المكتب الجامعي الحديث، 2006، ص206، نقلا عن بركات، مصدر متقدم، ص11.

[17] عماد الدين، محمد. مصدر متقدم، ص11.

 

على المستوى المجتمعي ثمة خلط بين الدين بوصفه مجموعة من القيم والمبادئ المتعالية على الأزمنة والأمكنة، وبين أنماط التدين وهي مجموع الجهود التي يبذلها الإنسان فردا وجماعة لتجسيد قيم الدين العليا.. فكل محاولة إنسانية لتجسيد قيم الدين أو الالتزام العملي بها، تتحول هذه المحاولة الإنسانية إلى نمط من أنماط التدين، قد يقترب هذا النمط من معايير الدين العليا وقد يبتعد. قد تكون أنماط التدين منسجمة ومقتضيات قيم الدين أو قد تكون متباعدة أو مفارقة. ولكون حظوظ الناس في الإلتزام متفاوتة، كذلك هي أنماط التدين متفاوتة من فرد إلى آخر ومن بيئة اجتماعية إلى أخرى.  وبالتالي فإن أنماط التدين ليست خارج سياق التطور الإنساني. فطبيعة الظروف والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تعيشها البيئات الاجتماعية، ستنعكس بشكل مباشر أو غير مباشر على أنماط تدينها وأشكال التزامها بقيم ومبادئ دينها. لذلك نستطيع القول أن الإنسان (الفرد والجماعة) وظروف هذا الإنسان الاقتصادية والاجتماعية وأنماط علائقه العامة ونوعية الثقافة ومنظومة القيم التي يحملها، هي من الناحية الواقعية التي تصنع أنماط تدين والتزام هذا الإنسان. فإذا كان الدين يساهم في صنع الإنسان، فإن الإنسان هو الذي يصنع نمط تدينه والتزامه الديني. لذلك نجد في الساحات الإسلامية والاجتماعية المتنوعة أنماط تدين متنوعة ومتعددة، وكلها تشكل حركة الدين في المجتمع. ولا يمكن أن نفصل بين قيم الدين وتاريخ المسلمين الذي هو نتاج جهد المسلمين الفردي والجماعي في تنفيذ قيم الدين والإلتزام بهدي الإسلام وتشريعاته المختلفة. ولعل هذا ما يفسر لنا وجود أفهام متعددة ونماذج تاريخية متنوعة ف إطار الإسلام الواحد. 

وكل محاولة سلطوية أو دعوية - دينية لقسر الناس على فهم واحد أو معنى واحد للممارسة الاجتماعية، هي محاولة فاشلة ودونها خرط القتاد لأنه خلاف طبائع الأمور، كما أن هذه المحاولات تساهم في إفقار المجتمعات الإسلامية على المستويين التاريخي والمعرفي. 

فالإنسان ليس كائنا سلبيا فيما يرتبط وعلاقته بقيمه الكبرى وتشريعات دينه. فهو كائن إيجابي ويتفاعل مع تشريعات دينه، وطبيعة موقعه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي تحدد شكل وطبيعة النمط الديني الذي يؤسسه الإنسان لبيئته أو لواقعه.

لأن أنماط التدين هي انعكاس مباشر لطبيعة الإنسان وطبيعة ظروفه وبيئته الاجتماعية. فإذا كان الدين متعاليا على ظروف الزمان والمكان، وليس خاضعا لمقتضيات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فإن أنماط التدين على العكس من ذلك تماما. إذا هي نتاج الظروف والبيئة. ولا يمكن أن تتشكل أنماط التدين بعيدا عن جهد الإنسان ومستوى وعيه وإدراكه لعناصر واقعه وراهنه. 

وثمة دائما مفارقة بين الدين وأنماط التدين، وهذه المفارقة تصل بعض الأحيان أن تكون بعض حقائق وأنماط التدين هي مناقضة في جوهرها لمقتضيات الدين. وحينما تبرز المفارقة بين الدين والتدين، ثمة حاجة إنسانية ودينية ملحة للانخراط في مشروع الإصلاح الديني، والذي هو في بعض جوانبه محاولة لردم الهوة وتجسير الفجوة بين الدين وأنماط التدين التي تعيشها المجتمعات الإسلامية. فالدين في كل مراحله هو طاقة توحيدية في الواقع الإنساني، ولكن بعض أنماط التدين السائدة هي طاقة انشقاقية - تجزيئية لواقع العرب والمسلمين.

ولعل هذه المفارقة هي التي توضح طبيعة تجربة الإصلاح وفعاليته في المجتمعات الدينية. بمعنى أن المجتمع الإنساني في المرحلة الأولى لتجسيد قيم الدين وتفاعله الإنساني مع مبادئه، تكون حركة المجتمع في خط مستقيم مع الدين وتوجيهاته، ولكن بعد فترة من الزمن قد تقصر وقد تطول، تبدأ المفارقة بالبروز بين جهد الإنسان – المجتمع، وبين توجيهات الإسلام ومعاييره الأخلاقية والمعنوية. وتبدأ هذه المفارقة بالاتساع، مما يفضي إلى نتيجة عملية وواقعية وهي أن توجيهات الدين في واد وحركة المجتمع في أغلبه في واد آخر. مما يؤسس لمناخ اجتماعي وثقافي يفرض ضرورة الإصلاح وتجسير الفجوة والمفارقة التي تشكلت في التجربة العملية. 

لذلك نجد أن كل التجارب الإصلاحية تستهدف بالدرجة الأولى خلق الانسجام والتناغم بين التاريخ والرسالة، بين الشريعة وفهم الشريعة، بين الدين والتدين. وإن جوهر الجهد الذي بذله الإصلاحيون هو خلق التماثل بين القيم والواقع. 

وإن جوهر المشكلة تتجسد في وجود مفارقة وابتعاد بين الدين وبين التدين، والإصلاح الديني يستهدف تجسير العلاقة وخلق التناغم بين حقائق الدين ومعطيات التدين. ولعل هذا هو أحد أهم القوانين الجوهرية التي تتحكم في سياق أي حركة إصلاحية في الاجتماع الإسلامي المعاصر. 

ولو تأملنا اليوم في طبيعة المشاكل الكبرى التي تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة لوجدنا أن من ابرز هذه المشاكل، هو شيوع أنماط من التدين، تتبنى خيار العنف والإرهاب، وتعمل عبر هذه الوسيلة لإنهاء المفارقة بين الدين والتدين. ولكن المحصلة العملية لذلك هو المزيد من الإخفاق والمآزق والتأزيم. فالعنف لا يجسر الفجوة، وإنما يعمقها، والإرهاب هو سبيل تعميق المفارقة وليس إنهاءها. 

ولعل هذا من أهم المآزق التي تعانيها الساحة العربية والإسلامية اليوم. فثمة جماعات وحركات عنيفة وإرهابية، تحمل لواء الدين وترفع شعاراته، إلا أن المحصلة العملية لجهدها وأفعالها الإرهابية والعنفية، هو المزيد من تشويه الإسلام وتعميق المفارقة والفصام النكد بين الدين وأنماط التدين السائدة في الاجتماع الإسلامي المعاصر.

ويبدو أنه لا تجديد في العقل الإسلامي ولا إصلاح في الواقع الإسلامي، إلا بنقد وتفكيك أنماط التدين التي تنتج باستمرار ظواهر العنف والتكفير والإرهاب في الواقع المعاصر. 

لأن هذه الظواهر ليست رافعة للواقع الإسلامي، وإنما هي ومتوالياتها وتأثيراتها المتعددة تزيد من الأزمات والمآزق، وتفضي إلى تدمير النسيج الاجتماعي للمسلمين، وتجعل جميع البلدان العربية والإسلامية مكشوفة أمام الإرادات الإقليمية والدولية التي تستهدف أمن واستقرار المسلمين في كل بلدانهم وأوطانهم. وإن إحباطات الراهن الإسلامي، ينبغي أن لا تقود إلى تبني بناء وتشكيلات أيديولوجية تتبنى خيار العنف والإرهاب سبيلا لإنجاز رفعة وعزة المسلمين جميعا. لأن هذا الخيار يعزز من الاحباطات، وساهم في تدمير ما تبقى من وحدة وتفاهم وألفة بين المسلمين بمختلف مذاهبهم ومدارسهم. 

فالوعي الديني الصحيح والذي يرفض خيار العنف والإرهاب مهما كانت الظروف والصعاب، هو الذي يؤسس لوقائع وحقائق إسلامية جديدة، تحرر الواقع الإسلامي من ربقة الأفهام العنفية التي تقدم الإسلام بوصفه دينا للقتل والتفجير والارهاب. 

ولعل من الأهمية في هذا السياق القول: أن نقد أنماط التدين ليس نقدا للدين، وإن الوقوف ضد بعض أشكال التدين، ليس وقوفا في مقابل الدين، إن خرصنا على الدين ينبغي أن لا يقودنا إلى رفض عمليات النقد التي تتجه إلى أنماط التدين. لأننا نعتقد أن المستفيد الأول من عمليات النقد العلمي لبعض أنماط التدين هو الدين نفسه.  لأن بعض أشكال التدين، تشكل عبئا حقيقيا على الدين والمجال الاجتماعي للدين. 

وعليه فإن الضرورة المعرفية والاجتماعية تقتضي التفريق الدائم بين الدين أنماط التدين. وإن الكثير من البلاءات التي تواجه الواقع الإسلامي اليوم، هي نابعة من بعض أنماط التدين. وإن هذه البلاءات لا يمكن مواجهتها إلا بتفكيكها ونقدها من جذورها، حتى نتحرر من سجنها، ونتفاعل بوعي وحكمة مع قيم الدين الأساسية، التي هي قيم العدالة والمساواة والحرية بعيدا عن إكراهات بعض أنماط التدين التي لا تقدم حلولا بل تضيف إلى مآزقنا مآزق جديدة. 

***

محمد محفوظ – باحث سعودي

ثالثا: أثر تكنولوجيا المعلومات في تربية وتعليم جيل اليوم

المحيط الافتراضي المحيط الثالث الحاضن لتربية طفل اليوم؛ المحيط الذي أوجدته تكنولوجيا المعلومات عبر التمازج بين عالم الخيال والحقيقة بواسطة الأجهزة الذكية.

العالم الافتراضي هو "برنامج ثلاثي الأبعاد يحاكي الواقع والبيئة من  حولنا، يتفاعل فيه المستخدمون فيما بينهم مشكّلين ما يُعرف بالحياة الافتراضية، هذه العوالم قد تحاكي العالم الحقيقي، أو قد تكون خيالية أو مثالية، وبشكل عام يتم التوجه نحو هذه العوالم بصفتها وسيلة للعب والتسلية والترفيه لمستخدم الإنترنت، لكن ذلك لا يعني أنها تقتصر فقط على الألعاب حيث يتواجد فيها مختلف ما تتخيله من احتياجات، علاقات تجارية، عملة افتراضية لها سعر صرف، علاقات اجتماعية، واقتصادية، وتجارية، وكل ما هو موجود فعليا في الحياة الحقيقية" [1].

في المحيط الافتراضي لا يحتاج الطفل إلى وسيط تربوي كالأبوين، أو المعلم؛ هو الوسيط التربوي لنفسه، مستعين بحواسه الثلاث؛ السمع، والبصر، واللمس، وأدواته هي الأجهزة الحديثة المختلفة؛ حاسوب، أو شاشة عرض كبيرة، أو جهاز اتصال كبير، أو صغير، يتمكّن الطفل من خلالها صياغة مشاهد، وتأليف سيناريوهات، أو تصوّر عوالم افتراضية لمحاكاة الواقع، أو تشييد عوالم خيالية أو مجازية، ويمضي الطفل غوّاصا في عالم الخيال، ورحّالا مكتشفا العالم في عصوره السحيقة، متقمّصا شخصيات افتراضية، أو مشكّلا صداقات مختلفة حول العالم؛ يتعلم من خلالها التجارب والخبرات دون خوف، أو وجل، أو قيد، أو رقيب، عبر تطبيقات مختلفة كثيرة؛ تويتر، فيسبوك، انستكرام، تلكرام، واتساب، فايبر، تيك توك، كوكل، جي بي تي، وغيره من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، روبوتات محادثة، وكتابة، وتعليم مختلف العلوم والفنون. اللعب والتعليم واكتساب المعلومات يكون مباشرا تلقائيا، وكل ما يريده الطفل موجود أمامه على الشاشة، وما عليه سوى نقرة إصبع واحدة ليتمثّل العالم بين أنامله بسهولة وانسيابية. هذه الأدوات تشكل أهم تحدٍّ، ومنافسًا قويا للمربين سواء في العائلة، أم المدرسة، ولها سلطة عليا على مختلف الفئات العمرية.

أثر تكنولوجيا المعلومات في تربية جيل اليوم

تقنيات المعلومات والاتصالات التي تطال اليوم كل مجالات الحياة المختلفة العلمية، والثقافية، والاقتصادية، والاجتماعية، تشكّل تحديا رئيسيا يواجهه المربون. وكلما ازدادت سعة العالم الرقمي ومنصات الانترنيت وتطبيقاته اللامحدودة، والذكاء الاصطناعي وما يخفيه، ازدادت التحديات. وتشكل التحديات سلاحا ذا حدين؛ إيجابي وسلبي. العائلة اليوم قلقة بشأن تربية الأبناء؛ كونهم في كل مجتمع يتصدرون النسبة الأكبر من حيث الاتصال بشبكات الانترنيت، وهم في تزايد مستمر، وتتزايد طرديا مع زيادتهم الأجهزة الرقمية، ومنصات الاتصال التي تفتح آفاقهم نحو العالم خاصة الذكاء الاصطناعي ومثيلاته.

تكنولوجيا المعلومات اختصرت العالم في قرية صغيرة تمازجت فيها ثقافات الأمم والشعوب، وأخلاقياتها، وقيمها عبر قنوات التواصل الاجتماعي، ومواقع الانترنيت، وساهمت التكنولوجيا اليوم بتغيير قيمنا التربوية والسلوكية.

كما إن لتكنولوجيا العالم الرقمي فوائد فإن أيضا لها أضرارا "إن الواردات الفكرية للأطفال تمثل المنهاج العام لحياتهم الاجتماعية وأن الخواطر الصالحة أو الفاسدة التي تستقر في ذهن الطفل لا تمحى بل تظهر آثارها الخيرة أو الشريرة في دور الشباب[2]".

تكمن فوائد العالم الرقمي بالمصالح المعرفية، والثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، التي يتلقاها الطفل عبر اتصاله بشبكة الإنترنت. على الصعيد المعرفي والثقافي فإن العالم الرقمي يمنح الجيل فرصا تثري عقوله، فتكسبه المهارات العلمية الكثيرة، وتقوي عقوله نحو التفكير والإبداع والاختراع أحيانا إذا كان قد انتمى إلى مجموعة ثقافية علمية يتعلم منها المزيد من الخبرات والمهارات العقلية والعلمية. على الصعيد الاجتماعي تمكّن وسائل التواصل الاجتماعي التي يتلقاها الطفل عبر الانترنيت من تواصله مع مختلف الأصدقاء ومن مختلف البلدان، تواصلا ودّيا، أو تُثري حياته في هذه الجوانب خاصة إذا كان الطفل يعاني من قلة العناية الخاصة به من قبل الأسرة، أو يعاني من أزمات نفسية، أو ليس لديه أصدقاء خارج المنزل، وأطفال اليوم قابعون في المنزل أمام الشاشات. أما على الصعيد الاقتصادي فقد يتعلم مهنة أو عملا؛ أو يمارس عملا يدر عليه المال.

إذا أخذنا موردا واحدا من التكنولوجيا -مثلا- الألعاب الإلكترونية ألفاها الجيل الجديد جاهزة بين يديه على الشاشات الزرقاء، ويتفنّن في كيفية تنظيمها وإمضاء الوقت معها، كما أنها تهبه عقلا إلكترونيا فعالا، ذكيا، حادا، وكل يوم تطل علينا تكنولوجيا المعلومات بجديد ليس آخرها الذكاء الاصطناعي، الذي لا نعلم ما يخفيه لنا خاصة مع جيل اليوم ذي العقل الإلكتروني.

في تقريرها الصادر يوم 11 كانون الأول / ديسمبر 2017 أوردت اليونيسف (منظمة الأمم المتحدة للطفولة) بنودا تخص الطفولة في العالم الرقمي وكشفت عن فوائد التكنولوجيا الرقمية التي يمكن أن توفرها للأطفال الأكثر حرماناً، منهم أولئك الذين ينشأون في ظل الفقر، أو في المناطق المحرومة وفي مخيمات اللاجئين أو المتأثرون بحالات الطوارئ الإنسانية. ومن هذه الفوائد زيادة فرص حصولهم على المعلومات، وبناء مهاراتهم في مكان العمل الرقمي، ومنحهم منصة للتواصل والتعبير عن آرائهم. كما يدرس التقرير أيضاً كيف تزايد تعرض الأطفال على الإنترنت للمخاطر والأضرار، بما في ذلك إساءة استخدام معلوماتهم الخاصة، والوصول إلى المحتوى الضار، والتسلط عبر الإنترنت. وأشار التقرير إلى أن وجود الأجهزة النقالة في كل مكان قد جعل الوصول إلى الإنترنت لكثير من الأطفال أقل خضوعاً للإشراف وربما أكثر خطورة. وتمكن الشبكات الرقمية مثل الشبكة المظلمة والعملات المشفرة من وقوع أسوأ أشكال الاستغلال والإيذاء، بما في ذلك الاتجار بالنساء والاعتداء الجنسي على الأطفال. ويعرض التقرير البيانات والتحليلات الحالية حول استخدام الأطفال للإنترنت وتأثير التكنولوجيا الرقمية على رفاه الأطفال، ويستكشف النقاشات المتزايدة حول "الإدمان" الرقمي والتأثير المحتمل لوقت الشاشة على نمو المخ.[3]

إن العمل الجماعي فقط من جانب الحكومات والقطاع الخاص ومنظمات الأطفال والأوساط الأكاديمية والأسر والأطفال أنفسهم هو الذي يمكن أن يسمح بالتساوي في الساحة الرقمية، ويجعل الإنترنت أكثر أماناً للأطفال ويزيد من وصولهم إليه. وتشمل التوصيات العملية للمساعدة في توجيه عملية صنع سياسات أكثر فعالية وممارسات تجارية أكثر مسؤولية إزاء الأطفال ما يلي: تزويد جميع الأطفال بإمكانية الوصول بأسعار معقولة إلى موارد عالية الجودة على الإنترنت. وحماية الأطفال من الأذى بما في ذلك الإساءة، والاستغلال، والإتّجار، والتنمّر، والتعرّض للمواد غير المناسبة. وحماية خصوصية الأطفال وهوياتهم على الانترنت. وتعليم محو الأمية الرقمية لإبقاء الأطفال على دراية وانخراط وأمان على منصات الاتصال. والاستفادة من قوة القطاع الخاص للنهوض بالمعايير الأخلاقية والممارسات التي تحمي الأطفال وتفيدهم. وجعل الأطفال مركزاً للسياسة الرقمية. لقد تم تصميم الإنترنت للبالغين، ولكن يستخدمها الأطفال والشباب بشكل متزايد والتكنولوجيا الرقمية تؤثر بشكل متزايد أيضاً على حياتهم ومستقبلهم. لذا، يجب أن تعكس السياسات والممارسات والمنتجات الرقمية احتياجات الأطفال، ووجهات نظر الأطفال، وأصوات الأطفال[4] .

أما الجانب السلبي في العالم الرقمي فيكمن في المخاطر التي يواجهها الطفل. طفل الأمس كان يواجه المخاطر خارج محيط المنزل؛ في المدرسة أو الشارع، لكن طفل اليوم يداهمه الخطر وهو في منزله. ويصعب على الأهل تتبع ومراقبة الأبناء طوال اليوم لذا على الأهل أن يعدوا العدة لمواجهة مثل هذه المخاطر، ودرئها عن أبنائهم بكل ما يستطيعون. مخاطر العالم الرقمي يقع ضحاياها الأطفال الضعفاء، أو الأقل خبرة وقدرة على فهمها خاصة القابعة خلف الأستار في شبكة الانترنيت.

مخاطر العالم الرقمي يصنّفها الباحثون إلى "ثلاث فئات؛ هي مخاطر المحتوى، ومخاطر الاتصال، ومخاطر السلوك" [5].

مخاطر المحتوى حيث يتعرض الطفل لمحتوى غير لائق يشمل الصور الإباحية والعنيفة، أو مواقع تروّج لسلوكيات غير صحيحة، كخطاب الكراهية والتحريض على العنف، أو غير صحية كإيذاء النفس والانتحار، وارتكاب جرائم القتل، وغيرها.

أما مخاطر الاتصال فهي حينما يتلقى الطفل اتصالا من شخص غير سوي يسعى فيه إلى غايات جنسية، أو اتصالا من أفراد، أو جماعات تشجع الطفل على التطرف وإقناعه إلى الانخراط معها في سلوكيات خطيرة، أو غير صحية.

وأما مخاطر السلوك فقد تسهم مواقع الإنترنت في صياغة سلوك الطفل فقد تدفعه إلى صياغة أو إنتاج محتوى يحض على العنصرية والكراهية والتمييز، أو نشر صور إباحية غير لائقة.[6]

أثّرت التكنولوجيا كثيرا على سلوك جيل اليوم فصار جيلا ذا سلطة قوية على الأهل -على سبيل المثال؛ حالة الاستهلاك لديه لم نجدها لا في مجايلينا، ولا في أبنائنا، يفرض قناعاته وآراءه مهما كانت عليهم دون رحمة لأنه يريد خلق المستحيل من أجل الاستحواذ على كل ما لدى الأهل من ذخيرة مادية، ورأي سديد، وليس للمعنى من وجود في حياته، كلما استحوذ على شيء يريد المزيد. بالتأكيد بين جيل اليوم توجد استثناءات، كما انوجدت في جيلنا وما بعده- أعني به من لم تصل يداه إلى عالم التكنولوجيا، ومنهم أبناء الأسر ذوي الدخل المنخفض أو الفقيرة، إذ من السهل عليهم أن يحافظوا على قيم وأخلاق الأسر التي نشأوا فيها وتربوا في أحضانها؛ وما أكثرهم اليوم، فليس كل الأسر قادرة على توفير وسيلة إلكترونية للأبناء، إذا كان هم الأب توفير لقمة العيش لهم. وللأسف فإن أبناء هذه الطبقة يقعون فريسة مجتمع التكنولوجيا الذي تضعف فيه القيم الحية الأصيلة، ويعيشون غرباء وسط محيط التكنولوجيا المتلاطم، فضلا عن حرمانهم من الفرص الأكثر تطورا في تعليم المهارات والمهن، والكثير من المعارف التي تؤهلهم لحياة أفضل.

ومن صفات جيل التكنولوجيا أيضا عدم توفره على طاقة تحمّل أعباء المسؤوليات الثقيلة كإدارة أسرة، أو إدارة مركز، أو مؤسسة، أو شركة، أو غيرها لكن يمكنه إدارة مؤسسة معقدة على الشاشة الزرقاء بكفاءة عالية؛ كونه جيل المعلومة الزئبقية السريعة، التي ساهمت في تسريع الحياة وتسهيلها، ووضعت كل شيء نصب عينيه بسرعة البرق.

معلومات وتصورات وتطبيقات العالم الرقمي أيضا لها مردودها السلبي على صحة الأطفال العقلية والنفسية والجسدية والعصبية؛ فالإفراط والإسراف يمكن أن يؤدي إلى العزلة، ونقص في المهارات الاجتماعية، وانفصال الأطفال عن عالمهم الحقيقي حيث لها أثر في التسبب بالنسيان، والإصابة بالخدر، والكسل، والخمول، وتشتت الذهن، وعدم تلبية الواجبات الأساسية خاصة ممن هم في سن المدرسة، فضلا عن بروز مشكلة السمنة عند الأطفال بسبب عدم الحركة، أو قلتها، كذلك جهلهم الحماية من أخطار التنمر، والجرائم الإلكترونية. وأكدت الدراسات العلمية على أضرار الجلوس إلى شاشات الكومبيوتر والأجهزة الذكية الأخرى، وأكدت دراسة طبية أجريت على مجموعة من تلاميذ المدارس الابتدائية أن اعتياد الأطفال الجلوس إلى شاشات الكومبيوتر تحول إلى مرحلة الإدمان لألعاب الفيديو، وتؤدي تلك الألعاب إلى آلام ومعاناة في منطقتي الرسغ والأصابع، والعزلة النفسية، والاكتئاب، والقلق، والاضطراب في النوم، والفشل في الدراسة، وممارسة العنف اللفظي مع العائلة ومع حل المشكلات، والتوتّر الشديد، والوقوع في منزلق الرذائل الأخلاقية.

بالتأكيد الجلوس الطويل على الشاشات يعيق النمو البدني للطفل سيما هو في مرحلة النمو التي تتطلب الحركة والنشاط البدني المستمر. "تؤكد الأبحاث التي أجرتها الدكتورة Joanne Cantor  مديرة مركز أبحاث التواصل بجامعة Wisconsin  تؤكد أن مشاهدة الأطفال تحت سن 14 عاما للأفلام المخيفة تسبب لهم مخاوف اضطرابية مدى الحياة، يرجع هذا إلى أن الأطفال يتسمون بكونهم أكثر تأثرا من غيرهم، ويصعب عليهم التفريق بين التهديد الحقيقي والخيال. وفي السنوات الأخيرة وبعد أن لاحظ منتجو تلك الأفلام أنها أصبحت لا تستهوي الأطفال بسبب مشاهدها المتكررة تفتق ذهنهم عن أفكار جديدة فاتجهوا إلى إنتاج "أفلام الخيال" التي تحلق بالطفل في عالم آخر غير عالمه الواقعي، وتعتمد على أبطال ملامحهم غريبة. الاستشاري النفسي عثمان بدير يرى أن تلك الأفلام لها العديد من الآثار السلبية ومنها:  قتل روح الواقع داخل الطفل، وخلوها من الطموحات المناسبة لبني البشر، وتقديمها حلولا سهلة وغبية للمشكلات التي تواجهها وتحللها من جميع المعايير الأخلاقية. وإدخال أفكار ومعتقدات خرافية لها تأثيرها الخطير على مستقبل الطفل ونظرته الواقعية للأمور وطريقة تعامله مع الواقع"[7].

وجدت دراسة أجريت في مارس(آذار) الماضي أن الوقت الذي يقضيه الأطفال أمام الشاشات يحرمهم من سماع أكثر من (1000) كلمة يتحدث بها الأشخاص البالغون كل يوم، مما يؤدي إلى تراجع مهاراتهم اللغوية"[8]، خاصة في العوائل المثقفة التي في الغالب تتحاور في مختلف الأمور، وتتكلم الفصحى بدلا عن العامية.

تكتب سوزان لين في كتابها "من يربي الأطفال"(نيو برس2022) وهي خبيرة في اللعب الإبداعي وتأثير وسائل الإعلام والتسويق التجاري على الأطفال، جذور وعواقب هذا التحول الهائل نحو طفولة رقمية تجارية، مع التركيز على قيم الأطفال وعلاقاتهم وتعلمهم منذ الولادة. أصبح الأطفال مصدرا مربحا لمجموعة من شركات التكنولوجيا والإعلام والألعاب. تشير الكاتبة إلى أن كثيرا من نخب "وادي السيليكون" لا يسمحون بتعريض أطفالهم للتقنيات ذاتها التي يطلقونها لأطفال الآخرين[9].

تقول ميليندا غيتس زوجة بيل غيتس صاحب أكبر شركة برمجيات حواسيب شخصية في العالم(مايكروسوفت):

"وإذا تجنبت ببساطة إعطاء أطفالك كل ما يريدونه، يمكنك مساعدتهم بشكل أكثر فاعلية في تدريب أخلاقيات العمل المستقبلية، كما قالت المعالجة النفسية إيمي مورين لشبكة «سي إن بي سي ميك إت» العام الماضي. وأكدت مورين أن الأطفال الذين يكبرون ليصبحوا بالغين ناجحين للغاية يتعلمون في وقت مبكر أنه «إذا أرادوا النجاح، فقد لا يأتي ذلك بشكل طبيعي"[10].

وتفصل تكنولوجيا العالم الافتراضي بين عالم الفرد المعنوي الروحي، وعالمه المادي الذي أوجدته الآلة ووضعت كل شيء بين يديه. كلما تقدم العلم والتكنولوجيا زاد استهلاك الفرد المادي، وتضاءل رصيده المعنوي، كأنما الاستهلاك المادي الخارجي يستنزف الرصيد المعنوي الداخلي "فالعلم والتكنولوجيا في تطور دائم، ولكن الحالة الداخلية عند الإنسان ثابتة؛ فهو لا يعدو كونه الإنسان الذي كان قبل عشرين أو ثلاثين قرنا، فالنوع البشري وكل ما يماثله يتضاءل؛ في حين أن التقدم يتعاظم، ومع أن الجميع يصفقون لاستمرار التقدم التقني، فإن القيم الأخلاقية مهملة. إن ثقافة الترف واللذة والرفاه تعمل بسرعة على استلاب العالم الروحي عند الكائن الإنساني، في حين يتزايد طغيان المادية والعنف وفي النهاية تسرق الانتهازية والمادية روح الناس، مغتصبة بذلك الوظائف التي تنسب إلى الشيطان"[11].

وأدت تكنولوجيا العالم الرقمي إلى غياب التفاعل اليومي بين أفراد الأسرة الواحدة لانشغال كل منهم بجهازه الخاص يستطلع فيه ما طاب له من مواقع تواصل، وقد سلبت الحميمية والروابط المتينة بين أفراد الأسرة. حينما يرى الأطفال غياب التفاعل هذا فإنهم يتمردون على الأهل؛ ولم تعد فضيلة الطاعة لديهم سارية فالطاعة لما يُملى عليهم في هذه الوسائل، ولم تعد فضيلة بر الوالدين موجودة لدى جيل اليوم، لأنه تجاوز سلطة الأبوين. ولم تعد للطفل من شخصية قدوة هي نموذجه الثابت، وصار الأشخاص الذين يُعرضون عليه يوميا هم النجوم الذين يستوجب الاقتداء والتعلق بهم، والتواصل اليومي معهم.

من خلال تجربتي مع الجيل الرقمي أنه كلما أمضى وقتا طويلا أمام الشاشة ازدادت لديه حالة الفردية والانفصال عن عالم الأسرة والمجتمع، خاصة إذا كان منهمكا فيها. لكن في الجانب الآخر حينما ينفصل عن الواقع الافتراضي أراه يتفاعل بحياء وحذر مع المجتمع العام، ومن ثم يتحرر تدريجيا من الممانعة والخجل ويتفاعل بحيوية مع الأسرة والمجتمع الخارجي. هذه الحالة ما زالت فتية عند بعض جيل اليوم، ويمكن للعائلة من استدراكها، وترشيد جلوس الطفل أمام الشاشات لمدة طويلة؛ تجنبا لتمادي الطفل مع حالة الجلوس على الجهاز، وبالتالي يصعب السيطرة عليه.

منظومة القيم التي اكتسبناها عبر التفاعل الحقيقي مع الواقع اليومي في الحياة والناس، اليوم التفاعل أصبح مع العالم الرقمي عبر الأجهزة الذكية، ومن الطبيعي أن تتدنى القيم الأخلاقية لانعدام التفاعل مع المجتمع الواقعي، وانعزال الأطفال عن قيمهم، وعاداتهم، وأخلاقياتهم، وصارت أخلاقهم وسلوكياتهم رقمية، وغابت عنهم الروادع الاجتماعية الحقيقية. الرصيد المعنوي من القيم والمثل الأخلاقية لدى جيل اليوم يتضاءل كلما حققت تكنولوجيا المعلومات إنجازات وتطورات جديدة.

تكاد تكون أزمة العالم اليوم هي أزمة قيم، فالحياة تبدّلت وتبدلت القيم معها، القيم الاجتماعية والسياسية والثقافية؛ فالقيم القديمة التي ترسخت منذ الصغر في عقول الجيل القديم لا يمكن اقتلاعها بسهولة، وإن عملية بناء قيم جديدة ليست سهلة لديهم. بالنسبة لطفل اليوم فإنه إذا تمت السيطرة على وقته الذي يمضيه أمام الشاشة فإنه يمكن تغيير القيم تبعا لاختلاف الموضوعات التي هي مثار اهتمام الفرد، ويمكننا من خلق قيم جديدة من خلال التربية التي تركز اهتمامها على موضوعات بعينها وإدخالها في حياة الأفراد والجماعات حتى تتم عملية التغيير. ويمكن لتربية اليوم أن تستفيد من إيجابيات قيم الأمس، وأن تبرز سلبياتها المعوِّقة لتطوير الفرد، حينما تقوم بتعديل القيم تبعا لأهميتها بالنسبة له، وهكذا تعيد بناء سلم القيم من جديد للأفراد[12]. وكل هذا مرتبط بعملية ترشيد الجلوس على منصات التواصل والحد من استخدام الأجهزة الذكية.

يؤكد برتراند رسل في نظريته "ذاتية القيم"، على أن الاختلاف على قيمة هو ليس في ذات القيمة وحقيقتها بل في الذوق وطريقة الاستفادة من القيمة، فالتصرف الذي يعتبره شخص ما شريرا هو تصرف فاضل عند آخر، ويقول: "من هنا تتضح النتائج الأخلاقية لهذه المفاهيم، إنها السرطان الأخلاقي الذي يبتلينا في العصر الحاضر غياب أية قيمة سامية" مثلا استبدال الحب الرومانسي الذي ينتهي بالزواج بعلاقات خاطفة تفضي إلى علاقات جسدية عابرة تتجدد باستمرار، أو أن العلاقة بين الجيران التي كانت قائمة على الود أصبحت أكثر ندرة[13]. أسلوبنا الذين نتعامل به مع الناس والأشياء هو خارطة طريقنا، فعلينا أن نجتهد في رسمها بالشكل الذي يتناسب ويتكيف مع متغيرات الزمن لكن بثقة، وحزم، وإرادة قوية.

أثر تكنولوجيا المعلومات في تعليم جيل اليوم[14]

يوضّح المستشار التربوي محمد عقوني في كتابه "التكنولوجيا في التعليم" أثر التكنولوجيا في عملية التعلّم والتعليم على الوجه الآتي باختصار:

فتحت تكنولوجيا المعلومات لجيل اليوم آفاقا واسعة في تلقّيهم العلوم والمعارف. وسهّلت التعليم وجعلته أكثر تفاعلية من خلال توفير تجارب علمية مثيرة مثل ألعاب الفيديو والواقع الافتراضي لمساعدة الطلاب على فهم المفاهيم المعقدة، والواقع الافتراضي جعل التعليم أكثر تخصيصا من خلال جعل المحتوى والتجارب التعليمية متكيفة مع احتياجات الطالب؛ منها على سبيل المثال: الذكاء الاصطناعي حيث يمكن استخدامه لتوفير تعليمات مخصصة لكل طالب بناء على تقدّمه وأسلوب تعلّمه وحتى مدى استيعابه ومستوى الذكاء لديه. كذلك جعل الذكاء الاصطناعي أكثر سهولة بتوفيره الوصول إلى الموارد التعليمية للطلاب من جميع الخلفيات-مثلا استخدام الفصول الدراسية الافتراضية لتوفير التعليم للطلاب الذين لا يستطيعون الحضور إلى المدرسة. كما يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لمساعدة الطلاب على تطوير مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات. وتساهم التكنولوجيا في تسهيل الوصول إلى المحتوى التعليمي عبر الانترنت، وهذا ما يساعد على توسيع رقعة توفير التعليم في جميع أنحاء العالم . وأيضا ساهمت التكنولوجيا بتوفير الأدوات التكنولوجية، الأجهزة الذكية، والوسائط المتعددة، والتطبيقات التفاعلية، مما يجعل عملية التعلم أكثرا إشراكا وتفاعلا وهذا ما يعزّز فهم الطلاب وتحفيزهم للمشاركة بشكل أفضل. كما مكّنت تقنيات التعليم الآلي والذكاء الاصطناعي من تخصيص تجارب التعلم وفقا لاحتياجات وقدرات كل طالب مما يعزز فرص نجاح الطلاب بشكل أفضل. وأيضا تطوير مهارات التفكير النقدي وهذا ما يشجع الطلاب على التفكير بشكل أكثر تحليلا وابتكارا، وكذلك وفّرت التكنولوجيا فرصا للتعلم التعاوني بين الطلاب عبر الانترنت مما يعزز فهمهم المتبادل والتواصل الفعّال وإبداء الآراء والإبداع فيها. وساهمت التكنولوجيا أيضا بتعزيز بالوصول إلى مصادر متعددة عبر الانترنت مما يسهم في تطوير مهارات البحث والتحليل وتعزيز الإبداع والابتكار. وساعدت التكنولوجيا في تجهيز الطلاب بالمهارات الضرورية للنجاح في سوق العمل المتغير باعتبارها جزاء أساسيا من الحياة والعمل في العصر الحديث. وهذه نماذج لكيفية استخدام التكنولوجيا في التعليم مثلا: استخدام السبورات الذكية لعرض الرسوم البيانية والصور، واستخدام أجهزة الكمبيوتر المحمولة للسماح للطلاب بالتفاعل مع المواد التعليمية. أجهزة الكمبيوتر المحمولة في التعليم تمكن الطلاب من الوصول إلى المعرفة من جميع أنحاء العالم، مثلا يمكن للطلاب الوصول إلى المكتبات الرقمية والندوات عبر الانترنت.[15]

نموذج الكمبيوتر-مثلا- أو أي جهاز ذكي يُستخدم كأحد الوسائل لتنمية ثقافة الطالب ووعيه الإدراكي وتنمية المواهب والقدرات العلمية. تلميذ اليوم غير تلميذ الأمس فإن جهاز الكمبيوتر "يمكّن الطالب من السيطرة على عرض المعلومات بالكم والسرعة التي يريدها فضلا عن أنه يقوم بعمل المعلم في الإرشاد والاختبار والتقويم، ويستخدم في صياغة المواد الدراسية العلمية والأدبية والتاريخية في شكل برامج عن طريق طرح الأسئلة على الجهاز وتلقي الإجابات، ويمكن استخدامه كأداة استيعاب مثالية، وقناة لنقل المعلومات الثقافية إلى الطلاب بشكل يغاير الطرق التقليدية كالتلقين المباشر، بل تتوفر فيه إمكانات عديدة من طرق التدريس من تعزيز وتغذية ومراجعة ومحاكاة وتبسيط وتمثيل وتصغير"[16].

ثورة تكنولوجيا المعلومات قضت على دور التلميذ التقليدي باعتباره تابعا لسلطة المعلم والكتاب المعرفية؛ واليوم التلميذ فيها باحث مبحر في المحيطات المعرفية محددا جهته وأهدافه ويتعامل مع الكم الهائل من المعلومات، والرسوم، والبيانات، والصور فيقوم بتشذيبها وفرزها، ثم يؤلف فيما بينها في معرفة جديدة تمثل الجهد العلمي المطلوب منه، ودور الأستاذ هنا هو رسم المحددات في عملية الاستكشاف التي يقوم بها التلميذ، معنى هذا أن التلميذ دوره في تكنولوجيا المعلومات دور المتسوّق لمواد معرفته الأولية ومن ثم طهيها، وتجهيزها وجبة معرفية كاملة متحملا بذلك مسؤولية طريقة طهيه المعرفية المحترفة أم غير المحترفة، وعليه أن يكون ماهرا في تحليل المشكلات واتخاذ القرارات، وهذه تتطلب التمتع بالصحة النفسية العالية، والاستقلالية، والثقة العالية بالنفس للوصول إلى صناعة المستقبل العلمي التخصصي[17].

تحظى تنشئة الطفل في المحافل العلمية والندوات والمؤتمرات الخاصة بواقع الطفولة العربية والآفاق المستقبلية بالاهتمام حيث وضعت الاستراتيجيات الهادفة لبلورة ذات الطفل العربي المبدعة ذات الهوية الاصيلة وتسعى إلى التجدد الحضاري والفكري، ووضعت التوصيات على ضرورة إعادة صياغة دور المؤسسات التربوية لتهيئة الناشئة للمستقبل من خلال عدة بنود؛ هي:

التربية الدينية، وتعميق الهوية وشعور المواطنة الحقيقية، وتوضيح فكرة تكامل وحدة الأمة من خلال تكامل الثقافات الجزئية، إعداد علماء من الجيل الجديد، وتعميق عمليات التفكير العامة والتفكير الإبداعي خاصة، وتشجيع العمل الجماعي والحوار الهادف، وتمكين الفرد مع معطيات ونتاجات القرن الحادي والعشرين، وتعليم الفرد سلوكيات الديمقراطية عبر الحوار والتفاوض والمناقشة وتنمية روح المشاركة، واكتساب المهارات الأساسية وربط المعلومات النظرية بالتطبيقات العملية، وتوفير مقومات الصحة والسلامة النفسية والبدنية، وتعليمه فن التعامل مع تكنولوجيا المعلومات الحاضرة، وتنمية القدرة على تحليل المعلومات وتفسيرها وفن الاستنتاج واتخاذ القرار، وتعليمه المرونة والحيوية والاستجابة الواعية، وتطوير اللغة العربية واللغات الاجنبية[18].

الانترنت وتطبيقاته غير المحدودة ساهم بشكل كبير في إيجاد طفرة نوعية في عملية التعلّم والتعليم، وساهمت في ارتقاء الطالب والمعلم معا في مضمار تحصيل العلوم والمعارف عبر إيجاد طرق جديدة في توصيل العلوم، وطرائق التدريس والإبداع في كل منهما.

(يتبع)

***

إنتزال الجبوري - باحثة

..........................

[1] بركات، أ.د. وجدي محمد، وتوفيق، أ.د توفيق عبد المنعم. الأطفال والعوالم الافتراضية...آمال وأخطار. بحث مقدم إلى مؤتمر الطفولة في عالم متغير (مملكة البحرين- الجمعية البحرينية لتنمية الطفولة- 18-19/5/2009)، ص4.

[2] فلسفي، محمد تقي. الطفل بين الوراثة والتربية. تعريب وتعليق: فاضل الحسيني الميلاني. بيروت: دار التعارف، ط2، 1401هـ- 1981م)، ص28.

[3] تقرير اليونيسف. حالة أطفال العالم لعام 2017. الأطفال في عالم رقمي. الناشر: شعبة الاتصال التابعة لليونيسف. (أمريكا: 2017).

[4] تقرير اليونيسف. حالة أطفال العالم لعام 2017. الأطفال في عالم رقمي. الناشر: شعبة الاتصال التابعة لليونيسف. (أمريكا: 2017).

[5] نفس المصدر.

[6] نفس المصدر.

[7] كتاب أبي أرجوك ص131-132

[8] نفس المصدر.

[9] ندمان، محمد خير. "في هذا العصر الرقمي.. من يربي أبناءنا؟". صحيفة الشرق الأوسط (9 أكتوبر2022) (تحقيقات وقضايا).

[10]" مبدأ جيد". صحيفة الشرق الأوسط ( ٧ فبراير ٢٠٢٥)(يوميات الشرق).

[11] باينس، جون. مصدر متقدم، ص68.

[12] أنظر:  شريف، د. عبد القادر. التربية الاجتماعية والدينية في رياض الأطفال. بدون مكان النشر: بدون طبعة، بدون تاريخ، ص147-158.

[13] باينس، جون. مصدر متقدم، ص376.

[14] للتفصيل أكثر أنظر أيضا: الحلقة الثامنة من هذه الدراسة التي تخص طرق التعليم الحديثة وتنمية التفكير لدى الطالب.

[15] أنظر: عقوني، محمد. التكنولوجيا في التعليم. موقع: aggouni. Blogspot.com

[16] مجلة التربية (قطر): ع 92(1/1990)، ص35-36.

[17] حجازي. مصدر متقدم، ص ص304-305.

[18] أنظر: عماد الدين، محمد. الأطفال مرآة المجتمع. الكويت: مجلة عالم المعرفة: العدد 99(1986)، 269-270، نقلا عن بركات، مصدر متقدم، ص12.

 

2- طرق التعليم الحديثة:

يُنظر للطالب في التعليم الحديث على أنه مشروع مستقبلي تعمل المدرسة جاهدة لإعداده الإعداد الصحيح، باعتبارها البيئة التي فيها يتلقى العلوم والمعارف لنمو قابلياته ومواهبه الفكرية، والعقلية، والفنية، والبحثية، وتشجعه على الإبداع الذي به يخدم مجتمعه.

تطور تكنولوجيا العلوم والمعارف يشمل تطور أساليب التعليم. ويهدف التعليم الحديث إلى اتباع استراتيجيات مهمة في أسلوبه تختلف عن أسلوب التعليم التقليدي الذي دأبت عليه مؤسساتنا التربوية والتعليمية.

التعليم القديم كان يقتصر على نقل العلوم للطالب من المنهج المقرر وعبر المعلم، وما على الطالب سوى حفظها عن ظهر قلب بتكليف الطالب تحضير المادة المطلوبة منه في المنزل؛ ليكون مستعدا للإجابة عن أي سؤال يطرحه عليه المعلم من دون توسيع مدارك ومهارات الطالب الفكرية والعلمية والعملية. التعليم القديم هو عملية حشو عقل الطالب بالمعلومات من دون فهم أحيانا. حينما كنا طلابا في المرحلة الابتدائية أحيانا نحفظ المادة المطلوبة منا حتى الأخطاء المطبعية نذكرها دون فهم.

اليوم أساليب التعليم القديم بدأت تنحسر، وتحلّ مكانها أساليب التعليم الحديث التي تهدف إلى تنشيط عقل الطالب، وتحفيزه للفهم، والتحليل، والاستنتاج.

استراتيجيات التعليم الحديث لها معاييرها الخاصة التي يجب "أن تكون مناسبة للهدف الذي يجب تحقيقه، واختيار طريقة تدريس تتناسب مع المادة العلمية، ومراعاة الفروق الفردية، واختيار الطريقة التي تناسب المعلم وخبراته ومهاراته، وتتناسب مع الإمكانيات المادية التي توفرها المنظومة التعليمية، واختيار الطريقة التي تتناسب مع عدد الطلاب في الصف الدراسي "[1].

ومن طرق التعليم الحديثة هي:

أ-التعليم التعاوني بين الطلاب: وهي طريقة الهدف منها إيجاد حالة التفاعل والتعاون بين الطلاب في موضوع من الموضوعات، يطرحونه ويدرسونه ويتناقشون فيه، حيث يكونون في مجموعات متجاورة، وكل طالب يكون مسؤولا عن العمل التعاوني والمشاركة الفعالة فيه. هذه الطريقة تساعد على تنمية روح الجماعة والتعاون والتضامن بين الطلاب[2].

بـ-التعليم المتباعد: وتعني تقسيم الحصة الدراسية إلى عدة أقسام بشكل متناوب بين كل مرة وأخرى يفسح المعلم استراحة للطلاب لمدة عشر دقائق، تمارس خلالها الأنشطة الرياضية والبدنية لغرض تنشيط الجسم والعقل، وزيادة يقظة الطلاب ليكونوا على استعداد للحصة الثانية، ويكونوا في حالة حيوية حركية ونشاط.[3] "يجب تحرير الأطفال أحيانا من قيود المدرسة الضيقة وإلاّ ستطفأ فرحتهم الطبيعية قريبا. وعندما يتحرر الطفل سرعان ما يستعيد مرونته الطبيعية. إن الألعاب التي يحاول الأطفال من خلالها أن يتمتعوا بحرية تامة وأن يتخطوا بعضهم البعض ستخدم الهدف بطريقة أفضل، وستجعل عقولهم مشرقة مبتهجة من جديد"[4].

ج-الفصل الدراسي المقلوب: وتعني عكس طريقة التعليم التقليدي الذي يكون فيه التلميذ هو من يحضر ويدرس المادة المطلوبة منه في المنزل، ومن ثم يأتي إلى المدرسة ويلقيها في الصف إذا طلب منه المعلم، أو يجيب عن أي سؤال. المعلم في هذه الطريقة يقدم المادة المطلوبة ويشرحها للطلاب، ويطلب منهم إعادة دراستها في المنزل، وحلّ الواجبات المترتبة عليها، وممارستها، والتعرّف أكثر على الموضوع المطلوب من خلال الفيديوهات التعليمية، أو عبر البحث في مواقع الإنترنت، وتُناقش مع المعلم، وتُحل بعض الواجبات عليه. تساعد هذه الطريقة في حل مشاكل الطالب حول الموضوع وإشكالاته، والجواب عن أسئلته واستفساراته[5].

د-طريقة التعليم الذاتي: وتعني الاعتماد على ذات الطالب للبحث والتنقيب والتعمق الفضولي من خلال وسائل التعليم الحديثة مثل مواقع الإنترنت، والمصادر المهمة التي تخص الموضوع للتعرف عليه، وفهمه، وتحليله.[6]

هـ-طريقة التعليم باللعب: وهي طريقة فعالة ومسلية تعتمد على ألعاب تعليمية مخصصة تمنح الطالب إذا مارسها خبرة ومعرفة في مجال معين، مثل الألعاب المخصصة لممارسة مهارات الرياضيات وحل المعادلات[7].

و-العصف الذهني: وتعني التفكير العميق لطرح أفكار جديدة وإبداعية؛ فتمنح الطالب الحرية في إبداء آرائه، وأفكاره، واحترام آراء الآخرين[8].

ز-التعليم العملي: وتعني تحويل المادة التي يدرسها الطلاب إلى مشروع عملي يمكن تطبيقه[9].

إذن طرق التعليم هذه تمنح الطالب حرية البحث والتفكير والتحليل والإبداع، وتعمل على تنشيط عقله عبر البحث في منابع المعرفة؛ وما أكثرها الورقية والإلكترونية، وتعلّمه التعاون والتضامن والعطاء الفكري دون احتكار للمعرفة بدافع الأنانية، وطرح رأيه بثقة عالية دون خوف أو وجل، وتعليمه المشاريع العملية التي تؤهله لامتهان مهنة ما في المستقبل، فضلا عن تنشيط جسمه وزيادة فعاليته عبر الحراك الجسدي وممارسة التمارين الرياضية بين الحصص الدراسية. أيضا طرق التعليم هذه تمنح المعلم الحرية والخبرة في أداء وظيفته، وقد يبدع ويبتكر طرق تعليم أخرى.

وفي طرق التعليم هذه ينبغي الاستفادة القصوى من مواهب الطلاب المتنوعة تبعا لأنواع الذكاء التي يتمتعون بها، ولا ننسى عدم وجود فرد غبي بالمعنى الأخص، بل إن لدى كل فرد منا موهبة ذكاء خاصة، وقد تجتمع موهبتا ذكاء أو أكثر لدى فرد واحد وقد لا تجتمع؛ فأنواع الذكاء متعددة أقلها ثمانية. بأنواع الذكاء هذه يفكر الفرد، ويحلل، ويؤوّل، ويستنتج، ويبدع.

والذكاء على أنواع هي؛ الذكاء اللغوي؛ ويعني انطواء الفرد على موهبة لغوية خاصة، يتكلم اللغة الفصحى، ويستخرج الكلمات والعبارات الجديدة، ويبتكر المصطلحات الخاصة به، وباللغة يفكر ويبدع وينتج الأفكار الجديدة، من أمثال الذين يتمتعون بالذكاء اللغوي الروائيون، والشعراء، والذين يحبون كافة ألوان الأدب. والذكاء المنطقي الحسابي أو الرياضي، المتمثل بالجمع، والحساب، والمقارنة، والتصنيف، وتطبيق النظريات، والاستنتاج؛ من أمثال الذين ينطوون على هذا النوع من الذكاء علماء الرياضيات والفيزياء والكيمياء. والذكاء الموسيقي، يتمتع بعض الأفراد بالموسيقى والعزف على الآلات الموسيقية، ويحب الأنغام والإيقاعات والغناء؛ من أمثالهم الموسيقيون، والمطربون. والذكاء البصري المكاني هو أيضا الذكاء الفني: يتمتع فيه الفرد المحب للرسم، مكوّنا أفكارا مرئية وصورا ذهنية، أو محب للخياطة، والتطريز، والنقش على المعادن والأخشاب والأحجار؛ من أمثال ذوي الذكاء البصري المهندسون والنحاتون والجراحون. والذكاء الذاتي حينما يحلل الفرد فكرة ما من خلال منظاره الخاص، أو شخص آخر كالمعلم، والأب. والذكاء التفاعلي حيث يكون فيه الفرد مدركا لنقاط ضعفه وقوته في تفكيره إلى الأمور ونظرته إليها. والذكاء الطبيعي حيث يكون الفرد مهتما بعالم الطبيعة ومفرداتها. والذكاء الوجودي حيث يكون الفرد في فضول لمعرفة الوجود والكون والمعنى الروحاني للحياة[10].

المعلم الماهر القدير يمكنه اكتشاف أنواع الذكاء تلك لدى طلابه عبر براعته في استخدام أساليب التعليم الحديثة دون تعسّف، وإطلاق الحرية للطالب لكي يعبر عن رأيه وفكره بطلاقة.

حينما يكون الطالب متعلما تعليما ليس فيه رغبة من المعلم أو سلطة أخرى أو إكراه، فإن دافع التربية والتعليم ينمو في نفسه بشرط وجود بيئة تهيئ لهذا الدافع، فالمعلم الجيد يهب الطالب المغامرة الفكرية لاكتشاف العالم المليء بالمجهولات ببذل الجهود الكافية لدرجة تشعر الطالب بالانبساط والفرح حينما يجد نفسه مبدعا في مجال من مجالات المعرفة في المستقبل، لذا يجب أن ندع مجالا للطالب لأن يستخدم كل جهوده وامكانياته وفاعلياته في عملية تلقي المعرفة، وهذا أحد أسرار جعل المعرفة إحدى أسرار سعادة الفرد بدلا من أن تكون مصدرا للشقاء والعناء والعقاب[11].

التعليم في بلداننا على الدوام يقتصر على الذكاء اللغوي والرياضي، وهما أس عملية التعليم فيما يهمل أنواع الذكاء الأخرى. ولا ننسى أن الكثير من التلاميذ يتمتعون بأنواع الذكاء المذكورة؛ حيث أن من يتمتع بالذكاء البصري يمكنه فهم الدرس من خلال التطبيق العملي، ويمكنه أن يبدع في مجاله خاصة إذا صار نقاش فيه وتحليل واستنتاج. وإن من يتمتع بالذكاء اللغوي يمكنه فهم المواد بحسب ذكائه وموهبته اللغوية التي يمكنه بها من فك رموز العلوم الرياضية.

نتمنى على نظام التعليم في بلداننا أن يحذو حذو الغرب ولا يهمل أنواع الذكاء الأخرى والاستفادة من مواهب ومهارات الطلاب القصوى في تنمية وبناء الأوطان في مختلف الحقول العلمية، والنظرية، والعملية، والفنية، والاقتصادية، والطبيعية؛ فالغرب أسس حضارته على أنواع الذكاء المذكورة دون تفضيل لأحدها على الآخر.

3- تنمية التفكير لدى الطالب:

ما توصّلت إليه اليوم طرق التعليم الحديثة؛ هي التركيز على أهمية التفكير لدى الطالب وتعليمه كيفية توليد الأفكار.

من نظريات الفيلسوف كانط حول التفكير يقول فيها:

"يجب علينا أن نكف عن تلقي الأفكار فحسب، يجب أن نتعلم كيف نفكر". وضع كانط هنا أهم أساس من أسس عملية التعليم الحديث التي هي أن نتعلم كيف نصوغ الأفكار ونجتهد فيها ونبدع، لا أن نتلقى فقط، ونقلد، ونردد ما يقوله الآخر.

التفكير العامل الأساس اليوم للتغيير الجذري في التعليم. فالتفكير يعلّم الطالب التأمل العميق وابتكار الأفكار وإطلاقها، وحل الإشكاليات إن وجدت في مختلف نواحي الحياة بكل جدارة.

حب الاطلاع، وانفتاح العقل، والصبر، والجد، والدقة هي (فضائل فكرية) ينبغي تعليمها لطالب العلم بها يفهم الحياة؛ فالمعرفة بالحياة ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد، لا أن تكون المعرفة لأجل التعليم الوقتي[12].

من مميزات التعليم الحديث تعزيز مهارات الطالب وقدراته على التفكير والملاحظة والتحليل والاستنتاج، وحل المشكلة إن وجدت في المادة الدراسية، ومراعاة مستويات الطلاب والفروق الفردية بينهم، وتوسيع مدارك الطلاب بمنحهم المصادر المتنوعة عبر التصفح على شبكة الانترنت، وتنمية مهارات التعليم الذاتي للطلاب، فيجعلهم أكثر معرفة واطلاع بالتطورات التكنولوجية ومواكبتهم لها، وتقليل التكاليف المالية في طباعة الكتب الدراسية واستبدالها بالكتب الإلكترونية، وأيضا تشعر الطالب أكثر حبا للتعليم، وتمنع الشعور بالملل؛ لتنوع الأنشطة والمصادر التعليمية من مختلف القنوات المعرفية [13] .

و"تنص أهداف التعليم في القرن الواحد والعشرين أنه عندما يحين الوقت ليترك الولد المدرسة ينبغي أن يتمتع بالقدرة والمهارات اللازمة لتحليل المشاكل وإيجاد حلول لها، إضافة إلى القدرة على إيصال الأفكار والمعلومات، والتخطيط للقيام بالنشاطات وتنظيمها، كما التعاون مع الآخرين"[14]. فالتفكير أهم أساسيات كل الأدوار التي يخوضها الطلاب في مختلف محطات حياتهم في العائلة، والمجتمع، والحياة العملية العامة؛ فبالتفكير يكونون قادرين على تحمل المسؤولية والحكم على الأمور في القضايا الأخلاقية، أو ما يتعلق بالقيم والعدالة الاجتماعية، وعليهم أن يتمكنوا من فهم العالم وما يدور حولهم، واتخاذ قرارات منطقية سليمة تخص شؤون حياتهم الخاصة والعامة، وتحمّل مسؤولية أقوالهم وأفعالهم. إذا أردنا أن يكون أبناؤنا إيجابيين، مبدعين، سعداء، مرنين، معتمدين تماما على أنفسهم علينا أن نقدم لهم يد المعونة على التفكير العميق، وفسح الأفق حول القضايا المهمة في حياتهم، وبذلك نكون قد فسحنا المجال لهم ليتخذوا قرارات حياتهم في المستقبل [15].

و"في دراسة حديثة حول رضا صاحب العمل عن المتخرجين ورد أن المهارة التي تؤمّن حياة المتقدمين للوظيفة على عمل هو قدرتهم على التفكير بشكل مستقل وحس نقدي، فهذا ما يبحث عنه أصحاب العمل"[16]. ولأهمية تعليم مهارات التفكير "أعلن رئيس وزراء بريطانيا أنه على كافة الأولاد في المملكة المتحدة أن يتعلموا مهارات التفكير، وأن يتم تدريب الأساتذة على تقنيات تطوير قدرات الطلاب على التحليل وحل المشاكل، وأن يحصل الطلاب على دروس في التفكير والإبداع وفقا لاهتماماتهم ومستوى تحصيلهم العلمي"[17] .

ولمكتبة المدرسة الورقية أثر كبير في تنمية عقل الطالب وفتح آفاق المعرفة له إذا كانت متضمنة مؤلفات في مختلف حقول المعرفة؛ بتخصيص أوقات خاصة للمطالعة، وحث الطلاب على القراءة، وكتابة الخواطر والموضوعات الهامة، وإعداد النشرات الجدارية، والقيام بالأنشطة الثقافية التي تقيمها المدرسة في الأيام الخاصة.

ومكتبة المدرسة الإلكترونية التي تمكّن الطالب من تصفّح ما شاء له من البرامج المفيدة على شبكة الانترنيت، والاستفادة من المراجع المهمة في عملية التعليم والبحث والتثقيف. يتولى فتح مكتبة المدرسة الإلكترونية أساتذة خبراء في البرمجيات يوجهون الطلاب نحو التصفح على مواقع الشبكة عبر أجهزة الاتصال الخاصة بهم، وإشراك كافة الطلاب فيها لتعميم الفائدة من البرامج المطروحة في عملية التعليم والبحث والتثقيف، وتشجيع الطلاب على كتابة المواضيع ذات الأهمية في مختلف حقول المعرفة، وعرضها في برنامج أسبوعي تعقده إدارة المدرسة، أو في النشرات المدرسية، أو إلقاؤها على مسامع كادر التعليم والطلاب، أو من خلال أجهزة الحاسوب أو الآيباد، أو أجهزة اتصال الطلاب.

في التعليم الحديث يسعى المعلم إلى تنمية وتطوير شخصية الطالب بما ينطوي على شخصية محترمة، وجاذبة، ومحاورة، وقادرة على تشكيل علاقة إيجابية معه، ومُحبة؛ فالمحبة أسُّ أساسيات التعليم. المعلم أيضا ينحاز إلى تجاربه في التعليم، وفي نفس الوقت هو منفتح حتى يربي عقولا منفتحة تناقش في كل شؤون الحياة القابلة للنقاش، وأن تنتقد وتنبذ الآراء غير الصحيحة والسالبة، وهنا تكون عملية التعليم مشوقة غير مملة للطالب، سيما إذا كان المعلم صارما بلين وغير متسلط، بالقدر الذي يحفظ للطالب حقه في التعبير عن رأيه بجرأة، وأدب، وشجاعة، وانبساط، دون تشنج وخوف وتردد، وسيتعلم الطالب بشكل أسرع، وأسلس، وأكثر انفتاحا وربما إبداعا، وتنفتح مواهبه وتنطلق.

ويتعين على المعلم وفق متغيرات الزمن الحاضر أن يقوم بعملية جمع العلوم والمعارف، وتنظيمها، وترتيبها، وطرح الإشكاليات والأسئلة الكثيرة؛ ليثير السجال في غرفة الصف بينه وبين الطلاب، وأن يوضح لهم كيفية ترشيد الاستفادة من القنوات الإلكترونية بكل أمان ووعي.

ويمكن للمعلم من تشكيل حلقة طلابية، يطرح عليهم موضوعا ما، ويفسح المجال لمداولته والنقاش فيه، وتحليله، والتعمّق فيه، والاستنتاج، وهو بأسلوب التفكير الجماعي هذا سوف يعزز الاستعداد لطرح التساؤلات، والتأمل، والنقد، ووضع الفرضيات، والاستدلال، وتوسيع الوعي الفكري، والمقارنة، وإطلاق الأحكام بصحة الأمور، والاعتقاد والإقرار بصحة الفرضيات، وتعزيز الخبرة في التواصل بين الطلاب، والإصغاء إلى أفكار وآراء الآخرين، وتكوين المفاهيم، وطرح الحجج والبراهين، ووضع النتائج، وتعزيز حس الملاحظة، والتساؤل، والقياس، والتقييم، والشرح، والتأمل في التفكير، ومحاولة فهم الأفكار الشائعة التي نستعملها بشكل يومي من دون التفكير بها، والبحث عن معاني الأمور والمعاني المضللة في أفكارنا وأقوالنا، والتعمق في الأفكار التي يجدها العقل البشري محيرة. وإن الهدف من التفكير ضمن مجموعات يكمن في تطوير المفاهيم الذاتية الإيجابية واحترام الذات التي تنتج كوادر تعليمية مسؤولة مبدعة مستقلة[18]. ورش العمل الفكري في المدارس لها تأثير كبير على الصعيد الشخصي للتلميذ، والصعيد المجتمعي العام، فهي تهيئ التلميذ للحياة الفاعلة في العالم الخارجي؛ وتساعده على تطوير مهارات التواصل والتفاعل مع الآخرين؛ فيقوى الوعي الاجتماعي فيهم، وتقوى بينهم أواصر الاحترام والتقدير والتفكير المشترك في تحليل وفض النزاعات، وحل المشكلات، وفهم المزيد من الأخلاق الأساسية، ويقوى لديهم سلّم القيم الاجتماعية التي تصنع الديمقراطية والمجتمع السليم، واكتساب المزيد من المهارات، وعادات التفكير والتحليل النقدي، وبالنتيجة اتخاذ القرارات الصحيحة، فمسائل مثل  تغييرات المناخ، وأثرها على البيئة، والحرب البيولوجية، والآيديولوجية، ومنجزات الطب كصنع عقار مضاد للسرطان، أو عقار مضاد للإشعاعات النووية، وقضايا الانترنيت، والذكاء الاصطناعي، وصنع الروبوتات وغيرها الكثير[19].

وما ينبغي لمدير الورش الفكرية هذه أن يكون كفوءا، مثقفا، وقادرا على إدارة دفة الحوار باحترافية، وذكاء، وصبر، وتحمّل كافة الآراء برحابة صدر وروح رياضية، وأن لا يكون منحازا لرأيه، ويسمح للطلاب من إبداء آرائهم، ويفرض عليهم أن يشتركوا جميعا دون استثناء في النقاش والتحليل. ويسمح لكل طالب بالمشاركة الفعالة في كل مرة لمدة خمس دقائق، وهكذا يتم تدوير الحوار فيما بينهم. وما يجدر بالتلاميذ فعله هو الإصغاء لآراء بعضهم، واحترامها، وعدم المقاطعة، والتزام الأدوار، والامتناع عن السيطرة على النقاش، وعدم توجيه الانتقادات للأشخاص بل للأفكار، والغوص في مناقشة آرائهم عبر طرح الأسئلة العميقة، وشرح مفاهيمهم ووجهات نظرهم بكل صبر ورحابة صدر وحكمة .

و"يقتضي غرس روح المسؤولية والواجب، وبناء الانتماء الراسخ إلى هوية ثقافية- وطنية متينة، وإطلاق العنان للطاقات المبدعة والمشاركة الكونية في صناعة المصير من خلال التواصل الثقافي العالمي. وكلها مهام تحتاج إلى توظيف كامل طاقات التلميذ في برمجة مدروسة. نقطة البدء في مشروع التنشئة هذا تتمثل في القبول غير المشروط للتلميذ في شخصه وقيمته الذاتية ككيان مستقبلي"[20]. و"ينبغي لإدارة المدارس أن ترتبط بأحكام معرفة الأشخاص الأكثر استنارة، تبدأ الثقافة على الصعيد الفردي ثم يؤثر تدريجيا بالآخرين. لا تستطيع الطبيعة الإنسانية أن تقترب من هدفها إلاّ بفضل جهود الأشخاص الذين يملكون رؤية واسعة ويهتمون بالخير العام، وبالتالي هم قادرون على أن يتصورا فكرة وضع الأشياء في المستقبل"[21] .

والطالب الحديث يمتلك أساليب التعليم المختلفة التي يلتقطها من عوالم الانترنيت اللامحدودة التي تساهم في أغلب الأحيان في تشييد البنى الفكرية له وترقيتها، وتحفّز لديه قدرة التعلم السريعة والإبداع في مجال، أو علم من العلوم باستخدام تكنولوجيا التعليم المتنوع عبر القنوات الإلكترونية؛ إذ لم يعد يقتصر على المنهج التعليمي الذي يتلقاه من المدرسة والمعلم.

طبيعة الحياة اليوم، والتطورات المتسارعة التي تتطلب منا جميعا أن نقف وقفة حازمة في مدارسنا وجامعاتنا ونعيد النظر مليا في طرق التعليم؛ فما عادت طرق التعليم القديمة مجدية في عالم متغير لحظي، فالمستقبل ومتطلباته ومتقلباته يدعونا أولا أن نعمّق تفكيرنا ونظرتنا لكل الأمور، ومن ثم نعلم الطلاب التفكير والتأمل العميق فيها، ومن ثم إصدار الأحكام.

التدفق المعلوماتي الهائل اليوم فسح المجال للطالب أن يأخذ دوره ومكانته ويستفيد من العلوم والمعارف، وقد يتفوق على المعلم في هذا المضمار.

(يتبع)

***

إنتزال الجبوري - باحثة

....................
1- صبحي، هبة. موقع كوركت منصة الاختبارات الإلكترونية(18 سبتمبر/2022).
2- أنظر: العبد، نسرين. موقع موضوع (22 أغسطس 2022).
3- نفس المصدر.
4- كانط، مصدر متقدم، ص92-93.
5-
6- العبد، نسرين. مصدر متقدم.
7- نفس المصدر.
8- صبحي، هبة. مصدر متقدم.
9- نفس المصدر.
10- أنظر: دورهام، كريستين. تنمية الإبداع عند الأولاد في خمس خطوات سهلة. ترجمة: فاتن صبح. بدون مكان النشر: بدون تاريخ، ص261، 262.
11- أنظر: رسل، برتراند. مصدر متقدم، ص168-178.
12- أنظر: رسل، برتراند. في التربية. مصدر متقدم، ص168.
13- أنظر: صبحي، هبة. مصدر متقدم.
14- دورهايم، كريستين. مصدر متقدم، ص257.
15- نفس المصدر، ص258.
16- نفس المصدر والصفحة.
17- نفس المصدر، ص259.
18- أنظر: دورهام، كريستين. مصدر متقدم، ص250-251.
19- نفس المصدر، ص251-252..
20- حجازي، مصطفى. الصحة النفسية. مصدر متقدم، ص245-246.
21- كانط. مصدر متقدم، ص33.

 

ثانيا: التعليم الحديث

ثلاثة موارد إن لم تكن أكثر تخص التعليم الحديث يمكن تسليط الضوء عليها؛ هي:

1- إيجاد المحيط التعليمي الملائم؛ 

2- طرق التعليم الحديثة؛

3- تنمية التفكير لدى الطالب.

1-إيجاد المحيط التعليمي الملائم:

لإيجاد المحيط التعليمي الملائم ثمة شروط نطرحها لترتقي فيه شخصية المعلم والطالب؛ والشروط هي:

أ: التأكيد على مناهج التربية وعلم النفس درساً وتطبيقاً في معاهد المعلمين، وكليات التربية، والكليات الأخرى، ليتسنّى لخريجيها تحقيق الاستفادة القصوى منها أثناء التعليم كونها من مكملات عملية التدريس التي تنطوي على عقبات كثيرة. مادة علم النفس مهمة كونها الأساس الذي يرتكز عليه علم السلوك والأخلاق التي يُتعامَل بها مع الطلاب الذين هم مختلفون بكل شيء، بالطباع، والتربية، والعادات، والسلوكيات التي تلقوْها عن آبائهم، والبيئة التي نشأوا فيها؛ فكل طالب مزايا وسمات لا يشبه بها غيره من زملائه. وبناءً عليه إذا كان علم النفس واجبا تلقّيه على كادر التدريس، فإنه يجب التعاطي بجانبه الخاص بالطفولة والفتوة في مقطع رياض الأطفال، والتعليم الابتدائي، والخاص بالمراهقة والشباب في مقطع التعليم المتوسطي والثانوي. وتربية ونشأة وبيئة الكادر التعليمي نفسه وطبيعتها في التعاطي مع الطالب أيضا لها أبلغ الأثر في شخصية الطالب على المدى البعيد سواء بالإيجاب، أو السلب.

أن تكون المدرسة الحديثة بيئة موائمة للقيم والأخلاق الفاضلة تعزز الرفاهية النفسية والعاطفية للطالب، بتوفير موارد وبرامج على الصعيد النفسي والأخلاقي. العلاقة بين المعلم والطالب ينبغي أن تكون علاقة إيجابية ليكون لها أكبر الأثر في نمو وارتقاء الطالب على الصعيد العقلي والنفسي والأخلاقي، وتعليم مهارات التعامل مع الضغوط. هذا يشمل توفير الإرشاد النفسي من قبل مرشد تربوي متخصص في علم النفس والأخلاق. كما يمكن للأسرة التعليمية من استخدام أساليب التربية الإيجابية اللينة المدعومة بالصرامة، وليست العقوبة القاسية التي يكون لها مردود سلبي على نفسية الطالب. إن تلك الأساليب تمكّن الطالب من النمو السلوكي والعاطفي والنفسي والعقلي نموا صحيا إيجابيا.

ب-: يتعين على الكادر التعليمي الانخراط في دورات تدريب وتعليم العلوم والمعارف وكيفية توظيفها في عملية التعليم، وتعليم مهارات تقنية طرائق التدريس عبر تكنولوجيا المعلومات حتى يمكنه تطبيقها مع نفسه، ومع الطالب بنجاح.

ج: إعداد كادر تعليمي متميز ذي كفاءة عالية في البرمجيات الالكترونية لتعليم الأبناء فن الاستفادة من تكنولوجيا المعلومات عبر تطبيقاتها في أجهزة الحاسوب، وأجهزة الاتصال الأخرى، وغيرها.

د: تطوير النظام التعليمي والتربوي تبعا لتطور العالم الرقمي؛ بما في ذلك تغيير المناهج الدراسية من الابتدائية إلى الجامعة. وهذا يقع على عاتق وزارة التربية والتعليم، والتعليم العالي والبحث العلمي.

هـ: إطلاق الحريات للمجتمع التعليمي التربوي لكي يفكر بحرية، ويطلق قناعاته بحرية، ويبدع، ويطرح آراءه ومقترحاته بحرية في الاجتماعات الخاصة، دون استخدام القيود، لأن القيود تكبّل الكادر التعليمي، وتكبيله يعني تكبيل الطلاب، وهم جيل التكنولوجيا، لا يحده منزل، أو مدرسة، أو مجتمع، أو غيره، فالجيل يحب التعبير عن نفسه وقناعاته وآرائه بحرية، وهو جيل المستقبل المسؤول عن رسم خريطة بناء الأوطان؛ البناء الحر المبني على القانون المدني الصارم الذي بنوده العدل، والحرية، والمساواة، ومراعاة حقوق الإنسان، وأخلاق المواطنة الصحيحة.

و: تطبيق القيم السلوكية في المحيط التعليمي

المدرسة في التعليم الحديث هي مؤسسة تربوية تهذيبية قبل أن تكون تعليمية، ومعناه تجمع بين التعليم والتربية الأخلاقية. التربية الأخلاقية ينبغي أن تؤخذ بنظر الاعتبار منذ بواكير الطفولة لأن إهمالها سوف يؤدي إلى تجذر أخطاء كثيرة في نفس الطفل، فالتربية الجسدية والعقلية والأخلاقية تبدأ منذ الصغر. ويقع على عاتق المربي الحقيقي زرع كل البذور الخيّرة في نفوس الناشئة التي فيها تنمو ذواتهم نحو فعل الخير، فالآمال معلقة على المعلم، ومن يتولى مهمة التعليم والتهذيب، وتلقين الطالب الخلق الفاضل، واحتواء الاختلاف والتعددية في وجهات النظر بين الطلاب.

يمكن للمؤسسة التعليمية تخصيص برنامج لتهذيب وتطبيع الطلاب على العادات والسلوكيات السليمة؛ كأن يكون برنامجا أسبوعيا؛ يتولاه متخصص تربوي عبر وسائل مختلفة كشاشات العرض المدرسية، أو الكراسات الصغيرة، أو المواقع الإلكترونية الهادفة الخاصة بالتربية والتهذيب من متخصصي التربية وعلم النفس. في هذا المضمار يطرح رأيه الفيلسوف كانط قائلا: "ينقص معظم مدارسنا تقريبا شيء قد يكون مفيدا لتنشئة الأطفال على الاستقامة: كتاب تعليم من أجل المسلك الصالح. ينبغي لهذا الكتاب أن يحتوي في شكل شعبي على الأسئلة اليومية عما هو صحيح وما هو خطأ.. فإذا وجد من هذا النوع يمكننا الاستفادة منه فنخصص له ساعة في النهار لدراسته، بحيث يستطيع الأولاد أن يتعلموا منه التصرف الصحيح، تماما كعين الله الساهرة على الأرض"1.

نطرح نماذج للقيم السلوكية في المحيط التعليمي – مثلا- تعليم الطالب الطاعة المطلقة للأبوين والمعلمين تحضّره في المستقبل ليكون فردا مطيعا لقوانين الدولة، ومواطنا مخلصا مستقيما.

غرس قيمة المحبة في نفوس الناشئة، وبينهم وبين الهيئة التدريسية؛ فالمحبة أس أساسيات الجمال في أي مشروع من مشاريع الحياة المختلفة. تفعيل قيمة المحبة في عملية التعليم تبني صداقة ودية بين المعلم وطلابه؛ ما يؤدي إلى زيادة درجة التوافق والانسجام بينه وبينهم، من حيث إشباع دافع الانتماء لمؤسسة التعليم عند الطلاب، واكتساب موجهات السلوك وتوظيفها في حياتهم اليومية، وفي تعاملهم مع المجتمع العام. يمكن للمربي من غرس الحب والتسامح في نفوس الطلاب -مثلا- من خلال النشاط القصصي الذي يوضح أهمية قيمة الحب في حياة الناشئة ويضرب لهم الأمثلة؛ مثل حب الابن لأبويه، وحبه لمعلمه ومعلمته، وأخوته، وزميله، ويسوق لهم المبادئ الدينية، والقيم الاجتماعية. لإيقاظ الحب في نفوس الطلاب يجب على المعلم أن يسبغ بحبه على طلابه لا أن يتجرد منه تحت عنوان الحدية والصرامة؛ العلم المدعوم بالحب يبني عالما أفضل؛ نتاجه جيل مفعم بالحب ذو عقل فتي حيوي. إذا كان العلم موجودا فإن عدم توفر الحب يقف عائقا دون تطبيقه بالصورة الأسلم، لأن عدم التطبيق يعني نتاجه جيلا خائفا، مترددا، وأحيانا قاسيا.

ومن الحكمة أن تشيع المحبة في نفوس الطلاب لكي تكون دنيا المعرفة حرة كاملة دون أن تخبئ زوايا مظلمة، فإن الحكمة في بث المحبة تجعل التعليم أقرب الى اللذة والسرور منه الى التعاسة والشقاء. ومن الأفضل أن ينطلق الحب والشفقة والرحمة من القلوب المعلمة، فالقلوب المحبة إذا استثمرت المحبة في التعليم فإن الطلاب الأكثر فطنة وذكاء يتممونها، والجيل الذي يُربّى بغير خوف سيكون أكثر جرأة وشجاعة في تحقيق آماله، ومن ثم في بناء عالم أفضل في المستقبل2. يوم كنا طلابا في المراحل الابتدائية والمتوسطة كنا نحب المواد الدراسية تبعا لحبنا للمعلم أو المعلمة، فإذا كان المعلم عنيفا معنا لا نحب مادته، ونعد الدقائق لتنتهي الحصة الدراسية.

وفي الجانب الاجتماعي يُروّض الطالب على الأخلاق الاجتماعية العامة، والعادات، والأفكار، والسلوكيات المنضبطة التي على رأسها احترام الهيئة التدريسية بكل أعضائها، وحفظ هيبة وكرامة واحترام شخصية المعلم، والتزام الأدب وعدم خرق الحدود معه أو التجاوز عليه، وتطبيق عقوبة صارمة بحق الطالب الذي يرتكب خطأ الاعتداء على المعلم والحط من كرامته.

من أجل بث روح التعاون تشجع المعلمة الأطفال على اللعب الجماعي في الأنشطة الحركية، والرسم والتلوين الجماعي في الأنشطة الفنية، وتدعم هذه القيمة من خلال التحفيز المادي والمعنوي للأطفال لتنمي في نفوسهم قيمة التعاون، وكيفية التعامل مع المواقف الحياتية التي تتناسب مع القدرات العقلية للأطفال.

ومن تطبيقات قيمة التعاون في صفوف الطلاب -مثلا- تعقد المدرسة اجتماعات أسبوعية أو شهرية لهم خارج البرنامج المدرسي للمشاركة الاجتماعية الفعالة؛ كأن تكون مناسبة مهمة وطنية أو غيرها؛ يتداولون فيها الأفكار والآراء والمسؤوليات، والتطلعات، ويطرحون فيها الموضوعات الهامة، ويحصدون النتائج المترتبة على هذه الاجتماعات، وهكذا تنمو في نفوسهم روح التعاون والتضامن والعطاء الجمعي؛ واستيعاب الاختلاف، وتنوّع الأفكار والآراء، والحوار المشترك. بعد الورش الفكرية الجماعية تلك يمكن لإدارة المدرسة من إقامة مسابقات تُمنح فيها الجوائز والهدايا للطلاب الفائزين، وغيرها الكثير من الأنشطة المدرسية التي تساهم في بث روح الجماعة لدى الطلاب، والخروج من حالة الانطوائية الشخصية والأنانية والتمحور حول الذات. بالنتيجة سوف تتطور مهارات التواصل الفعالة بين الطلاب، وينفتح الحوار الذي يعلمهم النقد والتحليل البنّاء، والمشاركة في المشاريع الجماعية والتطوعية للارتقاء بالمجتمع المدرسي، من جهة والمجتمع العام من جهة أخرى -مثلا مساهمة طلاب مدرسة ما في غرس شتلات في مساحة من الأرض تكون حديقة عامة، وغيرها من المشاريع التي تعود بالخير على المجتمع. المشاريع الجماعية تعزز تكوين مجتمع مدرسي متماسك، ومتين، وبدوره أيضا سيكون المجتمع العام مدنيا، قويا، مثقفا، وقادرا على العطاء في كل جوانبه.

ومن تطبيقات تنمية الحس الاجتماعي تعليم الطالب كيفية اختيار الصديق، أو الانخراط في الجماعة وتعليمه فن العلاقات واختيارها؛ فالشلة لها تأثير كبير عليه، حيث تُملي عليه توجهاتها وقناعاتها. وقد يحدث أن يكون الطالب واعيا لنفسه، ويمكن أن يحقق ذاته بكل قوة وشجاعة وكفاءة كونه تلقى تربية مميزة عن عائلته؛ فيستدرك نفسه حينما لا يجد نفسه في الجماعة إذا كانت قناعاتها تباين قناعاته، لذا يحاول النأي بنفسه عنها، ويرسم لنفسه مسارا بعيدا عنها لتحقيق ذاته، حينما يدرك أن ذاته ذائبة في الشلة، خاصة في هذا الزمن الذي لا يمكن أن يكون للأهل والمدرسة من سلطة عليه. وإذا وجد الطالب المميز الواعي فإن على المدرسة احتضانه والاهتمام به وجعله قدوة لكل زملائه. وإن من يتولى التربية الاجتماعية الواعية في المدرسة ينبغي أن يكون متخصصا في الاجتماع البشري.

تفعيل الإحساس بقيمة الجمال تسعى المدرسة إلى تنميتها في نفوس الطلاب سواء على الصعيد الفني الصوري الظاهري؛ مثلا الاهتمام بالفنون المدرسية التي منها الرسم، الخط، الموسيقى، التمثيل، الحياكة، التطريز، الحفر على الخشب وغيره. واستخدام الوسائل المرئية والمسموعة والمكتوبة؛ خاصة نحن في عصر الإنترنيت؛ والاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الإلكترونية الكثيرة في هذا المجال. أما على الصعيد الباطني الجمالي؛ تعليم الطالب الهدوء، والتروي، والتأمل في الذات الخاصة، أو التأمل في منظر طبيعي، أو لوحة فنية، واستجلاء معاني الجمال فيها، والسكون في كل ألوان الفنون، فضلا عن تلقينه إرشادات الاهتمام بنظافة ونظام المدرسة- مثلا- تغرس المعلمة في نفوس الأطفال في الروضة قيمة النظافة بأن تحثهم على إلقاء النفايات في سلة المهملات، وعدم إلقائها في قاعة النشاط وتبين لهم أهمية النظافة بالنسبة للمكان الذي نجلس فيه. ويمكن للمدرسة من إقامة مسابقات ومنح الجوائز للطلاب الفائزين بالحفاظ على الجمال الشكلي والباطني لأنفسهم، ومحيط المدرسة؛ لتحفيز مواهبهم وطاقاتهم المخزونة، واستخدامها في حقول الفن والجمال المتنوعة.

أما بالنسبة لعقاب الطالب إن أخطأ فإن الكثير من الآباء والمعلمين يرون أن عزل الابن أو الطالب العنيد في مكان خاص لتأديبه هو ليس عنفا بل تأديبا له أو إهانته أو إذلاله، لكن هو إيذاء نفسي خطير عليه؛ ظنا منهم أن التأديب هو العقاب، لكن هذا ليس صحيحا؛ فالتأديب لغويا يعني الأدب الذي هو حسن الخلق، وهو صفة إيجابية. بينما العقاب لا يحمل أي صورة إيجابية، بل مردوده سلبي على الطالب. التعامل مع الطالب العنيد والصعب مرهق جدا وكل يوم تزداد حوادث العنف المدرسي مع الطلاب ذوي التصرفات الصعبة والعنيدة. إن عزل الطالب لوحده في زاوية الصف، أو في غرفة ضيقة يكرّس لديه التصرفات الصعبة العنيدة، وتزيده إصرارًا على ارتكاب المزيد منها، وتصيبه بالإحباط والاضطراب، بالنتيجة العزلة العقابية يكون مردودها سلبيا عكس الاستراحة التأديبية الإيجابية3، التي أوردناها في موضوع التربية الحديثة. إذن فإن عقاب الطالب في التعليم الحديث يُتّبع فيه أسلوب الاستراحة الإيجابية؛ حيث يُترك الطالب في مكان الاستراحة ليفرغ غضبه وسوء سلوكه، واستدراك خطأه وتقصيره في واجباته، ومن ثم يعود هادئا، ولا يكرر الخطأ لاحقا.

أسلوب القسوة الواجبة في عملية التعليم التي تطبق في بلداننا تزرع الخوف في نفوس الطلاب لحثهم على أداء الواجب بأحسن وجه، والقسوة يكون نتاجها جيل قاس يهوى الحروب، ومن ثم عسكرة البلدان؛ والعلم مهيّأ لأن يقتفي أي الخيارين، الحب، أو البغض.

أما سوء الخلق فإن على المربي تحذير الطلاب منه كالكذب والسرقة والغش والنميمة والعصيان، وحثهم على تجنبه بكل صوره، وتعريفهم أضراره والنتائج المترتبة عليه من خلال النشاط القصصي، ثم إظهار جوانب العقاب التي يتعرض لها سيء الخلق في الدنيا والآخرة حتى يتجنبها الأطفال ويعرفون خطورتها وأضرارها.

لكي نبني بيئة تعليمية تربوية كفوءة على المربين آباء وأمهات أن يكون لهم مشاريع المشاركة الفعالة مع المدرسة، فالمدرسة ليست فقط المسؤولة عن تربية الابن إنما لا بد للأهل من دور. ومن الممكن تكثيف التعاون بين البيت والمدرسة بالاجتماعات الهادفة لتطوير المحيط التعليمي، ومن ثم توجيه الطلاب وتهذيبهم خاصة في فترة المراهقة التي تتطلب المزيد من جهود الأهل والكادر التعليمي وحثهم على مزاولة الأنشطة الرياضية، والانخراط في دورات تعليمية في مختلف المهن والفنون، حتى تُملأ أوقاتهم، ويجتازون فترة المراهقة بسهولة.

إذا توفّرت هذه الشروط -حسب الظن- في المحيط التعليمي فإن شخصية الطالب تنمو في ظل المدرسة بأمان؛ وشخصية المعلم ترقى، ويكون محبا، محاورا، وقادرا على أداء رسالته بالوجه الحديث؛ والتربية المدرسية ستكون تربية علمية عملية، فيها ينخرط الطالب في مجال العمل الجاد. ومن الواجب أن تتطور قدراته بالتعليم، وبدونها سيكون غير قادر على اكتساب المعرفة في الأمور العملية للحياة، لتتكيّف مع طبيعة العمل والمهنة التي يمارسها في المستقبل اعتمادا على الرأي القائل: "إن الذكاء عند الكائنات الإنسانية هو الملكة التي تستحق أكبر قدر من التقدير". وأخيرا سوف يكون نتاج المدرسة طلابا كفوئين، متميزين، وأعضاء نافعين في المجتمع على كل الصعد، فكلما ارتقت المدرسة ارتقى المجتمع تبعا لها. والمجتمع المدرسي سوف يكون في المستقبل هو مجتمع المثقفين، والمفكرين، والقادة السياسيين المسؤولين عن بناء الأوطان.

(يتبع)

***

إنتزال الجبوري - باحثة

.....................

1- كانط، مصدر متقدم، ص101-102

2- رسل، برتراند. في التربية، مصدر متقدم، ص163-164، وص213-214.

3- أنظر: جان، نيلسن. التأديب الإيجابي. مصدر متقدم، ص19-20

 

ليس من قبيل الصدفة ان يشعر الناس عموما بالتقرب الى الله عند الشدائد وفي الويلات والمصائب، وذلك لما ترسخ في الوعي واللاوعي من أفكار مفترضة عن الله باعتباره الملاذ الرؤوم والمنقذ الجبار والحامي الرحيم. ان موضوعة الايمان بالله، باعتباره القوة الهلامية المجهولة الهوية التي خلقت الكون والقادرة على كل شيء يمكن ان يتصوره الانسان، جاءت وتأتي نتيجة لعاملين أساسيين هما الخوف والجهل، وكذلك شعور الانسان المتأصل بالضعف ومحدودية امكاناته إزاء قوى الطبيعة والمجتمع. وهذا ما استند اليه اغلب العلماء والفلاسفة، قديما وحديثا، من ديڤد هيوم ولدڤك فيورباخ وبرتراند رسل الى  ستيڤن هوكنگ وريچرد دوكنز.  خوف الانسان هو خوفه من كل ما يهدد وجوده وأمنه وسلامته. الخوف من الموت والاخطار والكوارث، من المجهول، ومن الجوع والظلام والظلم والخوف من الهزيمة ومن عشرات الأسباب الأخرى. وهذا اقوى ما يفسر لجوء الانسان الى الرغبة في ان يكون محميا. وهنا جاء دور الأديان لترسيخ فكرة الحماية والرعاية من قبل تلك القوة الجبارة وتعميقها في العقل والضمير الجمعي، إضافة الى استغلالها لتنفيذ أغراض تلك الأديان الأيديولوجية. فمثلا معصية او طاعة ذلك المنقذ والحامي الجبار اوجب نظام العقاب والثواب الذي برر للمؤسسات الدينية التسلط والتصرف بانها وكالات الله في الأرض. 

لقد درجت عموم الاديان السماوية على اعتبار الايمان بالله مسألة مسلم بها ولا جدال فيها، وهي عمومية شاملة لا يخرج عن اطرها المفترضة الا الشواذ الندر الذين يضلون طريق الصواب. وبهذا يفترض في المرء ان يولد ويتربى مؤمنا بدين اهله ومجتمعه، وبكل ما يتصل به من عوالم الغيب والروحانيات وكل الظواهر الميتافيزيقية. وليس هناك اي مجال لمناقشة هذا الحقل الفكري عموما، او اي حرية لما قد يميل اليه الافراد باي شكل يخالف فكريا ذلك الافتراض، فضلا عن عدم وجود اي امكانية للانكار وحتى التشكيك بذلك الايمان بسبب رفض المجتمع القاطع الذي يؤدي لامحالة الى التعارض الجوهري بين الفرد ودينه وثقافة وتقاليد مجتمعه، والذي قد ينتهي الى الحكم على ذلك الفرد بالخطيئة الكبرى وما تجر عليه من نتائج وخيمة قد تصل الى الموت.

ولا شك فان هذه المسألة، اذا ما اعتبرنا المنطق العلمي المعقول، لا ينبغي ان تكون بهذه الحدية وهذا التطرف، ولو شاء لنا ان نزيل خطر العقاب الدنيوي الذي تفرضه المؤسسة الدينية على كل من يتجرأ على التصريح بالالحاد أو التشكيك بوجود الله وحتى طرح الأسئلة للمناقشة لوجدنا ان الغالبية العظمى من الناس ستقع في حقل عدم القدرة على البت بهذا الامر او ذاك، ولربما سيعلن الكثير الاعتراف بعدم اهمية الجدال وعدم جدواه في خضم حياة الانسان المعاصر التي تهيمن عليها اولويات حاسمة اخرى. ومن هنا فلا بد لنا من فهم واستيعاب المذاهب الفلسفية التي وضعت نفسها بين الجهتين المتطرفتين، جهة الايمان المطلق الذي لا شك فيه، وجهة الالحاد المطلق الذي لا غبار عليه. يتخذ هذا الامر شأنا أكبر اذا عرفنا الحقيقة الاحصائية الثابتة للتوزيع الطبيعي للظواهر الطبيعية والاجتماعية التي تشير الى ان واقع هذين الجهتين المتطرفتين قد لا يتعدى في افضل الظروف ان يتجاوز نسبة ال 3% لكل منهما من عموم الآراء اذا ما اجري الاستفتاء وضمنت الحرية المطلقة للبوح بما في الدواخل دون خوف او تردد. فاذا افترضنا ان مسألة الايمان تخضع الى التوزيع الاحصائي الطبيعي، سيمكن لنا ان نلاحظ في الرسم البياني التالي ان موقف المؤمن المتوسط بين الطرفين يشكل اعلى النسب في المجتمع، ذلك ان أكثر الناس يميلون الى اتخاذ الموقف المعتدل. تأتي بعد ذلك وبالتناقص نسب الافراد الذين اما يميلون اكثر الى التصديق او يميلون الى التشكيك الى ان تتناقص النسبتين الى ما يقارب %2.27 على طرفي التوزيع للذين اما لديهم الايمان الراسخ الذي لا يتزعزع ، او الملحدين ذوي المواقف الصلبة الثابتة في الحادهم. وبهذا فان نسبة 95.46% من السكان تقع بين الطرفين.992 Faith and atheism

يصنف عالم البايولوجيا البريطاني رچرد دوكنز Richard Dawkinsمواقف الناس الفلسفية بين  الايمان بوجود الله والالحاد به الى نسب مئوية تقريبية:

1. المؤمن القح الخالص الذي يصف ايمانه بوجود الله بنسبة 100%، وهو الذي يقول بثقة عالية انه لا يؤمن فقط بشكل عابر، بل يعلم علم اليقين بوجود الله.

2. المؤمن الواقعي الذي يصف ايمانه بالله بنسبة عالية لكنها اقل من 100% والذي يصرح بانه رغم عدم امكانيته بتأكيد وجود الله لكن لديه اعتقاد قوي بانه موجود وينبغي ان نحيى حياتنا بموجب ما يريده الله من عباده.

3. المؤمن بين- بين الذي يرجح احتمال وجود الله فعلا ويعطي ذلك الاحتمال أكثر من 50% ولكن ليس بكثير.

4. المؤمن الحيادي الذي تتساوى لديه احتمالية وجود الله من عدمه. فكلاهما يأخذ 50%، ولذلك فهو لا يستطيع ان ينحاز الى أحدهما ضد الآخر.. أي انه يقف تماما على الخط الفاصل بين الايمان والالحاد.

5. المؤمن الشكّاك الذي يجد نفسه يميل قليلا الى عدم الايمان فيعطي مسألة وجود الله احتمالا بنسبة اقل من 50%

6. المؤمن الإسمي وهو المحسوب على الايمان اسميا لكنه في الحقيقة يمثل احتمال وجود الله بنسبة واطئة جدا.

7. الملحد الذي يجزم بعدم وجود الله ويعطي ذلك نسبة 100% فيما يعطي صفرا لاحتمال وجوده.

والملفت للنظر والتأمل هنا هو ليس أيا من هؤلاء يستطيع اثبات ما يعتقد، ذلك ان مسألة وجود الله مسألة عويصة وقد كانت وماتزال تشغل العلماء والفلاسفة. فبغياب البرهان لا يبقى سوى الاعتقاد الشخصي. وهذا الاعتقاد نادرا ما يكون مستقلا تماما، اذ انه يعكس بدرجة عالية النشأة والتربية، وطبيعة المجتمع، وموروثاته، وقوانينه.

من الجدير هنا ذكر بعض مصطلحات المواقف الفلسفية التي يتخذها الافراد والجماعات حول الايمان والالحاد. هناك أربع مصطلحات رئيسية متداولة في الادب المعني بهذا الموضوع ينبغي التفريق بينها:

- الگنوستية Gnosticism تصف موقف الذين يدعون انهم يعلمون، وقد سمي هذا الموقف، خاصة في ثقافة الدين المسيحي، "مذهب العرفان"، ومصدر المعرفة التي يدعونها هنا هو مصدر روحي غير مادي.

- الأگنوستية Agnosticism تقف على العكس تماما من سابقتها، فهي لا تدعي المعرفة الروحية، بل انها تصرح بعدم درايتها بأمر الوجود والخالق. ولذا فهي لا تستطيع ان تبت بمسألة وجود الله او عدمه. ومن هنا تسمى بـ مذهب اللاأدرية.

- الإگنوستية (بكسر الهمزة) Ignosticism  التي تهتم بما إذا كان هناك انسجام او توافق في منطق الايمان بالله وفي مواقف ومناقشات هذا الموضوع.

- الأپاثية Apatheism التي تهتم بسؤال "هل هناك ضرورة عملية لمناقشة مسألة الايمان والالحاد وإنفاق الوقت والطاقة في هذا المجال"؟، الأمر الذي قد يترتب عليه تحول العلاقات الطيبة الى سيئة وخسران الأصدقاء والاحباب ونشوء الأحقاد والعداوات وحتى وصول الامر الى قاتل ومقتول.

- الپانثية Pantheism وهي مذهب توحيد الوجود الذي لا يفرق بين الله وقوى الطبيعة والكون عموما.

- الديزمية  Deism التي تسمى بالعربية "الربوبية"  التي تقر بالإيمان بالله وحده دون الايمان بالأديان السماوية والانبياء.

يعتبر موقف الأگنوستية الفلسفي من بين اهم المواقف الفلسفية حيادا وعقلانية تجاه أكبر واهم وأخطر قضية فلسفية على طول التاريخ الانساني وهي قضية الايمان بوجود الله او الالحاد به. تستمد الأگنوستية مبررات حياديتها وموضوعيتها مقارنة بالمذاهب او المواقف الفلسفية الاخرى في قضية الوجود من كونها، قبل كل شيء، ليست موقفا الحاديا انما موقفا عقلانيا صريحا في اعلان عدم المعرفة بسبب غياب الادلة. انها لاتنكر وجود الله والغيبيات والروحانيات انما تلقي بظلال الشك عليها لسبب بسيط يتلخص باعتقادها بان الانسان المعاصر، ومهما بلغ التطور العلمي من مستويات عالية، يبقى غير قادر على اثبات وجود الله والروح والغيبيات الاخرى بما لا يقبل الشك. فهي اذا الفلسفة التي تضع فيصلا واضحا بين الاعتقاد والمعرفة، بين الحقيقة والوهم، وبين المادي وغير المادي. وهذا موقف مخالف تماما للالحاد الذي يقف على الطرف النقيض من الايمان بما لديه من انكار ثابت لوجود الله والاعلان بانه محض خيال، رغم عدم وجود الأدلة العلمية، بل بالاعتماد على القناعة الشخصية فقط.

ولان الحياة لا تتلون فقط بالابيض والاسود او بالنور والظلام انما تمتد عبر طبقات غير متناهية من الالوان والدرجات فان مسألة الايمان بالله والالحاد به هي الاخرى لا تسمح لنا بتقسيم السكان بين مجموعتين صافيتي النية ومسلحة بكل الثوابت. الاستنتاج العقلاني يشير الى ان الناس يتوزعون في ايمانهم او عدمه على درجات متباينة يمكن لنا ان نلاحظ توزيعها التقريبي حسب المصفوفة التالية، ومن زاوية نظر تختلف قليلا عما تقدم.

تتكون درجات الايمان والالحاد بموجب اتخاذ كلاً من العاملين في العمودين الاول والثاني، اللذين يشيران الى ان الفرد اما يؤمن أو لا يؤمن بوجود الله، واستقراء تفاعلهما مع العوامل الاخرى في الصفوف الاربعة التي تشير الى مديات الاعتقاد بامكانية او عدم امكانية الاثبات بالبراهين العلمية. وهكذا تقرأ درجات الايمان باندماج اي عامل عمودي مع اي عامل افقي، وكما يلي:

* لنأخذ اولا درجات ايمان مجموعة المؤمنين من خلال تتبع العمود الاول:

- الايمان الراسخ: يضم اولئك الذين يعتقدون بوجود الله ويعتقدون بامكانية اثبات هذا الامر ايضا.

- الايمان الاكَنوستي: يضم المجموعة التي تعتقد بوجود الله رغم اعتقادها بعدم امكانية اثباته.

- الايمان المبدأي: يضم المجموعة التي تؤمن بالله بسبب عجز اي احد عن اثبات عدم وجوده.

-الايمان الاختياري: يضم المجموعة التي تعتقد ان من الممكن اثبات عدم وجود الله لكنها تؤمن به على اية حال.

* ولو اخذنا اولئك الذين يشككون بوجود الله من خلال متابعة اتحاد العمود الثاني مع امكانات الاثبات في الصفوف الاربعة فاننا سنلاحظ مديات التشكيك على الشكل التالي:

- الالحاد المبدأي الذي يضم اولئك الذين لا يؤمنون بوجود الله حتى لو اثبت امر وجوده.

- الالحاد القاطع الجازم الذي يضم المجموعة التي لا تؤمن بالله ولا تعتقد ان هناك اي امكانية لا ثبات وجوده.

- الالحاد الاكَنوستي الذي يضم اولئك الذين يعتقدون بعجز الانسان عن اثبات عدم وجود الله لكنهم لا يؤمنون بوجوده.

- الالحاد الاختياري الذي يضم الذين لا يؤمنون بالله بغض النظر عن احتمال توفر امكانية اثبات عدم وجوده.

هناك مجموعة اخرى تفضل عدم الخوض في جدال الوجود والتركيز على عدم امكانية اثبات الوجود او عدمه، وتستنتج بان النقاش في مجال ايجاد البراهين اهم من النقاش في مسألة الايمان والالحاد، وله الاولوية عليها، وهذا الاتجاه هو ما يسمى بالاكَنوستية البراغماتية الذي ينشأ في المخطط المصفوفي من اتحاد الصف الثاني بالثالث ويهمل اعتبار العمودين. وبعكس هذا التزاوج فان التركيز على العمودين والانشغال في الجدال العقيم بين الذين يؤمنون والذين لا يؤمنون دون تمكن اي من الطرفين ان يثبت اعتقاده للاخر بما لا يقبل الشك سيؤدي الى طريق مسدود او ملغوم مما يوجب وضع قضية وجود الله جانبا لحين الوصول الى اثباتها او تفنيدها، وهذا الاتجاه هو ما يسمى بالاكَنوستية التجريبية.

استنادا لما جاء في مناقشة الفيلسوف سورن كيرككَارد في كتابه "شظايا فلسفية" المنشور عام 1844 يمكننا استنتاج عدم جدوى الجدال في وجود او عدم وجود الخالق من خلال استقراء الاحتمالات الاربعة التالية:

- اذا كان الله موجودا، فاثبات وجوده يعد عمل احمق وسخيف ولاحاجة له.

- اذا كان الله موجودا، فاثبات عدم وجوده لا يرقى الا ان يكون مغالطة فاضحة.

- اذا كان الله غير موجود، فاثبات عدم وجوده يعد ضرب من المستحيل.

- اذا كان الله غير موجود، فاثبات وجوده سيكون عملا غير شريف ولااخلاقي.993 Faith and atheism

أصل الأگنوستية:

من الناحية الايتمولوجية يتكون مصطلح الاكَنوستية (Agnosticism) من مقطعين لاتينيين :

الـ (a) التي تفيد النفي، وتلحقها ( gnosis) التي تعني "المعرفة"  ليكون معنى الكلمة "اللامعرفة".   ورغم ان فكرة الاكَنوستية تعود بجذورها الى الفلسفة الاغريقية خاصة في آثار بروتاكَورس وبايرو وكارنيدس، كما ترتبط  كمفهوم عام بالنصوص السنسكريتية في الشرق، فان اول من وضعها كأتجاه فلسفي هو عالم الاحياء والفيلسوف الانكَليزي توماس هنري هكسلي  عام 1869 بتأكيده على ان الظواهر لاتقبل التصديق الاستنتاجي الا إذا كانت مثبتة عمليا او قابلة للاثبات العلمي، وماعدا ذلك يقع ضمن مجال ما اسماه بـ الأگنوستية. علما ان نقاش هكسلي لم يكن اول الامر متعلقا بوجود الله انما كان ضمن نطاق دفاعه المتحمس ودعوته لاتباع الطريقة العلمية التشكيكية في حقيقة الظواهر لحين اثباتها او دحضها بالادلة والبراهين المادية. وقد اكد هكسلي بان الاكَنوستية ليست مذهبا او عقيدة وليس لها اي هدف في معارضة الدين انما هي طريقة للاعتقاد تقوم على ضرورة الاثبات من اجل التصديق. على ان هكسلي كان قد تحدث لاحقا عن ان الأگنوستية  تتبنى موقفا "لا ادريا" في حالات عدم توفر الادلة والبراهين لاثبات ظاهرة ما، وكان يعني في هذه المناسبة ان من الافضل التصريح بعدم المعرفة نقيضا لما كانت الكنيسة الكاثوليكية تدعي معرفة تفاصيله بكل تأكيد كمسألة الله والوجود والجنة والنار والحياة الاخرى.

أما روبرت إنكَرسول، المحامي اللامع والسياسي الامريكي الذي سمي بـ "الاكَنوستي الكبير" فقد عرف موقفه من الأگنوستية  في محاضرته الشهيرة التي القاها عام 1896 وكانت بعنوان "انا أكَنوستي، فلماذا؟" والتي اعتبرت من المصادر الاصلية لتعريف معنى الاكَنوستية.                    لقد سأل إنكَرسول نفسه خلال المحاضرة : هل هناك من يعلو على كل شئ وبيده الامر والملك ؟ فأجاب بصدق بانه لايعلم وليس لديه المعرفة الكافية بذلك كما انه لايدعي القدرة على انكار الامر او تكذيبه . ولكن مايهمه اكثر هو مالديه من ايمان واضح، وهو انه مهما تكن حقيقة الامر اعلاه فلايستطيع الدين ولاتقوى العقيدة على تغييره، ولايغيره الخوف او الامل او التمني. واكد بان من الحكمة ان يكون المرء صادقا مع نفسه ويعترف بجهله في هذا الامر، وخير لكل منا ان يسلّم بعدم القدرة على اثبات الامر او اثبات عكسه.

وكان في وقت سابق لذلك بكثير فيلسوف التنوير الاسكتلندي ديفد هيوم الذي اشار الى ان كل مايتعلق بالكون وظواهره لابد ان يكون مشوبا بالشك حتى عند العلماء المختصين الذين لهم القدرة على الاتيان بنظرياتهم الشخصية حول هذه الظاهرة وتلك. ومن هنا تأتي اهمية الطرح والصياغة اللغوية في وصف الاحداث والاقوال عموما والتي تقتضي الاشارة جهد الامكان الى ان مايتكلم حوله العالم انما حسب اعتقاده المدعوم ببعض البراهين لكنه لايرقى باي حال من الاحوال الى ان يكون الحقيقة المطلقة الا اللهم اذا كان الكلام عن الظواهر التي لاجدال فيها كشروق الشمس وغروبها. لابد ان يأخذنا هذا المنعطف الى مااعتدنا عليه من صياغات غير دقيقة في طرح الامور خلال النقاشات وفي المقالات والتقارير وحتى في الاطروحات والبحوث العلمية التي يكتبها المختصون. وما يميز عدم دقة الطرح هو وضع التصريحات ووصف الاحداث وكأنها الحقائق المطلقة. والحال هو ان من الحكمة ومن الواجب ان يصاغ الاسلوب بطريقة لاتشير بان مانقول ونكتب هو الحقيقة المطلقة حتى لو كان التحدث عن ظواهر واحداث معروفة وشائعة بحيث جعلها الزمن  تبدو وكأنها الحقائق المطلقة، ولنأخذ مثالا على ذلك:

الشائع لنا ان نقول، على سبيل المثال، العبارة التالية: "ان ملك العراق غازي بن فيصل قد وافاه الاجل اثر حادث مؤسف عندما اصطدمت السيارة التي كان يقودها باحد اعمدة الكهرباء". والاكثر دقة وحيادا وأمانة وانصافا ان نسبق هذه العبارة بما يبعدها عن كونها الحقيقة المطلقة بل يضعها في نصابها الواقعي كأن نقول " تشير الوقائع المتوفرة لدينا لحد الان الى ان ملك العراق ...الى آخر القول . أو نقول "استنادا الى اطلاع الكاتب على ماتوفر من صور وتصريحات لشهود العيان وتتابع الاحداث يبدو ان ملك العراق .... الى آخر القول. ثم يكون الختام بإرجاء حقيقة ما حدث الى ما يوفره التقرير الرسمي الذي سيصدر عند اكمال التحقيقات اللازمة.

ولرب سائل يسأل: اليس الصور الفوتوغرافية وشهود العيان ادلة ثابتة دامغة عن الحدث؟ الجواب هو انه طالما هناك مجال للشك، حتى لو كان ضئيل جدا، كأن يكمن في امكانية تحوير الصور او تغيير الوقائع والمبالغة والتهويل في افادات شهود العيان، فان الحدث لا يمكن ان يعتبر الحقيقة النهائية، انما حقيقة مشروطة بما توفر من ادلة وقتذاك.

أما برتراند رسل، الفيلسوف الانكليزي الذي عاش قرابة قرن من الزمن وقدم مساهمات فذة في الفلسفة والرياضيات والمنطق، فقد اباح بموقفه الأگنوستي عام 1927 عندما نشر الكراس الشهير بعنوان "لماذا لا اعتبر نفسي مسيحيا" الذي نسف فيه التعاليم والتقاليد المسيحية وتحدى مصداقيتها فيما يتعلق بمسألة الوجود ودعا فيه القراء الى الصدق مع انفسهم في الاجابة على سؤال الوجود بحرية كاملة فكتب:

"قف على قدميك بجرأة وتأمل العالم الذي من حولك بحيادية وانصاف وبذكاء متحرر ودون تردد او خوف".

اما في عام 1939 فقد ذهب ابعد من ذلك حين القى محاضرة بعنوان "انا ملحد" التي قال فيها ان سؤال الوجود الازلي يأتي عادة بشقين: هل ان الله موجود؟ ومن هو؟ ولكن اذا كان الجواب بالنفي على الشق الاول فانه سيلغي تلقائيا الحاجة الى الشق الثاني فضلا عن الغاء الاجابة عليه. لكن رسل اوضح الفرق الفني بين مفهومي الاكنوستي والملحد عام 1947 عندما قال ان الاول يناسب المنطق الفلسفي ويصلح اكثر للجمهور الذي يعي الفلسفة اما الثاني فانه يناسب منطق الشارع ويصلح استخدامه لعوام الناس. وقد يختلف الكثير من المفكرين مع رسل في هذا التفريق الذي سيكتسب حساسية عالية في ثقافات اخرى حيث ان مفهوم الاكنوستية يتضمن مجرد التشكيك والاعتراف بعدم وجود المعرفة الكافية للاجابة على سؤال الوجود، اما الالحاد فيفيد النكران الايجابي التطوعي لوجود الله وهو بهذا اثقل بالخطايا في اوساط التقاليد الدينية من المفهوم الاول.    

رهان پاسكال:

قبل قرنین مما جاء به هكسلي حول الاكَنوستية انشغل الفلاسفة والمفكرين باطروحة باسكال، الفيلسوف وعالم الرياضيات والفيزياء الفرنسي، حول جدال الوجود والتي سميت برهان باسكال. لقد صاغ باسكال خلاصة الجدل بين المؤمنين والملحدين والمشككين في ما اصبح فيما بعد البذرة الاولى لنظرية القرار والاساس الاولي لنظرية الاحتمال الرياضية-الاحصائية. ويتلخص رهان باسكال بترتيب احتمالات نتائج الجدل والوصول الى افضل استنتاج في ظل التسليم بان كلا من الطرفين عاجز عن اثبات اطروحته بالادلة والبراهين، وان ماتبقى هو الاذعان الى النتيجة المنطقية التي سيفضي اليها الجدال حين يتشبث الطرفان بمواقفهما دون القدرة على دعمهما.

المصفوفة التالية تلخص المعنى العام لرهان باسكال:

* اذا كان الفرد يجادل لصالح وجود الله فانه يضع نفسه في نهاية المطاف امام احتمالين، لا غير:

1.  ان صح الاعتقاد وظهر ان الله موجود فعلا، فسينال هذا الموقف سعادة الدنيا وجنة الآخرة (حقل رقم 1 في المصفوفة).

2. وان ظهر بان الله غير موجود، فلن يخسر هذا المرء اي شئ على الاطلاق (حقل رقم 2).

* اذا كان الفرد يجادل لصالح عدم وجود الله، فانه سيضع نفسه امام الاحتمالين التاليين:

3. ان صح الاعتقاد وظهر ان الله موجود فعلا، فسيكون ذلك موقف الكفر والخطيئة والالحاد ولاينال الفرد به سوى تعاسة الدنيا وجحيم الآخرة (حقل رقم 3).

4. وان ظهر بان الله غير موجود، فلن يخسر المرء اي شئ (حقل رقم 4).

فإذاً، وباتباع المنطق العقلاني في مقارنة الاحتمالات الاربعة، سيكون الخيار قائم على مقارنة الاحتمال الاول مع الاحتمال الثالث، الامر الذي يؤول الى ان الاحتمال الافضل هو رقم (1)، وبهذا فمن الحكمة ان يكون الانسان مؤمنا باي حال من الاحوال.994 Faith and atheism

ا. د. مصدق الحبيب – باحث اكاديمي

لا شك أن بناء دولة مؤسسية، تعتمد على المؤسسات والأطر الإدارية الحيوية. وأبناءها يتنافسون بسلاح الكفاءة والإمكانات في سبيل إعلاء شأنها وتحقيق غاياتها. يُعد من الأهداف النبيلة التي يسعى إليها المواطن الواعي بمصالح حاضره ومستقبله، والمدرك لمتطلبات النهوض المتكامل في هذا العصر.

دولة تتجاوز كل نقاط التوتر التاريخية والطائفية والعرقية والقبلية، من أجل بناء وحدة وطنية حقيقية، قوامها القانون الذي لا يفرق بين مواطن وآخر إتكاءاً على عرقه أو قبليته أو انتماءه التاريخي. بل هو قانون يصهر كل هذه التنوعات، ويجعل كل مواطن ينتمي إلى الدولة ومؤسساتها المختلفة، بلا وسيط قَبَلي أو مناطقي (جهوي) أو مذهبي أو ما أشبه.

والدولة ككيان مؤسسي لها حضور ثابت في الجغرافيا والتاريخ والحضارة بمعنى أن الوجود الإنساني الطبيعي، لا تكتمل أموره، وتنتظم إرادات أفراده إلا بوجود مؤسسة ناظمة. وعبر التاريخ وتراكم التجربة، هذه المؤسسة تتطور وتأخذ مساحات إضــافية إلى أن وصلت إلى شكل الدولة المعاصر… إنها كيان دائم بصيغ متطوره بإستمرار.

وحتى تكون علاقة المجتمع والدولة متكاملة، بحيث أن المجتمع بمؤسساته الذاتية يقوم بدور البناء والتطوير، كما أن الدولة بهياكلها المختلفة تقوم بذات الدور.. من الضروري أن تكون العلاقة بين الطرفين وفق محددات الاحترام المتبادل بكل الأبعاد والآفاق.

وان غياب هذه المحددات، يؤسس على الصعيد الواقعي حالة عجز عميقة عند المواطنين. مفادها هو تقلص الشعور بأنهم ينتمون إلى وطن واحد وهوية وطنية مشتركة.

وإن بروز حالة معنية في ضرورة إبراز الخصوصيات التاريخية والثقافية عند كل طرف في الدائرة المجتمعية الواحدة، لا يشكل خطراً حقيقياً على الوحدة الداخلية للمجتمع. لأن هذه الخصوصيات ليست الشكل الوحيد والنهائي للتعبير عن إنتماء الإنسان إلى تاريخ محدد أو ثقافة معينة. فثمة دائرة إنتماء أخرى تشمل وتستوعب كل هذه الخصوصيات، وهو الانتماء إلى القاعدة المشتركة التي تجمع الجميع ألا وهو (الوطن).

وهو الانتماء الذي يشمل الجميع، ويفيد من كل الخصوصيات والدوائر الثقافية المتعددة، بما يطور الوطن ويثري حركته عبر التاريخ. وإن تطور الوطن مرهون بمدى القدرة النظرية والعملية، على بلورة رؤية أو نظرية وطنية، تستوعب كل الخصوصيات، وتدفع بإرادتها تجاه البناء الوطني الشامل. فالوطن في المحصلة النهائية هو إرادة جميع الخصوصيات في العيش المشترك.

وبدور الدولة في تعميق أسس السلم المجتمعي، يتسع الوطن لمدارسه المختلفة، وتباشر كل واحدة منها دوراً أساسياً في تكريس هذه الأسس وتمتين أواصر الوحدة الوطنية.

والمدرسة الفكرية أو السياسية من المستحيل أن تتحول إلى وطن بديل، لأنها عقائد وأفكار ونظم، وليست أرضاً ومكاناً وجفرافيا. لهذا ينبغي إلغاء حالة التماثل بين الوطن والمدرسة الفكرية أو السياسية..

"فالوطن مجموعة أفراد يلتقون في المكاني والبراني، ويتدبرون شؤونهم للآن وللمستقبل. وفيها يقوم الزمان على المكان فيقدسه أو يدنسه، ويفضله في جميع الأحوال.. وفيه يتعاقب الزمان على نفسه بالأحرى في حصن المكان الثابت المتصل. وتباين الطائفة الوطن، فهي نسق ينظم الشبيه إلى الشبيه، يقيم بين أعضائها وحدة جوهرية، والوطن محل مكوث المختلف إلى المختلف، يقيم بين المختلفين وحدة شكلية: مساواة مختلفين أمام القانون، وذاكرة مصطنعه بالتوافق أو بالقهر. ولذا فعن الطائفة يرتد المرء أو ينشق فينبذ أو يهدر دمه، وعن الوطن يرحل المرء أو يُفنى بالرغبة أو بفعل القانون" (1)

وفي هذا المعنى يبدو الوطن وعاءً فريداً وضرورياً، لأنه وطن التعايش والتعدد وإستيعاب التنوع وإعادة إنتاجه وحدة وطنية متينة. وينبغي أن نتذكر دائماً: أن التنوع إذا أحسن إدارته والتعامل معه، تحوّل إلى ثروة فعلية، تزيد من آفاق المجتمع وروافده الإنسانية.

وإن ضامن التنوع المجتمعي والتعدد الثقافي في الإطار الواحد، هو القضية الوطنية، التي تتسع للجميع، وتنتظر الإثراء والفعالية من مختلف دوائر التنوع والتعدد. وهذا يعني أن هذه الدوائر في علاقاتها مع بعضها تتجاوز العناوين العصبوية الضيقة، إلى رحاب المواطنة التي يشترك فيها الجميع.

"وعلاقات المواطنة وحدها تكفل للتعددية مضموناً صحيحاً، إذ هي حاصل إعادة توزيع أفراد المجتمع وفئاته داخل الكل الاجتماعي على قاعدة الولاء للوطن، والولاء للنظام المدني، فتتوزع الحقوق تبعاً لذلك على مواطنين يكون وازع السياسة والتمثيل لديهم خدمة الحق العام، لا حيازة حق العصبية وتجديده من طريق هضم حقوق عصبيات أخرى" (2).

وبالتالي فإن الدور المؤمل من الدولة في هذه المسألة، هو توفير المناخ الوفاقي والتعايشي بين شرائح المجتمع المتعدد، وحمايته من كل الأخطار التي تهدد مسيرة التعايش في المجتمع. وذلك عبر تطوير الوعي والفكر والحوار والتفاهم والتعاون، وتطوير وسائل الإدارة والتنظيم الاجتماعي، وترشيد الطاقات، وعقلنة التوجهات، وتحسن بالتالي من آليات تحقيق الوحدة الوطنية والمجتمعية.

وبدون ذلك يتدهور الوعي الاجتماعي، ويتحول من وعي وطني-انساني سليم، إلى وعي إثني أو مناطقي (جهوي) أو عشائري أو طائفي. وبهذا تتدهور كل شروط الوحدة الوطنية، وتضعف كل حظوظ وحدة المجتمع، في إطار احترام التنوع، ووفق هذه العملية تتحول الدولة إلى أداة للسلم المجتمعي، وإطار لتنظيم مصالح جميع أبناء المجتمع بدون تحيز أو ميل لمجموعة دون أخرى..

تمايز الإنتماء والولاء

ولعل من الأخطاء الشائعة التي يقع فيها الكثير، هو المساوقة بين الانتماء والولاء وكأنهما حقيقة واحدة. مع العلم أن الانتماء إلى أي دائرة تاريخية أو ثقافية أو قبلية، هو معطى موروث لا كسب حقيقي للإنسان فيه، فالإنسان لا يتحكم في القبيلة التي ينتمي إليها، كما أنه ليس بمقدوره أن يمتنع من الانتماء إلى عائلة محددة أو دين محدد. لأن كل هذه الأمور، هي معطى موروث يولد مع الإنسان، لذلك فلا دخل له به.

بينما الولاء هو خيار يتخذه الإنسان، ويرتب على ضوءه بعض المواقف والسلوكيات، وفعل وإلتزام. فالإنسان يولد في عائلة، ومن دين ولا يختارهما، في حين أنه يلتزم بوطن أو مدرسة فكرية أو سياسية..

فـ "الإنتماء وضعية طبيعية، لا تتحول إلى وضعية سياسية إلا إذا إنتقلت من حالة الإنتماء إلى حالة الولاء. فالإنتماء إلى عائلة لا يتحول إلى نظام عشائري أو ملكي إلا عندما يلتقي الأفراد على الولاء للعائلة أو لعائلة. والانتماء إلى الدين يصير مشروعاً سياسياً طائفياً أو دينياً عن طريق الولاء. والإنتماء إلى الوطن يحتاج إلى الولاء لإنتاج نظام وطني ودولة" (3).

ويمكن للإنسان أن تتعدد انتماءاته، لكنه من الضروري أن يتوحد ولائه، ولا تناقض بين تعددية الإنتماء وواحدية الولاء..

لهذا من الضروري العناية بموضوعة الأسباب الوطنية والمجتمعية الكفيلة التي تجعل مفهوم الولاء مفهوماً بناءاً ومتناسقاً مع جوهر الانتماء التاريخي للإنسان.

لأن الولاء يقوم على عقد اجتماعي يحقق الأحلام والمصالح. وإن أي خلل في دائرتي الانتماء والولاء، يعني على المستوى العملي تأسيس لمجموعة من المشاريع، إما مشاريع حروب أو مشاريع ضياع، وفقدان البوصلة الناظمة لإتجاه الحركة الاجتماعية.

فالعقد الوطني هو عبارة عن تعاقد مجموع الإرادات الوطنية ورضاءها على صيغة توافقية لإدارة شؤون البلاد والعباد، وبهذا تتضح منظومة الحقوق والواجبات في شتى الحقول.

والدولة هنا ليست أداة في يد فئة أو شريحة أو طبقة، بل هي دولة العقد الاجتماعي. بمعنى أن الدولة كمؤسسة قائمة في كيانها ووظائفها وأدوارها المختلفة على قاعدة الرضا والتوافق، وكل مقتضيات العقد الاجتماعي. فالوحدة الوطنية ليست معطى ثابت أو مسبق، بل هي عملية متكاملة تصنع عن طريق دينامية اجتماعية، تتجه بإستمرار صوب تمتين اللحمة الداخلية، وتوفير كل الأسباب التي تكرس هذه الدينامية في هذا الاتجاه.

فالتعاقد الاجتماعي يقتضي وشأنه شأن كل إتفاق "حصول على شيء في مقابل التنازل عن شيء بكيفية إرادية " (4).

وبهذا التعاقد تتشكل شخصية إعتبارية لمختلف أبناء المجتمع، ويسعى كل فرد من أفراده، إلى تمتين مبادئ هذا التعاقد وحمايته من الأخطار الداخلية والخارجية التي تهدده.

الأقليات مشكل وطني

ولعل في مشاكل الأقليات في الكثير من بلدان العالم العربي والإسلامي، إشارة إلى إصطدام دوائر الإنتماء مع دائرة الولاء.

وتأسيساً على هذه المسألة، من الضروري أن ننظر إلى مشكل الأقليات في العالم العربي والإسلامي على أساس أنها مشكلة وطنية، وليست مشكلة إنفصالية أو خاصة بفئة محددة من أبناء الوطن.

فالإنتماءات التاريخية والثقافية والدينية واقع موضوعي في المجتمعات المعاصرة، وليس بمقدور أي إنسان أو أية جهة من تغيير هذا الواقع الموضوعي، أو التشكيك بوجوده وآفاقه.

وبإستمرار هذه الإنتماءات الموضوعية، تباشر دورها الإيجابي في إثراء الوحدة الوطنية ومفهومها السياسي والاجتماعي، إذا كان التعامل السياسي والثقافي مع هذه الانتماءات تعاملاً حضارياً، بعيداً عن كل مفردات التعصب والقطيعة والإلغاء والتشكيك التاريخي والمعاصر. كما أنها تتحول إلى خط دفاع عنيد عن الذات، إذا كان التعامل سيئاً وبعيداً عن كل أبجديات الحضارة والعصر.

وهذا يدفعنا إلى الاعتقاد، أن بلورة مشاريع ذات مضمون وطني جاد، بعيداً عن التوترات التاريخية أو الثقافية، هو الإسلوب الأمثل لإيجابية الانتماءات الموضوعية في الدائرة الوطنية.

أما الإلغاء أو التغافل عن هذه الانتماءات الموضوعية، وعدم إدراك خصوصياتها، لا يؤدي إلا إلى المزيد من تشبث أهل هذه الإنتماءات بإنتمآتهم.

ولم يسجل لنا التاريخ الإنساني كله مثالاً واحداً، يكشف أن انتماءاً موضوعياً قد اندثر من الوجود أو التأثير من جراء سياسة التغييب المقصود أو القطيعة التامة مع متطلباته ورموزه. وإنما دائماً كان للمشروع الوطني ذو المضامين الشاملة، الفضل في استيعاب هذه الانتماءات الموضوعية، ودفعها بإتجاه المشاركة الفعالة في مشاريع البناء والعمران الوطني. وأية محاولة ثقافية أو سياسية أو اجتماعية تحاول أن تتجاوز قسراً هذه الانتماءات الموضوعية أو تعاديها في وجودها الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي فإن مآلها الفشل. لأن الانتماءات الموضوعية حقائق تاريخية لا يمكن إزالتها من الخريطة الاجتماعية. وإن أي تعسف في العلاقات مع هذه الانتماءات الموضوعية، يؤدي إلى تأسيس مشاريع عدة للوطن والدولة، تتصارع مع بعضها بكل أسلحة الصراع. ويكون الخاسر الكبير في المحصلة النهائية هو الوطن الذي يشمل الجميع. ويستوعب كل التنوعات في أطر وطنية فعالة. لأن النظام الاجتماعي والسياسي الذي لا يلبي المتطلبات الطبيعية لهذه الانتماءات ينفصل تلقائياً عن القاعدة الاجتماعية، ومن ثم تمارس القاعدة الاجتماعية لا أبالية مقصودة تجاه النظام الاجتماعي لأنه لم يعط الناس شيئاً.

 التعايش مفهوم متكامل

وإن البديل الذي نراه ممكناً وضرورياً لحالات التنازع والصراع بين الانتماءات الموضوعية والتنوعات الثقافية والسياسية، هو التعايش المشترك بين هذه التنوعات على قاعدة المشترك الإنساني والديني، والوحدة الوطنية والمصالح الحاضرة والمستقبلية.

والتعايش السلمي لا يعني إلغاء مبدأ التدافع والصراع في الحركة الاجتماعية، وإنما يعني بشكل محدد: إستبدال تقنيات التدافع وأساليب الصراع من تقنيات وأساليب عنفية-قمعية، إلى أساليب سلمية، تقوم على الحجة والبرهان، وتحكيم الرأي العام، لا على الإقصاء والنفي.

وتبقى الحدود التي تحافظ على منهجية هذا التدافع، هو الولاء للأمة والمجتمع والوطن. وإن كل الأفكار والمشروعات إجتهادات في هذا السبيل. والعيش هنا مفهوماً متكاملاً، بمعنى أن الإنسان أو الجهة التي لا تستطيع التعايش مع الآخرين، لا يمكنها أن تتعايش في داخلها.

فالمسلم السني الذي لا يستطيع العيش مع المسلم الشيعي، فإنه لن يتمكن أيضاً من العيش المشترك مع نظراءه في الانتماء المذهبي والعكس.

ولهذا فإننا نرى مفهوم التعايش السلمي مفهوماً حضارياً، لا يؤسس للعلاقة بين التنوعات السياسية والثقافية في داخل المجتمع فحسب، بل يؤسس للعلاقة السليمة في داخل الإطار الواحد أيضاً.

ودائماً العلاقة السيئة مع الانتماءات الموضوعية، لا تصنع مشاريع وطنية بقدر ما هي تسقط مشاريع وخيارات. فهي علاقة تشكل ظروف ذاتية وموضوعية لإسقاط مشاريع، دون أن تمتلك القدرة على إنتاج مشاريع بديلة.

والتعايش لا يعني إنطباق وجهات نظر الجميع في كل القضايا والأمور، وإنما يعني العمل على تأسيس وحدة سياسية-وطنية، ترعى مصالح الجميع ويشارك في بلورتها الجميع. لذلك فهو ليس صيغة جاهزة ولكنه ثمره تراكم خاص في الميدان الاجتماعي والسياسي والثقافي والروحي، وإن هذا التراكم هو الذي يؤسس قاعدة اجتماعية-ثقافية-سياسية، لإمتصاص التوترات الاجتماعية بشكل سلمي، وبعيد عن كل أشكال العنف والقهر.

ولا شك أن العمل على تجديد نمط العلاقات الاجتماعية على قاعدة التعايش بين مختلف التنوعات والانتماءات يخلق أزمة، بفعل أن القطيعة بين هذه التنوعات، صنعت واقعاً وظروفاً وقوى، تستفيد من إستمرار هذه القطيعة. لذلك فإننا ينبغي أن ندرك أن هناك قوى وشخصيات لها مصالح في استمرار الوضع، ستعارض تحت عناوين شتى مشروع التعايش، لهذا من الضروري التأكيد على الأمور التالية:

1- ضرورة وجود وبلورة البرنامج الناضج، الذي يبلور خيار التعايش، ويعمق قواعده في الوسط الاجتماعي. فلا نكتفي بوجود شخصيات تحبذ هذا الخيار، وتستأنس بطرحه، لأننا لا يمكننا تحقيق مشروع التعايش بين أبناء المجتمع الواحد، عن طريق مجموعة من الأفراد المتباعدين.

وإنما نحن بحاجة إلى قوى اجتماعية-وطنية، ترى في التعايش المجتمعي مشروع حاضرها ومستقبلها.

وينبغي أن ينتج المؤمنون بالتعايش قوى وطنية ثقافية واجتماعية واقتصادية، تدفع بهذا المشروع إلى الأمام، وتذلل العقبات التي تحول دون إنتشار هذه القناعة في الوسط الاجتماعي.

2- ضرورة تغيير منطق التعامل والنظر إلى الأمور والقضايا .. إذ أن من الأخطاء الجسيمة التي قد يرتكبها البعض، هو أنه يتعامل مع شأن السلم الأهلي بمنطق القطيعة، وتصادم الانتماءات الموضوعية لذلك يبقى شعار السلم الأهلي جافاً ومجرداً وبعيداً عن الواقع، لأنه تمارس ليل نهار تصرفات، وتتخذ مواقف، ويُنظر إلى أشياء بعين وبمنطق بعيد كل البعد عن منطق السلم الأهلي والتسامح المجتمعي.

لهذا فإن المطلوب ليس فقط رفع شعار السلم المجتمعي، وتعايش الإنتماءات الموضوعية في الإطار الواحد. وإنما المطلوب هو تغيير منطق النظر إلى الأشياء. إذ أن الكثير من الصراعات والحروب الاجتماعية، هي وليدة منطق حرب وقطيعة وتعصب أعمى. وإن البوابة الأساسية لإشاعة السلم الأهلي ومتطلباته، هو إيجاد منطق سلمي في التعامل مع كل القضايا والأمور.

وإن الشيء الذي يجب تجاوزه لتحقيق مفهوم التعايش السلمي في الواقع الخارجي هو منطق الإلغاء وعقلية التميّز الوهمية. لأنها هي التي تربي النفوس وتشحنها بأساليب الإلغاء والنفي.

3- خلق البدائل، ومن الطبيعي أن هذه العملية صعبة ومعقدة وتحتاج إلى زمن طويل إلا أن الخطوة الأولى التي تؤهلنا لصناعة البديل وإنضاج أفكاره هو تعريف الذات تعريفاً سليماً وواقعياً.

إذ أن النظرات الخاطئة التي يحملها الأطراف عن بعضهم  البعض هي من العوامل الأساسية للتباعد والتناقض الواقعي بين التنوعات الموضوعية.

وينبغي في هذا السبيل أن نختار وسائل التعبير والتعريف الصحيحة، التي تجعلنا نرسم صورة واقعية، عن ذواتنا والآخرين. ولا بد أن نبدع أساليب سلمية-ديمقراطية لتطوير مستوى التعايش الوطني ومجالاته.

والتعايش ليس حقيقة ناجزة مغلقة ومكتفي بذاته، وإنما هو إطار مفتوح تثريه كل الخطوات والمبادرات والإبداعات الإنسانية التي تتجه إلى إعلاء المشترك الإنساني.

التنوع المجتمعي والعلاقة مع الخارج

لا شك أن بناء الدولة الحديثة، وتكريس التقسيم الجغرافي الحالي للعالمين العربي والإسلامي. أوجد مجموعة من التحديات والمشاكل الجوهرية التي كانت بشكل أو بآخر أحد الأسباب الرئيسية، إلى توتر العلاقات السياسية بين هذه الكيانات. ولعل من أهم التحديات التي واجهت هذه الكيانات (الدول الجديدة) هو كيف ينبغي أن تكون علاقة الأطر الإثنية والقبلية والمذهبية مع إمتداداتهما في الخارج.

السلطات السياسية، ومنذ الصراع الصفوي-العثماني، نظرت إلى هذا الامتداد بريبة وشك متواصل، واعتبروا الوجودات المذهبية والإثنية، ما هي إلا طابور خامس لذلك الوجود المذهبي أو الأثني الكبير.

وأصبح هذا الوجود يدفع ضريبة هذا الفهم عبر التاريخ.

وإننا نرى أنه ينبغي، أن ينظر إلى مسألة الوجودات المذهبية والإثنية وعلاقتها مع الخارج، ليس من زاوية دينية أو مذهبية محضة، وإنما من زاوية سياسية-اجتماعية. بمعنى أن الإنسان الفرد والجماعة، حينما تلبي مطالبه النوعية، ويندمج وطنياً واجتماعياً، وتزال كل عوامل التفتيت الاجتماعية والسياسية والثقافية. فإنه سيبذل كل غالي ونفيس في سبيل الدفاع عن الوجود والواقع. أما إذا أقصيّ هذا الإنسان من ممارسة دوره ومسؤوليته الوطنية، وحورب في رزقه، وإنتماءه العقدي والفكري، وأصبح مهمشاً ولا يمتلك أدنى صلاحية في تسيير أموره وقضاياه. فإنه طبيعياً سيبحث عن ملجأ يلتجأ إليه، ليدافع عنه، ويعوضه النقص الذي يعيشه .  كما أن هذا الأسلوب، يصنع لديه حالة من التحدي الشديد تجذبه نحو التشبث بكل ما يمت بصلة إلى القضية أو المسألة التي بسببها عومل بسببها معاملة دونية وظالمة.

إن تنظيم علاقة الوجودات الإثنية والمذهبية بإمتداداتهما في الخارج، لا يتم بسلاح الفرض والقهر والتضييق والعسف الاجتماعي والسياسي. وإنما بالمزيد من الانفتاح الوطني والاستيعاب الاجتماعي، وبيان الثمار والفوائد من الاندماج الوطني، وتجاوز عوامل الانغلاق والعزلة .  وإن إستقلال الذات وعدم قبولها الفطري من الخضوع الأعمى للآخرين أو التبعية لهم بحاجة إلى تنمية وتشجيع، ولا تتم التنمية والتشجيع إلا بالمزيد من آليات الاستيعاب الوطني الصادق.

التنوع المجتمعي بين الاستقلال والتبعية للخارج

وإننا هنا لا ندعو إلى إنغلاق هذه الوجودات في كياناتها الوطنية المعاصرة. وإنما ندعو إلى إبراز الجانب الوطني لهذه الوجودات. وإعتبار وطنها الذي تعيش فيه وطناً نهائياً مهماً إتسعت إمتدادات الأمة في الخارج. لأن وحدة الأمة العربية أو الإسلامية، لا يعني بالضرورة وحدة الدولة والكيان السياسي. أي بإمكاننا أن نحقق وحدة الأمة مع تعدد الكيانات السياسية. لهذا فإن الإنسان المنتمي إثنيا أو مذهبياً إلى أقلية في وطن. مطالب بضرورة الوفاء إلى وطنه، والوفاء إلى وطنه مرهون بمدى قدرة الوطن، على توفير كل متطلبات الأمن والسلم لهذا الإنسان. وبالتالي فإن واقع الأمن والسلم الذي يعيشه الإنسان، هو الذي يحدد علاقة هذا الإنسان بالخارج وإمتداده الإثني أو المذهبي. أي أن الإنسان حينما يفقد أمنه وسلمه المجتمعي في وطنه، فإنه سيبحث عن علاقة مفتوحة مع الخارج، توفر له الأمن والسلم المفقودين. أما إذا تحقق أمن الإنسان وسلمه، فإن علاقته مع الخارج، ستكون علاقة إنفتاح وتفاعل، لا علاقة تبعية وخضوع. وإن خطاب هذه الوجودات يتصاعد في الالتزام بالقضايا الوطنية، كلما تحسنت علاقة السلطة السياسية بهذه الوجودات.

وإن علاقة المواطن بوطنه، ليست من طرف واحد، بل هي علاقة تفاعلية متبادلة.. يدافع المواطن عن وطنه كما يحفظ الوطن أمن واستقرار وسعادة المواطن. وفي رواية (الشياطين) يورد (ديستويفسكي) أنه قرأ عن حياة رجل أمريكي، أوصى بترك ثروته الهائلة بعد موته، إلى المصانع والعلوم الوضعية، وهيكله العظمي لطلاب الطب، أما جلده فطلب أن يصنعوا منه طبلاً ليقرعوا عليه ليل نهار، النشيد الوطني الأمريكي.

كل هذه التضحيات الذي يقدمها المواطن، لم تأت من جراء فراغ أو علاقة حب من طرف واحد، بل جاءت بعد علاقة متكاملة وفعالة بين وطن ومواطن، كل يُقدم للآخر عطفه وحبه وتفانيه. وإنه كلما تعمقت أواصر الإنتماء بين الطرفين كلما نضجت الثمار العامة والآثار العريضة لهذه العلاقة المتميزة.

وإن البوابة الفعلية لعملية الإنصهار الوطني، هو فتح المجال واسعاً أمام آفاق السلم المجتمعي، وتوطيد أواصر الوحدة الوطنية.

التعدد المجتمعي بين الانتماء والانفتاح

وإن تنوع المجتمع وتعدده السياسي والفكري والاجتماعي، لا يعني غياب الانتماء الوطني، حيث يسعى كل تنوع إلى الانفتاح على الدائرة المنسجمة معه تاريخياً وفكرياً، حتى لو كانت خارج الإطار الوطني. وبالتالي من الضروري التمييز بين الانتماء والانفتاح.. إن إنتماء الدوائر الاجتماعية هو إلى الإطار الوطني، والقيم الوطنية التي تحفظ العيش المشترك والوحدة الوطنية. وهذا لا يناقض بأي شكل من الأشكال إنفتاح هذه الدوائر مع الخارج، فإلانتماء إلى الوطن ضرورة وطنية ومصيرية، كما أن الانفتاح على الخارج ضرورة مجتمعية.

فالانتماء إلى الدين أو المذهب لا يعني إلغاء أو حذف الإنتماء الوطني، أو الإنتماء إلى المجتمع السياسي المحدد. بل يمكننا القول أن هذه الانتماءات المقصودة هي قوام الانتماء الديني أو المذهبي، وإلا كان هذا الانتماء الأخير مساحة فارغة أو هوة تتهاوى فيها العناصر المكونة للمجتمع أو الأمة.

فالتعدد المجتمعي ليس مبرراً للفراق بين أبناء الوطن الواحد، كما أن الإنفتاح على الخارج بما يخدم الوطن ومصالحه الاستراتيجية ليس نفياً إلى قيمة الانتماء إلى الوطن، بل هو تأكيد على ضرورة وجود مشروع وطني، يرتفع فوق الجميع، من دون أن يجافي طموحاتهم ومشاعرهم المشروعة.

وبهذا نتجاوز جميعاً حالات التشظي السياسي والطوائفي، ونظرات التفتيت والتقسيم. وينبغي أن ندرك جميعاً أن بإمكان الإنسان أن يجمع إنتماءات متعددة في آن واحد، دون أن يؤدي هذا الجمع إلى التشظي والتقسيم، وذلك إذا توفر الأمن والأمان والعيش الكريم. أما إذا فقد الأمن وغاب العيش الكريم ومتطلباته، فإن العلاقة بين عناصر الانتماء تكون علاقة سطحية-رمزية، لا تتعدى الظاهر. وهي إنتماء للجسد دون القلب والروح. ويشير إلى هذه المسألة الدكتور (برهان غليون) بقوله "عاش العالم العربي منذ الفتح الإسلامي في إطار إمبراطورية أو سلطنة كبرى، كانت تضم شعوباً متعددة يربط بينها الولاء للإسلام أكثر من الولاء للدولة. وقد ورثت هذه السلطنة، بصرف النظر عن عصورها ونماذجها عصبيات قبلية قوية، ذات صلة وثيقة بطبيعة المجتمع الرعوي الصحراوي أو الجبلي، ولأن السلطنة أي الإطار السياسي للجماعة الوطنية، كانت تضم خليطاً من الأجناس والشعوب، فلم تكن قادرة على تقديم أكثر من مشاركة و تماه رمزيين بها ومعها، في حين كان الانتماء إلى الجماعة المحلية أو العائلية أو الطائفية، هو التعويض الرئيسي عن سطحية التماهي مع الدولة وعموميته. إن الأمة الإسلامية وليس الدولة أو السلطنة، هي مركز الثقل في تشكيل الوعي الجماعي العربي.

فالأمة هي مركز التوازن والاستقطاب في مجتمع مشدود بين روابط الجماعة المحلية من جهة، والولاء الشكلي لدولة رمزية لا قومية، وفي معظم الأحيان لا دينية، أي لا تستمد سيادتها من الجماعة الدينية وإنما من السيف."  (5)

فالإندماج الاجتماعي بين أبناء الوطن الواحد، مشروط بتوفر السلم والحرية والمساواة وسيادة روح المواطنة الحقة. وإن المجتمع الذي يثير النعرات والانقسامات في وسطه، إنما يدمر شروط قوته ومنعته وتقدمه.

***

محمد محفوظ – باحث سعودي

............................

الهوامش

(1) أوراق الحوار ـ العدد (6) 9/11/1995م ـ  بإشراف المؤتمر الدائم للحوار اللبناني .

(2) جريدة الحياة اللندنية ـ 31/ فبراير /1996م ـ مقال في التعددية السياسية ـ عبدالإله بلقزيز .

(3) الوطن الصعب ـ الدولة المستحيلة ـ حوارات بين كريم بقرادوني وكريم مروة ـ ص 31، دار الجديد ـ لبنان .

(4) مجلة المستقبل العر بي ـ 4 /1993م ـ ص 158 ـ دراسة نشأة وتطور مفهوم المجتمع المدني في الفكر العربي الحديث ـ سعيد بن سعيد العلوي .

(5) برهان غليون ـ نظام الطائفية : من الدولة إلى القبيلة ـ ص 136، المركز الثقافي العربي ـ بيروت 1990م .

لنفهم الاحكام الفقهية بشأن الحضانة لابد أن نفهم المقدمة او الفكرة المسبقة التي يؤمن بها من ينادي بالحضانة للأب.. وهي مسألة النسب الحصري للأب. فهم يعدون أن الطفل هو ابن الأب حصرا وأن الأم مجرد وعاء، فهو من صلبه وهو يعطي المادة الأولية الكاملة للطفل، ولذلك يعدون الأبن ونسبة لابد ان ينتمي الى قبيلة الأب، والأم مجرد أداة وحاضنة ورحم يعمل على إنماء بذرة الأب ثم يخرجها كاملة للحياة. وهناك احاديث كثيرة من العرب حول هذا الأمر.

(عَنْ عبدالله بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي، وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنِّي. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ، مَا لَمْ تَنْكِحِي).

لكن العلم أثبت ان البذرة من الأم وان الخلية الكاملة هي من الأم وأن الأب لايعطي اكثر من ٥٠٪؜ في النواة فقط أما خارج النواة فكله من الأم، لذا الام تورث للطفل صفات من خارج النواة دون الأب، إضافة الى عملية تكوين الطفل في الرحم فالبويضة الملقحة عديمة الفائدة في المختبر ولولا وجود رحم يحتضنها فلا قيمة لها ممكن ان تُتلف بلا دية او تعويض.

ومع ذلك لان الثقافة السائدة لليوم لا تأخذ بمعطيات العلم ولا تراعي العدالة في الحياة، صار الأب هو صاحب الحق الأول والأخير بالطفل، وجعلت الأم أداة للإنجاب لا غير، ضاربين عرض الحائط مشاعر الأم الجياشة تجاه وليدها الذي انفقت به جل صحتها ومشاعرها اثناء حمله ليأتي غريب عن هذه الحالة يتلقفه لانه اعطى الطعام أثناء الحمل. مع العلم هو نفسه منعها من العمل واطعام نفسها بنفسها.

الاسلام دين يراعي العدالة لكن الفهم الخاص للرجال الذين فهموا النصوص اعتبروا ان معطيات العلم نهائية هي التي توصل اليها العرب في القرن السابع الميلادي، واعتمدوا على احاديث فسروها بطريقة تتلائم مع فهم عرب الجاهلية للنسب.

ومن يقول ان الآية القرانية: (ادعوهم لآبائهم)، (الاحزاب / ٥)  تقر ذلك، أقول أن الآية تتحدث عن ان النسب للأب البايلوجي وليس للأب الاجنبي الذي رباه في قصة زيد بن حارثة الذي رباه الرسول ص وكان يسمى زيد بن محمد، ولا تتحدث عن النسب للأم فالاية لا تقول انسبوهم لابائهم بدلا من امهاتهم او لا تنسبوهم لأمهاتهم أسوة بالأب. فلابد ان يكون النسب للأبوين معا وليس لأحدهما كما هو حاصل الآن.

الأم هي الأصل للطفل والأب هو شريك في الطفل مع الأم.

هذه الثقافة لليوم لم تدخل الى الضمير الأخلاقي الذي يفترض ان يراعي العدالة في الحياة.

استفت قلبك وأن افتوك..

هل يتساوى من لا يعمل ولا ينجب ولا يحمل ولا يقوم بالارضاع ولا السهر مثل الذي يقوم بكل ذلك، وفوق هذا أن المادة الأولية الأكثر هي من الأم التي تعمل كل ذلك؟.

العدالة تقتضي اعادة الأمور الى نصابها وفهم النصوص بطريقة تعطي الحق للأبوين وليس لأحدهما. والاية القرآنية تقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} (الحجرات / ١٣). ولم يقل أنا خلقناكم من الذكر فقط كما يروج لذلك منذ اكثر من الفي سنة.. فكيف يحصل أحدهما على كل الإمتيازات ويحصل الآخر على الخيبة؟ مالكم كيف تحكمون؟.

إن النسب المشترك والتساوي بينهما هو أقل استحقاق للأم، فمع ان المنظومة الاجتماعية الإسلامية تكرس المرأة للإنجاب وتربية الأبناء وعدم الخروج من البيت للقيام بهذه الأدوار الا أنها لا تعطيها الإعتراف بهذا العمل فلا ينسب اليها شيء، فهي تصور فقهيا، تقدم منافعها الكبيرة هذه مقابل الحق بالنفقة عبر اطعامها وكسوتها. ثم بعد ذلك يصبح كل شيء للذكر وهو المتفضل على المرأة بهذه النفقة، التي يستحقها أي كائن حي حين تحبسه لصالحك.

لا اعرف كيف تبرر مثل هذه الأحكام وتصور على أنها إلهية قارة وثابتة؟. ولا نعلم اذن لماذا كل هذه المشاعر العاطفية الكبيرة التي تنشأ بين الأم ووليدها اذا كانت هي مجرد وعاء يؤخذ منها أطفالها بكل برود بعد الإنجاب.

الذكر يأخذ موارد الانثى الضخمة ثم ينسب كل شيء له، ويعد هذا عدالة لابد أن تستمر للأبد. من يرى في هذا الحكم عدالة، عليه ان يراجع مفهوم العدالة بعيدا عن التمييز الجنسي بين بني الإنسان.

***

بتول فاروق - النجف

٢٦/ ١/ ٢٠٢٥.

تلتقي الثقافة بالاقتصاد من حيث كلاهما تنظيم. فالثقافة تنظيم معنوي، والاقتصاد تنظيم مادي. في التوازن بينهما، يتحقق الرفاه. يقوم الاقتصاد، بوصفه علما اجتماعيا، على مسألتين. الأولى إن الإنسان كائن اجتماعي، والثانية الإنسان سلوك متعدد الأبعاد.

يعد السلوك الثقافي أحد أهم مظاهر هذا السلوك، وهذا السلوك يعد أحد القوى الفاعلة في بناء العلاقات الاجتماعية، لذلك يمكننا أن نعيد صياغة المسألة تحت عنوان الإنسان والاقتصاد والمجتمع. وإن العامل المشترك بينهم هو الثقافة، لذلك فالثقافة تعد العنصر الأساس في بناء الإنسان والاقتصاد. والنتيجة بناء المجتمع، وهو الفضاء الحيوي الذي تتحقق فيه المواطنة.

تمثل الثقافة عوامل الاختلاف والائتلاف بين المجتمعات الإنسانية، ذلك أن المجتمعات الإنسانية تتشابه من حيث كليات الثقافة، وكذلك في تفاصيلها، ولم يعد الاهتمام بالثقافة مقتصرا على علم الأنثروبولوجيا. وإنما أصبحت موضع اهتمام العلوم الاجتماعية، السياسة والاقتصاد.

الثقافة في اللغة هي الذكاء وسرعة الفهم، وجودته. فقد ذكر الخليل بن أحمد الفراهيدي أن الثقف مصدر الثقافة وفعله ثقف. إذا لزم، وثقفت، وثقفت الشيء، وهو سرعة تعلمه، وقلب ثقف، أي سريع التعلم (العين، الجزء الخامس، صفحة 139.) وعند إسماعيل الجوهري في الصحاح، ثقف الرجل ثقفا وثقافة، أي صار حاذقا، وثقف، أيضا، ثقفا، مثل تعب، تعبا، أي صار، حاذقا. (الجزء الرابع ص 1313).

أما الثقافة في الاصطلاح فهي مجموعة من الأشكال والمظاهر لمجتمع معين، وتشمل عادات وممارسات وقواعد ومعايير كيفية العيش والوجود، في الملابس وفي الطقوس، وقواعد السلوك والمعتقدات. أو هي كل المعلومات والمهارات التي يمتلكها البشر، وهي كل القيم المادية والروحية، ووسائل خلقها واستخدامها ونقلها التي يخلقها المجتمع خلال سير التاريخ.

والثقافة، بالمعنى الخاص، هي تنمية الملكات العقلية، أو تسوية بعض الوظائف البدنية، ومنها تثقيف العقل والبدن، لأن الثقافة تشكل عنصرا مهما في الحياة الاجتماعية، كونها تمثل فلسفة ذلك المجتمع. في النظر إلى الحياة والعالم، والدين والتقاليد. بها يعرف الإنسان، وبها يعرف المجتمع، وفي ضوء هذه المعرفة توضع السياسات الاقتصادية التي تسهم في الارتقاء بالإنسان والمجتمع.

وفي ضوء الأهمية العلمية والاجتماعية والاقتصادية للثقافة. فقد انشغل في تعيين تعريف لها عدد من العلماء. ولنبدأ من القرون الوسطى الأوروبية، إذا مفهوم الثقافة يرتبط بالمدلول اليوناني، الذي يشير إلى أن الثقافة، زراعة العقل وإنمائه. وفي عصر النهضة، يقتصر المفهوم على مدلوله الفني والأدبي الذي يؤكد على الإبداع والتربية. وفي القرن التاسع عشر مع النهضة العلمية، استخدموا المناهج العلمية في المسائل الإنسانية، وخصصوا أبوابا خاصة للمفهوم. فعلى سبيل المثال، اعتمد فرنسيس بيكون صورة التثمير الزراعي للدلالة على أحد أهداف الفلسفة الكامن في مفهوم الثقافة. في حين ذهب فولتير إلى أن مهمة الثقافة هي إنماء العقل وغرسه بالذوق والفهم، وتزيينه بالمعرفة. أما هوبز فأكد على أهمية العمل في الثقافة، وهو  ما يبذله الإنسان لغاية تطويرية مادية أم معنوية. وظل هذا المفهوم طاغياً في الحقل الثقافي. وحين انتقل المفهوم إلى ألمانيا أصبح يدل على التقدم الفكري الذي يحصل عليه الفرد أو المجموعات الإنسانية اتساقا مع التصور الألماني لتاريخ البشرية، الذي يعد درجات التقدم الفكري معيارا أساسيا للتمييز بين مراحله. ففي القرن التاسع عشر عالج المفكرون الألمان، انطلاقا من تاريخ الثقافة، طبيعة الحياة الروحية، والعلاقة بين علوم الثقافة والطبيعة، فدرس هيغل ونيتشه الخطوط العريضة للتفكير الفلسفي والاجتماعي القائم على القيم المجسدة في نتاجات هذا المفهوم. وعلى طبيعة القيم المتعلقة به.

أما في إنجلترا فقد اتخذ المفهوم بعدا آخر، فقد نظر إليه المفكرون الإنجليز من زاوية تطبيقاته العملية، فعرفها ماثيو أرنولد بأنها عملية ترقي نحو الكمال الإنساني تتم بتمثل أفضل الأفكار التي عرفها العالم، وبتطوير الخصائص الإنسانية المتميزة. ويرى أن الثقافة الدينية أرقى من الثقافة العلمانية. من حيث قدرة الأولى على تعليم الاستقامة والانضباط. نلاحظ من التعريفات أن الثقافة تقتصر على العناصر اللامادية في المجتمع، الأخلاق والقانون والعرف الذي تنشأ من جراء التفاعل بين الناس، وتأخذ طابعا إلزاميا إلى جانب العنصر المادي للثقافة، فضلا عن العلاقات بين الناس، وبين العناصر المكونة للثقافة. ويعرفها روبرت بيرستد بقوله: ان الثقافة هي الكل المركب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه، أو نتملكه بوصفنا اعضاء في المجتمع.

ينطوي هذا التعريف على رؤية للثقافة تجمع ثلاثة عناصر هي الفكر، والسلوك، والمنجز المادي، وبذلك يمكننا القول إن الثقافة مصب لينابيع ثلاثة، هي:

1- الخيارات الثقافية.

2- العلاقات الاجتماعية،

3- أنماط الحياة.

نلاحظ من خلال المعاني اللغوية والاصطلاحية للثقافة. جملة من المعاني الثاوية في البعدين اللغوي والاصطلاحي، وهي:

1- أنها نابعة من النفس الإنسانية/ الفطرة البشرية.

2- تعني البحث والتنقيب والظفر بمعاني الحق والخير والعدل، وبالتالي فهي مفهوم يفتح الباب أمام العقل البشري لكل المعارف والعلوم.

3- يركز المفهوم في جانبه المعرفي على ما يحتاجه الإنسان طبقا لظروف بيئته. وثبات المعرفة هنا مهم جدا، فالإنسان يظل مثقفا ما دام ثابت المعرفة. بما يحتاج إليه في زمانه وعصره ومجتمعه. وثبات المعرفة هو ثبات ارتباط الإنسان بمجتمعه وقضاياه. بغض النظر عن كم المعلومات. إن الثقافة، بهذا المعنى، هي إدراك قضايا الإنسان والمجتمع. أما إذا وقفنا عند الثقافة بمعنى المعلومات والعادات والقيم، فهذا ينتج لنا مثقفا تبعيا لنمط حضاري معين، أو يخرب المجتمع من أجل عقيدته.

4- الثقافة، عملية متجددة، دائمة لا تنتهي. إذ أن معاني التهذيب والتقويم والإحياء والتأصيل والتجديد، متجددة دائما ولا تنتهي، وهي دليل على حيوية الفكر، وجمودها يعني تخلف الأمة.

إن ابتكار مناهج توحد المشتركات بين الثقافة الوطنية والثقافة الإسلامية. والثقافة الأوروبية دليل فاعلية العقل وحيويته، الأمر الذي يعطي للمجتمع دفعة قوية نحو الأمام.

في العصر الذهبي عصر المعتزلة، وفي إطار الترجمة التي أنجزها بيت الحكمة، دخلت مفاهيم جديدة إلى حيز الثقافة الإسلامية. تمثلتها هذه، فأنتجت علوما جديدة، كان على رأسها الفلسفة و (علم الكلام).

في عصر الأشاعرة. حدث الافتراق مع الثقافة اليونانية ظاهريا، لكنها في الحقيقة ظل ثاوية في الفكر الأشعري، لا سيما الكتابات الفلسفية، كما نراها في فكر الغزالي. أبو حامد (تهافت الفلاسفة) وفي الفلسفة السياسية عند الجويني (غياث الأمم).

وفي إطار هذا التفاعل مع الثقافة اليونانية سلبا وإيجابا، بدأت تنمو التناقضات تدريجيا في جهاز الثقافة الإسلامية بين تياراتها المتعددة، ولم تتخلص من عملية (جلي) التراث لإحضار ما يمكن أن يحيا في ظل عصر التكنولوجيا. وفيزياء الكون، وجلي الثقافة الأوروبية، بغية تطبيق مفاهيمها على أرضنا التراثية، الأمر الذي ولد (أزمة العقل المسلم)، و(أزمة الثقافة) تبعا لذلك، ولذلك نلاحظ أن مفاهيم السياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب لم تتشكل في إطار وعي أزمة الثقافة والفكر، إنما جاءت إما من الماضي، أو من أوروبا. فعلى سبيل المثال، إن الفكر السياسي للأحزاب الإسلامية هو إحياء الفكر السياسي التراثي (الماوردي، وأبو يعلى الفراء والغزالي). ولم تدرس أي حركة سياسية إسلامية فكر ابن رشد السياسي، على سبيل المثال. ولم يستوعبوا حتى دستور المدينة الذي نظمه النبي محمد عليه السلام في إدارة العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية داخل دولة الإسلام الأولى.

إن إعادة وعي الثقافة والاقتصاد وطبيعة العلاقة بينهما يعد ضرورة حضارية لتجاوز أزماتنا. المتعددة.

انشغل مفكر اقتصادي عراقي مرموق، هو الدكتور باسل البستاني في تفسير العلاقة بين الثقافة والاقتصاد. لذلك سنعطيه اهمية متميزة.

إن الإنسان هو البؤرة الذي تلتقي عنده المفاهيم الثلاثة آنفة الذكر. لذلك، يرى أن الوجود الإنساني يتحرك فكريا، كون الفكر هو نبع هذا الوجود، وقنوات التعبير هي روافده، والثقافة هي نهره، والحضارة بحره. إن هذه الفعاليات المعرفية تبدأ بالإنسان لتنتهي في الحضارة، من حيث أن جوهر الفكر هو العقلانية، وحين الانتقال من الفرد إلى المجتمع تصبح (ثقافة)، والثقافة كما رآها البستاني، هي ذلك الفكر المشترك الذي يمثل مرحليا الجانب النوعي للحضارة في ديناميكية حركتها، وبناء على ذلك، فإن الترابط بين الفكر والثقافة يفترض الانتقال من الذات إلى الخارج المجتمعي، أي إلى البيئة. والسؤال هنا هو كيف يتم هذا الانتقال؟ وما شروطه؟ يشكل الانتقال هنا نقلة نوعية تتضمن التحول من صعيد التجريد إلى صعيد التجسيد، أي الاتجاه نحو الواقعية، والأمر يكون على النحو الآتي:

تقع حركة المجتمع في جانبين معنوي ومادي، الجانب المعنوي قاعدته فكرية وامتداده ثقافي علمي في إيجابياته، والجانب المادي تعبيره التطور والتقدم في الإنجاز، الأمر الذي يفترض وجود ترابط بين القيمة المعنوية المتمثلة أساسا بالفكر. وإنفتاحها المتجسد فيما يتحقق من عمل، أي في التحول إلى شكله المادي، وسلامة حركة المجتمع هذه تتطلب التناسق بين جانبها المادي والمعنوي. فإن حصول اختلال بينهما يخلق بالضرورة فجوة تشكل مؤشرا مهيئا لبيئة الاضطراب في تعدد أبعادها، وهنا تقع ثلاث حالات هي: الاولى: تخلف الجانبين عن الحركة والتطور، وهي أسوأ ما يمكن، إذ تعني فقدان المجتمع لقدراته كافة. الثانية: تخلف المادي عن العطاء الفكري، وهي حالة تفصح عن محدودية القدرات المادية للمجتمع وعدم كفايتها ذاتيا للإبقاء بمتطلبات استمرار وجوده الفعال، الأمر الذي يؤدي إلى انحباس الفكر في بيئته المادية، وهي حالة غالبية الدول النامية.الثالثة:هي الحالة التي يتخلف فيها العطاء الفكري عن العطاء المادي، وهي الحالة الأهم من زاوية العلاقة بين الفكر والثقافة. تكمن خطورة هذه الحالة وحيويتها حقا، في أنها تأتي تعبيرا عن ظرف مهدد للهوية، لعدم قدرة المجتمع على رؤية أهدافه وتحديد مساره، ذلك لأن انحسار المسار الثقافي الذي تولده سيفرز باستمراريته ثقافة انحسار، ومن خلالهما يتحول كل طموح المجتمع إلى تحقيق غنيمة مادية، الأمر الذي ينتهي بحصول انفصام بين المجهود والمردود، وتلك حالة عامة اقترنت بظروف الثورة النفطية في السبعينيات من القرن الماضي. وما رافقها من هيمنة للسعي اللاهث وراء الكسب المادي، فأفسدت الذمم، وتراجعت الهمم

إن الخطر الأكبر الذي يواجه المجتمع هو انحسار الثقافة عن المتغيرات المادية في المجتمع، يرى الدكتور البستاني إن هذا الأمر، يعني (وقوع اختلال في التوازن بين الدفع الذاتي للفرد واستجابة محيطه الممثل بمجتمعه. وفي هذا المفترق تصبح القضية مرتبطة بالكيفية التي يتم من خلالها تجاوز الانفصام تأكيدا لحقيقة أن الإنسان. ليس مجرد وجود منفصل في بنائه، بل إنه كيان مجتمعي في بقائه) ص17. الأمر الذي يقودنا إلى البحث عن القناة التي يمكن أن تحول الخلق الذاتي في إبداعه إلى ثقافة مجتمع في آلية الانطلاق.

وهنا ستظهر أمامنا قضية الحرية ضرورة حضارية. إذ يرى البستاني أن الحرية مفهوم مطلق، لأنها جوهر الذات في هيأتها الإنسانية، غير أن هذه الذات كونها طاقة إنسانية كامنة، فهي لا تنطلق إلا في ظروف بيئية مهيأة لتفتحها، وهذا التفتح بدوره يعني ممارسة الاختيار، فالإنسان حرية، والحرية اختيار، فإذا انعدم الاختيار طوقت الحرية، وانحسر العطاء والانتماء.

في ضوء هذا التصور، فإن الحرية الفردية هي الأساس والمنطلق، والحرية الاجتماعية هي امتدادها، فالفرد لا يمكن أن يعطي لحريته مداها إلا في إطار مجتمعه، والكارثة إذا تناقضت هذه الحرية مع المجتمع. لتصبح الحرية الفردية رهينة ذاتها، بفعل بيئتها الخارجية التي تمنع تفتحها، فالسجين يستطيع أن يخلق فكرا، لكنه لا يستطيع أن ينتجه الا بالإفصاح عنه، ولكن طوق وجوده يمنعه.

وفي ضوء هذا التصور تبدو العلاقة بين الإقتصاد والثقافة في إطار حركة العناصر الثلاثة الآتية، وتفاعلها الإنسان، واضحة ومهمة: الانسان وجوهره الفكر الذي هو نتاج خلقه، والثقافة، وهي وجود الإنسان الذي تمثل تراكماته المعرفية والأخلاقية، والحرية التي هي الجسر بين الإنسان والثقافة، وكذلك في ضوء هذه العلاقة تبرز أحد أهم قوى الاقتصاد، ألا وهو الإنتاج الذي هو قدرة الإنسان على تحويل الطبيعة إلى منفعة. ذلك أن تاريخ الحضارات يعني التقدم بتراكم القدرة على الهيمنة على البيئة، وتسخير مواردها من أجل تحقيق إنجاز مادي، نقطة انطلاق وقاعدة للبناء الحضاري. وهنا يبرز الإنتاج محورا مركزيا للتقدم والبناء الحضاري

يخبرنا علم الإقتصاد أن للإنتاج مستلزمات تكمن فيها خصوصياته في أن: 1- توفر عناصره. يأتي محدودا قياسا بالحاجة إليها، سواء أكان مصدر هذه المحدودية هو الندرة أم سوء نمط التوزيع في الدخول والثروات 2- الحصول على هذه العناصر يتطلب بذل مجهود، وهي صفة ملازمة للسلع الاقتصادية. 3- بذل المجهود يفرض أن يكون لكل عنصر ثمن يستحقه وهو المردود. 4- لكل عنصر إمكانيات بديلة ومتعددة. 5- تعدد هذه الاستخدامات في الإنتاج يعني أن قرار استخدام عنصر في مجال إنتاجي معين يمنع إمكان استخدامه في مجال منافس في ذات المرحلة الإنتاجية.

إن هذا يفرض علينا سؤالا مهما، ألا وهو. هل للزمن تأثير في هذه الفعالية (الإنتاج)؟

يجيب الدكتور البستاني بقوله: (من حيث الجوهر، لكون الإنتاج يشكل عملية تجميع عناصره من أجل خلق منفعة، فهو بالضرورة يحتاج إلى فترة زمنية لإتمامها طال أمدها أم قصر، وإنه في نطاق العملية الزمنية تتحد مشاركة كل عنصر من عناصر الإنتاج فيها من حيث طبيعته ونسبته، وهي طبيعة السلعة أو الخدمة المنتجة. والأثمان النسبية لعناصر الإنتاج، أي كلفتها، ثم درجة التقدم العلمي). ص22

ما الذي ينتج عن العلاقة بين الزمن والإنتاج؟

تنبعث من هذه العلاقة صيغتان: الأولى إن إيجابية مشاركة أي عنصر من عناصر الإنتاج قد تتحول إلى حالة سلبية، إذا حصل اختلال في توازنها، مما يخلق تناقضا في اقتصادية استخدامه بما يحمله الحصول عليه من مجهود، وما يحكمه من ثمن. زيادة على ذلك، فإن المصدر الذي يتضمنه هذا الاختلال، لا يعبر في سلبية تأثيره على فاعلية أو إنتاجية عنصر معين، بل يتعداه إلى بقية العناصر المشاركة في العملية الإنتاجية. الثانية: تميز عنصر الزمن في نوعية المشاركة مقارنة بكل العناصر الأخرى الداخلة في عمليته. فخلافا لتوفر إمكان تعويض بقية العناصر أو استبدالها بدرجات متفاوتة، فإن العنصر الزمني يرفض الاستبدال، وبالتالي فإن ضياعه لا رجعة فيه. وبهذا المعنى يشكل الزمن عنصرا إنتاجيا شموليا في تغطيته، ومانعا في إمكان تعويضه. وضياعه يعني غياب فرصة نهائية فيه.

ويواصل الدكتور البستاني في تفسير الزمن وأثره في البناء الاقتصادي خاصة، والحضاري عامة، فيوضح أثر الزمن في الأحداث الاجتماعية عبر مفهوم الانقلاب والثورة، بوصفهما أكثر الأحداث تأثيرا في حركة التاريخ.

يعتمد البستاني معيار الزمن في التفرقة بين المفهومين، فالمدى الزمني الذي يستغرقه الإعداد للثورة لا يقتصر على عمل القائمين بها من حيث التهيئة لها بوصفها حدثاً تنظيمياً وتخطيطياً، بل يتعداه إلى إطار أكثر شمولية يتضمن العوامل الاجتماعية التي تفاعلت في خلقها. وأهمها الاقتصاد، في حين يشكل الانقلاب لحظة توقف زمنية سرعان ما يستأنف المجتمع مسيرته بتغيرات سطحية لا تمس جوهر العلاقات الاجتماعية والاقتصادية السائدة. وبغية الارتقاء بفاعلية الثقافة في الإقتصاد، يؤكد البستان على مفهوم ثقافة التنمية، فهي عنده امتداد لكلية ثقافتها الحضارية. بما فيها مسارها التنموي، ومع هذا فلها خصوصيتها التي تتمثل في الأبعاد الآتية:

1- إن مرجعيتها تأتي قابلة للتحديد، فهي ثقافة هادفة من حيث التوجه المضمون.

2- هذه القابلية تفتح إمكانيات كبيرة في برمجة حركتها، والتي يمكن إعطاؤها بعدا كميا.

3- هي ثقافة سلوكية المقصد، أي إنها تتوجه إلى ترويج مسار سلوكي يخدم توجهها الهادف. إن مرجعية ثقافة التنمية تتجسد في الغالب في الرؤى أو الأجندات الاقتصادية والاجتماعية المعلنة لمسيرة المجتمع المستقبلية، وهي متكاملة كذلك مع الخطط التنموية المعتمدة، أما برمجة الثقافة التنمية، فتأتي ممارسة ضرورية لضمان تناغم حركتها مع البيئة الكلية للتنمية المتضمنة للأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، هذا التناغم بدوره يفرض المشاركة الفعلية بين شرائح المجتمع، ويوجهها في مسار رؤاها.

***

د. جاسم الفارس

..................

مصادر الدراسة

1- فكرة الثقافة - تيري ايجلتون -ترجمة شوقي جلال - المجلس الاعلى للثقافة - مصر - 2005

2- ديناميكية التفاعل الاقتصادي الثقافي - د. باسل البستاني -ط! - دار مجلاوي عمان -الاردن 2011-2012

البعض يريد ان يطبق الأحكام الفقهية على أي واقع وعلى أية حالة، أي تطبيقها بعنوانها الأولي في كل الظروف، وللأسف من هؤلاء مشرعون ورجال دين أخذوا حظا من العلم الشرعي متغافلين عن الواقع المتحرك الذي لم يبق على حاله كما حدث حين عدلوا قانون الاحوال الشخصية ليكون للزوج الحق بالزواج الثاني والثالث والرابع وعدم اجبار الزوج على اعلام زوجاته أو أخذ اذنهن وتصوروا أن هذا جائز ويصح تطبيقه شرعا في الوقت الحالي، هم هنا ضربوا تشريعات عدة ولم يأخذوها بنظر الإعتبار وشرعوا للظلم الفاحش، تحت الإكراه،

كيف؟

الأسرة المعاصرة قائمة بشكل كبير على جهود وعمل المرأة الزوجة في البيت، وتقوم نيابة عن الزوج في تربية الأطفال، وفي ادارة اغلب شؤون الأسرة التي اصبحت معقدة بفعل تطور الحياة الحضارية للإنسان عبر الزمن، لكن الحكم الشرعي لا يلزم الزوجة بكل ذلك ولها في أية لحظة التخلي عن هذه الأعمال، فالزوجة تضطر للعمل مجانا وبلا تذمر حين تشعر ان الزوج مضطر للإعتماد عليها في مسؤولياته الشرعية لكن اذا تزوج من اخرى وفتح بيتا ثانيا فهذا يعني انه يسخرها لخدمته بلا وجه حق.

اكثر من مرة كتبت أن احكام الاسرة كانت منسجمة مع وجود نظام العبودية ودور العبيد في الأسرة، لكن بعد اختفاء هذا النظام حملت الزوجة اعباء العبد والعبدة والحرة، لذا من يريد أن يتزوج من اخرى لابد من اعلام الزوجة الأولى وأخذ موافقتها حتى لا يجعلها تعمل سخرة، وعليه مثلا أخذ الاطفال معه للاعتناء بهم الى اسرته الثانية لان الاولى غير مكلفة بذلك، أما ان يذهب ليبات في بيت آخر مع عدم توفير الخادم المحرم على الزوجة فهذا تعد على حقوق الغير وتكليف آخر باعماله سخرة وبالإحتيال وهذا غير جائز.

الآن اصبح تطبيق الحكم الفقهي الأولي شبه مستحيل لان المرأة الآن هي المعيلة الأولى في البيت لان عملها مال لا يستغني عنه الزوج، ولأن اغلب الأزواج لا يستطيعون اعطاء الأجر مقابله، كما ليس شرطا كل زوجة تريد العمل لصالح الزوج فليس له اجبارها على العمل مقابل المال لو استطاع تعويضها بالأجر.

القانون حين يطلب اخذ الأذن كان ينظر للواقع هذا فهو لم يحرم الزواج الثاني بل يراعي الواقع، فالزوجة هي المعيلة الاولى اليوم، وهي التي تقوم عليها الأسرة. ولأن المرأة مجهلة ومغلوب على أمرها تم مصادرة كل حقوقها وأهم حق هو الإعتراف بهذا الدور الكبير الذي تؤديه مجانا لصالح البشرية على عكس الرجل الذي يأخذ امتيازا وحقوقا أمام أي مال يدفعه.

إن التعكز على بعض الأحكام الفقهية وانتقاء بعضها وترويجها على أنها هي الدين والشرع الذي جاء به محمد ص، وا يوجد غيرها هو محاولة لجعل الإمتيازات الذكورية قارة وثابتة ولو على حساب الشريعة ذاتها، ولأن المرأة قد منعت من الدخول في الحقل الديني وتفسير الأمور الدينية ومنعت من الإفتاء للآخرين، صار الفقه يدار بطريقة أحادية لا تنظر الإ الى مصالح طرف واحد.

أن الظلم الذي تتعرض له المرأة يتم تبريره وتصويره على أنه ناتج من أحكام إلهية ثابتة لعلم الله بحقيقة الذكر والأنثى، في عملية انتقائية لا تراعي التغيرات الواقعية الظاهرة للعيان جدا في المجتمع البشري، وضاربين عرض الحائط إنسانية المرأة ومشاعرها وظلمها، فهولاء الذين يتبنون هذا المنهج يرون أن الإنسان هو جنس واحد، وهو الذكر وأن حقوقه هي المحترمة في كل حين ويجب أن لا تمس حتى لو حمل المرأة الأعباء كلها دون حقوق تذكر مقابلها، وهذا ما تمر به المرأة العراقية، حين يريدون تطبيق أحكام فقهية دون النظر للواقع ومدى صلاحية تطبيق الحكم الأولي في الأحوال الشخصية اليوم.

***

بتول فاروق - النجف

5 -القدرة على توجيه الصفات الموروثة لدى الطفل:

يُعتبر عامل الوراثة من العوامل الأساسية أيضا وأوّلها في تشكيل شخصية الطفل. ليس بالضرورة أن يرث الطفل الصفات الوراثية من أبويه المباشريْن (الأم والأب)، لأن الجينات الوراثية لا تخص الأبوين فحسب بل الأجداد وآباءهم، وأحيانا الأجداد الأوائل، سواء في الصفات الجسدية مثل الشكل، أو لون البشرة، أو لون الشعر، أو لون العيون، أو بعض القدرات العقلية كالذكاء، أو العادات كالكرم والنخوة، أو الصفات كالعاطفة العميقة والشجاعة، أو غيرها.

وينزع الأهل على الدوام إلى أن تكون كينونة الابن هي نسخة مطابقة من كينونتهم خاصة إذا كانوا حاملين الصفات الحسنة كالجمال، والذكاء، وقوة الجسم، وغيرها؛ ف "فوراثة الطفل لا يحدّدها الآباء المباشرون فقط بل انه يرث جدوده أيضا، إنه يرث أسلافه أكثر مما يرث من آبائه المباشرين وكلما ابتعد الجد تناقص تأثيره، وبصورة نسبية يمكننا القول بأن الطفل يرث النصف من أبيه وأمه، والربع من جده وجدته، والثمن من أبويهما وأميهما، وهكذا. وهذا بعض السبب في أن الوالدين الذكيين يكون لهما أولاد أقل ذكاء منهما، وأن الوالدين الغبيين يكون لهما أطفال أكثر ذكاء منهما، إنه تأثير الجدود الأباعد، ولكننا نعود ونذكّر بأن أثر الوالدين المباشرين أعظم وأهم في الوراثة" [1]، خاصة إذا كان الزواج بين الأقارب؛ فإن الصفات الوراثية التي يرثها من الأجداد تتركز عند الطفل.

الوراثة تعطي المواد الخام الأولية، أو الجذور التي تتولاها البيئة بالتنمية والصقل والتهذيب والتربية، أو بالإهمال والطمس والتلاشي والضياع-حسب نوع البيئة التي يتربى فيها الطفل، فالبيئة هي التي تحدد مسار القدرات والصفات المحددة أصالة وراثيا التي لدى الطفل، وتحسن استخدام مساراتها بنحو مستقيم، أو تسيئه بنحو منحرف. الذكاء مثلا صفة وراثية لكن استخدامه وتوظيفه واستغلاله يخضع لظروف البيئة، وقدرتها على توجيهه وإرشاده وتنميته وترقيته نحو الإبداع والإنتاج، في العلم، أو الفن، أو الاختراع في مجال من المجالات الكثيرة، أو نحو الانحلال، والانحراف، وارتكاب الجريمة، ورذائل الأخلاق.[2]

وتقتضي القدرة على توجيه وصقل الصفات الموروثة إدراك المربي لمسألة الاستعداد التكويني لدى الطفل، والتنبه إلى الموروثات الجيدة بما فيها الاستعداد العقلي الجيد، والعمل على توقيتها وتنميتها وتوجيهها والنأي بالطفل عن الموروثات السيئة "إن المخزون الكامن من الموروثات لا يمكن أن يصل وحده في التأثير إلى الغاية المقصودة من التثقيف بل لابد معه من ظروف وطاقات تكشف هذه الموروثات الكامنة في النفس، وتستثمرها. وتحتوي البيئة على هذه الظروف والطاقات المؤثرة بطرائق مباشرة، أو غير مباشرة في تكوين شخصية الطفل، ومن أقواها العوامل الثقافية التي تكتنف محيط الطفل، ويتعدى أثرها إلى التغلب على موروثاته السيئة"[3].

المربي الواعي يوجّه ويطوّر الصفات الجيدة الموروثة من الأجداد أو الآباء بنحو إيجابي، ويفتح للطفل نافذة للإبداع من خلالها، كالشجاعة -مثلا، حين يستغلها المربي ويوجهها صوب الجد، واقتحام الصعوبات، وتحقيق الإنجازات بجدارة وحكمة، والصفات السيئة يهذّبها، أو إذا لم يكن قادرا يزحزحها شيئا فشيئا حتى تندثر؛ خاصة في زمن التغيير والتجديد اللحظي؛ كالتردد والخوف بتقديم التمارين التي تروّضه على تجاوز الخوف وتعزيز الثقة بالنفس. كما إن تلقّي الطفل كلمات التحفيز الإيجابية تجعله يندفع بقوة لتحقيق ذاته.

"من هنا يحسن بالوالدين التعرف على القدرات الحقيقية للطفل كي لا يضيعا له من مستويات الطموح ما لا يتفق وقدراته؛ فاعتقاد الوالدين بتدني مستوى ذكاء طفلهما ينعكس على سلوكه لأنه قد يؤدي بالفعل إلى الفشل حتى ولو لم تكن قدرات الطفل كذلك"  [4] .

بالنتيجة قدرة المربي على توجيه الصفات الموروثة للطفل خاصة في بواكير نشأته هي عامل مهم وأساس، وتعتمد على ثقافة المربي ووعيه في تهذيب وتشذيب تلك الصفات.

عقاب الطفل في التربية الحديثة

نسميه عقابا ويُسمى في التربية الحديثة تأديبا؛ فإن العقاب يستبطن معنى ذا مردود سلبي على نفس الطفل، والتأديب يستبطن معنى ذا مردود إيجابي؛ إذ التأديب يعني التهذيب وتعديل سلوك الطفل، والتهذيب يعطيه سلوكا إيجابيا يجعله يتبع المثل العليا. عقاب الطفل في التربية الحديثة لا يكون شديدا وقاسيا بل خفيف لا يترك أثرا عميقا في نفسه.

من واجبات الطفل تجاه نفسه أهمها أن يكون معتدلا جدا وقنوعا وهذا يرتبط بأنه كائن واع إذ يملك كرامة معينة تجعله أنبل من سائر المخلوقات الأخرى كلها، وأن من واجبه أن يتصرف بطريقة لا ينتهك فيها كرامة الإنسان في شخصه، على سبيل المثال أن نرتكب خطايا غير طبيعية أو نمارس كل أنواع المخالفات وغيرها، وهي تصرفات تضع الإنسان في مرتبة أدنى من الحيوانات[5].

يستمع الأطفال اليك بعد أن تستمع أنت إليهم، يعني على المربي أن يهيئ بيئة تربوية تساعد الأطفال على الإصغاء وتعلمهم فن الاستماع، بعيدا عن التهديد والدفاع عن أنفسهم[6].

كيف يمكن أن نتعامل مع الطفل المشاكس، أو الحاد عن خط طاعة المربي هذا يتبع أسلوب المربي في التربية. يمكن للمربي استخدام أسلوب رمزي مع الابن في حالة صدور تصرف أو سلوك منه غير مُرضٍ كالكذب، أو أذى أخيه الأصغر، ففي مثل هذه الحال لا يجب الصراخ بوجهه أو ضربه؛ إنما يمكن أن يوبّخ بشكل رقيق هادئ غير متشنج، أو يترك في مكان لوحده في المنزل ولا يتكلم معه الأهل حتى يعود، أو يمتنع الأب عن تلبية طلب له، أو إظهار الامتعاض على وجهه أمام الابن، أو يُعامل باللامبالاة الوقتية وعدم الاحترام له بشكل مؤقت، أو لوم الطفل على ارتكاب الخطأ، ولا يجب أن يستمر إذا ترك اللوم أثره عليه حتى يتراجع، ولا يرتكب الخطأ مرة أخرى، و"يجب أن يطبق العقاب الموجه إلى الأطفال بكثير من الحذر، كي يفهموا أن الهدف الوحيد هو تحسين حياتهم"[7]. أو يمنع عنه مصروفه اليومي، ليدرك خطأه، ويتعلم منه، وإذا لم يجد نفعا العقاب الرمزي يلجأ المربي إلى استخدام العقاب الجسدي الذي لا ينبغي أن يكون شديدا بل هادئ وحذِر، كأن يضرب الطفل خاصة حينما يهدده أنه سيضربه، وإذا ارتكبه يجب أن يضربه ضربا خفيفا لا يؤدي إلى أي ضرر بدني، فتنفيذ العقوبة يعلم الطفل التحكم بإرادته، فضلا عن تعليمه الصدق، والخطأ طبع إنساني، ولا ينبغي أيضا فسح المجال لفعل أي شيء يريده؛ فترسيم حدود الطفل في التعبير عما يرومه مهم جدا، ويعدّ شخصه ليكون كائنا اجتماعيا منضبط السلوك.

حدثتني إحدى الأمهات عن أسلوب العقوبة لديها حينما تخطئ ابنتها تأمرها أن تقف وراء باب إحدى الغرف فقط -حسب عمره-، يعني إذا كان عمره سنتان يقف خلف الباب دقيقتين، وإذا كان ثلاث سنوات يقف ثلاث دقائق، وهكذا.  تقول: هذه العقوبة هي خفيفة لكنها حققت نتائج جيدة وفائدة لي ولها كذلك، ولم تكرر الخطأ مرة أخرى.

خبيرة التربية جان نيلسن تطلق على عملية تأديب الطفل تسمية "الاستراحة التأديبية" بدلا عن العقاب السلبي أو "العزلة العقابية" أو "كرسي العقاب" كما أطلقت عليه، ويعني كرسيا أو مكانا يختاره المربي أبًا كان، أو أمًا، أو معلما يوضع فيه الطفل قسرا عندما يرتكب خطأ، فيشعر فيه الطفل بالعزلة والنبذ والبعد عن الأقران، ظنا منهم أن الطفل حينما ينعزل يفكر مليا، ويستدرك خطأه، ولا يرتكبه في المستقبل. أما في المدرسة فهو الوقوف لمدة محددة في زاوية الصف ووجه الطالب نحو الجدار، أو إرساله إلى غرفة المدير، وقد ينال العقاب، أو الطرد من المدرسة. [8]

أسلوب الاستراحة الإيجابية يعتبر لدى خبيرة التربية نيلسن من أساليب التربية ذات المردود الفعال والمفيد كونه يجعل الطفل قويا وراغبا من داخلة في التحسن والتغيير. تعني الاستراحة الإيجابية وضع الطفل في مكان خاص بالاتفاق معه، وإشراكه في تسميته، وهو مكان يمكّن الطفل حين يشعر بالضيق والغضب أن يذهب إليه لتنفيس غضبه، ويمكن للطفل نفسه أن يختار اسم المكان دون تدخل من المربي كأن يطلق عليه اسم(مكان تحسين المزاج، مكان تنفيس الغضب، مكان ضبط النفس، مكان تحسين العقل، مكان تحسين الشعور، وتحسين السلوك)؛ هذه الأسماء للمكان تعزز لدى الطفل فكرة الإحساس لامتلاكه المكان. ويمكن إخباره بأن هذا المكان يمكّنه من اتخاذ القرار حينما يشعر بتحسّن ويصبح مستعدا ليظهر سلوكا جيدا ومفيدا للآخرين. وعلى المربي أن يخبر الطفل متى شعر بالضيق والغضب أن يذهب إلى المكان من تلقاء نفسه دون أمر من المربي نفسه. ومن الممكن إشراك الطفل في اختيار المكان الذي يحتوي على أشياء يحبها الطفل مثل حيوانات قطنية، دمى، كتب، وسائد ناعمة، كراسي مريحة، سماعات إذن، موسيقى هادئة، أوراق وألوان ليرسموا ويعبروا عن مشاعرهم، ومكعبات، وأكياس ملاكمة للتنفيس عن غضبهم، ...الخ مما يختاره الأطفال أنفسهم.

وقد يشترك طفلان في مكان واحد، وهنا يمكن للمربي أن يحدد وقتا لكل طفل حتى لا يدع مجالا للمشاكسة والعراك لأنه مكان تفريغ الغضب والراحة. ويجب أن يترك المربي للطفل تحديد وقت المضي في المكان الإيجابي لا إملاء رأيه فيه  .[9]

العقاب الإيجابي أو الاستراحة الإيجابية تعتمد على فكرة " إن جميع البشر (بما فيهم الأطفال) أن يكون لهم احترام وكرامة. وهذا مبدأ أساسي لدى العالم ألفريد أدلر مؤسس علم النفس الفردي، وهي الفلسفة التي تدعو للحفاظ على احترام كل البشر وكرامتهم [10].

الصراخ والصياح دليل على فشل المربي وإعلان إفلاسه الفكري تجاه طفله الذي مازال إنسانا يتشكل ويتعلم. ينبغي أن يتعلم المربي "استراتيجيات التحكم في الغضب"، حتى يستطيع منح الطفل المهارات التي تساعده على التعامل مع ضغوط الحياة في كل محطاتها، في المنزل، والشارع والمدرسة والمحيط العام، المهارات تلك تساعدهم على الحفاظ على السلامة النفسية والعاطفية والجسدية[11] . الصراخ بوجه الطفل الرضيع ليس صحيحا، فالطفل منذ الشهور الثمانية يستطيع تمييز لغة وجه أمه إن كانت راضية ومرتاحة، أو غاضبة. تستطيع الأم من إنشاء لغة خاصة بينها وبين طفلها الصغير، وتستخدم لغة الوجه الهادئة غير الغاضبة، والإشارات، والتعبيرات الإيجابية له حتى تمكنه من النشوء والنمو الهادئ الساكن الذي يحقق له الراحة النفسية في مقتبل أيامه.[12]

وليس صحيحا حينما يغضب الطفل توجه له الألفاظ غير اللائقة والفضة من قبل الأم أو الأب، بل يجب أن يترك الطفل في مكانه حتى تنتهي لديه موجة الغضب ويعود هادئا. يقول راي بيرك صاحب كتاب "تربية الأطفال بالفطرة السليمة": إن توضيح عواطف الأفعال أمر مهم ضروري فالعواقب تساعد الأطفال على معرفة أن أفعالهم تؤدي إلى نتائج إيجابية أو سلبية، ومن ثم يتعلم الأطفال أن الحياة مليئة بالاختيارات، وأن اختياراتهم تؤثر بشكل هائل على ما يحدث لهم" [13].

الأطفال سيئو السلوك هم أطفال محبطون، يعني على المربي أن يدخل في عالم الطفل الداخلي؛ ليكتشف سوء السلوك، ويتعامل مع القناعة الكاملة وراء السلوك السيء. ويجب أن يخضع المربي إلى تمرين يعلمه فن دراسة وفهم السلوك السيء حينما يصدر من الطفل، وفهم مشاعره، وتعليمه بضع خطوات صغيرة للتخلص منه لأنه يتألم[14]، والطفل المحب يحتاج إلى المحبة والاهتمام والاحترام وتوجيه اهتمامه نحو التعلم لتطوير إدراكه لقدراته[15]. يظهر الأطفال سلوكا أفضل عندما يشعرون بشعور أفضل، والوسيلة الفعالة في هذا المجال هي الاستراحة الإيجابية للطفل التي أوردناها. حيث يتحسن الشعور لدى الطفل ويتحسن سلوكه[16]. الإيمان بقدرات الطفل وأنه يستطيع تحمل المشاعر الصعبة والإحباطات والمشكلات وأن نثق بقابلياته على حلولها مع دعمه بالحنان والاهتمام [17].أن نؤمن به قبل أن نطبق فكرة التأديب الإيجابي حتى تكون تجربة فعالة ومشجعة ومفيدة للطفل لا أن تكون مهينة ومحقّرة ومذلّة له.

منح الحرية للطفل لممارسة حقه الطفولي وإشباعه حسب طبيعته، هو من مناهج الأبوة والأمومة العادلة، والمتوازنة، والصارمة دون عنف واستبداد، وتدع مجالا للطفل أن يكبر بشكل تدريجي ويأخذ حقه الطفولي كاملا من اللعب، وممارسة كل فعالياته البريئة حتى ينمو وينضج.

(يتبع)

***

إنتزال الجبوري - باحثة

......................

[1] عاقل، فاخر. مصدر متقدم، ص257.

[2]أنظر: العيسوي، أ.د. عبد الرحمن. سيكولوجية الطفولة والمراهقة. عمّان- الأردن: دار أسامة للنشر والتوزيع، 2009، ص25.

[3] الجندي، أنور. مفاهيم العلوم الاجتماعية. بدون مكان النشر: بدون دار النشر، بدون تاريخ، ص76.

[4] عبد الله، عبد الرحمن صالح. دراسات في الفكر التربوي الإسلامي. بيروت: دار البشير، ط1، 1408هـ- 1988م، ص57.

[5] كانط، مصدر متقدم، ص99-100.

[6] نيلسن، جان. مصدر متقدم، ص152.

[7] كانط. مصدر متقدم، ص90.

[8] نيلسن، جان. مصدر متقدم، ص14.

[9] نيلسن، جان. مصدر متقدم، ص36-39.

[10] نفس المصدر، ص27.

[11] أبي أرجوك لا تفعل هذا، ص73.

[12] نفس المصدر، 74.

[13] نفس المصدر، ص95.

[14] نفس المصدر، ص27.

[15] نفس المصدر، ص165.

[16] نفس المصدر، ص153.

[17] نفس المصدر، ص158.

 

رسم خريطة المشهد الذي تعيشه الأقليات في العالم العربي ليس سهلاً، وتحليل الوضع المعاصر الذي تواجهه هذه الأقليات أمر بالغ التعقيد، والنماذج أو الأساليب المتاحة لإدارة التنوع تحتاج مناهج مختلفة بما في ذلك الفكر الإسلامي التقليدي والحديث، والتعددية الثقافية الليبرالية، والتوافقية. ورغم أن لكل منها حدوده، فإننا نتبنى النموذج الذي يجمع بين نقاط القوة في كل منها، فهو لا يقدم الحماية القوية للأقليات فحسب، بل ويضمن أيضاً دمجها في بناء هوية وطنية متداخلة ومتقاطعة في الدول العربية. وعلى أساس التسامح والاعتراف، يسعى هذا النموذج إلى تقديم عملية قابلة للتطبيق من التكيف وإدارة الاختلاف، وهو الأمر الذي سيكون مطلوباً بشدة من أجل تيسير نظام أكثر ديمقراطية وتعددية في العالم العربي.

إن قضية الأقليات العرقية والدينية والمذهبية واللغوية بشكل عام تتسم بدرجة عالية من الحساسية، وينظر لها رغم أهميتها على أنها مسألة خطيرة، لذلك فإن مقاربة هذا الموضوع الشائك يحتاج الكثير من الدقة والروية والموضوعية والانضباط المنهجي، خاصة في ظل المرحلة الحالية التي تشهد عولمة اقتصادية وتوحش الرأسمالية الصناعية التي حولت أربعة أخماس سكان الكون إلى مستهلكين يلهثون خلف توفير مقومات الحياة التي حددت أنماطها ديكتاتورية الأسواق العالمية، بذريعة تحقيق الديمقراطية في المجتمعات الناشئة، وتحت شعارات حقوق الإنسان بشكل عام، وحقوق الأقليات بشكل خاص.

إن العناصر المتشابكة والتعقيدات التاريخية في مسألة الأقليات تشكل واحدة من أهم الصعوبات أمام أي باحث يتناول هذا الموضوع بالدراسة والتحليل، ويضعه أمام تحديات وخيارات دقيقة، فإما أن تكون مع الليبرالية الجديدة في الدفاع عن حقوق الإنسان بشكل عام، وحقوق الأقليات بشكل خاص، من خلال تبني براغماتية منفعية مقترنة مع دوغمائية لا تريد أن ترى إلا جانب واحد من الموضوع، وإما أن تكون في مواجهة التحديات، وأن تكون ضد إعادة ترتيب المجتمعات البشرية بما يتوافق مع المفاهيم الجديدة التي ينتجها الاقتصاد العابر للقارات، وبذلك قد تجد نفسك متهماً بتجاهل حقوق الأقليات والتفريط بها، أو التوجس منها في الحد الأدنى.

مشكلة الأقليات بعد الحرب العالمية الأولى

حتى إنشاء الدول القومية العربية في القرن العشرين، كانت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عبارة عن امتداد إسلامي حيث كان جميع المسلمين جزءًا من الأمة الإسلامية ويعيشون في نوع من الدولة الواحدة القائمة على الشريعة ويقودها خليفة. مع تفكك الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى وإنشاء القوى الاستعمارية في ذلك الوقت، بريطانيا وفرنسا، دولًا قومية جديدة، برزت قضية الأقليات في العالم العربي إلى السطح. لم تكن الدول العربية التي تأسست بضربة قلم ـ بما يتماشى مع المصالح البريطانية والفرنسية ـ كيانات سياسية متجانسة، بل ضمت أنواعاً مختلفة من الأقليات.  لقد أدى انبعاث روح القومية العربية في الدول القومية الجديدة، إلى ظهور احتكاكات بين الأقليات والأغلبية السنية، تحول إلى صراع يؤججه المستعمر الغربي لتحقيق مصالحه. كان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في أغلب الوقت، منقسمين بين حكام متخاصمين، على الرغم من أن المنطقة كانت مفتوحة أمام حركة الناس والبضائع.

مع إنشاء الدول الجديدة بعد الحرب العالمية الأولى كان من المتوقع أن تكون هذه الدول حديثة، ذات هوية مدنية وطنية منفصلة للدولة بأكملها، وأن تطور سياسة سياسية اجتماعية اقتصادية تضمن المساواة المعقولة لجميع المواطنين، والنمو الاقتصادي، والازدهار. هذا هو الأساس لإدارة كل دولة في العالم، والطريقة لمنع الصراعات التي تقوض الوحدة. هنا فشلت جميع الدول العربية.

بعد إنشاء الدول العربية مباشرة، وحتى قبل أن تحصل على الاستقلال الكامل، تنافست رؤيتان فيما بينهما فيما يتعلق ببناء الدولة وهوية مواطنيها: الرؤية الإسلامية والرؤية العلمانية الوطنية. بالنظر إلى مبادئهما الأساسية، كانت كلتا الرؤيتين بعيدتين عن أن تكونا مواتيتين للوحدة الوطنية وظهور دولة ديمقراطية متساوية. في كلتا الحالتين، كان تحقيق الرؤية يعني استبعاد مجموعات الأقليات المختلفة من النظام السياسي للأغلبية.

تقوم الرؤية الإسلامية على الدين الإسلامي الذي يحدد حكمها وبنيتها الاجتماعية. ووفقاً للرؤية القومية العربية العلمانية، فإن الدولة سوف تقوم على الجنسية العربية ـ أي أولئك الذين لغتهم الأولى هي العربية والذين يعتبرون الثقافة العربية ثقافتهم الخاصة. وبالنسبة للقوميين العرب العلمانيين، فإن أي شخص يلبي هذه المعايير يعتبر مقبولاً، وسوف يكون مواطناً يتمتع بكامل الحقوق بغض النظر عن الأصول العرقية أو الدينية.  وقد وضعت هذه الأيديولوجية المسيحيين، الذين كانوا منتشرين في مختلف أنحاء الدول العربية والذين اعتبروا أنفسهم في الغالب عرباً، ضمن مجتمع الأغلبية.  وفي الوقت نفسه، لم تترك هذه الرؤية الوطنية أي مجال للأقليات القومية أو الدينية للمطالبة بحقوقها كمجتمع منفصل، وهو ما يتعارض مع القومية.

من الناحية العملية، نشأ موقف حيث عملت قوتان معاً بجرعات مختلفة. ففي المرحلة الأولى، بعد تأسيسها، بذلت الدول العربية الجديدة جهداً لمعالجة مشكلة الهوية. وكانت الدساتير الأولى التي صيغت في مصر وسوريا والعراق في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، تحت تأثير بريطانيا وفرنسا، ليبرالية نسبياً ومنحت المساواة للمواطنين بغض النظر عن دينهم ـ على الورق على الأقل. ولكن كل هذه الدساتير أكدت أن كل دولة جزء من الوطن العربي وتعمل على وحدته، وأن الإسلام هو دين الدولة والشريعة الإسلامية مصدر التشريع. وقد أتاحت هذه الدساتير تعيين رؤساء وزراء من غير المسلمين السنة.

بدأت الروح الليبرالية نسبياً في التغير في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين مع فشل الرؤيتين في حل المشاكل الداخلية والخارجية للدول العربية. فلم تكن الاقتصادات تتطور؛ وكان الفساد مستشرياً. وفشلت الأنظمة العربية في منع قيام دولة إسرائيل. وقد شهدت هذه الفترة انتشار الفكر الديني والقومي في جميع دول الشرق الأوسط. وكانت النتيجة أن شهدت مصر وسوريا والعراق وليبيا والسودان انقلابات عسكرية زعمت أنها تعالج مشاكل المجتمع العربي. ووعدت الأنظمة العسكرية شعوبها بالتحديث والإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والتعليم الشامل. ولكن في غضون فترة قصيرة، تبين عجز هذه الأنظمة في الوفاء بوعودها، وبدلاً من ذلك تحولت تلك الدول إلى دكتاتوريات.

الدولة الديمقراطية

إن أحد ركائز الدولة الديمقراطية هو مبدأ المساواة الذي يعني في صيغته الموضوعية الحق في الاختلاف. يجب معاملة الناس على قدم المساواة، ولكن هل هذا يعني أنه من الضروري أحياناً معاملتهم بشكل مختلف لأن لديهم متطلبات مختلفة؟ إن ضمان مصالح الفئات المختلفة غير الممثلة، مثل مصالح الأقليات التي تتمتع بالحق في التعبير عن هويتها السردية الخاصة - المتعلقة باللغة، والثقافة، والدين، والتمثيل السياسي - حتى لو كانت تختلف عن رواية الأغلبية، تضمنه حقوق المواطنة في الدولة الديمقراطية التعددية التي تحترم التنوع بين مواطنيها. وهذا لا يعني فقط الحقوق السلبية، التي تستلزم درء التدخل من جانب السلطة العامة، بل وأيضاً الحاجة إلى فتح الباب أمام الإجراءات الإيجابية من جانب الدولة، استناداً إلى التمييز الإيجابي بين المجتمعات. وعلى هذا النحو، يترجم مبدأ المساواة الديمقراطية الشكلية (الأغلبية) إلى ديمقراطية جوهرية (دستورية). ومع ذلك، في السعي إلى تحقيق هذه الأهداف، قد يؤدي هذا المبدأ أيضاً إلى تغذية التوترات بين حكم الأغلبية وسيادة الدولة وحرية الأقلية في البقاء مختلفة. وهذا أمر أكثر وضوحاً عندما تتسم السياقات الاجتماعية بانقسامات واضحة للغاية.

تخضع الديمقراطية لمبدأها الأكثر فهماً على نطاق واسع، وهو حكم الأغلبية، والذي من خلاله تؤكد السلطة العامة على القوانين التشريعية متجنبة بذلك تفتيت المجتمعات المتميزة وإقطاع سيادة الدولة. ولكن عندما يقال إن هذه السيادة تعكس إرادة الشعب، فإن "الشعب" في الواقع يتم التعبير عنه من خلال الأغلبية، والتي غالباً ما تميل إلى استيعاب الهويات المختلفة، وبالتالي يقال إن هذه الديمقراطية لا توفر المساواة الحقيقية (الجوهرية) للأقليات، تستمر بعض المنظمات الدولية في الإصرار على انتهاك سيادة الدول القائمة وسلامة أراضيها، وبينما لا تزال أصداء النهج الاستيعابي قائمة، يُنظر إلى احترام حقوق الأقليات باعتباره أحد أعظم التحديات التي تواجه الديمقراطيات المعاصرة.

 بهذا المعنى، يجب تنفيذ مبدأ المساواة بطريقة تستوعب مطالب الأقليات وتحظر التمييز غير المعقول. وإذا كان الأمر كذلك، فإن مبدأ عدم التمييز لابد أن يغير طابعه من كونه مرتبطاً بشكل أساسي بمبدأ المساواة الشكلية إلى مبدأ عدم التمييز الذي يعكس أيضاً نهج المساواة الموضوعية. فضلاً عن ذلك، فإن مثل هذا النهج لابد أن يتطور في ضوء قضيتين مهمتين أخريين: حقوق الإنسان الفردية وطبيعة متطلبات الأقليات. فمن ناحية، فإن مبدأ المساواة يعني حقوق الإنسان الفردية، التي لابد من الاعتراف بها وضمانها على أي مستوى من مستويات المشاركة الديمقراطية ومن أي شكل من أشكال الاستبداد، بما في ذلك أشكال القمع التي تحدث داخل الأقلية. ومن ناحية أخرى، فإن طبيعة مطالب المجتمعات الفرعية واستجابات الدولة تختلف بشكل كبير من منطقة إلى أخرى إلى الحد الذي يجعل نفس السياسة، التي تبدو جذابة في سياق جيوسياسي، يمكن اعتبارها بشكل منهجي غير مواتية أو غير معقولة في أجزاء أخرى من العالم.

وتشكل مسائل حقوق الأقليات في العالم العربي أمثلة توضيحية على ذلك. لقد أدت هذه الأسئلة في الواقع إلى ظهور مجموعة كبيرة ومتنامية من الأدبيات، والتي ألهمت التحليلات المقارنة لقوانين الجنسية والأقليات العرقية والشعوب الأصلية فضلاً عن دراسات السياسات المثالية التي تحكم التنوعات في العالم العربي. ومع ذلك، هناك قيد شامل واحد. غالباً ما يبدو هذا الأدب غربياً أو عربياً عرقياً. وبالتالي، يتم المبالغة في بعض جوانب قضايا الأقليات ويتم التهرب من بعض الجوانب الأخرى أو تشويهها.

ثلاثة نماذج للمجتمعات البشرية

يشهد العالم خلال العقود الأخيرة عولمة اقتصادية- تؤسس لعولمة ثقافية واجتماعية- تعتمد على مبدأ توحيد الاقتصاديات الوطنية ودمجها في الاقتصاد العالمي الذي تسيطر عليه الشركات العملاقة، المتعددة الجنسيات- عابرة للقارات- التي تسعى خلف تكديس الثروات من خلال اعتماد سياسات اقتصادية تفترس الأضعف، وأهمها الشركات الأمريكية المنفلتة من عقالها.

وتستخدم هذه الاقتصاديات الثورة الإعلامية والتقنية والتقدم الهائل الذي حصل في قطاع الاتصالات وثورة المعلومات، وتوظفها من أجل تحقيق أهداف الاحتكارات الكبرى في تفكيك وتفتيت البنى الوطنية الاقتصادية منها والسياسية والاجتماعية والثقافية، وتمزيق روابط الدولة الوطنية، وتقويض ركائز الهوية القومية، من خلال أساليب متعددة، لعل أهمها هو محاولة إحياء الهويات ما قبل الوطنية بهدف جعلها بديلاً عن علاقات المواطنة التي هي أساس قيام الدولة الحديثة التي حلت قضية الأقليات حلاً ديمقراطياً.

ويمكن تصنيف المجتمعات البشرية  إلى ثلاثة نماذج من حيث التنوع الديني والمذهبي والقومي والعرقي واللغوي والثقافي.

 أولاً: هي المجتمعات التي تحتوي فسيفساء ومجموعات وكيانات غير قابلة للاندماج مع بعضها البعض. وثانياً: المجتمعات التي تضم مجموعات نقية من حيث العرق أو القومية أو الدين، وهي مجتمعات صافية لا وجود للأقليات فيها. ثالثاً: بين هذين الحدين تقع المنطقة التي تضم المجتمعات القائمة على التنوع والتعدد العرقي والديني والمذهبي وهي مجتمعات قابلة للاندماج فيما بين مكوناتها.

إن الدول العربية ـ باستثناء لبنان ـ يقع ضمن التصنيف الثالث، فالمجتمعات العربية تتسم بالتنوع الديني والمذهبي والعرقي والقومي واللغوي والثقافي، ورغم هذا التنوع والتعدد إلا أنها مجتمعات قابلة في ذات الوقت للانصهار والاندماج فيما بينها، تظل الحالة اللبنانية عربياً تحتاج إلى البحث عن حلول ومخرجات علمانية ديمقراطية جذرية، كي لا يظل الوضع في لبنان كالقنبلة الموقوتة تنتظر إشعال فتيلها.

لقد قطعت المجتمعات العربية خطوات مهمة في طريق الاندماج الاجتماعي والوطني لبناء دولة المواطنة الحديثة، وهذه المجتمعات كانت قد صدت كافة محاولات الاستعمار المباشر في تقسيمها إلى دويلات متناحرة، وظلت مع مرور الوقت عصية على التفتيت وحافظت على وحدتها الوطنية.

إن قيام الفكر القومي التقليدي ـ وكذلك القوميين ـ الجدد بتجاهل موضوع الأقليات، من خلال الهروب إلى الأمام وعجزه عن ملامسة ملامح الإشكالية، واتهام الخارج بأنه من يسبب الاضطرابات والأزمات الداخلية في بعض الدول العربية، متناسياً أن وجود الأقليات في هذه الدول أقدم من مرحلة الاستعمار، ويغيب عن هذه الأنظمة أن عدم وجود رؤية موضوعية للتعامل مع الأقليات ومع خصوصياتها هو ما يجعل من هذا الموضوع مشكلة، وأن المقاربات غير الديمقراطية هو ما يجعل من مسألة الأقليات أزمة داخلية، وهو ما يوفر عوامل انفجارها، ويمهد الطريق للتدخلات الخارجية.

نحن أمام قضية تعود جذورها التاريخية إلى مرحلة ما قبل الفتوحات الإسلامية، إن ظهور الإسلام وانتشاره انطلاقاً من شبه الجزيرة العربية لم يلغ الديانات والمذاهب التوحيدية الأخرى، بل جعل أتباع هذه الديانات في ذمة المسلمين، ذلك لأن الدين الإسلامي هو دين يقوم على التوحيد والوحدة والتعدد. إلا أن الانشقاق الذي حصل بين صفوف المسلمين على أثر معركة “صفين” أو ما يعرف بالفتنة الكبرى في العام 37 هجرية، كان من نتيجة هذه الحرب ظهور مذاهب إسلامية جديدة تعمقت الاختلافات فيما بينها مع الوقت حتى وصلت لقضايا العقيدة ذاتها.

ثم دخل الإسلام أمم وأقوام شتى، تعرّب بعضها واحتفظ بعضها الآخر بهويته الاثنية أو اللغوية الثقافية، وضمت الدولة ثم الإمبراطورية الإسلامية مللاً وديانات ومذاهب وقوميات وأعراق مختلفة ومتعددة، دخلت جميعها في النسيج الاجتماعي والسياسي والثقافي العربي الإسلامي بشكل كلي أو جزئي، واستمرت حالة التعايش بين هذه المكونات عقوداً طويلة، ومع قيام دولة الخلافة العثمانية ظهرت الدولة المركزية العسكرية وبدأت قضية الأقليات بالظهور وأخذ بعض أركان دولة الخلافة في تسييس هذا الموضوع الذي تعمق أكثر مع انهيار الخلافة العثمانية وظهور النظام الرأسمالي الذي ابتدع نظام حماية الأقليات، وجاء الاستعمار الكولونيالي لتنتشر سياسة  فرق تسد.

معزوفة حقوق الأقليات

إن مرحلة الاستعمار في العالم العربي شهدت تأثر المنطقة ببعض إنجازات الثورة البرجوازية الديمقراطية الأوروبية، ومنها قضايا حقوق الإنسان التي تم سنها في الدساتير الأوروبية، وتعامل الاستعمار مع الأقليات بصورة تظهره على أنه حامي مصالحهم ووجودهم، وفي بعض الدول حاول المستعمر دمجهم قومياً عبر تشريعات، لكن الأكثرية الإسلامية رفضت وتصدت لهذه المحاولات بسبب رفضها أساساً الاستعمار على أراضيها وبالتالي رفضها لأي سياسات يحاول فرضها عليهم، ثم إن الأكثرية المسلمة رفضت أيضاً محاولات الاستعمار في تغريب المسيحيين المشرقيين، هذا الأمر خلق نوعاً من التصادم  بين المجتمعات العربية المسلمة التقليدية، وبين الأفكار الغربية الديمقراطية، وهو ما أدى إلى تعقيد مسألة القوميات، ووضع العراقيل أمام الحلول الديمقراطية لاندماج هذه الأقليات بمجتمعاتها، وهكذا ظلت الدول العربية بعد حصولها على الاستقلال السياسي دولاً تضم مجتمعات تعاني من أزمات معلقة مربكة وملفات مفتوحة لا تتوفر ظروف معالجتها وإغلاقها، وأهمها قضية الأقليات.

 وهكذا وجدت هذه المجتمعات أنها غير قادرة على العودة إلى نظام الذمة القديم في عهد الدولة الإسلامية، ولا هي قادرة على القيام بثورة ديمقراطية تؤسس لمعالجة جذرية سلمية وعصرية وديمقراطية لقضية الأقليات، وهذا واحد من أهم الأسباب التي جعلت من هذه الإشكالية في العالم العربي أزمة طائفية طاحنة تلخص أزمة الأمة، وتحتوي فتيلاً قد يشتعل في أية لحظة ويحرق اليابس وما بقي من الأخضر في عموم المنطقة.

لكن ما الذي جعل من موضوع الأقليات في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يتضخم ويتخذ هذا القدر من الحدة القابلة للتفجر؟

بظننا أن الحقبة التي تم فيها اكتشاف البترول شكلت بداية ما أسميه سلسلة من الانتكاسات تعرضت لها عموم المنطقة، حيث أعقبتها استهدافات متتالية لم تتوقف لغاية الآن من قبل القوى الاستعمارية العظمى، هدفها السيطرة على ثروات المنطقة ونهبها وكذلك السيطرة على عقد المواصلات والمعابر المائية التي تضمن للدول الغربية استمرار تدفق النفط، ووصول بضائعها إلى الأسواق المستهدفة.

فظهرت شعارات “حماية الأقليات” و"حقوق الأقليات" وهي شعارات تعني أن هذه الأقليات مهددة من “الأكثرية”، ويصار إلى الإشارة للأقليات بالاسم الواضح من حيث العرق والدين والمذهب واللغة والثقافة والتاريخ، ويشار إلى أنه في المقابل توجد أكثرية كتلة واحدة كبيرة ومتجانسة تهدد الأقليات الصغيرة والضعيفة.

لكن في واقع الأمر ليس هناك أكثرية واحدة في العالم العربي، ولا يوجد أقليات ثابتة من حيث التنوع السياسي والاجتماعي والثقافي، ولا يمكن تصوير الأمر على أنه لدينا أقلية تواجه أكثرية ثابتة.

إن الواقع في المنطقة يشير إلى وجود أكثريات وأقليات متنوعة بتنوع المعايير والمقاييس التي يعتمدها طرف من الأطراف للتمييز فيما بين هذا التنوع. فإذا كان معيار التمييز إثني قومي كانت الأكثرية عربية والأقليات أمازيغية، وكردية، وأرمينية، وآشورية، وسريانية، وتركمانية، وشركسية، وشيشانية. وإذا كان المعيار دينياً فإن الأكثرية مسلمة، والأقليات مسيحية، وايزيدية، والصابئة، المندانيون، واليهود. أما إن كان المعيار مذهبياً فالأكثرية سنية، والأقليات درزية، وعلوية، وشيعية، واسماعيلية.

يوجد في الوطن العربي تعدد وتنوع، واختلاف وتعارض، في الوطن العربي جماعات قومية ولغوية ودينية وثقافية ومذهبية وعرقية واثنية وطوائف وطرق صوفية وغير ذلك. لكن المهم والأهم الإيمان بأنه لا وجود لتعدد وتنوع من غير وحدة، ولا وجود لاختلاف وتعارض من غير تماثل وتشابه. وهذه الرؤية تجاهلها المستشرقون وتجاهلها الغرب ويتم تجاهلها من قبل المستغربين الجدد الذين شرعوا في التقوقع داخل مجتمعاتهم، وقاموا بهدم الجسور التي تربطهم مع الشرائح الاجتماعية الأخرى” الأكثرية” بدلاً من تعزيز وتقوية قنوات التواصل، وبدأوا بالتحريض ضد ما يعتبرونه الأكثرية لإثارة الفتنة بين مكونات هذه المجتمعات بهدف تمزيق أواصر ترابطها كخطوة نحو المطالبة بالانفصال. بل أن بعضاً من مكونات الأقلية في الوطن العربي ذهب لإقامة اتصالات مع الكيان الصهيوني عدو الأمة العربية، بذرائع واهية. وتم رفع العلم الإسرائيلي في عدة مناسبات تخص تلك "الأقليات" سواء في البلدان العربية، أم في بعض الدول الأوروبية.

إن حقوق الإنسان بظننا لا تستقيم دون احترام قيم الوحدة والتماثل، ولا يمكن أن تكون مفاهيم حقوق الإنسان قضايا انتقائية على الطريقة الأمريكية، لأن البشر مختلفون منذ الأزل وسوف يظلون كذلك، لكن تجمعهم الإنسانية، فمن يقول إن الأمازيغ في دول الشمال الإفريقي ليسوا فقط مختلفين عن العرب، بل مختلفين حتى فيما بينهم أيضاً؟

ومن يقول إن العرب مختلفون فقط عن الأكراد على سبيل المثال، بل هم أنفسهم مختلفون كعرب فيما بينهم؟

وكذلك حال المسيحي، والدرزي، والآشوري، والتركماني، والأرمني، والشيعي، والعلوي، جميعهم مختلفون عن الآخرين لكنهم أيضاً مختلفون فيما بينهم بنواح عديدة.

كل هذه الاختلافات بين ما يسمى الأكثرية والأقلية، وبين مكوناتهما هي اختلافات طبيعية وموضوعية وإنسانية، لكنها تفترض المساواة أخلاقياً، وسياسياً، وقانونياً. فلولا هذه الاختلافات لما كانت هناك حاجة إلى المساواة، فالاختلاف يستدعي ويتطلب مساواة سياسية واجتماعية وحقوقية أمام سلطة القانون في دولة منية حديثة، دولة المواطنة التي ترعى جميع مكوناتها دون تمييز.

اختلاف يعزز الاتحاد

إن المساواة البشرية في الحقوق والواجبات في هذه المجتمعات لا تعني بأي حال إلغاء الفروق بين مكونات المجتمع، لأن إلغاء الفروق يؤدي إلى العدم والقفز في الهواء. فالمساواة الوطنية أمام القانون هو مفهوم قائم على مبدأ تساوي الجميع انطلاقاً من مبدأ المواطنة. والعلاقة بين المساواة والاختلاف هي نفسها العلاقة بين الذات والوجود، ومن هنا فإن قضايا حقوق الإنسان برمتها يمكن مقاربتها ضمن سياق هذه المفاهيم الديمقراطية، وما حقوق الأقليات سوى غصن من الأغصان.

إن الاختلاف بين المكونات المجتمعية في الوطن العربي كما بقية العالم هو واقع موضوعي، والعبرة تكمن في إدراك الأقليات لاختلافهم بشكل علمي وحضاري وديمقراطي ضمن إطار دولة المواطنة، باعتبارهم مواطنين على ذات الدرجة من المساواة في الحقوق والواجبات مع الأكثرية، وليس باعتبارهم أقلية عرقية أو دينية، ودون إذكاء الروح القومية والعصبية لديها، والنظر إلى الاختلاف لتعزيز الاتحاد مع بقية المكونات. وإدراك الجماعات الأخرى لهذا الاختلاف واحترامه، والعمل سوياً من أجل تعزيز التلاحم الوطني الداخلي فيما بينهم.

إن حرمان الأقليات من حقوقها من قبل الأكثرية من شأنه أن يؤدي إلى عزلة هذه الجماعات عن المجتمع، ويولد لديها وضدها نعرات قومية ودينية، وقد تبدأ هذه الأقلية في بناء الأسوار كي تحمي نفسها وتحاول أن تحفظ حقوقها ومصالحها، لكنها سوف تجد نفسها سجينة داخل هذه الأسوار، وهكذا تنشأ الحواجز الاجتماعية فيما بين الجماعات المكونة للمجتمعات، وتنغلق هذه الجماعات على نفسها، حينها لا يمكن أن ترى هذه الجماعات سوى مصالحها الخاصة، ولا ترى في مصالح الآخرين سوى أنها عقبات وإشكاليات يتوجب إزالتها، وهكذا تنمو مصالح ومفاهيم جديدة يصبح مع الوقت من الصعب إدماجها في المجتمعات.

 وهنا تبدأ الإيديولوجيات المنغلقة بالظهور، وتجد من يعمل على نشرها وترويجها، وتجد العديد من الناس ممن لديه الاستعداد للقبول بها على أنها حقائق ومسلمات. متغافلين عن البديهيات التي تؤكد أن العلاقات الاجتماعية دوماً تحتوي في طياتها آليات معقدة وعناصر متعددة ومركبة، تتضمن قابليات التماثل للاندماج والوحدة، وكذلك عوامل التنافر والإقصاء. ولذلك فإن مسألة الأقليات ليست مرتبطة بكيانات منغلقة ومنعزلة، ولا بهويات ثابتة، ولا بمكونات حجرية، بل إنها ترتبط بنمط وشكل العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية ومستوى تطور هذه العلاقات، وكذلك بمستوى الوعي الاجتماعي والحياة المدنية في هذا المجتمع أو ذاك.

التعددية الثقافية اللبرالية

تظهر مسألة الأقليات في العالم العربي كأنها وميض الجمر تحت الرماد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مع ملاحظة أهمية إيجابية الخطوات التي قطعتها المملكة المغربية بمقتربة هذا الملف خلال العقدين الماضيين

وشهدت السنوات الأخيرة تزايداً ملحوظاً في الحديث عن قضية الأقليات في المنطقة العربية، ورغم استقرار المجتمعات العربية عموماً، إلا أن استمرار الغرب المستعمر في العزف على وتر الأقليات يعود إلى فشل الأنظمة السياسية في المنطقة في إجراء مقاربات موضوعية وديمقراطية لهذه الإشكالية التاريخية، وبالتالي عجز هذه الحكومات عن تقديم حلول جذرية لهذه القضية بدلاً من المحاولات المستمرة لاحتوائها، وتجاهل الأسباب الموضوعية الكامنة خلفها.

وهناك أسباب أخرى متعلقة بظهور خطاب قومي متطرف ومتشدد لدى بعض قادة الأقليات يدعو إلى الانفصال عن الدولة الأم، ويتبنى العنف في مواجهة الدولة، ويحرض على عدم الاستقرار السياسي، الأمر الذي يولد خطابات متطرفة من الجانب الآخر، وهو ما يدخل هذه المجتمعات في دائرة الفوضى والفشل.

إن الاكتفاء بالمقاربات الأمنية فقط لمعالجة قضية الأقليات، دون الالتفات إلى خلفيات ومسببات الاحتقان الاجتماعي لدى الأقليات، سوف يؤدي إلى تراجع هذه القضية ثم إلى ظهورها مرة أخرى بشكل أزمة أشد خطراً مما كانت عليه.

إن الأقليات في هذه المنطقة جزء مهم ومكون رئيسي من هذه المجتمعات التي يفترض أن تستمد قوتها من تعددها الديني والعرقي واللغوي والثقافي، ويجب أن يكون هذا التنوع  سبباً لإثراء الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإغناء لقيم المواطنة والتسامح والانفتاح، بدلاً من الانغلاق والتعصب والشعور بالدونية أو التعالي.

يحتاج الفكر القومي إلى التحرر من هاجس وعقدة المؤامرة، كي يتمكن من تأكيد الطابع الإنساني للأكثرية. وتحتاج الأقليات إلى التحرر من عقدة الاضطهاد كي تتمكن من بناء الدولة الحديثة مع الأكثرية، باعتبار الجميع مواطنين متساوين أمام القانون في الحقوق والواجبات، حيث تصان كرامة الجميع وحقوقهم الأساسية في دساتير لمجتمعات متمدنة لا فضل فيها لأحد على أحد.

إن التفاعل بين التقاليد المحلية للتعايش والخطابات العالمية للتعددية الثقافية لابد وأن يعمل على نحو ثنائي: فلا ينبغي لنا أن ندرس فقط كيف يتم استخدام الخطابات العالمية أو الطعن فيها داخل العالم العربي، بل وأيضاً كيف تعمل الأصوات العربية على تشكيل الخطابات العالمية. ومع ذلك فإن التجربة تشير إلى أنه ليس من السهل تحديد الأصوات العربية داخل مخطط غربي مُصاغ مسبقاً للتعددية الثقافية الليبرالية. فذا كان للتعددية الثقافية أن تكون ذات صلة، فلابد من إعادة صياغة علاقتها بالليبرالية لتوضيح أن الليبرالية لها الأولوية، وأن تأمين البنية الأساسية للديمقراطية الليبرالية يأتي قبل السعي إلى ديمقراطية ليبرالية متعددة الثقافات على وجه التحديد. وهذا أمر ضروري لكل من العالم العربي والغرب. وإذا لم تتمكن التعددية الثقافية في العالم العربي من ترسيخ جذورها حتى يتوفر الحد الأدنى من الديمقراطية الليبرالية، فمن الصحيح أيضاً أن التعددية الثقافية في الغرب تواجه ردود فعل عنيفة عندما يُنظَر إليها على أنها تبتعد عن المبادئ الليبرالية الأساسية.

***

الدكتور حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

أعطينا تجربة الشاعر في المقال السابق النصيب الأوفى من حيث الدلالة الفنية، وقاربناها بتجربة الصوفي من حيث الدلالة الذوقيّة، وفي هذا المقال سوف نراجع خلال هذه العناصر ما كنا توقفنا عنده لنكمل خصائص التجربة الصوفية في ملامحها العامة.

(1) استدراك في استهلال:

في المقال السابق تحت هذا العنوان تحدثتُ عن الطبيعة الفنية لدى الشاعر المطبوع كونها تقترب من التجربة الصوفية عند الصوفي الكبير، تأخذ عنها وتتوحد بها حتى لا يكاد أحد أن يُفرّق بينهما، يظهر هذا في العلاقة بين الحب والموت، وهو ممّا لا شك فيه ولا خلاف عليه.

إنّما الأمرُ هنا لا يتوقّف عند حدّ العلاقة بين الحب والموت وكفى، بل يتعدّاه إلى ما بعده، وهو بقاء القصائد الشامخة في الوجدان الراقي، الصافي النقي، لتشرح العلاقة بين الحبّ والموت، وتجلو الصلة القويّة بين الحبّ الحسّي والحبّ الروحي، إذ كان الأول مقدّمة للثاني. ولا يفهم من الثاني (الحب الإلهي) إلا ما يستقر عليه الفهم حقيقةً من الحب الأولىّ، (الحبّ الحسيّ)، فلم تبدع رابعة العدوية في ميدان الحبّ الإلهي إلا بعد تجربة ممضّة مع الحبّ الحسيّ، ولم تكن الصبابة التي يعانيها المحبُّون في الأودية الحسية إلا مذاقاً إنسانياً صادقاً من ظلال التجربة الروحيّة، هذا ما ذكرته بنصه وحرفه في المقال السابق.

ثم ذهبت استطرد في الحديث عن العلاقة الظاهرة بين الحب الحسي والحب الروحي موضحاً أنّ المحبين في عوالم المحسوس هم أنفسهم المحبُّون في عالم المعقول، أو في عالم الروح. وأنّ معاناة التجربة في ميدان المحبّة الحسيّة هى نفسها معاناة التجربة في ميدان المحبّة الروحيّة، وأنّ القادرين على تذوق الحبّ الحسّي هم أنفسهم القادرون على تذوق الحبّ الإلهي من وراء الأشباح والظلال.

فارقُ التجربة الشعوريّة عندي هو التوجُّه، ولكن نهايات التجربة في الحبّ الحسّي تكون في الغالب بدايات التجربة في الحبّ الروحي الخالص، وربما يختلط الأول بالثاني وليس من ريب، وتكون التجربة واحدة، وتزول الفوارق الشعوريّة بين التوجُّهات وتذوب، فلا يعرف المُحب في أي واد من الأودية يتوجّه فيُسلم لها قياده؛ لأنه لا يلمس فارقاً باطناً في أصل المحبّة ولا يكاد يقف عليه.

وضربتُ المثال في المقال السابق بشعراء بني عُذرة كجميل بثينة، وقيس لبنى، وغيرهما من شعراء التبتُّل والعفّة، إذ كانوا أكثر الناس دلالة على هذا النوع بالحبّ إلى الموت؛ لوجود علاقة رُوحيّة صافية بين الحبّ في الأودية الحسيّة والحبّ في الأودية الروحيّة. وذكرت على سبيل الجزم واليقين أنّ صبابة العشّاق لوعة مُخامرة هى نفسها تكاد تكون الصبابة التي يعيشها أصحاب الأذواق والمواجيد.

وقلتُ إنّ الحُبّ الإلهي أصلُه في الإنسان محبّة جزئية محدودة بوقوف الهوى على المُحبّ - أي اقتصار المُحب على من يحب - تفاصيلها نزوع الوجدان إلى الأصل، وكلما اقتربنا من الأصل زالت الفوارق وذابت الحواجز والمحاجيب، وحلّت من ثمّ الوحدَة محلّ التعدُّد والكثرة، فليس يبقى إلّا الواحد على الدوام.

(إنّ الغرام هو الحياة، فمُت به صَبّاً، فحقّك أن تموت وتعذرا)

هكذا كان ابن الفارض يقول. ومنه يتبين كما يتبين من زملائه شعراء الصوفية أمثال ابن عربي والحلاج أو من شعراء الصوفية الفرس أمثال جلال الدين الرومي وفريد الدين العطار وعبد الرحمن جامي ومحمود شبستري أن الحب في أتمّ معانيه هو: الإفصاح عن أقوى النزعات الروحيّة في الإنسان، واتجاه هذه النزاعات نحو الأصل الذي صدرت عنه، نحو الله تعالى.

هذا ظل ثابت في وجدان العشاق من ظلال التجربة الصوفية لا يمكن تغافله أو صرف نظر الدارس عنه بحال، لأنه يمثل في الروح الإنساني أشجان أتراحها وأفراحها، أوجاعها ومكامن غبطتها.

وعليه، فلا يوجد صوفي واحد له رأي أو مذهب أو أثر من آثار الكتابة والتدوين ولا تكون له تجربة روحيّة ينطلق منها ويعتمد عليها ويتذوق آثارها فيما يرى أو يقول؛ فلئن فاتته التجربة فلم يستطيع خوضها وركوب متاعبها؛ فلا يخلو من شرط التعاطف معها على أقل تقدير.

ولأجل هذا تجئ التجربة الصوفية دائماً أسبق لدى الأولياء والعارفين من الفكرة الفلسفيّة. وما الفكرة الفلسفية في ظلال التجربة الحيّة المعاشة إلا بمثابة شرح العقل النظري لتجارب العمل والإنشاء في إطارها. ولولا وجود التجربة الصوفيّة معتمد الأولياء والعارفين ما صَحَّتْ على الإطلاق أذواقهم ولا مشاربهم ولا أحوالهم، وما صَحَّ لهم حال ولا سرُّ ولا معرفة ولا علم ولا نظر، بل ولا مذهب ولا نظرية ولا رؤية ولا استقام لهم طريق؛ إذْ التجربة الصوفية مناط الثورة الروحيّة في الإسلام ومستندها الفاعل بغير شك، وأساس الثمرة المرتقبة من وراء المذاهب والآراء.

(2) التجربة الصوفية كثورة روحيّة:

الحقيقة بعد كتابة المقال السابق وبعد الفراغ من مراجعته، وقع نظري على كتاب (التصوف: الثورة الروحيّة في الإسلام) للدكتور أبي العلا عفيفي، وهو كتاب من الأهمية بمكان بحيث لا يمكن لباحث في التصوف الإسلامي أن يستغني عنه، كتاب مهم مكتوب بوعي مع حب، وتجربة حقيقية لا زيف فيها، وهو مصقول بخبرة واعية مع تراث الصوفيّة، يكفي فقط أن تقرأ فيه هذه العبارة:" ولنتذكر دائمًا أننا ونحن نكتب عن الصوفية وأحوالهم الغريبة وأطوارهم العجيبة، إنما نرقب الركب وهم يسيرون في طريقهم إلى غايتهم، ونحاول أن نقف - كلما أمكننا الوقوف - على البواعث التي تدفعهم إلى سفرهم، وأن نتعرّف الشعاب والدروب التي يسلكونها، والزاد الذي يتزودون به، واللغة التي يصفون بها الطريق، والغاية التي يصلون إليها. كل ذلك من غير ادِّعاء من جانبنا أننا نسير في ركبهم أو أننا نعرف دخائل أسرارهم أو نُترجِم عن حقيقة أحوالهم، فإنّ المترجم عن أحوال الصوفية هو الذي يُعاني ما يعانون، ويجرّب ما يجربون من الأحوال والأذواق".

أقول؛ يكفى فقط أن تقرأ هذه العبارة الخلابة لترى مقدار التعاطف مع الصوفية، ومقدار الأدب الجم الذي تمتع به الكاتب وهو يحدثنا حديث الوجد (منهجاً) عن الكتابة في الصوفية جليّاً، ويصف معاناتهم الروحية ومنازلاتهم الشعوريّة في غير ادّعاء من جانبه بالوقوف على حقيقة تجاربهم أو معرفة دخائل أسرارهم، لا بل فقط ما هو إلا باحث عن حقيقة أحوالهم يرقب الركب وهم يسيرون في طريقهم إلى غايتهم ليس إلا، فكما كتب "الكلاباذي" قديماً كتابه "التعرف لمذهب أهل التصوف"، لا لشيء إلا ليتعرّف فقط مُجرد تعرف على أحوال القوم وعلومهم، كذلك يأتي الدكتور عفيفي رحمه الله، ليتابع نهج أسلافه من كبار العارفين، ليقول إنه يرقب الركب، ولا يتعدى، ولا يدعي أنه يترجم عن الحال؛ فإنّ المترجم عن أحوال الصوفية هو ذلك الذي يعاني مثل ما يعانون من الأحوال، ويجرب مثل ما يجربون من الأذواق.

تواضع تصحبه معرفة. وحدها هذه العبارة تترجم عن عقل كبير وذوق بصير وطوايا نظيفة، عبارة لا يقولها إلا الدكتور عفيفي طيّب الله ثراه أو مَنْ في طبقته.

لم تكن هي المرة الأولى التي أتوقف فيها أمام كتاب الدكتور أبي العلا عفيفي، رحمه الله رحمة واسعة، (التصوف الثورة الروحية في الإسلام)، بل طالعته عدة مرات بما لا أدري حصره، ونقدتُه كثيراً كما استفدتُ منه كثيراً. واعتبرته منذ سنوات طويلة المرجع الأصيل للدراسات الصوفية الأكاديمية الخالصة، ولم أعتبر سواه من كتب الأدعياء والمتطفلين، لأن هذه الكتب على تعددها تنقصها الذائقة كما ينقصها عنصر الكمال الذي سبقت الإشارة إليه في تناول علوم الصوفية، والتحقق من تجاربهم، وتذوق لغتهم وإشاراتها، ثم التعاطف المشبوب مع معاناتهم الروحيّة.

كتب ينقصها الإخلاص، كما ينقصها الفهم والتخريج، ويزيدها فقدان إعمال المنهج نقصاً على نقص مع ظلمة في الوعي وعقم في البصيرة. كتب تخبط في كثير ممّا تتناوله بالبحث والدراسة خبط عشواء، فهي - من ثم - ليست حقيقة بالوقوف عندها لمجرد شهرة أصحابها أو حتى لدعواهم في هذا الفن بالاختصاص.

كان أول ما طالعته من كتابات الدكتور عفيفي، رحمه الله، تعليقاته على فصوص الحكم لابن عربي، ثم قرأت كل ما كتب حرفيّاً، ومع إعجابي بكتاباته منهجاً ورؤية، لم أكن معجباً بنزعته الأكاديمية الحادة، ولا بتطبيق مناهج المستشرقين تطبيقاً حرفياً على تراثنا الصوفي الإسلامي. ولكنني في المجمل أقدّره وأعرف قدره، وحين أجد رأياً فيما يكتب بعيداً عن الصواب لا أتردد في نقده، غيرةً على مكانته وعرفاناً بمناقبه.

كنتُ قد أهديت له كتابي (التجربة الصوفية) وهو من الكتب التي أعتز بها أيما إعزاز، صدر في العام ٢٠٠٢م، وحين كنت طالباً في مرحلة الماجستير والدكتوراه كنت أحب أن أسمع كثيراً من أستاذي الدكتور عاطف العراقي عليه رحمة الله، الحكايات المشوقة عنه، وكنت دائماً ما أذكّره به فيحكي لي عنه، ويقول كلما رأيتك تذكرت الدكتور عفيفي، ويستطرد في حديثه عنه ويقول: كان في أيّامه الأخيرة يفتقدونه فيبحثون عنه، وبعد عناء من البحث يَجدونه جالساً في استغراق في مقام سيدنا الحسين بالقاهرة.

كان الدكتور عاطف العراقي عقلانيّاً لا يؤمن بجذبات الحق للصوفيّة، وكلما يذكر هذه الحكاية ينفجر ضاحكاً ويشير إليّ ويقول: مصيرك تصبح مثله؟! وكنت أبادله الضحك لكنه الضحك الذي ينتهي في النفس بلوعة أسيانة عندي. سبحان الله! أكاديمي درس المنطق والفلسفة، وأخلص في دراسة التصوف فيجذبه الحق إلى رحاب الأصفياء. وأي جذبة روحية تلك عامرة بفيض اللقاء لا يتمناها مخلص؟!

يرى الدكتور عفيفي - طيب الله ثراه - إنّ المحور الذي يدور حوله بحث الباحثين في الحياة الصوفية هو "التجربة الصوفية" التي أطلق عليها الصوفيّة أنفسهم اسم "الحال"، ووصفُوها بأنها المنزلة الروحية التي يتَّصل فيها العبد بربه، أو يتَّصل فيها المتناهي باللامتناهي، كما وصفوها بأنها المنزلة الروحية التي يحصل لهم فيها الإشراق، ويفيض عليهم فيها العلم الذوقي.

وليست هذه الحال من أحوال العقل الواعي، وإلا كانت خاضعة لحكم العقل وقوانينه، وإنما هي حالة من حالات الوجود الباطن المتحفز للإعلان عن نفسه في كل ضروب النشاط الروحي.

بعبارة أخرى، هي حال من أحوال "الإرادة"، والإرادة هنا بمعنى مُطلَق النزوع لا بمعنى الاختيار. واتصال الإرادة المتناهية بالإرادة اللامتناهية، وانمحاؤها فيها هو ما عبَّر عنه الصوفية تعبيرًا دقيقًا باسم الفناء في الله.

(3) القلب لا العقل:

القلب أو المعرفة القلبية لا العقلية رمز من رموز الحقيقة المجهولة المغيبة التي لا يكاد أحد يعرف شيئًا عن كنهها. في التجربة الصوفية تتحدَّد الإرادة الإنسانيّة مع العاطفة في الرغبة الملحَّة التي تدفع بالنفس دفعًا إلى تجاوز عالم الحس والعقل إلى عالم تتصل فيه عن طريق الحب إلى محبوبها الأول الذي تدركه النفس بالذوق كما يقول الصوفية، أو تدركه في النفس حاسة مُتعالية كونية Cosmic Transcendental Sense كما يُسميها علماء النفس الحديثون.

أمّا أن هذه الحاسة "كونية"؛ فلأنها تدرك الوجود في كليته وإطلاقه ولا يَحجبها عن هذا الإدراك الصفات المشخصة للأشياء، وهي الصفات التي ترجع من جهة إلى عمل الحواس الظاهرة، ومن جهة أخرى إلى الأساليب العقلية لإدراكه.

وأمّا أنها متعالية وفوق الطبيعة؛ فلأنها تتجاوَز بطريقة لا يُعرفُ كنهُها حدودَ العالم الطبيعي وقيوده إلى عالَم تنمحي فيه صفات الذاتية الفردية مثل "الأنا" واﻟ "نِّي" واﻟ "ي" (ياء المتكلم) وهي ما يجعل الإنسان ذلك الكائن المتناهِي المحدود.

ولم يهتد علم النفس القديم ولا الحديث، كما لم يهتد الصوفية أنفسهم إلى معرفة كنهِ هذه الحاسة الغريبة، ولا إلى موضعها من الحياة الروحية، وإن وصفها الجميع - أو بالأحرى وصفوا مظاهرها ووظائفها - بصفات متقاربة، فهي تعقل نوعًا ما من التعقل، ومع ذلك ليست هي العقل الذي نعرفه، وهي تنزع نحو موضوعها وتتعشقه إلى درجة الفناء فيه؛ أي إن فيها عنصرَي (الإرادة والوجدان) كما قلنا، ولكنها مع ذلك ليست الإرادة التي نعرفها، ولا هي واحدة من العواطف التي لنا عهد بها.

فهي حاسة عاقلة مريدة وجدانيّة مختلفة تمام الاختلاف عن الحواس والقوى العقلية الأخرى التي ندرك عملها في حياتنا الشاعرة، وهي وإن كانت موجودة في كل إنسان بالقوة، فإنها لا توجد في كل إنسان بالفعل، ولم يحدثنا عن وجودها سوى ذلك الصنف من الناس الذين بلغت فيهم الحياة الروحية أوج كمالها.

وتلعب العاطفة دورًا له خطورته في "التجربة الصوفية"، وإلى عنصر العاطفة فيها ترجع مظاهر الشمول والاستغراق والفناء، وما إلى ذلك من الصفات التي تتمثل في وحدة الطالب والمطلوب، أو المحب والمحبوب. فالتصوف كالفن لا وجود له بدون العاطفة الجامحة. وإذا حصرنا النشاط الروحي في الإنسان في اتجاهين كما يقولون: اتجاه نحو حب الحقيقة، واتجاه نحو معرفتها، كان التصوف هو الميدان الوحيد الذي يلتقي فيه الاتجاهان على أتم وجه؛ لأنه يمثل تعطش الروح إلى الاتصال بالله، وفي هذا الاتصال يجتمع الحب والمعرفة في تجربة واحدة.

وقد أطلق الصوفية على هذه الحاسة المتعالية اسم "القلب"، والسر، وعين البصيرة"، وما إلى ذلك من الأسماء التي لا تعدو أن تكون رموزًا لحقيقة واحدة نَفترض وجودها ولا ندري من كُنهِها شيئًا. فلنُسمِّها إذن باسمٍ واحد هو القلب (إذ لا عبرة بالأسماء)، ولنحاول أن نعرف كل ما يمكن أن نعرفه عنها وعن صفاتها وخصائصها من أقوال الصوفية أنفسهم.

(4) الإرادة لا العقل:

إذا كان القلب - لا العقل - هو أداة المعرفة الصوفية، فإن الإرادة لا العقل كذلك هى مناط التحقق بالاتصال الإلهي، ولا يمكن للعقل أن يبلغ ما تبلغه الإرادة في طريق العرفان. لقد ساء بعض الباحثين ألا يجعلوا للعقل قيمة في المعرفة الصوفية فتقرر لديهم وهم وجوده فاعلاً في التجربة وهو ليس له دور ولا غاية فيها على الإطلاق. إنمّا الدور والغاية للإرادة لا للعقل. ربما جاء دور العقل في مرحلة لاحقة تكون بعد انتهاء التجربة نفسها من حيث قدرته الشارحة لما تبقى في ذاكرة العارف منها، لكن وجوده الفعلي أثناء التجربة مستحيل.

وقد اعتبر صوفيةُ المسلمين الإرادة - لا العقل - جوهر الإلهيّة، كما اعتبرُوا الإرادة - لا العقل - جوهر الإنسان.

فالإرادة عندهم نقطة الابتداء من جهة، ونقطة الانتهاء من جهة أخرى؛ إذ بالإرادة وحدها يُثبتون وجودهم، وعن طريق الإرادة وحدها يتصلون بمطلوبهم أو يصلون إلى مطلوبهم وهو الله.

فالصوفي لا يقول كما قال ديكارت: «أنا أفكر، وإذن فأنا موجود» بل يقول: «أنا أريد، وإذن فأنا موجود» ولكن إرادته - في نظره - ليست على الحقيقة الإرادة الإنسانية المتناهية، بل الإرادة الإلهية المُطلَقة؛ لأنه فانٍ في الله، متحققٌ (في حاله) بوحدته الذاتية معه، يرى كل ما يجري في نفسه وفي الكون الذي حوله مظهرًا من مظاهر الإرادة الإلهية؛ لأنه لا فاعل في الحقيقة إلا الله، ولا مريد في الحقيقة إلا هو.

بل إن "المعرفة" التي أطلق عليها متصوفة المسلمين اسم "الذوق" ليست هي الأخرى عملًا من أعمال العقل الواعي ولا مظهرًا من مظاهره، بل هي مظهر من مظاهر الإرادة والوجدان، مظهر من مظاهر الاتصال الروحي الذي هو أشبه بالاتصال البدني؛ ولهذا لا تخضع المعرفة الذوقية لمقولات العقل ولغته ومنطقه، بل لها لغتها الخاصة ومنطقها.

والصوفية لا يتردَّدون في القول بأن العقل ومقولاته حُجب كثيفة تحول بين الإنسان وعالم الحقيقة، وأنه لا بد لمن ينشد المعرفة الذوقية الخالصة من أن يتجرَّد عن العقل وأساليبه وحيله ويتحقق بمقام الإرادة الصرفة.

يقول الشيخ محيي الدين بن عربي في كتابه "فصوص الحكم" في شرح هذه المسألة:

(فمن أراد العثور على هذه الحكمة، فلينزل عن حكم عقله إلى شهوته، ويكن حيوانًا مطلقًا حتى يكشف ما تكشفه كل دابة ما عدا الثقلين؛ فحينئذٍ يعلم أنه قد تحقق بحيوانيته، وعلامته علامتان: الواحدة هذا الكشف، والعلامة الثانية الخرس بحيث إنه لو أراد النُّطق بما رآه لم يقدر).

وليس المراد بالتحقُّق بالحيوانية سوى التحقق بالإرادة؛ إذ الإرادة (بمعنى مطلَق النزوع) هي أهم صفات الحيوان؛ فابن عربي لا يُعارض القدماء في اعتبار "النطق" فصلًا منوعًا للإنسان يُميِّزه عما عداه من أنواع الحيوان المشتركة معه في الجنس، ولكنه يأبى أن يعتبر العلم الذَّوقي وليد تلك القوة الخاصّة (قوة النطق) في الإنسان، بل على العكس من ذلك يعتبر قوة الإرادة - التي يرمز لها بالحيوانيّة - مصدر ذلك العلم وأداته.

ثم إنه ليشير بعد ذلك إلى علامتين هامتين من العلامات الأربع التي عدّها ويليم جيمس مميزات للتجربة الصوفية: أعني حالة القابلية الصرفة Absolute Passivity وحالة الخرس Ineffability، والحالة الأولى هي التي يسميها ابن عربي حالة الكشف؛ لأن الكشف حالة قابلية محضة لا أثر للفعل فيها.

على أنه لا يَقصد بالقابلية المحضة أو الانفعال الصرف ركودًا أو تعطيلًا في النشاط الروحي عند الصوفي، وإنما يُريد انعدام الفاعلية من جانب العقل.

أمّا الناحية الأخرى، وهي ناحية الإرادة، فالنشاط الروحي فيها - في التجربة الصوفية - أقوى وأعنف ما يكون؛ إذ الصوفي في معاناته لتجربته في حالةٍ تعمل فيها النفس بجمعيتها لا بجزء منها.

ومن هنا؛ جاء ذلك الاستغراق الروحي، وذلك الشمول الغامر الذي أطلق عليه الصوفية اسم الفناء والجذب والوجد.

ويجب ألا يتّسرَّب إلى الذهن بحالٍ أن ابن عربي يقصد بعبارته السابقة أن الحيوان لخضوعه في حياته للإرادة دون العقل، يشارك الإنسان في قدرته على الإدراك الذوقي والعلم بحقائق الأشياء علمًا مباشرًا، وإنما يريد أن يؤكد انعدام الفاعلية العقلية في التجربة الصوفية، ذلك الانعدام الذي نشاهده أكثر ما نشاهده في الحيوان؛ لذلك اتخذ الحيوان مثالًا، وتكلم عن مقام التحقُّق بالحيوانية.

(5) الحب:

ويعتبر الحب جوهر الحياة الروحية وسبب وجودها الأسمى. وبما أن "التجربة الصوفية" عملًا من أعمال الإرادة والوجدان لا العقل ظهرت في أخصّ وأعلى مظهر من مظاهر الإرادة والوجدان، وهو "الحب"، لا الحب المادي الذي يَهدف إلى إشباع شهوة أو حاسّة، بل الحب بأعمق وأتم معانيه: أعني الإفصاح عن أقوى النزعات الروحيّة في الإنسان، واتجاه هذه النزاعات نحو الأصل الذي صدرت عنه.

ولهذا اصطنع الصوفية على اختلاف مِلَلهم وأجناسهم وأوطانهم لغة الحب للتعبير عن أحوالهم وأذواقهم التي لا يستطيع العقل إدراكها، ولا اللغة التعبير عنها، وأبدعوا في اصطناع هذه اللغة أيما إبداع، فزخرت لغة التصوف بكنوز من الشعر الخالد في الحب الإلهي، ولشعراء الفرس من الصوفية أمثال؛ جلال الدين الرومي وفريد الدين العطار وعبد الرحمن جامي ومحمود شبستري، وبعض شعراء الصوفية العرب أمثال ابن الفارض وابن عربي، في رياض الحب الإلهي أناشيد تهتز لسماعها قلوب العاشقين ممن يُدرِكون إشاراتهم ومراميهم.

كان هذا رصد الدكتور عفيفي طيب الله ثراه لمعالم التجربة الصوفية ولبيان عناصرها الفاعلة فيها وهو رصد لو تأملته لوجدت أكثره صواباً وأقربه دلالة على تجارب العارفين الحقيقية، فما من تجربة لوليّ من أولياء الله تخلو من الحب لتنزع في طريقها إلى غيره، فالحب الإلهي أصل هذا الوجود الإنساني، وهو ثروته الحقيقية. ومن طريق الحب تولدت في الصوفي أبدع ألوان اللغة الرمزية، فشفافية العبارة دالة على تجربة معاشة تحقيقاً وهي التمهيد لرمزية الإشارة. ولولا وجود مثل هذه الشفافية في اللغة ما ظهرت لغة الباطن رمزية وإشاريّة، مبدعة فيهم على الأصالة.

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم

4- خزين القيم التربوية الفاضلة:

تُعتبر القيم أهم أداة تربوية في التربية التقليدية والحديثة، يمكنني الحديث عنها بشكل تفصيلي؛ كونها المعايير التي بها يوزن خُلُق الفرد، وبها يُرسم سلوكه، وتُحدّد هويته الأخلاقية في العائلة، والمجتمع العام.

تُعرّف القيم بأنها "مصطلح ينطوي تحته كل الأهداف ومعايير الحكم التي تؤدي بالفرد إلى السلوكيات الإيجابية في المواقف المختلفة التي تفاعل فيها مع المجتمع في ضوء معايير ارتضتها الجماعة لتنشئة أبنائها، وتُعد القيم التربوية إيجابية كلما أدّت إلى المزيد من النمو السوي لسلوك الفرد، وكلما اكتسبت من خلالها مزيدا من القدرة على التمييز بين المواقف المختلفة؛ في حين تعتبر سلبية كلما تسببت في إعاقة النمو في الاتجاه الصحيح"[1]. وتُعرف القيم أيضا بأنها" مجموعة معايير واتجاهات ومثل عليا تتوافق مع عقيدة الفرد التي يؤمن بها عن قناعة بما لا يتعارض مع السلوك الاجتماعي بحيث تصبح تلك المعايير خلقا للفرد تتضح في سلوكه ونشاطه وتجاربه وخبراته الظاهري منها والضمني، كما تتضح في التزام الفرد بتلك القيم خلال تصرفاته تجاه الإنسان من جهة، ورب الناس من جهة أخرى"[2].

والقيم أطر مرجعية لسلوكيات أفراد المجتمع تكمن أهميتها في كونها تمنح الحياة معنى، وتجعل الإنسان يسعى لهدف معين مهم يحقق قيمة له، أو للمجتمع. وللقيم أهمية في تفكير الإنسان، حيث تضع معايير تساعده على التفكير فيما ينبغي أن يفعله والأساليب والوسائل التي يختارها في حل مشكلاته وتعينه على تفسير السلوك العقلي، وتكمن وظائف القيم في دورها الفعال في حياة الطفل كونها معايير يميز بها الطفل بين الخير والشر، والصواب والخطأ، والحسن والقبح. وتلعب القيم دور التنبؤ بسلوك صاحبها، حيث أن سلوك الفرد يظهر بما يحمله من قيم، وتعمل القيم على إيجاد التوافق النفسي والاجتماعي للأفراد[3].

وظائف القيم الفردية هي تهيئة الخيارات المعينة للفرد، وتحديد السلوكيات الصادرة منه، وتلعب دورا مهما في تشكيل شخصيته، وتحقق له الإحساس بالأمن، وتتيح له فرصة التعبير عن نفسه، وتعمل القيم على إصلاحه نفسيا وخلقيا، وتوجّهه صوب فعل الخير وتجسيده، وتربط القيم بين أجزاء ثقافة المجتمع ببعضها وتعمل على تماسكها وتناسقها، وتحفظ للمجتمع تماسكه داخل أهدافه وتمسّكه بمبادئه الثابتة، بالنتيجة تعمل القيم على إعطاء نمط في شخصية الفرد، وتجعله قادرا على التكيف الإيجابي مع متطلبات وظروف المجتمع الذي يعيش فيه[4].

للقيم دور مهم ومؤثر في سنوات تنشئة الطفل الأولى ومن المهم أن يكتسبها من الأسرة والروضة والمدرسة، ليتشكل لديه الإطار القيمي، ويكون مرجعيته لتمييز الخطأ من الصواب، والحرام من الحلال، ومن ثم يستطيع التكيف في المجتمع، وتكمن أهميتها في إيجاد حالة التوازن والتكامل في سلوكه وقدرته على مقاومة القيم المنحرفة، وإحداث حالة توازن بين مصلحته الخاصة والمصلحة العامة. وتسهم القيم في بناء شخصية الطفل وتحديد غاياتها وأهدافها ووسائل تحقيق هذه الغايات، وتساعده في حل المشكلات، واتخاذ القرارات. ويكتسب الطفل أيضا قيمه من المجتمع المحيط من خلال التفاعل الاجتماعي، والمجتمع المحيط يعلمه كيفية إشباع حاجاته المختلفة من خلال مواءمة سلوكه مع القيم السائدة[5].

القيم تجعل الفرد يتحمل مسؤولية الالتزام تجاه نفسه، وتقوية إرادته، والسيطرة عليها في كل الأحوال الخاصة الذاتية، والعامة الاجتماعية، أولا كونه كائنا إنسانيا يسعى لتحقيق ذاته بشكل كامل يمكّنه من الالتزام تجاه الناس باعتبار تلك القيم، والقيم تجعله يقوّم الميل في سلوكه، وتعلّمه تفهّم الآخرين، والتعاطف معهم، ومن ثم التسامح معهم، والانفتاح على الفضاء الاجتماعي، والتخلص من ضيق فضائه، والانسجام مع الطبيعة، وإنصاف الناس من نفسه، وأن لا يثق بالمظاهر ما لم يبحث عن حقائق أكثر عمقا[6].

فالقيم إذن معايير تحدد سلوك الفرد وخلقه؛ وهي بمثابة البوصلة التي توجّهه تجاه سلوك معين؛ حيث إذا أراد فعل شيء معين فإن ما يحدد موقفه منه هو خزين القيم التي تلقاها عن عائلته، ومربيه، ومحيطه؛ والقيم من أهم عوامل تكوين الشخصية، حيث إن شخصية الفرد يحددها طابع القيم التي تلقاها منذ بواكير حياته حتى نضجه الجسدي والعقلي الكامل.

وتتصف القيم بشموليتها لكل جزئيات الحياة الأخلاقية، والدينية، والاجتماعية والسياسية، والاقتصادية؛ وتتمثل القيم بالمحبة، والصدق، وبر الوالدين، وبر المعلم، والأمانة، وأدب التخاطب، واحترام الآخرين، وتحمل المسؤولية، والشجاعة، والإخلاص في العمل، والعدل والإنصاف، والحفاظ على البيئة، والتعاطف والتسامح، والرحمة، والعطاء، والصلاح، والإيثار، والتضامن، ومراعاة القانون الاجتماعي العام، وتقديم العون للآخرين إن استدعى الأمر.

هذه القيم رافدها الأول الدين، والثاني المجتمع؛ ولكل مجتمع قيمه الخاصة. ما يمكن الجزم به في مجتمعاتنا أن القيم المذكورة تكاد تكون مشتركة فيما بينها، وهي التي تحدد هوية الفرد العائلية؛ ف "إن العلاقة مع الأب ومع الأم بشكل خاص هي علاقة كاملة تترك في الطفل بصمة لكل نزعاته الشخصية، إنها مرحلة غذاء، أمن، حنان، دفء، وتعلم سلوك"[7].

وتعتمد مجتمعاتنا العربية في تربية الأبناء على قيم تربوية مُستقاة من الدين أولا، والمحيط الاجتماعي ثانيا. ويعتبر الدين أهم منابع القيم لأنه من المشرع الأعلى أوردها في القرآن الكريم، ووردت في السنة النبوية. القيم الدينية تتمثل بتقوية الارتباط بالله، والتحلي بالأخلاق التي أوصى بها القرآن الكريم، التي منها بر الوالدين، واحترام الكبار، والعطف على الصغار، وملازمة الخلق الرفيع، وطاعة قوانين الدولة في المجتمع العام، والتحلي بالفضائل الدينية، والتضامن والعطاء فيما بين أفراد المجتمع.

والدين منجم القيم والأخلاق الإنسانية. ديدن التعليم الديني في بلداننا هو الشروع أولا بمعرفة الخالق وأمور الدين ومبادئه، والطفل يحفظها عن ظهر قلب دون فهم، وعلى تدرج المراحل العمرية تتكرر، وتتطور المعارف الدينية، ويحفظها وتكون الموجه لسلوكه وخلقه. وتربية الطفل وتعليمه القيم الدينية تبدأ منذ بواكير بلوغ الطفل السن المدرسي.

المعرفة بحقيقة الكون وأسراره وجمالياته، ومعرفة خالق الكون، ولماذا خلقنا؛ هي من أولويات تربية الطفل الدينية لتنمية وعيه الديني، ومن ثم تعليمه طقوس العبادات، وهذه حقيقة أكّدتها الكتب المقدسة.

لقراءة القرآن الكريم وتفهّم معاني ألفاظه أهمية قصوى لوعي الكون وما يحويه، والواقع وما يحتويه؛ وعي بمعرفة الله وخَلقه، (أَوَلَمۡ يَتَفَكَّرُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۗ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَآ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَأَجَلࣲ مُّسَمࣰّى)[8] ، والقراءة العامل الأساس في هذا الفهم والتفكير والوعي؛ فالقرآن كتاب تثقيفي توعوي قبل أن يكون تبشيريا وعظيا بدليل الآية الأولى منه﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾[9] .

يطرح الفيلسوف كانط رأيه في تلقين الطفل القيم الدينية دون الإشارة إلى أي دين من الأديان؛ حيث يؤكد على أولوية تعليم الطفل كيفية معرفة نفسه، والغايات والأهداف الأولى من الخلق، وما يتعلق بالإنسان حتى تُصقل معرفته، ويجب أن يطّلع على مظاهر الطبيعة وجمالياتها، ومعرفة واسعة عن بنية الكون، وكيفية ترتيبه الترتيب المنظم الرائع عندها يمكن أن يُكشف له فكرة الكائن المشرع والخالق الأكبر، مع العلم أن الطفل لا يمكن منعه من سماع اسم الله من على المساجد والصوامع والكنائس، ومن رؤية الناس حين يؤدون الطقوس التعبدية له، لكنه -كانط - يؤكد على إن معرفة الله مبكرا تسبب الرعب والخوف الذي يزرعه الوعّاظ في نفس الطفل من قدرة الله عليه والعقاب الإلهي، والخوف طبع بشري عام يتجلى أولا عند حدوث الظواهر الكونية، والطبيعية من زلازل وصواعق وكسوف وخسوف، وغيرها. وأن تكون عبادة الله عبادة فرح وتقوى، وأداؤها يكون بمزاج مرتاح، لا عبادة كئيبة ومرعبة وخجولة وحزينة. وأن نعلم الطفل احترام الذات والكرامة الشخصية، واحترام الناس وأراءهم وحفظ حقوقهم، وأن يتعلم الطفل الاشمئزاز لكل ما هو منفّر وعبثي في الحياة العامة، ويؤكد كانط على أن الديانة هي (أخلاق مطبقة على معرفة الله)، فيقرن الديانة بالأخلاق، وأن الطقوس والعبادات ماهي إلاّ استعدادات للأعمال الصالحة التي تخدم الناس، وليست هي الأعمال نفسها، وأن الرذائل التي يمنعها القانون البشري إنما هي بالأساس من المشرّع الأعلى الذي هو الله وليس الإنسان. معرفة الأخلاق أولا، ثم معرفة الله، لأن معرفة الله أولا، ومن ثم تعليم الأخلاق تبث في نفس المتعلم الخوف والرهبة. الله هو الحاكم وصاحب الحكم لكنه أقام في داخلنا مكانا للحكم هو الضمير، فمعرفة الضمير وتنقيته من كل ما يشين إلى الطبيعة وحياة الناس ويكدرها. ينبغي أن يتعلم الطفل الخوف من الضمير الداخلي إذا ارتكب خطأ قبل أن يخاف الله، هي الطريق الأسلم والصحيح لتبجيل الله وإكرامه لأنه تصرّف وفق إرادته، وتعليم الطفل إجلال الله ووقاره فهو رب الحياة ورب العالم أجمع[10]وإن" الديانة التي تجعل الناس قاتمين هي ديانة باطلة لأنه ينبغي أن نخدم الله بفرح القلب وليس بالإكراه".[11]

لنأخذ نماذج من قيمنا التربوية التي يتلقاها أبناؤنا وأثرها في الحياة الخاصة والعامة؛ -مثلا- قيمة المحبة هي أقوى رصيد يتلقاه الطفل في مقتبل حياته، وهي أسُّ التربية المتينة، حيث تعبّئ الطفل بالقوة، واللطف، والرقة، والشفافية؛ وتجعله مشفقا، بارا، حنونا، متحكما بذاته، قوي النفس، محبا للعطاء، والعمل من أجل راحته وراحة المجتمع.

أهم صورة للمحبة في المحيط العائلي هو حب الأبوين له، ويأخذ الحب صورا وأشكالا متعددة لا تقتصر على الكلام والاحتضان بل على الاهتمام وتشجيع الطفل حينما يؤدي عملا ما فيه تفتّح لقابلياته، ومواهبه الذهنية. التربية عملية القصد منها السعي نحو التحسّن لا الكمال. حب الأم والأب والمعلم والأسرة والأصحاب هو أهم الأمور عند الطفل. [12] تنمية المحبة والإحسان في نفس الطفل تجاه المجتمع الخارجي، وتلقينه عادة إلقاء السلام على من يلتقيه من أفراد المجتمع، والتزام أدب المجالس، والحديث حينما يكون في مكان عام، أو في مجلس مختصر.

يصنّف علماء التربية الحب الذي يغدقه الأبوين على الطفل إلى نوعين: الحب المشروط والحب غير المشروط؛ فالحب المشروط هو الذي يمنحه الأبوان للطفل حينما يقوم بسلوك معين كأن يقوم بأداء واجباته المدرسية، أو صحبة أخيه الأصغر منه، وغيرها لكن بشرط أن لا ينعكس سلبا على الطفل حينما يشعر أن أبويه يحبانه فقط لأجل سلوك إيجابي يأتي به الطفل، فالحب ليس صفقة فيها طرف رابح وخاسر بل هو عطاء بلا حدود، والحب غير المشروط هو الحب العفوي الذي يغدقه الأبوان بفطرتهما عليه بدون القيام بأي سلوك، وهو الذي يشعر الطفل بالأمان والسعادة وراحة النفس[13].

والمحبة ينبغي أن تكون ممزوجة بالحزم، وتعليم الطفل الخضوع، والطاعة الإيجابية؛ وإلزامه كل ما يُملى عليه من قواعد أخلاقية معينة كون ملكة الاقتداء بالآخر قوية عنده، وتعليم الطفل ضبط حريته، ومن ثم تعليمه كيفية استخدامها بصورة صحيحة فيما بعد حينما يختلط في جو المدرسة والمجتمع العام، ويعرف حدود حريته وممارستها بطريقة لا تضر بالآخرين[14]-على سبيل المثال- حينما نطلب من الطفل أن لا يرفع صوته، أو يصدر حركة غير لائقة بوجود الضيوف، أو يزعج أمه أو أباه حينما يكونان مشغولين بعمل "فالنفس البشرية كالغاز يتمدد على الدوام ما لم يكفه ضغط خارجي، وهدف التربية من هذه الناحية أن تجعل الضغط الخارجي هو العادات والأفكار والميول العاطفية في عقل الطفل نفسه، لا الضرب واللكم والعقاب"[15]. استخدام الحنان والحب مع صرامة وحزم، فالحب يدفع المربي لأن يستخدم أسلوب الصرامة غير المؤلمة ليستقيم الطفل[16] .

قيمة النظام والحفاظ على القانون يتعلمها الطفل بشكل أولي عبر اهتمامه بشؤونه الشخصية -مثلا الاهتمام بالنظام الغذائي المتوازن، والنشاط البدني اليومي اللذين ينعكس أثرهما الإيجابي الصحيح والسليم على نمو جسمه، وتعليمه منذ الصغر مهارات الاهتمام بتنظيم الوقت وعدم الإفراط به بما لا طائل منه؛ فقيمة النظام، وحفظ القانون، والحرص على الوقت توفّر له الثقة العالية بالنفس والاستقلالية، وحب النظام في محيط العائلة وخارجها.

قيمة الصدق حينما نعلّمها للطفل منذ بواكير وعيه، وتجنب الكذب يولد عنده الشعور العالي بالثقة، وتُرسم حدوده مع الآخر، والطفل بطبعه خائف وخجول، والأبوان يحميانه من أي خطر خارجي في سنيّه الأولى، فالخوف والخجل أحيانا يحثان الطفل على الكذب. "يحط الطفل كرامته إلى ما دون كرامة الإنسان من خلال الكذب، لأن الكذب يفترض مسبقا القدرة على التفكير، وعلى التواصل مع أفكار الآخرين. الكذب يجعل من الإنسان موضوع ازدراء عام، وهو وسيلة لسرقة الاحترام والثقة في نفسه التي يجب أن يتمتع بها كل إنسان"[17].

تفعيل قيمة التعاون بين أفراد الأسرة بإشراك الأطفال في أعمال المنزل التي لا تشكل ضررا على صحتهم الجسدية ولو من قبيل الاهتمام بترتيب شؤونهم الشخصية، وأغلب الأحيان يبدع الأطفال في التعاون ويفعلون المزيد. لا ينبغي أن يفعل المربي للطفل ما يستطيع الطفل هو أن يفعله بنفسه، مثلا ارتداء ملابسه، حمل حقيبته المدرسية بدلا عنه، ومساعدته على احتذاء حذاءه. وتسري قيمة التعاون والتضامن إلى المجتمع الخارجي، وتتجسد في مشاريع الخير، وكلها تعبّئ الطفل للاندماج في المجتمع.

يرى طبيب النفس الفرنسي Serge Tisseron  تعليم الأطفال منذ الصغر تقنيات التعرف على مشاعر الآخرين، وأيضا تعليمهم حسن النظر إلى مشاعرهم من خلال التعاطف الذاتي؛ فالتعاطف الكامل مع الذات أولا، ومع الآخرين ثانيا يستثير مناطق عدة في الدماغ، حتى اذا بلغ الطفل عمر 8-12؛ فإنه من اللازم أن يكون قد وصل تربويا إلى مرحلة الاعتراف بتعدد وجهات النظر، واقتنع بضرورتها؛ وهذا الأمر سيفتح الطريق أمامه لاحترام مبدأ المعاملة بالمثل، ولكن -حسب قوله- أن أغلب الأطفال يتوقفون في منتصف المحطات التربوية، ولا يصلون إلى نهاية الطريق المؤدي إلى التعاطف الناضج الكامل مع ذواتهم ومجتمعاتهم[18]. على المربي أن يفكر فيما يتعلمه الطفل من التجارب، هل يتعلم مهارات حل المشكلات والاهتمام الاجتماعي أم يتعلم أن من حق الأقوى أن تكون له السلطة ويعامل الآخرين بعدم الاحترام؟ [19]، ويعتقد عالم النفس ألفريد أدلر "أن الصحة العقلية بما فيها تقدير الذات مرتبطة بصورة مباشرة بحجم الاهتمام الاجتماعي لدى الفرد، والاهتمام الاجتماعي معناه الاهتمام الحقيقي لدينا بالآخرين واحترام الاختلاف"[20]؛ فينوجد التآلف والتآزر داخل العائلة، ومع البيئة المحيطة.

الاحترام أيضا قيمة يتعلمها الطفل في العائلة، ومن ثم احترام الآخرين وحفظ حقوقهم الحياتية، من خلال التطبيق، كأن يُعلم عدم الاعتداء على الطفل الآخر دون مبرر، أو يضربه، أو يهزأ به؛ لأن تصرفه هذا ضد حقوق الإنسان. ينبغي على كل من يتولى تربية الطفل أن يعامله بكامل الاحترام والكرامة لأن كل البشر بحاجة للاحترام وشعور الكرامة، حتى يشعرون بالانتماء والأهمية[21]، ويكنّون الاحترام لمن يشاركهم الحياة الخاصة والعامة، ولا يضر بعضهم بعضا.

ولكي نجسد قيمة العطاء عند الطفل يجب أن نعلّمها إياه نظريا وعمليا، كأن يقتسم شيئا من الحلوى مع صديقه، ويمكن أن يعده الأهل بقطعة أخرى لو أعطى قطعته. ويمكن أن تُستنهض صفة الإحسان للآخرين عند الطفل عبر استعطافه ليكتشف معنى واجبه ليبادر إلى مساعدة الآخرين، وفكرة وجوب الإحسان يجب أن تكون هي المتعمقة في فكر الطفل لا الشعور الذي يعتريه حينما يُحسن للآخر، فحينما نفعل الخير للفقراء إنما هو واجبنا تجاههم وهو واجب إلزامي، وهو من أجل الله. يمكننا أن نسمح للطفل بأن يتملّك أشياءه الخاصة، وفي نفس الوقت نعلّمه كيفية العطاء مع الآخرين أقرانه إذا أحبوا أن يشاركوه لا أن يعارض، أو يشاكس ففي مثل هذا السلوك يعلمه التعاطف والتعاطي مع الآخرين، وفن الحوار الهادف معهم.

يفسّر لنا علم الاجتماع عملية العطاء الاجتماعي في إحدى نظرياته؛ (نظرية التبادل الاجتماعي Social Exchange Theory)؛ روادها هم؛ كيلي، وثيبوت، وجورج هومانز، وبيتر. فحوى هذه النظرية هو" إن الحياة الاجتماعية عملية تفاعلية تبادلية بين طرفين؛ كل طرف يأخذ ويعطي، وليس فقط يأخذ أو يعطي، وهذا الأخذ والعطاء يؤدي إلى ديمومة العلاقة التفاعلية واستمرارها وتعمقها، وأما المبادئ الأساسية التي تستند عليها هذه النظرية فهي أن الحياة الاجتماعية هي عملية أخذ وعطاء، وتبادل بين شخصين، أو فئتين، أو جماعتيْن، أو مجتمعيْن، وتتعمّق العلاقات وتستمر اذا كانت ثمة موازنة بين الأخذ والعطاء؛ أي بين الحقوق والواجبات المتعلقة بالفرد، أو الجماعة، وتتوتر العلاقات، أو تنقطع اذا اختل مبدأ التوازن بين الأخذ والعطاء بين الشخصين المتفاعلين"[22].

قيمة الجمال أيضا ينبغي للطفل أن يستلهمها من المربي أولا-مثلا- تربية الطفل على الاهتمام بالفن كتعليمه الرسم، والموسيقى، والنقش على الخشب أو المعادن، أو الخياطة، أو التطريز، أو غيرها. وتعليمه السكون، والهدوء، والتأمل في الأشياء واكتشاف مواطن الجمال فيها كالنظر في لوحة فنية، أو منظر طبيعي، أو ما شاكل ذلك، والتعبير عنها شفاهيا أو تحريريا. كذلك كيفية التعامل مع الطبيعة ومفرداتها والحفاظ عليها، وتوطيد العلاقة معها ليكون صديقا لها، لا يلحق الأذى بها، محبا لجمالها، والتزام النظام والنظافة فيها، وهي ملك المجتمع بعامته.

وأدت تعقيدات وتغييرات عصرنا الراهن بالمجتمع إلى عدم التمييز بين القيم الموجودة في داخله عن القيم الوافدة من خارجه، وهذا ما يؤدي إلى عدم وضوح الرؤية، والخلط بين ما هو أصيل وما هو دخيل. وأحسن وسيلة هي الانتقال بالقيم المجتمعية الأصيلة من مستوى التنظير إلى مستوى العمل في كافة المجالات. وحينما يسير الناس وفق القيم المعتبرة عندهم فإن الصراع ينتفي فيما بينهم، ويتحقق التوازن النفسي للفرد، وبدوره يحقق التوازن المجتمعي، وفقدانه بعد فقد القيم والعمل بها فإنه يؤدي به إلى التوتر والقلق[23].

وتمثل القيم ممهدات لتعليم الطفل كيفية الانخراط والتـأقلم والتفاعل مع العالم الاجتماعي الخارجي حتى يلج المحيط -الاجتماعي بنمط عائلته، ولكل عائلة نمطها الخاص من السلوكيات والعادات والأخلاق والطباع. المحبة، والصحبة الحسنة، والاصغاء والتقليد، وتطبيعه على النمط الاجتماعي من طفولته وحتى شبابه وفق المعايير الاجتماعية العامة. وكلها تشكل السيناريو الأسري الممثل للطفل حينما يخرج إلى ميدان الحياة الاجتماعية المتمثل بالمدرسة، والمؤسسات الأخرى، وتمثل خزينه النفسي، والعاطفي، والعلائقي، والمعرفي، والمهاري، ووسائطه الدفاعية التي سيخوض بها معركة الحياة، وكلما كانت مقومات الصحة النفسية متوفرة كانت فرص التفاعل والانفتاح والاغتناء والعطاء المتبادل ومرونة التكيف أكبر تكون الحياة مشروعا مفتوحا. أما إذا كان هذا السيناريو مثقلا بالاضطرابات، والعقد النفسية، والمعوقات تنحسر تبعا له إمكانات الانفتاح والتأقلم والاغتناء ويجعل الحياة مشروعا متعثرا، متأخرا، وأحيانا فاشلا[24].

بعد تمام نضج الطفل الجسدي والعقلي، تتبلور القيم المذكورة في نفسه حينما تُغرس منذ صغره بشكل صحيح؛ فتكون بصمته الخاصة التي تميزه في المجتمع العام، والعيش وفق ظروفه ومتغيراته، وتمكّنه من النمو والتطور بشكل متين ومتوازن.

(يتبع)

***

إنتزال الجبوري – باحثة عراقية 

.................................

[1] الصغير، أحمد حسين. القيم التربوية المتضمنة في بعض الحكايات الشعبية. (دراسة تحليلية). رسالة ماجستير غير منشورة- كلية التربية، جامعة أسيوط، 1991م، ص9.(نقلا عن شريف، د. عبد القادر. التربية الاجتماعية والدينية في رياض الأطفال. بدون مكان النشر: بدون طبعة، بدون تاريخ،

[2]دياب، فوزية. القيم والعادات الاجتماعية. القاهرة: دار الكتاب العربي، 1996، ص52-53.

[3] أنظر: شريف، د. عبد القادر. التربية الاجتماعية والدينية في رياض الأطفال. بدون مكان النشر: بدون طبعة، بدون تاريخ، ص147-158)

[4] أنظر: طهطاوي، سيد أحمد. القيم التربوية في القصص القرآني. القاهرة: دار الفكر العربي، 1996، ص45-46.

[5] أنظر: عبد العزيز، إيناس أحمد. القيم التربوية المتضمنة في قصص الأطفال الأجنبية بالحلقة الأولى من التعليم الأساسي بالمدارس التجريبية لغات. رسالة ماجستير، كلية التربية- جامعة حلوان، 2000، ص64-65.

[6] باينس، جون. أسس التعامل والأخلاق للقرن الحادي والعشرين. ترجمة: أحمد رمو، ص376.

[7]  الدريع، د. فوزية. القُبلة. منشورات الجمل، ط1، 2006، ص64-65.

[8] الروم- 8.

[9]  العلق-1.

[10] أنظر: كانط. مصدر متقدم، ص106-111.

[11]  نفس المصدر والصفحة.

[12]  أنظر: نيلسن، جان. مصدر متقدم، ص197.

[13] أنظر: سيد حامد. مصدر متقدم، ص29-30.

[14] نفس المصدر، ص40-42.

[15] رسل، برتراند. مصدرمتقدم، ص105.

[16]  أنظر: نيلسن، جان. مصدر متقدم، ص155.

[17] كانط، مصدر متقدم، ص99-100.

[18] أنظر: الجبوري، إنتزال. (العطاء أس العلاقة مع الآخر والأنا). نقلا عن موقع نقلا عن موقع ذاعة مونتكارلو. صحيفة المثقف(23/6/2021).

[19] نيلسن، جان. مصدر متقدم، ص201.

[20] نيلسن، جان. مصدر متقدم، ص201.

[21] نفس المصدر، ص117.

[22] صغير، عطاف مناع. نظريات علم الاجتماع العام. موقع:New- educ.com.

[23] أنظر: كشيك، منى. القيم الغائبة في الإعلام. مصر: دار فرحة للنشر والتوزيع، 2003، ص 84.

[24]أنظر: حجازي. مصدر متقدم، ص215.

 

"كل ما في المرأة لغز، ولغزها كلمة واحدة هي "الأمومة".. نيتشه

ويقول المثل الفرنسي: "تفضل المرأة أن تكون جميلة أكثر من أن تكون ذكية لأنها تعلم أن الرجل يرى بعينيه أكثر مما يفكر بعقله"  

***

تشكّل الأدبيّات التاريخيّة والاجتماعيّة الّتي كتبت عن وضعيّة المرأة تراثاً إنسانيّاً لا تستنفد أهمّيّته، ولا ينضب معين غزارته. وفي خضمّ هذه الأدبيّات يلاحظ المتتبّع تجانس الأفكار والتصوّرات الخاصّة بوضعيّة المرأة، ولا سيّما ما يتعلّق بالوضعيّة التاريخيّة منها، حيث تتكرّر الأفكار في صلب الأبحاث والدراسات النسويّة الجارية، ويشعر المتابع لقضيّة المرأة أنّه لا يحتاج إلى المزيد من الأفكار كلّما توغّل في قراءة ما كتب وما يكتب عنها، حيث تبدو الأفكار والتصوّرات وكأنّها تكرار لما سبق للمرء أن تناوله بالقراءة وتداوله بالتفكير.

لقد شكّلت قضيّة المرأة نقطة تقاطع ميادين علميّة ومعرفيّة مختلفة في مجال العلوم الإنسانيّة ولاسيّما في مجال علم الاجتماع والأنثروبولوجيا. وقد أسهمت الأنثروبولوجيا الثقافيّة في رصد هذه القضيّة، وفي تحليل معطياتها، ودراسة أحوالها، على هدي مناهج علميّة رصينة ومتكاملة (1). وقد قدّر للأبحاث الأنثروبولوجيّة أن تسجّل حضورها المميّز في مباحث المرأة، وأن يكون لها قصب السبق أحياناً في التصدّي لبعض المسائل الجوهريّة الّتي تلامس حياة المرأة، وترسم لها مصيرها في غمرات النهوض الاجتماعيّ الّذي شهدته الإنسانيّة، ولا سيّما في القرنين التاسع عشر والعشرين. وممّا لا شكّ فيه أنّ الخلاصات الّتي توصّلت إليها الأعمال الأنثروبولوجيّة تشكّل اليوم ركناً أساسيّاً ومركزيّاً في اجتماعيّات المرأة وأدبيّاتها. ومع ذلك كلّه يتوجّب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أنّ معطيات البحث الأنثروبولوجيّ قد شكّلت منطلقاً أيديولوجيّاً لأنصار تحرّر المرأة حيناً وأعداء تحرّرها حيناً آخر. وهذا يعني أنّ الأنثروبولوجيا لم تستطع في أفضل حالاتها أن تنفصل كلّيّاً عن السياق الأيديولوجيّ الّذي ألهب في كثير من الأحيان الاتّجاهات العلميّة في مجال الفلسفة وعلم الاجتماع.

تتجسّد قضيّة المرأة المركزيّة في وضعيّة الاختلاف والتجانس بين المرأة والرجل وما يترتّب على هذا التباين والتجانس من إشكاليّات الموقع الاجتماعيّ لكلّ جنس في سياق نظرة كلّ من الجنسين إلى الجنس الآخر. وممّا لا شكّ فيه أنّ المسألة المركزيّة الّتي طرحت وما زالت تطرح نفسها بإلحاح هي: هل تعود وضعيّة القهر الّتي تحيق بالمرأة إلى الظروف التاريخيّة الاجتماعيّة؟ أم أنّها وضعيّة تعود إلى شروط وجودها البيولوجيّة الّتي رسمتها لها الطبيعة؟

وفي معرض التحدّي الّذي يفرضه هذا التساؤل يحاول الأنثروبولوجيّون أن يقدّموا إجابات متباينة متنافرة وأغلبهم يميل إلى الاعتقاد بأنّ دونيّة المرأة مسألة تفرضها شروط حياتها البيولوجيّة والوظيفيّة، ومن هؤلاء يمكن الإشارة إلى آراء كلّ من سـيزار لومبروزو(Cesar Lombroso)2 وكيليمو فيريرو (Guglielmo Ferrero) 3 اللّذين يدينان كلّ محاولة لتفسير دونيّة المرأة كنتاج لشروط وجودها التاريخيّـة الثقافيّة.

هذا ويعدّ كتاب لامبروزمو وهو بعنـوان "المرأة المنحرفة والمرأة الطبيعيّة"(4) من أشهر الكتب الّتي تناولت قضيّة المرأة ذيوعاً وصيتاً وشهرة، حيث تناول فيه وضـع المرأة الطبيعيّة وسماتها وعيوبها وخصائصها الفيزيائيّة والنفسـيّة والأخلاقيّة وقدراتها العقليّـة ثـمّ ميولهـا وواجباتهـا.

 لقد ظهر كتاب لامبروزو "المرأة المجرمة" (The Female Offender)5 في عام 1893، وذلك بعد ثلاثين عاماً من تحقيق الوحدة الإيطاليّة. ويمثّل هذا الكتاب نقطـة البدايـة لما سيطلق عليه في النصف الثـاني مـن القـرن التاسع عشر المسألة النسائيّة. لقد كان الكتاب في واقع الأمر خلاصة اكثر من عشـرين عامـاً من المجـادلات والطروحـات والأبحاث والمساجلات الّتي تناولت مصير المرأة ودورها المعاصر في إطار الحياة الاجتماعيّة. ولقد صنّف هذا الكتاب على أنه الحلقـة النهائيّـة الّتـي أقفلت النقاش حول مسألة المرأة، وذلـك لأنّه انطلـق مـن المنـاهج العلميّة الّتي اعتمدها كتاب محاطون بهالـة مـن النفـوذ والخـطورة والأهمّيّة.

لقد عمل كتاب لامبروزو عـلى إسكات الاحتجاجات النسائيّة، وطالب بضرورة إصدار التشريعات المعادية لها. ومع أنّ هذا الكتاب كان يدفع الجدل، ويفتح سجلّاً جديداً لمناقشـات حاميـة امتدّت حـتّى القرن اللاحق، إلّا أنّه قد شكّل منطلقاً فكريّاً للأيديولوجيّات المعادية للمرأة وهي الأيديولوجيّات الّتي تجسّدت فـي المرحلة اللاحقة من بداية القرن العشرين، وذلك في صـورة النازيّـة والفاشيّة.

يقرّر لامـبروزو في كتابه هذا شرعيّة اضطهـاد المرأة، ويصدر حكمه العلميّ عليها، وحكمه هذا، كما يعتقد، يقوم على أسس علميّة تجريبيّة لا تدحض، وهو أنّ المرأة إنسان لم يكتمل نموّه بعد. ولم تكن رؤية لامبروزو هذه جديدة في الساحة الأنثروبولوجيّة ، فنظريّته هذه، على الرغم من الصدى الّذي تركته، كـانت صـدى لنظريّة الأنثروبولوجيّ والفيلسوف المعروف جـيوسيب سـيرجيGiuseppe Sergi) )6.

لقد واجهت هذه الأنثروبولوجيّة المعادية للنساء تحدّيات نقديّة على أيدي مفكّرين من مشارب متنوّعة، ومن هؤلاء يمكن الإشارة إلى الانتقادات الّتي نهض بها الوضعيّيّون الاشـتراكيّون. ومع ذلك يمكن القول بأنّ غالبيّة الأنثروبولوجيّين الإيطاليّين يتّفقون جـميعهم تقريبـاً مع لامبروزو وسيرجي في موقفهم المتشدّد من المرأة، فالمرأة كما يؤكّد هؤلاء المفكّرون أقرب إلى الطبيعة من الرجل، وأنّ دونيّة المرأة تعود إلى أسباب طبيعيّة بالدرجة الأولى وهي قلّما تعود إلى شروط اجتماعيّة ثقافيّة.

ويصعب على الباحث أن يسـتعرض مخـتلف الطروحـات العلميّة حول المرأة، والّتي بدأت تنطلق بغزارة منـذ عـام 1870 حـتّى العقـد الأوّل من القرن العشرين. وسجّلت هذه الطروحات المختلفة حضورها في صفحـات الدوريّـات والمجلّات العلميّة الصادرة في تلك المرحلة.

ومن فيض النظريّات الّتي نهضت في هذه المرحلة يمكن الإشارة إلى الجهود الفكريّة لكلّ من جيوسيب سيرجي Guissepp Sergie وباولو مانتكازا (Peolo Mantegazza) (7) وهمـا مـن كبـار الاختصاصيين في مجال الأنثروبولوجيا الثقافيّة في القرن العشرين.

يجتهد سيرجي في نفي الخاصّة العبقريّة عند المرأة، فالمرأة لا يمكنها أن تصل إلى مستوى العبقريّة فالعبقريّة خاصّة ذكوريّة، وينطلق لتأكيد رأيه هذا من المنظور التطوّريّ، أو من نظريّة الاصطفاء الطبيعيّ الّـتي غالباً ما يركن إليها في محاولة تأكيد دونيّـة المرأة. لقد وجدت المرأة نفسها في سياق تطوّرها التاريخيّ، وتحت إكراهات تكيّفها مع وظائفها الطبيعيّة المعروفة، محرومة من تطوّر الإمكانيّات النفسيّة والعقليّة الأخرى غير الضروريّة لأداء وظائفها الطبيعيّة، ومثل هذه الإمكانيّات كانت ضروريّة جدّاً من أجل الوصول بالمرأة إلى منتهى النضـج النفسيّ والعقليّ وذلك في صيرورات النضال من أجل الوجود. ومع ذلك فالمرأة، كما يعتقد سيرجي، تشكّل ينبـوع العبقريّـة وحاملاً لها، أي بوصفها أداة لتحويلها وراثيّاً، أي أنّها حامل لسمة العبقريّة ومورّثة لها، لكن لا يمكن لهذه العبقريّة أن تنهض وتتفجّر إلّا فـي الرجـل . وبعبارة أخرى المرأة كما تبدو له ناقلة للعبقريّة، لكنّ هذه العبقريّة لا تعطي ثمارها في المرأة ولا تزدهر فيها، فالعبقريّة جوهر الرجل، وبعد من أبعاده الإنسانيّة.

 ومن هذا المبدأ ينطلق سيرجي للاعتقاد بأنّ المرأة العبقريّـة ليسـت امرأة طبيعيّة، فالعبقريّة ليست من خصائص النساء، وليست وظيفة من وظائف المرأة. والخلاصة الّتي يريد أن يصـل إليها سـيرجي هـي أنّ الظـروف الاجتماعيّـة لـم تقلّل أبداً من أهمّيّة الخصــائص العقليّة للمرأة، فدونيّة المرأة ذات طابع بيولوجـيّ أو طبيعيّ تفرضها طبيعة المرأة وخصائصها البيولوجيّة.

 لقد خـصّص، بـاولو مانتوكـازا (Paolo Mantegazza)، وهـو طبيـب ورحالة وأنتروبولوجي معروف، عدداً من مقالاته وكتاباته لدراسة مسألة المرأة. ويعدّ كتابـه علـم نفس المرأة (Psychologie de la femme) من أكثر أعماله أهمّيّة وهـو الكتـاب الّـذي ظهر في العام نفسه الّذي ظهر فيه كتاب المرأة المنحرفة. وفي هذا الكتاب يتناول باولو الجوانب السـيكولوجيّة للمرأة وفقاً للمنطق الوضعيّ، ويشمل ذلك جوانبهـا الفيزيائيّـة والعقليّة.

 ويتميّز باولو بأنّه أقل ميلاً إلى التشدّد في موقفه من المرأة، وذلك بالقياس إلى مفكّري عصره. وما يتميّز به عن غيره أنه كان يستبعد الحتميّة البيولوجيّة الّتي يؤكدها كلّ مـن سـيرجي ولامـبروزو فـي إدانتهم للمرأة. فدونيّـة المرأة كمـا يعتقــد مانتوكازا نتاج لحركة التاريخ والمعايير الاجتماعيّة ومرهونة بشروط وجودها الاجتماعيّ والثقافيّ والإنسانيّ على حدّ سواء، ولا سيّما طابع ومضمون السلطة الذكوريّة الأبويّة السائدة.

 وعلى الرغم من ذلك كلّه، فإنه باولو يعود ليقع في مطبّ الرؤيـة الضيّقـة الّتي تقـوده إلى دائـرة التطوّريّـة، وإلى أحكامها حـول السـمات الأنثويّة السلبيّة، وذلك حين يذهب إلى التأكيد على أهمّيّة الأسباب الطبيعيّة في تعزيز مبدأ دونيّة المرأة.

ويتجسّد موقف باولو حين يتناول مكان المرأة في عالم المعرفة العلميّة، حيث يبرز المكان الثانويّ الّذي حقّقته المرأة في هذا الميدان، وهو بالتالي يبرّر هذا القصور على نحو طبيعيّ يرى أنّ ما تهدره الطبيعة في جانب تقتصده في جانب آخر، فإنجاب المرأة للرجال عمل كبير وشاقّ وخلّاق، وهذا ما يضعف من إمكانيّة المرأة في مجال النبوغ والعبقريّة والإبداع.

ومن هذا المنطلق يعتقد بأنّه يجب على المرأة أن تكـتفي بـدور هامشـيّ وثانويّ فـي مجـال الحياة الثقافيّة، ولها بالمقابل أن تزدهـي بوظائفهـا البيولوجيّـة، وأن تنادي بإعادة الاعتبار الاجتماعيّ لهذه الوظائف الإنسانيّة الخطرة. ومن هذا المنطلق يعلن باولو: أنّـه يجـب عـلى المرأة أن تبقـى فـي المنزل، ويجب إقناعها بالتنازل عن أيّ طموح عقليّ وأن تتخـلّى عـن الرغبة في استطلاع آفاق بعيدة.

 وعلى خلاف ذلك يتمايز مانتوكازو عن كلّ من لامبروزو وسيرجي رافضاً الفكرة الّتي تقول إن تطوّر المرأة توقّف في مرحلة دنيا من مراحل التطوّر وذلك بالنسبة للرجل، وأن هذه المرحلـة هـي أقرب إلى الأسلاف البدائيّين. وعـلى خـلاف ذلـك، فهو يدرك جانباً آخر لا يقلّ أهمّيّة وهو: إسراف الرجال في اسـتخدام السلطة. " فالرجل لا يكتفي أن يأخذ المكان الأوّل تحت الشمس، بل يريـد أن يبرهن أنّ المرأة تأخذ مكاناً وسطاً بينه وبين القرود. وهذا ما يعطيه الحقّ في استبعادها.

 ويعمل مانتوكازا فـي مرحلـة لاحقـة على تطـوير أفكـاره حـول المرأة، ويتجلّى هذا فـي كتابـه الأخير حـول مسألة المرأة وذلك عام 1906. يبدأ مانتوكازا بالاعتراف أنّ هناك مشاعر قوميّة تعين إعطاء رؤية موضوعيّة حول المرأة. فالمسألة ذات طابع اجتماعيّ ويضاف إلى ذلك أنّها ليست مسألة علميّة، بل مسألة ترتبط بالعواطف والانفعالات والحياة الثقافيّة في المجتمع، ومن هنا تتصلّب قضيّة المرأة، وتبدو عصيّة على الحلّ.

ويتعرّض مانتوكازا، في مسار آخر من نظريّته، لمسألة الاختلاف بين الجنسين وهو في سياق يعتقد بأنّه يمكن لكلّ جنس أن يطوّر طاقاته وإمكانيّاته بعيداً عن تصوّرات تقسيم هذه الطاقـات طبقيّاً إلى طاقات عليا ودنيـا. فالمسألة لا تعني ولا يمكن أن تعني اعترافاً بالمرأة كآخر، ومـع ذلـك فإنّهـا الفرصة للخروج وبطريقة متوازنة وراشدة من المعضلة الّتـي يعانيها الأنتروبولوجيّون كلّما قاربوا السمات الخاصّة بالمرأة.

 والمسألة الّتي تطرح نفسها هنا وبإلحاح هي: ما المكـان الّذي تحتلّه مسألة اختلاف المرأة عن الرجل في إطار الاستراتيجيّة المعرفيّـة والعقائديّة الخاصّـة بـالعلوم الإنسانيّة فـي النصـف الثـاني مـن القرن التاسع عشر؟ وهنا لا بدّ لنا ومن جديد من العودة إلى الأنثروبولوجيا اللامبروزيّة الّتي انطلقنا منها.

يمثّل عصر الوضعيّة (Positivisme) مرحلة من مراحل الدرب الطويل الّذي طرقتـه العلوم الإنسانيّة في البحث عن وعي نقديّ يتّصف بالشموليّة ويستحوذ على خاصّيّته العلميّة والموضوعيّة. لقد عـرفت الفـروع الأنثروبولوجيّة فـي القـرن التاسـع عشـر تناقضات صارخة، وترتّب عليها أن تعالج حشداً من الموضوعات والقضايا أبرزها موضوعات: المجتمعات البدائيّة، والجريمة والجنون والمرأة والأطفال، وهي موضوعات بالغة التنـافر، إذ لا يوجد مـا يربط بين هذه الموضوعات على نحو منطقيّ والرابط الوحيد بيـن هـذه الموضوعات هـو أنّها موضوعـات مباينـة للمعـايير الطبيعيّـة للوجود.

لقد شكّلت مسألة تفسير الاختلاف بين المرأة والرجـل النقطـة العقديّة للأنثروبولوجيا التطوّريّة. ومـن الصعـب جـدّاً إيجاد التفسير المناسب لهذه المسألة. لقد ترتّب على الأنثروبولوجيّة التطوّريّة أن تواجه هذا التحدّي المعرفيّ، وأن تعمل على تطريق منهج جديد يمكن من تفسير هذا الاختلاف وتصنيـفه في الوقت نفسه. وقد أملت هذه الإشكاليّة وقوع الأنثروبولوجيّة التطوّريّة في فخّ التصنيف، وذلك لعدم القدرة على التفسير. ويتمثّل هذا المنهج في إجراء سلسلة من المقارنات بين الثنائيّات المعروفة مثل التقابل ن بيـن ثنائيّـات: المجهول والمعلوم، الطبيعيّ واللاطبيعيّ، الاستثنائيّ والعاديّ.

فالمتوحّش، كما يرى لامبروزو، كائن توقّف تطوّره في درجة دنيا مـن سلّم التطوّر، ولا يمكن لنا أن ننكر وجـود طاقـات عقليّة كافية تمكّنه من الوصول إلى الحضارة نظريّاً، فهو من وجهة نظر واقعيّة يسير على درب الحضارة ببطء شديد إلى درجة يبدو فيها وكأنّه لا يتحرّك أبداً. ويسـتطيع المتوحّـش أن يتسـلّق سـلّم الحضـارة عندما يحظى بعناية قوّة تدفعه تدريجيّاً وبصعوبة إلى هـذا المستوى الحضاريّ.

 ولكنّ المرأة ليس لها هـذه الإمكانيّة، طبعاً إمكانيّة التطوّر بدفع خارجيّ، فعمليّـات التطـوّر لـم تعدها إلّا لأداء هدف واحد هو: الحفاظ على النوع. وهذا يعني أنّ دونيّة المرأة قائمة في بنيتها البيولوجيّة، فهي كائن وظيفيّ وخاصّة فيما يتعلّق بواجباتها البيولوجيّة والإنجابيّة. ومن هنا يأتي الحـكم عليهـا بـدون رجعة: إنّ اختلاف المرأة الطبيعيّ عن الرجل يقودها إلى مواقع دونيّتها. وذلك لا يعني، كما رأينا سابقاً، أنّ الفكر الأنتروبولوجـيّ لا يعتقد بإمكانيّة تحسين شروط المرأة. فحالهـا كحـال المجـرم أو المتوحّـش كلاهمـا يحتاج إلى القيادة والتوجيه، وإلى الحماية والرعايـة الإنسانيّة الدافئة الّتي تبدو ضروريّة لتخفيف عناء عبوديّتهـا وشدّته.

 إنّ حماسة العلماء للحكم على المرأة بالخضوع لهيمنة الرجل لم يؤدّ إلى بناء وعي نظريّ كامل خاصّ. بالاختلاف بين المرأة والرجـل، إذ ليس من الفطنة أن يضع المرء نفسه في دائرة علميّة وضعيّة.

فالنسـاء يوجدن فـي داخل المجتمع، وهنّ يعشن إلى جوار الرجال. وهنا لا يمكن الفصل بين وجود المرأة والرجل أو بين قدريهمـا أو سـيرة حياتهمـا، وذلـك منـذ الولادة حتّى الموت. ومن ثم فإن أيّ تحسين في شروط حياة المرأة لا يخلّ بالتوازن الراسخ، بل يؤدّي إلى فتح ثغرة في علاقـات السـلطة القائمـة قد تهدّد موقع الرجل. وذلك عندما تسيطر على شـروط وجودهـا. ومن هنا نجد بأنّ الرجال يستخدمون الوسائل كلها من أجل المحافظة على امتيازاتهم.

ومن أجل المحافظة يستخدم الرجال الحجـج العلميّـة الأكـثر صلابـة ومقاومة للدحض وأبرزها هذه الّتي تقول: بأنّ دونيّة المرأة لا تعود إلى شـروط تاريخيّـة، ولكنّهـا مسجّلة في بنيتها البيولوجيّة وهي دونيّة لم تفرض من قبل الرجل، بـل أمّلتها الطبيعة. فالطبيعة محكومة بقانونيّاتها وهـي القانونيّـات الّتي تكتشف عن طريق العلوم الحديثة. فالطبيعـة الّتـي وهبـت المرأة دورها في أن تكون أنثى الرجل وأمّ الرجل، وهي في الوقت ذاته تشير إلى خـطورة أن تكون مكافئة للرجـل فـي إدارة الاقتصاد والسياسة والتشريع.

لقد شهدت أوروبا فيما بعد مرحلة تحقيق الوحدة القوميّة موجـة إعادة النظر في البيئة التشريعيّة، ومن ثم فإن حركة التصنيع الّتي شملت البلاد والسيطرة على المدارس الّتي تحرّرت من رقبة الكنيسة كانت في أصل عمليّـات تمـدين المجتمع، وكـانت النسـاء عنصراً فاعلاً في إطار هذه الحركة.

 وظهرت حركة واسعة لإعادة النظر تشريعيّاً فـي مشـكلة الحـقوق المدنيّة والسياسيّة للمرأة. وخلال هـذه المرحلـة ظهـرت تشـريعات حكوميّة إصلاحيّة عملت على تحسين شروط حيـاة المرأة فـي الطبقـات الوسطى. وظهرت أيضاً مجـادلات برلمانيّـة واسـعة حـول مسألة دور المرأة وواجباتهـا فـي العائلـة والمجـتمع وحـول مسألة الطـلاق والاقـتراع العـامّ. ومـن خـلال النضال المحــامين والقــانونين والسياسيّين وبالطبع رجال العلم استطاعت المرأة أن تحقّق إنجازات إنسانيّة كبرى ومع ذلك فإنّ طموح المرأة ما زال يشهد اندفاعاته وانطلاقاته نحو آفاق بعيدة المدى.

 لقد بدأت الصناعة بامتصـاص أعداد كبـيرة مـن العـاملات المحكوم عليهنّ كأطفالهنّ بأجور وضيعة وشروط عمل لاإنسـانيّة. واستطاعت المرأة في الوقت نفسه أن تصل إلى التعليم العالي، وإلى ممارسة مهن اجتماعيّة راقية كشكل جديد لعمل المرأة الّتي تنتمي إلى البرجوازيّـة الصغـيرة والوسـطى. وكـان للمرأة ذات الانتمــاء البرجوازيّ المتوسّط أن تمتلك قدرها، وأن تتحرّك لبناء حركات نسائيّة منظّمة وفعّالة.

 وبدأت الحركات النسائيّة هذه تظهر في نهاية عام 1870 ، وتـأتي هذه الحركات استجابة لعدم الرضا ولعدم كفاءة المعايير الحكوميّـة المتّخذة لصالح المرأة. وتجسـيداً لـذلك ظهـرت المهـن المكتبيّـة والجامعيّة الخاصّة بالمرأة بين عامي 1873و 1874. ولقد اسـتطاعت النقابيّة الأولى الإيطاليّة آنا ماريّا موزوني Anna Maria Mozzoni أن تنظّم مجموعة كبيرة من التواقيع الّتي تنادي بحقّ المرأة في التصويت، وتلاحقت المحاولات الّتي نـاضلت من أجل المرأة.

ومنذ عام 1883 حتّى نهاية القرن كانت المناقشات تدور حـول حـقّ المرأة في الطلاق والتصويت. وكان يرافق ذلك مناقشات حامية حـول القوانين الخاصّة بعمل المرأة والأطفال. وخاصّة هذه الّتـي تتعلّـق بعمل المرأة البروليتـاريّ، والّتـي شـكّلت إحدى النقـاط الحاميـة للسياسة الاشتراكيّة كما تعلن آنّا كوليسيوف (Anna Kulisiaff). وبدأت فيما بعد ذلك تنمو الاتّجاهات النسائيّة المتطرّفة. وفي هذا السياق يلاحظ أنّ نضال المرأة كانت يشـتدّ كلّمـا اتّجـهت السياسـات القائمة نحو المحافظة وهي ظاهرة عملـت جـوانب الحيـاة السياسـيّة الإيطاليّة حتّى نهاية القرن.

لقد استطاعت المقـولات الأنثروبولوجيّة، أن تتصـدّر عـدداً مـن الدوريّات العلميّة. وتمكّن الأنثروبولوجيّون من إعطاء مؤلّفاتهم مدّاً جماهيريّاً واسعاً وخاصّة هؤلاء الّذين لهم مكانة السيادة والسـلطة. وبالإضافة إلى ذلك استطاعوا أن يطرحوا ويرسـموا، تحـت غطاء الإضاءة العلميّة، صورة للمرأة لم تكن إلّا انعكاساً لصـورة نسـائيّة كانت سائدة سابقاً وخاصّة في ذهنيّة الرجل. لقد كرّست سـمات الضعـف، والهشاشـة، والسـلبيّة والعاطفيّـة الانفعاليّة، في صورة المرأة الّتي رسمها العلم مـن خـلال الآداب الراقية والآداب الشعبيّة كسمات أنثويّة. وذلك ليس كـلّ شـيء، ففـي القوّة الّتي تمتدّ في مساحة الخمسة عشـرة سـنة الأولى مـن القـرن العشرين، استطاعت هذه الخصائص الأنثروبولوجيّة المزعومة أن تضـع المرأة فـي سـجن قدرهـا الأكثر مأساويّة ودراميّة، وأن تحكم عليها بوصفهنّ ملائكة المنـازل، أو القاصرات إلى الأبد اللّواتي يترتّب عليهنّ أن ينجبن من أجل الوطن.

لقد لعبت الأنثروبولوجيا الثقافيّة التطوّريّة - ولا سيّما الإيطاليّة - دوراً معادياً للمرأة واستطاعت أن تجسّد مقولات الهيمنة الأبويّة الذكوريّة الّتي عرفتها المجتمعات الإنسانيّة عبر تاريخها الطويل، وكان قدر هذه الأنثروبولوجيّة أن تسقط في وحول العراك الأيديولوجيّ الدائر حول مسألة المرأة ودورها الإنسانيّ في الحياة الاجتماعيّة، وهي في تورّطها هذا غلب عليها الميل إلى تفسير دونيّة المرأة بسيرورة تطوّريّة، وأن تبرّر هذه الدونيّة الّتي تأخذ دوائر مغلقة. ومن هنا لعبت هذه الأنثروبولوجيا دوراً كابحاً لانطلاقة المرأة اجتماعيّاً وسياسيّاً. ومع ذلك فإنّها لعبت بالمقابل دوراً إيجابيّاً تمثّل في طرح مسألة المرأة وإيقاظ الوعي النسويّ؛ ومن ثمّ إنهاض المواقف المناصرة لوضعيّة التكافؤ الإنسانيّ بين المرأة والرجل.

ويبقى مع ذلك كلّه القول بأنّ استعراض أدبيّات هذه الأنثروبولوجيّة التطوّريّة يمثّل وقفة حيويّة مع حالة من العطاءات الفكريّة والتراثيّة الّتي تأخذ طابع الأهمّيّة والخصوصيّة في مستوياتها العلميّة والفكريّة. فالوقفة مع هذا التراث الأنثروبولوجيّ يضعنا في صورة تطوّر جانب من جوانب المعرفة الإنسانيّة وحقل من حقولها، ولا سيّما فيما يخصّ المرأة هذا من جهة، وهي من جهة ثانية تتيح لأنصار الحرّيّة النسويّة والمساواة أن يكونوا في صورة هذه الطروحات الّتي تدفع إلى حالة من التأمّل الفكريّ واستنهاض الطاقة في مسألة بالغة الأهمّيّة والخطورة. ولا بدّ لنا من الإشارة في هذا السياق أنّ المقالة الحاليّة تركّز على الوضعيّة الأوروبّيّة ممثّلة بالفكر الأنثروبولوجيّ الإيطاليّ بالدرجة الأولى، وقد لا ينسحب ذلك بصورة كلّيّة على مجمل العطاءات الأنثروبولوجيّة الّتي تجلّت في مناطق عديدة من العالم، وفي مراحل تاريخيّة مختلفة.

وأخيرا نقول في مجال الرد على العدوانية الأنثروبولوجية ضد المرأة: إن المرأة سر الوجود في أعظم تدفقاته الجمالية، وفن العطاء في أروع تجلياته الروحية، هي الحنان الذي تدفق في الكون روحا كونية فأصّل في أعماقنا جوهرنا الإنساني المضمخ بالمعاني السامية للوجود في أرقى دلالاته الإعجازية. إنها معجزة إلهية ارتسمت في صورة الأم والزوجة والأخت والابنة والحفيدة، إنها الوطن الذي فيه انبثقنا ومنه ترجلنا إلى الوجود، وهل هناك أعظم من المرأة لتي تعبق بكل معاني العطاء والسمو والنقاء، أليست هي هدية الله للإنسان والأرض والإنسانية. نعم هي عبق الوجود المتدفق بأريج الحياة المضمخ بسمو المعاني وعبق الدلالات، نعم هي هبة الله للإنسان والإنسانية، وآية من آيات خلقه العظيم في الكون.

***

ا. د. علي أسعد وطفة – كلية التربية – جامعة الكويت

......................

هوامش المقالة:

1- تتناول الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) الظواهر الاجتماعية الإنسانية وفق مناهج محددة قوامها البحث الشمولي المتكامل في طبيعة الظاهرة وتناول الظاهرة المدروسة على نحو كلي عياني . وتتمثل أبرز خصائص البحث الأنثروبولوجي في تفاعل الباحث مع المجتمع الذي يدرسه بصورة كلية حيث يتوجب على الباحث أن يعيش في أحضان المجتمع الذي يريد دراسته وأن يتقن عادات وتقاليد هذا المجتمع ومن ثم يبدأ بدراسة خصائصه الاجتماعية والدينية والسياسية وغير ذلك ليقدم صورة شمولية متكاملة للمجتمع الذي يدرسه .

2- سيزار لامبروزو (Cesare Lombroso): عالم إيطالي يُعتبر أحد أبرز مؤسسي علم الجريمة الحديث. وُلد في 6 نوفمبر 1835 في فيرونا بإيطاليا وتوفي في 19 أكتوبر 1909 في تورينو. كان لامبروزو طبيبًا، أستاذًا في الطب الشرعي، وعالم أنثروبولوجيا، وقد أثرت أعماله بشكل كبير على دراسة الجريمة وعلم الإجرام في القرن التاسع عشر.

3- جوجليلمو فيريرو (Guglielmo Ferrero) (1871-1942) هو مفكر إيطالي وعالم اجتماع ومؤرخ شهير، اشتهر بأعماله في مجال علم الاجتماع التاريخي ودراساته حول الإمبراطوريات القديمة، وخاصة روما. كان أيضًا شريكًا ومساهمًا في بعض الأعمال العلمية مع سيزار لامبروزو، وخاصة تلك المتعلقة بعلم الجريمة.

4- آثرنا أن نترجم عنوان الكتاب على مبدأ التورية لما فيه من تحامل على المرأة وللأمانة العلمية نورد عنوان الكتاب كما ترجم إلى الفرنسية وفقا لامبروزمو هو بعنـوانLa femme criminelle la prostitée la naturelle . لقي هذا الكتاب نجاحـاُ كبـيرا فـي إيطاليا والبلـدان الأخرى ، حيث أعيدت طباعته عندما كان لومبروزو على قيـد في عام 1903 ، وطبع بعد وفاته أربع مـرات (1911 ،1915، ،1923 ،1927، وقد اكمل الكتاب ونقح من قبل ابنته غينا Gina ، وأعيدت طباعة الكتاب عند دار النشر التي طبعته عام 1893 . وقد ترجم ذلك الكتاب إلى الالمانية عام 1894 وإلى الإنكليزية عام 1895 وترجـم في الولايات المتحدة الأمريكية في نفس العام ، وإلى الفرنسية عـام 1896 .

5- Cesare Lombroso and Guglielmo Ferrero, The Female Offender, Trnalate: William Ferrero, D. Appleton and Com-pany, new York , 1895.

6- جيوسيب سيرجي:(Giuseppe Sergi) (1841–1936) عالم أنثروبولوجيا وعالم اجتماع إيطاليًا بارزًا، اشتُهر بأبحاثه حول الأعراق البشرية وتاريخ الحضارات. يُعتبر أحد المفكرين المؤثرين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حيث ركز على دراسة أصل الأعراق والعوامل الثقافية والاجتماعية المؤثرة على تطورها.

7- Paolo Mantegazza (1831–1910): كان طبيبًا، أنثروبولوجيًا، وكاتبًا إيطاليًا بارزًا، يُعتبر من الشخصيات الرائدة في العلوم الطبية والاجتماعية في القرن التاسع عشر. عُرف بأبحاثه المتعددة في مجالات الطب، الأنثروبولوجيا، وعلم النفس، بالإضافة إلى أعماله الأدبية التي دمجت بين العلم والثقافة.

(محاولة لفهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل)

تمهيد: في حقيقة الأمر، إن الحياة الإنسانية عبارة عن سلسلة يترابط فيها الماضي بالحاضر وصولاً إلى المستقبل، وهذه السلسلة متشابكة ومعقدة تدور فيها الكثير من الأحداث والظواهر الاجتماعية والتاريخية ومرتبطة بوقائع ماضية وأحداث تاريخية، وليست منفصلة أي أن الحاضر مرتبط الماضي. لذا " يعد البحث التاريخي بحثاً ناقداً ... وقد تتعلق مشكلة البحث التاريخي بتاريخ أمة أو تطور الدراسة الجامعية أو تاريخ منظمة تربوية أو تاريخ أحد العظماء في مجال السياسة أو العلوم أو الأدب وما إلى ذلك ".

 إن علماء الاجتماع يميلون إلى استخدام المنهج التاريخي لأنهم يريدون الوصول من خلال ذلك إلى المبادئ والقوانين العامة عن طريق البحث في أحداث التاريخ الماضية، إذ إن دراسة الظاهرة الاجتماعية من منظور تاريخي يكشف لنا عن مسار تلك الظاهرة ويعرفنا على القوانين التي تحكمها. كما أن التاريخ هو المنافس الوحيد لعلم الاجتماع في دراسة الظواهر الاجتماعية الكلية المتحركة.

أولاً- تعريف المنهج التاريخي: يرتكز المنهج التاريخي على دراسة أحداث الماضية دراسة دقيقة بالرجوع إلى السجلات التاريخية، إلا أن المنهج التاريخي ليس عملية البحث عن السجلات والوثائق القديمة بل يعد أيضاً إجراء لإثبات أصالة هذه الوثائق، أي إنه يقوم على تتبع ظاهرة تاريخية، من خلال أحداث أثبتها المؤرخون أو ذكرها أفراد، أو تناقلتها روايات، على أن يُخضع الباحث، ما حصل عليه من بيانات وأدلة تاريخية، للتحليل النقدي، للتعرف على أصالتها وصدقها، وعلى العموم تهدف البحوث التاريخية إلى تفسير الأحداث والكشف عن العوامل التي أدت إليها، وأبعادها المستقبلية، ليس فقط من أجل فهم الماضي، بل وللتخطيط المستقبلي أيضاً. كما يقوم المنهج التاريخي بدراسة الحوادث والوقائع الماضية وتحليل المشكلات الإنسانية ومحاولة فهمها لكي نفهم الحاضر على ضوء أحداث الماضي ونتمكن من التنبؤ بالمستقبل، لأن الماضي يتضمن الحاضر والحاضر يتضمن المستقبل.

لذا يعد المنهج التاريخي من أهم المناهج البحثية، التي يعتمدها الباحث الاجتماعي في جمع الحقائق والمعلومات وتصنيفها وتنظيرها وربطها بموضوع الدراسة الذي يريد بحثه والتخصص به، ويمكن اعتباره أول منهج للدراسة في علم الاجتماع فقد استخدمها جميع رواد علم الاجتماع الأوائل في دراساتهم الاجتماعية. وقد كان من أقطاب هذا المنهج العلامة ابن خلدون يؤمن بالمنهج التاريخي العلمي القائم على الملاحظة والوصف والتحليل والنقد ومحاولة التفسير أي تفسير الظواهر الاجتماعية من خلال تاريخ المجتمع عن طريق ربط الماضي بالحاضر والتركيز على ملاحظة وتحليل الظواهر مباشرة ثم متابعة وتعقب هذه الظواهر في مراحل تاريخية من حياة المجتمع.

وتتسم البحوث ذات المنهج التاريخي بمحاولتها تحليل الظواهر الاجتماعية في إطار المجتمع الذي نشأت فيه، بمعنى عدم فصل الظاهرة عن سياقها التاريخي. كما ويستمد المنهج التاريخي من دراسة التاريخ، حيث يعمل الباحث التاريخي على دراسة الماضي وفهمه وربطه بالحاضر ومن ثم التنبؤ ووضع خطة للمستقبل. ويمكن أن نعرف منهج البحث التاريخي بأنه: مجموعة من الأساليب والخطوات التي يتبعها الباحث التاريخي للوصول إلى الحقيقة التاريخية، وإعادة بناء الماضي بكل وقائعه وأحداثه في حدود الزمان والمكان التي وقعت فيه تلك الأحداث.

كما يمكننا القول: إنه منهج من مناهج البحث الاجتماعي يقوم على عرض وكتابة المعلومات من خلال المشاهد والتسلسلات التاريخية، ويربطها بالحاضر ليتنبأ بالمستقبل، وهو من مناهج البحث الاجتماعي الأساسية.

والباحث الذي يستخدم المنهج التاريخي في كتابة مضمون البحث العلمي يقوم بعملية تنبؤية بنتائج البحث العلمي، وذلك وفقاً لما بين يدي الباحث من معلومات تم جلبها باستخدام المنهج التاريخي من الوقائع، التي حدثت بالفعل في الماضي.

وطبيعة المنهج التاريخي في كتابة مضمون البحث الاجتماعي تأتي من خلال حصر الشواهد والأحداث التاريخية، وإدخالها في عملية تحليل ومناقشة للمعلومات، وكذلك عملية ربط المعلومات التاريخية بالمعطيات الحالية، وبهذا يمكن للباحث فهم طبيعة المستقبل.

ثانياً- منطلقات توظيف المنهج التاريخي: إن الباحثين الاجتماعيين الذين يقومون بالدراسات والبحوث ذات المنهج التاريخي ينطلقون من أربع منطلقات رئيسية، وهي كالآتي:

1- دراسة الظاهرة الاجتماعية من خلال ارتباطها بسياقها التاريخي.

2- دراسة الظاهرة الاجتماعية في الحاضر هو انعكاس لوضع الظاهرة في الماضي.

3- إن التفسير الحقيقي للعوامل المؤثرة في الظاهرة المدروسة لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال الدراسة التحليلية لتاريخ المجتمع الذي نشأت فيه هذه الظاهرة. ولن ننجح في فهمنا لهذه الظاهرة الاجتماعية إذا تجاوزنا السياق التاريخي لها.

4- إن تاريخ أي مجتمع هو المنطلق الحقيقي الذي يستمد منه الباحث كل الظواهر الاجتماعية التي يجب عليه دراستها وليس أي شيء آخر، لذلك فإن البحث التاريخي هو البحث الذي يوظّف التاريخ إما من أجل معرفة علمية لأحداث الماضي أو لمصلحة البحث العلمي لواقع الظواهر المعاصرة، وذلك أن حاضر الظاهرة لا ينفصل عن ماضيها بل هو امتداد لها، التي تساعد على فهم الحاضر وربطه بالماضي والتنبؤ بالمستقبل، ولكل نظام اجتماعي تاريخه الخاص، كما يتفق العديد من العلماء على كون التاريخ ليس مجرد سرد لأحداث الماضي بل إنه أداة للتفسير وخصوصاً إذا أخذ جانب المقارنة وقد أشار دوركايم إلى أن التاريخ المقارن هو أداة مهمة في يد علماء الاجتماع تساعدهم على التحليل والشرح.

ثالثاً- الفوائد العلمية للمنهج التاريخي: تنحصر في الفوائد التالية:

1- اعتبار التاريخ الميدان الواسع الذي يحتوي على كل مجرب.

2- الاستفادة من تجارب الماضي المثبتة.

3- اعتبار الزمن الحاضر نقطة انطلاق للبحث في الموضوع الحاضر أو السابق.

4- تحري الصدق والنزاهة والتأكد من صحة ما يسجله الباحث من أحداث وأفكار ومواقف الابتعاد عن التحيز.

5- الاعتماد على المصادر في كتابة التاريخ والابتعاد قدر الإمكان عن التتبع الهامشي.

6- التركيز على النقد البناء في تناول القضايا والأفكار.

7- يعتبر التفسير التاريخي محور المنهج التاريخي في ربط العلاقات بين المتغيرات المستهدفة بالبحث.

 تعتبر البحوث التاريخية نوعاً من البحوث الكيفية، حيث يعتمد البحث التاريخي في حالات كثيرة على دراسة الوثائق وتحليلها وجمع الحقائق منها ثم تفسيرها من أجل فهم الماضي ومحاولة فهم الحاضر وتوظيفها في المستقبل. ومع هذا كله لا يمكن الاستغناء عن المنهج التاريخي، ذلك أن هناك ظواهر لا يمكن تتبعها ودراستها إلا وفق المنهج التاريخي، كالثورات والحروب مثلاً، لذلك فإن هذا المنهج ضروري ومفيد في تتبع مسار الظواهر الاجتماعية المختلفة، ومعرفة أسلوب تطورها وتغيرها وتقدمها.

رابعاً- أساليب المنهج التاريخي: يتبع المنهج التاريخي في عملية معالجة معلوماته أسلوبين رئيسيين، باعتبارها الأنسب في عملية استقطاب الباحث للمعلومات ضمن المنهج التاريخي، وهذين الأسلوبين هما:

1- الأسلوب الاستقرائي في المنهج التاريخي: يحتاج الباحث أحياناً في المنهج التاريخي لإتمام مضمون البحث العلمي أن يقوم بعملية جمع المعلومات، ومن ثم ربط المعلومات بالمشكلة التي يأخذها في مضمون البحث العلمي، وكذلك كتابة الفروض، وبعد ذلك استقراء هذه المعلومات وادخالها في عملية المناقشة وصولاً إلى استخراج النتائج الخاصة بمضمون البحث العلمي كاملاً.

2- الأسلوب الاستنباطي في المنهج التاريخي: يقوم الباحث في هذا الأسلوب بعملية عرض رأيه وفكره ودمجه مع المعلومات التي اقتبسها من المراجع. ليصل الباحث إلى قالب استنباطي يشمل رأيه والمعلومات التي حصل عليها من خلال المراجع. وكذلك يعتمد أسلوب الاستنباط في المنهج التاريخي على تحكيم العقل والاستدلال بالشواهد والثوابت والحقائق ليصل للنتائج الصحيحة.

وبهذين الأسلوبين في المنهج التاريخي يمكن للباحث تدعيم مضمون البحث العلمي. حيث إن المعلومات التي يجمعها المنهج التاريخي تكون بحاجة لعمليات أخرى لتصبح صالحة في الدخول إلى مضمون البحث العلمي.

خامساً- أهم مصادر المنهج التاريخي، تنحصر تلك المصادر بما يلي:

1- السجلات والوثائق.

2- الرسائل الشخصية، المذكرات، التراجم.

3- تقارير شهود العيان على الحدث.

4- " أقوال رجال كبار في السن ".

5- تقارير صحفية.

6- الدراسات والكتابات التاريخية والأثرية.

7- الأساطير والروايات الشعبية.

8- الحفريات.

سادساً- خطوات المنهج التاريخي: يتم استخدام المنهج التاريخي وفقاً للخطوات التالية:

1- أول ما يبدأ به الباحث ضمن إجراءات المنهج التاريخي هو عملية اختيار مشكلة البحث العلمي، حيث تفرض هذه المشكلة على الباحث ما إذا كان استخدام المنهج التاريخي هو المناسب أم لا، وتكون هذه المشكلة بحاجة لكتابة المعلومات والبيانات من الحوادث التاريخية، وينبني على تحديد المشكلة في المنهج التاريخي تحديد المصادر والمراجع التي سيتبعها الباحث في عملية جمع المعلومات، أي إن توافر المصادر والوثائق المتعلقة بمشكلة البحث أمر له أهمية كبيرة في البحوث التاريخية.

2- بعد أن يقوم الباحث بعملية تحديد المشكلة سيقوم الباحث بعملية جمع المعلومات من المصادر التاريخية (الأولية والثانوية)، ولا بد في المنهج التاريخي من التأكد من صحة مضمون كل مرجع من المراجع التي سيتم اقتباس المعلومات منها.

3- يضع الباحث الفرضيات، وهذه الفرضيات تتم عملية اشتقاقها في المنهج التاريخي بالنظر إلى مشكلة البحث العلمي، ومن ثم ربطها بالمعطيات الحالية.

4- وضع المعلومات في سياق مضمون البحث العلمي يكون غير كافياً في المنهج التاريخي. بل يجب أن يقوم الباحث بعملية المناقشة والتفسير لهذه المعلومات.

5- لا بد من أن يقوم الباحث بعملية تحليل ونقد للمعلومات التي قام بجمعها من خلال المنهج التاريخي، وهذا النقد يشمل رأي الباحث وإثباتاته المنطقية.

6- لا بد من عملية توثيق كافة المراجع والاقتباسات التي تم اقتباس المعلومات منها، ووضع هذه المعلومات في مضمون البحث العلمي.

7- وأخيراً، يقوم الباحث بناءً على ما سبق باستخلاص النتائج الخاصة بمضمون البحث العلمي، وهذه النتائج تكون عبارة عن تنبؤات، بالإضافة إلى كتابة تقرير البحث.

خلاصة القول تنحصر تلك الخطوات، بما يلي:

أ- تحديد الظاهرة أو النسق المراد دراسته.

ب- تحديد المفاهيم والفروض أو التساؤلات.

ج- تحديد نوع الدراسة: من حيث كونها استطلاعية أو تحليلية أو تفسيرية.

د- تحديد وحدة التحليل التاريخي وتشمل:

1) وحدة بشرية: المجتمع البشري الذي سيتم تغطيته بالدراسة تاريخياً.

2) المجال المكاني: الموقع الجغرافي.

3) المجال الزماني: الفترة الزمنية التي ستتم تغطيتها.

ه- تحديد مصادر جمع البيانات، والتي تنقسم إلى نوعين:

- مصادر أولية: وتشمل الآثار والمخطوطات (التي يتم التأكد من صحتها من حيث الشكل والمضمون) وعند قيام الباحث بتحليلها بنفسه إلى جانب الأشخاص الذين عاصروا الفترة التاريخية.

- مصادر ثانوية: الكتب والرسائل العلمية التي تتناول الفترة التاريخية موضوع الدراسة.

و- تصنيف الحقائق التاريخية وتنسيق المعلومات والربط بين النتائج ثم تفسير مدلولاتها. بمعنى اختبار الفروض أو الإجابة على التساؤلات.

ز- كتابة تقرير البحث.

سابعاً- أمثلة على استخدام المنهج التاريخي: نستعرض في هذه الفقرة بعض الأمثلة حول استخدامات المنهج التاريخي في مجال البحث العلمي، وكيفية توظيفه، من خلال ما يلي:

1- مضمون البحث العلمي التربوي: يمكن للباحث أن يقوم باستخدام المنهج التاريخي في هذا المضمون. من خلال دراسة القيم التربوية في الفترات الزمنية والتي تتطلب العودة للماضي وربطها بالحاضر.

2- مضمون البحث العلمي عن الطبيعة: تتأثر الظواهر الطبيعية بعامل الزمن. وكذلك الباحث يمكنه الحصول على معلومات حول ظاهرة طبيعية معينة في فترات زمنية مختلفة تبين عوامل التأثر والاختلاف.

3- مضمون البحث العلمي الاجتماعي: الدراسات الاجتماعية غالباً ما تهتم بالعلاقات بين الناس، وباستخدام الباحث المنهج التاريخي يمكن معرفة طبيعة هذه العلاقات وفقاً لأثر الحوادث التاريخية، على سبيل المثال معرفة سبب الهجرة في بلد معين اندلعت فيه عدة حروب.

4- مضمون البحث العلمي الاقتصادي: أغلب المحددات الاقتصادية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتاريخ، على سبيل المثال معرفة كيف تمكنت دولة ماليزيا من الصعود من دولة فقيرة ومعدومة المقومات الاقتصادية إلى دولة ذات استثمارات ضخمة في القارة الآسيوية.

- عناوين مقترحة في توظيف المنهج التاريخي: 

1- دراسة تطور مراسم وعادات الزواج في مدينة دمشق ما بين عام 1950/ 2000

2- التطور الاجتماعي والاقتصادي لمدنية حلب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر

3- أسباب تأخر سن الزواج في المجتمع السوري ما بين عام 1980/ 2010

4- دراسة النظام الأسري في مدينة حلب ما بين عام 1960/ 2021

5- التاريخ الاجتماعي لمدنية القدس في القرن التاسع عشر

6- أسباب قيام الثورة الفرنسية الاجتماعية السياسية في عام 1789

7- آثار الثورة الصناعية على البنية الاجتماعية في المجتمع الإنكليزي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

................................

- المراجع المعتمدة:

1.  حسام الدين فياض: تقنيات كتابة البحوث الاجتماعية " منهجية إعداد وتصميم خطة البحث من الألف إلى الياء "، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب: الخامس، الجزء: الأول، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2023.

2.  فاطمة عوض صابر وميرفت علي خفاجة: أسس ومبادئ البحث العلمي، مكتبة ومطبعة الإشعاع الفنية، الإسكندرية، ط1، 2002.

3.  مادلين غراويتر: مناهج العلوم الاجتماعية، ترجمة: سام عمار، مراجعة: فاطمة الجيوشي، المركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف والنشر، دمشق، 1993.

4.  مجموعة مؤلفين: منهجية البحث العلمي وتقنياته في العلوم الاجتماعية، تحرير: عياش عائشة ورائجة زكية، المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، برلين، ألمانيا، 2019.

5.  محمد الصاوي محمد مبارك: البحث العلمي – أسس وطريقة كتابته، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، ط1، 1992.

6.  مروان عبد المجيد إبراهيم: أسس البحث العلمي لإعداد الرسائل الجامعية، مؤسسة الوراق، عمان، ط1، 2000.

7.  منذر الضامن: أساسيات البحث العلمي، دار المسيرة للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2007.

8.  ميادة القاسم: مناهج البحث الاجتماعي وتطبيقاتها في علم الاجتماع، المجلة العربية للنشر العلمي، الأردن، مجلة علمية محكمة دولية، العدد: 31، 2021.

 

ترجمة: د. زهير الخويلدي

***

"من القرن الثامن إلى القرن العاشر، كان العرب مستودعًا للتراث الفلسفي والعلمي لليونان. فقد ترجمت أعمال أرسطو وأفلاطون ومفسريهم، بطليموس وأرخميدس وديوفانتوس وأبقراط وجالينوس إلى العربية. وعلى هذا الأساس الكلاسيكي تم بناء الفلسفة والعلوم العربية (علم الفلك والطب والرياضيات). منذ القرن الثاني عشر فصاعدًا، تمت إعادة ترجمة النصوص العربية - الأعمال الأصلية وكذلك ترجمات المواد الكلاسيكية - إلى اللاتينية والعبرية والقشتالية، وهي العملية التي جرت بشكل رئيسي في إسبانيا. وبهذه الطريقة اكتشفت أوروبا أعمال الفلاسفة والعلماء في العالم العربي الإسلامي وأعادت اكتشاف بعض مصادرهم الكلاسيكية. من بين المزاعم العديدة التي تنسب إلى الحضارة العربية الإسلامية، ليس أقلها ضمان نقل المعرفة القديمة، إذا جاز التعبير، دون انقطاع. كيف جمع العرب هذا التراث من العصور القديمة القديمة والمتأخرة، وكيف فهموه، وكيف نقلوه، هذا ما سيحاول هذا المقال المتواضع توضيحه. عندما استولى عرب شبه الجزيرة، تحت قيادة الإسلام، من بيزنطة على المقاطعات الغنية في سوريا وفلسطين ومصر (الاستيلاء على دمشق: 635؛ الاستيلاء على الإسكندرية: 642)، مع وضع نهاية للإمبراطورية الفارسية الساسانيين ( الاستيلاء على قطسيفون: ٦٣٧)، لم يكن أمام الغزاة سوى تفوقهم العسكري فقط لغتهم ودينهم: اللغة العربية الغنية بتقاليد شعرية طويلة والتي أصبحت مقدسة للتو بالوحي القرآني، والإسلام الذي يتجاوز الوحي السابق ويلغيه. إن هاتين القوتين، إحداهما تقليدية والأخرى مبتكرة، هما اللتان تعملان معًا على حماية العرب من الاندماج في شعوب متفوقة من حيث العدد وأكثر تقدمًا فكريًا. ولكن إذا ظلوا مرتبطين دون قيد أو شرط بلغتهم ودينهم، فإن الغزاة يضعون أنفسهم في مدرسة المهزومين، في كل شيء آخر. ومن هذه، لديهم كل شيء ليتعلموه: التقنيات المعمارية والزخرفية، ووسائل الراحة في الحياة، وإدارة المقاطعات، والعلوم، أي الطب والرياضيات وعلم الفلك وعلم النبات، ولكن أيضًا الفلسفة. ومرة أخرى "انتصرت اليونان المفتوحة على فاتحها الشرس"، بحسب كلمات هوراس الجميلة عن الرومان، المنتصرين على اليونانيين بالسلاح ولكنهم خاضعين لحضارتهم. ومع ذلك، على عكس الرومان، فإن العرب لا يتنازلون عن دراسة لغة المهزومين. وإذا انفتحوا على المعرفة الدنيوية لليونانيين، فإن ذلك يكون من خلال الترجمات العربية، وستكون اللغة العربية، لعدة قرون، التعبير المتميز عن المعرفة، وتلعب في الشرق الدور الذي كانت تلعبه اللاتينية في الشرق. الغرب. ولذلك كان المترجمون هم الذين عرفوا العرب بالعلم والفلسفة. ومن غير العدل أن ننساها عندما نتحدث عن النمو الفكري المذهل الذي شهده العالم العربي الإسلامي في عصره الذهبي في القرن العاشر. ومع ذلك، وعلى الرغم من أهمية دور هؤلاء المترجمين، إلا أنه لم يكن ممكنًا لولا التقليد الطويل لمؤلفي ومترجمي اللغة السريانية. في وقت الفتح العربي، استمرت المعرفة القديمة في الزراعة في المقاطعات البيزنطية في مصر وسوريا. إن مدارس الرها، وقيصرية، وأنطاكية (التي تأسست في القرن الثالث)، والشرق الأقصى من مدرسة نصيبين (التي تأسست في القرن الرابع)، وخاصة الإسكندرية، ضمنت الآن استمرارية الفلسفة والعلوم اليونانية. بعيدًا، في الشرق، واصلت ميرو، في مملكة باكتريا اليونانية، التي أسسها الإسكندر، وحتى أبعد من ذلك، جونديسابور، نقل العلوم الهيلينية والحفاظ عليها، والطب على وجه الخصوص. في هذه المراكز الجديدة للهيلينية، ما ساد هو دراسة أعمال أرسطو (العمل المنطقي على وجه الخصوص)، ولكن أيضًا أعمال أفلاطون وجالينوس وبطليموس. ونقرأ أيضًا الفلاسفة والمعلقين المتأخرين: نيقولا الدمشقي (القرن الأول)، والإسكندر الأفروديسياس (القرن الثاني والثالث)، وأفلوطين، وبورفيري (القرن الثالث)، ويامبليخوس (القرن الثالث والرابع)، وثامسطيوس (القرن الرابع)، وبروكلس (القرن الرابع). القرن الخامس)، جون فيلوبون (القرن السادس). تم خلط الأعمال الأصلية مع الأبوكريفا، والتي رأى أرسطو أنه يُنسب إليها الفضل (على سبيل المثال كتاب Liber de Causis). ما احتفظنا به من العصر الكلاسيكي والعصر الهلنستي، كان، باستثناء الملحمة والشعر والمسرح والتاريخ، الفلسفة والعلم في الأساس. تم التدريس باللغة اليونانية، على الأقل حتى القرن الخامس. شيئًا فشيئًا، في هذه المدارس المسيحية، ولكنها انفصلت عن العقيدة البيزنطية بمذاهبها المونوفيزية أو النسطورية؛ السريانية حلت محل اليونانية. منذ القرن السادس، تمت ترجمة معظم المعرفة القديمة إلى السريانية. وهكذا فإن التراث القديم الذي جمعه العرب بعد الفتح سيكون هو نفسه الذي حافظ عليه أسلافهم الناطقون بالسريانية والمتحدثون بالمسيحية لعدة قرون. لقد بدأت حركة الترجمة من السريانية إلى العربية في القرن الثامن، ولكن بشكل خاص في القرن التاسع، تحت قيادة الخليفة العباسي الثامن، المأمون، وصلت هذه الحركة إلى ذروتها. أسس المأمون بيت الحكمة (بيت الحكمة) في بغداد، حيث عمل المترجمون والأطباء وعلماء الرياضيات والفلك والفلاسفة من المراكز الهلنستية الرئيسية على إنتاج نسخ عربية من الموسوعة اليونانية السريانية.

من المناسب أن نقول بضع كلمات عن هؤلاء المترجمين وأساليبهم وعملهم. أقدم هذه الآثار المعروفة لنا كانت من مدينة حران في شمال بلاد ما بين النهرين. أصبحت هذه المدينة، التي تم فتحها عام 640، في القرن التاسع مركزًا نشطًا للغاية للترجمة من اليونانية والسريانية إلى العربية. وأبرز مترجمي هذه المدرسة هو أسقف حران ثابت بن قرة. وكان هذا تلميذ يوحنا الدمشقي يجيد اللغات اليونانية والسريانية والعربية. ونحن مدينون له بالنسخة العربية من التحليل الأول. ولكنه قبل كل شيء هو مترجم علماء الرياضيات اليونانيين: نيقوماشيوس الجراسي، أبولونيوس، أرخميدس... ومن عناصر إقليدس، يقوم بمراجعة ترجمة الحجاج (مترجم بطليموس). في الوقت نفسه، في بغداد، ترجم أستات الميتافيزيقا مباشرة من اليونانية، والتي ستغذي نسختها العربية جميع الفلاسفة العرب (الفلاسفة)، من الكندي (القرن التاسع) إلى ابن رشد (القرن الثاني عشر). يحيى بن البطريق يترجم دي كايلو، و الأرصاد الجوية، و دي جينيريشن أنيماليوم، و دي بارتيبوس أنيماليوم. ويعتبر قسطا بن لوقا من أفضل المترجمين والعلماء في هذا العصر. كان يعرف اليونانية والسريانية وكذلك العربية، وقد نقل العديد من أعمال ديوفانتوس وأوتوليكوس وأرسطرخوس وهيرون إلى العربية. نحن مدينون له بالنسخة العربية من كتاب بلاسيتا الفلسفي لبلوتارخ الزائف، والذي يتمتع بأهمية كبيرة لتاريخ الفلسفة اليونانية. لكن أشهر هؤلاء المترجمين جميعاً هو بلا شك حنين بن إسحاق شماس الكنيسة النسطورية. وبعد دراسة الطب في جونديسابور، جاء ليستقر في بغداد، حيث أسس مدرسة للمترجمين مستقلة عن بيت الحكمة. قام بترجمة عدد كبير من الأعمال اليونانية بمفرده أو مع تلاميذه (بما في ذلك ابنه إسحاق بن حنين): أطروحات لأرسطو (بما في ذلك الفئات ودي أنيما)، وكتاب الفكر للإسكندر الأفروديسياس، وكتاب الأحلام. أرتيميدوروس الأفسسي. لكننا مدينون قبل كل شيء لهذا الطبيب اللغوي بالنسخة العربية من أعمال جالينوس وكتاب أبقراط.

لقد قدمت طريقة عمل حنين وتلاميذه أفضل الضمانات للدقة اللغوية. وأوضح حنين نفسه أنه قبل القيام بالترجمة، قام بوضع نص نقدي من المخطوطات اليونانية المختلفة المتاحة له. وكان يقوم أحيانًا بتنقيح هذه الترجمة إذا كان محظوظًا بالحصول على مخطوطات جديدة. ولكن إذا كان حنين، مثل قليلين آخرين، قادرًا على الترجمة مباشرة من اليونانية إلى العربية، فإن معظم الترجمات تمت من السريانية. غالبًا ما كان حنين نفسه يترجم من اليونانية إلى السريانية قبل أن يعطي النسخة العربية. لقد كان بالنسبة للمترجمين، ومعظمهم من المسيحيين، وسيلة لخدمة المعرفة المسيحية باللغة السريانية بقدر ما كان يفعله السادة المسلمون. لكن هذه الطريقة غير المباشرة لا تضر، ولو بشكل طفيف، بأمانة الترجمة. في الواقع، تتميز هذه الترجمات بالحرفية لدرجة أنه من الممكن اليوم قراءة النص اليوناني الأصلي ضمنيًا. وهذا ليس أقل اهتماماتهم: فالناشر الحديث للنص اليوناني يمكنه، بل ويجب عليه الآن، أن يأخذ في الاعتبار هذه النسخ العربية القديمة، والتي تتمتع أيضًا بميزة الشهادة على تقليد المخطوطات الأقدم من ذلك الذي نعرفه عن أقدم مخطوطاتنا اليونانية. أخيرًا، نقلت إلينا هذه الترجمات العربية أعمالًا فُقد أصلها اليوناني: هذه هي حالة ميكانيكا هيرون، وكتب الحساب لديوفانتس، وإعادة صياغة لثيميستيوس، والعديد من أطروحات الإسكندر وجالينوس. لكن أول المستفيدين من هذا العمل الهائل كانوا العرب أنفسهم. وكان هؤلاء المترجمون هم الذين عرّفوا العالم العربي والإسلامي بالفلسفة والعلوم والتكنولوجيا. يعتمد علماء الفلك بقدر ما يعتمد علماء الرياضيات، والفلاسفة بقدر ما يعتمد الأطباء على عمل المترجمين. وبفضلهم، منذ القرن العاشر، أصبحت النصوص الأرسطية بأكملها معروفة لدى أفلاطون (الجمهورية، طيماوس، فيدون، الندوة: الترجمات مفقودة الآن)، بطليموس، ديوسقوريدس، إقليدس وديوفانتوس، أبقراط وجالينوس. العرب. ليس من المؤكد أنه يقلل من فضل العرب في التذكير بأنه لولا "المعجزة اليونانية" لما كان هناك ما يسمى أحيانا "المعجزة العربية". لقد كان فضلهم عظيمًا في جمع المعرفة القديمة، وفي بعض الأحيان إنقاذها من الحطام، ولكن لم يكن أقل فضلًا هو إثراءها بعبقريتهم، وإثرائها بتأملاتهم وخبراتهم، قبل نقلها أخيرًا إلى أوروبا المسيحية في الأعمال. ابن سينا (ابن سينا)، ابن رشد (ابن رشد)، البتاني (ألباتينيوس)... كل هذه المعرفة اليونانية العربية، في الواقع، ستنتقل إلى أوروبا عندما بدأ الناس منذ القرن الثاني عشر في ترجمة اللغة العربية إلى العبرية واللاتينية. وفي الشرق تمت الترجمات الأولى. أديلارد باث (القرن الثاني عشر)، بعد أن تعرف على الثقافة اليونانية العربية في صقلية، سلك الطريق إلى الشرق (أنطاكية، طرسوس، القدس). بالعودة إلى الغرب، أصبح معروفًا من خلال الترجمة اللاتينية لكتاب العناصر لإقليدس وعمل الخوارزمي (القرن التاسع) على الجداول الفلكية (زيد السندهند). ولكن حدث هذا النقل بشكل رئيسي في إسبانيا. بعد استعادتها عام 1085، استمرت مدينة طليطلة، كما كانت تحت الاحتلال العربي، في لعب دورها كنقطة اتصال بين الحضارتين. وهناك، تحت قيادة رئيس أساقفتها ريموند (1126-1151)، تم القيام بأعمال ترجمة طويلة ومثمرة جمعت بين العرب والعبرانيين واللاتينيين، وتمكن الغرب بفضلها من التعرف على مفكري الإسلام. ، ولكن أيضًا تلك الخاصة باليونان. ولا يسعنا في هذه النظرة البسيطة إلا أن نذكر بعض الروابط الأساسية في سلسلة هذا النقل. روبرت التشستري، جيرارد كريمونا بعد فترة وجيزة (القرن 13م)، ترجم إلى اللاتينية الكتاب الشهير للخوارزمي بعنوان المختصر في حساب الجبر والمقابلة: أساسي العمل الذي أدخل الغرب، في نسخته اللاتينية، إلى كلمة جديدة وعلم جديد: الجبر (الجبر: التخفيض). ومترجم آخر هو جون الإشبيلية، ترجمه نفس المؤلف، كتاب حساب العدد الهندي (كتاب حساب العدد الهندي) تحت العنوان اللاتيني: Liber Alghoarismi de practica arismetrice (sic). ومع هذا الكتاب، تم إدخال ما يسمى بالأرقام العربية إلى أوروبا، وظهرت كلمة جديدة تسمى ثروة معينة: الخوارزمية (الخوارزمي > الخوارزمي > الخوارزمية). ترجم جيرارد كريمونا إلى اللاتينية، خلال القرن الثاني عشر، حوالي سبعة وثمانين عملاً: لأرسطو، وثيميستيوس، وأرخميدس، وأبولونيوس، وبطليموس، ولكن أيضًا لابن سينا (الميتافيزيقيا). وفي القرن الثالث عشر، كان الملك ألفونس العاشر الحكيم هو من حرك هذه الحركة الفكرية وعززها. قام ميشيل سكوت، الذي تعرف على الثقافة العربية في صقلية وإسبانيا، بترجمة كتاب علم الفلك الليبرالي للبطروجي (ألبتراجيوس) وجميع شروح ابن رشد تقريبًا إلى اللاتينية. في ترجمته العربية اللاتينية، ستقرأ أوروبا المتعلمة التعليق العظيم البارع على الميتافيزيقا، الذي ألهم فكر وتعاليم القديس توما، وكذلك المدرسة اللاتينية بأكملها. هذا المثال الأخير يسلط الضوء على الدور البارز لإسبانيا في نقل المعرفة. فمن ناحية، أدخلت أوروبا في العصور الوسطى إلى العديد من أعمال العصور اليونانية والهلنستية القديمة. ومن ناحية أخرى، فهو ينقل في الوقت نفسه أساسيات الفكر والعلم الفلسفي الشرقي. نحن نفهم بالفكر والعلم الشرقيين بالمعنى الواسع مجمل التأملات الفلسفية والعلمية التي يكون إطارها الجغرافي والروحي العالم وحضارة الإسلام، كوسيلة للتعبير عن اللغة العربية، كممثلين للفلاسفة وعلماء الرياضيات والعلماء. علماء الفلك، وعلماء النبات، والأطباء، من جميع الأديان - المسلمين واليهود والمسيحيين - ومن جميع المجموعات العرقية الموجودة في "مسكن الإسلام" الشاسع: الهنود، والفرس، والأتراك، العرب، شمال أفريقيا، المصريون، الأندلسيون. إن ما تتلقاه أوروبا من العالم الإسلامي ليس إقليدس فقط، بل الخوارزمي أيضًا. إنه أبقراط وجالينوس، ولكن أيضًا القانون لابن سينا وجامعة ابن رشد. إنه بطليموس، ولكن أيضًا علماء الفلك «المشرقون»، البتاني (الباتينيوس)، والبطروجي (البتراجيوس)، وابن الزرقالة (أزاركيل)، والفرغاني (الفراجانوس). وهذا ما يفسر لماذا تتألق في سمائنا إلى الأبد، إلى جانب الأسماء اليونانية أنتاريس وأوريون وبولوكس، والأسماء العربية الديبراني والبطروجي والطائر." بقلم أوبرت مارتن

تتناول هذه المقالة عناصر مؤتمرين للمؤلف، أحدهما منشور: كيف نقل إلينا العرب التراث القديم (جامعة لييج، الكلية المفتوحة، فبراير 1984)؛ والآخر غير منشور: إسبانيا ونقل المعرفة القديمة والشرقية (Europalia 85. España. بروكسل). وهو مستوحى أيضًا من مقال للمؤلف نفسه: ميتافيزيقيا أرسطو في العالم العربي (Clavis philosophorum antiquorum. Publications du C.N.RS.، المقرر نشره عام 1989).

***

.......................

Bibliographie

A. BADA WI, La transmission de la philosophie grecque au monde arabe, Paris, 1968 (Études de philosophie médiévale, 56).

Encyclopédie de l’Islam. Nouvelle édition. Leyde-Paris, en cours de publication (articles Aflatun, Aristutalis, Batlamiyus, al-Battani, Bayt al­hikma, al-Bitrudji, Bukrat, Buruklus, Djalinus, falasifa, falsafa, Hunayn ibn Ishaq ; Ibn Rushd, Ibn Sina, al-Khuwarizmi).

A. JOURDAIN, Recherches critiques sur l’âge et l’origine des traductions latines d’Aristote et sur les commentaires grecs et arabes, employés par les docteurs scolastiques , nouvelle édition revue et augmentée par Ch. JOURDAIN, Paris, 1843.

Kh. GEORR, Les Catégories d’Aristote dans leurs versions syro-arabes, Beyrouth, 1948.

L. LECLERC, Histoire de la médecine arabe. Exposé complet des traductions du grec. Les sciences en Orient, leur transmission à l’Occident par les traductions latines, 2 vol. , Paris, 1876.

I. MADKOUR, L’Organon d’Aristote dans le monde arabe. Ses traductions, son étude et ses applications, Paris, 1934, 2e éd., 1969 (Études musulmanes, 10).

A. MIELI, La science arabe, Leyde, 1938.

A. MULLER, Die griechischen Philosophen in der arabischen Uberlieferung, Halle, 1873.

De Lacy O’LEARY, How Greek Science passed to the Arabs, London, 1949.

F.E. PETERS, Aristoteles arabus. The Oriental Translations and Commentaries on the Aristotelian Corpus, Leiden, 1968.

M. STEINSCHNEIDER, Die arabischen Ubersetzungen aus dem Griechischen, Leipzig, 1897. Réimpression, 1960. R. W ALZER, Greek into Arabie. Essays on Islamie Philosophy, Oxford, 1962.

R. W ALZER, L’éveil de la philosophie islamique, dans Revue des Études islamiques, XXXVIII (1970), 7-42 et 207-242.

Reference

Aubert Martin, « Les arabes, transmetteurs du savoir antique  », Civilisations, 38-1 | 1989, 15-25.

كاتب فلسفي

 

مرّ العالم الإسلاميّ منذ حالة الإفاقة في القرن التّاسع عشر الميلاديّ بمرحلتين: الأولى تتمثل في انقسام العالم إلى كتلتين، تمثلتا لاحقا في دول التّحالف والمحور، وكان ما يتشبثون به يتمثل في أمرين: الخلافة العثمانيّة ووحدة محاربة الاستعمار، ومن جهة أخرى هناك من يرى أنّ الخلافة العثمانيّة قادت الأمّة إلى الجهل والتّخلّف، ولا يمكن مقارعة الاستعمار إلّا بمحاربة الجهل، وهنا استخدم بعض المصلحين مصطلح السّلفيّة في المعنى الإحيائيّ القيميّ، أي الشّيء الذي كان سببا في إحياء السّلف، فلن يصلح آخر هذه الأمّة إلّا بما صلح به أولها، وليس بمعنى الجمود، أو إحياء الصّراع الأول بين الصّفاتيين والمعتزلة، فنجد مصطلح السّلفيّة حاضرا في أدبيات محمّد عبده (ت: 1905)، ومحمّد رشيد رضا (ت: 1935م)، في المقابل نتيجة تهميش الأقليات، والبعد عن الجامع بالمعنى الدّينيّ، كان اتّجاه آخر في الإحياء بالمعنى القوميّ الأكبر، دون تهميش للأقليّات، أو استخدام الدّين في تبرير الاستبداد وإقصاء الآخر، فظهرت حركات اليسار، وكان فيها رجال دين تبنّوها كفكر، ولاحقا كمنهج تحت مظلّة الاشتراكيّة في الإسلام.

في مقابل القوميّة والّتي قادت روحها مصر منذ أيام الملكيّة كمنهج دعوة إلى منهج سياسيّ واقتصاديّ في عهد جمال عبدالنّاصر (ت: 1970م)، قابله تشكل خطاب دينيّ تحت مظلّة السّلفيّة، لقي دعما من المال بسبب انتعاش المنطقة بالنّفط، وتمثل هذا في المملكة العربيّة السّعوديّة، فمنذ ضعف حضور إخوان بريدة في عهد الملك عبدالعزيز (ت: 1953م)، وبداية استقطاب الإخوان المسلمين، خصوصا نتيجة الاضطهاد في مصر؛ بدأ تشكل سلفيّة جديدة، مازجت بين معتقد السّلفيّة وأصولها التّقليديّة، وبين حركيّة الإخوان، المتمثلة ظاهريّا في الدّعوة وأسلمة الدّولة، ومستقبليّا -عند العديد منهم- قيام الخلافة الإسلاميّة، أو قيام حكومات إسلاميّة، وتحقّق الثّاني يكون بتحقّق الأول عند الفريق الأغلب، وهنا ظهرت التّيارات الصّحويّة والسّروريّة والقطبيّة وغيرها، يجمعها هذا التّمازج، بيد أنّ فريقا آخر يرى تحقّق الأسلمة لا يكون إلّا بتحقّق الحاكميّة، وقيام حكومة إسلاميّة لا يكون إلّا بقيام أنظمة حاكمة إسلاميّة، وبدأ فكرا في حاكميّة المودوديّ (ت: 1979م) وسيّد قطب (ت: 1966م)، وظهر كأول منهج حركيّ واضح عند مصطفى شكريّ (ت: 1978م) وعبدالسّلام فرج (ت: 1982م) مثلا، من خلال نشوء جماعات جهاديّة متطرّفة ومكفرة، مستخدمة أدبيات ابن تيميّة (ت: 728هـ/ 1328م) وبعض السّلف، وحاكميّة المودودي وسيّد قطب، وحركيّة الإخوان في محاولة تغيير الأنظمة ذاتها.

هنا نشطت الأحزاب الإسلاميّة النّاتجة عن حركة الإخوان المسلمين، تحت مظلّة العمل الاجتماعيّ، وأسلمة الدّولة، والانفتاح على الوسائل العلمانيّة، وتبني العديد من الخطابات اليساريّة، ولكن تحت مظلّة عالميّة وشموليّة الإسلام، وليس تحت مظلّة القوميّة، كما تمدّد من الاتّجاه السّنيّ إلى الاتّجاه الشّيعيّ في حزب الدّعوة، والحركة الشّيرازيّة مثلا، ونشط الحراك الإخوانيّ الصّحويّ والحركيّ الإسلاميّ، وأصبح أكثر تمدّدا، وسيطر على الخطاب في الجامعات والكليّات، وكانت له منابره من خلال «الكاسيت»، والمنشورات والمجلّات الإسلاميّة، ولقي دعما سياسيّا في مواجهة الحركات اليساريّة، وغربيّا في مواجهة الاتّحاد السّوفييتيّ لاحقا.

هذا التّزاوج السّياسيّ بالحركات الإسلاميّة حدث له ثلاثة تشكلات في منطقة الخليج وما جاوره أثرت فيه، تشكل الجماعة السّلفيّة المحتسبة والّتي قادت إلى حركة الحرم 1979م، والخوف من تمدّد الجماعات المحاولة لإسقاط أدبيات روائيّة تأريخيّة كالمهدويّة، وتشكل نجاح الثّورة الإسلاميّة في إيران 1979م، والخوف من تمدّد تصدير الثّورة، ثمّ التّشكل المتمثل في تشجيع الشّباب للمشاركة في الحرب ضدّ الرّوس، باسم الحرب ضدّ الشّيوعيّة الملحدة، ممّا جعل المناخ أكثر تمدّدا للحركات الإسلاميّة، الصّحويّة الإخوانيّة السّنيّة كبديل عن جموديّة السّلفيّة المحتسبة، ومواجهة للتّمدّد الشّيعيّ الحركيّ، ولتأثيرها في الخطاب الجمعيّ ضد الرّوس والحركات اليساريّة والقوميّة، وفي الاتّجاه الشّيعيّ في تثوير المجتمعات، وتمدّد نظريّة ولاية الفقيه.

بيد أنّ حرب الخليج 1990م، واستعانة المملكة ودول الخليج بالأمريكان، وقيام قواعد أمريكيّة في المنطقة؛ تحول الصّراع مع الخارج: روسيا وإيران وإسرائيل، أي الشّيوعيّة والشّيعة واليهود، إلى بدايات الصّراع مع الحكومات الخليجيّة، وعلى رأسها المملكة العربيّة السّعوديّة، خاصّة وأنّ التّمدّد الصّحويّ الإخوانيّ أصبح أكثر تأثيرا لدى الشّباب والقاعدة الأفقيّة في المجتمع من الخطابات الدّينيّة الرّسميّة، فأصبحت هذه الحكومات أمام تحدّ جديد تمثل في ذات الحركات اليساريّة، ولكن تحت اللّباس الدّينيّ الإسلاميّ، لهذا في هذه المرحلة ولد التّيار الجاميّ والّذي يوجب طاعة وليّ الأمر، وعدم جواز الخروج عليه ما لم يظهر كفرا بواحا، كما لا يجوز النّصحية لولي الأمر في العلن، لما فيه من فتنة بين النّاس، وحرمة تشكل الأحزاب السّياسيّة والدّينيّة، ولقي هذا التّيار دعما سياسيّا، وأصبح يتمدّد شيئا فشيئا، مما ظهر له تحولان: التّحول المدخليّ والّذي بالغ في الجرح والتّعديل، من بينها تجريح الرّموز الصّحويّة والإخوانيّة وكل المذاهب الإسلاميّة بما فيها الأشاعرة والماتريديّة والمتصوّفة إلى حدّ تكفير بعضهم، وتحوّل الحداديّة -أي نسبة إلى محمود أحمد الحدّاد- وهذه توسعت من تكفير وتفسيق المعاصرين، إلى تكفير وتفسيق الأموات، حتّى داخل التّيار السّلفيّ ذاته، ولها حضور في وسائل التّواصل المعاصرة مثل: يوتيوب - تيك توك - انستجرام - تلجرام وغيرها، ممّا يحدثون تأثيرا على الشّباب وصغار السّنّ، من خلال خطابات محمّد شمس الدّين، وعبدالكريم الكثيريّ، وعبدالله الخليفيّ وغيرهم، وهؤلاء بين أنفسهم تناقضات، بيد الجامع بينهم مشترك السّلفيّة الجاميّة، وتوسع التّبديع والتّكفير المدخليّ والحدّاديّ، والاشتغال بالشّخوص وتجريحهم.

هذه التّجاذبات جميعا، منذ بداية ضرورة إرجاع الخلافة وأسلمة الدّولة عند الإخوان المسلمين، وتوسيع دائرة السّلفيّة ومحاربة البدع والفرق الضّالة وعدم موالاة الكفّار، ونواقض الإسلام العشرة عند السّلفيّة المعاصرة (الوهابيّة) بشكل عام، ومحاربة الأمريكان ومن يواليهم من الحكّام كما عند بعض الصّحويين والسّروريين، ثمّ التّوسع في محاربة المختلف وتبديعه، وقد يؤدّي إلى تشريكه وجواز دمه وماله كالمتوسلة من المتصوّفة والشّيعة والحركات الباطنيّة، كما عند المدخليّة والحداديّة؛ جميع هذه التّجاذبات أعطت إرثا عمليّا عند الحركات الجهاديّة، ابتداء من جماعة التّكفير والهجرة بشكل مبكر، إلى تكوّن القاعدة ثم داعش وتفرعاتها.

من حيث البنية التّبديعيّة والتّكفيرية قد يجد القارئ من الخارج شيئا من التّناقض، فالسّلفيون الصّفاتيون بدأوا بتبديع من يخرج عن نظريّة الصّفات من المعتزلة والأشاعرة والماتريديّة، إلى تكفير المستغيثة والمتوسلة من المتصوفة والشّيعة والحركات الباطنيّة، مع تكفير الاتّجاهات العلمانيّة واليساريّة، بيد أنّهم وقعوا في جدل بين تكفير الأعيان، وفي الاقتصار على التّكفير بالعموم، وبين تكفير وتبديع العامّة، وبين اقتصار ذلك على الخاصّة، بما في ذلك تبديع وتفسيق رموز الحركات الجهاديّة كما عند الجاميّة لخروجهم على ولاة الأمر، وإن وقعوا في تناقض في تبرير ذلك اضطروا إلى وجود مخرج لتكفير بعضهم تكفيرا بواحا، توسع فيه الصّحويون المسعريون مثلا ككتابهم «الأدلّة الشّرعيّة في تكفير الدّولة السّعوديّة»، وضيّقه بعضهم على بعض الاتّجاهات المذهبيّة والمعاصرة كالنّصيريّة والقوميّة اليساريّة والعلمانيّة، كما أنّ توسع المدخليّة والحدّاديّة في التّبديع والتّكفير أعطى مناخا خصبا للحركات الجهاديّة المتطرّفة، كذلك ضبابيّة مفهوم الخلافة والأسلمة واستدعاء حوادث تأريخيّة كالحرق والذّبح للأسرى، والرّجم وقطع اليد لبعض العصاة، والجزية لأهل الكتاب، والسّبيّ وقتل رجالهم لمن كان خارج أهل الكتاب، أو محكوم عليه بالشّرك، هذه مفردات ضبابيّة وتأريخيّة لقت ميولا ورواجا عند هذه الحركات المتطرّفة.

سنجد اليوم دول المنطقة تعيش في اضطراب آخر، وفي محاولة متفرقة ما بين من كان مغضوبا عليهم من الاتّجاهات الثّقافيّة، ومحاولة خلق أجواء ثقافيّة تحرّريّة، وبين من يحاول خلق تيارات دينيّة تتقبل الآخر المختلف، وتحاول تعميق الأبعاد الإنسانيّة والوطنيّة، بيد أنّ هذه الحالة قد تنقلنا من اتّجاه إلى اتّجاه آخر كما رأينا سلفا، وهي وإن كانت حالة صحيّة في العديد من جوانبها، إلّا أننا بحاجة اليوم إلى تفكيك بنية الخطاب الدّينيّ ذاته، بما فيه ذلك الخطاب الدّينيّ الرّسميّ؛ لأنّه بذاته يحوي مفردات تأريخيّة مبطنة غير ممنهجة تؤدّي إلى الاتّجاه نحو هذه الحركات المتطرّفة، كما أنّ التّطرّف العلمانيّ الشّموليّ يخلق فراغا لفئة كبيرة تميل إلى التّدين، وتجد ما يسدّ رمقها في خطابات هذه الاتّجاهات، وفي المقابل نجد الرّؤية التّقريبيّة والإصلاحيّة الحاليّة في رموز الجامعات والمجامع الإسلاميّة الكبرى، ومن جميع المذاهب الإسلاميّة، ما زالت تحاول تلميع المشترك، دون تقديم منهج نقديّ يفصلنا تماما عن تكرار مثل هذه الاتّجاهات الماضويّة والتّكفيريّة، أو يحدّ من توسعها، فكل المذاهب الإسلاميّة بلا استثناء لها سلفيّاتها قد تشترك بوجه أو بآخر مع مغذيّات الحركات المتطرّفة الحاليّة، ولا يقتصر فحسب عند السّلفيّة الصّفاتيّة.

***

بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

 

منهجية أو منهجيات 

يبدو انه لا يمكن لأية أمة أو ثقافة أن تعيش بلا ماض وتاريخ.. حيث أن التاريخ والتراث، يشكل بالنسبة إلى جميع الثقافات، المخزون الرمزي والعقدي والنظام الفكري لتلك الثقافات.. لهذا لا يمكن أن نتصور أن هناك ثقافة بلا تاريخ وتراث.. ولكن تختلف الثقافات والمدارس الفكرية، في الموقف من الماضي والتاريخ والتراث.. فثمة ثقافات ومناهج فكرية، تمارس عملية القطيعة الإبستمولوجية مع تاريخها وتراثها، وتعتبر نفسها وليدة الحاضر بكل جوانبه وحقوله.. 

ولكننا نرى أن تحديد العلاقة بين حاضر الأمة الثقافي، بتراثها الثقافي والحضاري، مسألة أساسية في عملية فقه الحاضر.. 

فلا يوجد على مستوى التاريخ قطيعة، لأننا نحمل مسؤولية الماضي، لأن الماضي الموصول بالحاضر، والإثنين معا، لهما صلة بالمستقبل.. فلا فصل في التاريخ، هناك وصل استمراري لحركة التاريخ.. أي ثمة حتمية وجبرية يفرضها الوجود، جبرية السنن والقوانين، جبرية النتيجة المتصلة بالمقدمات، والنهايات الموصولة بالبدايات.. فلا يمكن إذا أن نقابل بين الحاضر والماضي، ونجعل تحقيق أحدهما على حساب الآخر.. ويشير إلى هذه المسألة الكاتب المصري (زكي نجيب محمود) بقوله: ليس الماضي جثة ميتة موضوعة، في تابوت، وعلينا نحن أبناء الحاضر أن نحافظ على هذا التابوت في المتحف.. بل هو أقرب إلى الرافعة، التي نزحزح بها الأثقال الراسخة، لتتحرك، ولهذا فنحن إذ نصنع ماضينا، من بين المادة الخامة القريرة التي خلفها لنا الآباء.. فإننا لا نحسن هذا الصنع، إلا إذا اخترنا الروافع التي تثبت الحياة في الحاضر، وفي الإعداد للمستقبل على حد سواء.. وإلا انقلب تاريخ الماضي بين أيدينا صخورا جوامد، تعرقل التيار دون الانسياب الدافق إلى الهدف.. 

ف(عدم تحديد بوصلة نظرية) واضحة وسليمة في علاقة الحاضر بالماضي، يجعل الإنسان (الفرد والمجتمع)، يعيش الازدواجية في كل نواحي وحقول حياته.. 

لأن التراث يعتبر ذاكرة الأمة، فكلما كانت هذه الذاكرة حافظة، وقادرة، على الاستفادة من تجارب الماضي، وتوظيف ذاكرة الأمس لخدمة الراهن والمستقبل.. دون التوهم لحظة واحدة إننا نقف عند التراث فقط.. لأن التاريخ حركة سائرة دوما إلى الأمام، والأحداث، وإن بدت متشابهة في بعض ظواهرها وعناصرها، إلا أن شروطا جديدة ومختلفة تتولد باستمرار وبالتالي فإن الظواهر الجديدة تملي معالجات جديدة.. فالتراث ليس إجابة جاهزة عن أسئلة الراهن، إنه مجرد وعاء وذاكرة، وبمقدار استيعاب مضمون هذا الوعاء وجوهرة، تتوافر القدرة الكافية لمواجهة أعباء الحاضر والمستقبل.. وبهذا لا يصبح التراث كما يزعم البعض معيقا أو كابحا عن التقدم والتطور.. 

من هنا فإن التراث هو تلك الحصيلة من المعارف والعلوم والعادات والفنون والآداب والمنجزات المادية التي تراكمت عبر التاريخ. وهو نتاج جهد إنساني متواصل، قامت به جموع الأمة عبر التاريخ، وعبر التعاقب الزمني أصبحت هذه الحصيلة المسماة (التراث)، تشكل مظاهر مادية ونفسية ونمطا في السلوك والعلاقات، وطريقة في التعامل والنظر إلى الأشياء.. 

من هنا فإنه لا يجوز النظر إلى هذا التراث العربي والإسلامي، بأنه نهاية المطاف، أو قمة الإبداع الوحيدة، وأكمل صورة من صور الحضارة.. وإنما هو جهد إنساني استطاع أن يحقق قفزة نوعية في مسيرة الإنسان الفرد والمجتمع.. ويقول في هذا الصدد الروائي العربي (عبد الرحمن منيف): أن التراث الشعري للعرب مثلا، والذي هو ديوانهم عبر أغلب العصور كما يقال، يشكل فخرا لهم، ويعطيهم ميزة بالمقارنة مع الشعوب الأخرى.. لكن هذا التراث يجب ألا يكون قيدا عليهم فالمرحلة الحالية أو المقبلة.. وما يقال عن الشعر، يمكن  أن يقال عن الأمور الأخرى، بما فيها اللغة، والتي تعتبر سببا أساسيا في تشكيل الأمة العربية، وخلق مناخ ثقافي لها، ولكثير من الشعوب خلال فترات تاريخية طويلة.. بهذا المعنى نحن نتعامل مع التراث، وبهذا يتحول، تراث الأمة العربية والإسلامية، إلى سبب من أسباب الثراء والتطور لو أحسنا التعامل والاستفادة منه.. لأن التراث كما هو التاريخ، يمكن أن يدفع ويساعد، إذا نظرنا إليه نظرة موضوعية، وأكدنا على الجوانب الإيجابية فيه، واستخرجنا العناصر الحية منه، لكي تستمر وتنمو.. وإذا هضمناه هضما جيدا، دون أن نغفل عن نبض العصر وحاجياته.. 

لهذا فإننا نرجع إلى تراثنا، قصد التزود، وحفز الهمم، والإبقاء على الأمل، والتماس القدوة والأنموذج.. لهذا ف إن تكرار التراث، والانشغال السلبي به عن طريق الوقوف عنده.. وضعا كهذا على المستوى الحضاري، لا يمكن أن ينتج فكرا أو ثقافة قادرة على تأسيس القاعدة النظرية الضرورية للرقي والتطور على المستوى العام.. وبهذا يفقد المجتمع العربي والإسلامي الصلة الضرورية التي تربطه بتراثه وماضيه، من أجل استفزاز جانب الإبداع والابتكار في المجتمع.. لأن التاريخ كما يقول (كروتشه) هو بأجمعه تاريخ معاصر.. أي أن التاريخ يتألف بصورة أساسية من رؤية الماضي، من خلال عيون الحاضر وعلى ضوء مشاكله.. وأن العمل الأساسي للمؤرخ ليس فقط التدوين، وإنما وبالدرجة الأولى التقويم.. 

لهذا فإننا نحافظ على هويتنا الثقافية والاجتماعية، ليس عن طريق الانطواء والهروب إلى الماضي وذكرياته العديدة.. كما أنه ليس عن طريق الاستلاب والتبعية.. إن طريق الحفاظ على هوية المجتمع وتراثه، لا يأتي إلا عن طريق إعادة تنظيم الحياة العقلية والمادية والأخلاقية للمجتمع، على ضوء ثوابت الحضارة والتاريخ.. 

إن الهوية تعبر عن ذاتها، في الكفاح المستميت في تطوير التراث، لا في الانحباس فيه.. وفي تحرر الذات من رواسب الماضي السيئ، وأوهام المستقبل المجهول والغامض.. إن الهوية تتجسد في إطلاق إمكانات الذات في البناء والتطوير.. 

 وهذا هو الرأسمال الأول، الذي ينبغي استخدامه لتنمية راهننا وصولا إلى بناء مستقبلنا المنشود.. وبهذا يتحول التراث إلى مصدر حيوي، لمدارس ثقافية – اجتماعية – تجديدية، تسعى لبناء حاضر هذا المجتمع وفق ثوابته التاريخية والحضارية.. وباستمرار تلح ضرورة قراءة التراث، والتعلق بالخصوصيات الحضارية أبان خضوع المجتمع لعمليات تغيير ثقافي أو اجتماعي سريعة، ولا تنسجم والخصوصيات الذاتية.. بدون فرق سواء جاءت عمليات التغير السريعة من الداخل أو الخارج.. 

وأن أي محاولة لقطع حاضر الأمة الثقافي والحضاري، عن ماضيها وموروثا الثقافي لا يؤدي إلا إلى المزيد من ظهور الكيانات الاجتماعية المشوهة، والتي لا تقدر عمل أي شيء يذكر على المستوى الحضاري.. والعالم العربي والإسلامي ليس وحيدا على الصعيد الدولي حي يهتم بقراءة تراثه والعمل على إحيائه.. إذ تجد جميع الأمم والشعوب تهتم بهذه المسألة وتوليها أهمية قصوى..

والمثال البارز في هذا الصدد هو نقل ملحمة (بيود لف) الشهيرة من اللغة الإنجليزية القديمة إلى الإنجليزية الحديثة لتيسير قراءتها للأجيال المعاصرة.. كما أنه لم تهمل الأساطير اليونانية القديمة رغم أنها خرافات، تتعارض ونظريات العلم الحديث، إنما خضعت لتفسيرات التحليل النفسي والتأويلات الأنثربولوجية.. 

وعلاقتنا بالتراث ليس علاقة ترفيه أو كمالية، وإنما ترتقي إلى مستوى الدين والحضارة.. بمعنى أن علاقتنا بالتراث تنبع من أن في هذا التراث الأنموذج التطبيقي لديننا ومبادئنا أو ما يطلق عليه ب (الإسلام التاريخي).. كما أن انجازات الأمة الحضارية ومكاسبها الإنسانية قد تبلورت وتحققت فعلا في تلك الحقبة التاريخية من الزمن التي نطلق عليها حاليا جزءا من التراث.. وعلى هذا فإن إخراج الإسلام وحضارته من التراث، يحول التراث إلى لا شيء.. 

وثمة مسوغات عديدة لضرورة قراءة التراث من جديد أهمها:  

1.  تجديد الرؤية:

إن قراءة التراث (كما قلنا آنفا) ليس حالة ترفيه تعيشها الشعوب والأمم.. وإنما هي حالة ضرورية لبناء الحاضر.. إذ أن القراءة الواعية للموروث الثقافي والحضاري، يؤسس العوامل النفسية والاجتماعية والثقافية، لتجديد رؤيتنا إلى موروثنا الثقافي، وكيفية الاستفادة منه في حاضرنا.. لهذا فإننا لا نطلب الماضي لذاته، وإنما من أجل تجديد الرؤية، إلى الأصول والمنطلقات والقيم التي صنعت الماضي المجيد، لتوظيفها بما يخدم حاضرنا ومستقبلنا..

2.  تحديات الواقع المعاصر:

بفعل عمليات التحديث القسرية والسريعة التي أصابت العالم العربي والإسلامي، بدأ الواقع المعاش، يتشكل وفق منظومات وقيم جديدة.. وهذا أدى بشكل أو بآخر إلى تفكيك منظومة القيم السابقة، واللغة كأداة للتواصل الثقافي والاجتماعي، وجميع أشكال التواصل بي أبناء المجتمع الواحد.. وبطبيعة الحال فإن هذه العملية وتداعياتها، شكلت تحديا صريحا لشعوب العالم العربي والإسلامي.. والرجوع إلى التراث وقراءته من جديد، ما هو في حقيقة الأمر إلا من أجل مقاومة الانسحاق والاستلاب القيمي – الاجتماعي، وتحقيق التوازن المطلوب للعالم العربي والإسلامي أمام تحديات الواقع المعاصر.. 

3.  تحقيق التطلعات:

يخطأ من يعتقد أن تحقيق تطلعات العصر الحديث، يمر عبر إلغاء الذات والتراث.. لأنه لا يمكن لأي شعب أو أمة أن تحقق تطلعاتها، وهي فاقدة لذاتها.. فالشرط الأول والضروري لتحقيق التطلعات هو حضور الذات الحضارية لأنها هي القادرة وحدها في تحريك كل عوامل وعناصر المجتمع الفاعل والمؤثر والشاهد.. فقراءتنا للتراث، ليس هروبا من الحاضر ومسؤولياته وتحدياته (كما يزعم البعض) وإنما هي عملية واعية لتوفير كل شروط الانطلاقة الحضارية المنشودة.. 

أما كيف ينبغي أن تكون علاقتنا بالتراث، فنحددها بالنقاط التالية: 

1. العلم بالتراث: من الثابت أن مجموعة البشرية، التي تنفصل عن تراثها وماضيها، فإنها تقوم بعملية بتر قسري لشعورها النفسي والثقافي والاجتماعي.. وسيفضي هذا البتر إلى الاستلاب والاغتراب الحضاري.. لهذا فإن العلاقة التي ينبغي أن تربطنا بتراثنا، هي علاقة (العلم)، حتى نتمكن من الاستفادة القصوى من المخزون الرمزي والمعرفي والشعوري الذي يوفره التراث للعالم به.. 

2. الإضافة إلى التراث: بما أن التراث عبارة      عن    الجهود الإنسانية المختلفة، التي أثرت في مجرى التاريخ والمجتمع.. لذلك فإن إيقاف مسيرة الإبداع الإنساني يعد ظلما لتراثنا المجيد.. لهذا فإن العلاقة التي ينبغي أن تربطنا بتراثنا، هي علاقة الإضافة.. بمعنى دفع الجهود الإنسانية في مختلف الحقول والجوانب لاستمرار حركة الإبداع في راهننا.. 

ويخطأ من يعتقد أن أوروبا الحديثة، تنكرت لتراثها وماضيها، وإنما الشيء الذي قامت به هو التخلي عن نظرة الكنيسة التي كانت تنظر بشكل سلبي، إلى حركة المجتمع وسعيه نحو الانفكاك منها.. 

وجماع القول: إن أهمية قراءة التراث، تنبع من ضرورة تحديد العلاقة السليمة بين الماضي والحاضر، فمستوى التقدم المادي (علاقة الإنسان بالطبيعة)، وفي قدرة الإنسان على التحكم بأسرار الطبيعة.. وإن هذا التصاعد في قدرة الإنسان على الطبيعة وتسخيرها ارتفاقا بها وانتفاعا منها، تطرح قضية العلاقة بين حاضرنا وتراثنا، باعتباره منجزا إنسانيا – اجتماعيا، حدث في حقبة زمنية على أرضنا التاريخية، وانطلاقا من ذات القيم التي نعتقد بها نحن.. وإن عدم تحديد العلاقة السليمة بين الماضي والحاضر، هي التي تنشأ حالة مزدوجة يعيشها إنسان هذا العصر.. حيث التقديس        المطلق للماضي، والانبهار التام بمنجزات الحضارة الحديثة.. وحدها القراءة الواعية للتراث، هي التي تؤهلنا للجمع بين جمال الماضي وقوة الحاضر..  

 التراث سؤال أيدلوجي أم معرفي؟؟  

إن التراث بما يتضمن من تجارب وخبرات، تشكل ذاكرة الأمة التي لا يمكن الاستغناء عنها.. فالحقب التاريخية بأحداثها وتجاربها لا تنتهي بمجرد زوالها الوجودي.. وإنما تظل حية في خبرة الأمة وذاكرتها.. لهذا لا يمكن القبول بمقولة انفصال ماضي أمة من الأمم وحاضرها وراهنها.. كما دعا إلى ذلك (مارينيت) بقوله: " إننا نريد أن نهدم المتاحف والمكاتب، فالمتحف والمقبرة صنوان متماثلان في تجانب الأجساد التي تتعارف بشكل محزن ونحس.. إنها مضاجع عمومية حيث تنام الأجساد جنبا إلى جنب مع كائنات مبغوضة أو غير معروفة.. خذوا المعاول والمطارق!.. قوضوا أسس المدن العريقة والمحترمة"..  

فالحديث عن التراث ليس دفنا للحاضر والمستقبل، وإنما نحن نتعرف على التراث وكنوزه الثمينة، وننطلق من نقاط قوته والقيم التي صنعته، لفهم الحاضر والمشاركة بعقولنا وعملنا في صناعة مستقبلنا ومستقبل أجيالنا اللاحقة.. فالتراث ظاهرة مركوزة في التكوين الداخلي للأمة، لا يمكن الفكاك منه.. وإن الحفر المعرفي والتاريخي في تراثنا , لا ي ف ض ي إل ى ال ت ع ام ل م ع جوامد أو رمائم أو مومياءات، وإنما إلى خريطة ثقافية – حية، استطاعت في حقبة زمنية، أن تحولنا من أمة هامشية إلى أمة في قلب العالم وأحداثه وتطوراته.. وبهذا نحقق الوصل المعرفي بين ما ينبغي أن يكون حيا من تاريخنا وتجربتنا الماضية وحاضرنا.. 

لهذا فإن التقاط مركبات ذهنية وفكرية من الفضاء المعرفي الأوروبي، والعمل على تعميمها على النموذج العربي والإسلامي، لا يؤدي إلى معرفة سليمة لكلا الفضاءين (العربي والأوروبي).. لأن مجال المجتمع والحركة الإنسانية، ليس كمجال الميكانيكا، وهو لا يرتضي كل الاستعارات، لأن أي حل ذا طابع اجتماعي يشتمل تقريبا ودائما على عناصر لا توازن.. لذلك فإن قراءة التراث ينبغي أن تتم وفق منهجية خاصة تنسجم وطبيعة الخصائص العقدية والتاريخية للمجتمع.. وعلى هذا من الضروري، أن نبتعد عن عملية الإسقاطات المنهجية، التي تتم على مستوى التاريخ والثقافة، حتى لا نكون جزءا من منظومة ثقافية – فكرية، لا تنتمي إلى بيئتنا وتربتنا الثقافية.. فقراءة التراث العربي والإسلامي، لا يمكن أن تتم بمنهجية غريبة عن بنية المجتمع وإنتاجه الإنساني عبر التاريخ.. وإنما من الضروري تأسيس المنهج الذاتي المنسجم وخصائص الأمة العقدية والتاريخية، حتى نتمكن من فهم التراث العربي والإسلامي على أكمل وجه.. 

ومن هنا نجد أن الكثير من الكتاب والمفكرين الذين قاموا بقراءة تراثنا العربي والإسلامي، بمنهجيات مختلفة ومتغايرة عن بيئتنا الذاتية، وصلوا إلى نتائج، لا تنطبق على تاريخنا، وإنما تنطبق على تاريخ ذلك المجتمع الذي أبدع المنهج.. والمثال المباشر لهذه المقولة هو (الموقف من العلم).. لقد حاول قراء التراث العربي والإسلامي، بمنهجيات الآخر الحضاري، أن يؤكدوا أن العرب والمسلمين، وقفوا موقفا سلبيا تجاه العلم ومنجزاته، اعتمادا على تعميم النموذج التاريخي الغربي.. إذ ينسجم هذا الموقف والمنهجية الغربية، لأن الميتودولوجيا الغربية، تضع استبعاد الدين شرطا أوليا لتحقيق العلمية.. 

بينما الموضوعية تقتضي القول: أن العرب والمسلمين وقفوا موقفا مشجعا للعلم والعلماء، واحترام منجزات الإنسان في شتى حقول الحياة.. لهذا نجد أن موضوعية (كونت) تؤكد في كتابه (نسق السياسة الوضعية) أنه: في الوقت الذي كان فيه الغرب المسيحي مشغولا بقضايا لاهوتية عقيمة، كان العالم الإسلامي ينفتح على العلم والمعرفة والفنون وبالتالي أصل اجتماعيته جنبا لجنب مع روحانيته.. إن التفوق الاجتماعي (يضيف كونت) وأهميته في التعاليم الإسلامية، أهلت المسلم، ليكون أكثر صلاحية من غيره اجتماعيا وأهلته للعالمية..

وقد أكد سان سيمون أيضا على مسألة أن انهيار الفكر اللاهوتي، كان مدينا لدخول العلوم العربية والإسلامية إلى أوروبا بعد أن غيرت طبيعة البنية الفكرية الخرافية لذلك التفكير.. يقول سان سيمون " إن ذلك (سقوط النظام الكنسي) حدث مع إدخال العلوم الوضعية إلى أوروبا عن طريق العرب، وقد خلق ذلك بذرة هذه الثورة المهمة التي انتهت اليوم تماما.. ويضيف: انطلاقا من القرن الثالث عشر كان روجر بيكون يدرس العلوم الفيزيائية بشكل رائع، وأن تفوق الوضعي على الحدسي والفيزيقي على الميتافيزيقي كان جد محسوس منذ البداية حتى من قبل السلطة الروحية نفسها إلى درجة أن كثيرا من الإيكليروس السامي ومن بينهم اثنان من الباباوات توجهوا في نفس الفترة تقريبا إلى قرطبة، ليتموا تعليمهم مع دراسة العلوم القائمة على الملاحظة، على أيدي أساتذة عرب".. 

وبهذا فإن استعارة منهجية غريبة عن بنيتنا العقدية والفكرية، ودراسة أوضاعنا وأحوالنا، من خلال تلك المنهجية، يجعل هؤلاء (أهل الاستعارة المنهجية) يفرضوا التشابه على غير التشابه، ويجعلون وطنهم يكرر أداء تمثيلية جرت وقائعها في بلاد أخرى، وضمن ظروف ومعطيات مختلفة.. وفي هذا تقليد مجانب للأصالة والاستقلالية والإبداع على حد تعبير الكاتب العربي (منير شفيق).. وبإمكاننا أن نضرب مثالا على الاستعارة المنهجية في قراءة التراث العربي والإسلامي، بالنتاج الفكري والثقافي للمفكر الجزائري (محمد أركون)، الذي يرى أن قراءة تراثنا الثقافي والفكري، ينبغي أن تتم بمنهجية (الإسلامية التطبيقية) التي تعتمد على العرض العلمي، والقراءة المجردة من كل تحيز أيدلوجي للتراث.. هدف هذه المنهجية النهائي على حد تعبير أركون نفسه هو " خلق الظروف الملائمة لممارسة فكر إسلامي محرر من المحرمات العتيقة والميثولوجيا البالية، ومحررا من الأيدلوجيات الناشئة حديثا"..   

وهو بهذا يسعى نحو تحقيق قطيعة ابستمولوجية مع فكر الإسلام وثقافته.. ويوضح (أركون) هذه المسألة بقوله: "إن نيتي العميقة أن أعطي مثالا لما ينبغي أن يكون عليه اليوم اجتهاد مخلص في مستوى القوة الروحية والعقلية لكبار المفكرين الكلاسيكيين، ولكن مع قطيعة عقلانية مع الدعاوى المنطقية والمسلمات الإبستمولوجية، والجهاز التصوري لهؤلاء المفكرين أنفسهم وآمل أن تجلب كثير من القراءات إسهاما إيجابيا، لاستكشاف وتقدم الحقل الديني والحقل العلمي الذي ما فتئت متجهة إلى فتحه، لتجنب هذه القراءات العقيمة التي تأخذ جملة ما أو تعبيرا ما، لتشكل منه المحضر المعتاد ضد كل ما هو مخالف".. (مقال بعنوان الأنثروبولوجيا الدينية: نحو إسلامية تطبيقية).. 

وهو منهج يتجنب الأحكام التقويمية للظاهرة، واعتبار النتائج التي ينتهي إليها البحث الإمبريقي وحدها نتائج علمية..  إننا لا يمكننا أن نقرأ تراثنا بدون منهجية واضحة، لأنه لا بحث سوسيولوجي بدون منهجية تحدد البحث وتوجهه.. والأبحاث والدراسات الأمبريقية المجردة، ما هي في حقيقة الأمر إلا عملية تجميع لأكوام من البيانات والمعلومات عديمة الدلالة والتحليل.. وقد عبر (كرين برينت) عن أزمة الميتودولوجيا الغربية حيث قال:" إن العقل الذي يتسلط على مشكلات الدين، يستطيع أن يبين للناس، أنه ليس هناك شياطين.. 

والعقل الذي يعمل على مستوى البحوث الطبية والسيكولوجية، يستطيع أن يثبت أن الجنون اضطراب طبيعي في العقل (وربما في البدن) يؤسف له.. هو باختصار مرض يمكن أن يعالج أو يخفف على الأقل بمزيد من استخدام العقل".. وهذه مسألة طبيعية لاعتماد المنهجية الغربية وتطبيقها على حقول مغايرة لها في المبنى والمعنى.. 

وهذا يعني أن المنهجية جزء من السياق العقدي والحضاري لأي مجتمع.. لهذا لا يمكن أخذ المنهج مجردا من مقولاته ونماذجه.. لأنه تشكل في أحشاء النماذج التي عالجها، واكتسى باللحم من خلال الموضوعات التي ولدها.. 

وتأسيسا على هذا نجد أن التراث السوسيولوجي الذي يصدر انطلاقا من المنهجية الغربية، يسعى جاهدا للتأكيد على قيم الغرب ومتبنياته الفلسفية.. لهذا فإننا لا يمكننا أن نفهم مشاكلنا وأزماتنا المعاصرة، بمعزل عن فهم تاريخنا وتراثنا، والقوانين التي تتحكم في مساره، والمنهجية التي نستعملها في معالجة أمورنا وقضايانا.. لأن الانجاز الإنساني السابق الذي نطلق عليه اليوم مقولة (التراث) على علاقة مباشرة بالمنهج، والطريقة التي أفرزت النمط الاجتماعي والإنساني السابق.. لهذا لا يعقل أن ندرس المنجز الإنساني دون معرفة المنهجية والطريقة المتبعة التي أوصلت أولئك إلى هذا المنجز.. فالأنماط الاجتماعية والحضارية، تختلف باختلاف المناهج والمقولات والنماذج.. وعلى هذا لا يصح لنا أن ندرس النمط الاجتماعي والحضاري الإسلامي، بمقولات ونماذج منهجية تنتسب إلى نمط مجتمعي حضاري مختلف.." فالذين يقرؤون الإسلام والتراث والتاريخ والأنماط المجتمعية الإسلامية، ومختلف ظواهرها من خلال ما يسمونه المنهج العلمي القائم على الموضوعات والنماذج المستمدة من النمط الحضاري الأوروبي ماضيا وحاضرا ليسوا من العلمية في شيء، وليس منهجهم علميا بالرغم من كل ادعاء.. لأنه من غير العلمي أن تقرأ الأنماط المجتمعية المختلفة، من خلال منظور التجربة الأوروبية، وعبر نظرة الغرب إلى نفسه وإلى العالم.. أما العلمية فتقضي الإمساك بالمنطق الخاص بسمات النمط المجتمعي الحضاري المحدد وآليات حركته "(الإسلام في معركة الحضارة – منير شفيق – ص 168 )..

وعلى هذا فإن قراءة تراثنا العربي والإسلامي، وفق منطق مجتمعي وحضاري مغاير، يجعلنا نبتعد من رؤية الأشياء والأمور والقضايا على حقيقتها.. وبالتالي تضيع الحقيقة، كما هي في الواقع التاريخي نفسه.. وبهذا لا يمكننا أن نقرأ تراثنا وقضايانا التاريخية، وفق منهجية القراءة الغربية للتاريخ الأوروبي والحضارة الأوروبية.. لأنها قراءة محكومة بمنطق خاص يختلف ومنطق التراث العربي والإسلامي.. والجدير بالذكر في هذا الصدد هو، أن ما يمنع التراث، من ممارسة دوره المأمول ف حاضرنا وعصرنا، يرجع في اعتقادنا إلى المنهجيات الانتقالية الغريبة عن واقعنا، التي نستخدمها (أدوات ومفاهيم) لفهم تراثنا وماضينا القريب والبعيد.. إذ أن نقل(الخارج) معرفيا وحضاريا إلى (الداخل) مع اختلاف الخصوصيات والظروف، لا يؤدي إلى تطور الواقع الفكري والحضاري للداخل، وإنما على العكس يؤدي إلى تلاشي الذات وأفولها.. من هنا تنبع أهمية تحديد البوصلة النظرية، التي ننطلق منها لتقوية حاضرنا وبناء مستقبلنا وفق معايير وأهداف تلك البوصلة النظرية.. وأن هذه المقدمات المنهجية لقراءة تراثنا العربي والإسلامي، تهدف إلى وصل الحي بالحي، وتقديم خطاب عربي – إسلامي، ينسجم وتطلعات العصر.. 

وجماع القول: إن استخدام هذه المقاربة الواعية بين ماضينا وحاضرنا هي التي تؤدي إلى إخصاب فكرنا، وإخصاب مقدرتنا على العطاء والابتكار الحضاري..  

الخاتمة 

يشكل التراث حصيلة معرفية وسلط ة رمزية ومضمون اجتماعي، لذلك حينما إلتفت إليه المثقفون، حاول كل طرف من أطراف المشهد الثقافي الاستيلاء على التراث، والتعامل معه، بوصف قيمه هي المعادل الموضوعي لذات القيم التي يحملها هذا الطرف أو ذاك.

لذلك شهدت حقبة الستينيات من القرن الماضي، محاولات عديدة قام بها اليسار العربي بكل تلاوينه للاهتمام بالتراث وخلق مقاربات فكرية وأيدلوجية بين متبنياتهم الأيدلوجية والفكرية والسياسية وأحداث التراث ومقولاته الأساسية. وهذه الممارسة بصرف النظر عن بواعثها الأيدلوجية والاجتماعية، هي تؤكد حقيقة ثابتة بواعثها الأيدلوجية والاجتماعية، هي تؤكد حقيقة ثابتة مضادة، أن التراث بشكل مادة عابرة لحقب التاريخ، وتتمكن كل الجماعات الأيدلوجية الإفادة من التراث ومواده [ولقد يعيشه الناس، أو يعيشون بعضها من رموزه ومعطياته، كما يعيشون حاضرهم ومعطيات حاضرهم، من دون أن يشعروا بالتناقض. بل إنهم لا يشعرون بالتناقض لأنهم يخضعون ذلك الماضي لحاضرهم فيعيشونه كجزء من يومياتهم] (ص43)

نقد التراث

لذلك فإن كل المشكلات أو أغلبها، التي تطرح على التراث، هي مشكلات معاصرة، وتبحث عن رؤية أو حلول أو شرعية من التراث إلى الراهن. بمعنى أن جميع الأطراف الأيدلوجية في المجال العربي الإسلامي، تعامل مع التراث بكل حقبه بنزعة أيدلوجية، بحيث تسعى كل منظومة أيدلوجية لتغطية خياراتها بنموذج تراثي أو ممارسة سياسية أو اجتماعية تشكلت في حقب التراث. 

فالعودة إلى التراث لدى الغالبية من المهتمين، لم تكن عودة علمية معرفية محصنة، بل هي عودة من أجل الاستقواء بالتراث ومقولاته وخلق حالة من الربط الأيدلوجي أو المعرفي أو الفكري بين لحظات وخيارات من التراث مع لحظات وخيارات راهنة ومعاصرة.

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

3- لغة الخطاب اللائقة:

هي اللغة الأم التي بها يتخاطب المربي أمًا كانت، أو أبًا، أو غيرهما مع الطفل. يعني أن يتوفر المربي على رصيد لغوي طليق، ذي بيان واضح وحديث، ومتضمّن مصطلحات لغوية جديدة تساعد الطفل على التعلم السريع للغة، وتنمّي فيه روح الحوار المتزن. وينبغي أن يكون المربي حذرا بانتقاء الكلمات التي يلقّنها للطفل فهو صفحة بيضاء تتلقى كل حرف مسموع أو مخطوط، والابن مرآة عاكسة لشخص العائلة العام.

ويمكن تنمية الذكاء اللغوي لدى الطفل من خلال مخاطبته بلغة فصيحة، فأذنه تلتقط الكلمات وهو في المهد، وحينما يكبر يكون قد اختزنها في لاوعيه، والمربي يمضي في لغته الرصينة بانتقائه الكلمات اللائقة في الخطاب والتأديب، وبالنتيجة سوف تقوى لغة الطفل، ويقوى رصيده اللغوي الذي به يخاطب الآخر.

وعلى المربي النأي بالطفل عن الألفاظ المشينة الفضة، وغير اللائقة المستفزة أثناء التخاطب معه؛ فأسلوب التعبير يعبّر عن هوية المربي، واللغة هي الهوية الكاشفة عن شخصية الطفل وعائلته في الحاضر والمستقبل. باللغة المربي يكشف عن هويته الشخصية التي تمكث مطبوعة في ذهن الطفل على طوال سني عمره.

بلغة الخطاب نحاور الطفل، والحوار ليس له زمان ومكان معين بل في كل زمان ومكان يمكن للمربي أن يحاور الطفل، لا أن يلزمه لإن الإلزام يقيده ويشعره بالملل.

ويتم الحوار مع الطفل بلغتين، لغة الخطاب النظري بالكلام، أو العملي بتفعيل الكلام عبر سلوك المربي ولغة جسده؛ ولغة الجسد هي تعبيرات الوجه الإيجابية التي لا تتضمن العنف-أي الأمواج السلبية- التي تنعكس من وجه المربي وجسده نحو الطفل. ويمكن للمربي أن يستخدم الحركات الدافئة كالنظر المباشر في عيني الطفل، وعدم إشاحة النظر عنه، واللمس، والربت على كتفيه، واحتضانه، ونبرة الصوت الهادئة الرقيقة ذات الوقع الإيجابي على نفسه، فالتواصل بالصوت، وفن الإصغاء، والاحترام، والحب أهم عوامل بناء الثقة بالنفس، والشعور بالانتماء والأهمية.

أسلوب الهدوء والرفق واللين هو نهج الحوار مع الطفل، وفسح المجال له لتصحيح الخطأ إن صدر، وقبول الحق، والمصارحة، والتوجيه، والاستشارة بما يناسب عمر الطفل، وتوضيح المفاهيم المبهمة بالحوار، وغرس رقابة الله في نفسه، ومراعاة عنصر التشويق عند طرح الأسئلة الحوارية التي تشد الانتباه، وتعكس صداقة ودودة معه؛ صداقة مبنية على المحبة العميقة، والاحترام، والاهتمام، وتعزيز الثقة بالنفس، ومن ثم فتح المجال للعقل من التفتح لتقبّل الحوار المتبادل؛ فالحوار الهادف الفعال يساهم في جعل العلاقة الوالدية مع الابن حيوية دينامية، كذلك مع المجتمع العام. والحوار مع الطفل ينبغي أن يكون في كل المراحل العمرية حسب تدرّج وعيه، ومقتضيات سنّه.

وليس بالضرورة أن يكون الحوار معدا له مسبقا بل من الممكن أن يكون حوارا عفويا في كل الأحوال. في المكان والزمان، في المنزل وخارجه، في أوقات لعب الطفل ونومه، وراحته، وانشغاله. ينبغي أن يكون الحوار حوار ود ومحبة. "إن قضاء بعض الوقت فقط للاستماع بانتباه، وللنزول لمستوى الطفل، والنظر إليه في عينيه عندما يتكلم، واستخدام اللمس الودود، والأحضان، والكلمات لتوصيل رسائل الحب والعاطفة، كلها أدوات قوية"[1]، لإدارة فن الحوار مع الطفل. وهذه حقيقة اكّدها الرسول ص في حديثه الشريف (تصابوا مع الصبي)، ومعناه: كونوا أطفالا مع الطفل، إلعبوا معه، حاوروه، ناقشوه في أفكاره، تكلموا بلغته، ونتيجة الحوار مع الطفل هو تعزيز ثقته بنفسه، وعدم لجوئه إلى السلوكيات السيئة لإثارة الاهتمام.

من أمثال الحوار نطرح أسئلة بسيطة على الطفل، ونترك له الجواب، ثم نحلل جوابه، ونثير أسئلة أخرى حوله، لينفتح ذهنه على طرح أسئلة جديدة، وإيجاد أجوبة لها، أو طرح قضية، أو مشكلة شخصية له وفسح المجال للنقاش فيها، مثلا:

ماذا تعني الحياة؟

ولماذا نحن موجودون؟

وما هو هدف خلقنا؟

لماذا نأكل ونشرب وننام؟

لماذا نتعلم؟

وقد يطرح الطفل رأيه في قضية ما، وعلى المربي أن يشاركه رأيه، ويناقشه، ويحلله، ويستنتج فيه بتدخل عامل الفرح والمرح، وعدم تسفيه رأيه مهما كان بسيطا، أو ساذجا.

سأل معلم تلاميذه الصغار البالغين من العمر ست سنوات، وكان من بينهم حفيدتي ألينا قائلا:

أنا ممتن لشقتي الصغيرة لأنها تؤويني من برد الشتاء وحر الصيف، وهي مكان راحتي واسترخائي، أنتم بماذا ممتنّون؟

أجاب الصغار كل حسب فهمه ورأيه.

حفيدتي أجابت: أنا ممتنة للحياة.

أجابها الأستاذ: هذا جواب مضمونه فلسفي عميق، وفيه شرح طويل.

والجواب فيه حوار يطول، وربما يملأ الصفحات، فالحوار الحيوي يفتح عقل الطفل على طرح مزيد من الأسئلة، والمواضيع الجادة التي يمكن فيها خوض النقاش.

واللعب وسيلة عملية أخرى لمحاكاة عقل الطفل وحواره، فاللعب له دور كبير في تفتّح عقله، وتعليمه التفكير، والتأمل، والتنظيم، والحوار خاصة إذا كانت وسائل لعبه فكرية تعليمية، حيث تعلّم الطفل الكلام معها وحوارها لوحده. وغالبا ما نرى الأطفال يتكلمون مع وسائل لعبهم.

إذا أردنا تنمية الحوار وتطويره لدى الطفل فعلينا العمل على تكوين عادة القراءة عنده منذ الصغر، وتنميتها، وإحاطتها بالرعاية والعناية التامة؛ ليقوى لديه حب القراءة، وتزداد معارفه بتقديم الزاد المعرفي الذي يشبع تطلعاته ونهمه الفضولي لمعرفة كل شيء في كل مراحل نموه ابتداء من الأشهر الأولى، لكن للأسف أن أغلب المربين يهملون عادة تشجيع القراءة لدى الطفل و"قد درج الناس على إهمال تعليم أطفالهم القراءة قبل سن الخامسة ظنا منهم أن الطفل في مرحلة الحضانة لا يحسن تلقي المعلومات عن طريق البصر كما يتلقاها عن طريق السمع؛ فيكتفون بتلقينه اللغة الصائتة، ويحرمونه من متعة اكتساب المعرفة عن طريق البصر بواسطة القراءة للكلمة المكتوبة قبل أن يجلس لتلقّيها على مقاعد الدرس" [2]. والقراءة تعلّم الطفل فن الحوار وإدارته.

وتتدرّج مراحل القراءة بتدرّج مراحل نضج وعي الطفل، وحثه على المطالعة وقراءة القصص، وتلقينه العلوم والمعارف حسب وعيه العمري، وبالتالي سيتطبع الطفل عليها في المستقبل، وتكون القراءة ومواصلة تلقي المعرفة خصلة ملازمة له ما دام العمر.

بطبيعة الحال إن حث الطفل على القراءة المبكرة من قبل الأبوين المثقفين عامل أساس في إيقاظ فكر الطفل، وتفتّح مواهبه العقلية، وقدرته على إثارة الموضوعات الهامة في الحياة التي تستأثر باهتمامه والحوار فيها. وعلى الأبوين الإصغاء لصوت الطفل لإبداء رأيه، وقبوله دون الحكم عليه بالصواب أو الخطأ في أية فكرة يقرأها أو يسمعها، ومن ثم يستطيع الأبوان أن يوسّعا من الموضوع المطروح، ويدخلا في دائرة نقاش مفتوحة معه، مع إظهار الاهتمام بفكره، واحترامه، والثناء عليه. ويمكن توسيع الموضوع إلى موضوعات عدة، ويُناقش في كل جزء منها كل يوم.

وجود الأبوين المثقفين، وتوفّر المنزل على مكتبة زاخرة بمختلف الكتب المهتمة بالمعارف والعلوم والآداب والفنون بما يتناسب مع المراحل العمرية للطفل، كلها وسائل تطوّر ثقافة الطفل. وقد لا يكون الأهل قادرين على توفير مكتبة المنزل؛ فيشجعون الأبناء على ارتياد المكتبات العامة لاقتناء ما هو محط اهتماماتهم من الكتب، فضلا عن توفير وسائل الثقافة والإعلام مثل المذياع والتلفاز، وغيرها من وسائل التثقيف والتوعية والترفيه؛ فإنها بلا شك ستكون هذه الوسائل مصادر علم ومعرفة للطفل، وسيكون في مستوى أعلى من ناحية القدرات الفكرية والثقافية من الأطفال الذين تربوا في محيط بيتي ذي مستوى ثقافي واطئ، فهناك علاقة بين نوع المحيط الذي تربى فيه الطفل وقدراته العقلية بالتأكيد[3]. هذا بالنسبة لثقافة الأطفال في الماضي التي كانوا يستمدونها من وسائل الإعلام، حيث تخصص هذه الوسائل برامج خاصة بالأطفال تعرض فيها الأفلام الكارتونية، والقصص الشيقة، والمسابقات، ومعارض كتب الأطفال، وغيرها الكثير.

أما اليوم فإن الأطفال يستمدون ثقافتهم من الإنترنيت وتطبيقاته الكثيرة من مواقع، ووسائل تواصل، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، والكتب الإلكترونية التي يكمن فيها المفيد وغير المفيد. اليوم الأطفال مدمنون على وسائل التواصل الاجتماعي يتحاورون مع أصدقائهم لساعات طوال، والأهل عاجزون عن منعهم من استخدامها بالطرق الصحيحة غير المضرة. وأثبتت "دراسة أجريت في مارس (آذار) الماضي أن الوقت الذي يقضيه الأطفال أمام الشاشات يحرمهم من سماع أكثر من 1000 كلمة يتحدث بها الأشخاص البالغون كل يوم، مما يؤدي إلى تراجع مهاراتهم اللغوية"[4]، خاصة في العوائل المثقفة التي في الغالب تتحاور في مختلف الأمور وتتكلم الفصحى بدلا عن العامية.

والقراءة المبكرة والاستمرار في تلقي المعرفة عبر المطالعة الدائمة ستمكن الابن من الحوار الواعي البناء مع محيطه العائلي، والمدرسي، والاجتماعي العام. و" تختلف ثقافة الأطفال في المجتمعات المختلفة تبعا لإطار الثقافة العامة، وما يتبع ذلك من وسائل وأساليب في الاتصال الثقافي بالأطفال، لكن البلدان التي تنتهج اتصالا ثقافيا مخططا تضع في العادة في خططها برامج محددة لأساليب ومضمون الاتصال بالأطفال، وبذلك تحدد إطارا عاما لعمليات إمداد الطفل بالثقافة، وتظهر في ثقافة الأطفال الملامح الكبيرة لثقافة المجتمع في العادة، فالمجتمع الذي يولي أهمية كبيرة لقيمة معينة تظهر في العادة في ثقافة الأطفال"[5].

إذا نشأ الطفل في بيئة قارئة سيتأصل حب القراءة في نفسه، ويعتمد أيضا على ما تبذله الأسرة من جهود قائمة على الوعي والإدراك والشعور العميق بمسؤولية خلق الجو الثقافي للأبناء، لكن بعض الأسر تتجاهل حب القراءة عند الطفل إذا كانت غير مهتمة بالكتاب والثقافة، وما ينبغي الانتباه إليه هو أن "الطفولة المبكرة في عمر الإنسان هي قابليته للنمو الجسدي والمعرفي بشكل متسارع وملموس، ومثلما يحتاج نموه الجسدي إلى الغذاء المركز فإن نموه المعرفي يحتاج كذلك إلى الزاد العلمي المركز، وذاكرته البكر متأهبة لتلقي المزيد من المعلومات؛ بل إن نهمه إلى المعرفة وحبه لاستطلاع محيطه يثير في نفسه كمًّا كبيرا من الأسئلة يستقبله بعض الآباء بالتجاهل فيصيبون طفلهم بالإحباط والخيبة؛ لكنه لا يمل من تكرار أسئلته عليهم من جديد ليروي ظمأه إلى المعرفة".[6]

بالنتيجة القراءة المتواصلة تعلم الطفل الخطاب الأنيق الذي به يستطيع أن يتحاور مع الآخر.

فوائد الحوار البنّاء مع الطفل يكمن في تعلّمه اللغة بسرعة، وتنظيم الأفكار عبر منهج التفكير المنطقي، وسرعة البديهة، والجرأة على طرح الرأي، وتعليمه فن الإصغاء للآخرين، وتنمية وصقل شخصية الطفل ليكون أكثر عطاء وإبداعا وثقة بنفسه. ويساعد الحوار على تفتّح مواهبه وامكانياته الكامنة في ذاته، وتنمية وعيه، وإدراكه، وحسه الفضولي لمعرفة كل ما يرى، ويسمع، ويقرأ. ويساعد الحوار في بناء علاقة ودودة متينة بين المربي والطفل، والدعم والتشجيع والثناء عليه؛ لتبادل الآراء وتفهم احتياجاته ومتطلباته، وتلقينه أساليب السلوك التي تساهم في بناء إدراكه وميوله وتصرّفه في الواقع خارج الأسرة، وتنمية مواهبه لاكتساب الخبرات؛ ومنحه القدرة على حل المشكلات، والتحرر من العادات السلبية السيئة. والمربي من خلال ذلك يفسح المجال للطفل لتقبّل الاختلاف في الرأي مع العائلة، والمجتمع الخارجي، والتخفيف من الصراعات النفسية الداخلية له، بكسر حاجز الخوف، والخجل، وتعزيز القدرة على مواجهة المجتمع، وطرح أفكاره وقناعاته ومشاعره أمامه دون وجل، أو خوف، أو رهاب اجتماعي.

ويعلّم الحوار الطفل الاستقلالية، وشجاعة اتخاذ القرار حينما يكون المربي معه لينا لا يعارضه حينما يطرح رأيه في كل قضية؛ فيكون الطفل أحيانا مبدعا لطرح رأي جديد فيه صلاح لمجتمعه في المستقبل خاصة حينما يكون الرأي حديثا مختلفا يجاري تطورات العصر، والمربي بذلك يكسر طابع التنميط والاستنساخ، ويفرح حينما يكون نتاج تربيته فردا مجددا، مبدعا، سالما، يساير الزمان واختلافاته وتغيراته بقوة، وشجاعة، وثقة عالية بالنفس، وثقة الطفل بنفسه تستحث جهود مربيه لنهج أسلوب المديح، والتشجيع، والاشادة بأي نتاج ينجزه حتى لو كان بسيطا، وتوضيح الصفات الإيجابية في شخصه كالقوة، وغرس الثقة عند مواجهة الفشل في عمل ما أو إنجاز ما، وغيرها. وبإمكان المربي الحديث عن نفسه وإخفاقاته وفشله في محطات من حياته حتى يزرع الثقة والأمل في نفس الابن، فضلا عن الحديث عن إمكانات نجاحه [7]. ولا ينبغي أن يُعلّم شيئا مهما كان جزئيا إذا كان الطفل يعلمه حتى تفسح له مجال التفكير والتصرف الحقيقي تجاهه، ويفسح المجالات له في الأسرة وخارجها للتعبير عن أفكاره، وقراراته، وأساليب تصرفاته، دون تحذير وتخويف وترهيب من الأسرة بسوء العواقب [8].

حينما يخطأ المربي أبا كان، أو أما، أو معلما مع الطفل من اللازم أن يعتذر له فالاعتذار يخلق بيئة إيجابية للتربية والتعليم. والمعارك التي تنشب بين الأطفال من الممكن السيطرة عليها من خلال الحوار معهم، وتخييرهم لأي الطرق الإيجابية يمكن أن تفض النزاع.

من جانب آخر فالأخطاء فرص رائعة للتعلم، وتعني أن نترك مجالا للطفل لكي يخطأ، ويحب فكرة التعلم من الأخطاء بدلا من الخوف والشك في أنفسهم، وأن يتجنب المربي فكرة السعي نحو الكمال، وأن يتخلى عن عادة اللوم والتوبيخ كلما أخطأ الطفل. وندعه يخطأ ليتطور، ولا ندع له مجالا للتفكير بالفشل، وأن هناك من يتتبع أخطاءه وينبهه عليها، ويجب تركه يتعلم السير لوحده لاكتشاف مواهبه وطاقاته لتحسين قدرته الذهنية. "من المناسب أن ندخل في ثقافة أبنائنا أن الخطأ له وجه إيجابي، فهم يتعلمون من أخطائهم أضعاف ما يتعلمونه من صواباتهم. المهم كيف أستفيد من رصيد أخطائي؛ فهو الرصيد الوحيد الذي لا يراد له أن يزداد[9]. "أديسون حينما كان يخترع المصباح الكهربائي استخدم 999 طريقة لكنه لم ييأس، ولم يصف تلك المحاولات بالفاشلة، وإنما قال" لقد أثبتُّ أن هناك طريقة لا تؤدي إلى اختراع المصباح الكهربائي"[10].

حسب التجربة إن أول الطرق لتعليم الطفل الاعتماد على النفس في تصحيح الخطأ وعدم اللجوء إلى الأبوين هي حينما يخطو الطفل خطواته الأولى تركه يمشي، ويسقط على الأرض، وينهض بنفسه دون تدخل الأم أو الأب بشرط أن لا يكون السقوط فيه خطر على حياته، فتكرار المشي والسقوط والنهوض مرات عدة تعلم الطفل فن الاعتماد على النفس، والاستفادة من الأخطاء بشكل متدرّج.

بالنتيجة الحوار بشكل عام مع الطفل إما يؤدي إلى التقارب والانسجام بين المربي والابن؛ فيكون المربي محبوبا كونه مكّن الطفل من إبداء رأيه دون وجل، أو خوف، وعبّر عن مشاعره بحرية وأدب، أو إلى الخلاف بين المربي والطفل حينما يكون المربي متصلّبا أحيانا ومتحيزا لرأيه حتى لو كان مثقفا، فكل نتيجة هي وليدة الأسلوب الذي على أساسها قام الحوار والتواصل، ولغة الخطاب هي العامل الأساس في كل حوار.  (يتبع)

***

إنتزال الجبوري

............................

[1]- نيلسن، جان. مصدر متقدم، ص204.

[2] - سالم، محمد عدنان. القراءة أولا. دمشق- بيروت: دار الفكر، ط1، 1414هـ- 1993م)، ص67.

[3]- عاقل. مصدر متقدم، ص272-273.

[4]- (ما المدة الآمنة لتعرض الأطفال للشاشات يوميا؟). صحيفة الشرق الأوسط(12 أغسطس2024- 7 صفر 1446)(يوميات الشرق).

[5] - الهيتي، د. هادي نعمان. ثقافة الأطفال. الكويت: مطابع الرسالة، 1988، ص30(سلسلة عالم المعرفة، ص30.

[6]-  سالم، محمد عدنان. مصدر متقدم، ص66-67.

[7]-  أنظر: ماكسويل، جون سي. أساسيات العلاقات، المملكة العربية السعودية: مكتبة جرير، ط1، 2009، ص28-30.

[8]-  أنظر: بركات. أ.د. وجدي محمد، وتوفيق، أ.د توفيق عبد المنعم. الأطفال والعوالم الافتراضية...آمال وأخطار. بحث مقدم إلى مؤتمر الطفولة في عالم متغير (مملكة البحرين- الجمعية البحرينية لتنمية الطفولة- 18-19/5/2009)، ص21.

[9]-  سيد حامد. مصدر متقدم، ص69.

[10]-  نفس المصدر، ص70.

 

أولا: التربية الحديثة: إذا كانت تربية طفل الأمس يتقاسمها محيطان هما؛ المحيط العائلي، والمحيط المدرسي؛ فإن تربية طفل اليوم تتقاسمها ثلاثة محيطات؛ هي العائلي، والمدرسي، والمحيط الافتراضي.

في كل من هذه المحيطات نسق تربوي مختلف عن الآخر باختلاف الوسيط التربوي وشخصه، ومكان وزمان نشأة الطفل، وأدوات التربية.

الوسيط التربوي في المحيط العائلي هما الأبوان؛ أمًّا وأبًا كانا، أو جدًا، أو جدًة، أو أحد أقارب الطفل إن فقد الطفل أبويه أو أحدهما مبكرا. وتلعب جغرافية المكان دورا كبيرا في نشأة الطفل حسب طبيعتها؛ غنية إذا كانت فقد تشبع ذاته الخاصة بما ينضوي فيها من كل مستلزمات الحياة المريحة، أم فقيرة، فقد تفقر ذاته وتنعكس ظروفها القاسية على نفسه سواء في الحاضر والمستقبل حيث تُختزن في لاوعيه.

أما أدوات التربية في المحيط العائلي التقليدي فتتمثل بلغة الأبوين، وخزينهما التربوي الحافل بالقيم والعادات والأخلاق والسلوكيات الخاصة، والاجتماعية العامة التي يسعى كل منهما أن تكون حسنة في كل محطات حياة الطفل. خزين الأبوين التربوي يمثّل بوصلة الطفل لمعرفة ذاته، ومرجعيته التربوية التي ينتمي إليها طوال سنيّ عمره، فضلا عن العامل الوراثي الذي يلعب دورا كبيرا أيضا في عملية التربية حيث يرث الأبناء بعض الصفات الإيجابية، أو السلبية من الأهل أجداد، وجدات، وآباء، وأمهات.

أما في المحيط المدرسي فإن الوسيط التربوي يتمثل بالمعلم، وأدوات التربية هي المناهج التعليمية المقررة مسبقا.

وأما في المحيط الافتراضي فإن لا وسيط تربوي للطفل سوى نفسه مستعينا بحواسه الثلاث؛ البصر، واللمس، والسمع، وأدواته هي الأجهزة الذكية (حاسوب، آيباد، هاتف نقال، وأجهزة اتصال أخرى).

تعتمد التربية الحديثة على ركيزتين أساسيتين؛ هما:

1- إيجاد المحيط العائلي الملائم؛

2- أدوات المربي الحديث.

1- إيجاد المحيط العائلي الملائم

تقتضي تربية الطفل الحديثة توفّر المحيط العائلي الملائم الذي ينعكس بآثار إيجابية على حاضر الطفل ومستقبله، وموائمة لمتقلبات العصر. ولكي يتوفر المحيط العائلي اللازم؛ فإن ثمة شروطا تنبغي الإشارة إليها؛ هي:

أ- الاختيار السليم لشريك وشريكة الحياة؛

ب- توفّر المربّي على إرادة كاملة لتقبّل إنجاب الطفل؛

ج- توفّر المربي على رصيد لا بأس به من الوعي والحكمة؛

د- توفّر المربي على ثقافة لا بأس بها بالعالم الرقمي.

أ- الاختيار السليم لشريك وشريكة الحياة: أعني به الاختيار الذي يُشترط فيه التكافؤ العمري–أي المجايلة- ، والتكافؤ الاجتماعي، والثقافي، والاقتصادي[1]، أو التكافؤ النسبي في الجوانب الأربعة.[2]

حينما يكون الاختيار سليما فإن المربي يكون مثاليا؛ كونه تربى في بيئة إيجابية تضعه في موقع الإيمان الحقيقي بشخصية الفرد. والطفل المولود من هذه العلاقة المتكافئة سوف يكون متفوقا على غيره ممن لا تتوفر له شروط المحيط السليم، وسوف تتهيأ له الفرص التربوية والثقافية والاجتماعية التي تمكّنه من خوض محيط الحياة بجد، وربما سيكون فردا مشهورا، أو نجما في المستقبل، وأيضا سوف يختار شريك حياته من نفس مستواه الاجتماعي أو قريبًا منه، ومتكافئًا معه في الجوانب الأخرى.

شراكة الحياة التي ينوجد فيها الأبوان المثاليان في علاقة متينة مبنية على المحبة والتفاهم والاحترام والتعاون تنتج أبناء أقوياء أصحاء النفوس، سليمي العقول، ناجحين، وتنعكس بمشاعر الأمان والسكينة والراحة والهدوء النفسي على الأسرة.

المحيط هنا له دور كبير في التأثير على وراثة الخصال الحسنة، وسوف يرث أبناء الأبناء الصفات البيولوجية والاجتماعية، التي تعمل بشكل متكامل على الارتقاء بالأبناء الجدد وهكذا. على عكس الأسر التي ينوجد فيها الأبوان في علاقة متوترة يسودها العراك والمشاحنات؛ التي تنعكس على نفوس الأبناء؛ فيكونون متوترين، مقهورين، ومضطربين نفسيا وعقليا وربما جسديا، وقد يفشلون في مشاويرهم الدراسية، وقد ينهار الصرح الأسري.

يمكن إثارة سؤال هنا هو:

هل يمكن أن يتدرب طفل ما من الوسط الاجتماعي المتوسط، أو دونه ممن لم يتوفر على محيط أسري سليم من تنمية خبراته وكفاءاته ليكون بمستوى الطفل الذي تربى في محيط نموذجي عال؟

الجواب:

نعم؛ يمكن ذلك حينما يتلقى التدريب الجيد، يمكنه أن يكون متميزا أيضا؛ فالخبرات ليست مقصورة على جودة المحيط، أو على العامل الوراثي بل أيضا على التدريب المستمر، وإن الكثير ممن يشغلون أمكنة هامة في المجتمعات الصغيرة لو تلقوا تدريبا كافيا لأمكنهم أن يكونوا في مصاف المشهورين من عظماء الناس حينما تتوفر له أحسن أنواع التربية والتعليم، فيما إذا استثنينا من يولد موهوبا بالفطرة [3]. والدليل على ذلك إن الكثير من الموهوبين والعلماء منحدرون من أسر ذات مكانة متواضعة، أو دونها في المجتمع، والمعاناة وشظف العيش يمكن أن يولّدا الإبداع والشهرة. لكن حينما تجتمع العوامل الثلاثة التي هي اختيار الشريك الكفوء، والتدريب والإعداد في المحيط الملائم، والصفات الوراثية الحسنة فسوف يكون النتاج طفلا سليما، وفردا إيجابيا في المجتمع.

ب- توفّر المربّي على إرادة كاملة لتقبّل إنجاب الطفل: ينبغي أن يتوفر المربي على قناعة تامة، وإرادة كاملة لإنجاب الطفل، واستعداده للتربية والتوجيه والتهذيب دون ملل، أو إكراه، أو ضجر.

قبل أن تكون أمًّا أو أبًا تأكد أن وقتك لن يكون ملكا لك كله، أحيانا يستنزفه الطفل في كل أحواله، حينما تكون معه في المنزل، أو خارجه، أو وقت طعامه، أو وقت نومه، أو لعبه. قبل أن تكون مربيا ينبغي أن يكون لديك وقت كافٍ للتربية والتهذيب والتوجيه. التربية تتطلب إغداق المحبة، والتقدير، والاهتمام، والتشجيع، والإصغاء لابنك لكي يعبّر عن شخصه، ورأيه.

ج- توفّر المربي على رصيد لا بأس به من الوعي والحكمة: ينبغي على كل من يريد أن يكون مربيا حقيقيا أن يكون على درجة من الوعي، والثقافة، والحكمة. يتحقق هذا الشرط عبر انخراطه في معاهد تربية وعلم نفس الصغار والكبار، حتى يعي ذاته، وذات المتعلقين به (نفس الرجل، والمرأة، والطفل)، ويحقق التوازن النفسي والعقلي والعاطفي له أولا، ومن ثم لمن يرتبط به ثانيا. وحينما يتحقق الوعي عند المربي يتمكن من الحفاظ على أكبر انفتاح لذهن الطفل، وكل طفل سليم فطن ذو ذكاء متدرج؛ وذهن منفتح، حينئذ تكون التربية عملية حيوية مرنة؛ فالتربية عند المربي الواعي هي تبادل لوجهات النظر بشكل دائم، دون تعالي المربي على من يتولى تربيته، ولا بد للمربي أن يكون متواضعا، ومنفتحا غير منغلق على عقل الطفل البريء الفطري "فالمربي الحقيقي هو الذي يعطي ولا يأخذ، وعليه أن يعتبر نفسه أنه مربٍّ بالقدر الراهن، وأن تلقّي التربية هي قدر الآخر الذي يتولى تربيته، لذلك ينبغي على المربي أن يستخدم جميع مصادره السيكولوجية دون شعور بالتفوق، أو السيطرة، وأن ينتزع الخوف من نفسه، عند ذلك تكون التربية عملية جميلة مريحة للمربي والطفل معا"[4] . التربية تعني "نقل القوة والتوازن لا السيطرة بالإكراه، المربون الحقيقيون هم الذين يحاولون أن يعرفوا أنفسهم بأنفسهم" [5].

وعي المربي يزحزح لدى الطفل شعور حب السلطة الأبوية والتفوق على الابن؛ فعملية التربية هنا مبنية على الأخذ والعطاء بين المربي والابن.

د- توفّر المربي على ثقافة لا بأس بها بالعالم الرقمي: يتوفر هذا الشرط عبر الانخراط بشكل خاص في دورات توعية بنظام الانترنيت العالمي ووسائطه للاتصال، والتواصل الاجتماعي بمختلف قنواته المتمثلة ب(الفيس بوك، الانستكرام، الواتساب، الفايبر، التلكرام، وغيرها الكثير)، وتداعياته على الأسرة، والمجتمع العام. والانخراط في مجموعات متخصصة بالتربية، وعلم نفس الطفل في العالم الافتراضي، وتبادل الخبرات والمعلومات بتقنية طرق التربية العائلية، لاكتساب وعي تربوي حقيقي يوازن بين متطلبات العائلة، والمجتمع الواقعي الخارجي، والمحيط الافتراضي، لتخريج جيل ملتزم بالمعايير الأخلاقية الاجتماعية على الصعد الواقعية والافتراضية. ويتعين على "الأسرة المعاصرة مهما كانت درجة تعليمها، أو ثقافتها العامة، أو الخاصة بالكومبيوتر والإنترنيت والتكنولوجيا أن تعمل على تطوير معارفها، ومهاراتها التقنية المعاصرة تدريجيا لتمكينها من التوجيه والإرشاد والإشراف على الأبناء خلال استعمالهم لهذه التقنيات الحديثة، ولمشاركتهم ما يقومون به من تعلّم وتثقيف بواسطتها، والوقوف بوجه التحديات والمخاطر الداهمة، وتشكيل درع واق لحماية الأطفال وتوعيتهم والعمل على نشر الثقافة السليمة بينهم"[6]؛ فإن عدم الوعي بعالم التكنولوجيا المعلوماتي، وما يحتويه من برامج وتطبيقات من قبل الأهل، خاصة الذكاء الاصطناعي يؤدي إلى ازدياد الخطر على الأبناء، وتعرضهم للتنمر الإلكتروني، وعرض الأفلام الفاحشة، وإشاعة العنف والجرائم بأنواعها، والعادات السيئة الخطيرة كالإدمان على تعاطي المخدرات، وغيرها الكثير التي تؤدي إلى التدهور الأخلاقي والقيمي.

2- أدوات المربي الحديث

هي الوسائل المستخدمة في تربية وتوجيه الطفل وتهذيبه؛ وتشمل:

أ‌- وعي المربي بذاته؛

ب- وعي المربي بذات الطفل؛

ج- لغة الخطاب اللائقة؛

د- خزين القيم التربوية الفاضلة؛

هـ- القدرة على توجيه الصفات الموروثة لدى الطفل.

نتناول أدوات المربي، وكيفية توظيفها في كل مراحل تربية طفل اليوم على الوجه التالي:

أ- وعي المربي بذاته:

السعي نحو الكمال هو ما يبتغيه كل من الأبوين في عملية التربية؛ فالتربية الجادة نتاجها ابنا سليما؛ وهو أحد عوامل تحقيق المقام الاجتماعي لدى الأبوين.

وما دام المربي ينشد الكمال في شخصه عليه أن يعي نفسه أكثر عبر الانخراط في دورات تربية وعلم نفس الأسرة؛ فالوعي بالنفس والدراية بها يساعدانه على درك نقاط القوة والضعف فيه، فيعمل على تقوية ذاته، وحين تقوى ذاته يكون قادرا على معرفة ذات الطفل وتربيته التربية المتينة، ويكون نتاجه ابنا قوي الذات، والذات تعتمد عليها قوة الشخصية؛ ف "إن عاطفة اعتبار الذات هي المنظم الأساسي للسلوك، وهي القائد الأعلى للنزعات، والتي تتوقف عليها قوة الشخصية، ووحدة اتجاهاتها، وتناسق أفعالها، وتوازن تصرفاتها" [7].

وحينما يكون المربي واعيا بذاته، يمكنه بذل الجهود الممكنة، والتنازل عن بعض الرغبات إن اقتضت الضرورة لأجل إدارة دفة العلاقة العائلية التي تخص الابن بحكمة وحنكة وحلم دون قيد أو شرط، ويتقبل الاختلاف في الأمزجة والطباع، ويعلّم الطفل فن قبول كل الآراء رغم اختلافها؛ لأن الطفل حينما يكبر يكون واعيا لذاته، ويتقبّل اختلاف الآخرين باعتبار الاختلاف هو الأساس في معرفة الآخر، والعالم في المستقبل هو عالم الاختلافات، ويعلّمه فن الاختيار، وتمييز الرأي الصائب عن الخاطئ وتقبّله دون اعتراض، خاصة العالم يسير صوب السرعة الخاطفة شاء أم أبى. وإذا تحقق الوعي فسوف يكون المربي في نقطة الاتزان الوسطية التي ليس فيها رئيس ومرؤوس، متسلط ومُسَلَّط عليه؛ والسلطة تنعدم هنا- أي سلطة المربي.

حينما يحدث الصراع مع الطفل فإن ما يفعله المربي هو السعي لعدم بث شعور النصر والهزيمة في نفسه ونفس الطفل، وإنه المنتصر والطفل المنهزم، وعليه أن يتساءل مع نفسه هل أكسبه القوة أم الإحباط؟[8] ، لذا على المربي أن يسعى لكسب الطفل في صفه لا هزيمته.

بالطبع عملية التربية عملية مجهدة وشاقة للمربي لذا فهو يحتاج إلى الاستراحة الإيجابية التي لها دور كبير في محو الأفكار السالبة، والمتاعب والضغوط في العملية التربوية، ومن ثم يمكن أن تكون الأمور سهلة وأكثر إيجابية، ويكون أقدر على وضع الحلول اللائقة كل في مكانه[9]. تعني الاستراحة الإيجابية اختيار مكان ووقت مناسب للمربي ليختلي بنفسه، ويتنفس بعمق ويراجع ذاته، ويسترجع نشاطه وسكينته وهدوئه، ثم يعود بعد ذلك هادئا، وساكنا، وحيويا لاستئناف تربية الطفل.

ب- وعي المربي بذات الطفل:

حينما يكون المربي واعيا بذاته وعيا تاما يكن قادرا على وعي ذات الطفل، والإيمان بقدراته؛ كونه إنسانا كما هو تكمن فيه كل عناصر القوة والنجاح على الوجه الأكمل إذا كان سليم الجسم والعقل معا.

ذات الطفل تتشكل في محيط الأسرة، وتعتمد بشكل أساس على قوة المربي ووعيه بذاته، حينما يكون المربي واعيا مثقفا، يكن قادرا أيضا على دراسة شخصية كل طفل ونوعها، فليس كل الأطفال متساوين في استعداداتهم الجسدية والنفسية والعقلية. وهنا ينبغي على المربي أن ينتهج لكل طفل منهجا تربويا مختلفا عن الآخر أخيه؛ كأن يكون أحد الأبناء لديه استعداد عقلي أكبر من أخيه الآخر، أو ذا موهبة خاصة، أو ذا شخصية نرجسية، أو أنانية، أو عنيدة. والأولوية هنا هي دراسة شخصية الطفل ومعرفتها بشكل تام؛ فإنه إنسان كامل، وعلى المربي التعرّف على استعداداته العقلية والنفسية حتى يتمكن من تربيته التربية المناسبة التي تحقق التوازن في شخصه، وتلهمه الشجاعة، والثقة بالنفس لاتخاذ قراراته الحياتية في الحاضر والمستقبل دون تدخّل من خارج النفس فيما لو كان وحيدا في حقبة من حقب حياته.

يقول برناردشو:

"قبل أن أتزوج كان عندي ست نظريات عن تربية الأطفال، الآن لدي ستة أبناء ولا أجد نظرية واحدة تجدي معهم". وهذا دليل على أن لكل طفل شخصية مختلفة كليا عن أخيه الآخر.

"إن دور كل مربٍّ يكمن في أن يقود إلى معرفة الذات، إلى الحقيقة والتوازن، وعلى كل مرب أن يقود نحو توسّع الاستعدادات النفسية، ولكن عليه من أجل هذا أن يكون هو ذاته هذه الحكمة وهذا التوازن"[10]. ولأجل ترسيخ الثقة في نفس الابن تنبغي دراسة قدراته وطاقاته ومواهبه الذاتية ومتطلباته أولا، وتقبّل الشكل الخارجي له من قبل المربي والمجتمع ثانيا، والتأكيد على أن كل فرد هو معرفة لنفسه وللمحيط، وليس نكرة والتأكيد على أنه ليس نكرة هو إنسان لديه ما لدى الآخر تماما ثالثا. نعم هوياتنا ربما تكون مختلفة لكن مطالبنا من المحيط الداخلي- وأعني الأسرة- والمحيط الخارجي - وأعني المجتمع- هي واحدة.

ولا ننسى في هذا المضمار أن الطفل في حضن العائلة يكون أنانيا لا يعرف شيئا غير ذاته وتلبية متطلباتها. والمربي الواعي يمكنه ترشيد حب الذات لدى الطفل بتوازن يمكّنه من تحقيق طموحاته في المستقبل.

لدى علماء التربية "نظرية يطلقون عليها (النبوءة التي تحقق نفسها ذاتيا). مفادها أننا إذا اعتقدنا أن الطفل ذكي وعبقري وسيكون ذا شأن كبير في المستقبل، سيعمل عقل الطفل تلقائيا على تحقيق تلك النبوءة"[11]. نابليون بونابرت يقول: "إن ما توصلت إليه اليوم هو من عند أمي" فهي التي زرعت الطموح ليغير العالم بأسره. وبالعكس لو أُسمِع الطفل كلمات سلبية عن نفسه تشعره بالإحباط، وعدم الكفاءة في تحقيق ذاته وطموحاته. ففي علم النفس أن المرء يردد الأفكار التي يسمعها عن نفسه في داخله إلى أن يقتنع بها وينتهج - وهو لا يدري- الطرق التي تحقق تلك التصورات[12]؛ "لهذا يحذرنا جيمس آلن بقوله: كل ما يصنعه المرء هو نتيجة مباشرة لما يدور في فكره، فكما أن المرء ينهض على قدميه وينشط وينتج بدافع من أفكاره كذلك يمرض ويشقى بدافع من أفكاره أيضا" [13]، وأفكاره تنمو، وتتدرّج معه طبقا لما يسمعه منذ الصغر عن الأهل من آراء إيجابية، أو سلبية حول ذاته.

(يتبع)

***

إنتزال الجبوري

 .......................... 

[1]- أنظر: حجازي، د. مصطفى. الصحة النفسية. بيروت: المركز الثقافي العربي، ط2، 2004، الصفحات121، 123، 126، 129.

[2] - لا يسعني التفصيل في هذا الموضوع لأنه ليس محل البحث، وقد طرحته في دراسة سابقة لي بعنوان: جدلية العلاقة بين الرجل والمرأة، نشرتها صحيفة المثقف في عددها الصادر في (كانون الأول/ ديسمبر 2022)-  الكاتبة.

[3]- أنظر: عاقل، فاخر. علم النفس. بيروت: دار العلم للملايين، ط10، 1987، ص263- 264.

[4]- داكو، بيير. مصدر متقدم، ص550- 551.

[5] - نفس المصدر والصفحة.

[6] - بركات، أ.د. وجدي محمد، وتوفيق، أ.د توفيق عبد المنعم. الأطفال والعوالم الافتراضية...آمال وأخطار. بحث مقدم إلى مؤتمر الطفولة في عالم متغير (مملكة البحرين- الجمعية البحرينية لتنمية الطفولة-  18- 19/5/2009)، ص19- 20. 

[7]- الحفني، د. عبد المنعم. الموسوعة النفسية، القاهرة: مكتبة مدبولي، ط1، 1995، ص308.

[8]- نيلسن، جان. لتهذيب الإيجابي في تربية الأطفال. القاهرة: دار دوِّن، ط1، 2022، ص155.

[9]- نفس المصدر، ص158.

[10]- داكو، بيير. مصدر متقدم، 536.

[11] - سيد حامد. أبي أرجوك لا تفعل هذا. القاهرة: دار الأجيال، ط1، 2012، ص19.

[12]أنظر: نفس المصدر، ص20.

[13]نفس المصدر والصفحة.

كثيرةٌ هى مزايا التصوف، البديل الفعلي للإرهاب، غير أنها تتفرَّق بين الأولياء والعارفين والصوفيّة، ويتفرَّق النزوع إليها والإعجاب بها، مشاربَ وأذواقاً، بين الدارسين والباحثين.

وقد يُحرم الصوفي إحداها أو أكثرها وهو من بعدُ صوفيُّ لا شك في صوفيته؛ لأنه يُحسن ضرباً من الصوفية تصحُّ بها صوفيته ولا يشك فيها أحد.

فقد يُعجبنا من كل متصوف خصوصية فيه ومزيّة ينزع إليها، ويصنف بين الصوفية وفق تملكه إيّاها واتصافه بها؛ فالذي يتميز به أبو طالب المكي غير الذي يتميز به الغزالي، والذي يتميز به هذين غير الذي يتفرد به الجنيد والحكيم الترمذي أو البسطامي أو الحلاج أو ابن عربي أو الجيلي أو السّهروردي أو ابن سبعين.

والذي يستحق به كل واحد منهم صفة الروحانيّة غير الذي يستحقها به البقيّة، فيما لو أخذنا بتصنيفات "الباحثين" - لا تجارب العارفين - بين تصوف سُنيّ أو سلفي أو إشراقي أو فلسفي أو شبه فلسفي على اختلاف الضروب واختلاف التقسيمات.

غير أن المزيّة التي لا غنى عنها، والتي لا يكون الصوفي صوفياً إلا بنصيب منها وافر هى مزيّة واحدة لا خلاف في الرأي عليها: التجربة الصوفيّة وطلب المعرفة الإلهيّة من طريق الذوق والتبتل، وهو مطلبٌ عادل للذات المؤمنة لا شك فيه ولا غبار عليه.

فكما تكون "الطبيعة الفنية" مزيّة الشاعر المطبوع لا غنى عنها ولا يكون الشاعرُ شاعراً إلا بنصيب موفور منها، كما يقول الأستاذ "العقاد" في مقدّمة كتابه عن "ابن الرومي حياته من شعره"؛ كذلك تكون "التجربة الصوفيّة" التي هى حياة الأولياء والعارفين، مزيّة الصوفي الأصيل، ولا يكون الصوفيُّ صوفياً على الحقيقة إلا بنصيب منها.

تعمدتُ حقيقةً أن أستخدم نفس الألفاظ والكلمات التي استخدمها الأستاذ العقاد عند الحديث عن ابن الرومي في مقدمة كتابه وهو بالمناسبة من الكتب التي يعتز بها مؤلفها، وتعمدت أن أسلخها من هناك لألبسها ثوب اللغة الصوفية هنا؛ للمقاربة البادهة بين الطبيعة الفنية لدى الشعراء والتجربة الصوفية لدى كبار صوفية الإسلام.

وبما أنها مقاربة عجيبة فعلاً فيها امتياز واختصاص، فتكاد تنطبق الأوصاف التي تطلق على الشعراء من أصحاب التجارب الفنية على الأوصاف التي تنطبق على الأقطاب الصوفية من أصحاب التجارب الروحيّة.

فقد أراد "العقاد" أن يستخرج من أقوال ابن الرومي حياته التي تدل عليها من الوهلة الأولى أشعاره، لكأنه يريد أن يقول إنه ما من بيت من قصيد الشاعر إلا وعليه من قيم الحياة الحيّة الفاعلة ما يوافقه ويدل عليه ويسمح باستخلاصه في مصدر الشعور ومنبت الضمير من حياة الشاعر نفسها، إذ الطبيعة الفنية هى الحاكمة الفاصلة فيما يصدر عن شاعرية الفنان، وليس يقدح شئ في شاعريته من بعدُ إلا أن يكون خلوّاً منها.

وبنفس المقاييس، تجئ التجارب الصوفية العالية هى الفواصل الفارقة العاملة في معطيات الإشارة الصوفية التي تستقي من عين التجربة.

فالمقول يتحد مع الحالة بلا ريب في بطن التجربة الصوفية، فلا تسمح التجربة الصوفية عند الصوفي بمعطياتها إلا بما تسمح به الطبيعة الفنية لدى الشاعر بمقوماتها:

كلتاهما حياة تظهر أسرارها مع الشاعر المطبوع والصوفي الكبير تحت ظلال التجارب والطبائع.

فإذا كانت الطبيعة الفنية من الضرورة بمكان بالنسبة للشاعر، فالتجربة الصوفية من الأهمية بمكان بالنسبة كذلك للصوفي الكبير، كلتاهما اتحاد في المبدأ يقوم على منبت الشعور ويتغذى من قرارة الوجدان ويصدر عن الصدق فيما يقال عنهما من شعر الشاعر أو إشارة الصوفي.

وليس هناك من عجب أن يتلاقى الشاعر المطبوع مع الصوفي الأصيل؛ فما أقرب الصلة الوثيقة بين الشعر والتصوف، أو بين التجربة الصوفية والطبيعة الفنية، وما أبعد الخلاف بينهما في غور التجربة ويقظة الإحساس بجوانب الحياة المختلفة، مع الوضع في الاعتبار فارق "التوجه" وفارق "التعلق"، ومع الاحتفاظ بالمصدر الشعوري واليقظة الروحيّة في كلتا التجربتين.

فإذا كان الصوفي يتوجه مباشرة بوحدة قصده إلى الله ويتعلق بالوسائل التي توصّله إليه، فالشاعر يتوجه إلى فكرة أو معنى يعيشه ويحسّه كما تعاش الحياة الحيّة وتُحس، ويتعلق في الغالب بمحبوبة في عالم الحسن ينزع بها وجدانه من المحسوس إلى المعقول، ويروم قصداً من وراء ذلك غير الذي يرومه صاحب القصد الأول؛ ويتوخّاه.

وربما توصّل الشاعر بقصده المحسوس إلى ما يعلو على الحس ويرتفع في المثال؛ لينشد الحقيقة التي ينشدها الصوفي من أقرب طريق، فقد يتوصّل إليها إذ ذاك بشعوره الخالص المُجرد؛ ليجيء مصدر الشعور ها هنا توحيداً بين تجربة الصوفي وتجربة الشاعر رغم فوارق التوجّه والتعلق، فالذي يتعلق بالله ويتوجّه إليه ليس كالذي يتعلق بمحبوبة عشقها وتبتل إليها في عالم الحس، ويتوجه إليها من بعدُ ويكنى عنها بالشعر أو بالنثر أو بما شاءت له قريحته أن يُكنى.

ويبقى بعد ذلك ما لا خلاف عليه من تجارب المحبين وصبابة العشاق، وهو أن الطبيعة الفنية لدى الشاعر المطبوع تكاد تقترب من التجربة الصوفية عند الصوفي الكبير، تأخذ عنها وتتوحد بها حتى لا تكاد تفرّق بينهما، يظهر هذا في العلاقة بين الحب والموت.

إنما الأمرُ هنا لا يتوقّف عند حدّ العلاقة بين الحب والموت وكفى، بل يتعدّاه إلى ما بعده، وهو بقاء القصائد الشامخة في الوجدان الراقي، الصافي النقي، لتشرح العلاقة بين الحبّ والموت، وتجلو الصلة القويّة بين الحبّ الحسّي والحبّ الروحي، إذ كان الأول مقدّمة للثاني. ولا يفهم من الثاني (الحب الإلهي) إلا ما يستقر عليه الفهم حقيقةً من الحب الأولىّ، (الحبّ الحسيّ)، فلم تبدع رابعة العدوية في ميدان الحبّ الإلهي إلا بعد تجربة ممضّة مع الحبّ الحسيّ، ولم تكن الصبابة التي يعانيها المحبون في الأودية الحسية إلا مذقاً إنسانياً صادقاً من ظلال التجربة الروحيّة.

واهمٌ من يتصوّر أن هذه القصائد أو تلك تخاطب محبوبة بعينها وكفى؛ لتكون مجرّد علاقة حبّ بين طرفين ليس أكثر .. كلا بل في القصيدة التي يقولها الشاعر الممتاز ظلال صوفيّة خالصة، ليس أيسر من نقلها على الفور من الأودية الحسيّة إلى الأودية الروحيّة في لحظة تجرّد صادقة؛ الأمر الذي يتأكّد معه أنّ المحبين في المحسوس هم أنفسهم المحبُّون في المعقول، في عالم الروح. وأنّ معاناة التجربة في المحبّة الحسيّة هى نفسها معاناة التجربة في المحبّة الروحيّة، وأنّ القادرين على تذوق الحبّ الحسّي هم أنفسهم القادرون من وراء الأشباح والظلال على تذوق الحبّ الإلهي.

فارقُ التجربة الشعوريّة هو التوجُّه، ولكن نهايات التجربة في الحبّ الحسّي تكون في الغالب بدايات التجربة في الحبّ الروحي الخالص، وربما يختلط الأول بالثاني وليس من ريب، وتكون التجربة واحدة، وتزول الفوارق الشعوريّة بين التوجُّهات وتذوب، فلا يعرف المُحب في أي واد من الأودية يتوجّه فيُسلم لها قياده؛ لأنه لا يلمس فارقاً باطناً في أصل المحبّة ولا يكاد يقف عليه.

وشعراء بني عُذرة كجميل بثينة، وقيس لبنى، وغيرهما من شعراء التبتُّل والعفّة كانوا أكثر الناس دلالة على هذا النوع بالحبّ إلى الموت؛ لوجود علاقة رُوحيّة صافية بين الحبّ في الأودية الحسيّة والحبّ في الأودية الروحيّة.

وصبابة العشّاق لوعة مُخامرة هى نفسها تكاد تكون الصبابة التي يعيشها أصحاب الأذواق والمواجيد.

الحُبّ الإلهي أصلُه في الانسان محبّة جزئية محدودة بوقوف الهوى على المُحبّ، تفاصيلها نزوع الوجدان إلى الأصل، وكلما اقتربنا من الأصل زالت الفوارق وذابت الحواجز والمحاجيب، وحلّت من ثمّ الوحدة محلّ التعدُّد والكثرة، فليس يبقى إلّا الواحد على الدوام.

(إنّ الغرام هو الحياة، فمُت به صبّاً، فحقّك أن تموت وتعذرا)

هكذا كان ابن الفارض يقول. هذا ظل ثابت في وجدان العشاق من ظلال التجربة الصوفية لا يمكن تغافله أو صرف النظر عنه بحال.

وعليه، فلا يوجد صوفي واحد له رأي أو مذهب أو أثر من آثار الكتابة والتدوين ولا تكون له تجربة روحيّة ينطلق منها ويعتمد عليها ويتذوق آثارها فيما يرى أو يقول؛ فلئن فاتته التجربة فلم يستطيع خوضها وركوب متاعبها؛ فلا يخلو من شرط التعاطف معها على أقل تقدير.

ولأجل هذا؛ تجئ التجربة الصوفية دائماً أسبق لدى الأولياء والعارفين من الفكرة الفلسفية. وما الفكرة الفلسفية في ظلال التجربة الحيّة المعاشة إلا بمثابة شرح العقل النظري لتجارب العمل والإنشاء في إطارها.

ولولا وجود التجربة الصوفيّة معتمد الأولياء والعارفين ما صَحَّتْ على الإطلاق أذواقهم ولا مشاربهم ولا أحوالهم، وما صَحَّ لهم حال ولا سرُّ ولا معرفة ولا علم ولا نظر، بل ولا مذهب ولا نظرية ولا رؤية ولا استقام لهم طريق؛ إذْ التجربة الصوفية مناط الثورة الروحيّة في الإسلام ومستندها الفاعل بغير شك، وأساس الثمرة المرتقبة من وراء المذاهب والآراء.

وعلى هذا الأساس، لا على أساس غيره، ينبغي أن تُفَسَّرَ كل الآراء الصادرة عن المتصوفة في إطارها ولا تُفَسَّرُ في إطار سواها.

وعلى هذا الأساس، لا على أساس غيره كذلك، تجيء مطالب الذات المؤمنة خاضعة خضوعاً تاماً لمعطيات تلك التجربة الصوفية تُفَسَّرُ من خلالها، تأخذ منها وتعطي من عساه يشعر بها ويحس معها شعور التعاطف وشعور الترقي في مدارج المعرفة ومعارج الاتصال بالحقيقة الإلهية.

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم

المحاولات الدائمة لتجهيل الإنسان لا زالت مستمرة، ولن تنقطع ما دام هنالك من يُفسد في الأرض مع دعوى الإصلاح فيها، ويفسد في النفس مع دعوى تهذيبها، ويصرف الناس عن كشف حقيقتهم الأصليّة؛ لينساقوا كما السَّوائم إلى حيث يشتهون. وربما تمّت عملية التجهيل هذه من الإنسان نفسه مع نفسه لنفسه ولغيره؛ إزاء محاولات إرتقاءاته الماديّة، فتراه يتفوّق في علوم المادة مقابل إخفاقاته الملحوظة في فنون الروح وشئون الضمير، وبالتالي يُخفق اخفاقاً شديداً في الكشف عن حقيقته الأصليّة، فيجئ كل ما يقدّمه مجرد قشور قاحلة لا تغني ولا تثمن من جوع، فتتعطل قواه المعرفيّة ويُصاب بالأمراض النفسيّة من جرّاء جوع الملكات الروحيّة لديه، مع تعطيل سائر القوى التي تمدّه بالإرادة والعزم وتصحيح اليقين.

ولعل الانشغال بعيداً عن توظيف الوعي بالقرآن الكريم سببٌ كارثي مباشر بكل تأكيد من أسباب هذه الاخفاقات سواء على مستوى الوعي الفردي أو على مستوى المجموع؛ الأمر الذي يتطلب من الإنسان إعادة بناء النظرة المُنصفة من نفسه في حق نفسه أولاً قبل المطالبة منه لغيره بإزاء النظر في حقوق الآخرين.

ومن أعجب العجب أن تتقدّم العلوم الكونية والعلميّة ويتأخر العلم بالإنسان، وربما كان موضع العجب في تلك الصعوبات التي تمَّ منذ القدم تجهيل الإنسان من أجلها: تجهيله بحقيقة ذاته، فهو لن يعرف مثلاً سر الحياة ولا سرّ الموت أبداً، ولم يدرك أبداً سِرَّ الرُوح الإنساني، ولن يعرف شيئاً من أسرار التكوين البشري؛ بل إنّ علم الإنسان بالإنسان متأخرٌ جداً عن علم الإنسان بالطبيعة والفلك والكيمياء والميكانيكا والأسلحة النوويّة والبيولوجيّة.

صحيحُ أن هنالك محاولات شاقّة ومُضنية بُذِلتْ من جانب العقل البشري لمعرفة الحقائق الكبرى، ولكن المدى لا يزال بعيداً، والوصول إلى سرِّ الحياة يكادُ يكون من المستحيلات، وذلك لأن تركيب العقل نفسه - فيما يقول برْجُسون - يتصفُ بعجز طبيعي عن فهم الحياة. فلا يعني مطلقاً تقدُّم العلم المادي معرفة الإنسان نفسه بنفسه؛ فتأخُّرُه في هذا المجال مقدَّمُ على تقدُّمه في العلم المادي.

لكن القرآن الكريم عنى عناية بالغة بالإنسان، فجعل التفكير فيه تفكير في الدين، (ولقد كرّمنا بني آدم)، بني آدم بإطلاق. والتفكير في الدّين مجموعٌ بين دفتي القرآن ومحمول عليه، يتحرّك في إطاره ولا يخرج عنه.

وما من تفكير في الدين لا يمسّ القرآن في صميم الصميم لا يعوّل عليه؛ لأنه بالحقيقة يبني الإنسان من جهة النفس والعقل والقلب والروح والسِّر كما يبنيه من جهة البدن والهيئة والجسم والقالب سواء.

ولا بدَّ لقائل أن يتسأل فيقول: إذا كان التفكير في الدين نفسه أوسع عناية وأشمل خطاباً من الدين الإسلامي وأعمّ من ذلك بكثير من حيث إنه يتجاوز القرآن إلى سائر الأديان الكتابية الأخرى السابقة عليه من يهوديّة ومسيحيّة، ناهيك عن الديانات الغير كتابية ممّا تضمّنه الفكر الشرقي القديم في أمم عتيقة مثل: مصر والهند وفارس والصين وغيرها من أمم الأقوام البدائية والحضارات السالفة، فهل يجوز على هذا كله، اختزال كل تفكير في الدين في الإسلام فقط أو اختزاله في الدّين الإسلامي، وهل يقتصر التفكير في الدين على الإسلام وحده أو على القرآن، مُهملاً بذلك سائر الأديان والعقائد الأخرى؟

بداهةً؛ لا يمكن لقارئ لديه أدنى إطلاع على مقارنة الأديان، ولا لباحث في القرآن على التعميم، أن تغيب عنه مثل هذه اللفتة، فإنّ الفرق كبير جداً بين تراث بشري قام على الدين، وبين أصل الدين نفسه حين أظهره الله تعالى بالهدى ودين الحق على الدين كله. غير أن المنطقة التي نتحدّث منها ولا نغفلها لم تكن بغائبة عن هذا التفكير في الدين عموماً، وعلينا من ثمّ تحديدها بما يناسب علّة هذا التفكير في الدين، وبما يخضعه لها من حيث كونها مبعث شمولٍ لحركة الوعي الخاصّ بها على الجملة فضلاً عن التفصيل.

لم تكن منطقة الإظهار في القرآن بالمنطقة التي ينفصل فيها الوعي الكوني عن هيمنة المقدّس واحتوائه.

ــ منطقة الإظهار:

في القرآن الكريم نقرأ قول الله تعالى: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً" (الفتح: 28). لاحظ التعقيب أنه سبحانه أشهد نفسه على هذا الإظهار كما أشهدها على الإرسال. وقوله تعالى: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون" (التوبة: 33، والصف: 9). ولا بدّ لهم من كراهة. ويشدّد على نفس الآية في سورة الصف في حين لم يذكر آية سورة الفتح إلا مرة واحدة، ولم يكررها كما كرر التعقيب "ولو كره المشركون" مرتين في التوبة وفي الصف، فهو سبحانه إذ أرسل رسوله بالهدى ودين الحق أشهد نفسه على الإرسال والإظهار؛ فأعجز وتحدى، ولم يكررها في القرآن كله في حين كرر التعقيب "ولو كره المشركون" في آية التوبة وآية الصف، لتوكيد الإعجاز وتشديد التحدي، وتكفي شهادته سبحانه على منطقة الإظهار: أشهد نفسه على حكمه، وتحدى وأعجز، وكفى بالله شهيداً.

أمّا كراهة المشركين للإرسال والإظهار في آيتين؛ فتنبيه دائم لتحدي الإعجاز: إظهار دين الحق على الدين كله.

من هذه المنطقة يظهر الدّين الحق برسالة الرسول الخاتم مهيمناً على سائر الكتب السماوية الأخرى بمطلق ما جاء فيه من هدى، ومن دين الحق. وعليه؛ يصبح التفكير في الدين هو بالأساس تفكيرٌ في القرآن مع كفاية الله للشهود الذي أرسل، وللهداية التي أوجب، وللدين الحق الذي ارتضاه. وما دام التفكير تفكيراً في الدين فهو تفكير في الإنسان على وجه الإجمال، ومادام تفكيراً في الدين فهو تفكير في القرآن، والتفكير في القرآن هو لا شك تفكير يصدر عن منطقة الإظهار.

لاحظ أن البعد الغائب من الإنسان هو البعد الروحي وهو الذي فيه تكمن حقيقته الأصليّة والتي تم تجهيل الإنسان نفسه بها، في حين تقدم في سائر العلوم الكونيّة والتجريبية وتأخر في علوم الإنسان فلم يعرفه سر الحياة ولا لغز الموت ولم يرتقْ لكشف حقيقته الأصليّة، ولو أنه تعمق في منطقة الإظهار لعرف على الحقيقة مكانة الإنسان بمعرفته بدايةً لمكانة القرآن.

تمثل منطقة الإظهار خاصّة ذاتية للقرآن، صفة توجد فيه وحده ولا توجد في سواه. فليس من كتاب أظهره الله على سائر الكتب المُنزلة الأخرى سوى القرآن، فالظهور هذا من خصوصياته، لا من خصوصية سواه.

تلك المنطقة (منطقة الإظهار) التي أرسل الله منها رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله؛ فالتفكير فيها ومنها هو تفكير بهذه المثابة في الدين كله، لكن ليس أي دين ولا كل دين بل دين الحق، بمشكاةٍ من الوعي النبويّ، على هداه، وعلى شرطه، لا على هدى غيره ولا على شرط سواه.

لم يكن تفكيرٌ في الدين بخارج عن منطقة الإظهار. ومنطقة الإظهار هذه هى أكمل درجة تتحقق فيها الخاصّة الذاتية للقرآن لتستولي على جميع الخصائص الذاتية فيه؛ لأنها منطقة الوحي الذي أظهر الله فيها رسوله بالهدى ودين الحق، ولأن الدين في عموم الدين، إذا كان فيه الحق؛ ففيه الباطل الذي خضع لتحريفات أصحابه وتبديلات رؤسائه.

غير أن الإسلام ظهر من منطقة الإظهار بدين الحق وكمل بهذا الظهور هدى، ثم هيمن بالرقابة والنقد والتصحيح على ما سبق من أديان، هيمن عليها بإضافة وجه الحق فيها واستبعاد الباطل الذي تم تشويهه بأيدي رجاله ممِّن أقاموا فيه قيام الأوصياء. وفي منطقة الإظهار التي أرسل الله فيها الوحي الإلهي، نزل بالقرآن الروح الأمين على قلب رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه؛ ففي القرآن خلاصة الكتب السماوية المتقدّمة.

وقد جاء بالناموس الأعظم لكمال الحالتين الدنيوية والأخرويّة، وآخى بين طبيعتي الإنسان الجسديّة والروحيّة، وأنه أنزل للعالمين أجمعين، ورُوعيت فيه مصالحهم على قسطاس مستقيم. وقد رُبيت على أسلوب هذا القرآن أمة قبل بضعة عشر قرناً؛ فنالت به على مدى سنين قليلة ما لم يصل إليه غيرها في القرون العديدة، وبلغت من بسطتي العلم والملك، ما لم يتهيأ لغيرها في مثل الزمن القصير الأمد.

وبما أن الإسلام آخر الأديان الموحاة فقد امتاز على غيره امتياز الأخير من كل شيء؛ فأصبح له على سائر الأديان امتيازاً؛ لأن للأخير من كل شيء مزيّة ليست لما تقدّمه. وقد صرح القرآن الكريم أن محمداً رسول الإسلام آخر المرسلين، وأنّه أرسل للناس كافة أجمعين:" وما كان محمدٌ أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم المرسلين" (الأحزاب:40) .."وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً"، (سبأ: 28). وهذا ما لم يصرح به كتاب مُنزل حتى الكتب الموجودة بيننا للآن، فقد يؤخذ من كتاب "بوذا" أنه أرسل لإصلاح ديانة البراهمة. ويؤخذ من كتاب "موسى" أنه أرسل لبني إسرائيل. وكذلك كتاب عيسى عليه السلام بأنه أرسل إلى بني إسرائيل أيضاً.

فلم تكن هنالك دعوة في هذه الكتب إلى مُوجّهة أمم العالمين. ولكن نبوته صلوات الله وسلامه عليه، عامة، تامة، شاملة، عالميّة. وهذا ممّا يجب أن يلفت النظر لدين الإسلام ولنبيّ الإسلام، ويجعل له مزيّة على غيره من الأديان: أن منطقة الإظهار فيه مشعة لا إلى المسلمين وكفى ولكن أيضاً إلى العالمين، بمعنى أن الإرسال كخاصة ذاتية للإظهار لا يقتصر على المسلم فقط بل هو رحمة العالمين؛ فكما كانت العالمية من جهة الإرسال عالمية الدعوة، فهي كذلك عالمية الرحمة من المثوبة والجزاء.

وبما أن الإسلام دين عام فقد شرّعه الخالق لربط الشعوب، أبيضها وأصفرها وأحمرها وأسودها، بعضها مع البعض الآخر.

محا الله امتيازات الأجناس والعناصر بمنطقة الإظهار والهيمنة، فأرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون، فلم يعد من هدى ولا من دين الحق سوى دين الإسلام ونبي الإسلام. أمّا من حيث الهيمنة، فإنَّ القرآن الذي نزل بالحق أشتمل على الصحيح الثابت من الأحكام وهو مصدق لما بين يديه من الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل، وهو مُهيمن عليها، رقيباً وشاهداً على ما سبقه من الكتب، يقرُّ الحق ويظهر خطأ ما حرَّفوه: "وأنزَلْنَا إلَيكَ الكتابَ بالحق مُصَدِّقاً لِمَا بينَ يديه من الكتاب ومهيمناً عليه؛ فَاْحْكُم بينهم بما أنزل اللهُ، ولا تتَّبع أهواءَهم عمَّا جَاءَكَ منَ الحق، لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكُم أمةً واحدةً ولكن ليَبلُوَكُم في ما آتَاكم، فاستبقُوا الخيرات، إلى الله مرجعُكُم جميعاً فيُنبّئُكُم بما كنتُم فيه تَختَلفُونَ" (المائدة:48).

وفي حديث ابن عباس أن بعض علماء اليهود قالوا: يا محمد: نحن أحبار اليهود، ولو اتبعناك لاتبعك اليهود كلهم، وإنّ بيننا وبين أناس من قومنا خصومة، ونريد أن نتحاكم إليك، فإنّ قضيت لنا أعلنا صدقك. فلم يقبل عليه السلام فأنزل الله فيهم ذلك إقراراً له على ما فعل.

قضى الإسلام بما تقرّر في كتابه العزيز من أوامر ونواهٍ على العصبيات، وقرّر مبدأ المساواة العامة، وصرح بأن الإنسانية كلها في ظل هذا الدين أسرة واحدة، أبوها آدم وأمها حواء، وأنه ما صارت شعوباً وقبائل للتنازع وللتقاتل، ولكن للتعارف ولتبادل المنافع. أكرم الإسلام الإنسان بما تقرر لديه في منطقة الإظهار فقال تعالى مخاطباً النوع الإنساني كله: "يأيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم" (الحجرات: 13).

ومن منطقة الإظهار هذه، قصد القرآن تربية الإنسان؛ ليكمل بنيانه الجسدي والروحي والعقلي والنفسي والخُلقي، وجعله صالحاً لمواجه ضروب الحياة المنوعة بكل ما فيها من حق وباطل، ومن خير وشر، ومن رزيلة وفضيلة، ونهج في تربيته مناهج يجب تمييزها جملة، ثم مشارفتها تفصيلاً، وفيما أشار إليه الأستاذ الفاضل محمد فريد وجدي في مقدمة المصحف المفسر، فقد خاطب العقل، وناجي العواطف، وحاسب السرائر، وآخذ الضمائر، وأدّب الحواس، وهذّب الملكات، وعدّل القوى، وقرر العقائد، ودعمها بما يناسب كلا منها من براهين، وحكى حال العالمين من حيث الدين، وأرى مواقع البطلان من معتقدات سائرها، وقاد الكتائب، ودوّخ الممالك، ومَصّر الأمصار، وشيّد المدنية الفاضلة، وسنّ الشرائع الكاملة، ووضع دستور الحكومة، وصبّ الأمة على قالبه المحكم، ووضع للمعاملات ناموسها، وشرع للبصيرة شرعتها، وركب للأفئدة علاجها، وخاطب كل نفس على قدر وسعها، وأتى بذلك كله منثوراً في السور على النحو الذي أراد الله عز وجل، بحيث إن بعضه يكمل بعضه الآخر ويوضحه، أو يرى وجهاً آخر منه.

ولا شك كان المقصد السامي الذي نزل القرآن من أجله فأصابه (هو تربية الإنسان تربية صحيحة، وإبرازه أمام الوجود بشراً سويّاً، حاصلاً على كمال طبيعته الجسدية والروحية، متمتعاً بجمال حالتيه الصورية والمعنوية، وهو لأجل إبلاغ الإنسان هذه المكانة العليا عملياً فعلياً، لم يتوجه إليها من قبيل النصائح المجرّدة، والمواعظ العارية؛ بل حاولها من كل مظانها العمليّة؛ بإدخال الإنسان في مقتضياتها ولوازمها، وتوريطه في متعلقاتها وأسبابها؛ ليدفع الإنسان إليها اندفاعاً طبيعياً قسرياً؛ ليكون في كماله الديني سائراً على منهاج كماله الجسمي كيما يكون مسوقاً بنواميس طبيعة لا يستطيع أن يتخلص منها).

ومعنى هذا أن القرآن من منطقة الإظهار كاشف لقارئه عن خصائصه الذاتية التي توجد فيه وحده ولا توجد في سواه، وأنه في أمره لنا أن نتديَّن بالدين الحق الذي لا يقاربه باطل لأنه مُرسل بالهدى على حكم الاعتقاد؛ لم يتركنا عند الأمر بالتدين وكفى نؤوله كما نشاء؛ بل علمنا كيف نبحث عنه، وهدانا للأعلام التي تستدل بها عليه، وعيّن لنا القسط الذي نستطيعه من إدراكه، ونصب لنا ميزاناً نزن به محصول الفكر والنظر في جميع ما ذكر.

وددت لو أني قرّرتُ هذه اللفتة التي لا مناص لي من تقريرها عندي، وهى أن الفكر العربي المعاصر بحاجة شديدة الي العناية بالدراسات القرآنيّة المعاصرة، فإنّ أسوأ ما يفتقر إليه القارئ المعاصر هو أن يأخذ مادته العلمية عن القرآن ودراساته من المؤسسات، ولا يلتفت إلى أنظار المفكرين الأحرار التي كتبت عن القرآن بلوحات فنية حرّة عن القيود لأنها كانت منذ البداية حُرة في التوجّه. ولا يزال هذا الفكر عاجزاً عن المعاصرة ما لم يضع الدراسات القرآنيّة داخل نطاق اهتمامه بل تكون الأساس في بنيته التكوينية، فإنّ دراسة القرآن والتعمق فيه آية الإخلاص في مجال النظر وفي ميدان العمل سواء. ولأن الفكر العربي المعاصر بحاجة ماسّة إلى تقريب المصير الإنساني بلغة معاصرة نقيّة عن شوائب العصور السالفة بأثقالها السياسية وأطماعها الدنيويّة، تقريبه إلى الوجود الإنساني، إنما الوجود والمصير لا ينفصلا ولن ينفصلا، ولا يمكن دراسة الوجود الإنساني بمعزل عن مصيره. ومن يقرأ القرآن على السعة والحضور يتبيّن له أن المصير الإنساني مبطن في الوجود غير مفصول عنه بحال: "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، والعاقبة للمتقين".

نعم! إنّ لهذا الزمان انظاره القرآنية كما كانت للأزمنة المتقدّمة انظارها وأنوارها، وكذلك ينبغي أن تكون لزماننا هذا أنظاره وأنواره، وإلا خلى الفكر العربي المعاصر من شرط معاصرته إذا هو خلى من الروح الباحثة دوماً في أسرار القرآن.

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم

يتناول هذا المقال نتائج دراسة حديثة درست الارتباطات بين التثاقف وتعاطي المواد المخدرة بين 198 مراهقاً في الصف التاسع في جنوب كاليفورنيا (متوسط العمر = 13.8 عاماً). وتضمنت مقاييس تعاطي المواد المخدرة والكحول لمدة ثلاثين يوماً (حالياً) ومدى الحياة. وتم قياس التثاقف باستخدام المقياس المتعدد الثقافات للتثاقف والعادات والاهتمامات للمراهقين (AHIMSA) وهو مقياس تثاقف متعدد الأبعاد يعطي أربع درجات لاستراتيجية التثاقف. وقامت تحليلات الانحدار الخطي بتقييم الارتباط بين التثاقف وتعاطي الكحول والمخدرات، مع تعديل العديد من المتغيرات المشتركة. كشفت النتائج أن استراتيجية التثاقف الاستيعابي كانت مرتبطة بشكل كبير، ولكن سلبي بالاستخدام الحالي للكحول، وخاصة بين الذكور. كانت استراتيجية التثاقف الانفصالي مرتبطة بشكل كبير وإيجابي بالاستخدام الحالي للكحول، وخاصة بين الإناث. ارتبط التهميش بخطر أكبر لاستخدام الكحول والمخدرات مدى الحياة، وخاصة بين الذكور، وخطر أكبر لاستخدام المخدرات حالياً بين الإناث. كانت متغيرات التأثير الاجتماعي تنبؤية بالاستخدام الحالي والاستخدام مدى الحياة للكحول والمخدرات. من المهم أن تتضمن الدراسات المستقبلية مقاييس التثاقف متعددة الأبعاد في استخدام المراهقين للمواد لفهم كيف تؤثر استراتيجيات التثاقف المختلفة على السكان المختلفين.

لقد أسفرت الجهود المبذولة للحد من تبني تعاطي الكحول والمخدرات بين المراهقين في الولايات المتحدة عن بعض النتائج الواعدة. ومع ذلك، عند فحص مواد معينة، تكون الاختلافات العرقية واضحة بشكل لافت للنظر. إن معدلات الاستخدام الحالي للمواد المستنشقة، والاستخدام الحالي للكوكايين، والاستخدام مدى الحياة للهيروين، واستخدام MDMA مدى الحياة هي الأعلى بين اللاتينيين بنسب (4.3%، 5.7%، 3.9%، 13%؛ على التوالي)، مقارنة بالمراهقين البيض (3.6%، 3.8%، 2.6%، 11%؛ على التوالي)، والسود (3%، 2.2%، 2.6%، 6%؛ على التوالي).

وتشير دراسة أخرى إلى أن طلاب الصف الثاني عشر من أصل لاتيني لديهم أعلى معدلات تعاطي الكحول ومخدر الكراك والهيروين، ومادة الروهيبنول بين طلاب الصف الثامن، وتكشف بيانات الاتجاهات عن نتائج مماثلة. في دراسة قاست الانتشار المرتفع لاستخدام الكحول والماريجوانا وMDMA والهيروين على مدى العقد الماضي، أبلغ اللاتينيون عن أعلى استخدام لجميع فئات المخدرات تقريباً باستثناء الأمفيتامينات. أظهرت دراسة مراقبة المستقبل نمطًا مشابهاً، حيث أبلغ طلاب المدارس الثانوية اللاتينيون عن أعلى معدلات استخدام الكوكايين (جميع الأشكال) وميثامفيتامين الكريستالي مدى الحياة مقارنة بكبار السن البيض والسود.

وقد تم تفسير أسباب هذه الاختلافات جزئياً من خلال الاختلافات الثقافية، وتحديداً التثاقف، والذي يتم تعريفه على أنه "العملية المزدوجة للتغيير الثقافي والنفسي التي تحدث في المجتمع". يحدث ذلك نتيجة للاتصال بين مجموعتين ثقافيتين أو أكثر وأعضائها الأفراد. ومع تزايد تأقلم المهاجرين، يمكن أن ينشأ تغيير في السلوك حيث يتبنون مواقف وممارسات البلد المضيف. ومع ذلك، لا يخضع جميع الأفراد للتثاقف بنفس الطريقة، لأن التثاقف عملية طويلة الأمد ومعقدة ومتعددة الأبعاد. يذكر عالم الاجتماع الأمريكي "جون بيري" بُعدين أساسيين للتثاقف: 1) الحفاظ على الهوية الثقافية الأصلية. و2) الاتصال بالمجتمع المضيف والمشاركة فيه.

ويشمل هذا البعد الثاني أيضاً الحفاظ على العلاقات مع الأفراد من مجموعات ثقافية أخرى. ينتج عن هذين البعدين أربع استراتيجيات عامة للتثاقف: (التكامل، والاستيعاب، والانفصال، والتهميش). يحدث التكامل عندما يحافظ الأفراد على ثقافتهم الأصلية، ولكنهم يسعون إلى إقامة علاقات بين المجموعات. ويحدث الاستيعاب عندما لا يهتم الأفراد نسبيًا بالحفاظ على ثقافتهم الأصلية، ولكنهم يسعون إلى إقامة علاقات بين المجموعات. وعلى العكس من ذلك، يتضمن الانفصال الحفاظ على الثقافة الأصلية مع تجنب العلاقات بين المجموعات. وأخيراً، يحدث التهميش عندما لا يحافظ الأفراد على الهوية الثقافية الأصلية ولا يرغبون في إقامة علاقات بين المجموعات، ويرفضون كلتا الثقافتين.

ارتبط التثاقف مع الثقافة الأمريكية بعدد من النتائج الصحية السلبية للمراهقين اللاتينيين، وتحديداً ارتفاع تعاطي الكحول والمخدرات الأخرى. تشير الأبحاث إلى أنه على الرغم من أن تعاطي الكحول والمخدرات كان منخفضاً تقليدياً بين السكان المهاجرين المقيمين في الولايات المتحدة، فإن التثاقف قد يكون مؤشراً مهماً لتعاطي المخدرات بين الشباب اللاتينيين. في الوقت الحالي، يبلغ المهاجرون اللاتينيون الذين يعيشون في الولايات المتحدة، بغض النظر عن بلدهم الأصلي، عن معدلات أعلى من تعاطي المواد والكحول مقارنة باللاتينيين الذين ما زالوا يعيشون في بلدهم الأصلي. وعلاوة على ذلك، يزداد خطر تعاطي المواد كلما طالت فترة بقائهم في الولايات المتحدة.

هناك فرضيتان مهيمنتان في الأدبيات تفسران الارتباط بين التثاقف وتعاطي المواد. هناك فرضية مفادها أن التعرض للثقافة الأميركية يزيد من فرص تعاطي المخدرات في المواقف التي يتواجد فيها الأشخاص مع أقرانهم، فضلاً عن الإلمام بمعايير تعاطي المخدرات. ونظراً لأن اكتساب الكفاءة في التحدث باللغة الإنجليزية يعد أحد المكونات المهمة للتثاقف، فمع تثاقف الشباب اللاتينيين، قد يكونون أكثر ميلاً إلى قضاء الوقت مع أقرانهم من ذوي الثقافة العالية أو المولودين في الولايات المتحدة والذين تبنوا المعايير السائدة لثقافة الشباب الأميركية. ونتيجة لذلك، فإن الارتباط الأكبر بالأقران المولودين في الولايات المتحدة أو البالغين المهمين قد يعرض الشباب المتأقلم لتأثيرات أقران أكثر تأييدًا للمخدرات وربما ينقل اعتقادًا بأن تعاطي المخدرات أمر طبيعي. وقد يجد الشباب المتأقلمون أنفسهم في كثير من الأحيان في الظروف التي يعرض فيها الأقران المواد أو يستخدمونها أيضاً لأنهم يستطيعون الآن التواصل باللغة الإنجليزية مع الآخرين الذين لديهم إمكانية الوصول إلى المخدرات في البيئة.

تعزى فرضية ثانية إلى الإجهاد والصراع المتضمنين في عملية التثاقف. ويتجذر هذا الإجهاد التثاقفي في نموذج الإجهاد/ التأقلم، حيث إذا تجاوزت مسببات الإجهاد التي واجهها الفرد أثناء عملية التثاقف مهاراته في التأقلم، وإذا اعتبر الفرد أن مسببات الإجهاد لا يمكن السيطرة عليها، فقد ينخرط الفرد في التمرد أو الانحراف أو تعاطي المخدرات. تشير الدراسات التي تناولت الضغوط الناجمة عن التثاقف إلى أن استراتيجية التثاقف المتكاملة هي الأقل إجهاداً، حيث توفر الوصول إلى المزيد من الموارد الاجتماعية ومجموعة أوسع من مهارات التأقلم. ومن ناحية أخرى، يؤدي التهميش إلى أكبر قدر من الإجهاد. وتميل استراتيجيات الاستيعاب والانفصال إلى التواجد في مكان ما بينهما، حيث تكون إحداهما أقل إجهاداً من الأخرى في بعض الأحيان.

حتى الآن، ركزت معظم الدراسات التي تناولت التثاقف على النماذج أحادية البعد التي تقيس تفضيل اللغة. وعلى الرغم من أن استخدام اللغة يشكل جزءاً كبيراً من التباين في العديد من مقاييس التثاقف، فإن التثاقف عملية معقدة تنطوي على أبعاد متعددة. لذلك، قد تكون النماذج متعددة الأبعاد التي تقيس ثنائية الثقافة أكثر دقة في تقييم الأفراد الذين يتماهون مع أكثر من ثقافة واحدة. بالإضافة إلى ذلك، لا تفترض النماذج متعددة الأبعاد فقدان الثقافة الأصلية بمجرد دمج الثقافة الجديدة. وتستند الدراسة الحالية إلى الأدبيات السابقة من خلال تنفيذ مقياس متعدد الثقافات للتثاقف والعادات والاهتمامات للمراهقين، وهو مقياس متعدد الأبعاد جديد للتثاقف يوفر درجات من أربع استراتيجيات للتثاقف لفحص العلاقة بين التثاقف وتعاطي الكحول والمخدرات بين المراهقين اللاتينيين. نفترض أنه من بين استراتيجيات التثاقف الأربع، سترتبط استراتيجية التثاقف المهمشة بزيادة تعاطي الكحول والمخدرات.

الطرق والإجراءات

أُجريت هذه الدراسة كواحدة من اختبارين تجريبيين صُمما لتطوير مقاييس لدراسة أكبر لأنماط التثاقف وتعاطي المواد بين المراهقين اللاتينيين في جنوب كاليفورنيا. وأُجريت البيانات التي جُمعت لهذه الدراسة التجريبية في مدرسة ثانوية واحدة تضم عدداً كبيراً من الطلاب اللاتينيين خلال شهر أغسطس 2024. وعلى الرغم من أن غالبية المشاركين وُلدوا في الولايات المتحدة (86.8%)، إلا أن معظم والديهم لم يكونوا كذلك (88.4%)، مما يشير إلى غلبة الجيل الثاني من اللاتينيين المولودين في الولايات المتحدة في العينة. وكان معظمهم من المكسيك (85.3%)، وهو ما يتفق مع بيانات تعداد الولايات المتحدة عن اللاتينيين الذين يعيشون في كاليفورنيا.

 وأفاد ما يقرب من 94% من العينة أنهم يتحدثون لغة أخرى غير الإنجليزية في المنزل. ومن بين هؤلاء، كانت الأغلبية ثنائية اللغة (65.8%؛ تحدثوا الإنجليزية ولغة أخرى بالتساوي)، وأفاد 20.2% أنهم يتحدثون لغة أخرى فقط أو في الغالب، و14% يتحدثون الإنجليزية في الغالب في المنزل. وعلى الرغم من عدم سؤال المشاركين الذين أفادوا أنهم يتحدثون لغة أخرى عن اللغة الأخرى، فمن المرجح أن تكون اللغة الأخرى هي الإسبانية بالنظر إلى بلد المنشأ. وتشير بيانات التعداد إلى أن 65.4% من سكان كاليفورنيا الذين تزيد أعمارهم عن 4 سنوات والذين يتحدثون لغة أخرى في المنزل يتحدثون الإسبانية.

وعلاوة على ذلك، تشير بيانات التعداد المكسيكي إلى أن أقل من 7% من السكان يتحدثون لغة أصلية، مما يشير إلى أن المهاجرين المكسيكيين أكثر عرضة للتحدث باللغة الإسبانية من اللهجة الأصلية. وكان الوضع الاجتماعي والاقتصادي لهيئة الطلاب منخفضاً، حيث شارك 95% من الطلاب في برنامج الغداء المجاني/المخفض السعر. قام مساعدو البحث المدربون بزيارة الفصول الدراسية لشرح الدراسة للطلاب، وتوزيع نماذج موافقة الوالدين ونماذج موافقة الطلاب. ولزيادة معدل إعادة نماذج الموافقة، عُرض على كل فصل حفلة بيتزا إذا أعاد كل طالب في الفصل النماذج، بغض النظر عما إذا كان الوالدان قد وافقا أم لا.

سُمح للطلاب بالمشاركة إذا قدموا موافقة الوالدين المكتوبة وموافقة الطالب. تمت دعوة جميع فصول الصف التاسع في المدرسة للمشاركة. من بين 317 طالباً تمت دعوتهم للمشاركة، قدم 291 (92٪) موافقة كتابية من الطلاب وقدم 213 (67٪) موافقة كتابية من الوالدين. أكمل 198 (62%) من الطلاب الاستبيان، لكن 8 طلاب كانوا تم استبعادها من التحليلات لأن الجنس لم يتم ذكره. وافقت لجنة المراجعة المؤسسية لجامعة جنوب كاليفورنيا على إجراءات الدراسة وأدوات المسح.

الإجراءات

أكمل المشاركون استبياناً ذاتياً على الورق والقلم. واستغرق استكمال الاستبيان خمسون دقيقة تقريبًا وشمل كلًا من النسخة الإنجليزية والإسبانية ضمن نفس الكتيب، حتى يتمكن الطلاب من استكمال الاستبيان بلغتهم المفضلة دون أن يشعروا بأي وصمة عار (اختار طالبان فقط استكمال الاستبيان باللغة الإسبانية). وتألف الاستبيان من أسئلة ديموغرافية (مثل العمر والجنس والعرق والأداء الأكاديمي)؛ وعدد من مقاييس التثاقف والثقافة وحالة الجيل؛ ومقاييس خصائص الأسرة والأقران (على سبيل المثال، من يعيش معه المشارك معظم الوقت، وما إلى ذلك)؛ وتعاطي التبغ والكحول والمخدرات (الاستخدام لمدة 30 يوماً وطوال العمر)؛ وتأثير الأقران؛ والعديد من الأسئلة الأخرى المتعلقة بالسلوك الصحي.

المتغير المستقل

تم تضمين العديد من مقاييس التثاقف في المسح، ومقياس تثاقف "مارين"  Marine Corps ، ومقياس الهوية العرقية، ومقياس الهوية العرقية متعددة المجموعات، ومقياس تقييم التثاقف للأمريكيين المكسيكيين، ومع ذلك، تم استخدام AHIMSA فقط في التحليلات بسبب إيجازه ومناسبته للعمر وأهميته المتعددة الثقافات والقدرة على تقييم أبعاد متعددة للتثاقف. بالإضافة إلى ذلك، فقد ثبت أن AHIMSA يرتبط بمقاييس فرعية أخرى، مما يوفر دليلاً على صحته. علاوة على ذلك، تم التحقق من صحة مقياس AHIMSA لدى المراهقين، وهو مقياس ثنائي الأبعاد، ويستند إلى عوامل أخرى غير اللغة، مما يوفر مقياساً أكثر شمولاً للتثاقف.

يتكون مقياس AHIMSA من ثمانية بنود (تم الإبلاغ عن معلومات إضافية حول مقياس AHIMSA في مكان آخرمع أربع خيارات للإجابة لكل سؤال: "الولايات المتحدة (تشير إلى الاستيعاب)، "البلد الذي تنتمي إليه عائلتي" (تشير إلى الانفصال)، "كلاهما" (تشير إلى التكامل)، و"لا هذا ولا ذاك" (تشير إلى التهميش). تتراوح الدرجات لكل من هذه التوجهات الأربعة من صفر إلى ثمانية. ونظراً لصيغة الاختيار القسري، فإن مجموع التوجهات الأربعة سيكون دائماً مساوياً لثمانية (العدد الإجمالي للأسئلة في المقياس)، وبالتالي فإنه من غير الممكن تضمين جميع درجات التوجهات الأربعة كمتغيرات مستقلة في تحليل الانحدار لأنه بخلاف ذلك سيتم إنشاء اعتماد خطي. بعبارة أخرى، بمجرد معرفة الدرجات في ثلاثة من المقاييس الفرعية، سيكون المقياس الفرعي الرابع ثمانية ناقص مجموع المقاييس الثلاثة السابقة.

من خلال فحص أكثر من بُعد واحد، قد يوفر AHIMSA صورة أكثر دقة لاستراتيجيات التثاقف التي يتبناها المراهقون.

 المتغيرات التابعة

تم قياس استخدام الكحول الحالي من خلال "الثلاثين يوماً الماضية، في كم يوم تناولت مشروباً واحداً على الأقل من الكحول؟"

فئات الاستجابة تشمل: 0 يوم؛ يوم أو يومان؛ 3 إلى 5 أيام؛ 6 إلى 9 أيام؛ 10 إلى 19 يومًا؛ 20 إلى 29 يومًا؛ وجميع 30 يومًا. تم قياس تعاطي الكحول مدى الحياة من خلال "حياتك، كم عدد الأيام التي تناولت فيها مشروباً واحداً على الأقل من الكحول؟" كانت هناك سبع فئات استجابة متاحة: 0 يوم؛ 1 أو 2 يوم؛ 3 إلى 9 أيام؛ 10 إلى 19 يوماً؛ 20 إلى 39 يوماً، 40 إلى 99 يوماً؛ و100 يوم أو أكثر.

من أجل تقييم تعاطي المخدرات الحالي ومدى الحياة، طُلب من الطلاب، "كم مرة استخدمت أياً من هذه المخدرات؟" لكل من تعاطي المخدرات الحالي (آخر 30 يوماً) ومدى الحياة. تشمل فئات المخدرات الست: الماريجوانا (الحشيش)؛ أي شكل من أشكال الكوكايين (البودرة، الكراك، القاعدة الحرة)؛ الميثامفيتامين (السرعة، الكريستال، الكرانك، الجليد)؛ الإكستاسي (MDMA)؛ أي نوع من المهلوسات (LSD، والفطر)؛ وأي نوع من المواد المستنشقة (الغراء، والطلاء، أو أي شيء يمكن استنشاقه).

تم إعطاء الاستجابات على مؤشر تصنيف من 6 نقاط يتراوح من 0 إلى 40+ في فترات متزايدة (على سبيل المثال 0 مرة؛ 1 أو 2 مرة؛ 3 إلى 9 مرات؛ 10 إلى 19 مرة؛ 20 إلى 39 مرة؛ و40 مرة أو أكثر). تم تحديد موثوقية وصلاحية التنبؤ بهذا الشكل مسبقاً. من خلال حساب المتوسط عبر الاستجابات، تم إنشاء مؤشر لاستخدام المخدرات (α = 0.67 للاستخدام الحالي؛ α = 0.67 للاستخدام مدى الحياة). يشير المتوسط الأعلى لاستخدام المخدرات إلى استخدام أكبر لتلك المواد.

المتغيرات المشتركة

 تم إنشاء مؤشر للوضع الاجتماعي والاقتصادي (SES) من سؤالين: "كم عدد الأشخاص الذين يعيشون في المنزل الذي تقضي فيه معظم وقتك (بما في ذلك أنت)؟" و"كم عدد الغرف في منزلك أو شقتك (باستثناء المطبخ والحمام)؟" تم حساب الوضع الاجتماعي والاقتصادي عن طريق قسمة عدد الغرف في المنزل على عدد الأشخاص الذين يعيشون في المنزل. تم الإبلاغ عن العرق ذاتياً، باستخدام السؤال: "ماذا تعتبر نفسك ..." مع إدراج خمسة عشر مجموعة عرقية (هندي أمريكي أو ألاسكا الأصلي؛ آسيوي؛ أسود أو أمريكي من أصل أفريقي؛ إسباني؛ لاتيني أو لاتيني؛ أصلي هاواي أو جزر المحيط الهادئ؛ أبيض؛ مكسيكي؛ من أمريكا الوسطى؛ من أمريكا الجنوبية؛ مكسيكي أمريكي؛ شيكانو أو تشيكانا؛ مستيزو؛ لا رازا؛ وإسباني).

تضمنت الإجابات لكل من هذه المجموعات العرقية: نعم، ولا، ولا أعرف. ولأن العلاقات بين الأقران تعتبر عاملاً مهماً يؤثر فيما إذا كان الشباب يقررون الانخراط في تعاطي الكحول والمخدرات أو الاستمرار فيه أم لا، فقد تم تعديل تأثير الأقران على تعاطي الكحول أو المخدرات والنمذجة لاستخدام الكحول أو المخدرات من قبل البالغين. وفقاً لنظرية التعلم الاجتماعي، يحدث التعلم من خلال النمذجة، والتي تستند إلى الملاحظة المباشرة وتقليد سلوك النماذج، أو من خلال التعلم بالنيابة والتعزيز.

تم قياس تأثير الأقران من خلال سؤالين: فكر في أفضل خمسة أصدقاء لك في هذه المدرسة، 1) "هل سبق لك أن شربت الكحول معه/معها؟"؛ 2) "هل سبق لك أن تعاطت أي مخدرات معه/معها؟" كانت خيارات الاستجابة نعم أو لا. ومع ذلك، نظراً للطبيعة الأنانية لهذا السؤال، تم طرح السؤالين على كل من أفضل أصدقائهم الخمسة، بإجمالي عشر إجابات. تم تلخيص النتائج لكل سؤال، مع نطاق من 0 إلى 5 حيث 0 = لم يستخدم أي من أصدقائهم الخمسة و5 = استخدم جميع أصدقائهم الخمسة مادة معينة مع المشارك. تم قياس النمذجة للبالغين من خلال سؤالين: "فكر في البالغين اللذين تقضي معهما معظم وقتك. كم منهم يشرب الكحول مرة واحدة على الأقل في الأسبوع؟  و"فكر في البالغين اللذين تقضي معهما معظم وقتك. كم منهم يستخدم المارجوانا؟" تضمنت خيارات الاستجابة: لا شيء أو 0، و1 منهم، و 2 منهم.

النهج التحليلي

تتضمن التحولات في البيانات إعادة ترميز العرق على أنه إسباني (أجاب المشارك بنعم على أي من الخيارات التالية: إسباني؛ لاتيني أو لاتيني؛ مكسيكي؛ من أمريكا الوسطى؛ من أمريكا الجنوبية؛ مكسيكي أمريكي؛ شيكانو أو تشيكانا؛ مستيزو؛ لا رازا؛ أو إسباني) مقابل أخرى. والوضع الاجتماعي والاقتصادي (أقل من غرفة واحدة للشخص الواحد مقابل غرفة واحدة أو أكثر للشخص الواحد). ونمذجة تعاطي الكحول أو المخدرات من قبل البالغين (لا يوجد مقابل أحد البالغين أو كليهما نمذجة السلوك المعني) بشكل منفصل لتعاطي الكحول والمخدرات.

ولأن الأبحاث تشير إلى وجود فروق بين الجنسين في تعاطي المواد، فقد تم جدولة النتائج حسب الجنس مع الترددات والنسب المئوية المقابلة. وأجريت اختبارات مربع كاي واختبارات لتحديد

الاختلافات المهمة بين الجنسين. من أجل فحص العلاقة بين متغيرات تعاطي الكحول والمخدرات (سواء الحالية أو مدى الحياة) ومقاييس التثاقف AHIMSA الفرعية، تم إجراء انحدارات خطية، مع تعديل المتغيرات المشتركة. بعد التحقق من افتراضات الانحدار، تم تحويل متغيرات تعاطي الكحول والمخدرات (المتغيرات التابعة) بواسطة اللوغاريتم الطبيعي. تم استخدام ألفا أحادي الذيل 0.05 لتحديد مستوى الأهمية وتم إجراء التحليلات باستخدام برنامج نظام التحليل الإحصائي.

نتائج الدراسة

الخصائص الديموغرافية للعينة

تظهر الخصائص الديموغرافية لعينة الدراسة أنه كان متوسط عمر العينة 13.8 عاماً وكان عدد الإناث المشاركات أكبر قليلاً من عدد الذكور (53.7% إناث). عاش معظم المشاركين مع كلا الوالدين (66%)، وكانوا من أصل إسباني (95.3%)، وولدوا في الولايات المتحدة (86.8%). تشير نتائج المقاييس الفرعية لـ AHIMSA إلى أن نسبة أكبر من الطلاب مندمجون (التوجه نحو كلا البلدين)، يليهم مندمجون (التوجه نحو الولايات المتحدة). وفيما يتعلق باستخدام الكحول، تشير النتائج إلى أن الاستخدام مدى الحياة كان 41.4% بينما كان الاستخدام الحالي 14.9%. كان تعاطي المخدرات مدى الحياة 15.5% للماريجوانا، و9.8% للكوكايين، و7.1% للميثامفيتامين، بينما كان تعاطي المخدرات الحالي 9.5%، و6.4%، و4.3% على التوالي. كانت هناك فروق قليلة بين الجنسين.

 العوامل المرتبطة بتعاطي الكحول والمخدرات الحالي ومدى الحياة

نوضح المعاملات الموحدة التي تختبر الارتباط بين مقاييس فرعية للتثاقف AHIMSA وتعاطي الكحول مدى الحياة، مع تعديل العرق، والوضع الاجتماعي والاقتصادي، وتأثير الأقران، والنمذجة لدى البالغين. وفيما يتعلق بتعاطي الكحول مدى الحياة، ارتبط التهميش بتعاطي الكحول مدى الحياة (β=0.14؛ p<.05). وعلاوة على ذلك، ارتبطت كل من عناصر التأثير الاجتماعي (تأثير الأقران والنمذجة لدى البالغين) بشكل كبير بتعاطي الكحول مدى الحياة (β=0.29؛ β=0.16؛ على التوالي؛ p<.05).

بين الإناث، لم تكن هناك ارتباطات مهمة بين المقاييس الفرعية لـ AHIMSA وتعاطي الكحول مدى الحياة عند مستوى p<.05. ومع ذلك، كان تأثير الأقران والنمذجة لدى البالغين من المتنبئين بتعاطي الكحول مدى الحياة. بين الذكور، ارتبط التهميش بشكل كبير بزيادة تعاطي الكحول مدى الحياة (β=0.21؛ p<.05). كان الاستيعاب واقياً من تعاطي الكحول الحالي (β=-0.17؛ p<.001)، بينما ارتبط الانفصال بزيادة الاستخدام (β=0.11؛ p<.05). كانت النمذجة لدى البالغين وتأثير الأقران من المتنبئين المهمين بتعاطي الكحول الحالي (β=0.30؛ β=0.34؛ p<.05؛ على التوالي). بعد التصنيف حسب الجنس، ظل الانفصال مرتبطًا بشكل إيجابي بتعاطي الكحول الحالي فقط بين الإناث (β=0.21؛ p<.05) بينما كان الاستيعاب وقائيًا بين الذكور (β=−0.22؛ p<.05). ظل تأثير الأقران والنمذجة للبالغين من المتنبئين المهمين بتعاطي الكحول الحالي بين كل من الذكور والإناث.

نوضح الدراسة العوامل المرتبطة بتعاطي المخدرات مدى الحياة والحالية، المعدلة حسب العرق والوضع الاجتماعي والاقتصادي وتأثير الأقران والنمذجة للبالغين. ارتبط التهميش بشكل إيجابي وهام بتعاطي المخدرات مدى الحياة (β=0.16؛ p<.01). بالإضافة إلى ذلك، ارتبط تأثير الأقران والنمذجة للبالغين بشكل كبير بتعاطي المخدرات مدى الحياة. بعد التصنيف حسب الجنس، كان الذكور المهمشون أكثر عرضة بشكل كبير لخطر تعاطي المخدرات مدى الحياة (β=0.21؛ p<.05)، ولكن ليس الإناث (β=0.08؛ p>.05). ظل تأثير الأقران والنمذجة مهمين بين الإناث بينما كانت النمذجة فقط مهمة بين الذكور.

لم يكن أي من المقاييس الفرعية لـ AHIMSA مرتبطًا بشكل كبير بالاستخدام الحالي للمخدرات. ومع ذلك، كشف التقسيم الطبقي بين الجنسين أن الإناث المهمشات كن أكثر عرضة للإبلاغ عن الاستخدام الحالي للمخدرات (β=0.16؛ p<.05). بالإضافة إلى ذلك، كان لتأثير الأقران التأثير الأكبر على الاستخدام الحالي للمخدرات (β=0.70؛ p<.01)، يليه النمذجة (β=0.24؛ p<.01).

كانت الإناث من أصل إسباني أيضاً أكثر عرضة للإبلاغ عن الاستخدام الحالي للمخدرات (β=0.12؛ p<.05). بين الذكور، على الرغم من عدم ملاحظة أي ارتباطات مهمة مع أي من المقاييس الفرعية لـ AHIMSA، فإن النمذجة للبالغين وكونهم غير إسبانيين كانا من العوامل التنبؤية المهمة لاستخدام المخدرات الحالي.

صُممت هذه الدراسة لتقييم ما إذا كان استخدام الكحول والمخدرات طوال الحياة وفي الوقت الحالي يختلف باختلاف استراتيجية التثاقف، كما تم قياسه بواسطة المقاييس الفرعية لـ AHISMA، بين عينة من المراهقين اللاتينيين المراهقين في جنوب كاليفورنيا. أثبتت الدراسات السابقة وجود ارتباط إيجابي بين التثاقف وتعاطي الكحول والمخدرات، مما يشير إلى أنه مع زيادة التثاقف، يتبع ذلك زيادة لاحقة في تعاطي الكحول والمخدرات. ومع ذلك، فإن العديد من هذه الدراسات قامت بقياس التثاقف أحادي البعد، إما لغوياً، أو حسب بلد المنشأ، أو حسب طول مدة الإقامة في الولايات المتحدة. وقد تصورت معظم هذه الدراسات السابقة التثاقف على أنه زيادة في التوجه نحو ثقافة الولايات المتحدة مقترنة بانخفاض في التوجه نحو ثقافة المنشأ.

لقد استخدمت هذه الدراسة مقياساً متعدد الأبعاد، مثل مقياس التثاقف AHISMA، لفحص كيفية ارتباط استراتيجيات التثاقف المختلفة بتعاطي المخدرات بين المراهقين. في الواقع، العديد من الدراسات التي تتضمن مقاييس التثاقف قد ركزت استراتيجيات التثاقف الأربع على كيفية ارتباط هذه المتغيرات بالتكيف النفسي الفردي، بما في ذلك الصحة العقلية، ولكن ليس تعاطي المخدرات.

في هذه الدراسة، هناك اتجاه عام للأفراد المهمشين ليكونوا الأكثر عرضة لخطر تعاطي الكحول والمخدرات طوال حياتهم مقارنة بمقاييس AHIMSA الفرعية الأخرى. ووفقاً لبعض أدبيات الإجهاد الثقافي، فإن الأفراد المهمشين يُظهرون مستويات أعلى من الإجهاد واستراتيجيات أقل للتكيف. وعندما يقترن ذلك بأساليب التكيف غير التكيفية، فقد تزيد ضغوط الحياة من التعرض لتعاطي المواد. من ناحية أخرى، يُقال إن الأفراد المندمجين والمنفصلين متوسطون من حيث مستوى الإجهاد الثقافي الذي يعانون منه، ولكن من غير الواضح أي من هذين المستويين أقل إجهادًا من الآخر. تشير النتائج إلى أن المراهقين اللاتينيين المندمجين، وخاصة الذكور، كانوا أقل احتمالية بشكل كبير للإبلاغ عن تعاطي الكحول الحالي، مقارنة بالمراهقين المندمجين. ومع ذلك، تشير إحدى المقالات إلى العكس، حيث كان لدى الشباب المندمجين سلوكيات مشكلة أكبر، بما في ذلك تعاطي المخدرات، مقارنة بالشباب المندمجين/ثنائيي الثقافة. وعلاوة على ذلك، تشير النتائج إلى أن الانفصال، وخاصة بين الإناث، كان مرتبطاً بتعاطي الكحول الحالي الكبير.

أفادت الدراسات أنه كلما ابتعد الفرد عن ثقافة المنشأ، زاد خطر تعاطي الكحول أو المخدرات. قد يتساءل المرء عما إذا كان من الممكن أن يكون التثاقف قد اختلط بالوضع الاجتماعي والاقتصادي. إذا كان المراهقون ذوو الوضع الاجتماعي والاقتصادي الأعلى أكثر عرضة للاندماج وكان المراهقون ذوو الوضع الاجتماعي والاقتصادي الأدنى أكثر عرضة للاندماج/ثنائيي الثقافة، فقد يكون ارتفاع خطر تعاطي المخدرات بين المراهقين المندمجين نتيجة للوضع الاجتماعي والاقتصادي المنخفض وليس التثاقف. حاولت هذه الدراسة التحكم في التداخل بين الوضع الاجتماعي والاقتصادي من خلال تضمين نسبة الغرف لكل شخص كمتغير مشترك. ومع ذلك، نظراً لأن الوضع الاجتماعي والاقتصادي عبارة عن بنية معقدة لا يمكن قياسها بسهولة من خلال التقارير الذاتية للمراهقين، فمن الممكن أن جوانب أخرى من الوضع الاجتماعي والاقتصادي لم يتم التحكم فيها وأثرت على النتائج. وعلى العكس من ذلك، تشير نتائجنا إلى أن الانفصال، حيث يحافظ الفرد على ثقافة الأصل، ولكنه يختار عدم الحفاظ على العلاقات مع الأفراد من ثقافة المضيف، كان مرتبطاً بشكل إيجابي وهام بالاستخدام الحالي للكحول. أفادت إحدى الدراسات أن المراهقين اللاتينيين ذوي المستويات المنخفضة من التثاقف (أي المستويات العالية من الانفصال) لديهم بدء تعاطي المواد المخدرة واستمرار التجربة أكثر من نظرائهم ثنائيي الثقافة أو المتثاقفين بدرجة عالية. وقد وجدت دراسات أخرى أن المهاجرين الأقل تأقلماً معرضون لخطر متزايد لاستخدام المواد والكحول. وهناك حاجة إلى إجراء بحوث إضافية لفهم طبيعة الانفصال بين المراهقين الذين يعيشون في جيوب عرقية داخل مجتمع متعدد الثقافات. وعلى عكس البالغين الذين يتخذون قراراً بتجنب الثقافة المضيفة والبقاء منفصلين في جيوب عرقية، فإن الأطفال والمراهقين الذين يكبرون في تلك الجيوب العرقية لا يتعرضون لخيارات أخرى. لذلك، قد يكون الانفصال بين المراهقين انعكاسًا للفرص والتجارب المتاحة لهم، وليس قرارهم الواعي بالتمسك بثقافتهم الأصلية ورفض الثقافة المضيفة. يفتقر إلى سلوك المدمنين.

في ظل الفرص المحدودة للنجاح في الثقافة المضيفة، قد يلجأ المراهقون المنفصلون إلى تعاطي المواد أو سلوكيات مشكلة أخرى. في حين أن آلية تأثير التثاقف على تبني الكحول والمخدرات غير واضحة، فإن هذه النتائج غير المتسقة إلى حد ما تشير إلى تعقيدات التثاقف. قد تكمن التفسيرات البديلة لنتائجنا غير البديهية في حقيقة أن دراستنا استخدمت مقياس AHIMSA، وهو مقياس تثاقف جديد إلى حد ما، في حين اعتمدت الأبحاث السابقة عادةً على اللغة أو مكان الميلاد كمؤشرات بديلة للتثاقف. بالإضافة إلى ذلك، كانت عيّنة هذه الدراسة ثنائية الثقافة في الغالب، وُلِدوا في الولايات المتحدة لوالدين مولودين في الخارج، ويرتادون مدرسة ثانوية يغلب عليها الطابع اللاتيني وتقع داخل جيب عرقي لاتيني. على الرغم من أن تدفق المهاجرين الجدد إلى المجتمع قد يكون أمراً شائعاً، إلا أن زملاء المدرسة المندمجين قد يكونون أقل ميلاً إلى دمج الوافدين الجدد في شبكات أقرانهم. ونظراً لحقيقة أن المراهقين في أي مجموعة أقران واحدة يميلون إلى التشابه في العديد من الجوانب، بما في ذلك تعاطي المخدرات، فربما يعزز الطلاب المندمجون، في مجموعاتهم الخاصة، السلوك الاجتماعي ويتعرضون بشكل أكبر للفرص التعليمية والمهنية التي يمكن أن تحولهم عن تعاطي المخدرات. وعلى النقيض من ذلك، قد لا يتمكن الطلاب المنفصلون والمهمشون من الوصول إلى الأنشطة والمؤسسات الاجتماعية البديلة وقد يكونون أكثر تأثرًا بالمجتمع.

وقد يكون الطلاب المهمشون متورطين أيضاً في علاقات مع أقران يشجعون على السلوكيات المنحرفة. أو قد يكون هؤلاء الطلاب منعزلين اجتماعياً، أي أفراداً لا يشاركون في أي مجموعات أقران ويتفاعلون مع أقرانهم بدرجة أقل نتيجة لتوجههم غير الثقافي. وهناك أدلة تشير إلى أن نسبة أعلى بكثير من المدخنين الحاليين منعزلون اجتماعياً. وقد يكون هذا بسبب ارتباط المعزولين بمجموعة أخرى من الأصدقاء خارج المدرسة، وقد تؤثر هذه الصداقات على الطالب تجاه السلوكيات المنحرفة مثل تعاطي المخدرات.

لا يزال هناك احتمال بأن تكون النتائج التي إليها الدراسة مجرد حدث معزول أو خطأ. إن مقياس التثاقف AHIMSA هو مقياس جديد، على الرغم من أن بعض المقاييس الفرعية ثبت أنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمعايير الذهبية مثل مقياس التثاقف Cuellar. في الواقع، كان المقياس الفرعي للاستيعاب AHIMSA مرتبطاً بشكل إيجابي بكل من المقياس الفرعي Cuellar ARSMA-II U.S. Orientation واستخدام اللغة الإنجليزية. وعلاوة على ذلك، عند فحص الحالة الجيلية، كما هو متوقع، كان لدى طلاب الجيل الثالث درجات استيعاب أعلى بينما كان الانفصال (التوجه نحو بلد آخر) هو الأعلى بين المراهقين من الجيل الأول. من ناحية أخرى، وجد أن مقياس التهميش الفرعي AHIMSA يتمتع باتساق داخلي وتباين منخفضين، على غرار ما وجد في مقياس التهميش. وقد يكون التهميش خاصاً بمجال معين، ويختلف من يوم لآخر اعتماداً على الخبرات.

وعندما تحدث مثل هذه الخبرات، قد يستكشف الفرد نتيجة لذلك الصراع الثقافي الذي ينشأ، وبالتالي يفشل في التعرف على إحدى الثقافتين أو كلتيهما. وعلى الرغم من ذلك، ومع الأخذ في الاعتبار الأدلة على صحة البناء، يحاول AHIMSA إنشاء أفضل طريقة ممكنة لقياس التثاقف.

تسلط نتائج هذه الدراسة الضوء على الاختلافات المهمة بين الجنسين. على سبيل المثال، كانت الإناث المنفصلات (من بلد آخر) أكثر عرضة لخطر تعاطي الكحول الحالي مقارنة بالذكور. بالإضافة إلى ذلك، كانت الإناث المهمشات (من خارج أي بلد) أكثر عرضة لخطر تعاطي المخدرات حاليًا من الذكور. من ناحية أخرى، كان الذكور المهمشون أكثر عرضة للإبلاغ عن تعاطي الكحول والمخدرات مدى الحياة من الإناث. كان الذكور المندمجون أقل عرضة لاستخدام الكحول حالياً من الإناث. على الرغم من أن الأدبيات تشير إلى أن الذكور قد يكونون أكثر عرضة لاستخدام المواد من نظرائهم من الإناث، فإن أدبيات التثاقف تشير إلى أن الارتباط بين التثاقف وتعاطي المواد يظل مهماً بالنسبة للإناث، ولكن ليس بالنسبة للذكور. تظل الأسباب وراء هذا التناقض غير معروفة إلى حد كبير، ولكن من المفترض أن التعرضات المختلفة للضغوط التثاقفية، وخاصة فقدان الهوية الثقافية، حسب الجنس قد تساعد في تفسير سبب العلاقة بين التثاقف وتعاطي المواد مهمة للإناث، ولكن ليس للذكور.

تؤكد النتائج أيضاً على أهمية التأثيرات الاجتماعية في تعاطي المراهقين للمواد. كل من تأثيرات الأقران ونمذجة البالغين لتعاطي المواد تنبئ بشدة بالتعاطي. هذه النتائج مدعومة بالأدبيات.

قد تحدث سلوكيات تعاطي المواد نتيجة لقيام الأقران و/أو البالغين بتقليد تعاطي المواد، مما يجعل المواد متاحة بسهولة أكبر، ويمارسون تأثيراً متبادلاً على تعاطي المواد، و/أو التعرض للمعايير التي تشجع على تعاطي المواد.

توجد العديد من القيود الجديرة بالملاحظة في تفسير أو تطبيق هذه البيانات، بما في ذلك حجم العينة الصغير والسلوكيات الخطرة المبلغ عنها ذاتياً. بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن تعميم النتائج إلا على المراهقين اللاتينيين الذين يلتحقون بمدرسة ثانوية عامة بها هيئة طلابية لاتينية اجتماعية واقتصادية منخفضة في الغالب. وعلاوة على ذلك، فضل معظم أفراد عينة الدراسة اللغة الإنجليزية على الإسبانية عند الإجابة على الاستبيان، نظراً لأن طالبين فقط اختارا إكمال الاستبيان باللغة الإسبانية. لذلك، قد لا تنطبق النتائج على المراهقين اللاتينيين الأقل تأقلماً.

وبسبب الطبيعة المعقدة لعملية التثاقف، فقد تستفيد البحوث الإضافية من إدراج مقياس AHIMSA ، وهو مقياس مصمم لتقييم العديد من جوانب التثاقف. وينبغي للبحوث المستقبلية أيضًا التحقيق في دور معايير المدرسة والشبكات الاجتماعية بين الأقران من أجل استكشاف كيفية تأثيرها على التثاقف وتعاطي المواد، نظراً لأن مثل هذه المعلومات غالباً ما يتم نقلها بين الأقران. وعلاوة على ذلك، نظراً لأن الثقافة تتطور باستمرار ويتم إنشاؤها وتفسيرها وتوصيلها بين الأعضاء، فمن المهم إعادة النظر فيما يعنيه التثاقف و"أن تكون مثل الولايات المتحدة" لجيل ما. على سبيل المثال، تحسنت قدرة جيل اليوم على الوصول إلى الاتصالات والمعلومات والتعرض على نطاق واسع بفضل الإنترنت الذي يمنحهم إمكانية الوصول إلى أفراد من خلفيات عرقية وثقافية مختلفة من خلال وسائل مثل مجموعات شبكات الأقران القائمة على الويب. هذه النتائج، على الرغم من محدوديتها، تشير ببساطة إلى التعقيدات في عملية التثاقف وتشير إلى الحاجة إلى مزيد من البحث، بما في ذلك دمج عملية تثاقف أكثر شمولاً.

***

الدكتور حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

هذا الكتاب الذي نحن بصدده، عرضاً ونقداً وتفنيداً لمحتواه، أعني (الصورة الذاتيّة للقرآن.. الكتابةُ والسُّلطة في نصّ الإسلام المقدّس)، لمؤلفه دانييل ماديغان، هو من الأهمية بمكان بحيث لا يُخالجنا الشك مطلقاً في جدوى دراسته، فإذا كنتُ أنا شخصياً لم يسعدني الحظ بوافر سعده للحصول عليه أو قراءته من قبل، فإنّ مُجرّد الحديث عن محتواه الآن يؤمِّل الباحث في الإحاطة بموضوعه وفق منهجه المعروف، وإنْ وجِدَت الخلافات الجوهريّة بين تخريجات الغربيين، وتخريجاتنا لاختلاف الأذواق والمشارب، والخلفيّة الثقافيّة والمعرفيّة، واختلاف الأهداف والمقاصد أيضاً.

وقد تبدو غريبة تخريجات الباحثين الغربيين حول القرآن وعلاقة المسلمين به، وبخَاصّةٍ في الصدر الأول. غير أنها غرابة لمن لا يألفها، ولم يضرب فيها بسهم، أمّا من ألفها واعتاد ممارستها فلن يستغرب بضاعتهم ولم يعد يتوقع غير ما جاؤوا به.

يظهر لي أنهم يُريدون التقليل من مركزيّة القرآن باصطناع مناهج ربما لا تتماشى مع طبيعة النّص المُقدَّس نفسه، أو على وجه التحديد لا تتماشى مع طبيعة القرآن كونه وحياً؛ لأن المفروض بالبداهة المُقرّرة سلفاً أن فهم القرآن مرهونٌ بمنهجه هو لا بمنهج سواه: أعني منهج التذوق والمعايشة والحياة، ومنه إلى الإشعاعة العقليّة المستمدة من كثرة التأمل في منبع الوحي، أعني في مصدر آيات القرآن على الحضور والسّعة والاتصال بالله.

إنه؛ إذا كان القرآن كلام الله؛ فإنّ نظافة العلاقة مع الله كافية لفهم كلامه من أقرب طريق، وليس من فهمٍ على التحقيق والمرءُ بعيدٌ عن منبع الوحي ومصدر النور الذي خرجت منه بداية مشكاة الأنوار بالقرآن، ومعنى أن القرآن كلام الله هو نفس المعنى الذي يقتضي الاستمرار والدوام للكتابة الإلهيّة الخالدة، وإعادة الكتابة هذه فعل مباشر ناشط بين الله والتجربة البشريّة؛ أي فعل مباشر يؤخذ على أنه: تفاعل الله الناشط مع البشريّة.

ومن أعجب العجب عندي إنك ترى دعوات الشرقيين من الذين كتبوا عن القرآن فرأوا بإزاء التقريب بين الدراسات القرآنية وبين ما وصلت إليه الإنسانية وحضارتها يحتاج منا إلى مزيد من تنحية بعض من موروثاتنا القديمة جانباً، والتي هي ليست من ثوابت الدين وقيمة الأصيلة، ثم الإفادة من الحضارة الحديثة، وما وصلت إليه من ناحية وسائل فهم الكون، ومن جوانب مردود النظر إلى ميادين النفس الإنسانية واعتماد كثير منها مّما وصلت إليه الحضارة الحديثة ومناهجها المختلفة بعد ضبطها بمبادئ الإسلام ومقاصده الكلية.

إنه؛ إذا كانت هذه دعواتنا - نحن الشرقيين - بضرورة الانفتاح على المناهج المختلفة ممّا اصطنعته الحضارة الحديثة، وكشفت عن تقدّمها، فما لنا بعد الاطلاع على ما كتبوا من مباحث عن القرآن، وما طبقوا من مناهج؛ نتخوف من دراستها ونقدها أو الاطلاع عليها بغية المعرفة أولاً ثم النقد والتمحيص ثانياً ثم الإفادة منها اذا اقتضى الأمر ثالثاً؟! حتى إذا ما بلغت الإفادة مبلغها لزم معها النقد لا محالة فلا يوجد نقد بغير تقويم للإيجابيات وفرز للسلبيات، ومن البداهة العقلية أن العقل لا يقبل كل ما يعرض عليه قبولاً كاملاً ولا يرفضه رفضاً تاماً كذلك، ولا بدّ من أخذ ورد، وقبول ورفض.

وإزاء هذه المركزيّة القويمة (مركزيّة القرآن) هم عاجزون عن تفسير قوانينها وسِر قوتها ومكمن حيويتها، وامتداداتها الوجوديّة، وبخاصّة في الصدر الأول وما بعده، وأحياناً متخبطون، يسوؤهم ثقة المسلمين في كتابهم المقدّس، لكأنهم يريدون زعزعة استقراره من قلوبهم، وما هم بمستطيعين.

ليس المهم في اصطناع تلك المناهج ولا في تطبيقاتها، وإنّما المهم، وهو موطن الخطر، هو محاولة الباحثين الراهنين تكرار نتائج أسلافهم الغابرين بإزاء القرآن؛ لتكون هذه المناهج أو تلك مُجَرّد غطاء مشروع يتسترون خلفه ولا يميطون لثاماً عما كان من قبيل أسلافهم مُجرّد دعوى لا يقوم عليها دليل؛ كمثل قولهم: إنّ القرآن نسخة مُحرّفة من الكتب السابقة عليه، من اليهوديّة والنصرانيّة، وأن محمداً عليه السلام كان مُجرد ناقل: نقله من أساطير الأولين!

ليأتينا من بعدُ من عساه لا ينسى فيذكر: أن الكتاب يكتمل فيما تقدّم على القرآن من كتب مثل التوراة والإنجيل، ولا يكاد يكتمل في القرآن الكريم بما لست أدرى ماذا عساه يكون؟ وتجيء عبارات لا يُفْهم لها معنى واضح مثلما يردد "ماديغان" كثيراً باهتمام المسلمين الغالب بالكيان المُغلق للقرآن. ولم يوضح قصده بعبارة الكيان المغلق هذه؟!

وهذا الكتاب هو: (الصورة الذاتية للقرآن: الكتابة والسلطة في نصّ الإسلام المقدّس؛ لدانييل ماديغان. المؤلف: يامنة مرمر Yamine Mermer.

والمترجم: هدى عبد الرحمن النمر. ويقصد بالمؤلف هنا مؤلف هذه الدراسة أو هذا العرض لكتاب دانييل ماديغان، أمّا المترجم فقد عرفناه. وأما المؤلف أي مؤلفة الدراسة، فهي "يامنة مرمر" الباحثة التي تقول:

(ومن أهم الكتب التي صدرت في العقود الأخيرة غربًا حول القرآن كتاب دانييل ماديغان (الصورة الذاتيّة للقرآن)، حيث لا نجد دراسة معاصرة تتناول قضايا مثل سلطة النصّ ومرجعيته وعلاقة هذا بأوصاف النصّ عن ذاته، وبالعلاقة بين النصّ حال تنزّله والمصحف المجموع، إلا وتستعيد نتائج هذا الكتاب سواء اتّفاقًا أو اختلافًا أو تعديلًا أو تطويرًا؛ ممّا يزيد أهميّة التعريف به لباحث الدراسات القرآنيّة).

بهذه القطعة من التعبير المبالغ فيه - في تقديري - قُدّم لهذا الكتاب رغم أن هناك دراسات دلاليّة سبقته ووصلت الى نتائج أهم ممّا وصل اليها ماديغان كما رأينا فيما تقدّم في الجزء الأول والثاني من دراستنا هذه، غير أننا لا نريد أن ننهج نفس المنهج في طريقة التعبير حكماً على الكتاب، بل نتابع ما كتب عن قضاياه التي طرحها ومشكلاته التي عالجها بصبر وأناة، ولنرجئ مسألة الحكم على العمل هذه في نهاية المطاف.

قَدّمت (يامنة مرمر) في دراستها إطلالة وافيّة على أهم مرتكزات الكتاب وفكرته المحوريّة حول مفهوم "الكتاب" القرآني ودلالاته، أيضاً وفق تطبيقات المنهج الدلالي، يعني دارت الفكرة المحورية بتطبيقاتها المنهجية حول مفهوم لفظة (كتاب) كما تقرّر المفهوم في القرآن.

قالت الباحثة في إستهلالة لا تخلو من نقد موضوعي من قارئ مُلم بأسباب النزول وبكتب الأديان الكتابية على وجه العموم (كثيرًا ما يُوصَف الإسلام بأنه (دين الكتاب)، ويعتبره كثيرٌ من العلماء المثالَ الأكثر تطورًا لهذا النوع من الدّين؛ ربما لأن كلمات الكتاب تشغل مكانة مركزيّة في معتقد المسلمين وممارستهم أكثر ممّا في الأديان الأخرى. ومع ذلك، لا يُوجد كتاب فِعليّ متمركز في الشعائر الإسلاميّة؛ إِذْ إن مقاربة المسلمين لكتابهم المقدّس شفهيّة بالكامل، فالكثيرون يرتِّلون النصّ المقدّس من ذاكرتهم، ومرَّت سنوات عدَّة بعد وفاة الرسول قبل أن يتخذ شكل كتاب. وبالسؤال التالي الذي سيتم طرحه نفهم المقصود بالصورة الذاتية للقرآن تخريجاً دلاليّاً لكلمة الكتاب حسب رأي المؤلف دانييل ماديغان، ووفق تطبيقات المنهج الدلالي.

فما الذي يعنيه القرآن إذن عندما يُسمِّي نفسه بإصرار: (كتاب)، والتي تُترجَم عادة لـ (Book)؟(

للإجابة عن هذا السؤال، يُعيد دانييل ماديغان النظر في هذا المصطلح الرئيس (كتاب)، كما يَرِد في وصف القرآن عن نفسه. ومن ثَمّ، فمهمَّة هذا المُصنَّف (الصورة الذاتية للقرآن) أن يُسلط الضوء على الدلالات المركّبة لـكلمة (كتاب) في القرآن ولغة كتابته، كما "يسمح بتفسير مفهومه الخاصّ ويتحدّث عن نفسه".

ولتمييز مفهوم القرآن المخصوص للكتاب، يتبنَّى ماديغان استراتيجية مزدوجة: إعادة تقييم الإجماع الذي طالما عقده علماء الإسلام والدارسون الغربيون على حدٍّ سواء عن الكيفية التي يُصوِّر القرآن بها نفسه، وتحديد مقاربة بديلة لا للخبراء في دراسة الإسلام فحسب، بل لكلّ مهتم بالدراسات المقارنة للنصوص المُقدّسة والهرمنيوطيقا.

هكذا تقول الباحثة "يامنة مرمر" عن كتاب الصورة الذاتية للقرآن لدانييل ماديغان، إذْ أرادت أن تتحدّث على لسانه لتستنطقه بما ليس يبديه مع أني لا أعتقد أن النّص القرآني - وفقاً لفكرة كتابي الذاتيّة الخاصّة للقرآن الكريم - لا يقدّم صورة عن ذاته بمقدار ما توجد فيه خصائص ذاتية توجد فيه هو، ولا توجد في سواه، فهذه الخصائص الذاتية نتاج التفاعل الحركي بين القارئ والنص، إذ النّص في ذاته صامت، لا يقدّم عن نفسه صورة ذاتية، وإنما الذي يستنطقه هو القارئ الفاعل، وإذا اختفت تلك الفاعليّة كحركة باطنة حيويّة ذهبت بالخاصّة الذاتية للقرآن في نفس صاحبها، وفي ذاته أيضاً، ومثل هذا التفاعل الحيّ بين النّص القرآني والقارئ هو الذي يخلق عالماً من المعاني واللطائف الروحيّة قلما يخلقه تفاعل آخر بين نصّ وقارئ، حتى إذا ما قلت مثلاً: القرآن كائن حي فقد وصفت الحياة للقرآن ولمن يتفاعل معه، ولمن يتجاوب ويخلق من العوالم معه كل ما هو جديرُ بالحياة، فالكلمات في ذاتها تحيى بمن يحييها ولا يسلبها الحياة سوى من ماتت فيه روافد الحياة.

إذا تقرّر لدينا هذا فأين هى السلطة في نصّ الإسلام المقدّس؟

إذا كان هناك ثمة سُلطة فهي سلطة القارئ يستوحيها من حركة التفاعل مع النّص، فهي سلطة مكتسبة بإزاء التفاعل الحركي فيما هو مشروط أمامه. ولا أعتقد أن صاحب كتاب الصورة الذاتيّة للقرآن يقصد هذا المعنى بوجه من الوجوه.

وتتابع الباحثة أن ماديغان يوضح من البداية أنه يتعامل مع النصّ القرآني بوصفه كُلًّا متماسكًا؛ "لأن هذه هي الطريقة التي يعمل بها داخل المجتمع الذي يُقدسِّه - ينظر له كمصدر للمرجعيّة والسُّلطة - ويستمد منه الهدى. إنّ مفهوم الكتاب موضوع جامع يُعلِن ويؤكد على ذلك التماسك".

وفي المجمل؛ يتبنَّى ماديغان مقاربة نقديّة، وينظر بعين الشك إلى الدلالات المباشرة للكلمات المشتقة من الجذر العربي (ك - ت - ب)، ويأخذ في الاعتبار أقصى ما يمكن تحصيله من دلائل، سواء في النصّ القرآني أو في أجزاء مختارة من التقليد الإسلامي تتعلّق بمجال معانيهم الأول.

ويبدأ بملاحظة أن القرآن يستعمل الكلمات المشتقة من الجذر (ك - ت - ب) في الغالب؛ ليشير ليس للقرآن نفسه، بل لظاهرة مختلفة، مثل إثبات كلّ ما هو مقدور مُسبقًا، في مثل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ كِتَٰبًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِۦ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَة نُؤْتِهِۦ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِى ٱلشَّٰكِرِينَ} (آل عمران ١٤٥) أو قوله تعالى: {كَتَبَ ٱللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا۠ ورسلي ۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ} (المجادلة ٢١).

أو للأحكام الإلهيّة، في مثل قوله تعالى: {قُل لِّمَن مَّا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ قُل لِّلَّهِ ۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓا۟ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } (الأنعام ١٢). أو قوله تعالى: {وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـَٔايَٰتِنَا فَقُلْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ ۖ أَنَّهُۥ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوٓءًۢا بِجَهَٰلَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنۢ بَعْدِهِۦ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُۥ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام ٥٤).

أو تقرير ما هو موجود، في مثل قوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا۟ مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا فِى ٱلسَّمَآءِ وَلَآ أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكْبَرَ إِلَّا فِى كِتَٰبٍ مُّبِينٍ} (يونس ٦١)، أو قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى ٱلْأَرْضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِى كِتَٰبٍ مُّبِينٍ} (هود ٦). أو إثبات أعمال المرء الحسنة والسيئة في مثل قوله تعالى: {لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓا۟ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ ۘسَنَكْتُبُ مَا قَالُوا۟ وَقَتْلَهُمُ ٱلْأَنۢبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا۟ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ}(آل عمران ١٨١).

أو قوله تعالى: { وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً مِّنۢ بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ في ءَايَاتِنَا ۚ قُلِ ٱللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا ۚ إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} (يونس٢١).

والكثير من الدارسين يُحمِّل تلك التصنيفات ما تعلَّمَه عن مفاهيم مماثلة في سياقات دينية أخرى، وبالتالي فهموها على أنها كتابات منفصلة. ومع ذلك، يحاجج ماديغان بأن هذه المقاربة لتصنيفات الكتابة تُخفِق في إدراك أن فكرة الكتابة المُثبَتة في القرآن تظهر عدم تحدّد بشكل استثنائي؛ فجزء ممّا يكتبه الله تشريعي، وبعضه يتألّف من أحكام، بينما باقي الكتابة وصفيّة فحسب، وقدر كبير منها يختصّ بالوحي وشرح طبائع الأشياء، بينما في أحيان أخرى، يكشف اللهُ شيئًا عن ذاته بالكشف عما (كُتب) لنفسه.

مع ذلك، وسط كلّ هذا التنوع، ثمة وحدة لا جدال فيها في فكرة الكتابة الإلهيّة. ووفقًا لماديغان، فإنّ استخدام مصطلح وحيد (كتاب) لوصف العديد من جوانب هذه الظاهرة، يشير بذاته لوحدة «تتجاوز مجرد فكرةٍ ما عن مكتبة أو أرشيف».

ومن ثَمّ، يخلص إلى أن مصطلح الترجمة المقبولة عمومًا (Book) لا تُوفي حقّ تعقيدات المصطلح القرآني (كتاب). ويقترح ماديغان أن تكون الترجمة (كتابة writing) عوضًا عن (Book)، ولو مع بعض التحسينات.

هذا كتاب يقرّر في جوهره أنه مُلْزِم ومكتمل وكذلك مبنيّ ومنظم. وتضارب هذه الدعوى الضمنيّة مع الشكل الفعلي للنصّ القرآني هو ما حَدَا بالكثير من الكُتَّاب الغربيين أن يفترضوا أن إنتاج (الكتاب) المُتخيَّل لم يُستكمَل ولا تمَّ.

تلك كانت فكرة الكاتب عن (الصورة الذاتية للقرآن: الكتابة والسلطة في نصّ الإسلام المقدّس) خلال تطبيق المنهج الدلالي على جذر الفعل (كتب) لتصبح مادة الكتاب، وهى الكتابة نفسها، هى الباقية منه.

معنى ذلك؛ أنّ النّص قابل للكتابة والزيادة والإضافة والتطور والتعديل. وعندي أنا أنه قابل لذلك من جرّاء التفاعل الحركي مع قارئه فهو وحده (أي القارئ) من يمتلك الكتابة ثم الزيادة في امتدادات المعنى، والإضافة إلى ذاته المحدودة ذوات نورانيّة يستمدها من النّص القرآني ويعتمدها في ذاته، ليصعد مع التطور في إرتقاءاته الروحيّة والوجوديّة بعد تعديل مساراته وتطوير مسالكه تبعاً لتوجُّهات الكتاب.

ومن غير المقبول لدينا بداهةً أن يُقال أولاً أن القرآن يستعمل الكلمات المشتقة من الجذر (ك - ت - ب)؛ ليشير ليس للقرآن نفسه، بل لظاهرة مختلفة، ثم يراد بتلك الظواهر المختلفة آيات كريمة من القرآن الكريم، حتى إذا ما فصلنا هذه الآيات القرآنية باعتبارها مجرد ظواهر مختلفة عن الكتاب لم نشأ أن نجعل لها جذوراً في القرآن الكريم نفسه، فهي خاصة ذاتية من القرآن لا من مصدر سواه، القران هو الذي وصف تلك الظواهر وحدد مهماتها والقران هو الذي اشار الذى خصائصها وسماتها، حتى ولو كانت الكلمة المراد منها التعقيب هى جذر الفعل كتب.

ومن غير المقبول لدينا بداهةً أن يقال ثانياً إن الشكل الفعلي للنص القرآني قاصر لم يكتمل بعد، ناقصٌ يفتقر إلى التمام؛ اعتماداً على خيال بعض الكُتّاب الغربيين الذين افترضوا أن إنتاج الكتاب المُتخيَّل لم يعد كاملاً، والقرآن يقوم على خاصة ذاتية تقول بصراحة لا مواربة فيها: (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي، ورضيتُ لكم الإسلام ديناً). ففكرة نقص التمام والانتقاص من الكمال هى فكرة فارغة من الدلالة لا يعتد بها مع تضاربها وقصور معطياتها، هذا اذا كانت لها معطيات ذات قيمة أو معنى.

تمضي الباحثة "يامنة مرمر" في عرض فصول كتاب ماديغان، ليأتي الفصل الأول، يوضح فيه ماديغان كيف أن هذا الافتراض عن البنية والشكل المناسبين للقرآن لا ينبعان من دراسة الوحي القرآني نفسه، وإنما ممّا يعلمه الدارسون عن بنية النصوص المقدّسة الأخرى ووظيفتها؛ فوفقًا لأولئك الدارسين، لكي يكون (الكتاب) بمثابة السجل الكامل للوحي ودستورًا تشريعيًّا للمجتمع، ينبغي أن تكون له بنية أكثر انتظامًا.

ومع ذلك، لا يجد ماديغان أيّ تلميح في النَّصّ أو التقليد عن أيّ نواقص في القرآن، أو أيّ إشارة إلى أنّ بنيته كانت مُشْكِلة من أيّ وجهٍ وقت وفاة الرسول.

ويقتبس ماديغان من ويلفريد كانتويل سميث الذي يقرّر أن: "المسلمين، من البداية حتى الآن، هم تلك المجموعة من الناس التي تلاحمت حول القرآن". بل ويذهب لأبعد من ذلك في ملاحظته، قائلًا: "تشير الدلائل إلى أنهم ألتحموا حوله حين لم يكن مكتملًا بعد، حين كان ما يزال شفهيًّا وسيروريًّا. لقد ألزموا أنفسهم بالإيمان بإله بدأ تواصلًا مباشرًا معهم، وتجمّعوا حول التلاوات بوصفها عهدًا يُوصّل الهدى من الله لهم، لا لكونها كيانًا نصيًّا محدّد المعالم ومغلقًا بالفعل".

يركز الفصل الثاني: على دحض القرآن نفسه لدليل قيمة الكتابات السماويّة، ورفضه للسلوك على أنه نصّ مدوّن ومغلق بالفعل، ويؤكّد أيضًا على إصرار القرآن أن يظلّ مفتوحًا ومتجاوبًا، ليصير بمثابة صوت الله مستمرًا في مخاطبة البشريّة.

علاوة على ذلك، يشدّد ماديغان على أن (الكتاب) المقصود في القرآن لا يمكن خلطه بتصوّر كتاب معتاد؛ لأن حدود معالمه ليست متبلورة قطعيًّا: فليس من الواضح تمامًا ما إذا كان النصّ (القرآن) هو (الكتاب) كلّه أم جزء منه، وما إذا كان واحدًا من بين كُتُب أم الوحيد. حقًّا إنّ القرآن لا يُعرِّف نفسه بوصفه الكتاب؛ إِذْ يستخدم ضمير الغائب عند الإشارة إليه، والتصريح به، والدفاع عنه، وتعريفه.

حتى الآن، لا يتكلم القرآن عن الكتاب ببساطة باعتباره شيئًا ثابتًا ومنفصلًا؛ لأن تلاوة القرآن هي الوسيلة الوحيدة التي ينجلي بها الكتاب ويتفاعل مع الإنسانيّة.

وهكذا ينتهي ماديغان إلى أن القرآن لا يهتم كثيرًا بالكتابة بوصفها مجرد شكل للكلمة الإلهية، بقدر ما يعنى بمصدر تأليفها وسلطتها وصحتها. ودعوى القرآن عن كونه الكتاب إنما هي مطالبة بالسلطة والمعرفة أكثر من كونها تقريرًا بسيطًا عن شكل احتوائه النهائي.

يعالج الفصل الثالث مهمّة تعيين الحقل الدلالي للغة (الكتابة) في القرآن، في ظلّ الفهم الدقيق لكيفية عمل رمز كتاب في الخطاب القرآني. يبدأ ماديغان بتوطئة تدرس خلفية تحليل (الحقل الدلالي)، وتحليل بعض من تطبيقاته في سياق الدراسات القرآنيّة.

في الفصول الثلاثة التالية، يقدّم ماديغان تحليلًا دلاليًّا مُفحمًا عن وعي القرآن بذاته. فيُحاجج بأن القرآن يرى نفسه لا على أنه كتاب أكتمل، بل عملية مستمرة من الكتابة الإلهية وإعادة الكتابة؛ أي: على أنه تفاعل الله الناشط مع البشريّة، ويبرهن كذلك على تغلغل ظاهرة الكتاب في الخطاب القرآني، ويؤكد في ذات الوقت على خاصيّة البُعد عن التحدُّد فيه. بل إن الفصل السابع في الواقع يستعرض كيف أن ذلك البُعد عن التحدُّد هو سبب عدم إمكان فهم الكتاب باعتباره كيانًا مغلقًا جامدًا.

بمجرّد أن يتم إنتاج كتاب، فإنه يتواجد بشكلٍ مستقلٍّ عن مؤلفه، إلا أن المجتمع المسلم تمتع دائمًا بشعور حيوي عن دوام اتصال المؤلف بمستمعيه، والفصل الختامي يهدف لبيان السُّبل التي من خلالها ظلّ مفهوم الكتاب الأوسع والأكثر ثراءً فعالًا في الإسلام، رغم اهتمام المسلمين الغالب بالكيان المُغلق للقرآن.

يُلاحظ "ماديغان" أنّ قبول المصطلح التقليدي (كلام الله) باعتباره المفتاح لفهم الوحي، هو على الأرجح وسيلة للهروب من مصطلح (كتاب)، الذي صار مرتبطًا في الغالب بـ (المصحف). أما مصطلح (كلام) فيوفر المرونة والتجديد والتجاوب الذي يحظى به (الكتاب) في النّصّ القرآني، وإن لم يعد كذلك في التقليد.

تشكّل (الصورة الذاتية للقرآن) إسهامًا كبيرًا في دراسة القرآن، وفهم الإسلام من داخله، وقد بنَى المؤلف دانييل ماديغان خلاصاته على قراءة مقنعة للقرآن ونصوص رئيسة أخرى، وبنى تركيزه على المصطلح الرئيس (كتاب) على أسس صحيحة، فهو يلعب دورًا مصيريًّا في تعريف طبيعة النصوص المقدّسة، وكذلك مهمّة الرسول، والطريقة المخصوصة لتواصل الله مع البشريّة، والعلاقة بين الخالق والخلق، وصلة الإسلام بالأديان الأخرى.

وعلى الرغم من القبول الواسع الآن لمبدأ أن القرآن ليس مُعتمِدًا نصيًّا على ما سبقه من نصوص مقدّسة، إلا أنه لا يزال يُفترض في كثيرٍ من الأحيان أنه أطلع على محتواها ولو جزئيًّا على الأقل، ونادرًا ما يُقترح أنّ القرآن يمكن أن يعكس الدور الذي لعبته الكتب المقدّسة الأخرى داخل مجتمعاتها في وقت ومكان ظهور الإسلام.

وهكذا، تسلط مقاربة ماديغان للقرآن الضوء على الكيفية التي بها يمكن للقرآن في حقيقة الأمر أن يوضح الطريقة التي ينظر بها لـ (أهل الكتاب) فيما يتعلق بـ (كتبهم).

وفي الملحق، يتحوّل ماديغان إلى الوحي والمصطلحات التي يُعرِّف القرآن نفسه بها، ليرى ما إذا كانت فكرة الكتاب التي نشأت من تحليله الدلالي ستكون ذات معنى لدى الآخرين الذين عرّفتهم ظاهرة الكتاب، ويؤمّل أن هذه المحاولة للقراءة (من) القرآن ما تعلَّمه المسلمون من أهل الكتاب الذين اتصلوا بهم، ستمهِّد الطريق لحوار جديد وإيجابي بين هذه الأديان.

بالإضافة لذلك، تأكيد ماديغان على فهم (الكتاب) باعتباره إمارة على الاتصال بمجمل خطاب الله للبشرية بدلًا من كتاب ساكن ومحدد غاية في الأهمية؛ لأنّ الدعوى الضمنية بالكلية والاكتمال المشمولة في كلمة (كتاب) قد تمهد الطريق أمام (الأصوليّة)، التي تحد حدود كتاب الله بحدود النصّ المُتلقَّي.

ومثل هذا الفهم قد يغدو ذا خطر؛ إِذْ لو تخيّل المرء نفسه في حيازة كاملة للحكمة والمعرفة، بدلًا من كونه متصلًا بالمعرفة من الله، فقد يدَّعِي الهيمنة على فهم الوحي.

وعلى هذا، فمقاربة ماديغان المدروسة جيدًا للقضية المعقّدة الخاصّة باصطلاحات المرجعية الذاتية للقرآن ليست في الحقيقة قراءة جديدة للنصّ، إنها بالأحرَى قراءة متأنية تستند إلى فكرة أنْ ثمة وحدة يرتكز عليها استعمال القرآن للجذر (ك - ت - ب).

قد تظهر مثل هذه القراءة على أنها خروج راديكالي عن النهج الإسلامي التقليدي، إلّا أن الأخير يؤيِّد - ضمنًا في أوجُهٍ عديدةٍ - الموقفَ الذي تبَنّاه ماديغان.

كشَف (الصورة الذاتية للقرآن) النقاب عن الوعي الذاتي المُميِّز للقرآن: فهو يلاحظ ويناقش عملية الوحي الخاصّ به؛ ويؤكِّد على سلطته ويتخذ مكانته في تاريخ الوحي. إنَّ فهم هذا البُعد الديناميكي للقرآن ضروري لفهم الإسلام والهويّة الإسلامية.

من وجهة النظر هذه أيضًا، يعدُّ كتاب ماديغان مصدراً مفيداً للغاية، ليس فقط للخبير في دراسة الإسلام، بل كذلك لكلّ مهتم بدراسة النصوص المقدّسة والهرمنيوطيقا، أي تأويل النصوص المقدّسة.

وتختم الباحثة دراستها بقولها إنّ (الصورة الذاتية للقرآن) طفرة كبيرة، لا في مجال الدراسات القرآنيّة فحسب، ولكن الأهم من ذلك في هرمنيوطيقا النصوص المقدّسة. ومضمونه يمثل تحديًا للمعرفة الغربية التقليدية حول الإسلام، وكذلك للأعمال التي كتبها علماء مسلمون (تقليديون).

تعقيب:

الدراسة مفيدة وجادة وتستحق الاهتمام، وإن كنا نختلف مع دانييل ماديغان من عدّة أوجه ذكرنا أكثرها، ونزيد عليها اختلافاً جوهريّاً قائماً منذ البداية؛ وهو إنه لم يتناول القرآن تناول إحاطة من جميع جوانبه، ليظهر لنا صورته الذاتية، عساه يعرّفنا ما المقصود من وراء هذه الصورة، ولكنه قصر نفسه على تطبيق المنهج الدلالي لمعنى الكتاب، ومن هذه الجزئية المحدودة بنى عليها نتائج تجعل للقرآن صفات ذاتية، وربما يسلب عنه صفاته الذاتية الحقيقة التي لم يكن يصل إلى معرفتها إلا المؤمنون حقيقةً. إنما الاقتصار على تطبيق منهج واحد فقط ثم الادعاء بكشف خصائص ذاتية أو صفات ذاتية للقرآن ظلم كبير ودعوى لا يقوم عليها دليل. لا يكفي الاعتماد على منهج واحد...... للمحطة بالصورة آل  الذاتية للقرآن.

لكن عذره أنه يكتب للعقلية الغربية، وينزع فعل القداسة من كتاباته عن القرآن ليوليها منهجه الدلالي وكفى، فهو يقدّس ما عساه يبحث فيه ولا يرى قداسة للموضوع الذي يعانيه.

ولن يؤسفنا أن نقول إنّه ليس في الغرب السياسي، ناهيك عن الغرب الثقافي، من يتذوق معاني القرآن ودلالاته من منبع الوحي المحمديّ بمذاقاته ومشاربه، وعلى الخاصّة المحمديّة، ومعايشة القرآن كما ينبغي أن يُعاش إلا في القليل النادر مع سلامة النية وصدق الإخلاص. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم

ماهية التربية

كيف أربّي إبني، وما الذي يمكنني أن أعلّمه إياه في خِضَمّ الحياة الحاضرة، الذي يموج بكل ألوان المؤثرات الصالحة والطالحة، الخيّرة والشرّيرة، المغرية وغير المغرية، الحقيقية والمُزيَّفة؟

كيف أكون مربّيا حقيقيا في عصر التحدي التكنولوجي والذكاء الاصطناعي؛ عصر التحوّل، والتجديد، والتغيير اللحظي الذي قلب الحياة على عقب وبدّل فيها كل شيء؟

نموذجان لتساؤلات كثيرة يطرحها آباء وأمهات اليوم العاجزون بكل ما تعنيه الكلمة عن مواجهة متغيرات الحياة السريعة في تربية وتهذيب أبنائهم.

موضوع التربية من الموضوعات الجادة في مجتمعاتنا، لا يمكن تناوله بهذه العجالة، ولا تختصره هذه الصفحات بل هو واسع جدا، ومختلف من بلد لآخر، ومجتمع لآخر تبعا لظروف كل بلد، ومجتمع، وتقاليده، وثقافاته، وأديانه، وعاداته، وقيمه. وطرحه مختلف من فرد لآخر تبعا لنوع التخصص، والخبرة التربوية، فضلا عن عامل التطوّر التقني في مجال التربية والتعليم الذي ليس آخره الذكاء الاصطناعي.

التربية مهمة دقيقة فيها يتم تكوين الإنسان وإعداده للحياة الخاصة والعامة. كل مربٍّ منا في مختلف المجتمعات البشرية له فن خاص في منهجه التربوي المختلف عن الآخر؛ لكن المنهج التربوي في المؤسسات التربوية والتعليمية في كل بلد موحّد كونه يعتمد على مناهج مكتوبة يعدّها متخصصون في مختلف الحقول المعرفية.

في طرحي لموضوع التربية اعتمدتُ على نظريات وآراء علماء التربية والنفس والاجتماع السابقين واللاحقين من الشرق والغرب اعتمادا على الطبيعة البشرية، التي قد تتحد في صفات، وتفترق في أخرى. ويمكن القول:

إن نظرياتهم تلك أرست أسس التربية والتعليم الحديثين رغم أنها صدرت بقرنين أو أكثر ما قبل القرن العشرين، وربما تصلح للعقود الأولى من القرن الحادي والعشرين، وقد لا تصلح للعقود اللاحقة، فضلا عن ذلك اعتمدت على تجاربي التربوية، وتجارب المجتمع الذي أعيش فيه، فشخّصتُ ثغرات وإشكاليات أيضا في التربية التقليدية، وطرحتُ آراء تربوية جديدة للمربي الحديث. ولعل طرحي من بين مئات الطروح التي آتت أم لم تؤتِ ثمارها عند المربين، وقد تكمن فيه بعض الفائدة لآباء وأمهات اليوم.

يمكنني الشروع بشكل مباشر في موضوع التربية الحديثة دون التعرّض لموضوع التربية التقليدية الذي أتمنى أن يحظى مني بمحاولة أخرى للكتابة فيه بإذنه تعالى،  وتعليم الأبناء في العصر الحاضر المتغير، الذي يكتنفه الكثير المتحقق، وربما غير المتحقق.

ماهية التربية عند بعض علماء العرب

نستعرض آراء لبعض نماذج علماء عرب تربويين؛ منهم مسكويه؛ أحمد بن محمد بن يعقوب(320-420هـ)؛ إذ يطرح رأيه في التربية قائلا: "هي تعليم مستمر يشمل الإنسان بعمره كله"[1]. ويطرح مسكويه نظريته في مربي الفرد بقوله: "على مدبر المدن أن يسوق كل إنسان نحو سعادته التي تخصه، ثم يقسّم عنايته بالناس، ونظره لهم بقسمين: أحدهما في تسديد الناس وتقويمهم بالعلوم الفكرية، والآخر في تسديدهم نحو الصناعات والأعمال الحسية"[2] .

حجة الإسلام أبو حامد الغزالي(450-505هـ) يستعرض فلسفته التربوية بهذه المقولة حينما "يصف الطفل بأنه أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة"، لذا على المربي أن يرشده بأمانة وإخلاص ومراعاة شعوره فيقول: "إن الطفل المستحي لا ينبغي أن يُهمل، بل يُستعان على تأديبه بحيائه وتمييزه، ويرى ألاّ يُؤخذ الطفل بأول هفوة، بل يُتغافل عنه، ولا يُهتك ستره، ولا سيما إذا ستره الصبي، واجتهد في إخفائه.[3]"

عالم الاجتماع ابن خلدون(732-808هـ) يطرح في مقدمته فلسفته التربوية قائلا: "من كان مرباه بالعسف والقهر- من المتعلمين أو المماليك أو الخدم- سطا به القهر وضيق عن النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث- وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه- وعلمه المكر والخديعة لذلك. وصارت له عادة وخلقا، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن؛ وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالا على غيره في ذلك. بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين" [4].

يعرّف التربية السيد محمد بدوي أستاذ علم الاجتماع (جامعة الاسكندرية- مصر) بأنها: "التنمية والتقوية -أي تعهد أي شيء بالرعاية؛ ففي محيط الإنسان تتضمن التربية الوسائل التي تنمي ملكاته وقواه معا، ومن هذه الوسائل: التربية البدنية، والتربية العقلية، والتربية العلمية، والتربية المهنية، والتربية الفنية، والتربية الاجتماعية الوطنية، والتربية الإنسانية، والتربية الأخلاقية، والتربية الدينية "[5].

كميل الحاج في موسوعته الميسرة أورد تعريفا للتربية والتعليم قائلا: "التربية عملية إعداد الطفل ليصبح مؤهّلًا لمواجهة متطلبات الحياة، ولكي يصبح مهيًّأ ليعيش ضمن الجماعة. ومن شروط التربية الصحيحة أن تُنَمّى شخصية الطفل من الناحية الجسمية، والعقلية، والخلقية، وإعطاؤه القدرة لإصدار أحكام حرة وشخصية" [6].

الدكتور عبد المنعم الحفني في موسوعته الفلسفية أورد تعريفا للتربية قائلا: "وفي الاصطلاح التربية هي تدريب مختلف الوظائف النفسية، وتقوية القدرات، وتنمية الملكات حتى تبلغ كمالها شيئا فشيئا. والمربي هو المؤدِّب الذي يروّض على محاسن الأخلاق والعادات. وقد يترك فيها الطفل على سجيّته ليتعلم من نشاطه القصدي، ويقوم المذهب التربوي على فكرة أن الإنسان كائن حي تتغير طبيعته بتأثير غيره، وبمؤالفة ظروف بيئته، وأنه بالتربية يمكن تطويع هذه الطبيعة لما فيه خيره وخير بيئته. وأن الوراثة عنصر فعال في تكوين الشخصية لكن التربية هي المعوّل عليه في توجيه الصفات الوراثية وتوظيفها اجتماعيا" [7].

ماهية التربية عند بعض علماء الغرب

في كتابه (إميل) يطرح جان جاك روسو الفيلسوف السويسري الفرنسي (1712-1778) نظريته في التربية مقسِّما مراحلها إلى خمس؛ الأولى تبدأ من بعد فطام الطفل أي من بعد عامين حتى الخامسة من العمر؛ مركّزا على احتضان الطفل ليتحقق النمو البدني له، وتلبية رغباته وحاجاته الطبيعية، ومنحه المزيد من الحرية الحقيقية، فالمرحلة الأولى يسميها التربية السلبية؛ لأنها تترك الطفل وفق طبيعته الخيرة دون تدخل من إرادة المربي كي تكون له حرية الإرادة والاستقلالية. أما المرحلة الثانية فتبدأ من سن الخامسة حتى الثانية عشرة حيث تعتمد على تمرين حواس الطفل وتقوية جسمه من خلال احتكاكه بالطبيعة؛ ليكتسب التجارب دون تدخل المربي أو تعليم العلوم الجاهزة. أما المرحلة الثالثة فتبدأ من سن الثانية عشرة إلى الخامسة عشرة، فيها يبدأ المربي بتعليم الطفل المعارف الجاهزة من المناهج المعدة معارف نظرية وتطبيقية، علوم لغات، أو رياضيات، وغيرها. المرحلة الرابعة وتبدأ من سن الخامسة عشرة إلى العشرين، حيث يرى أن مدارك الطفل قد نضجت في هذه المرحلة فلا بد من تعليمه المفاهيم والأمور الدينية، وتعليمه العلاقة العاطفية والجسدية بين الجنسين، وكيفية الانخراط والتأقلم في المجتمع. المرحلة الخامسة حيث تبدأ في سن العشرين التي وصل فيها إلى عمر الزواج من شريك أو شريكة الحياة، حيث يلتقيان ليتشاركا ويتداولا أمورهما الحياتية المختلفة التي تفضي إلى الزواج المستقبلي. نستنتج من كل ما تقدم أن آراء روسو التربوية أحدثت ثورة في مجال التربية حيث أعادت للطفل مكانته ودعت إلى احترام خصوصياته الجسدية والنفسية والعقلية والاجتماعية، فكانت آراءه قد (شكلت قطب الرحى في منهاج التربية الحديث، وارتكزت المناهج التربوية الحديثة من بعد فلسفة التربية لروسو على رغبات الطفل وحاجاته كعنصر أساسي في بناء التعليمات)[8].

الفيلسوف الألماني أمانويل كانط (1724-1804م) يرى "أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يحتاج إلى تربية ونعني بالتربية العناية(الاهتمام)، والتعليم، والتنشئة الأخلاقية". ويعتبر كانط التربية " فن ينتظم وفق أبعاد أربعة، الانضباط، ويقتصر دوره على ترويض الهمجية الكامنة في بنية الإنسان، والتنشئة من اكتساب المهارات، والمدنية التي تسمح للإنسان بالتكيف مع المجتمع الإنساني، والأخلاق؛ وهي النقطة الأخيرة التي تندرج في توجه فكر كانط الأخلاقي الذي يقود إلى الغايات الحسنة"[9].

دوركايم عالم الاجتماع الفرنسي (1858-1917) يعرّف التربية ب"أنها الفعل الذي تمارسه الأجيال الراشدة على الأجيال التي لم ترشد بعد من أجل الحياة الاجتماعية".[10]

جون ديوي عالم الاجتماع الأمريكي(1859-1952م) يعرّف التربية قائلا: "إن التربية هي مجموعة العمليات التي بها يستطيع المجتمع أن ينقل معارفه وأهدافه المكتسبة ليحافظ على بقائه، وتعني في الوقت نفسه التجدد المستمر لهذا التراث، وأيضا للأفراد الذين يحملونه، فالتربية هي عملية نمو وليست لها غاية إلاّ المزيد من النمو، إنها الحياة نفسها بنموها وتجددها" .[11]

برتراند رسل الفيلسوف الإنكليزي المعاصر(1872-1970) يطرح رأيه في التربية معتمدا على أسس أربعة في إعداد النشء يرى أنها "أساس الخلق المثالي: الحيوية، والشجاعة، والحساسية، والذكاء"، بواسطتها يُعنى بالنشء من النواحي البدنية والعاطفية والذهنية[12].

يعرّف التربية متخصص علم النفس الدكتور داكو بيير(1936-1992) تلميذ عالم النفس كارل يونغ قائلا "هي عملية تقوم على ضرب من (الترويض)؛ أي على فرض بعض المنعكسات على الطفل، إن جزءا من هذه المنعكسات يتأصل إلى الأبد، جيدة كانت أم سيئة". والتربية هي عملية توفيقية بين العناصر الثلاثة التي تقوم عليها المتمثلة با "الأب، الأم، الطفل". ولا يمكن لأية عملية تربوية أن تكون كاملة في كل عناصرها لأن الأمراض السيكولوجية للراشدين قائمة في الوسط العائلي الذي تربوا فيه، ومن البداهة أن الحالة هذه ليست عامة في كل المربين، فالتربية هي سلسلة واسعة من النقل، وينبغي أن تكون كل حلقة من حلقاتها في أقل قدر ممكن من النأي عن الكمال[13].

لكن "مرتكزات التربية الأربعة" التي جاء بها التقرير الذي أعدته منظمة (اليونسكو) التابعة للأمم المتحدة في القرن الحادي والعشرين التي ترأسها جاك ديلور؛ هي: "تعلم اكتساب المعرفة، تعلم ممارسة المعرفة، تعلم طريقة وجود، تعلم العيش معا[14].

إذا أردنا العمل ببنود التربية لمنظمة "اليونسكو" في بلداننا فإننا نكون بحاجة ماسة إلى ثورة ثقافية تشمل تغيير طرق التربية والتعليم، والمناهج التعليمية في كل المراحل الدراسية من الابتدائية إلى الجامعة.

بعد هذا الاسترسال في كشف معنى التربية يمكنني القول:

إن التربية هي عملية إعداد الفرد وفق معايير سلوكية عائلية تبدأ في الأسرة على مرحلتين؛ الأولى من الولادة حتى الثالثة من العمر، والثانية من الثالثة حتى السادسة باعتباره كائنا بيولوجيا حديث الولادة والنشأة له متطلباته المادية والمعنوية، ووفق معايير سلوكية اجتماعية عامة في المجتمع العام الواقعي باعتباره كائنا اجتماعيا، وبيئية باعتباره كائنا حيا تشاركه الطبيعة الكائنات الحية الأخرى من حيوان ونبات، ضمن ثلاث دعامات أساسية؛ هي الحضانة، والرعاية، والتربية والتعليم والتهذيب؛ من النواحي الجسدية، والنفسية، والعاطفية، والعقلية، والدينية، والاجتماعية، حسب ثقافة المجتمع الذي يعيش بين ظهرانيه، متضمنة أديانه، ومعتقداته، وأفكاره، وثقافاته، ومثله، وأخلاقه؛ ووفق أخلاقيات ومعايير العالم الرقمي في المجتمع الافتراضي باعتباره كائنا تكنولوجيا. فالتربية هي إعداد الفرد إعدادا كاملا سليما متوازنا في المحيطات الثلاثة المذكورة (العائلة، المجتمع العام، العالم الافتراضي)، متضمنة ثلاثة عناصر مهمة؛ هي المحيط، والوسيط التربوي، وأدوات التربية.

نسلّط الضوء على ثلاثة موارد في تربية طفل اليوم؛ هي:

أولا: التربية الحديثة؛

ثانيا: التعليم الحديث؛

ثالثا: أثر تكنولوجيا المعلومات في تربية وتعليم جيل اليوم. (يتبع)

***

إنتزال الجبوري

..........................

[1] الهلالي، عماد (دراسة وتحقيق). مسكويه. تهذيب الأخلاق. بيروت- بغداد: منشورات الجمل، ط1، 2011،ص204.

[2] نفس المصدر والصفحة.

[3] أيوب، محمد شعبان. موقع قناة الجزيرة (9/7/2017) (ميدان).

[4] إبن خلدون. المقدمة، ص540.

[5] بدوي، السيد محمد. الأخلاق. دار المعرفة الجامعية، 2000، ص15-16.

[6]  الحاج، كميل. الموسوعة الميسرة في الفكر الفلسفي والاجتماعي. بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، ط1، 2000، ص148.

[7] الحفني، د. عبد المنعم. المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة. القاهرة: مكتبة مدبولي، ط3، 2000، ص191.

[8]أنظر: حسن، ابتهال. مفهوم الطفولة عند جان جاك روسو. موقع موضوع(أغسطس 2023)(في حقل قلم). نقلا عن جان جاك روسو. سؤال الطفولة والإنسان.

[9] كانط. في التربية. ترجمة: جوزيف معلوف. بغداد: دار الرافدين، ط1، 2022، ص21.

[10] دوركايم. التربية الأخلاقية. ترجمة: السيد محمد بدوي. مراجعة: علي عبد الواحد وافي، تقديم: محمد الجوهري. القاهرة: المركز القومي للترجمة، ط1، 2015، ص68.

[11] ديوي، جون. الديمقراطية والتربية. ترجمة/ منى عفراوي، وزكريا ميخائيل. القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1946، ص332.

[12] رسل، برتراند. في التربية. ترجمة: سمير عبده. دمشق: دار التكوين، ط1، 2017، ص47.

[13] داكو، بيير. الانتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث. ترجمة: وجيه أسعد. بيروت: مؤسسة الرسالة، ط2، ص24-26.

[14] ديلور، جاك. (نحو التربية المستدامة للجميع). في كتاب القيم إلى أين. إشراف جيروم بندي. ترجمة: زهيدة درويش جبور، وجان جبور. بيروت: دار النهار، ط1، 2005، ص216.

 

في المقال السابق، وبنفس العنوان (القرآن.. والتجربة البشريّة)، أشرتُ إشارة سريعة إلى أثر القرآن الكريم على التجربة الإنسانية، من حيث كونها ذات أبعاد تتصل بالحضارة وبالثقافة وبالمعرفة وبالفكرة في الوجود الروحي على التعميم.

وقلت: إنّ القرآن له بالمباشرة أثرٌ على الإنسان من هذه الجهات مجتمعة ومُفرَدة على السواء، وكل تجربة عميقة ذات أثر في الإسلام كان للقرآن فضلٌ فيها، بل هو مظهر أساسي من مظاهر مكوناتها. ولوحظ أن التجارب البشرية تتكون في مجرياتها التاريخية بالفاعلية والعمل والمباشرة والتعلق وامتدادات الوجود بمسائل المصير، وهى لا تتكون فارغة غير مُحاطة بالوعي ولا ملآنة بالممارسة، إذْ التجارب الفاعلة والمؤثرة لها بعدٌ رُوحي أعمقٌ من الكلمات.

وذهبتُ إذ ذاك إلى الوعد بأنني سوف أتتبع هذا الأثر القرآني على الوجود الروحي عامة كمظهر فعال يعدُّ هو الأساس لكل نشاط سواه، ولأن الأصل في ذلك كله هو الملاحظة التي سقناها من قبل، ونضيف اليها ما سيتبعها مجدداً وهي امتدادات الوجود بمسائل المصير، فإنّ امتدادات الوجود من حيث كونه تجربة؛ كامنةٌ في الواقع الفعلي ومهيئةٌ لاستشراف المصير في حركة فاعلة بين القرآن والتجربة الإنسانية الصادقة.

لكن هذا كله شيء، وواقع التفكير في التجارب البشرية وعلاقتها بالقرآن شيء آخر.. الآن فقط يبقى الرهان قائماً بمدى صحّة هذه التجارب في الواقع التاريخي ومدى فشلها؛ فالتجربة البشريّة هي الإنسان، والإنسان لا يتقدّم بمعزل عن الروح، والروح داعمة الحضارة والثقافة والقيم الكبرى والعلم والتفكير المنهجي الإيجابي الصحيح.

وهنا لا بدّ لنا من استخلاص دلالة تكون بمثابة البديهة الحاضرة في ضبط العلاقة بين التجربة البشرية والقرآن، وهي أنه كلما اقتربت التجربة الإنسانية من روح القرآن وتمثلت آثاره في الفكر والواقع كانت ناضجة مكتملة، وكان لها في الواقع الفعلي أثر مباشر غير منكور ولا مجهول.

والعكس صحيح أيضاً كلما ابتعدت التجربة البشريّة عن توجُّهات القرآن ومبادئه ونظمه الفاعلة كلما أخفقت وانحرفت وتسمّمت بآثار لا تصلح لبقاء ولا تجدي نفعاً على السواء. هذه بديهة حاضرة معنا في محيط ما نبحث فيه، نقبلها ببداهة النظر ونرفض غيرها إذا تعارض معها.

لكن الحقيقة أنّ العقليّة الغربية في إطار ما تبحث فيه، تركز على التجربة البشريّة ومعطياتها: على مدى تقدّمها ودرجة تأخّرها، على مقياس التقدّم فيها ومقياس التخلف، ولا تركز في الغالب على المعطى الروحي. رغم أن هذا المعطى الروحي هو الباعث، وهو الدافع لكل معطيات الحضارة والثقافة والقيم العلميّة على أثرهما. التجربة البشرية لا تجتمع في كلمة بمقدار ما تجتمع في تاريخ طويل وأحداث إنسانية صاخبة تارة وهادئة تارة أخرى، وتتوزع وتتنوع بين فردية خاصّة على مستوى العلاقة المباشرة مع الملأ الأعلى، وبين جماعية عامة كتجارب الثورات الاجتماعية والسياسية وغيرها. لكن تركيزنا نحن فيما يتّصل بالقرآن سيكون على التجربة الفرديّة الخاصّة.

كنت أبحث عرضاً في الإنترنت عن الكتب المُشابهة موضوعاً أو منهجاً لكتابي (الذاتيّة الخاصّة للقرآن الكريم.. دعائم تأصيل التفسير الإشاري) الصادر عن دار ناشرون، بيروت، هذا العام (٢٠٢٤م) في طبعته الثانية، والذي لم أر إخراجه ولا محتواه ولم أتصفحه بعد الطباعة حتى كتابة هذه الأسطر، لأنه لم يصلني إلى الآن، وأنا في غمرة البحث فوجئت فوجدتُ هذا الكتاب (الصورة الذاتية للقرآن.. الكتابة والسُّلطة في نصّ الإسلام المُقدّس)، لدانييل ماديغان، بجوار كتابي كموضوع مُشابه له، على أقل تقدير في تسليط الأضواء الحديثة على اهتمام البحث المتجدّد بعلوم القرآن.

ولم يكن لي علمٌ سابق بهذا الكتاب من قبل، مع معرفتي بمنهجه وتطبيقاته، ومع علمي بنوعيّة الكتب التي تنحو هذا المنحى، فقد اضطلعت على كثير من تلك النوعية من الكتب وعلى تطبيقاتها المنهجية، وأغلبها يطبق المنهج الدلالي ويجري ورائه في لهاث غريب وعجيب، وكنتُ أشرتُ إلى ذلك في هوامش كتابي السابق ذكره. فعلى سبيل المثال لا الحصر كنت كثير الاطلاع على تخريجات المستشرق الياباني (تشيهيكو إيزوتْسو Toshihik Izutsu)، (١٩١٤- ١٩٩٣)، وذلك في كتاب له مهم يتضمن دراسة جادة بعنوان: "الله والإنسان في القرآن: علم دلالة الرؤية القرآنيّة للعالم". يكشف الكتاب عن جوانب للقرآن من ناحية (علم الدلالة Semantis). وقد صدر للمرة الأولى بالإنجليزية عام ١٩٦٤م عن معهد جامعة كيو للدراسات الثقافية واللغوية بطوكيو بعنوان:"بين الله والإنسان.. دراسة دلاليّة لنظرة القرآن إلى العالم". وبعد تسع سنوات على وفاة المؤلف عام ١٩٩٣م، صدرت طبعته الثانية بالإنجليزية أيضاً في ماليزيا عام ٢٠٠٢م، وترجمه إلى العربية الدكتور عيسى على العاكوب، وصدرت الترجمة عن دار الملتقي بحلب ٢٠٠٧م، ثم صدرت ترجمة أخرى للكتاب بعنوان "الله والإنسان في القرآن، علم دلالة الرؤيّة القرآنية للعالم" للدكتور هلال محمد الجهاد عن المنظمة العربية للترجمة في العام ٢٠٠٧م. وهي الطبعة المعتمدة التي بين أيدينا. تعالج فكرة الكتاب الصلة الوثقى بين اللغة والفكر والثقافة وتبرز أن اللغة ليست أداة للتواصل وحسب، بل هي أداة للتفكير. ومن هذا المنظور فهي تعدُّ وسيلة أساسية لتقديم مفاهيم وتفسيرات للعالم الذي يحيط بأهل لغة ما.

وأصل هذه الفكرة له جذور وطيدة ترتبط بالفلسفة الألمانية، خاصّة الفلسفة المثالية، ومصطلح رؤية العالم هذا، متصل بكيفية بناء الأفراد رؤيتهم للعالم بناءً على التجربة والعقل والثقافة.

العنصر البارز والأهم هو أن اللغة عقليّة تصوغ أو تعكس رؤية العالم عن أمة من الأمم أو ثقافة من الثقافات؛ فالثقافة تصوغ اللغة بالقدر الذي تصوغ اللغة فيه الثقافة. والمجمل من ذلك كله هو: تجليات الحضارة، وما يصدر عنها أو ينبثق منها: ثقافة أو لغة أو تفكيراً. واللغة هي المفتاح لفهم ثقافة ما، وإدراك رؤيتها للعالم؛ وبهذا يصبح علم الدلالة كما يفهمه "إيزوتْسو": هو دراسة تحليلية للتعابير المُفتاحية في لغة من اللغات ابتغاء الوصول إلى فهم (رؤية العالم Worldview) عند القوم الذين يستخدمون هذه اللغة في مرحلة محدّدة من تاريخهم الثقافي". يعني تحليل لغة التعبير بإزاء تصورات العالم عند قوم من الأقوام. ويذكر "إيزوتْسو" في كتابه المقابل الألماني لرؤية العالم تلك، وهي كلمة (Weltanschauung).

وتعتبر كلمة Weltanschauung)) كلمة ألمانية تعني "النظرة إلى العالم" أو "إدراك العالم" في اللغة الإنجليزية. أصلها اللغوي يتكون من العناصر التالية:

(Welt): تعني "العالم". أصلها من اللغة الألمانية القديمة weral)) وهي مركبة من wer (إنسان) و(alt)، (الزمن أو العمر)، ممّا يشير إلى "عصر الإنسان" أو "العالم البشري". أما كلمة

Anschauung)) تعني "النظرة" أو "الإدراك". مشتقة من الفعل anschauen)) "ينظر إلى" أو "يُلاحظ"، والذي يعود إلى الألمانية الوسطى القديمة anschouwen والألمانية العليا القديمة anscouwōn (يراقب أو يتأمل).

بالتالي، تشير Weltanschauung إلى منظور شامل أو إطار فلسفي يُفسّر من خلاله الفرد أو المجموع العالم. ثم أصبح المصطلح بارزًا في فلسفة القرن التاسع عشر، خاصة في أعمال مفكرين مثل إيمانويل كانت وويلهلم دلتاي، الذين استخدموه لمناقشة دور الإدراك والخبرة والثقافة في تشكيل فهم الإنسان وفهم العالم من حوله.

 )Naugle, D. K. (2002). Worldview: The history of a concept. Grand Rapids, MI: Eerdmans.p.64.(

يطمح "إيزوتْسو" إلى الوصول للمفاهيم الأولى أو التلقي الأول للوحي، كما تجلي في عصر الرسول والصحابة، باعتبار هذه الفترة هي النقلة الدلالية المباشرة التي أدركها العرب في ذلك الحين. يناقش "توشيهيكو إيزوتْسو" المعنى الأساسي، الوضعي والمعنى العلاقي (السّياقي)؛ ليثبت أن المعنى الوضعي (الأساسي) هو المعنى الخاص بالكلمة الواحدة حتى ولو جاءت منفصلة عن كل الكلمات.

أمّا المعنى السّياقي (العلاقي) فهو المعنى الدلالي الذي تكتسبه الكلمة إذا هي دخلت في مجموعة علاقات وسياقات مع غيرها من كلمات أخرى.

ويُلاحظ على كتاب "إيزوتسو" أن كون اللغة عقلية إنما هي فكرة ليست بجديدة على التفكير العربي خاصّة لدى عبد القاهر الجرجاني ( ٤٧١هجرية - ١٠٧٨م ) في كتابيه "دلائل الإعجاز" و "أسرار البلاغة".

لكن الدراسات الدلالية الغربية تجاهلت الإشارة لا من قريب أو بعيد الي الدراسات الدلاليّة العربية، واستنباط الدلالة من المجاز العقلي كما وجدت في الدراسات البلاغية العربية.

ويُلاحظ أيضاً مع تطور علم الدلالة في سياقه الغربي أن الدراسات الدلاليّة بوجه عام أغفلت جهود الدلاليين العرب القدامي، فلم تأت على ذكرهم في سلسلة الاهتمام الدلالي القديم سواء كانت جهود اللغويين أو جهود الأصوليين في مجال علم الدلالة.

وإذا كان منهج علم الدلالة في سياقه الغربي جديداً على اللغة العربية؛ من حيث يرى "إيزوتْسو" أن اللغة العربية ليست لها خصوصية وتميزاً في ذاتها، إذ اعتبر مجيء القرآن بها يرجع إلى كونه أنزل على العرب، وأنها واحدة فقط من لغات كثيرة، فإنّ هذا الرأي مردودٌ عليه من النقاد، لأن اللغة العربية قادرة على الإبانة عن مُراد الله أكثر من غيرها من اللغات بما فيها من وفرة في المفردات المعبرة عن الشيء الواحد في أوضاعه وأشكاله وخاصياته المختلفة، وبما أنطوت عليه من صيغ حرفيّة معبرة، وبما تدل عليه أوضاعها التركيبية من دلالات، وبما يوفره جرس ألفاظها من تماثلات صوتية تساعد في إبهاج السّامع وإيقاظ ملكاته الإدراكيّة في إيقاع الوعي بتلاوة القرآن خاصّة؛ لتحصيل أكبر قدر من الطاقة الدلاليّة.

وممّا لا ينبغي إغفاله في هذا السياق أن مادة (ع. ر. ب) تفيد البيان والوضوح بمقدار ما تفيد خصوصية اللغة العربية في سياقها الدلالي، واقتدارها من ثمّ أكثر من غيرها من اللغات الحديثة على البيان مع التطور والتقويم. ناهيك عن أن الحروف العربية هي أصلح الحروف لكتابة اللغات: لأن الأمم التي تعتمد على الحروف العربية في كتابتها أكثر عدداً من كل مجموعة عالمية تعتمد في الكتابة على الحروف الأبجديّة، ما عدا مجموعة واحدة، وهي مجموعة الأمم التي تعتمد في كتابتها على الحروف اللاتينية؛ لأن الحروف العربية تستخدم لكتابة اللغة العربية، واللغة الفارسية، واللغة الأوردية، واللغة التركية، واللغة الملاوية، وبعض اللغات التي تتصل بها في الجزر المتفرقة بين القارات الثلاث: أفريقية، وآسيا، وأستراليا. ونسبة الكاتبين بين هذه الأمم أقل في هذا العصر من نسبة الكاتبين بين أبناء الأمم التي تعتمد على الحروف اللاتينية.

على أن الذي يعنينا نحن من هذا الكتاب ليس فقط استغراقه في مسألة العلاقة الشخصية بين الله والإنسان في الرؤية القرآنية للعالم من زاوية المنهج الدلالي للدراسات القرآنية؛ ولكن تعنينا لفتاته الكثيرة ومقارباته المنوَّعة، ومن أهمها هنا إشاراته المتعددة إلى التصوف، فإذا كان القرآن قابلاً لأن يقارب من وجهات نظر عديدة ومختلفة مثل اللاهوتية والفلسفية والاجتماعية والنحويّة والتفسيريّة فهو من باب أولى في نظر المؤلف يمكن أن يُقارَب من ناحية علم الدلالة ومنهجه التحليلي الحديث، ومفهوماته المتعددة ومعانيه المتباينة، وهى مقاربة لها أصولها المرجعية ومعطياتها الدلاليّة وطرافتها الذوقية في ذات الوقت.

لكن علم الدلالة عنده كما يُوحي به الأصل الاشتقاقي للكلمة هو كما تقدّم: علمُ يعني بظاهرة المعنى، بأوْسع معاني الكلمة. ولم يخطئ عبد القاهر الجرجاني ولم يتجاوز الصواب عندما قال في "دلائل الإعجاز": أن الألفاظ في ذاتها لا توجب حكماً، ولا يبدو فيها جمال إلا إذا ألّفت نوعاً من التأليف ثم أنطوت على معنى".

ولا بدّ للمختص بعلم الدلالة من أن يكون ذوّاقة ذا دُربة مصقولة وعادة مقبولة، ممَرّنٌ على التعامل مع الأفكار العليا والمباحث الكبرى قدر تمكنه من القيم العظمى. ولم يكن خلواً من روحانيّة وتجرُّد وصفاء.

أمّا هذا الكتاب، أعني (الصورة الذاتية للقرآن.. الكتابة والسلطة في نصّ الإسلام المقدّس) فلم يسعدني الحظ بوافر سعده للحصول عليه أو قراءته من قبل. وقد تبدو غريبة تخريجات الباحثين الغربيين حول القرآن وعلاقة المسلمين به، وبخاصّة في الصدر الأول.

يظهر لي أنهم يريدون التقليل من مركزية القرآن باصطناع مناهج ربما لا تتماشى مع طبيعة النّص المقدّس نفسه، أو على وجه التحديد لا تتماشى مع طبيعة القرآن كونه وحياً؛ لأن المفروض بالبداهة المقرّرة سلفاً أن فهم القرآن مرهون بمنهجه هو لا بمنهج سواه: أعني منهج التذوق والمعايشة، ومنه إلى الإشعاعة العقلية المستمدة من كثرة التأمل في منبع الوحي، أعني في آيات القرآن على الحضور والسّعة والاتصال بالله.

وإزاء هذه المركزيّة القويمة هم عاجزون عن تفسير قوانينها وسر قوتها ومكمن حيويتها، وبخاصّة في الصدر الأول وما بعده، وأحياناً متخبطون، يسوؤهم ثقة المسلمين في كتابهم المقدّس، لكأنهم يريدون زعزعة استقراره من قلوبهم، وما هم بمستطيعين.

ليس المهم في اصطناع تلك المناهج ولا في تطبيقاتها وإنما المهم، وهو موطن الخطر، هو محاولة تكرار نتائج أسلافهم بإزاء القرآن لتكون هذه المناهج أو تلك مجرد غطاء مشروع يتسترون خلفه ولا يميطون لثاماً عما كان من قبيل أسلافهم مجرد دعوى لا يقوم عليها دليل؛ كمثل قولهم إن القرآن نسخة مُحرفة من الكتب السابقة عليه، من اليهودية والنصرانيّة، وأن محمداً عليه السلام كان مجرد ناقل: نقله من أساطير الأولين!

ليأتينا من بعدُ من عساه لا ينسى فيذكر: أن الكتاب يكتمل فيما تقدّم من التوراة والإنجيل، ولا يكاد يكتمل في القرآن الكريم بما لست أدرى ما ذا عساه يكون؟

وهذا الكتاب هو: (الصورة الذاتية للقرآن.. الكتابة والسلطة في نصّ الإسلام المقدّس؛ لدانييل ماديغان

المؤلف: يامنة مرمر - Yamine Mermer والمترجم: هدى عبد الرحمن النمر). (ومن أهم الكتب التي صدرت في العقود الأخيرة غربًا حول القرآن كتاب دانييل ماديغان (الصورة الذاتية للقرآن)، حيث لا نجد دراسة معاصرة تتناول قضايا مثل سلطة النصّ ومرجعيته وعلاقة هذا بأوصاف النصّ عن ذاته، وبالعلاقة بين النصّ حال تنزّله والمصحف المجموع، إلا وتستعيد نتائج هذا الكتاب سواء اتفاقًا أو اختلافًا أو تعديلًا أو تطويرًا؛ ممّا يزيد أهمية التعريف به لباحث الدراسات القرآنية) بهذه القطعة من التعبير المبالغ فيه قُدّم لهذا الكتاب رغم أن هناك دراسات دلالية سبقته ووصلت الى نتائج أهم ممّا وصل اليها ماديغان، غير أننا لا نريد أن ننهج نفس المنهج في طريقة التعبير حكماً على الكتاب، بل نتابع ما كتب عن قضاياه التي طرحها ومشكلاته التي عالجها بصبر وأناة، ولنرجئ مسألة الحكم على العمل هذه في نهاية المطاف.

قدّمت (يامنة مرمر) إطلالة وافية على أهم مرتكزات الكتاب وفكرته المحوريّة حول مفهوم "الكتاب" القرآني ودلالاته، أيضاً وفق تطبيقات المنهج الدلالي.

قالت الباحثة في إستهلالة لا تخلو من نقد موضوعي من قارئ مُلم بأسباب النزول وبكتب الأديان الكتابية على وجه العموم (كثيرًا ما يُوصف الإسلام بأنه (دين الكتاب)، ويعتبره كثيرٌ من العلماء المثالَ الأكثر تطورًا لهذا النوع من الدّين؛ ربما لأن كلمات الكتاب تشغل مكانة مركزيّة في معتقد المسلمين وممارستهم أكثر ممّا في الأديان الأخرى. ومع ذلك، لا يُوجد كتاب فِعليّ متمركز في الشعائر الإسلاميّة؛ إِذْ إن مقاربة المسلمين لكتابهم المقدّس شفهيّة بالكامل، فالكثيرون يرتِّلون النصّ المقدّس من ذاكرتهم، ومرَّت سنوات عدَّة بعد وفاة الرسول قبل أن يتخذ شكل كتاب.

فما الذي يعنيه القرآن إذن عندما يُسمِّي نفسه بإصرار: (كتاب)، والتي تُترجَم عادة لـ (Book

للإجابة عن هذا السؤال، يُعيد دانييل ماديغان النظر في هذا المصطلح الرئيس (كتاب)، كما يَرِد في وصف القرآن عن نفسه. ومن ثَمّ، فمهمَّة هذا المُصنَّف (الصورة الذاتية للقرآن) أن يسلط الضوء على الدلالات المركّبة لـكلمة (كتاب) في القرآن ولغة كتابته، كما «يسمح بتفسير مفهومه الخاصّ ويتحدّث عن نفسه».

ولتمييز مفهوم القرآن المخصوص للكتاب، يتبنَّى ماديغان استراتيجية مزدوجة: إعادة تقييم الإجماع الذي طالما عقده علماء الإسلام والدارسون الغربيون على حدٍّ سواء عن الكيفية التي يُصوِّر القرآن بها نفسه، وتحديد مقاربة بديلة لا للخبراء في دراسة الإسلام فحسب، بل لكلّ مهتم بالدراسات المقارنة للنصوص المقدّسة والهرمنيوطيقا.

هكذا تقول الباحثة "يامنة مرمر" عن كتاب الصورة الذاتية للقرآن لدانييل ماديغان. أرادت أن تتحدّث على لسانه لتستنطقه بما ليس يبديه مع أني لا أعتقد أن النّص القرآني - وفقاً لفكرة كتابي الذاتيّة الخاصّة للقرآن الكريم - لا يقدّم صورة عن ذاته بمقدار ما توجد فيه خصائص ذاتية توجد فيه هو ولا توجد في سواه، فهذه الخصائص الذاتية نتاج التفاعل الحركي بين القارئ والنص، إذ النص في ذاته صامت، وإنما الذي يستنطقه هو القارئ الفاعل، وإذا اختفت تلك الفاعلية كحركة باطنة حيوية ذهبت بالخاصّة الذاتية للقرآن في نفس صاحبها وفي ذاته، ومثل هذا التفاعل الحيّ بين النّص القرآني والقارئ هو الذي يخلق عالم من المعاني واللطائف الروحيّة قلما يخلقه تفاعل آخر بين نصّ وقارئ.

إذا تقرّر لدينا هذا فأين هى السلطة في نص الإسلام المقدّس؟

إذا كان هناك ثمة سُلطة فهي سلطة القارئ يستوحيها من حركة التفاعل مع النّص، فهي سلطة مكتسبة بإزاء التفاعل الحركي فيما هو مشروط أمامه. ولا أعتقد أن صاحب كتاب الصورة الذاتيّة للقرآن يقصد هذا المعنى بوجه من الوجوه.

وتتابع الباحثة أن ماديغان يوضح من البداية أنه يتعامل مع النصّ القرآني بوصفه كُلًّا متماسكًا؛ " لأن هذه هي الطريقة التي يعمل بها داخل المجتمع الذي يُقدسِّه - ينظر له كمصدر للمرجعيّة والسُّلطة - ويستمد منه الهدى. إنّ مفهوم الكتاب موضوع جامع يُعلِن ويؤكد على ذلك التماسك".

وفي المجمل؛ يتبنَّى ماديغان مقاربة نقديّة، وينظر بعين الشك إلى الدلالات المباشرة للكلمات المشتقة من الجذر العربي (ك - ت - ب)، ويأخذ في الاعتبار أقصى ما يمكن تحصيله من دلائل، سواء في النصّ القرآني أو في أجزاء مختارة من التقليد الإسلامي تتعلّق بمجال معانيهم الأول.

ويبدأ بملاحظة أن القرآن يستعمل الكلمات المشتقة من الجذر (ك - ت - ب) في الغالب؛ ليشير ليس للقرآن نفسه، بل لظاهرة مختلفة، مثل إثبات كلّ ما هو مقدور مُسبقًا، في مثل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ كِتَٰبًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِۦ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلْءَاخِرَةِ نُؤْتِهِۦ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِى ٱلشَّٰكِرِينَ} (آل عمران ١٤٥) أو قوله تعالى: {كَتَبَ ٱللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِىٓ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ} (المجادلة ٢١).

أو للأحكام الإلهيّة، في مثل قوله تعالى: {قُل لِّمَن مَّا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ قُل لِّلَّهِ ۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓا۟ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } (الأنعام ١٢). أو قوله تعالى: {وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـَٔايَٰتِنَا فَقُلْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ ۖ أَنَّهُۥ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوٓءًۢا بِجَهَٰلَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنۢ بَعْدِهِۦ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُۥ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام ٥٤). أو تقرير ما هو موجود، في مثل قوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا۟ مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا فِى ٱلسَّمَآءِ وَلَآ أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكْبَرَ إِلَّا فِى كِتَٰبٍ مُّبِينٍ} (يونس ٦١)، أو قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى ٱلْأَرْضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِى كِتَٰبٍ مُّبِينٍ} (هود ٦). أو إثبات أعمال المرء الحسنة والسيئة في مثل قوله تعالى: {لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓا۟ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ ۘسَنَكْتُبُ مَا قَالُوا۟ وَقَتْلَهُمُ ٱلْأَنۢبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا۟ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } (آل عمران ١٨١)،

أو قوله تعالى: { وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً مِّنۢ بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِىٓ ءَايَاتِنَا ۚ قُلِ ٱللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا ۚ إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} (يونس٢١).

والكثير من الدارسين يُحمِّل تلك التصنيفات ما تعلَّمَه عن مفاهيم مماثلة في سياقات دينية أخرى، وبالتالي فهموها على أنها كتابات منفصلة. ومع ذلك، يحاجج ماديغان بأن هذه المقاربة لتصنيفات الكتابة تُخفِق في إدراك أن فكرة الكتابة المُثبَتة في القرآن تظهر عدم تحدّد بشكل استثنائي؛ فجزء ممّا يكتبه الله تشريعي، وبعضه يتألّف من أحكام، بينما باقي الكتابة وصفيّة فحسب، وقدر كبير منها يختصّ بالوحي وشرح طبائع الأشياء، بينما في أحيان أخرى، يكشف اللهُ شيئًا عن ذاته بالكشف عما (كُتب) لنفسه.

مع ذلك، وسط كلّ هذا التنوع، ثمة وحدة لا جدال فيها في فكرة الكتابة الإلهيّة. ووفقًا لماديغان، فإنّ استخدام مصطلح وحيد (كتاب) لوصف العديد من جوانب هذه الظاهرة، يشير بذاته لوحدة «تتجاوز مجرد فكرةٍ ما عن مكتبة أو أرشيف».

ومن ثَمّ، يخلص إلى أن مصطلح الترجمة المقبولة عمومًا (Book) لا تُوفي حقّ تعقيدات المصطلح القرآني (كتاب). ويقترح ماديغان أن تكون الترجمة (كتابة writing) عوضًا عن (Book)، ولو مع بعض التحسينات.

هذا كتاب يقرّر في جوهره أنه مُلْزِم ومكتمل وكذلك مبنيّ ومنظم. وتضارب هذه الدعوى الضمنيّة مع الشكل الفعلي للنصّ القرآني هو ما حَدَا بالكثير من الكُتَّاب الغربيين أن يفترضوا أن إنتاج (الكتاب) المُتخيَّل لم يُستكمَل ولا تمَّ.

تلك كانت فكرة الكاتب عن (الصورة الذاتية للقرآن: الكتابة والسلطة في نصّ الإسلام المقدّس) خلال تطبيق المنهج الدلالي على جذر الفعل (كتب) لتصبح مادة الكتاب، وهى الكتابة نفسها، هى الباقية منه.

معنى ذلك؛ أنّ النّص قابل للكتابة والزيادة والإضافة والتطور والتعديل. وعندي أنا أنه قابل لذلك من جرّاء التفاعل الحركي مع قارئه فهو وحده (أي القارئ) من يمتلك الكتابة ثم الزيادة في امتدادات المعنى، والإضافة إلى ذاته المحدودة ذوات نورانية يستمدها من النّص القرآني ويعتمدها في ذاته، ليصعد مع التطور في إرتقاءاته الروحيّة والوجودية بعد تعديل مساراته وتطوير مسالكه تبعاً لتوجُّهات الكتاب. ومن غير المقبول لدينا بداهةً أن يقال إن الشكل الفعلي للنص القرآني قاصر لم يكتمل بعد، ناقصٌ يفتقر إلى التمام؛ اعتماداً على خيال بعض الكُتّاب الغربيين الذين افترضوا أن إنتاج الكتاب المُتخيَّل لم يعد كاملاً، والقرآن يقوم بصراحة لا مواربة فيها: (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي، ورضيتُ لكم الإسلام ديناً). ففكرة نقص التمام والانتقاص من الكمال هى فكرة فارغة من الدلالة لا يعتد بها مع تضاربها وقصور معطياتها، هذا اذا كانت لها معطيات.

تمضي الباحثة "يامنة مرمر" في عرض فصول كتاب ماديغان، ليأتي الفصل الأول، يوضح فيه ماديغان كيف أن هذا الافتراض عن البنية والشكل المناسبين للقرآن لا ينبعان من دراسة الوحي القرآني نفسه، وإنما ممّا يعلمه الدارسون عن بنية النصوص المقدّسة الأخرى ووظيفتها؛ فوفقًا لأولئك الدارسين، لكي يكون (الكتاب) بمثابة السجل الكامل للوحي ودستورًا تشريعيًّا للمجتمع، ينبغي أن تكون له بنية أكثر انتظامًا.

ومع ذلك، لا يجد ماديغان أيّ تلميح في النصّ أو التقليد عن أيّ نواقص في القرآن، أو أيّ إشارة إلى أنّ بنيته كانت مُشْكِلة من أيّ وجهٍ وقت وفاة الرسول.

ويقتبس ماديغان من ويلفريد كانتويل سميث الذي يقرّر أن: «المسلمين، من البداية حتى الآن، هم تلك المجموعة من الناس التي تلاحمت حول القرآن». بل ويذهب لأبعد من ذلك في ملاحظته، قائلًا: «تشير الدلائل إلى أنهم ألتحموا حوله حين لم يكن مكتملًا بعد، حين كان ما يزال شفهيًّا وسيروريًّا. لقد ألزموا أنفسهم بالإيمان بإله بدأ تواصلًا مباشرًا معهم، وتجمّعوا حول التلاوات بوصفها عهدًا يُوصّل الهدى من الله لهم، لا لكونها كيانًا نصيًّا محدّد المعالم ومغلقًا بالفعل».

يركز الفصل الثاني: على دحض القرآن نفسه لدليل قيمة الكتابات السماويّة، ورفضه للسلوك على أنه نصّ مدوّن ومغلق بالفعل، ويؤكّد أيضًا على إصرار القرآن أن يظلّ مفتوحًا ومتجاوبًا، ليصير بمثابة صوت الله مستمرًا في مخاطبة البشرية.

علاوة على ذلك، يشدّد ماديغان على أن (الكتاب) المقصود في القرآن لا يمكن خلطه بتصوّر كتاب معتاد؛ لأن حدود معالمه ليست متبلورة قطعيًّا: فليس من الواضح تمامًا ما إذا كان النصّ (القرآن) هو (الكتاب) كلّه أم جزء منه، وما إذا كان واحدًا من بين كُتُب أم الوحيد. حقًّا إنّ القرآن لا يُعرِّف نفسه بوصفه الكتاب؛ إِذْ يستخدم ضمير الغائب عند الإشارة إليه، والتصريح به، والدفاع عنه، وتعريفه.

حتى الآن، لا يتكلم القرآن عن الكتاب ببساطة باعتباره شيئًا ثابتًا ومنفصلًا؛ لأن تلاوة القرآن هي الوسيلة الوحيدة التي ينجلي بها الكتاب ويتفاعل مع الإنسانيّة.

وهكذا ينتهي ماديغان إلى أن القرآن لا يهتم كثيرًا بالكتابة بوصفها مجرد شكل للكلمة الإلهية، بقدر ما يعنى بمصدر تأليفها وسلطتها وصحتها. ودعوى القرآن عن كونه الكتاب إنما هي مطالبة بالسلطة والمعرفة أكثر من كونها تقريرًا بسيطًا عن شكل احتوائه النهائي.

يعالج الفصل الثالث مهمّة تعيين الحقل الدلالي للغة (الكتابة) في القرآن، في ظلّ الفهم الدقيق لكيفية عمل رمز كتاب في الخطاب القرآني. يبدأ ماديغان بتوطئة تدرس خلفية تحليل (الحقل الدلالي)، وتحليل بعض من تطبيقاته في سياق الدراسات القرآنيّة.

في الفصول الثلاثة التالية، يقدّم ماديغان تحليلًا دلاليًّا مُفحمًا عن وعي القرآن بذاته. فيُحاجج بأن القرآن يرى نفسه لا على أنه كتاب أكتمل، بل عملية مستمرة من الكتابة الإلهية وإعادة الكتابة؛ أي: على أنه تفاعل الله الناشط مع البشريّة، ويبرهن كذلك على تغلغل ظاهرة الكتاب في الخطاب القرآني، ويؤكد في ذات الوقت على خاصيّة البُعد عن التحدُّد فيه. بل إن الفصل السابع في الواقع يستعرض كيف أن ذلك البُعد عن التحدُّد هو سبب عدم إمكان فهم الكتاب باعتباره كيانًا مغلقًا جامدًا.

بمجرّد أن يتم إنتاج كتاب، فإنه يتواجد بشكلٍ مستقلٍّ عن مؤلفه، إلا أن المجتمع المسلم تمتع دائمًا بشعور حيوي عن دوام اتصال المؤلف بمستمعيه، والفصل الختامي يهدف لبيان السُّبل التي من خلالها ظلّ مفهوم الكتاب الأوسع والأكثر ثراءً فعالًا في الإسلام، رغم اهتمام المسلمين الغالب بالكيان المُغلق للقرآن.

يُلاحظ "ماديغان" أنّ قبول المصطلح التقليدي (كلام الله) باعتباره المفتاح لفهم الوحي، هو على الأرجح وسيلة للهروب من مصطلح (كتاب)، الذي صار مرتبطًا في الغالب بـ (المصحف). أما مصطلح (كلام) فيوفر المرونة والتجديد والتجاوب الذي يحظى به (الكتاب) في النّصّ القرآني، وإن لم يعد كذلك في التقليد.

تشكّل (الصورة الذاتية للقرآن) إسهامًا كبيرًا في دراسة القرآن، وفهم الإسلام من داخله، وقد بنَى المؤلف دانييل ماديغان خلاصاته على قراءة مقنعة للقرآن ونصوص رئيسة أخرى، وبنى تركيزه على المصطلح الرئيس (كتاب) على أسس صحيحة، فهو يلعب دورًا مصيريًّا في تعريف طبيعة النصوص المقدّسة، وكذلك مهمّة الرسول، والطريقة المخصوصة لتواصل الله مع البشريّة، والعلاقة بين الخالق والخلق، وصلة الإسلام بالأديان الأخرى.

وعلى الرغم من القبول الواسع الآن لمبدأ أن القرآن ليس مُعتمِدًا نصيًّا على ما سبقه من نصوص مقدّسة، إلا أنه لا يزال يُفترض في كثيرٍ من الأحيان أنه أطلع على محتواها ولو جزئيًّا على الأقل، ونادرًا ما يُقترح أنّ القرآن يمكن أن يعكس الدور الذي لعبته الكتب المقدّسة الأخرى داخل مجتمعاتها في وقت ومكان ظهور الإسلام.

وهكذا، تسلط مقاربة ماديغان للقرآن الضوء على الكيفية التي بها يمكن للقرآن في حقيقة الأمر أن يوضح الطريقة التي ينظر بها لـ (أهل الكتاب) فيما يتعلق بـ (كتبهم).

وفي الملحق، يتحوّل ماديغان إلى الوحي والمصطلحات التي يُعرِّف القرآن نفسه بها، ليرى ما إذا كانت فكرة الكتاب التي نشأت من تحليله الدلالي ستكون ذات معنى لدى الآخرين الذين عرّفتهم ظاهرة الكتاب، ويؤمّل أن هذه المحاولة للقراءة (من) القرآن ما تعلَّمه المسلمون من أهل الكتاب الذين اتصلوا بهم، ستمهِّد الطريق لحوار جديد وإيجابي بين هذه الأديان.

بالإضافة لذلك، تأكيد ماديغان على فهم (الكتاب) باعتباره إمارة على الاتصال بمجمل خطاب الله للبشرية بدلًا من كتاب ساكن ومحدد غاية في الأهمية؛ لأنّ الدعوى الضمنية بالكلية والاكتمال المشمولة في كلمة (كتاب) قد تمهد الطريق أمام (الأصوليّة)، التي تحد حدود كتاب الله بحدود النصّ المُتلقَّي.

ومثل هذا الفهم قد يغدو ذا خطر؛ إِذْ لو تخيّل المرء نفسه في حيازة كاملة للحكمة والمعرفة، بدلًا من كونه متصلًا بالمعرفة من الله، فقد يدَّعِي الهيمنة على فهم الوحي.

وعلى هذا، فمقاربة ماديغان المدروسة جيدًا للقضية المعقّدة الخاصّة باصطلاحات المرجعية الذاتية للقرآن ليست في الحقيقة قراءة جديدة للنصّ، إنها بالأحرَى قراءة متأنية تستند إلى فكرة أنْ ثمة وحدة يرتكز عليها استعمال القرآن للجذر (ك - ت - ب).

قد تظهر مثل هذه القراءة على أنها خروج راديكالي عن النهج الإسلامي التقليدي، إلّا أن الأخير يؤيِّد - ضمنًا في أوجُهٍ عديدةٍ - الموقفَ الذي تبَنّاه ماديغان.

كشَف (الصورة الذاتية للقرآن) النقاب عن الوعي الذاتي المُميِّز للقرآن: فهو يلاحظ ويناقش عملية الوحي الخاصّ به؛ ويؤكِّد على سلطته ويتخذ مكانته في تاريخ الوحي. إنَّ فهم هذا البُعد الديناميكي للقرآن ضروري لفهم الإسلام والهويّة الإسلامية.

من وجهة النظر هذه أيضًا، يعدُّ كتاب ماديغان مصدرًا مفيدًا للغاية، ليس فقط للخبير في دراسة الإسلام، بل كذلك لكلّ مهتم بدراسة النصوص المقدّسة والهرمنيوطيقا.

وتختم الباحثة دراستها بقولها إنّ (الصورة الذاتية للقرآن) طفرة كبيرة، لا في مجال الدراسات القرآنيّة فحسب، ولكن الأهم من ذلك في هرمنيوطيقا النصوص المقدّسة. ومضمونه يمثل تحديًا للمعرفة الغربية التقليدية حول الإسلام، وكذلك للأعمال التي كتبها علماء مسلمون.

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم

أثر القرآن الكريم على التجربة الإنسانية ظاهر لا شك فيه، من حيث كونها ذات أبعاد تتصل بالحضارة وبالثقافة وبالمعرفة وبالوجود الروحي على التعميم. فالقرآن له بالمباشرة أثر على الإنسان من هذه الجهات مجتمعة ومفردة على السواء، وكل تجربة عميقة ذات أثر في الإسلام كان للقرآن فضل فيها، بل هو مظهر أساسي من مظاهر مكوناتها.

تتكون التجارب البشرية بالفاعلية والعمل والمباشرة والتعلق وامتدادات الوجود بمسائل المصير، وهى لا تتكون فارغة غير مُحاطة بالوعي ولا ملآنة بالممارسة، التجارب الفاعلة والمؤثرة لها بعدٌ روحي أعمق من الكلمات.

ولسوف أتتبع هذا الأثر القرآني على الوجود الروحي عامة كمظهر فعال يعدُّ هو الأساس لكل نشاط سواه.

للصوفي العظيم السَّهْرَوَرْدِيّ المقتول سنة 632هـ، إشارة كاشفة يقول فيها: “اقرأ الكتاب بوجدٍ وطربٍ وفكر. وأقرأ القرآن كأنه نَزَلَ في شأنِك”.

ولم تكن تلك الإشارة إلا تجربة عاشها قائلها، فكأنما كانت بالفعل هى حياته، عاشها وتمثلها حتى الرمق الأخير، فصدرت عنه كما لو كانت قطعة من روحه، فاعلة ومؤثرة.

يظهر فيها فعل الطرب العلوي واللذة الروحانيّة، تنشأن من أثر القراءة على بصيرة، ونحن نود في تلك الأسطر توضيح العلاقة بين الطرب والوجد من ناحية، والفهم والفكر من ناحية ثانية؛ إذْ الوجد والطرب والفكر صفات مجتمعة: خصائص للذاتية الخاصَّة للقرآن يتقدّمها الفهم لامحالة؛ فيأتي الطرب والوجد فيساوقا ذلك الفهم الذي تقدَّم: خاصّة ذاتية تعرفها الحالة الروحيّة، فتشرق في القلب قبل الظاهر المحسوس، ويكتشفها في نفسه المتحقق بها، يقاربها ويتذوقها، ويستشعر آفاقها المتسعة بين ضلوعه وجوانحه، وتكون مع ذلك كالطلاسم المُبهمات لمن لا يدرك لها معنى ولا يصيب منها تحقيقاً: (ولكل درجات ممّا عملوا).

– فهم القرآن:  اتّساق الحالة مع الفكرة 

وقد يترادف الفهم تحقيقاً مع الفكر، ويقابله مقابلة الشبيه مقابلة واضحة لا غموض فيها. وبما أن الشبيه يدرك الشبيه كما يُقال؛ فالفهم يدرك الفكر ويؤدي إليه من أقرب طريق، ويمدُّ الفكر الفهمَ بأواصر القربة لا محالة؛ فما الفكر هنا إلا الفهم. وما فكر مَنْ فكر إلا مَنْ فهم، وعن الفهم تصدر حالات الوجد والطرب، ولا تصدر مطلقاً بغير فهم ولا تفكير.

فالذي يطرب لمعنى آية من آيات التنزيل هو بلا شك كان قد فهمها في السابق؛ فاتّسع معناها لديه من كثرة التفكير فيها، فطرب لها شعوره وَوَجِدَتْ لديه قواه الباطنة.

ومن هنا، جاء الوجد علامة رُقيِّ الفهم الذي يصحب حالات التلاوة على الحضور. فالوجد والطرب حالتان في باطن النفس يتقدمهما الفكر أو الفهم ولا تتقدم هاتان الحالتان على الفكر أو الفهم بوجه من الوجوه؛ فالذي يجد ويطرب لا يجد ولا يطرب من غير فهم ولا فكر، ولكنه يفهم أولاً، أي يفكر ثم يطرب لما عساه يفكر فيه، وهو لا يطرب حين يطرب لغير فهم سابق ولا تفكير متقدّم، وإلا سيكون طربه عَرَضَاً لحالة نفسية مضطربة مجهولة غير مفهومة ولا معلومة؛ لأجل ذلك كان العلم في القرآن بداهةً مُقدّماً على ما عاداه، وكانت المعرفة سابقة على الوهم الذي يعجز معه الاستبصار؛ إذْ ذَاَكَ يطرب الواجد لمعنى يحسّه في قواه الباطنة بعد أن يكون قد فهمه وفكر فيه؛ ليتسق الفكر مع الشعور فلا يُوحي بتناقض يفصل الحالة عن الفكرة.

الفكرة في القرآن سابقة (مُتقدِّمة) والحالة لها تابعة (لاحقة) ما في ذلك شك، ولا يحدث العكس أبداً؛ لأنه إذْ ذَاَكَ إنْ حَدَثَ يلغي الفكر والعلم والفهم وكل المفردات والعناصر الفاعلة التي تقوم عليها المعرفة وتستند القيم العليا للإنسان عليها، وتبطلها من أساسها، ليس هذا فقط، بل وتقدَّم الجهل والخرافة والوهم والتضليل على العقل والنور والذوق والاستبصار.

تقودنا إشارة “السَّهْرَوَرْدِى” الكاشفة إلى نصِّ هو من الأهمية بمكان، كان “الزَرْكَشِي” شَرَطَهُ في “برهانه” حيث قال:” أصلُ الوقوف على معاني القرآن التَّدَبُّر والتَّفَكُّر. واعْلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي حقيقةً، ولا يظهر له أسرار العلم من غيب المعرفة وفي قلبه بدعة أو إصرار على ذنب، أو في قلبه كِبْرِ أو هوى، أو حُبّ دنيا، أو يكون غير متحقق الإيمان، أو ضعيف التحقيق، أو معتمداً على قول مُفَسِّر ليس عنده إلا علم الظاهر، أو يكون رَاجِعَاً إلى معقوله، وهذه كلها حُجُب وَمَوَانع، وبعضها آكد من بعض…”.

وفهم القرآن هو أول ما يُقَابلنا من جهة المقاصد؛ ليُشكل بجانب الحضور أركان الذاتية الخَاصَّة للقرآن، وإنما المُرَادُ من فهم القرآن أن تريده وحده هو عينه المُراد من الخَاصّة الذاتية له، وفي تلك الخاصَّة الذاتية بشرى ورحمة: “فبشر عباد، الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسَنه، أولئك هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب” (سورة الزمر: آية  17- 18).

فإذا وصفهم – سبحانه – بأنهم أولو الألباب، كان هذا الوصف وصفاً على المدح العاقل لفهم، من جانبهم، للخاصّة الذاتية في استماع القول وإتباع أحسنه؛ فهو من جهة حدَّد الإطار النظري في كلمة “استماع القول”، أي جَعْل القول مناط “العلم” أولاً، ومن جهة أخرى قَرَنَ النظر بالتطبيق تَوَخِّياً للفاعلية العملية (أي المعاملة)

ثم جَعَلَ العمل والسلوك سياجاً حافظاً في المسارعة إلى مَحَابّ الله وتجَنّب مساخطه.

هذه إرادةُ مُغيِّرة تأتي كما لو كانت لبنة جذريّة وأساسية تشكِّل ذاتية القرآن الخاصَّة، إذْ تستحقُ الوصف بالهدى مدحاً غير منقوص ووصفاً بالعقل الذي هو اللب. وذلك ضربُ لا شك فيه من الاعتقاد السَّاري دوماً في فهم القرآن على الصفة المَخْصُوصَة بذاته لا بسواه، ولذاته لا لغيره، من أجل ماذا؟ من أجل “إرادة التغيير”.

ولقد سبقت لنا الإشارة في الكلام عن الحُضور: أنه ذو دلالة على قوة العقل يتولد عنها ذكاءُ الذهن، فيقوى الفهمُ ويستبينُ فيه اليقين، ويصفو من ثمَّ مع استبانة اليقين؛ يصفو الذكر مع قوة الفكر في آي القرآن. واعتبرنا أن هذه الخَاصَّة الذاتية التي تترتب على الحضور هي من موروثات الممارسة ومن ثمار المعاناة في ممارسة الحضور دوماً وفي غير سَهَيَان، وقلنا إن من شأنها أن تتغلغل في عمق داخلي “جُوَّانيِّ” يراها من يطبقها، لا بتعّلم ولا باكتساب؛ بل بهزَّةٍ لدُنيَّةٍ مُفَاضة فيضاً من عند الله: فَيْضٌ في فضل، وفضلٌ من فيض: “قُل بفضل الله وبرحمته؛ فبذلك فليَفْرحُوا هو خيرٌ مَمَّا يَجمَعُون” (سورة يونس: آية 58).

لم نكرر هذا المعنى من جانبنا إلا لتوضيح أمرين اثنين،

 الأول: يتصل بموقف القرآن من العلم، وهو موقف جوهري أصيل يرتبط ارتباطاً مباشراً بحرية العقل المقرّرة سلفاً في الإسلام.

والأمر الثاني: يتصلُ بشرط الحضور في القرآن؛ كون “العلم” فيه شروعاً في التطبيق، ووقوفاً على المباشرة العملية والممارسة الفاعلة.

- القرآن والعلم:

فأمّا الأمر الأول: فهو الذي نتوقف عنده تلك الوقفة؛ لنُجلي بعض عناصره بالنظر فيما صاغه الأستاذ الفاضل محمد فريد وجدي في مقدّمة المصحف المُفسر، وفيما أبداه الدكتور محمد غلاب عن موقف الإسلام من العلم في كتابه “هذا هو الإسلام”؛ ففي هذين الرأيين من تشابه في الوجهة الدفاعية عن الإسلام، وفي توضيح صورة الإسلام الحقيقية خلال تعاليم القرآن ما من شأنه أن يمكننا من ملاحظة قدر انعكاس المعارك الفكرية التي خاضها أمثال هذين العالمين الجليلين مع غير المسلمين من المستشرقين حول الإسلام وقضاياه الكبرى. ومنها على سبيل المثال لا الحصر قضية إنكار موالاة الإسلام للعلم والدعوة إليه والحضّ عليه والإخلاص فيه. واعتبار القرآن – كتاب المسلمين المقدّس – عائقاً للنظر العقلي كما كان يُشَاع لدى بعض المستشرقين.

ولم يكن الفهم – موضوعنا كشرط للخاصّة الذاتية للقرآن – ببعيد مطلقاً عن حرية العقل والعلم، ولم يكن العقل على الإطلاق مُضاداً للدين كما هو مُقرّر في الإسلام؛ فما بين الفهم والعقل والعلم وشائج وصلات لا تختلف كثيراً في روابطها المعرفية وتوجُّهاتها لوحدة القصد في آي القرآن الكريم؛ فالعلم كقيمة من القيم النافعة الباقية لن تقوم له قائمة بغير إعمال العقل.

ولن يكون للعقل ولا للقيم العقلية والمعرفية وجودٌ فعليّ مؤثر على الحقيقة، بغير الفهم الذي هو أحد الأدوات الظاهرة لشهود العيان في استخلاص القيم المعرفية والعلميّة. ولم يكن الحارث بن أسد المحاسبي (ت243هـ) ببعيد عن الصواب حين صَنّفَ أحد كتبه الممتازة (العقل وفهم القرآن)؛ ليكون إشارة قريبة دالة على توحيد المعرفة العقليّة، واتصالها مع فهم القرآن على شرط العلم النافع المُوَجَّه لوَحْدَة القصد. ولا سبيل لفهم الدين إلا بالعقل الذي تنشأ عن فرط استخدامه ملكات التفكر والتّدبُّر والإحالة والتحقيق.

لقد كانت هنالك دعوى عريضة تبناها نفرُّ من المستشرقين الأوروبيين الذين أرادوا الطعن على الإسلام كان منهم من قال: إنّ الإسلام يُحارب الفكر، ويقضي على حرية الرأي، ويحظر على معتنقيه الاشتغال بالعلم الدنيوي، ويقوّض من ثمَّ دعائم الإبداع الإنساني، ولم يبح لأشياعه إلا العناية بالعلوم الدينية؛ وإنه ليعتبر التبحر في العلوم الطبيعة ضرباً من الزندقة التي تستوجب العقاب. وأن القرآن، كتاب المسلمين المقدس، عائقٌ للنظر العقلي كما كان يقول المستشرق الفرنسي (أرنست رينان Ernest Renan (1823- 1892) الذي أقام تفكيره الاستشراقي كله في التعامل مع العرب والمسلمين على الأفكار العنصرية مُفرّقاً بين العقل السامي والعقل الآري، ومؤمناً في إطار تلك التفرقة بالنهضة الكبيرة التي تحدثها أوروبا نظراً لما توليه المجتمعات الأوربية للعلم من اهتمام. ولقد تصدى لأفكار “رينان” كثيرٌ من المفكرين المصلحين أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومصطفى عبد الرازق وفندوا دعواه الباطلة كل التفنيد.

ليس هذا فقط، ولكن أيضاً ردَّدَ المستشرقون من ضمن دعواهم: أن ما عثر عليه التاريخ لدى المسلمين من معارف فكرية هو دخيل عليهم – ليس بأصيل فيهم – من الإغريق وفلاسفة اليونان يرجع الفضل في ترجمته إلى خلفاء العباسيين الذين ورثوا سعة الأفق من أمهاتهم الفارسيات، أو أوحى بها إليهم وزراؤهم ومستشاروهم من الفرس والمسيحيين.

ولم يكن السبب كافياً لقيام تلك الدعوى أو قيام غيرها من دعوات المستشرقين لولا وجود نفرٌ بين المسلمين زعموا على الجهالة أن العقل عدو الدين، ولا سبيل لفهم الدين بواسطة العقل، حتى كان من ضمن الأفكار التي نادوا بها عدم إقرارهم بالعجز عن إدراك ذات الخالق وتشبثهم بوصفه بما يروق لعقولهم، وترضاه لهم مداركهم، وحَمْل الناس على اعتقاد ذلك، والعمل به ومعاقبة كل من يناقشهم فيه.

ومنها: حسبانهم مسائل خلق الكون من الدين وتقدير الطبيعة بحسب أفكارهم وقصر قواها وعجائبها على ما وصل إليهم من الأقاصيص القديمة الخُرافية. على حين كانت أوروبا تدين بمبدأ هام في العلم التجريبي وهو أن لكل ظاهرة طبيعية علة ناموسية تفصلها فصلاً تاماً عما بعد الطبيعة. ومعنى هذا أن مؤثرات الكون محتواة فيه، ليست خارجة عنه، ولا آتية إليه من عالم أسمى كما تقول المسيحية أو الفلسفة. وقد نجم عن هذا بالضرورة فصل العلم عن الدين وعما وراء الطبيعة.

يرفض الإسلام أن يكون العلم وثناً من الأوثان؛ فلم تصغر الإنسانية قط كما صغرت الآن بوساطة العلم المادي الذي يقضي عليها أو يكاد بالانزواء في ركن ضيق محدود من أركان الوجود، وهو ركن التجربة الحسيّة، مادام أنه يحاول جهد الطاقة أن يفقدها كل اتصال يتجاوز حدود المحسّات، ويحملها على جحود كل ما يتعدى أفق المرئيات.

ولكن مع ذلك كله، فقد بلغ الغلو في حمل الناس على هذه الأغاليط بالخلط بين العلم التجريبي والمبادئ العلمية المقررة في القرآن وقياسها على كشوفات العصر؛ ليقال للناس: إمّا هذا وإمّا ذاك، إمّا أن تأخذوا بالعلم التجريبي وكفى، وإمّا أن تتخلفوا عن ركب التقدّم، فظهرت العداوة بين الدين والعلم أو بين العقل والحرية أو بين الفهم وترقية الأذواق والمعارف إلى حد أنهم تربصوا بكل ما يشمون فيه بارقة الحرية العقلية فنكلوا به شرّ تنكيل وأذاقوه العذاب الوبيل، فكم أحرقوا من علماء، وصلبوا من حكماء، وسموا من نبلاء أذكياء، حتى شوهوا وجه الحق مذهبهم وجعلوه عنوان العَسَف والإجحاف بعد أن كان الدين رائد العدالة والإنصاف.

ومهما يكن من شيء؛ فإن تاريخ الإسلام الطويل المفعم بعظائم الأحداث وجلائل الوقائع، لم يحدثنا مرة واحدة أن الإسلام قد حاول، أدنى محاولة، أن يحطم مدنية أمة من الأمم التي فتحها، ووضعها تحت إمرته، وأخضعها لرايته، وإنما كان دائماً يطبعها بطابعه ثم يضمها ويحولها إلى غذاء صالح يفيد أتباعه في دنياهم، أو ينبههم إلى ذكرى تنفعهم في آخرتهم.

ولا ريب أن مسلكاً هذا شأنه ونهجاً مليئاً بالحكمة إلى هذا الحد، ينمُّ عن سعة عظيمة في الأفق تعلوها درجة عالية من التسامح والاعتدال ليشف عن حجة بالغة ضد أولئك المتجنين على الإسلام، المسيئين إلى سمعته، زوراً وبهتاناً، بعزوهم إليه أنه كان – منذ أن وجد – حرباً ضروساً على الفهم والعلم، وعقبة كأداء في سبيل المعرفة والثقافة والتقدّم. ولا جَرَمَ أن هذا الاتهام البعيد عن الحقيقة بعد العدم عن الوجود: إمّا أنه ناشئ عن جهل وسوء فهم للمبادئ الإسلامية، وإمّا أنه شرر متطاير من نار الحقد والحفيظة وسوء النية واسوداد الطويّة.

وأيا ما كان؛ فإنّ الحقيقة التي لا مراء فيها هى أن البحوث العقلية والمجهودات الفكرية والمجادلات النظرية والمحاولات العلمية … وبالإجمال كل فروع المعرفة الإنسانية لم تحارب من الإسلام أية محاربة؛ بل على الضد من ذلك: أمر بها وشدَّد في الحض عليها.

ولا شك كانت هذه الجوانب من المعرفة البشرية هى التي كانت معروفة في تلك العهود باسم العلم الذي طالما أمر به القرآن الكريم، ورفعه إلى الأوج، وجعله في مقدمة الشئون الإسلامية، وأمعن في إبراز الفروق الهائلة بين العالم والجاهل؛ فشبه الأول بالأنوار، والثاني بالظلمات.

ولقد بلغت عناية القرآن الكريم بالعلم إلى حد أنه قرَّرَ أن الإنسان الذي يخشى الله أكمل الخشية، ويقدر جلال الألوهية حق قدرها، إنما هو العالم وحده: “إنما يخشى الله من عباده العلماء”. “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”. “وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور”. “وقل ربي زدني علماً”. “وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم”.

 ولمّا أراد الله تعالى أن يقطع حجة الملائكة الذين كانوا يبدون شيئاً من الدهش ممّا يوشك أن يكون شبه اعتراض على الحكيم العليم جل شأنه، حين أراد أن يجعل في الأرض خليفة:”قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدّس لك؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون”.

لم يجد شيئاً يلزمهم الحجة أكثر من إظهاره جهلهم بما يعارضون فيه، وبالإتيان بآدم الذي كانوا يعترضون على وجوده وإبرازه في صورة تفوقهم … ولكن لا في القوة، ولا في البطش، ولا في السلطان، ولا في الجاه، بل في العلم، وهو أسمى ما يتحقق به التفوق والامتياز:”وعلّم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إنْ كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلمّا أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السّموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون”.

هنالك يصبحُ العلم في القرآن كائناً حَيّاً، شأنه شأن القرآن نفسه، لم يكن ليغفله في الإحاطة والشمول إلا الغافل الذي لا يقف على حيويته المتحركة في إطار المأمور به فرضاً، فليس أعلى من طلب الزيادة منه، وليس أقدر على التفرقة لمن يعلم حق اليقين أن لا يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون. ولم تبلغ عناية القرآن بأمرٍ مقدار ما بلغت عنايته بالعلم في التجربة البشرية؛ كونه حياة حيّة خالصة للذين يقدرون عليه ويخلصون لله في طلبه والقدرة عليه. ولم تكن تزكية الله للعلماء أسمى ولا أرقى ولا أبلغ إلا لأن المعرفة في إطار العلم هي غاية الغايات من عمل الأصفياء.

فالعلم طريقُ معرفة الله لا محالة؛ لأنه يصحب العالم في طريق الله من حيث أمر ومن حيث نهى؛ فيحفظ الطويّة العالمة بإقامة الدليل من غواشي الانحراف. وما يستوى الذين يعلمون بالحجة البرهانيّة مع الذين يجهلونها، ولا يعلمون لا في غاية ولا في هدف ولا في تحقيق منشود.

- قليلٌ العلم خيرٌ من كثير العبادة:

ولم يكن نبيٌ الإسلام، صلوات الله وسلامه عليه، بأقل حرصاً على طلب العلم، وهو الذي سَبَقَ بنظراته الثاقبة باتجاه النظر إلى قيمة العلم كل القوانين المنهجية العلمية الحديثة التي تحرص شديد الحرص على الأمانة في العلم والدقة في نقله بأكثر من أربعة عشر قرناً … بل سبق قانون حماية المؤلفين ونصّ على أن الخيانة في العلم أقوى أثماً من الخيانة في المال، فقال: ”تناصحوا في العلم؛ فإنّ خيانة في العلم أشدّ من خيانة في المال”. ولا غرو فقد فهم المسلمون الأوّلون هذه الروح، وقدروها حق قدرها، وعضوا عليها بالنواجذ، فواصلوا الليل بالنهار لتحصيل العلم والتعب في طلبه، وإحراز المعرفة، ودراسة المشكلات، والتفاني في حلولها. وفي هذا يقول قائلهم: ”العلم لا يضبط باللجام، ولا يصاد بالسّهام، ولا يورث عن الآباء والأعمام. وإنما هو اقتحام المخاطر، واحتضان الدفاتر، واصطحاب المحابر”.

حقيقةً؛ يوم أن فارق المسلمون تلك القيم العلويّة المباركة في طلب العلم وتحصيله، شاعت فيهم الفوضى، وتخلفوا عن ركب الحضارة، وسقطت فيهم قيم القرآن وقيم نبي الإسلام؛  فأصبح العلم لديهم حلية برّانيّة يتزيّنون بها: شارة أو علامة أو مكانة اجتماعية يراءون بها الناس.

لم يكن العلم في التجربة البشرية حقيقة بقدر ما هو صورة برانيّة سرعان ما تزول، ولم يكن طلباً لطريق الآخرة أو مباشرة لوحدة القصد، ولكنه أضحى اليوم بين الناس طلباً لسَعَرِ الدنيا والتنافس الغبي على الزائل الرخيص فيها؛ فانهارت القيم التي يتولّاها العلماء، إذْ زالت عنهم منافع العلم وآدابه، ولم تعد تشيع فيهم قيمه العليا مثل شيوعها أيام المجد الأول: مجد الدين ومجد الدنيا على السّواء.

ولا شك أن الظلام الفكري تعيشه أمتنا اليوم، لهو أدلُّ من أول وهلة على سقوط القيم العلميّة عنه في مستنقع آسن من الآفات والأمراض، واستبدال الحظ الأدنى بالذي هو خير؛ لأنه إذْ ذَاَكَ يعزل الفهم عن العقل، ويعزل العقل عن المعرفة، ويعزلهما جميعاً مرة ثالثة عن قيم القرآن ومبادئه التأسيسية في ظل التجربة البشريّة، ويكتفي فقط بتحصيل القشور القاحلة منها، ثم يعزل العلم عن قيمه الوجوديّة والمصيريّة التي تخدم الفرد فضلاً عن خدمة المجموع.

شدّدت الأحاديث النبوية الشريفة على القيم العلميّة كونها مبادئ أولية في الأمر بالتعلم والتعليم تشديداً لا نظير له في أي دين من الأديان الأخرى؛ فمن ذلك مثلاً قول النبيّ الجليل عليه السلام في الحض على التعلم: ”طلبُ العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة”. “أغدُ عالماً أو متعلماً أو مستمعاً أو محبّاً، ولا تكن الخامس فتهلك”. “قليل العلم خيرٌ من كثير العبادة”.

ولم يكن الأمر بالتعليم بأقل حظاً من الأمر بالتعلم بل هو أشدّ لهجة، وأقسى إنذاراً وتهديداً لمن يكتمون العلم أو لا يحرصون على نشره. وفي هذا يقول صلوات الله وسلامه عليه:” من سئل عن علم فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار”.

وكما استعمل النبيّ في هذا أسلوب الترهيب من عاقبة كتمان العلم واحتكاره، إلى حد أن أنذر العالم الذي يكتم علمه بأن يُلجم يوم القيامة بلجام من نار؛ كذلك سَلك نهج الترغيب بإزاء من يجود بعلمه، ولا يألوا جهداً في بذله لكل من هو في حاجة إليه، فقال صلوات الله وسلامه عليه: ”ساعة عالم متكئ على فراشه ينظر في علمه، خيٌر من عبادة العابد ستين عاماً”. ” أجودكم بعدي رجل علم علماً فنشر علمه … يبعث يوم القيامة أمّة وحده”. ويُلاحظ على هذه الكلمات النبويّة الشريفة إشراق المقاصد العلويّة النافعة قيماً دينيةً في الإسلام تربط الدنيا بالآخرة، وعمل المسير بالمصير، فيجيء طلب العلم أسمى وأرقى ما في الحياة الإنسانية؛ ليتحوّل في العالم الحق إلى تجوهر الشخصية فيه؛ لتكون وَحْدَة القصد من خلاله هى المطلوبة قصداً ورأساً. فالحياة الإنسانية بدون سعي العالم والمتعلم على سلامة النية باتجاه النظر إلى وحدة القصد، لا قيمة لها، ولا مبرر لإصلاحها، ولا جدوى على الإطلاق بالبقاء فيها إلا كما تبقى السوائم السارحة بغير غاية عظمى أو هدف نبيل. كل المقاصد الدنيا الساقطة تزول بزوال مطالبها القريبة.

ولن يبقى في النهاية إلا ما هو خالص في ظلال التجربة البشريّة: المقاصد العليا والمطالب الموصولة بوصلة السّعة والحضور بين يدي الله.

تلك كانت، بلا شك، قيماً نافعة تتضمّن مبادئ مطلقة لا غنى عنها بحال من الأحوال، يصبح التخلي عنها تخلياً في نفس الوقت عن كل نافع يبقى مع الزمن، وفيما وراء الزمن، ثم إنها لتقدح بالجملة في زعم الزاعمين أن الإسلام يحارب العلم أو يضع العقبات في طريق المعرفة. فليس أدعى للدهشة الغربية من النظر إلى دين يرفع من قدر العقل ويؤمن بالعلم والقيم العلميّة، ويعالج “الفهم” كخاصّة ذاتية للقرآن الكريم ثم يكون في نفس الوقت هو نفسه الدين الذي يُحارب العلم ويحدُّ من حدود المعرفة العلمية والعقليّة. إنها ولا ريب لفرية كاذبة يستغربها ولا يسوّغها أدنى ناظر إلى القرآن، وقيم القرآن في التجربة البشرية، من قريب.

ولا شك كانت تلك القيم نفسها هى التي برهن بها علماء المسلمين ممّن عبّروا عن الاستنارة الفكريّة في التراث الإسلامي على سماحة هذا الدين وبخاصّة في مسائل العلم: وذلك حين استقبلوا – كما يقول محمد غلاب (هذا هو الإسلام) – كل أنواع التراث الأجنبي القديم من معرفة إغريقية وترجمات يونانية وحكمة هندية وديانة فارسية، وضمّوه إلى كيانهم المتين، وفعلوا به ما تفعل النحل بالزهور التي تمصّها، ثم تعمل فيها عملها فتحولها إلى شراب مختلف ألوانه فيه للناس شفاء. وسرعان ما أنتجت هذه الخطة الحكيمة: من قادة المفكرين وأفذاذ الفلاسفة وأصناف المجتهدين وجهابذة العلماء وأفاضل المشرّعين من زينوا – ولا يزالون يزيّنون – أروع صفحات التاريخ” (يراجع: هذا هو الإسلام: ص: 31).

تلك كانت نقطة جديرة بالالتفات بكل تأكيد، تُوحي بالانفتاح لا الانغلاق والتقوقع، وتقدر ثقافة الآخرين ومعارفهم وتدل على سماحة “المبدأ” بإزاء العلم يعطيك إيّاه الإسلام، فلم يكن لينقبض عن لقاء كافة الثقافات، ولا أن ينظر إليها نظرة مُغايرة بل هضمها واستوعبها وعمل فيها ذائقته حتى شكلت تباعاً نسيج ثقافته ومقومات ابداعاته.

ولئن كانت جوامع الكَلِم النبويّ تشرق فيها المقاصد العلويّة قيماً دينية في الإسلام يتخذها العالم فيمضي على هداها إلى حيث يكون العلم قيمة خيّرة في ذاتها، فعلى العكس من ذلك تماماً يصبح العلم الذي يدمّر البشرية مادةَ شرِّ كله، ومقصد رعونة في أشخاصه وميادينه لا يعود بالنفع العاجل ولا الآجل على أحد، ولكنه يكون مجال تنافس مادي بين الناس، يشوّه خلق الله، ويقوّض دعائم الأسرة الإنسانية، ويقضي على براءة الحياة ويحيلها إلى سوادٍ ومأساة.

العلم في يد العالم المتحقق بالمقاصد الدنيا رعونة وتدمير، يستخدم في الحروب التي تحركها القيم المادية والاقتصادية، فليس ينفع الإنسانية في شيء بل يقضي عليها ويحليها إلى خراب مُحقق وهلع منكوب. وهو في يد العالم المتحقق بالمقاصد العلويّة أنفع وأبقى، وأصلح للإنسانية في سعيها المتواصل نحو تذليل الكون وتسخيره وترقية التجربة البشريّة، ثم الاتصال بالله على شرعة العمل النافع والمقصد المفيد.

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم - أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف جامعة أسوان

مدخل عام: في عام 2000، قدم عالم الكيمياء الجوية الحائز على جائزة نوبل بول كروتزن مفهوم الأنثروبوسين باعتباره اسم الفترة الجيولوجية التي تلت الهولوسين. بدأ الهولوسين منذ حوالي 12000 سنة، ويتميز بالظروف المناخية والبيئية المستقرة والمعتدلة نسبيًا والتي كانت مواتية لتطور المجتمعات البشرية. حتى وقت قريب، كان للتطور البشري تأثير ضئيل نسبيًا على ديناميكيات الزمن الجيولوجي. وعلى الرغم من وجود خلاف حول التاريخ الدقيق لميلاد الأنثروبوسين، فمن غير الممكن إنكار أن تأثير النشاط البشري على البيئة المناخية أصبح أكثر وضوحًا منذ الثورة الصناعية فصاعدًا، مما أدى إلى وضع يُنظر فيه الآن على نطاق واسع إلى أن البشر لديهم تأثير بيئي جيولوجي حاسم على النظام الحيوي الفيزيائي للأرض. والمثال الأكثر وضوحًا هو تراكم الغازات المسببة للانحباس الحراري العالمي مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان في الغلاف الجوي والتغييرات التي يسببها ذلك في ديناميكيات المناخ. ومن بين الأسباب الأخرى التجانس المتزايد للتنوع البيولوجي نتيجة لهجرة الأنواع الناجمة عن أنشطة الإنسان، والانقراض الجماعي وفقدان التنوع البيولوجي، وتصنيع الأنواع الفرعية الجديدة من خلال التعديل الجيني، أو العواقب الجيوديسية الناتجة عن، على سبيل المثال، بناء السدود الكبيرة، والتعدين، وتغير مستويات سطح البحر. هناك دعوة للخروج من عصر الأنثروبوسين واستكشاف التغيير الجذري في علاقتنا بالطبيعة ولقد لعبت الطرق التي تتعامل بها المجتمعات والمؤسسات والمواطنون مع الطبيعة وتقدرها دورًا رئيسيًا في الأزمات المترابطة المتعلقة بالتنوع البيولوجي وتغير المناخ والموارد الطبيعية والصحة التي نواجهها. نستكشف هذا المداخلة كيفية إعادة صياغة العلاقات بين البشر والطبيعة. ونبحث في كيفية أن يؤدي الفهم الشامل للترابط العميق بين البشر وأشكال الحياة والنظم البيئية الأخرى إلى دوافع جديدة لحماية الطبيعة وتسريع التحول المجتمعي الذي نحتاجه للعيش بشكل جيد ضمن حدود الكوكب. فكيف يتراوح وجود البشر بين نهاية الطبيعية والتغيرات المناخية وبين البيئات غير المناسبة وحالة ما بعد السياسية؟

التسارع نحو عصر الأنثروبوسين

إن حجم السكان البشريين وكثافة الأنشطة الاقتصادية والتكنولوجية البشرية تؤثر بشكل كبير على المحيط الحيوي والغلاف الجوي للأرض. فنحن نغير المناخ؛ والتركيب الكيميائي للغلاف الجوي والمحيطات والتربة والمناظر الطبيعية. في الوقت نفسه، نتوسع على حساب أشكال الحياة الأخرى. وتؤدي هذه التغييرات إلى تآكل قدرة الكوكب على دعم الحياة كما نعرفها - ونحن نقترب بشكل مقلق مما يعتبره البعض "حدودًا آمنة" أو حتى نتجاوزها. إن نطاق التغيير عميق للغاية لدرجة أن العلماء كانوا يقترحون منذ حوالي قرن من الزمان مفاهيم جديدة لوصف الفترة الجيولوجية التي نعيش فيها الآن. لقد اقترحوا أننا لم نعد نعيش في العصر الهولوسيني، بل في "عصر الأنثروبوسين" و"المجال النووي" و"الهوموجينوسين"، ومؤخراً "الأنثروبوسين". في حين أن مصطلح "الأنثروبوسين" جديد نسبياً، فإن القضية الأساسية راسخة جيداً. ففي العالم الغربي، أكد الكاتب والبستاني الإنجليزي جون إيفلين في عام 1662 على الحاجة إلى العناية بالأرض ونباتاتها وتربتها ومياهها وهوائها . وعلاوة على ذلك، فإن تأثير ثاني أكسيد الكربون الناتج عن الاحتراق على المناخ العالمي - والذي أطلق عليه "تأثير الاحتباس الحراري" - كان قد تم وصفه بالفعل في القرن التاسع عشر . ثم قبل 300 عام من إيفلين (1662)، نشرت راشيل كارسون كتابها الربيع الصامت ، والذي أثار الوعي العام والسياسي بالأضرار البيئية الناجمة عن الأنشطة الصناعية. وبعد بضع سنوات، أشار كتاب حدود النمو لنادي روما إلى احتمال تجاوز الموارد وانهيار عدد السكان البشريين ورفاهتهم في ظل "سيناريو العمل المعتاد". وتتوافق مثل هذه التقديرات مع الملاحظات الأخيرة . وعلى الرغم من هذه المخاوف المبكرة، استمرت البشرية في الانتقال إلى عصر الأنثروبوسين بسرعة متزايدة. وعلى وجه الخصوص، شهدت الفترة منذ الخمسينيات من القرن العشرين - والمعروفة أيضًا باسم "التسارع العظيم" - تغيرًا عالميًا غير مسبوق ومتسارعًا من صنع الإنسان. لقد تم توثيق تدمير الموائل الطبيعية، والضرر الواسع النطاق للنظم الإيكولوجية وانقراض الحيوانات والنباتات علميًا دون أدنى شك. وينطبق الشيء نفسه على تغير المناخ المستمر والتغيير الكبير في التدفقات البيوكيميائية. يكرر العلماء هذه الرسالة باستمرار. ومع ذلك، فإن المعرفة وحدها لا تكفي للعمل. يستمر التسارع العظيم . إن حجم التغيير غير مسبوق. يحذر العلماء من حدث الانقراض الجماعي السادس الذي قد يؤدي إلى اختفاء العديد من أشكال الحياة بحلول نهاية القرن. يوضح تقدير حديث التأثير الذي أحدثه البشر على التنوع البيولوجي: من إجمالي الكتلة الحيوية للثدييات، يمثل البشر 36٪ وتمثل الماشية 60٪، بينما تمثل الثدييات البرية 4٪ فقط . إن الأرض تشهد خسارة سريعة للغاية للتنوع البيولوجي: حيث 75% من البيئات الأرضية و66% من البيئات البحرية "تغيرت بشدة" بسبب الأفعال البشرية . كما يرتبط الانحدار السريع في التنوع البيولوجي ارتباطًا وثيقًا بتغير المناخ. وعلى حد تعبير منصة العلوم والسياسات الحكومية الدولية المعنية بالتنوع البيولوجي وخدمات النظم الإيكولوجية والهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، "إنهما يشتركان في المحركات الأساسية، ويتفاعلان ويمكن أن يكون لهما تأثيرات متتالية ومعقدة تؤثر على نوعية حياة الناس وتهدد الأهداف المجتمعية". وتشير التقديرات إلى أن الأنشطة البشرية تسببت في ارتفاع درجة حرارة العالم بنحو 1.2 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة، في المتوسط، مما أدى إلى ارتفاع في الظواهر الجوية والمناخية المتطرفة . وقد دفع هذا الأنظمة الطبيعية والبشرية إلى تجاوز قدرتها على التكيف، مع تأثيرات لا رجعة فيها . تتعرض سبل العيش والصحة والمياه والغذاء والأمن الطاقي لتهديد متزايد بسبب تغير المناخ. ومع توقع ارتفاع درجة حرارة الأرض بمقدار 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة في الأمد القريب، فمن المتوقع حدوث زيادات لا مفر منها في المخاطر المناخية المتعددة والمخاطر التي تهدد النظم البيئية والبشرية.

لقد كرر العلماء المعنيون مؤخرًا تحذيراتهم بشأن حالة الطوارئ المناخية غير المسبوقة والحاجة الملحة إلى اتخاذ إجراءات حثيثة. في قلب التسارع العظيم تكمن مجموعة من العوامل المتفاعلة المتعددة، بما في ذلك التقدم العلمي والتكنولوجي وزيادة مستويات المعيشة ومتوسط العمر المتوقع. وقد جعل هذا النوع البشري فعالاً بشكل لا يصدق في استغلال الطبيعة وتوسيع سكانه بشكل كبير . في حين كان عدد السكان المتزايد هو المحرك الرئيسي للضغوط البيئية، فقد تغير هذا عند مطلع الألفية. لكن، يعد الاستهلاك المتزايد هو العامل الأكثر أهمية في دفع التأثيرات البيئية العالمية. ومع ذلك، فإن المسؤوليات التاريخية والحالية عن الضغوط الكوكبية التراكمية موزعة بشكل غير متساوٍ اعتمادًا على الجغرافيا والثقافة ومستوى التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثروة والرخاء. يتميز تاريخ الدول الغربية بالاستعمار والاستيلاء والتسليع. تاريخيًا، تتحمل هذه البلدان أيضًا المسؤولية عن أعلى مساهمة في انبعاثات الغازات المسببة للانحباس الحراري العالمي، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى الثورة الصناعية التي غذتها الموارد الأحفورية . علاوة على ذلك، كانت الدول ذات الدخل المرتفع مسؤولة عن 74٪ من المواد الزائدة المستخدمة عالميًا بين عامي 1970 و 2017 . في عام 2015، على المستوى العالمي، انبعثت من أعلى 10٪ من أصحاب الدخل أكثر من ضعف كمية ثاني أكسيد الكربون مقارنة بأدنى 50٪ من أصحاب الدخل. يشير هذا إلى قضية "العدالة المناخية": من المرجح أن يكون كبار الملوثين هم الأقل تأثرًا بتغير المناخ، في حين من المرجح أن يكون أفقر الملوثين وأقلهم تلوثًا هم الأكثر ضعفًا. في جوهره، "مجموعة صغيرة وثرية نسبيا مسؤولة عن معظم المطالبات بالموارد والأضرار البيئية - وبالتالي عن التهديدات الوجودية التي يواجهها السكان الفقراء بشدة". خلال العقود القليلة الماضية، أصبح من الواضح بشكل متزايد أنه لا يوجد حل بسيط وسريع للتحديات التي تواجهها البشرية في عصر الأنثروبوسين. التحديات منهجية ولها علاقة بكيفية ارتباط الأفراد والمجتمعات والمؤسسات بالطبيعة وتصرفهم تجاهها. فيما يلي، نسأل عن أنواع العلاقات التي ينشئها البشر في عصر الأنثروبوسين مع الطبيعة وكيف يمكن أن تتغير هذه العلاقات للانتقال إلى عصر الاستدامة.

تطور العقليات المؤسساتية

إن استغلال الطبيعة جزء من التاريخ البشري. لقد طور النوع البشري المهارات والمعرفة والتكنولوجيا لمقاومة القوى والتهديدات الطبيعية والتغلب عليها. في اعتمادنا على الطبيعة، حدد البشر أيضًا تضاربًا أساسيًا في المصالح. مع توسع الحضارة البشرية وتطورها، كانت هناك حاجة إلى المزيد من المساحة والموارد، وتم تدجين أو تدمير أنواع أخرى. ومع ذلك، كانت هناك ولا تزال مجتمعات وثقافات حيث لم يحدث الاغتراب عن الطبيعة وتسليعها بنفس القدر. في العالم الغربي، خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أصبح الوعي البيئي مؤسسيًا تدريجيًا باعتباره الحفاظ على البيئة. في حين تم إعلان المحميات الطبيعية في وقت مبكر يعود إلى عام 1569 (في سويسرا)، جعل الكونجرس الأمريكي من يلوستون أول حديقة وطنية في العالم في عام 1872؛ وتبعتها كندا والدول الأوروبية على مدى العقود التالية . بدأت المؤسسات الدولية التي تركز على الحفاظ على البيئة في الظهور في القرن العشرين، جنبًا إلى جنب مع ولادة النظام المتعدد الأطراف. على سبيل المثال، تأسس الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة في عام 1948 وتأسس صندوق الحياة البرية العالمي في عام 1961. مع إعلان ستوكهولم في عام 1972 ، تم إنشاء برنامج الأمم المتحدة للبيئة. كان الحفاظ على البيئة هو الاستجابة المؤسساتية الأولى لتغيير وتدمير الطبيعة الناجم عن التوسع البشري. لا يزال الحفاظ على البيئة حجر الزاوية في الحوكمة البيئية، لكن قوته تكمن أيضًا في حدوده: فهو ينظر إلى القضية من منظور المصلحة البشرية والأنثروبوسينية بدلاً من الاهتمام البيولوجي أو البيئي بالحفاظ على الطبيعة "الخالصة". وعلى هذا، فإذا ما اعتُبِرت صحة الإنسان أو بقاؤه أو رفاهته على المحك، فمن الصعب تبرير سياسات الحفاظ على البيئة سياسياً. وفي الوقت نفسه، يمتلئ تاريخ الحفاظ على البيئة بحالات انتهاك حقوق الإنسان، مع الإبلاغ عن عمليات الإخلاء القسري وتهجير الشعوب الأصلية والمجتمعات المحلية باسم الحفاظ على البيئة البحرية والبرية في جميع أنحاء العالم . لقد أعادت لجنة برونتلاند وتقريرها "مستقبلنا المشترك" النظر في قضية حماية البيئة من خلال التأكيد على القيمة الآلية للطبيعة بالنسبة للبشر. ووفقاً لهذا التقرير، فإن الطبيعة تشكل جزءاً من الموارد المشتركة العالمية، نتيجة للموارد التي توفرها لنا. على سبيل المثال، ينبغي حماية الغابات المطيرية لأنها تمتص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وهي مستودعات للأدوية غير المكتشفة. وقد شكل تقرير برونتلاند وقمة الأرض وإعلان ريو اللاحق نقطة تحول في العقلية المؤسساتية في عصر الأنثروبوسين. فقد تغير التفكير السائد من حماية الطبيعة ضد البشر، كما كان الحال، إلى حماية الطبيعة لتعزيز التنمية البشرية. وقد جعل هذا التغيير من الممكن سياسياً تطوير سياسات دولية أكثر طموحاً فيما يتصل بالتنوع البيولوجي (مثل أهداف آيتشي لاتفاقية التنوع البيولوجي) والتنمية المستدامة بشكل عام (ولا سيما أهداف الألفية الإنمائية للأمم المتحدة وأهداف التنمية المستدامة في وقت لاحق). وقد تم تحدي هذه الطريقة في التفكير مؤخرًا ، الذي يزعم أنه لمعالجة أزمة التنوع البيولوجي وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، يحتاج صنع السياسات إلى التأكيد على النطاق الواسع لقيم الطبيعة التي تتجاوز القيم السوقية . منذ عام 1973، اعتمد الاتحاد الأوروبي ثمانية برامج عمل بيئية ، تحدد أهدافًا متعددة السنوات ومجموعة واسعة من القوانين البيئية (أو المكتسبات). يعد الحفاظ والاستعادة حاليًا موضوعًا لاهتمام متجدد في سياسة الاتحاد الأوروبي. على سبيل المثال، تنص استراتيجية التنوع البيولوجي في الاتحاد الأوروبي على أنه "يجب تخصيص ما لا يقل عن 20 مليار يورو سنويًا للإنفاق على الطبيعة"، ومن المتوقع تحقيق نتائج إيجابية إذا أمكن تحقيق هذا الهدف. وبالمثل، فإن المتطلب القانوني لاستعادة الطبيعة على نطاق واسع الذي حدده قانون استعادة الطبيعة الجديد في الاتحاد الأوروبي يمكن أن يؤدي إلى نتائج إيجابية مهمة. في حين أن هذه التطورات مشجعة، فإن الوضع خطير للغاية ويشكل تحديًا كبيرًا: فأوروبا حاليًا بعيدة كل البعد عن تحقيق أهدافها الخاصة لحماية الطبيعة والحفاظ عليها واستعادتها وصيانتها، على الرغم من تشريعاتها المتقدمة في هذا الشأن. تبرر المبادرتان السياسيتان المذكورتان الحماية والاستعادة من خلال تسليط الضوء على مجموعة متنوعة من الخدمات التي تقدمها النظم الإيكولوجية والأنواع الأخرى. ومع ذلك، فإنهما لا يذكران أي قيمة جوهرية للطبيعة. وعلى نحو مماثل، تعتبر الصفقة الخضراء الأوروبية الطبيعة شكلاً من أشكال رأس المال - والهدف هو "حماية رأس المال الطبيعي للاتحاد الأوروبي والحفاظ عليه وتعزيزه" - مع الاعتراف بأن رأس المال الطبيعي يتجاوز الموارد الاقتصادية ويمتد إلى خدمات النظم الإيكولوجية المتعلقة بالصحة والسلامة. تعترف خطة العمل البيئية الثامنة للاتحاد الأوروبي بالحاجة إلى التغيير الشامل نحو اقتصاد الرفاهية حيث يكون النمو متجددًا. ومع ذلك، لا تزال تحدد هدف هذا التغيير من حيث تأمين الطبيعة باعتبارها "قاعدة موارد صحية" يمكن من خلالها استخلاص حلول قائمة على الطبيعة. إن القيد الرئيسي الذي يفرضه مفهوم "حماية الطبيعة لتعزيز التنمية البشرية" هو أنه يواجه مشكلة ضعف الاستدامة. وبعبارة أخرى، يُنظَر إلى الطبيعة باعتبارها شكلاً من أشكال رأس المال الذي يمكن استبداله بأنواع أخرى من رأس المال وتداوله. وبهذه الطريقة، يتم تفويض عملية التحول إلى الاستدامة إلى السوق، مع اعتبار المنطق الاقتصادي الأساس المنطقي الرئيسي للسياسة البيئية. على سبيل المثال، إذا كانت اكتشافات الأدوية في مختبرات التكنولوجيا الحيوية تجعل التنقيب البيولوجي التقليدي عتيقًا، فوفقًا لهذا المنطق، ستنخفض قيمة الغابات المطيرة، حيث ستقل الحاجة إلى مواردها الطبية. وهذا يعني أيضًا أن الجزء "غير المنتج" من الطبيعة الذي لا يوفر السلع والخدمات لصالح الإنسان لا يُعتبر "رأس مال"، ويقع ضمن فئة "التنوع البيولوجي الزائد عن الحاجة"، والذي من المرجح أن يظل غير محمي. إن عيوب هذا المنهج واضحة جدًا في مثال "مؤشر الثروة الشاملة". فعلى الرغم من الخسارة غير المسبوقة والمستمرة لرأس المال الطبيعي للفرد بين عامي 1992 و2014، فإن القيمة الإجمالية للثروة الشاملة للفرد لا تزال تشير إلى اتجاه إيجابي في نفس الفترة. وهذا يشير إلى خلل خطير في المنهجية، مما يشير إلى ضعف الاستدامة، وهو ما يتم الاعتراف به الآن بشكل متزايد. إن هذا النقاش ليس جديدًا على الإطلاق ولكنه محوري للغاية. لقد حاولت اتفاقية التنوع البيولوجي بالفعل التعامل مع قيود الاستدامة الضعيفة من خلال الإشارة إلى القيمة المتأصلة للأنواع الأخرى وقيمتها للبشر. وقد فعلت ذلك في مادتها الأولى من خلال إدراج القيم التي يمكن أن تكون اجتماعية وثقافية ولكنها ليست اقتصادية بالضرورة. ومع ذلك، عندما يتم تبرير الأهداف والإجراءات البيئية من حيث الفوائد البشرية، فإنها تصبح مدرجة في منطق نفعي وبالتالي يمكن تجاهلها بسهولة إذا كان من الممكن الحصول على فوائد أعلى من خلال الاستغلال المباشر للموارد الطبيعية. وعلاوة على ذلك، فإن هذا التقييم يستهدف بشكل أساسي تعويض "الأعراض"، بدلاً من العمل على الأسباب الجذرية لتدهور التنوع البيولوجي والنظام البيئي وفقدانه. لقد أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا في 28 يوليو 2022، يعترف بالبيئة النظيفة والصحية والمستدامة كحق من حقوق الإنسان. وفي حين أنه ليس ملزمًا قانونًا، يمكن لمثل هذا القرار أن يعمل كمحفز للعمل. وعلى نحو مماثل، هناك مناقشة جارية داخل الاتحاد الأوروبي حول المسؤولية المؤسساتية عن الأضرار البيئية، ومفهوم الإبادة البيئية والاعتراف بها في قانون الاتحاد الأوروبي. وإلى أبعد من ذلك، دعت الأصوات المنتقدة إلى المزيد من تطوير الاستجابات المؤسساتية للتحديات البيئية والايكولوجية. ويجادل البعض لصالح تشريع يمنح أشكال الحياة غير البشرية الأخرى حقوقًا، وحتى ميثاق الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية للطبيعة. ويضم التحالف العالمي لحقوق الطبيعة مئات المنظمات في جميع أنحاء العالم التي تدافع عن الحقوق القانونية للطبيعة والواجبات القانونية المقابلة للمجتمعات البشرية. وتتجذر هذه الحركات في أفكار الاستدامة القوية والبيئة العميقة، أي في الاعتقاد بأن الطبيعة والنظم البيئية والأنواع والأفراد غير البشرية والبشرية لها قيم لا يمكن تعويضها وجوهرية. قد يكون إدراج حقوق الطبيعة غير القابلة للانتهاك في القانون استراتيجية واعدة لتمكين الحماية والحفاظ عليها. ولكن مجرد الإعلان عن مثل هذه الحقوق لا يكفي ما لم يصاحبه تغيير مصاحب في القيم السياسية والوسائل العملية للتنفيذ. فالسياسات في المجتمعات الحديثة يصنعها البشر ولصالحهم، والتبريرات غير الأنثروبولوجية ضعيفة في ثقافتنا السياسية. وتعكس هذه الحقيقة طبقات ثقافية أعمق تفهم الطبيعة على أنها في معارضة للبشر، وهي الطبقات التي يمكن القول إنها تميز العالم الغربي. وما دامت العلاقة بين البشر والطبيعة تعتبر مسألة "نحن وهم"، فسوف نظل حبيسي "التسارع العظيم".

لا يتعلق الأمر بـ "نحن وهم"

لقد أثارت فكرة الأنثروبوسين العديد من الخطابات حول العصر نفسه، وحول الحاجة إلى الخروج منه وكيفية الخروج منه . إن الخروج من الأنثروبوسين من خلال إعادة التفكير في علاقتنا بالطبيعة، كما اقترح ألبريشت (2015)، هو اقتراح جذاب لأولئك المعنيين بتغير المناخ والتدهور البيئي، وفي نهاية المطاف، الانهيار المجتمعي. ومع ذلك، قد لا يتردد صداه عالميًا، حيث استفاد البعض كثيرًا من الأنثروبوسين والتسارع العظيم، بينما استفاد آخرون قليلاً جدًا. من منظور الاستدامة البيئية، فإن الحاجة إلى التحول العميق معترف بها على نطاق واسع. يسلط برنامج الأمم المتحدة للبيئة الضوء على الحاجة إلى تحويل علاقة البشرية بالطبيعة. في أوروبا، يدعو الآن برنامج العمل البيئي الثامن إلى التغيير النظامي. إن التحول الشامل للنظام وحده هو الذي سيحقق الرفاهة للجميع في حدود قدرة الأرض على دعم الحياة وتوفير الموارد وامتصاص النفايات. وسوف ينطوي هذا التحول على تغيير أساسي في التنظيم التكنولوجي والاقتصادي والاجتماعي للمجتمع، بما في ذلك وجهات النظر العالمية والمعايير والقيم والحوكمة . إن التطورات في العلوم والفلسفة يمكن أن تلهم المزيد من التغيير المؤسستي والسياسي. ويمكن النظر إلى الحفاظ والاستدامة الضعيفة والقوية على أنها خطوات أولية على طريق الخروج من عصر الأنثروبوسين ولكنها لا تزال تعكس عقليته: تفكير ثنائي يضع حدودًا حادة بين "نحن" البشر و"هم" غير البشر. ومع ذلك، فإن حدود هذه العقلية واضحة.

هل يمكننا "نحن" البشر أن نعتبر أنفسنا مستقلين حقًا عن "غير البشر"؟

وصف العلماء والباحثون الطرق العديدة التي يترابط بها البشر والأنواع الحية الأخرى والنظم البيئية . ومن المنظور البيولوجي والنفسي، فإن الفردية هي وهم. في حين أن الخصوصية والتفرد مهمان، فمن الأهمية بمكان أن نعترف بأننا مترابطون. يبدأ هذا بجسم الإنسان، الذي يعد بالفعل كائنًا حيًا فائقًا تلعب فيه آلاف الأنواع من المتعايشين (البكتيريا والعتائق والفطريات) دورًا في الحفاظ على صحة الإنسان. مع التوسع، تصبح جميع الكائنات الحية ونظمها البيئية مترابطة بشكل عميق من حيث المادة والطاقة، على سبيل المثال، على المستوى الأكثر أساسية، من خلال دورات المغذيات في المحيط الحيوي. تتشابك صحة الإنسان وصحة الأنواع الأخرى وصحة الكوكب ، وهي الرؤية التي يجسدها مفهوم "الصحة الواحدة". حتى أن عالمي الأحياء لين مارغوليس وجيمس لوفلوك اقترحا أن كوكب الأرض يمكن اعتباره كائنًا حيًا فائقًا في فرضية غايا. في حين تظل هذه الفرضية مثيرة للجدال علميًا، فقد وجهت الانتباه إلى العديد من الدورات والشبكات المنظمة بدقة للمحيط الحيوي، وكيف يعتمد بقاء الإنسان على صحة النظام البيئي.

قد تساعدنا الفلسفة في التغلب على التمييز بين "نحن" و"هم" وبالتالي تعمل على تقديم أسباب مقنعة لحماية الطبيعة وتنوعها البيولوجي. تتمتع المدارس الفلسفية والأديان الشرقية بتقاليد طويلة في تجاوز الثنائيات مثل "نحن" و"هم"، ويمكن رسم الخط من المفهوم الصيني المعاصر "للحضارة البيئية" وحتى العودة إلى الكلاسيكيات الطاوية المكتوبة منذ أكثر من 2000 عام . ومن بين الأفكار الأكثر حداثة، نجد رؤية الخروج من عصر الأنثروبوسين ودخول عصر التكافل، وهو العصر الذي يبني فيه البشر أفعالهم على فهم أن لدينا علاقات تكافلية مع الأنواع الأخرى والمحيط الحيوي بأكمله. لقد ازدهرت أنظمتنا الاجتماعية والاقتصادية الحالية حتى الآن لأنها أسست أنماطًا قوية ومستقرة لاستغلال الأنواع الأخرى والبشر الآخرين. ومع ذلك، فإن الأنواع الأخرى التي يتم استغلالها هي الكائنات الحية المتعايشة معنا. وعندما نؤذي الآخرين والبيئة، فإننا في نهاية المطاف نؤذي أنفسنا . إن رؤية مماثلة تتمثل في الخروج من عصر الأنثروبوسين والدخول إلى عصر الكثولوسين، عصر التفكير بالمجسات. فالبشر لا يعيشون أو يتصرفون في عزلة، بل من خلال التفاعلات والعلاقات أو "المجسات"، مجازيًا. إن فكرة دونا هارواي عن الكثولوسين هي عصر يتم فيه تحديد الفكر والفعل دائمًا من خلال أسئلة حول من نتفاعل معه ومن نتحمل مسؤوليته. في الكثولوسين، يدرك البشر أنه لا يوجد سوى خيار واحد لبقاء الإنسان، ألا وهو "البقاء مع المتاعب"، كما تقول هارواي، تحمل المسؤولية عن تفاعلاتنا والعمل من أجل ازدهار الأنواع المتعددة. تتردد مثل هذه الأفكار الفلسفية بشكل جيد مع "تقييم القيم" الأخير الذي تم نشره عام 2022. يعتمد التقييم على مفهوم "هدايا الطبيعة" ويقر بوجود قيم وممارسات متعددة ومشروعة لتقدير الطبيعة.  يشير التقييم إلى أن كلاً من الناس والمجتمعات لديهم عدد من الطرق المختلفة لتأطير العلاقات بين الإنسان والطبيعة. وباستخدام مثال النهر، يسلط التقييم الضوء على أن الناس قد ينظرون إلى أنفسهم على أنهم يعيشون من الطبيعة (أي حيث يتم تقدير النهر للموارد الطبيعية وخدمات النظام البيئي التي يوفرها)؛ أو يعيشون في المناظر الطبيعية التي شكلها النهر ويعيشون مع الأنواع الأخرى التي تسكن المناظر الطبيعية النهرية؛ أو يعيشون مثل الطبيعة (أي حيث يُنظر إلى النهر على أنه مقدس وجزء منهم). فما مدى ارتباط البشر بالطبيعة؟

في كتابه "الوهم الذاتي: العلم المدهش حول كيفية ارتباطنا ولماذا يهم ذلك" (2020)، يقدم توم أوليفر أدلة علمية تثبت أن فكرة الذات البشرية الذرية المستقلة هي بناء ذهني مبسط للغاية. ومع ذلك، كأفراد، قد نختلف في كيفية إدراكنا لارتباطنا بالطبيعة. يمكن أن يكون هذا بمثابة نقطة انطلاق لمحادثة حول كيفية وضع أنفسنا الفردية في مواجهة الطبيعة. لذلك تشكل هذه الافكار جزءًا من سلسلة "سرديات التغيير" التي تنشرها الجمعيات للبيئة وتستكشف السلسلة تنوع الأفكار اللازمة لجعل مجتمعاتنا أكثر استدامة وتحقيق طموحات الصفقة الخضراء وتتمثل الرسائل الرئيسية لهذه الدعوى الايكولوجية في ما يلي:

- إن البشر يؤثرون على الأرض أكثر من أي كائنات أو قوى حية أخرى، مما أدى إلى ما وصفه بعض العلماء بالعصر الجيولوجي "الأنثروبوسين".

-قد ارتفعت التهديدات البشرية للنظم البيئية الطبيعية والمجتمعات البشرية بشكل تدريجي، مع عواقب مدمرة على مدى العقود الأخيرة.

- لقد نما الوعي بالتحديات البيئية بشكل كبير على مدى القرن الماضي. ومع ذلك، كانت الاستجابات المؤسساتية غير كافية لحماية الطبيعة. حتى السياسات ذات النوايا الحسنة غالبًا ما تستند إلى الانقسام بين "نحن"، البشر، و"هم"، الأنواع الأخرى.

-هذا التفكير هو جوهر الأنثروبوسين ويحتاج إلى إعادة التفكير.

-إن البشر مترابطون بشكل عميق مع أشكال الحياة والنظم البيئية الأخرى. توضح مفاهيم مثل "الاستدامة القوية" و"الإيكولوجيا العميقة" و"التعايش" و"الكثولوسين" هذه النقطة وتوفر الإلهام لإعادة التفكير في العلاقة بين البشر والطبيعة. قد يكون تبني مجموعة واسعة من العقليات وطرق التعامل مع الطبيعة أمرًا ضروريًا للتحرك نحو مستقبل أكثر استدامة.

-إن السياسات مثل الصفقة الخضراء الأوروبية وبرنامج العمل البيئي الثامن تتخذ خطوات في الاتجاه الصحيح. ومع ذلك، فمن المرجح أن تكون هناك حاجة إلى تحولات عميقة في العقليات والنماذج الراسخة، مثل الاستهلاك. وعلى وجه التحديد، يجب أن ننتقل من النظر إلى الطبيعة كمصدر لرأس المال إلى احترام قيمتها المتأصلة.

-إن مجتمعاتنا بحاجة إلى حكم نفسها بطريقة تتماشى مع احتياجات ومخاوف البشر مع الكائنات الحية الأخرى التي "تخلفت عن الركب" حاليًا. يجب أن نتحول من عقلية "نحن وهم" إلى مفهوم علائقي "نحن جميعًا" لإطلاق العنان لدوافع جديدة لحماية التنوع البيولوجي، متجذرة في شعور أوسع بالمسؤولية.

كان الفيلسوف آرن نيس 1995ـ أحد مؤسسي علم البيئة العميقة ـ متأثراً إلى حد كبير بمبدأ اللاعنف عند غاندي السياسي الهندي. فقد افترض نيس أن تنمية الشخصية الناضجة تعتمد على القدرة على التماهي مع الآخرين ـ أولاً الأسرة، ثم البشر الآخرين، ولكن أيضاً الحيوانات والكائنات الحية الأخرى. وهذا ما أطلق عليه نيس الذات البيئية، ولا ينبغي الخلط بينها وبين الأنا الضيقة. وإذا كان الأمر كذلك، فإن "إطار الحياة" الذي يجسد "العيش كطبيعة" والذي أبرزته لجنة الحكماء الدولية للعلوم والسياسات في مجال التنوع البيولوجي وخدمات النظم الإيكولوجية، والذي يتسم بالوحدة والتماهي، يشكل عنصراً ضرورياً في تنمية ما أطلق عليه نيس الذات البيئية والشخصية الناضجة. من هذا المنظور، فإن التناقض بين المصلحة الذاتية والاهتمام بالآخرين مضلل. وعلاوة على ذلك، فإن الاهتمام بالآخرين قد يكون مفيداً للذات لأننا جميعاً مترابطون. والمصلحة الذاتية، في هذا الرأي، تشمل الاهتمام بالآخرين. إن التغلب على المركزية البشرية لن يكون إذن مجرد تبني نقيضها. بل إنه سيعني رعاية وحماية العلاقات التكافلية بين الكائنات الحية الفائقة على كل المستويات حتى الكوكب نفسه. وعلى حد تعبير ارن نيس: "من خلال التعريف، قد يرون أن مصلحتهم الخاصة يخدمها الحفاظ على البيئة، من خلال حب الذات الحقيقي، وحب الذات الموسعة والمتعمقة". وتدعم الدراسات التجريبية هذا الادعاء من خلال إظهار الارتباط بين الشعور بالارتباط والسلوكيات المؤيدة للبيئة/ المؤيدة للمجتمع.

نحو التغيير النظامي؟

بغض النظر عن مكانتها العلمية، فإن عصر الأنثروبوسين يختلف عن العصور الجيولوجية السابقة في أن أقوى عامل للتغيير (النوع البشري) لديه أيضًا القدرة على الوعي الذاتي والتغيير الواعي. قد لا يكون من الممكن أو المرغوب فيه الخروج من عصر الأنثروبوسين عمدًا، لأنه لا توجد طريقة للعودة إلى عدم كون البشرية لها القوة النهائية للتغيير على الكوكب. لا توجد طرق مختصرة للخروج من أزمات المناخ والتنوع البيولوجي الحالية ويجب أن نجد مسارات كريمة داخلها. في الوقت نفسه، لا يوجد نقص في المعرفة حول المسارات المحتملة "لثني اتجاهات التسارع العظيم" وجعلنا نعيش بشكل جيد داخل حدود الكوكب. نحن لسنا بالضرورة محكومين بكارثة مالتوسية من النمو والانهيار. ومع ذلك، فإن التغيير مطلوب في العديد من المجالات، بما في ذلك معالجة قضايا مثل الإفراط في الاستهلاك، وعدم المساواة، وعدم التوازن في القوة، والمصالح الخاصة، وقصر النظر. إن الاعتراف بالعقليات والنماذج التي تدعم مجتمعاتنا واقتصاداتنا ومؤسساتنا وتطرح الأسئلة بشأنها أمر ضروري. وفي سياق التنوع البيولوجي، ترتبط الأزمة العالمية ارتباطًا وثيقًا بالطريقة التي يتم بها تقييم الطبيعة في صنع السياسات، والتي، للأسف، أعطت الأولوية بشكل أساسي لمجموعة ضيقة من القيم على حساب الطبيعة والمجتمع على حد سواء على الرغم من تنوع قيم الطبيعة. إن الصفقة الخضراء الأوروبية، جنبًا إلى جنب مع التزام الاتحاد الأوروبي بأجندة الأمم المتحدة 2030 وأهداف التنمية المستدامة، تُظهر تقديرًا للطبيعة النظامية لتحديات الاستدامة، وتولد طموحًا وجهودًا سياسية غير مسبوقة. ومع ذلك، فإن الإمكانات الكاملة للصفقة الخضراء الأوروبية لم تتحقق بعد. لذلك يتم إنتاج الأنظمة الثقافية والسياسية والاقتصادية بشكل مشترك وترسيخها بشكل أساسي في النماذج العقلية المجتمعية. وهذا هو السبب وراء ضرورة "التوسع في التغيير" ولماذا يُطلَب الابتكار العميق والمشاركة المجتمعية العميقة في التحولات الجذرية والتحولات المستدامة. وفي حين تُعَد التحولات النموذجية واحدة من أقوى الروافع لتغيير النظام، فإنها أيضًا الأكثر مقاومة وصعوبة في تحقيقها. لذا يستكشف هذه المداخلة فكرة أن أحد المبادئ الأساسية للأنظمة التي يتعين تغييرها هو النظر إلى الطبيعة باعتبارها "هم" ومنفصلة عن "نحن" البشر ومعارضتنا لها. تجعل هذه العقلية من الممكن استغلال الطبيعة وتحويلها إلى سلعة إلى الحد الذي ندمرها فيه. وفي حين تدعو سياسات مثل خطة العمل البيئية الثامنة إلى التغيير النظامي، إلا أنها لم تتحد هذه المبادئ حتى الآن. وبقدر ما يمكن التحكم في التحديات النظامية والتغيير النظامي، فإنها تتطلب من جميع سلطات الحكم أن تلعب دوراً مهما- بما في ذلك الحكومات والأسواق وجمعيات المجتمع المدني، وتفاعلاتهم المتبادلة. إن تحقيق أهداف التنمية المستدامة والتقدم نحو مستقبل عادل ومستدام يتطلب تحولاً في عملية صنع القرار من أجل التعرف بشكل أفضل على قيم الطبيعة، سواء على مستوى المؤسسات أو الأفراد. وعلى مستوى المجتمع المدني، هناك العديد من المجتمعات والثقافات حيث لم يحدث تسليع الطبيعة بنفس القدر وحيث تتمتع أشكال الحياة الأخرى وعناصر المحيط الحيوي بمكانة مختلفة وعليا. ومن المهم أن بعض مواطني المجتمعات الصناعية الحديثة يرتبطون بالطبيعة من حيث الانتماء والقرابة والوصاية والاحترام ويمكن أن يكونوا مصدر إلهام. على سبيل المثال، تستكشف حركة الحياة الطيبة، المتجذرة في المنظمات الأصلية في أمريكا اللاتينية، نماذج بديلة للتنمية من أجل حياة كريمة ومسؤولية اجتماعية وطبيعية، دون استهلاك هائل وتراكم رأس المال. تتخيل أنماط الحياة مثل "العيش البسيط" وأفكار الاكتفاء أو "الكفاية". وفي الوقت نفسه، غالبًا ما يواجه التنفيذ العملي لمثل هذه الأفكار حواجز. على سبيل المثال، قد يصبح تنفيذ حقوق الطبيعة مشكلة حتى لو تم ترسيخها في القوانين (على سبيل المثال في بوليفيا) والتنصيص عليها في الدساتير (على سبيل المثال في الإكوادور)، حيث قد تكون المؤسسات والمحاكم بطيئة في عكس مثل هذه التطورات في ممارساتها. في المجتمعات الرأسمالية الحديثة، عند الواجهة بين المجتمع المدني والسوق، هناك بناء خاص للمواطنين كمستهلكين، يعفيهم من وظيفة أساسية في عجلة الإنتاج التي تدعم النمو الاقتصادي. كما يُعترف بأن مستويات الاستهلاك والأنماط وأنماط الحياة التي تدعمها المجتمعات والأفراد الأثرياء من بين المحركات الرئيسية للضغوط البيئية. ومن المرجح أن يكون التغيير في هذا الصدد ضروريًا أيضًا. ضمن الحركات المذكورة، تتطور وتزدهر أنماط الحياة غير الاستهلاكية. ومع ذلك، فهي أقلية صغيرة. لا جدوى من محاولة فرض سياسات مبنية على أطر حياة أخرى إذا كانت المادية والاستهلاك الهائل لا يزالان يهيمنان على الخطابات المهيمنة والمعايير الثقافية. من حيث الحوكمة، تتطلب التحديات قبول مجموعة أوسع من المبررات لحماية الطبيعة، بما يتجاوز الحجج النفعية البشرية. لقد كان الاعتماد المفرط على إطار الحياة المتمثل في العيش من الطبيعة هو السبب الرئيسي وراء التدهور الهائل للنظم البيئية وفقدان التنوع البيولوجي. هذا يحتاج إلى تغيير. يجب أن يكون هناك توازن أفضل مع الأطر الأخرى، مثل العيش في الطبيعة ومعها وباعتبارها كذلك، في تقييم الإجراءات وفي قيادة السياسات. وفقًا لذلك، هناك حتى مقترحات لميثاق للحقوق القانونية الأساسية للطبيعة. كما تلعب أنظمة الحوكمة وأدوات السياسة دورًا أساسيًا في هذا المجال. وفقًا للمنتدى الحكومي الدولي للعلوم والسياسات في مجال التنوع البيولوجي وخدمات النظم الإيكولوجية، يمكن لأنظمة الحوكمة وأدوات السياسة أن تساهم في خلق الظروف المواتية للتغيير النظامي من خلال:

-تنويع مجموعة القيم والنظرة العالمية الممثلة في صنع القرار؛

-إنشاء مبادرات إنتاج المعرفة الشاملة مع مشاركة أوسع وأكثر تنوعًا؛

-إضفاء الطابع المؤسساتي على قيم الطبيعة عبر مقاييس صنع القرار؛

-الاعتراف بالحاجة إلى مستويات مختلفة من التغيير المجتمعي.

يمكن للعديد من أدوات السياسة دعم مثل هذا التغيير. ومع ذلك، يبدو من غير المحتمل أن يتم تحقيق مثل هذه التحولات في الحوكمة من خلال مناهج من أعلى إلى أسفل وبشكل مستقل عن التحول الثقافي في صنع السياسات. قد يتعين على السياسات الانتقال إلى الفضاء غير المستكشف لمناقشة نماذج السلوكيات وأنماط الحياة وأنظمة القيم. يجب أن تصبح الحوكمة نفسها ليس فقط حكيمة ولكن أيضًا مشاركة وتكافلية ومجسية حقًا. إن مجتمعاتنا بحاجة إلى أن تحكم بطريقة تتوافق مع احتياجات ومخاوف أولئك الذين "تخلفوا عن الركب" حاليًا، من البشر وغير البشر، وتحترم القدرة الاستيعابية للأرض. ولتحقيق الطموحات الكاملة للصفقة الخضراء الأوروبية ورؤية خطة العمل الأوروبية الثامنة، فإن التغيير في النظر إلى "نحن وهم" إلى "نحن جميعًا" أمر ضروري. ومن شأن هذا التغيير أن يخلق دوافع جديدة لحماية التنوع البيولوجي على أساس شعور موسع بالمسؤولية. إننا ندعو إلى "ما بعد الطبيعية" في الفلسفة البيئية ـ إلى فلسفة بيئية لا تستخدم مفهوم الطبيعة بعد الآن. أولاً، إن المصطلح غامض للغاية وخطير فلسفياً، وثانياً، ربما نكون ممن يزعمون أن الطبيعة قد انتهت بالفعل على حق ـ إلا أن الطبيعة ربما كانت قد انتهت بالفعل دوماً. إن ما بعد البيئية، والتاريخ البيئي، والدراسات العلمية الحديثة كلها تشير إلى نفس الاتجاه: فالعالم الذي نعيش فيه هو دائماً عالم تحول بفعل الممارسات البشرية. والأسئلة البيئية هي أسئلة اجتماعية وسياسية، يتعين علينا نحن وليس الطبيعة أن نجيب عليها. وقد يخشى كثيرون أن يؤدي هذا الاستنتاج إلى عواقب وخيمة بيئياً، وإلى مشاكل النسبية والمثالية، ولكننا نزعم أن هذا ليس صحيحاً. فالممارسات حقيقية، وليست مثالية، وليست كل الممارسات متساوية: فالممارسات التي تعترف بالمسؤولية البشرية عن تحويل العالم أفضل من تلك التي لا تعترف بذلك. ويحدث الضرر البيئي عندما لا ندرك مسؤوليتنا عن العالم الذي تخلقه ممارساتنا. إن هذا الطرح الاستفزازي عن الفلسفة البيئية بعد نهاية الطبيعة يزعم أن التفكير البيئي قد يكون أفضل حالاً إذا ما تخلى عن مفهوم "الطبيعة" تماماً وتحدث بدلاً من البيئة المبنية. إن الحفاظ على البيئة، من الناحية النظرية والتطبيقية، يعني حماية الطبيعة. ولكن إذا كنا قد وصلنا الآن إلى "نهاية الطبيعة"، كما أعلن بيل مكيبن وغيره من المفكرين البيئيين، فما الذي تبقى لنا لحمايته؟

في كتابه "التفكير مثل المركز التجاري"، يزعم ستيفن فوجل أن التفكير البيئي قد يكون أفضل حالاً إذا ما تخلى عن مفهوم "الطبيعة" تماماً وتحدث بدلاً من ذلك عن "البيئة" ـ أي العالم الذي يحيط بنا بالفعل، والذي هو دائماً عالم مبني، وهو العالم الوحيد الذي نسكنه. إننا في احتياج إلى التفكير ليس على غرار الجبل بقدر ما ينبغي لنا أن نفكر على غرار المركز التجاري او فضاء التسوق. وتشكل مراكز التسوق أيضاً جزءاً من البيئة وتستحق قدراً كبيراً من الاهتمام الجاد من جانب المفكرين البيئيين كما تستحق الجبال. ويزعم فوجل بشكل استفزازي أن الفلسفة البيئية، في أخلاقياتها، لا ينبغي لها أن تميز بين الطبيعي والاصطناعي، وينبغي لها في سياساتها أن تتخلى عن فكرة مفادها أن شيئاً يتجاوز الممارسات البشرية (مثل "الطبيعة") يمكن أن يعمل كمعيار لتحديد ما ينبغي أن تكون عليه هذه الممارسات. ويزعم أن الاستناد إلى الطبيعة بشكل منفصل عن البيئة المبنية قد لا يكون غير مفيد للتفكير البيئي فحسب، بل إنه في حد ذاته ضار بهذا التفكير. والسؤال المطروح للفلسفة البيئية ليس "كيف يمكننا إنقاذ الطبيعة؟" بل بالأحرى "أي بيئة ينبغي لنا أن نعيش فيها، وأي الممارسات ينبغي لنا أن ننخرط فيها للمساعدة في بنائها؟". ربما يكون السؤال الرئيسي هو هذا: هل يمكننا أن نتخيل عالمًا حيث تكون الممارسات الاجتماعية والاقتصادية في تكافل مع الطبيعة - بدلاً من مجرد وسائل لتحقيق غايات إنسانية؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

يعدّ مفهوم الأنوميا أو الأنوميّ (Anomie) أحد أهمّ المفاهيم المركزيّة الّتي عرفت بها سوسيولوجيا دوركهايم، وقد وظّف هذا المفهوم بقوّة على مدى أجيال متعاقبة من علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا منذ عهد دوركهايم حتّى اليوم، ويوظّف هذا المفهوم سوسيولوجيا في تحليل مختلف أشكال الفوضى الأخلاقيّة والاجتماعيّة في المجتمعات الإنسانيّة المعاصرة.

استخدم دوركهايم مفهوم الأنوميّ (Anomie) في كتابه "الانتحار" (Le suicide ) عام 1897، ووظّفه في معرض الإشارة إلى حالة عدم الاستقرار الاجتماعي أو إلى حالة الاضطراب والفوضى الّتي تهزّ أركان المجتمع بسبب انهيار المعايير الأخلاقيّة، وغياب المثل العليا، وتصدّع القيم الاجتماعيّة المشتركة بين أفراد المجتمع. وقد تؤدّي ظاهرة "الأنوميّ" حسب دوركهايم إلى تفكّك المجتمع وانهيار المعايير والانفصال بين الأهداف الاجتماعيّة المعلنة والوسائل الصحيحة لتحقيق هذه الأهداف، وعندما تستفحل هذه الحالة يدخل الأفراد في سيكولوجيا الإحساس بالاغتراب والعبثيّة والانهيار الأخلاقي1.

صاغ دوركهايم مفهومه عن "الشذوذ الاجتماعيّ" (الأنوميّ) في كتابه "تقسيم العمل الاجتماعيّ "، وقد اشتقت كلمة الأنوميّ (Anomie) من الكلمة اليونانيّة (Anomia)، الّتي تترجم بمعنى "الخروج على القانون"، ويلاحظ في هذا السياق أنّ مصطلح "الأنومي" (Anomie) يترجم إلى اللغة العربيّة بألفاظ مختلفة مثل:" الشذوذ الاجتماعيّ " و"الانحراف الاجتماعيّ" و"الفوضى الاجتماعيّة" و"اللامعياريّة "، (Normlessness) و" الانهيار الأخلاقيّ " وجميع هذه الكلمات تعبّر عن مفهوم الأنوميّ عند دوركهايم وهي مترادفات لفظيّة لمفهومه "الأنوميّ". علماً بأنّ كلمتي "الشذوذ الاجتماعيّ" و" اللامعياريّة: هما الكلمتان الأكثر استخداماً في البحوث الاجتماعيّة.

وصف دوركهايم الشذوذ بأنّه شكل غير طبيعيّ من تقسيم العمل، ووجد بأنّ الشذوذ يتزايد مع غياب القيم الأخلاقيّة والمعايير الاجتماعيّة وعدم كفاية التنظيم اللازم لضمان التعاون بين مختلف الأفراد الموزّعين ضمن الوظائف الاجتماعيّة المتخصّصة. وقدّم دوركهايم أمثلة حيّة وواقعيّة للشذوذ الّذي شهد حضوره في أوقات الأزمات الاقتصاديّة، وبرز في ظاهرة العداء بين الرأسماليّين والعمّال، وفقدان المجتمع لوحدته بسبب التخصّص المكثّف والمتزايد المتزايد. في هذه الحالات جميعها لاحظ دوركهايم العنصر المشترك في الشذوذ هو غياب التفاعل الاجتماعيّ والاتّصال الحيويّ الأخلاقيّ بين الأفراد الّذين يؤدّون أدواراً اجتماعيّة مختلفة في المجتمع.

وفي الأحوال كلها حدّد دوركهايم سببين رئيسيّين للشذوذ، هما: تقسيم العمل، والتغيّر الاجتماعيّ السريع. وكلا الأمرين يرتبطان بطبيعة الحال بالحداثة. إنّ التقسيم المتزايد للعمل يضعف الشعور بالانتماء إلى المجتمع الأوسع، ومن ثم يضعف القيود المفروضة على السلوك البشريّ. وتؤدّي هذه الظروف إلى "التفكّك" الاجتماعيّ- وارتفاع معدّلات السلوك الأنانيّ، وانتهاك القواعد، وما يترتّب على ذلك من فقدان الشرعيّة وانعدام الثقة بالسلطة.

يردّ دوركهايم مفهوم الشذوذ الاجتماعيّ إلى شكل غير طبيعيّ من التقسيم الاجتماعيّ للعمل. وفي تناوله للتضامن الآليّ وجد دوركهايم أنّ الضمير الجمعيّ يسود المجتمعات التقليديّة "البسيطة"، وأنّ هذا الضمير يتميّز بقوّته وقدرته على الضبط الاجتماعيّ، إذ يتضمّن "معتقدات ومشاعر مشتركة بين جميع أعضاء المجموعة". وقد وجد أنّ الروابط الأخلاقيّة القويّة في هذه المجتمعات تمنع حدوث ما يسمّى بالأنوميّ أو بالشذود الاجتماعيّ، إذ يشعر الفرد بارتباط أخلاقيّ قويّ بمجتمعه، وذلك على خلاف المجتمعات ذات التضامن العضويّ.

وقد وجد دوركايم أنّ التقسيم الاجتماعيّ للعمل الموجود في المجتمع الصناعيّ الحديث يؤدّي إلى شكل جديد من التضامن الّذي أطلق عليه كما أشرنا مراراً بالتضامن العضويّ. وقد وجد بأنّ الضمير الجمعيّ في المجتمعات ذات التضامن العضويّ لا يكون شاملاً ومطابقاً للضمير الفرديّ الّذي يتمتّع بدرجة كبيرة من الاستقلاليّة، وقد أكّد دوركهايم أنّ تقسيم العمل يوفّر المزيد من الفرص للتفاعل الاجتماعيّ وتطوير العلاقات الاجتماعيّة، وهو ما يسمّى بـ “الكثافة الأخلاقيّة”. ومن ثمّ فإنّ المستوى الأعلى من الكثافة الأخلاقيّة يخلق المزيد من التضامن العضويّ، ومن ثم التماسك والاندماج في المجتمع.

ومثل هذا الأمر لم يمنع دوركهايم من أن يستكشف أمراض التضامن الحديث ولاسيّما ما يسمّيه بالشذوذ الاجتماعيّ. وقد وجد أنّ الشذوذ هو نتاج لفعاليّة مختلّة في تقسيم العمل. فالتقسيم القسريّ والشاذّ للعمل قد يؤدّي إلى الشذوذ الأخلاق والاجتماعيّ. وبينما يؤكّد دوركهايم أنّ المجتمع العضويّ يولّد روابط الاعتماد المتبادل الّتي تعزّز التضامن الإيجابيّ والتماسك الاجتماعيّ، فإنّه يعترف أيضاً في الوقت ذاته بأنّ المجتمعات الصناعيّة الحديثة، تعاني ظواهر الصراع بين العمل ورأس المال بين العمّال وأصحاب العمل، وبيّن أنّ هذه المجتمعات تعاني من الأزمات الاقتصاديّة والصراعات التجاريّة. وذلك تحت تأثير التقسيم المرضيّ للعمل وبسبب انعدام المعايير الأخلاقيّة والاجتماعيّة (الشذوذ)، والافتقار إلى التنظيم، وتزايد دور المصالح الذاتيّة الفرديّة أو الجماعيّة.

يؤكّد دوركايم على أنّ مثل هذه الأمراض ليست بالضرورة متأصّلة في تقسيم العمل، بل إنّها تنشأ في “ظروف استثنائيّة وغير طبيعيّة”. على سبيل المثال، خلال الثورة الصناعيّة، حلّت الآلات محلّ البشر، وتغيّرت العلاقات بين أصحاب العمل والعمّال، وذلك على خلاف "المجتمعات البسيطة" الّتي كانت تتميّز بوجود علاقة وثيقة وذات معنى بين أصحاب العمل والعمّال والموظّفين، ويضاف إلى ذلك وجود ارتباط قويّ بين العامل ودوره في العمل الجماعيّ،

ولكن مع تطوّر المجتمع والانتقال إلى صور جديدة للعمل الحديث، فرض على العامل نظام عمل صارم وشاقّ أبعده عن عائلته طيلة أيّام العمل وأصبح في الوقت نفسه يعيش بعيداً أكثر من أيّ وقت مضى عن الشخص الّذي يوظّفه. وهذا جزء من التقسيم الطبيعيّ للعمل في المجتمع الحديث. ومع ذلك، «نظراً لأنّ هذه التحوّلات قد أُنْجِزَت بسرعة كبيرة، لم يكن لدى المصالح المتضاربة الوقت الكافي لتحقيق التوازن». ولذا وتحت تأثير هذه الظروف الجديدة يضعف الوعي الجماعيّ، وتتآكل الروابط الاجتماعيّة. فالتخصّص المفرط ينتج "تهديداً للتماسك الاجتماعيّ". ويشرح دوركهايم أنّ زيادة التخصّص في العمل في غياب الترابطات الأخلاقيّة والاجتماعيّة بين التخصّصات المهنيّة قد يكون كارثيّاً في المستويات الأخلاقيّة والاجتماعيّة، ويتطرّق في هذا السياق إلى الانفصال الاغترابيّ للعامل الّذي يقوم كلّ يوم بتكرار العمل الروتينيّ كلّ يوم ضمن نسق من الحركات الرتيبة المملّة، ولكن دون أن يكون لديه أيّ اهتمام أو فهم لها، وهذا يعني أنّ العامل لم يعد ضمن هذه الترسانة الصناعيّة كياناً حيّاً، بل أصبح ترساً جامداً هامداً وهذا من شأنه إلغاء الجانب الإنسانيّ والأخلاقيّ في حياة العمّال وغيرهم من العاملين في النظام الصناعيّ، وهذا يشكّل أحد الأسباب الأساسيّة لظاهرة الشذوذ والانحراف الأخلاق الاجتماعيّ.

وعلى هذا الأساس يبني دوركهايم أنّه عندما يكون تقسيم العمل مَرَضيّاً، فإنّه يعيق تكوين علاقات اجتماعيّة أخلاقيّة متماسكة، وذلك لأنّ هذا النمط من تقسيم العمل يؤدّي إلى زيادة المسافة الاجتماعيّة بين مختلف شرائح المجتمع وأفراده، وهذا بدوره يمنع من تشكّل الكثافة الأخلاقيّة الضروريّة لتعزيز التضامن العضويّ في المجتمع. وفي هذه الحالة لا يمكن للمجتمع أن يعمل بشكل فعّال عندما يعاني تصاعد ظاهرة الشذوذ الاجتماعيّ، إذ لم يعد كلّ جزء من أجزائه مرتبطاً بعلاقته المعنويّة بالجماعة والمجتمع؛ وعلى هذا النحو تعمّ الفوضى، ويظهر التفكّك ويعاني المجتمع من الانحلال الاجتماعيّ والأخلاقيّ، وقد جادل دوركهايم بالضرورة الحيويّة للأخلاق الّتي يمكنها أن تحقّق للفرد كماله من جهة، وأن تحقّق له تفاعله الحيويّ مع المجتمع الّذي يعيش فيه.

وعلى هذا النحو، فإنّ نظريّة الشذوذ لدوركهايم ترى أنّ التقسيم الاجتماعيّ للعمل الّذي تطوّر في بداية التصنيع قد أضعف "الضمير الجمعيّ" (Conscience collective)، وأدّى إلى تضاءل الأعراف والقناعات والضوابط الأخلاقيّة الّتي كانت سائدة في المراحل السابقة، وعليه تراجعت المبادئ الأخلاقيّة والقيم الاجتماعيّة القديمة الّتي تحضّ على التفاعل الأخلاقيّ والاجتماعيّ بين أفراد المجتمع، وقد تركت ساحتها بمبدأ تقسيم العمل القسريّ الشاذّ الّذي أطاح بالقيمة الأخلاقيّة للمجتمع، فأدّى إلى إعاقة التضامن الاجتماعيّ بين أفراده.

ويرى دوركهايم في هذا السياق أيضاً أنّه لا يمكن التحكّم في رغبات البشر ومصالحهم الذاتيّة إلّا من خلال قوى أخلاقيّة تنشأ خارج الفرد وتحت تأثير ضغط العقل الجمعيّ القائم على وحدة المجتمع. يصف دوركهايم هذه القوّة الخارجيّة بأنّها ضمير جمعيّ، وهو رابطة اجتماعيّة مشتركة يُعَبَّر عنها من خلال أفكار وقيم وأعراف ومعتقدات وأيديولوجيّات الثقافة. وبما أنّه لا يوجد شيء داخل الفرد يقيّد هذه الشهوات، فمن المؤكّد أنّه يجب احتواؤها من قبل قوّة ما خارجة عنه، وإلّا فإنّها ستصبح غير قابلة للسيطرة، وستدفع إلى الفوضى والشذوذ والعدميّة.

وبما أنّ الضمير الجماعيّ ينشأ من المجتمع، فقد أوضح دوركهايم أسباب وآثار ضعف الروابط الجماعيّة (ومن ثم إضعاف الضمير الجماعيّ) في الفرد والمجتمع في كتابيه، تقسيم العمل في المجتمع (Division du travail) (1893) والانتحار (Le suicide) (1897). ويؤكّد دوركهايم في هذا المسار إنّه ضعف القيود الاجتماعيّة وتراجع تأثير الضمير الجمعيّ يشجّع على تنامي المصالح الفرديّة، وعندها سيسعى كلّ فرد إلى إشباع إلى إشباع شهواته دون التفكير كثيراً في التأثير المحتمل لتصرّفاته على الآخرين. وبدلاً من السؤال "هل هذا أخلاقيّ؟" أو "هل توافق عائلتي؟" من المرجّح أن يسأل الفرد "هل يلبّي هذا الإجراء احتياجاتي؟" يترك الفرد ليجد طريقه الخاصّ في العالم- عالم تضاعفت فيه الخيارات الشخصيّة للسلوك مع ضعف المعايير والمبادئ التوجيهيّة الأخلاقيّة القويّة والإصرار.

ومـن أجـل معالجة الانهيار الأخلاقيّ والشذوذ الاجتماعيّ عوّل دوركهايم كثيراً على مفهوم النقابات الاجتماعيّة والمهنيّة والهيئات الثقافيّة الّتي يمكن أن توظّف في العمل على تحقيق التناسق والتكامل بين مختلف التقسيمات المفرطة للعمل في المجتمع، إذ يمكن لهذه الهيئات أن تربط بين المهن المتعاونة، وتعمل على التنسيق بين اختصاصاتها2. وقد بيّنت الوقائع بأن لا يمكـن للمجتمع السياسيّ بمجملـه ولا للدولة أن ينجّـزا هـذه الوظيفة؛ فالحيـاة الاقتصاديّة تنزع بقوّة إلى التقسيم المفرط في العمل وإذ ذاك يمكن للمؤسّسات المعنيّة بالمهن المتقاربة والمتجانسة إن تعمل على تنظيم هذا التقسيم وتحقيق التوازن الأخلاقيّ بين الأفراد العاملين فيها بشكل فعّال كي تضمن سير عملها بفعاليّة تواصليّة عميقة، وفي النهاية وجد دوركهايم أنّ غياب الضوابط الأخلاقيّة والاقتصاديّة أدّى إلى الحروب الاجتماعيّة، وإلى البؤس الأخلاقيّ، مثلمـا أنّ غيـاب ضوابط الحياة الدوليّة أدّت إلى الحروب العالميّة المدمّرة3.

***

عليّ أسعد وطفة

جامعة الكويت

...........................

مراجع المقالة:

1 - جي.جي.كلارك، التنـوير الآتي من الشرق، ترجمة شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة، 2007، ص 59 .

2 - فيليب كابان- جان فرانسوا دورتيه، من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية، تــرجمـة: إياس حسن، دار الفـرقـد، 2010:. ص 60.

3 - فيليب كابان- جان فرانسوا دورتيه، المرجع السابق . ص 60.

” عندما يقوم علماء الاجتماع بإجراء بحوثهم ومؤلفاتهم السوسيولوجية فإنهم لا ينهضون إلى موضوعاتهم البحثية بفتور ولا تكون عقولهم جوفاء. وسواء كانت موضوعاتهم تتعلق بطريقة تعامل الناس مع الموت، أو التطور الكلي والمستقبل المحتمل للمجتمع الحديث، فإنهم يركزون على جوانب معينة لما يجري ويقاربون موضوعاتهم بافتراضات معينة، ويؤكدون على مناهج بحثية معينة، ويمتلكون أنماطاً معينة من التساؤلات التي يريدون الإجابة عليها. وهذا يعني أن بحثهم يرتكز على طرق معينة للنظر إلى الأشياء التي تقدمها النظريات السوسيولوجية. إن ما تفعله النظريات هو تفسير تلك الموضوعات بطريقة واضحة ونظامية “.

إن المنظرين السوسيولوجيين مميزون لأنهم يعبرون عن افتراضاتهم أو فرضياتهم بطريقة نظامية جداً، ويناقشون إلى أي مدى تفسر نظرياتهم الحياة الاجتماعية بطريقة شاملة جداً. وما هو أكثر أهمية، أنهم يقدمون رؤى جديدة حول السلوك وأعمال المجتمعات.

تظهر أهمية التنظير والنظرية في تنمية الإبداع وتعزيز الخيال السوسيولوجي عند الباحثين. فالتنظير هو العملية التي تؤدي إلى النظرية، والنظرية مبنية، والتنظير هو عملية البناء. حيث يركز التنظير على الاكتشاف بدلاً من التبرير، فالتبرير يأتي لاحقاً. وهذا يعني أن النظرية ما هي إلا تصور مسبق لشيء ما، والبعض الآخر يرى أن النظرية تمثل فروض علمية، وهناك من يرى بأن النظرية هي قانون علمي، وفريق آخر ينظر إليها على أنها براديغم (نماذج). وبهذا المعنى فإن النظرية هي تفسير لمجموعة من الجهود المتراكمة للباحثين الذين يتخصصون في علم معين وتنتهي بالضرورة إلى صياغة مجموعة من التعميمات التي هي جزء من النماذج المتعددة والمختلفة.

بذلك تعتبر النظرية إطاراً تفسيرياً للظاهرة المدروسة عن طريق نسق مفاهيمي، يحدد علاقة بين متغيرات معينة بغرض التنبؤ بحدوثها، بأخذها مسافة مع المعرفة التلقائية والأفكار المسبقة. كما تُعتبر جزءاً لا يتجزأ من السيرورة المنهجية، حيث لا يمكن الاستغناء عنها. من خلالها، يتمكن الباحث من الابتعاد عن معوقات الحس المشترك. وفي سيرورة البحث، سيقوم الباحث باقتراح فرضيات محاولاً اختبارها والتي ستوجهها النظرية، كما يتعين عليه تحديد المفاهيم حتى يتبين دورها في بناء النظرية.

بمعنى آخر، تعني النظرية صوغاً صريحاً لعلاقات تصورية بين مجموعة من المتغيرات، يتم في ضوئها تفسير فئة من الإطرادات التي يمكن تحديدها تحديداً تجريبياً كما أشار كابلن. ويرى إيرنست ناجل Ernest Nagel في مقاله الشهير " مشكلات المفاهيم وصوغ النظرية في العلوم الاجتماعية Problems of Concepts and Theory Formulation in the Social Sciences " إن تحديد القواعد المنهجية (مراحل وعمليات تأسيس النظرية) لصوغ النظرية في علم الاجتماع بكل ما تحويه النظرية من معانٍ وما يتضمنه تفاوت معانيها من أسس عديدة، أمر يصعب تحقيقه من غير أن تقنن القواعد المنهجية لبناء النظرية وصوغها.

في حقيقة الأمر، تتكون النظرية على العموم من مفهومات، ومن قضايا أساسية تربط بين هذه المفهومات، ومن النتائج التي يمكن استخلاصها من هذه القضايا بواسطة الاستدلال المنطقي. والمفهومات حدود، تشمل المقولات والأنماط التصورية وغير ذلك من البناءات التصورية التي تحدد موضوع النظرية أي إنها تحدد الظواهر التي تتناولها النظرية ويبدو هذا التحديد الذي تقوم به المفهومات في اتجاهين: الاتجاه الأول تقوم فيه المفهومات بتحديد المشاهدة بالنسبة للظواهر التي تتناولها النظرية، والاتجاه الثاني تقوم فيه المفهومات بتحديد نظام تصنيفي يصور الخواص الرئيسية التي تسمى وحدة المشاهدة.

ويطلق على المفهومات التي تُستخدم في تنصيف وحدات المشاهدة استناداً إلى خواصها اسم المتغيرات وبعد أن يتم تحديد المتغيرات، تحدد العلاقات المنطقية التي يمكن أن تقوم بين مجموعة من المتغيرات التي تحويها لغة النظرية، ويصدق على التصنيف بمقتضى مفهومات النظرية ما يصدق على التصنيف العلمي عامةً، إذ ينبغي أن يكون التصنيف جامعاً بحيث تندرج تحته كل فئة يعبر عنها بمفهوم معين في النظرية وكل وحدات المشاهدة التي تحمل صفات الفئة، وأن يكون التصنيف مانعاً لا يسمح بإدراج وحدة بعينها من وحدات المشاهدة في أكثر من فئة واحدة. وعندما يتحقق ذلك الشرط، فإن في ذلك ما يتيح مشاهدة الظاهرة التي تتناولها النظرية مشاهدة منتظمة حيث تتحدد اتجاهات المشاهدة في ضوء مفهومات النظرية.

بناءً على ما تقدم سنحاول في هذه المقالة مناقشة العمليات الرئيسية التي من خلالها يتأسس بناء النظرية منذ بداية كونها معطاة في الواقع الاجتماعي، حتى تأسيس التعميم النظري العام. وحتى اكتسابها طابع القضية العلمية القادرة على توجيه البحث العلمي الامبيريقي المرتكز على معطيات الواقع الاجتماعي واطراداته. فإن تأسيس إطار نظري لا بد أن يمر من خلال أربع عمليات رئيسية، هي كما يلي:

1- التأسيس Construction: وتعتبر عملية التأسيس من أهم العلميات المتصلة ببناء النظرية وأخطرها. إذ يعتبر تأسيس النظرية محاولة لإنشائها بدقة، وفقاً لخطة يمكن الدفاع عنها بالاستناد إلى فهم واضح للمسلمات. على هذا النحو يعتبر تأسيس النظرية جهداً خاصاً يهدف إلى صياغة بعض القضايا النظرية التي تعتبر مقدمات منطقية أو تتضمن مبدأ منهجياً عاماً واضحاً قابلاً للاختبار الامبيريقي. وتتضمن عملية التأسيس النظري ثلاث عمليات فرعية هي:

أ - صياغة المفهوم :Concept Formulation إذا تعتبر صياغة المفاهيم من المهام الرئيسية لتأسيس النظرية، والمفهوم عبارة عن اسم أو رمز لفئة من الوقائع والأفكار، وقد يكون المفهوم ذا دلالة واقعية تتأسس بالنظر إلى الملاحظات الواقعية، أو قد يكون مجرداً بصورة كاملة. وصياغة مفهوم يتحقق حينما نضع مجموعة من الملاحظات الفجة فيما يتعلق بمتغير معين، بشكل مباشر في إطار مجموعة من المقولات التي نسميها مفاهيم.

ب - تأسيس القضية النظرية: في هذا السياق نسعى إلى خلق الصلة بين مفهوم ما وبين مفاهيم أخرى في إطار قضية حتمية. فإذا استطعنا تحديد مفهوم كمفهوم الانتحار عند دوركايم، فإننا نجد أن الانتحار كمفهوم يتصل بالضغوط الاجتماعية التي يتعرض لها المنتحر. في إطار ذلك فإن ما نعنيه بالضغوط الاجتماعية كمفهوم يصبح ذا أهمية قصوى في عملية التأسيس النظري، ما دام التعرف عليها يمكن أن يصبح أساساً لنظريات عن الشخص الذي يميل إلى الانتحار، ومن ثم سنطرح أهمية ملاحظة الضغوط الاجتماعية التي تقع على البشر ويكون من نتائجها تأسيس قضية تجريبية تتعلق بالعلاقة بين مفهوم الانتحار ومفهوم الضغوط الاجتماعية.

ج - إضافة قضايا نظرية: كما ذكرنا سابقاً إن الضغوط الاجتماعية تؤثر على ميل بعض البشر نحو الانتحار. فإننا نجد أنه وإن صاغ المنظّر مفهوم الانتحار والضغوط الاجتماعية، فإنه يجد نفسه مضطراً إلى تحديد طبيعة هذه العلاقة. ونحن وإن كنا لم نلاحظ التأثير، إلا أننا أدركناه من خلال مؤشراته. ومن المثال السابق إذا قلنا إن مفهوم الانتحار والضغوط الاجتماعية مفاهيم ذات طابع إمبيريقي، فإن مفهوم التأثير influence يشكل المفهوم النظري في هذا المثال. وهو يصاغ بطريقة تجعل منه متغيراً Variable في حالات واقعية فإن مدى تأثيره يبدأ من صفر وحتى أقصى مستوى، وحينئذ يكون باستطاعتنا أن نشتق الفرض القائل، أنه كلما كان تأثير الضغوط الاجتماعية هائلاً ازداد الميل إلى الانتحار عنه لو كانت الضغوط الاجتماعية في مستوى الصفر، إذ يفترض حدوث التأثير من خلال الضغوط الاجتماعية كوسيط لذلك. بيد أن هذا لا يمنع من تدخل متغيرات أخرى في أحداث الانتحار، ومن ثم يمكن تضمينها في قضايا مثلما حدث في القضية السابقة، بحيث أنه كلما زادت قضايا النظرية والمتغيرات التي تضمها زادت النظرية تعقيداً واكتمالاً.

2- تنظيم القضايا Codification: بينما يتركز جهد التأسيس النظري حول تحديد طبيعة المفهوم، ثم العلاقة بين المفاهيم حتى تأسيس القضية النظرية. فإن تأسيس النظرية يحتاج بالإضافة إلى ذلك تنظيم مجموعة القضايا التي تم التوصل إليها في إطار شكل منطقي منتظم ونسقي، وهي العملية التي يطلق عليها التنظيم Codification. والتنظيم هو الترتيب المنتظم والمحكم للتجربة المنظمة والمثمرة التي يتم إنجازها بواسطة إجراءات البحث، كذلك والنتائج العينية التي تنتج عن الاستفادة من هذه الإجراءات.

3 - الاشتقاق Derivation: بينما تتصل عمليات التأسيس الافتراضي والتنظيم بصياغة بناء النظرية في مستوياته المتباينة، فإن الاشتقاق - كعملية تتبع في بناء النظرية الاجتماعية - يهتم أساساً بتأكيد كفاءة النظرية عن طريق إعادة تعريض قضايا النظرية في شكل فروض جديدة تحتاج إلى الصدق والإثبات الإمبيريقي. وبذلك تتأكد الصلة التي ينبغي أن تكون بين النظرية والبحث الامبيريقي، وتؤكد استمرار كفاءة النظرية، عن طريق الإعادة المستمرة لاختبار الفروض المشتقة من بنائها الأساسي. وإلى جانب أن الاشتقاق قد يعني محاولة تحديد طبيعة وخصائص بعض البيانات بالنظر إلى بعض الفروض المشتقة من بناء النظرية بشأنها، فإنه يساعد أيضاً في التحقق من سلامة التفسيرات البعدية التي قد تطرح في أعقاب اكتشاف أية معطيات أساسية تتعلق بمفاهيم معينة، أو بالعلاقات بين هذه المفاهيم. وبالنظر إلى هذه العمليات ذات الأهمية بالنسبة لبناء النظرية، فإننا نجد أن عمليتي التأسيس والتنظيم تتجهان من أسفل إلى أعلى، بحيث تسبق أولاهما الثانية، أي من مستوى المعطيات الامبيريقية إلى مستوى المبادئ والتوجيهات النظرية العامة فهي تتجه مما هو ملموس وواقعي إلى ما هو تركيبي وأكثر تجريداً. على خلاف ذلك نجد أن عملية الاشتقاق تتخذ اتجاها عكسياً، من البناء النظري إلى المعطيات الامبيريقية من خلال اشتقاق الفروض من بناء النظرية ثم إعادة اختبارها امبيريقياً، هذا بالإضافة إلى قطع الطريق في مواجهة أية كيانات نظرية زائفة كالتفسيرات البعدية، أو تلك التي تظل على مستوى التوجهات النظرية العامة.

 4- الإبداع Creation: برغم أهمية هذه العملية لاستكمال بناء النظرية الاجتماعية فإنها تعتبر أقل العمليات من حيث مستوى التقنين، فليس يكفي أن تصوغ مفهوماً يشير إلى مجموعة من المعطيات الواقعية المتماثلة، أو تأسيس قضية عن طريق صياغة علاقة اطرادية بين مفهومين، أو ضم هذه القضايا من خلال عملية التنظيم في إطار بناء نجاهد أن يكون متسقاً ومنطقياً، إذ أنه لو كان الأمر على هذا النحو في بناء النظريات العلمية لوجدنا كماً من النظريات يقارب تقريبا كم المتخصصين في أي علم من العلوم. يؤكد ذلك ما يذهب إليه إيرنست ناجل من أن النظريات إلى جانب أنها جهد عقلي منظم فهي تعتبر (إبداعات حرة Free creations) للعقل. بل أننا نجد باحثاً مثل جوهان جالتونج يذهب إلى القول بأن توفر التراث العلمي في شكل معطيات أو تعميمات إمبيريقية ليس كافياً لقيام النظرية، إذ تعتبر النظرية هي الوحدة المعرفية الوحيدة في نسق التفكير العلمي التي لا تخضع في صياغتها للتنظيم. ذلك لأن بناء النظرية يعد إنجازاً خلاقاً، ومن هنا فإن الأمر لا يدعو للدهشة حين نجد نفراً قليلاً من المشتغلين في ميدان علمي معين هم القادرون على القيام بمثل هذا العمل. حيث نجد لديهم القدرة على القفز فوق الأدلة المنطقية، وإحساس خفي متصل بالجهد الخلاق، فصياغة النظرية تشبه - إلى حد كبير - إنجاز العمل الفني. ومن هنا كانت منهجية النظرية وصياغة النظرية متخلفة بالنسبة لمنهجية الفروض وصياغتها. وأنه يبدو أن نوعي الفلاسفة والعلماء اللذين يعملان على هذين المستويين مختلفين كيفياً.

خلاصة القول، تعتبر النظرية عبارة عن ربط معقد بين مفاهيم معينة، عبر مجموعة من الاقتراحات لفهم الظاهرة، تربطها علاقة ببعضها البعض. تسعى إلى تقدم الإطار التفسيري للظواهر المدروسة، مشكلة نسقاً من المفاهيم المرتبطة ببعضها البعض عن طريق نسق مفاهيمي، لتفسير الميكانيزمات المتحكمة بالظاهرة، بهدف التنبؤ بها. إن النظرية في نظر ريتشارد سويدبيرغ Richard Swedberg، ليست عبارة عن موهبة عقلية فطرية فقط، هي بل هي مكونة من عدة أجزاء يتعين تركيبها معاً والتوفيق بينها بأسلوب خاص، أي إن على الباحث أن يبني النظرية من خلال إنشائها وتركيبها تركيباً.

وهكذا تتميز النظرية في علم الاجتماع بكونها تعبر عن مجموعة من الأفكار التي تجسد ماهية البنى والنظم الاجتماعية والممارسات الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية بين الأفراد والجماعات بغرض فهمها واستيعابها. إنها عبارة عن ترابط للأفكار والقوانين والمفاهيم التي يتم تكوينها من الواقع الاجتماعي. فالنظرية تساعدنا على بلورة إجابة على سؤال معين، أو تفسير أحد الممارسات أو الظواهر في حياتنا اليومية.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

..................

- المراجع المعتمدة:

- علي ليلة: علم الاجتماع وبناء النظرية الاجتماعية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، الكتاب الأول، ط1، 2016.

- علي بن محمد الكاشف: النظريات الاجتماعية – الاتجاهات والمذاهب الكلاسيكية، بدون دار نشر، ب. ت.

- لمياء مرتاض نفوس: إشكالية التنظير في العلوم الإنسانية، دار المناهج للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2021.

- عبد الإله فرح: التنظير والنظرية في سوسيولوجيا ريتشارد سويدبيرغ، ببلومانيا للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2024.

- رث والاس، ألسون وولف: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع – تمدد آفاق النظرية الكلاسيكية، ترجمة: محمد عبد الكريم الحوراني، دار مجدلاوي، عمان، ط1 (العربية)، 2011-2012.

 

على الرغم من أن الشعبوية لم تكن ظاهرة جديدة، لكن ازداد الاهتمام بها على نطاق واسع في السنوات الأخيرة، على المستوى الرسمي والأكاديمي والشعبي؛ نتيجة صعود شخصيات وأحزاب يمينية متطرفة في الانتخابات في بلدان أوروبية عدة والولايات المتحدة، خصوصا بعد وصول دونالد ترامب للبيت الأبيض في الفترة الرئاسية السابقة، وترشحه للفترة القادمة. هذه التطورات والتحولات لم تحدث بمعزل عن الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية العميقة التي تواجهها البلدان الرأسمالية، بل حتى البلدان النامية لم تسلم من صعود هذه الظاهرة خصوصا في بلدان أمريكا اللاتينية، والمنطقة العربية كذلك، وإن لم تُدّرس فيها الحالات الشعبوية التي شهدتها مثل الناصرية وحالة عبد الكريم قاسم أكاديميا. علما أن هذه الظاهرة لم يسلم منها اليسار عالميا، فقد ظهرت في صفوفه في فترات مختلفة. ويترافق كل ذلك مع الالتباس الذي يحدث في بعض الحالات في التمييز بين ما هو شعبوي وغير شعبوي، فهناك شخصيات وأحزاب غير شعبوية ولكنها تتبنى خطابا شعبويا في ظروف معينة مثل فترات الانتخابات أو أحزاب شعبوية لكنها تتراجع عن خطابها الشعبوي عندما تدخل في حكومات ائتلافية.

وإسهاما في التعرّف على بعض سمات الشعبوية التي بات خطرها يهدد حتى الديمقراطيات الراسخة فما بالك بالديمقراطيات الناشئة في البلدان النامية، كرسنا هذه المقالة لهذه الموضوعة والتي سنعالج فيها: مفهوم الشعبوية، وخلفية نظرية، وأسباب ظهور الشعبوية، والخطاب الشعبوي، والشعبوية والأزمة، والشعبوية والفاشية وخطر الشعبوية.

مفهوم الشعبوية

مفهوم الشعبوية مثل الكثير من المفاهيم الأخرى في العلوم الاجتماعية والإنسانية، مازال موضع نقاش وسجال، وهذا يعود إلى تداخل وتعقد المكونات التي تُسهم في نشوء هذه الظاهرة وتغذيتها زمانيا ومكانيا سواء على مستوى بعدها المحلي أو العالمي.

يمكن تعريف الشعبوية بأنها "عقيدة واستراتيجية سياسية وأسلوب خادع لتسويق البرامج السياسية". وقد جرى استخدام هذا المصطلح أول مرة في سياق الديمقراطيات الحديثة عام 1890، لوصف الطرف الثالث الواسع من الجماهير، غير الممثل بواسطة الأحزاب الرئيسة(1)، خصوصا في البلدان الأوروبية.

لكن هناك من يرى أن الشعبوية مفهوم بعيد المنال ومتكرر في الوقت نفسه. فنحن نعرف من خلال الحدس ما نشير إليه عندما نسمي حركة أو أيديولوجيا بأنها شعبوية، ولكن لدينا صعوبة أكبر في ترجمة الحدس إلى مفاهيم. وقد أدى هذا في كثير من الأحيان إلى نوع من الممارسة الخصوصية؛ إذ استمر المصطلح يستخدم بطريقة الحدس المجرد وأي محاولة للتأكد من محتواه يتم التخلي عنها أو رفضها(2). وقد سبق لنائب رئيس بوليفيا ألفارو لنيرا أن قال أن "الشعبوية وعاء يضعون فيه كل شيء لا يفهمونه"(3).

كذلك يقرّ بيير روزانفالون في كتابه "قرن من الشعبوية: التاريخ والنظرية والنقد"، بالغموض الذي ينطوي عليه مفهوم "الشعبوية"، ويدعو إلى التحلي بالوعي السياسي والدقة العلمية الضروريين للخوض في الموضوع والتعامل مع هذا المفهوم الملتبس، من دون أن يعني ذلك التخلي عن استعماله(4) .

تواجهنا الشعبوية كصنف من التحليل السياسي بمشكلات متميزة؛ إذ على الرغم من إنها فكرة متكررة، كما أشرنا، ومنتشرة على نطاق واسع، كونها جزءًا من وصف مجموعة كبيرة ومتنوعة من الحركات السياسية، إلا إن تحليلها تواجهه صعوبات في فهمها على نحو دقيق. وفي المنتصف بين الوصفي والمعياري، يهدف تحليل الشعبوية إلى فهم شيء مهم وحاسم يتعلق بالحقائق السياسية والأيديولوجية التي تشير إليها. ولا يترجم الغموض الواضح للمفهوم إلى أي شك يتعلق بأهمية وظائفها المنسوبة إليها(5). وهذه نقطة جوهرية في بحث هذه الظاهرة.

يبدو في الوقت الحالي على الأقل، إن وضع مفهوم مناسب لمصطلح الشعبوية يبدو بعيد المنال؛ إذ تعاني الكتابات من ضبابية في المفهوم حين يتعلق الأمر بالشعبوية، وتشمل هذه الضبابية المشكلات التالية: تُعَرّف الشعبوية بأنها استراتيجيا وخطاب وأيديولوجيا وأسلوب سياسي في الوقت نفسه. ولا تقدم التعريفات في معظمها أي تحليل لكيفية الارتباط الجوهري لهذه الظاهرة بالمنطق السياسي. ويُغفل معظم التفسيرات المعاصرة للشعبوية مفهوم "الهيمنة"(6)، الذي كما نعرف نظّر له أنطونيو غرامشي بعمق.

خلفية نظرية

يمكن تحديد أربع مقاربات لتفسير الشعبوية. ثلاث منها تعتبرها كحركة وكأيديولوجيا في الوقت نفسه. وتقلصها المقاربة الرابعة إلى ظاهرة أيديولوجية خالصة. بالنسبة إلى المقاربة الأولى فإن الشعبوية هي التعبير النموذجي الذي يحدد الطبقة الاجتماعية ويميز بالتالي الحركة وأيديولوجيتها. وتعتبر الشعبوية نموذجًا لطبقة اجتماعية متميزة، بغض النظر عن المثال الملموس الذي تم اختياره. لذلك، بالنسبة إلى أولئك الذين ركزوا على دراسة روسيا في القرن التاسع عشر، فإن الشعبوية ستمثل على نحو أساسي أيديولوجية الفلاحين، أو أيديولوجيا وضعت من قبل المثقفين الذين يمجدون القيم الفلاحية. أما إذا كان موضوع التحليل هو الشعبوية في أمريكا الشمالية، سيتم اعتبارها أيديولوجيا وتعبئة نموذجيتان لمجتمع الفلاحين الصغار ضد الحياة الحضرية والأعمال التجارية الكبيرة. أخيرا، في أمريكا اللاتينية، حيث اكتسبت تعبئة الجماهير الحضرية في كثير من الأحيان دلالات شعبوية، سوف ينُظر لها على أنها تعبير سياسي و أيديولوجي إما للبرجوازية الصغيرة وإما للقطاعات المهمشة أو للبرجوازية الوطنية، تسعى لتعبئة الجماهير من أجل المواجهة الجزئية مع الأوليغارشية المحلية والإمبريالية. لكن مشكلات هذا النوع من التفسير تكون واضحة: فهو يتجنب الظاهرة التي ينوي تفسيرها. وبما أنه توجد اختلافات أساسية بين ما يطلق عليه بالحركات الشعبوية، لذلك ما يتم عمله بشكل عام في مثل هذه الحالات، هو الاستمرار في نقاش ظاهرة الشعبوية دون تحديدها(7)، على وجه الدقة وهذا ما أشرنا له في تناول مفهوم الشعبوية.

بالنسبة إلى مؤيدي نظرية التحديث، شكلت الشعبوية وسيلة لدمج الطبقة العاملة الحضرية والطبقات المتوسطة، في السياسة، والتي ظهرت بعد انهيار السياسات الأوليغارشية وانتقال تلك البلدان إلى الرأسمالية والحداثة. أما بالنسبة إلى الماركسيين ومنظّري التبعية، فالشعبوية هي حركة سياسية متعددة الطبقات ذات صلة بمرحلة التصنيع القائمة على إحلال الواردات. ووفقا لهذا التفسير "سمحت السياسات الدولتية والقومية القائمة على إحلال الواردات للزعماء الشعبويين ببناء تحالفات عابرة للطبقات بين العمالة الحضرية، والقطاعات الوسطى، وأصحاب الصناعة المحليين"(8). وبغض النظر عن اختلاف المقاربتين، فإنهما اعتبرتا أن الشعبوية تقتصر على الظروف التاريخية والسياسية للتنمية في العالم شبه الطرفي، و"توافقتا على أهمية تعريفها من الناحية الاجتماعية، المتجذرة في علاقات الإنتاج وظروف السوق"(9)، علما أن هذه الظاهرة لا تشهدها البلدان شبه الطرفية فقط وانما البلاد الرأسمالية المتقدمة.

لا تكمن وحدة الشعبوية في وحدة محتوى برامج الحركات الشعبوية المختلفة؛ إذ تاريخيا وفي الوقت الحالي، فإن الأمر يشير إلى عكس ذلك تماما؛ إذ تكمن وحدتها في وحدة الظروف. لذلك يتطلب تحليل الشعبوية تقسيم تمظهر هذه الظروف إلى عدد من الأبعاد ذات العلاقة. الوحدة التي يمكن أن تظهرها الشعبوية فيما بعد لا تكمن في التفاصيل الخاصة بسلسلة من الظروف المحددة لكن في نمط متكرر لنوع مثالي من العلاقات الاجتماعية(10)، وعلاقتها بالبنية الاقتصادية زمانيا ومكانيا.

يذكر روزانفالون إن السمات الخصوصية للمثال النموذجي للشعبوية تتحدد بتغيّر الواقع، وهكذا، فإن معطيات السياق التاريخي، ومتغيرات الوضع الجيوسياسي، ووضع المؤسسات، ومكانة الدين في المجتمع، وملامح الشخصيات السياسية المعنية وغيرها من المعايير، كلها ترسم مظاهر أساسية تؤهل للحديث عن شعبويات (في صيغة الجمع)(11). وهذا هو واقع الحال إذا نظرنا إلى خريطة توزيع الشعبويات عالميا.

لا يستند الحكم النظري لتصور "الشعب" كتصنيف سياسي إلى البنية الاجتماعية؛ إذ لا يشير هذا إلى مجموعة معينة، بل إلى فعل مؤسسي يخلق قوة جديدة من مجموعة من العناصر غير المتجانسة، يُطلق عليها الشعب، تكون وحدة المجموعة هذه ببساطة نتيجة تجميع المطالب الاجتماعية التي يمكن، بالطبع، أن تتبلور في الممارسات الاجتماعية المترسبة(12)، أي المترسخة عبر الزمن في البنية الاجتماعية.

أسباب ظهور الشعبوية

هناك الكثير من الأسباب المركبة والمتداخلة التي تقف وراء ظهور الشعبوية وتوسعها وهي أساسا ترتبط بالبنية الاجتماعية-الاقتصادية والثقافية والتحولات التي تشهدها، خصوصا تعمق التفاوت الاقتصادي والاجتماعي والخلفية التاريخية للتطورات السياسية والحروب والأزمات التي مرت بها مجتمعات معينة.

تظهر الشعبوية استجابة إلى المشكلات التي يفرزها التحديث ونتائجه. وتكون المشكلات  الأكثر أهمية هي تلك المتعلقة بالتنمية الاقتصادية والسلطة السياسة. وتظهر الحركات الشعبوية في المجتمعات والمجموعات الاجتماعية التي أصبحت تدرك أنها باتت في موقع هامشي بالنسبة إلى مراكز السلطة. ويمكن النظر إلى الفعل الاجتماعي الذي يشكل قاعدة الحركات الشعبوية على أنه مدفوع بمواجهة غير مباشرة مع مشكلات التنمية الاقتصادية(13)، خصوصا في البلدان النامية.

تكتسب الشعبوية زخما من الأزمات؛ فالأزمة أو التهديد يؤديان إلى المطالبة بالتصرف فورا والقيام بإجراءات استثنائية. ويمكن ملاحظة ذلك في أوروبا، حيث الأزمة المالية العالمية عام 2008 التي تلتها أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو وأزمة المهاجريين، مصحوبة بأزمات إقليمية كأزمة شبة جزيرة القرم، والحرب الأهلية السورية، وأزمات طويلة شملت الديمقراطية أو الأحزاب القائمة أو الرأسمالية. وتسمح الأزمات وحالات الطوارئ بتحويل لغة الفاعلين السياسيين في النقاش السياسي باتجاه الراديكالية، وتكييفها لتتحول إلى لغة مباشرة وذات منطق بسيط(14) كي تتقبله وتتفاعل معه قطاعات واسعة من الجماهير.

إن ما يُعدّ أزمة تمر بها الديمقراطية الليبرالية المعاصرة الناتجة من ترابط تقليدين هما التقليد الديمقراطي والتقليد الليبرالي مع انتشار الشعبوية اليمينية في البلدان الغربية ليس بظاهرة جديدة كليا، بل هو من تجليات ما يمكن تسميته أزمة دائمة للديمقراطية في ظروف جديدة(15). وهي في الوقت نفسه أزمة الرأسمالية كنظام التي تكرر على بشكل دوري كما حللها كارل ماركس بعمق.

من الواضح من خلال اشتقاق معطيات إثنوغرافية من المقابلات التي أجريت مع مؤيدي ترامب الانجيليين، وعلى الرغم من الأسباب الكثيرة التي قدمت لدعم ترامب، لكن ما يشتركون فيه هو الخوف من احتمال فقدان وضعهم الاجتماعي الحالي، والغضب من أي شخص يُنظر إليه على أنه تهديد لأمنهم الثقافي. يمكن أن تُفهم هذه الديناميات جيدا وتؤخذ في الاعتبار من خلال الاعتماد على تحليل ثيودور أدورنو للجناح اليميني للحركات الشعبوية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. من منظور عمله هذا، يُفسر دعم الإنجيليين لترامب من خلال الطرق التي يدعو بها أتباعه في خطبه وكذلك شخصيته إلى التخلي عن ذواتهم الفردية والاندماج في عمله الديني. وتوضح النظرية النقدية لأدورنو كيف أن "ابتزاز ترامب في الدين" يتجاهل مضمون المسيحية، بينما يستغل طاقة الحركات الإنجيلية والسخط الاجتماعي. وتساعد منهجية أدورنو في تفسير هذا التطور باعتباره نتيجة التغيرات البنيوية في المجتمع، والتي تؤدي على نحو متزايد إلى تفتيت المؤسسات الوطنية الكبيرة، وترك الناس يربطون أنفسهم بالجلبة المتنافسة على حساب ذواتهم الفردية(16)، وهذا هدف مركزي من أهداف الشعبوية.

يتطلب كذلك دراسة انبثاق الحركات الشعبوية المستبدة ليس فقط ملاحظة دقيقة ودراسة أثنوغرافية، ولكن بحسب كريستوفر بريتين  يحتاج  عمل أدورنو المهم أن يُكمل من خلال تحليل أكثر عمومية للظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تبني وتشكل الدوافع والاهتمامات التي يعبر عنها أتباع مثل هذه الحركات(17).

من الدراسات المتميزة في مقاربتها لظاهرة صعود التيار الشعبوي في أمريكا وأوروبا، الدراسة التي قدمها عزمي بشارة، والتي حاولت أن تقدم مدخلا تفسيريا يركز على فكرة استيراد صراع الحضارات إلى داخل المكونات الثقافية في الولايات المتحدة وأوروبا، وإمكان تحول هذه الثقافات في ظل هذا الصراع المحتدم إلى هويات، وتشير الدراسة إلى تبني فكرة صراع الحضارات من قِبَل قوى دولية أخرى كالصين وروسيا، إلى جانب تزايد الفجوة بين النخبة الليبرالية والفئات المحرومة من الأقليات والطبقة العاملة من البيض في أمريكا وأوروبا؛ ما يجعل العلاقة بين هاتين الفئتين أقرب إلى الصراع منها إلى التحالف(18). وهذا التحليل فيه بُعد طبقي واضح.

في هولندا مثلا، يمكن أن ينظر السياسيون الشعبويون والمحافظون إلى الاختلاط على أنه معادل أو مساوٍ لاندماج الأقليات الإثنية في الحياة الهولندية الحديثة. ووفقًا لوجهة النظر هذه، يفترض أن المهاجرين سيندمجون، وفي حالة "فشل" اندماجهم يُنظر إليهم على أنهم هم السبب وراء هذا الفشل. ونتيجة لذلك، يُوضع المهاجرون، وخصوصًا المسلمين، في موقف دفاعي. وعلى المستوى السياسي، ثمة ميل إلى لوم المهاجرين المسلمين كونهم غير راغبين في الاندماج في المجتمع الهولندي(19). ومن الواضح أن هذه نظرة مبسطة لعملية الاندماج الاجتماعي التي يشترك فيها طرفان المجتمعات المستقبلة للمهاجرين والمهاجرون وهي صيرورة مستمرة لا تتوقف عند نقطة معينة، وتؤثر فيها العوامل الاجتماعية-الاقتصادية والسياسية والثقافية في المجتمعات المستقبلة وفي المجتمعات المرسلة للمهاجرين.

الخطاب الشعبوي

احتل تحليل خطاب الشخصيات والحركات الشعبوية حيزا مهما في الدراسات المتعلقة بهذا الموضوع. وبحسب عزمي بشارة فإن "ظاهرة الشعبوية السياسية نمط من الخطاب السياسي، يتداخل فيه المستويان الخطابي والسلوكي بشكل وثيق، وقد يتفاعل هذا الخطاب مع عفوية تقوم على مزاج سياسي غاضب لجمهور فقد الثقة بالنظام والأحزاب السياسية القائمة والنخب الحاكمة، كما يوظّف بوصفه استراتيجية سياسية في مخاطبة هذا المزاج هادفة إلى إحداث تغيير سياسي عبر الوصول إلى الحكم. ويتحول هذا الخطاب إلى أيديولوجيا في الحالات المتطرفة"(20). وهنا تكمن خطورة وصول الأحزاب الشعبوية للسلطة على الديمقراطية حتى عن طريق الانتخابات والتي لا تنظر له هذه الأحزاب بأنه تداول سلمي السلطة بقدر ما تنظر إليه بأنه عهد جديد وقطيعة مع ما سبقه.

يأتي الخطاب ليرسم علاقة جدلية مع المزاج. وهذه الجدلية مسألة خلافية في تحليل الخطاب خصوصا، والعلوم الاجتماعية عموما. يؤمن أرنستو لاكلو وشانتال موف أن الخطاب يخلق الواقع الاجتماعي، بينما يعتقد الماركسيون، أن الخطاب نتاج للواقع الاجتماعي. ويقف المحللون النقديون للخطاب موقفا وسطا، فالخطاب ينتج المزاج الغاضب، وهو في الوقت نفسه نتاج ذلك المزاج. وبهذا يعمل الخطاب على تعزيز الاستياء وتحويله إلى مواقف معادية لفئات اجتماعية أو مؤسسات سياسية أو نخب حاكمة(21)، كما نلاحظ ذلك في خطاب الشخصيات والأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا خصوصا.

وعن الشعبوية في منطقة آسيا غير المتجانسة من ناحية التطور الاقتصادي والسياسي، والتنوع الثقافي، والبنية الإثنية. إضافة إلى اختلاف الانقسامات الاجتماعية الرئيسية عبر البلدان. يُلاحظ أن انبثاق الشعبوية في هذه المنطقة يُظهر العديد من الأنماط المتميزة التي تشمل إعادة توزيع الشعبوية (تنجم من المستويات العالية لتفاوت الدخل والفقر في المناطق الريفية؛ يعني الانقسام بين النخب السياسية والتجارية الحضرية والفقر في المناطق الريفية والحضرية)، والشعبوية الإثنية-الدينية، والشعبوية التقدمية والشعبوية المستبدة. ومن خلال دراسة 11 حالة، وجد أن كل نمط من الحركات الشعبوية له أهداف وفن خطابة واستراتيجية مختلفة. بالإضافة إلى ذلك، تختلف أيضا تأثيرات الشعبوية على أداء الديمقراطية(22)، اعتمادا على مدى رسوخ الديمقراطية في تلك البلدان.

وفيما يتعلق بما يُسمى بالشعبوية المستبدة، نأخذ العراق مثالا، في زمن حكم حزب البعث؛ إذ يذكر زهير الجزائري "في ضوء الخطاب الديني الجديد تغيرت مشروعية القائد. فحتى عشية غزو الكويت كان هناك اختلاط بين الرمز الشعبوي الذي يجسد عراقية العراقيين بلهجاتهم وأزيائهم ومهنهم المختلفة، وبين الرمز القومي الذي برز بعد غياب عبد الناصر وزيارة السادات للقدس باعتباره تجسيدا للبطل التاريخي العربي الذي بشر به عفلق. الاستعارات الإسلامية ارتفعت في سنوات الحرب الأخيرة مع إيران لقطع الطريق على الحركات الدينية المحلية ومواكبة المد العربي الإسلامي، إلا أن الخطاب السائد هو الخطاب القومي عموما"(23).

الشعبوية والأزمة

تُعد الأزمة مكونا مهما في دراسة وتحليل الشعبوية عبر تاريخها وإلى الوقت الحالي. فإذا عدنا إلى الازمة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية في أوروبا، فقد حللها الكتّاب الماركسيون بعمق. إذ كانت تحدث كل التوجهات الخاصة بالمرحلة الأخيرة من التطور الرأسمالي، وخاصة فيما يتعلق بالتحول في مواقف الطبقات والمصالح، بشكل أكثر وضوحًا  خلال الأزمة، وذلك على نحوين: فهي تصبح مبالغ فيها بسبب الظروف المحيطة، حتى أن بعض التغيرات تصبح معكوسة، ويتركز التحول في فترة قصيرة من الزمن. ففي غضون سنوات قليلة خلال الأزمة تضاعفت البطالة عدة مرات. في الوقت نفسه، لم يحدث تقلص في جهاز التوزيع أو الإدارة، بحيث تحمّل تكاليف انخفاض العمل أولئك الأشخاص المنخرطون في الإنتاج بشكل شبه حصري. وفي ذات الوقت، نمت الطبقة المتوسطة المدمرة ولكن غير البروليتارية بسرعة، في حين زاد بوتيرة سريعة عدد الأشخاص الذين لا يشتغلون في عمل انتاجي  فوق المعدل المتوسط. وبالضرورة تبع ذلك انخفاض في الدور الإنتاجي للفئات المختلفة من المسؤولين والعاملين ذوي الياقات البيضاء(24). وهذا ما زاد من تعمق الأزمة التي مهدت لصعود الفاشية والنازية واندلاع الحرب العالمية الثانية.

إن استغلال الأزمة يمثّل جانبا حيويا من الشعبوية المعاصرة. وبينما تنزع المفاهيم المهيمنة إلى النظر إلى الأزمة باعتبارها عاملا خارجيا فقط بالنسبة إلى الشعبوية، لكن ينبغي أيضًا النظر إلى الأزمة باعتبارها سمة داخلية للشعبوية، بالنظر إلى أن الأزمات لا تكون أبدا حوادث "محايدة"، لكن يتم استغلال الأزمات بنشاط من قبل الجهات الشعبوية الفاعلة التي تحاول تسليط الضوء على الفشل من أجل نشر الشعور بالأزمة. بكلمات أخرى، بينما تمثّل الأزمة "مرحلة" مهمة تتجلى فيها العروض الشعبوية، فإن الجهات الشعبوية الفاعلة تلعب دورا حاسما في تهيئة المسرح للأزمة. من الوضح، أن أهمية الأداء في الشعبوية المعاصرة، يدل على أن الأزمة لا يمكن أن تصبح أزمة إلا من خلال الأداء أو الوساطة(25) اللذين تقوم بهما الشخصيات والحركات الشعبوية المنظمة.

نما مع ظهور الإسلاموفوبيا، في كثير من البلدان الغربية، خطاب سياسي يميني متطرف يسعى بشكل حثيث إلى استثمار تحولات النظام الدولي، والأزمات الاقتصادية العالمية، وحالة الاستقطاب التي تجتاح أقاليم واسعة من العالم. ومع  موجات اللجوء الكبرى القادمة من سوريا والعراق وبلدان آسيوية وأفريقية، خلال السنوات الأخيرة، انتشر خطاب الكراهية على نحو أكبر، وترافق ذلك مع صعود لافت للتيارات اليمينية، ففي الولايات المتحدة، ترافق صعود الشعبوية في ظل إدارة ترامب، مع تنام غير مسبوق في جرائم الكراهية ضد المسلمين(26). وهذا موثق وقد اشارت له العديد من الجهات السياسية والإعلامية في الولايات المتحدة.

كما شهدت الانتخابات الأوروبية في السنوات الأخيرة انتصار الأحزاب اليمينية المتطرفة وتبوُّئها مكانة مركزية في الخريطة السياسية في أوروبا، حيث شهدت العديد من البلدان الأوروبية تراجعا اقتصاديا كبيرا، مع فشل الحكومات اليسارية واليمينية في تحقيق برامجها السياسية ووعودها الانتخابية، ما دفع الأحزاب اليمينية المتطرفة إلى واجهة الأحداث، حيث تنتصر الخطابات القومية والمعادية للهجرة على حساب الأحزاب المعتدلة من اليسار واليمين على حد سواء(27). لا ننسى أن العمليات الإرهابية التي نفذتها الجماعات الإسلامية المتطرفة خصوصا في أوروبا مثل القاعدة وداعش لعبت دورا في تنمية التوجهات اليمينية المتطرفة اجتماعيا وثقافيا وسياسيا. ويشير أسامة السعيد "إن القراءة المتعمقة لتراث العداء ... تكشف أن ثمة سياقات أكثر عمقا وتنوعا مما يبدو عليه التحليل الأولي لذلك الخطاب، فهو لا يصدر إلا عن بُنى فكرية وتاريخية وأيديولوجية، كما أنه يرتبط بمتغيرات جيوسياسية واقتصادية متداخلة"(28)، خصوصا الأزمات الاقتصادية والمالية وآخرها أزمة عام 2008.

وفي هذا السياق، أكد أنطونيو غوتيريش، السكرتير العام الأمم المتحدة، في كلمته أمام الجمعية العامة بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة كراهية الإسلام، الإسلاموفوبيا، في 15 آذار| مارس 2023، "إن الكراهية المتنامية التي يواجهها المسلمون ليست حدثا منعزلا، ولكنها جزء أصيل من عودة القومية الإثنية، وأيديولوجيات النازيين الجدد الذين يتشدقون بتفوق العرق الأبيض، والعنف الذي يستهدف الشرائح السكانية الأضعف"(29). وهنا بالتأكيد يشير إلى المهاجرين المسلمين والأقليات الأخرى التي تكون هدفا لخطاب الكراهية والعنصرية لليمين الشعبوي.

الشعبوية والفاشية

سبق للمناضلة الألمانية كلارا زيتكن قبل مئة سنة أن قالت "عندما نفهم أن الفاشية تمارس تأثيرا حارقا وكاسحا على الجماهير الاجتماعية، التي فقدت أمن وجودها السابق وفي الغالب قناعتها في نظام اليوم، سنكون عندها فقط قادرين على محاربتها"(30). وهذا ينطبق على الحركات الشعبوية الحالية خصوصا ذات التوجه الفاشي.

ظهرت خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، دراسات ماركسية غنية بشأن الفاشية وارتباطها بالشعبوية اتجهت لتأكيد وجود تناقضات متنوعة ومتعددة الأشكال أدت إلى ظهور الفاشية، علما أن النظرية الماركسية عادة ما تعتبر أن الرأسمالية أو الليبرالية هي منشأ الفاشية. ومن بين الأعمال هذه كتابات غرامشي حول الفاشية التي  جمعت في عام 1974 ونشرت في روما (31).

تشترك الشعبوية والفاشية في سمة أساسية، هي "إيمانها بأن الأمة يتم تعريفها وفقا للدين أو العرق ممثلا في أهم مصادر الهوية التي يشترك فيها عرق ما"، ومن هنا تأتي أهمية الوعد الذي يقطعه كلاهما "بتوحيد الأمة في أصلها النقي الأول تحت قيادة قوية". ولعل هذا التماثل في الوسائل والأهداف بين الشعبوية والفاشية هو ما دفع المحكمة في فرنسا عام 2016 إلى إصدار حكم يسمح لخصوم زعيمة حزب الجبهة الوطنية مارين لوبان، بمناداتها بالسياسية الفاشية(32).

في هولندا، كانت النزعة الفاشية حاضرة في خطاب إيفا فلاردينجربروك(33) في مؤتمر للسياسيين اليمينيين المتطرفين والمتعاطفين الذي عقد مؤخرا، حيث تحدثت عن "الغزاة" الذين "سمحت لهم النخبة الفاسدة بالدخول"، وعن "السكان الأوروبيين المسيحيين البيض الأصليين الذين يتم استبدالهم بوتيرة متزايدة باستمرار". ودعت إلى تدمير الاتحاد الأوروبي: "لقد أعلنت نخبنا الحرب علينا، والآن حان الوقت لكي نلبس سلاح الله، ونقاتل، وننتصر". وقد شوهد خطابها بالفعل 50 مليون مرة على تويتر X، وتلقى الكثير من الدعم من الدوائر اليمينية المتطرفة، وأثار الرعب خارجها بشكل أساسي(34). وهذا دليل على استغلال مسألة المهاجرين في تصعيد الخطاب الشعبوي اليميني المتطرف، فيما تؤكد الدراسات والبحوث الأوروبية الأكاديمية حاجة البلدان الأوروبية المتزايدة للعمالة المهاجرة نتيجة تراجع النمو الطبيعي للسكان.

في الولايات المتحدة، وارتباطا بالنزعة الفاشية لليمين المتطرف، وصف ترامب خصومه في حملته الانتخابية الحالية بـ "الحثالة البشرية" وسبق أن وصف اليساريين الأميركيين بالـ "حشرات"، والمهاجرين الذين يعبرون الحدود من المكسيك بأنهم "يسممون دماء بلادنا"(35). كل ذلك لكسب المزيد من الدعم من الأوساط اليمينية المتطرفة خصوصا وسط السكان البيض.

خطر الشعبوية

يُعدُّ صعود الأحزاب والقادة الشعبويين في بلدان أوروبية ذات تجارب ديمقراطية عريقة، ظاهرة شديدة الأهمية والخطر؛ لما تحمله من تهديد واضح لهذه النظم. وعلى الرغم من صعود اليمين الشعبوي في عدة بلدان ديمقراطية في أوروبا شرقا وغربا، لم يستشعر دارسو النظم الديمقراطية خطر التحول الشعبوي على هذه النظم إلا مع وصول الشعبوي ترامب إلى البيت الأبيض؛ إذ بدا لهم أن حجم الخطر الذي يحدق بتجارب البلدان الديمقراطية الراسخة أكبر من أن يُتجاهل، وقد وصل إلى مركز المنظومة الليبرالية(36). وهذا الخطر سيكون أكبر فيما لو نجح ترامب في الفوز بالانتخابات الرئاسية القادمة.

تتمثل النزعة الشعبوية الحقيقية والخطيرة في عدم مسؤوليتها وإهمالها للحقائق والظروف والقيود، فضلاً عن ميلها نحو التطرف. وعندما يسير التطرف الاجتماعي و/أو التطرف القومي جنباً إلى جنب مع الخطاب الشعبوي، فيتعين علينا جميعاً أن ندرك أن جوهر الديمقراطية في خطر(37).

ينبغي تمييز الخطر الذي تمثّله الشعبوية على الديمقراطية بين تهديدها لديمقراطية ليبرالية راسخة قادرة عموما على احتوائها، وخطرها على الديمقراطيات الوليدة، ولا سيما تلك التي نشأت بالانتقال من نظام سلطوي ولم تتطور بالتدريج عن ليبرالية سابقة عليها؛ أي لم تترسخ فيها الحقوق والحريات بعد. فالشعبوية في هذه الحالة يمكن أن تشكّل خطرا حقيقيا(38). وهذه الحالة تنطبق بوضوح على العراق في ظل تجربته الديمقراطية المتعثرة التي نتجت عن الاحتلال وعلى بلدان عربية ونامية أخرى.

تكمن المشكلة في التعبئة الشعبوية لتوجيه الغضب ضد المؤسسات الديمقراطية وليس ضد السياسات فحسب. والأخطر هو تحول الأسلوب الذي يقسم المجتمع إلى "نحن" متخيلة يدّعي المنتمون إليها أنها الشعب من جهة، و "هم" متخيلة من أعداء الشعب، ومؤلفة من النخب والسياسيين والمثقفين والأحزاب عموما، إلى أيديولوجيا. هنا لا تعود الشعبوية مجرد استراتيجية في العمل السياسي بل تدخل في مجال الأيديولوجيا(39). وهذا يقربها أكثر من الفاشية والنازية.

يشرح روزانفالون مسألة التمثيل في الشعبوية، ويأخذ أمثلة من أمريكا اللاتينية في أواسط القرن العشرين، حيث التعارض بين الشعب والنخبة كان أكثر وضوحا لدى المواطنين، وفي هذا السياق برزت موضوعة "الرجل الأمة". ويقتبس عن خورخي جايتان الزعيم الكولومبي البارز في الثلاثينيات والأربعينيات، من القرن العشرين قوله "لست فردا، بل أنا شعب (...) وهو ما استلهمته الشعبويات اللاحقة التي ظهرت في أرجاء القارة الأمريكية". غير أن فكرة "الرجل الأمة" لم تقتصر على شعبويات أمريكا اللاتينية. ففي أثناء الحملة الانتخابية في فرنسا عام 1995 رفعت الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة في ملصقاتها  شعار "لوبان هو الشعب". ويدلل روزانفالون على استمرار هذا النهج لدى سياسيين شعبويين معاصرين مثل الفرنسي جان ميلونشون، حيث قال في تصريحات: "الجمهورية؟ ما هي الجمهورية؟ أنا الجمهورية"، "شخصي مقدس"، "أنا سبعة ملايين شخص" ويقصد هنا عدد الذين صوّتوا له في الانتخابات الرئاسية. وفي الولايات المتحدة قال ترامب في خطاب التنصيب في مؤتمر الحزب الجمهوري "أنا صوتكم"(40). علما يُصنف ميلونشون بأنه يساري متطرف.

عملت استراتيجية الخطاب الشعبوي في أمريكا وبريطانيا، عبر مزيج متنافر من تلمس المشكلات الحقيقية للطبقة المتوسطة والعاملة، وتوجيه اللوم إلى المؤسسة النخبوية، على خلق تحالف عابر للانتماءات الطبقية، ليتم في النهاية تسديد الرمية بعيدا جدا عن الهدف، بإعطاء وصفات خاطئة للحل تركز على العداء للمهاجرين والأقليات وتهدد قيم الديمقراطية(41)، وهذا هو الخطر الأكبر حيث يمكن أن تمهد لما يسمى بالديمقراطية المستبدة.

لا يقتصر أثر الخطاب الشعبوي على فترة الانتخابات الرئاسية في أمريكا حتى مرحلة الفوز فقط، وإنما من المتوقع أن يضفي هذا الخطاب طابعا من الشرعية على حالات العداء للأجانب والأقليات والمرأة في المجتمع الأمريكي، خصوصا تلك النزعات المتسترة والتي لم يكن في إمكانها الظهور في الأزمان العادية، إذ ستتجه تحت الغطاء الواسع الذي يوفره وجود رئيس شعبوي، إلى أن تعبر عن نفسها صراحة وبقوة على هيئة أحداث ومواقف علنية، وربما تطورت إلى اعتداءات وهجمات بدافع الكراهية. أما خطر الحرب الأهلية، فهو احتمال وارد، وخصوصا من المناصرين للديمقراطية الليبرالية والمدافعين عن حقوق الأقليات لن يقفوا مكتوفي الأيدي، وقد بدأت بوادر حالات التمرد والمقاومة للتوجه الشعبوي في زمن رئاسة ترامب في الظهور عبر تظاهرات وحشود غاضبة(42). ومن المحتمل أن تكون المقاومة أشد في حالة فوز ترامب في الانتخابات القادمة.

أما على مستوى المنطقة العربية، يذكر الكاتب حسن أوريد أن "الشعوب العربية والسَّرديّات الجامعة؛ من قوميّة عربيّة، إلى إسلامٍ سياسي، فانتشاء خلال (الربيع العربي)، جميعها منيت بإخفاق في مستوى كلّ موجة، ولم يبق من بديلٍ لهجير الكبوات سوى سراب الشعبويّة. وهل يكون الدواء من صميم الداء: الهروب من رمضاء تشوُّه السياسة، وكساد الاقتصاد، وكبوة الثقافة، إلى هجير الشعبويّة؟ لا بديل يلوح في أفق العالم العربي، سوى السلطويّة متلفّعةً بلبوسٍ شعبوي"(43). وهنا يبدو أوريد متشائما، لأن ديناميات التحولات الاجتماعية والاقتصادية في البلدان العربية على الرغم من تفاوتها، لابد وأن تُعيد الفرز والاصطفاف الاجتماعي، وهذان العاملان يسهمان في خلق مقدمات للفعل السياسي بأشكاله المتنوعة، بما فيها الانتفاضات والثورات والتي نعتقد أنها ستكون أنضج مما سبقها بحكم تراكم التجارب التاريخية، باتجاه السعي من أجل بناء نُظم ديمقراطية ترتكز على دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية مهما طال الزمن.

***

د. هاشم نعمة

.....................

الهوامش

1 - أبو بكر عبد الرزاق، "الديمقراطية الليبرالية بين النخبوية والشعبوية: دراسة أسباب صعود التيار الشعبوي في أمريكا وتداعياته"، سياسات عربية، العدد 26، أيار| مايو 2017، ص 68.

2- Ernesto Laclau, Politics and Ideology in Marxist Theory: Capitalism, Fascism, Populism (London: NLB, 1977), p. 143.

3 - سعيد بكار، "في الإجابة عن سؤال: ما الشعبوية؟ (مراجعة كتاب عزمي بشارة)، سياسات عربية، العدد 54، كانون الثاني| يناير 2022، ص 146.

4 - طارق عزيزة، "قرن من الشعبوية: التاريخ والنظرية والنقد" (مراجعة كتاب بيير روزانفالون)، تبيُّن، العدد 48، المجلد 12، ربيع 2024، ص 158.

5- Ernesto Laclau, On Populist Reason, London/ New York: Verso, 2005, p. 3.

6 - فرانك ستنغل وآخرون (تحرير)، الشعبوية والسياسة العالمية، سبر الأبعاد الدولية والعابرة للحدود، ترجمة محمد حمشي، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022، ص 71-72.

7 - Laclau, Politics and Ideology, pp. 144-145.

8 - ستنغل وآخرون، ص 75.

9 - المصدر نفسه، ص 75-76.

10- Ghita Ionescu & Ernest Gellner, Populism its meanings and national characteristics, London: Weidenfeld & Nicolson, 1969, p. 180.

11 - عزيزة، ص 161.

12- Laclau, On Populist, p. 224.

13- Ionescu, pp. 180-181 & Gellner.

14 - ستنغل وآخرون، ص 86.

15- عزمي بشارة، "الشعبوية والأزمة الدائمة للديمقراطية"، سياسات عربية، العدد 40، أيلول| سبتمبر 2019، ص 9.

16- Jeremiah Morelock (ed.) How to Critique Authoritarian Populism , Brill, 2021, p. 384.

17- bid., pp. 384-385.

18 - عبد الرزاق، ص 70-71.

19- Thaddeus Muller & Peer Smets, “Welcome to The Neighbourhood: Social Contacts between Iraqis and Natives in Arnhem, The Netherlands "Local Environment", vol. 14, no. 5 (May 2009), pp. 403-404.

20 - بشارة، ص 8.

21 - بكار، ص 148.

22 - Sook Jong Lee et al., (ed.) Populism in Asian Democracies: Features, Structures, and Impacts, Leiden/ Boston: Brill: 2015, p. 211.

23 - زهير الجزائري، المستبد، صناعة قائد- صناعة شعب، ط 2، بغداد: دار سطور للنشر والتوزيع، 2023، ص 306.

24 - David Beetham (Translation), Marxists in face of Fascism, Manchester University Press, 1983, p. 303.

25- Benjamin Moffitt, The Global Rise of Populism, California: Stanford University, 2016, pp. 131-132.

26 - أسامة السعيد، "سياقات بناء (الإسلاموفوبيا) في الخطاب الغربي"، السياسة الدولية، العدد 233، يوليو 2023، ص 266.

27 - المصدر نفسه، ص 266.

28 - المصدر نفسه، ص 262.

29 - عبير ياسين، "الإسلاموفوبيا... الكراهية والعنصرية في خدمة التطرف والإرهاب"، السياسة الدولية، العدد 233، يوليو 2023، ص 254.

30 - رشيد غويلب (ترجمة)، "تحليل كلارا زيتكن للفاشية (نص الخطاب)"، الثقافة الجديدة، العدد 442، كانون الثاني 2024، ص 83.

31- هاشم نعمة، "في فهم الفاشية"، طريق الشعب، 28 نيسان| أبريل 2024.

32 - عبد الرزاق، ص 69.

33 - سياسية سابقة في حزب الحرية من أجل الديمقراطية الهولندي FVD اليميني المتطرف ومنذ بضع سنوات صانعة رأي يمينية متطرفة معروفة دوليا.

34- Floor Rusman, "Fascisme als zinloos etiket", NRC Handelsblad, 4 mei 2024.

35 - "ترمب يصف خصومه بـ (الحثالة البشرية)"، الشرق الأوسط، 28 مايو 2024.

36 - عبد الرزاق، ص 68.

37 -p. 93.  Hannes Swoboda & Jan Wiersma (eds.), Democracy, Populism and Minority Rights, Renner Institute, 2008,

38- بشارة، ص 8.

39- المصدر نفسه، ص 9.

40 - عزيزة، 159-160.

41- عبد الرزاق، ص 73.

42 - المصدر نفسه، ص 75.

43 - "إغراء الشعبوية في العالم العربي... الاستعباد الطوعي الجديد"، (عرض لكتاب حسن أوريد)، الشرق الأوسط، 8 تموز| يوليو 2024.

نشرت في مجلة الثقافة الجديدة، العدد 447، أيلول| سبتمبر 2024

 

بينما التوراة لا تذكر من الأقوام البائدة الكافرة سوى قوم نوح وقوم لوط وقوم فرعون، فالقرآن يحدثنا عن الأقوام الأولين البائدين وأولهم قوم نوح وآخرهم قوم فرعون، وبينهما أقوام كثيرون كقوم عاد وقوم ثمود وقوم تُبَّع، وقوم إبراهيم وقوم مدين، والأخيران ذكرتهما التوراة ولم تذكر كفرهما إلا في مواضع متأخرة وليس عند مبدأ الحديث عنهم!

‏﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)﴾ [الحج: 43- 44].

﴿‏أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [التوبة: 70]. والمؤتفكات هم قوم لوط.

ولا خلاف بين القرآن والتوراة في أن قوم نوح هم أول قوم من الأقوام العصاة الذين استحقوا الهلاك بكفرهم. ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)﴾ [الإسراء: 17]. وأعاد الله إعمار الأرض بعدهم. ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء: 3].

والقرآن يذكر قوم عاد، وأنهم أول قوم استخلفوا في الأرض بعد قوم نوح. وسنشرح في مبحث منفصل في كتابي "القصص الحق" ما ذكره القرآن عن (إرم) وما ذكرته التوراة عن (أرام).

﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا .............أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)﴾ [الأعراف: 65: 69].

ثم يذكر القرآن قوم ثمود بأنهم من خلفوا بعد قوم عاد، ولا تأتِ التوراة على ذكرهم بتاتًا رغم أن صالح من أجداد إبراهيم، ويسمونه في توراتهم شالح لإبهام اسمه كي لا يُعرف. ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ................... وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)﴾ [الأعراف: 73- 74].

وتأكيدات القرآن حول ترتيب هؤلاء الأقوام الثلاثة متكررة. ﴿مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) ﴾ [غافر: 31].

﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53)﴾ [النجم: 50- 53].

﴿وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)﴾ [إبراهيم: 8- 9].

وفي الآيات إخبار لنا من القرآن الكريم أن بني إسرائيل جاءهم خبر قوم عاد وقوم ثمود، لأننا لا نجد لهم أثر في التوراة. وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ تأكيد آخر على كثرة الأقوام البائدة الذين لم يقص الله تعالى علينا قصصهم، وبعضهم ذُكر اسمه في القرآن دون أدنى تفصيل كأصحاب الرس وقوم تُبع.

﴿وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)﴾ [الفرقان: 37- 38]. حتى أن المدقق في آية الفرقان يستنبط منها أن قوم نوح أرسل الله إليهم رسلًا آخرين معه.

وفي بعض الآيات يكون ذكرهم دون ترتيب زمني لغرض ما من جمع كل مجموعة منهم في آية واحدة. ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13)﴾ [ص: 12- 13].

﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)﴾ [ق: 12- 14].

وقد بحثت عن أصحاب الرس الذين قُرنوا بثمود مرتين في القرآن الكريم، وما اطمأننت إليه أن الرس هو وادٍ كثير النخل، وبه بئر مطوية بالحجارة، وقد ذُكر الواد في معلقة زُهير بن أبي سُلمى، واختلفوا في مكان وادي الرس، والأقرب أنه في اليمامة بنجد، وأهم ما في الأمر أن أصحاب الرس ألقوا نبيهم في البئر التي بالوادي.

بَكَرْنَ بُكُورًا وَاسْتَحْرَنَ بِسُحْـرَةٍ ***** فَهُـنَّ وَوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَـمِ

فَـلَمَّا وَرَدْنَ المَاءَ زُرْقاً جِمَامُـهُ ***** وَضَعْـنَ عِصِيَّ الحَاضِرِ المُتَخَيِّـمِ

ويذكر القرآن كفر قوم مدين وغشهم في الموازين. ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ﴾ [هود: 84].

وديار مدين إلى الجنوب من قرية لوط عليه السلام، في أقصى الجزء الشمالي الغربي من جزيرة العرب، وهذا معلوم لا خلاف فيه بين العرب، وإن كانت التوراة قد نقلتها لتكون جنوب البحر الميت مباشرة وليس شرق خليج العقبة كما نعرف. وقوم مدين قد أهلكوا بالصيحة مثل قوم لوط. وقد نص القرآن على لسان شعيب عليه السلام بأن ما حدث لقوم لوط قريب منهم، ولا يُفهم تحديدًا هل القصد لقربهم المكاني أم الزماني أم كليهما.

﴿وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)﴾ [هود: 89].

فلو كان قربًا زمانيًا فهذا يعني أن القرآن يخبرنا أن كفر قوم مدين وبعثة نبي الله شعيب فيهم كان بعد هلاك قوم لوط بزمن يسير، وهذا يجعل شعيبًا أسبق من إسماعيل أو معاصرًا له، وهو احتمال مستبعد تمامًا لأن قوم مدين من نسل إسماعيل، فجُذام ممن تشاءم من ولد سبأ، وسنناقش هذه النقاط في مواضعها من كتابي "القصص الحق".

ورغم أن التوراة ذكرت قوم مدين ونسبت أباهم إلى نبي الله إبراهيم -كما سنشرح في مبحث منفصل في كتاب "القصص الحق"-، وذكرتهم مرة ثانية في قصة موسى عليه السلام، إلا أنها لم تذكر كفرهم القديم وبعثة نبي فيهم.

والقرآن يذكر قوم تُبَّع دون أن يقص قصتهم، ويُذكِّر بالذين من قبلهم، فكأنهم من آخر الأقوام البائدة قبل قوم فرعون، ولكنهم ليسوا في عتو وكفر قوم فرعون. وتُبَّع هو ملك عربي يمني على المشهور عند العرب، لم يكن قومه مؤمنون.

﴿‏أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ [الدخان: 37].

‏ويؤكد القرآن مرارًا على أن آل فرعون هم آخر الأقوام البائدة.

﴿‏كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [آل عمران: 11].

‏﴿‏كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: 52].

‏﴿‏كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ﴾ [الأنفال: 54].

وفي القرآن الكريم آيات تضم قارون –وهو من بني إسرائيل قوم موسى عليه السلام- إلى فرعون ووزيره هامان، وتخبرنا أن موسى كان مرسلًا إلى قارون مثلما هو مرسل إلى فرعون وهامان، وتذكر الخسف ضمن طرق العقاب الدنيوي التي عاقب بها الله الخطاة العاصين.

 ‏﴿‏وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)﴾ [العنكبوت: 39- 40].

ومعلوم أن قارون هو من خُسف به وبداره الأرض.

﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)﴾ [القصص: 81].

ويخبرنا القرآن الكريم أن التوراة أنزلها الله تعالى على موسى عليه السلام بعد هلاك القرون الأولى، ما يؤكد أن فرعون وقومه هم آخر القرون الأولى.

‏﴿‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)﴾ [القصص: 43].

وهو ما لا تختلف فيه التوراة، ولكنها لا تنص عليه، كونها لم تذكر أن صحفًا نزلت على موسى في الفترة التي دعا فيها فرعون وقومه للإيمان، فوفقًا للتوراة فالله لم ينزل على موسى سوى ألواح التوراة وبعض الآيات التي نزلت فرقانًا عليه وعلى هارون عليه السلام بعدها، وذُكر بعض فرقان موسى في سفر التثنية، بينما يذكر القرآن ما أنزل عليه قبلها ويسميها بصحف موسى، ويذكر أيضًا صحف إبراهيم، أو يعمم فيقول الصحف الأولى.

‏﴿‏وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾ [طه: 133].

 وهي صحف منسوخة لم تبقَ، فكأن القرآن يخبرنا أن الكتب السماوية الثلاث الباقية للرسالات الخاتمة نزلت بعد هلاك الأقوام البائدة الأولى، لكن يوضح الله تعالى في القرآن أن ما شرعه لأمة محمد هو مزيج مما وصى به نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، إضافة إلى ما أوحاه لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام.

‏‏﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا ‏بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى ‏الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ ‏يُنِيبُ (13)﴾ [الشورى: 13].

ويذكر لنا القرآن في سورة النجم بعضًا مما لم يُنسخ، ومنه ذكر قومي عاد وثمود، وربما كان في هذا تبرير لغياب ذكرهما في التوراة؛ إن كان قد نزل ذكرهما في الصحف المنسوخة قبل التوراة وحسب.

﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) ﴾ [النجم: 36-  56].

ثم يذكر لنا القرآن بعض ما نزل في الصحف الأولى المنسوخة في سورة قصيرة كاملة، هي سورة الأعلى.

﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)﴾ [سورة الأعلى].

***

د. منى زيتون

مستل من كتابيّ "القصص الحق" و "تأملات في كتاب الله"

لقد كان الدين جانبا أساسيا من الحضارة الإنسانية لقرون من الزمان، حيث يوفر للأفراد شعورًا بالهدف والانتماء والتوجيه الأخلاقي. وفي حين قد يختلف مفهوم الدين من ثقافة إلى أخرى، فإن أهميته الأساسية تظل عالمية. في هذه المقالة، سنتعمق في معنى الدين، ونستكشف كيف يؤثر على معتقداتنا وسلوكياتنا وتفاعلاتنا مع العالم من حولنا. من خلال فحص الدور الذي يلعبه الدين في تشكيل قيمنا وهوياتنا، يمكننا اكتساب فهم أعمق لتأثيره العميق على المجتمع. لتوضيح التفسيرات المتنوعة للدين، سنستكشف أمثلة من تقاليد دينية مختلفة، بما في ذلك المسيحية والإسلام والبوذية والهندوسية واليهودية. من خلال تحليل مقارن، سنبرز أوجه التشابه والاختلاف بين هذه الديانات، ونلقي الضوء على مبادئها وممارساتها الأساسية. من خلال فحص تعاليم الشخصيات الدينية المؤثرة والكتب المقدسة التي توجه أتباعها، يمكننا اكتساب رؤى حول التجارب الروحية العميقة التي تشكل نظرتنا للعالم. ومن خلال الفحص الدقيق لهذه الأمثلة، يمكننا أن ندرك النسيج الغني من المعتقدات التي تشكل المشهد الديني العالمي.

1. الدين قوة عظيمة تشكل الأفراد والمجتمعات والثقافات في جميع أنحاء العالم.

الدين قوة عظيمة تشكل الأفراد والمجتمعات والثقافات في جميع أنحاء العالم بطرق عميقة. سواء كنا مؤمنين ممارسين أو لا أدريين أو ملحدين، لا يمكن إنكار أن الدين يلعب دورا مهما في حياتنا. منذ العصور القديمة إلى المجتمعات الحديثة، كان الدين قوة دافعة وراء السلوك البشري والمعتقدات والقيم والتقاليد. بالنسبة للعديد من الأفراد، يقدم الدين شعورا بالهدف والمعنى والانتماء. كما يوفر بوصلة أخلاقية للتنقل عبر شكوك الحياة وتحدياتها. يقدم الدين الراحة في أوقات الحزن، والعزاء في أوقات اليأس، والأمل في أوقات الشدائد. إنه بمثابة مصدر للقوة والمرونة للمؤمنين الذين يستعينون بإيمانهم للتغلب على العقبات وتحقيق النمو الشخصي. علاوة على ذلك، فإن الدين له تأثير عميق على المجتمعات، ويشكل قوانينها وعاداتها ومؤسساتها. تؤثر المعتقدات الدينية على القرارات السياسية والأعراف الاجتماعية والممارسات الثقافية. في بعض المجتمعات، يتشابك الدين بشكل عميق مع الحكومة، مما يؤثر على السياسات المتعلقة بقضايا مثل التعليم والرعاية الصحية وحقوق الإنسان. غالبا ما يلعب الزعماء الدينيون دورا بارزا في الدعوة إلى العدالة الاجتماعية وتعزيز السلام وتقديم الخدمات الخيرية للمحتاجين. على نطاق عالمي، يتمتع الدين بالقدرة على توحيد أو تقسيم الناس من خلفيات ومعتقدات وثقافات مختلفة. على مر التاريخ، أدت الصراعات الدينية إلى الحروب والاضطهاد والتمييز. ومع ذلك، يتمتع الدين أيضا بالقدرة على تعزيز التفاهم والتسامح والتعاون بين المجتمعات المتنوعة. الحوار بين الأديان والشراكات المسكونية والجهود التعاونية من أجل العدالة الاجتماعية هي أمثلة على كيف يمكن للدين أن يكون قوة موحدة من أجل الخير في العالم. لا يمكن إنكار تأثير الدين على الثقافات، لأنه يؤثر على الفن والموسيقى والأدب والعمارة وغيرها من أشكال التعبير الإبداعي. تلهم المعتقدات والممارسات الدينية الفنانين والكتاب والموسيقيين لخلق أعمال ذات جمال ورمزية وأهمية روحية. إن الطقوس والاحتفالات الدينية تشكل جزءا لا يتجزأ من التقاليد الثقافية، فهي تنقل القيم المشتركة والهوية الجماعية والشعور بالاستمرارية مع الماضي. وفي الختام، فإن الدين قوة قوية تشكل الأفراد والمجتمعات والثقافات بطرق عميقة ودائمة. وسواء اعتنقنا المعتقدات الدينية أو رفضناها، فمن المستحيل أن ننكر التأثير الذي يخلفه الدين على حياتنا وعالمنا. ومن خلال فهم معنى الدين وتأثيره على الإنسانية، يمكننا أن نكتسب تقديراً أعمق لتنوع المعتقدات والقيم والخبرات التي تشكل نسيج الوجود الإنساني. وبينما نواصل الإبحار عبر تعقيدات عالمنا المعولم، فلنعمل جاهدين على احترام وتقدير الدور الذي يلعبه الدين في تشكيل إنسانيتنا المشتركة.

2. إنه يمنح المؤمنين إحساسا بالهدف والمعنى، ويمنحهم إطارا لفهم العالم ومكانهم فيه.

يلعب الدين دورا حاسما في تشكيل نظرة العالم وهوية المؤمنين من خلال تزويدهم بإحساس بالهدف والمعنى في الحياة. عبر مختلف الثقافات والتقاليد، يعمل الدين كإطار خالد يمكن للأفراد من خلاله التنقل عبر التعقيدات وعدم اليقين في العالم من حولهم. أحد الجوانب الأساسية للدين هو قدرته على تقديم غرض أو سبب أعلى للوجود للمؤمنين. سواء كان ذلك من خلال خالق إلهي، أو مجموعة من المبادئ الأخلاقية، أو نظام اعتقاد جماعي، فإن الدين يوفر للأفراد إحساسًا بالاتجاه والأهمية في عالم يمكن أن يشعر غالبًا بالفوضى والعشوائية. بالنسبة للعديد من الناس، يمنحهم هذا الشعور بالهدف القوة والدافع لمواجهة تحديات الحياة وانتصاراتها بالمرونة والتفاؤل. علاوة على ذلك، يساعد الدين المؤمنين على فهم مكانهم في العالم وعلاقاتهم مع الآخرين. من خلال توفير مجموعة من القيم الأخلاقية والمبادئ الأخلاقية، يقدم الدين إرشادات حول كيفية تفاعل الأفراد مع بعضهم البعض، وتعزيز التعاطف والتسامح والتفاهم. إن هذه البوصلة الأخلاقية لا تساعد المؤمنين على توجيه أفعالهم وقراراتهم فحسب، بل إنها تعزز أيضا الشعور بالانتماء إلى المجتمع والتواصل مع الآخرين الذين يتشاركون معهم معتقدات مماثلة. على سبيل المثال، في المسيحية، يمكن أن يوفر الإيمان بإله محب ومتسامح للمؤمنين العزاء في أوقات الشدة والشدائد. يمكن أن يوفر هذا الإيمان بقوة أعلى مصدراً للراحة والاطمئنان إلى وجود خطة أعظم قيد العمل، حتى في مواجهة المعاناة أو الخسارة. وبالمثل، في البوذية، يمكن لمبادئ الرحمة واليقظة أن تساعد الأفراد على إيجاد السلام الداخلي والرضا، على الرغم من عدم ثبات الحياة وعدم اليقين فيها. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للدين أيضاً أن يوفر للمؤمنين شعوراً بالانتماء والهوية داخل مجتمع أكبر. من خلال الطقوس والتقاليد والمعتقدات المشتركة، تقدم المجتمعات الدينية شعوراً بالتضامن والدعم يمكن أن يكون مريحاً ومُمَكِّناً للغاية. يمكن لهذا الشعور المشترك بالهوية أن يعزز الروابط الاجتماعية ويعزز الشعور بالوحدة والغرض بين المؤمنين. في الختام، يعمل الدين كأداة قوية لإعطاء المؤمنين شعورا بالهدف والمعنى والارتباط في عالم يمكن أن يشعر غالبا بالإرهاق وعدم اليقين. من خلال تزويد الأفراد بإطار لفهم مكانهم في العالم وعلاقاتهم مع الآخرين، يساعد الدين في تشكيل نظرتهم إلى العالم وهويتهم بطرق عميقة. من خلال قوة الإيمان والطقوس والمجتمع، يقدم الدين للمؤمنين مصدرًا للقوة والتوجيه والإلهام وهم يتنقلون بين تعقيدات الحياة.

3. على سبيل المثال، تعلم المسيحية الحب والرحمة والمغفرة، في حين يؤكد الإسلام على الخضوع لإرادة الله واتباع أركان الإسلام الخمسة.

يلعب الدين دورا مهما في تشكيل معتقدات وقيم وممارسات الأفراد والمجتمعات في جميع أنحاء العالم. تقدم ديانتان عالميتان رئيسيتان، المسيحية والإسلام، وجهات نظر فريدة حول معنى الحياة والأخلاق وعلاقتنا بقوة أعلى. على سبيل المثال، تعلم المسيحية الحب والرحمة والمغفرة كمبادئ أساسية للإيمان. تؤكد تعاليم يسوع المسيح على أهمية محبة بعضنا البعض، وإظهار الرحمة تجاه المحتاجين، ومسامحة أولئك الذين أخطأوا في حقنا. هذه القيم أساسية للإيمان المسيحي وتوجه المؤمنين في كيفية تفاعلهم مع الآخرين وعيش حياتهم. في الكتاب المقدس، يأمر يسوع أتباعه "أن تحب قريبك كنفسك" (متى 22: 39)، مسلطا الضوء على أهمية إظهار اللطف والتعاطف تجاه الآخرين. يُدعى المسيحيون إلى تجسيد روح الحب في تفاعلاتهم مع من حولهم، والسعي إلى تنمية الشعور بالوحدة والتفاهم بين جميع الناس. إن هذا التأكيد على الحب والرحمة يعمل كقوة قوية لتعزيز السلام والوئام والنوايا الحسنة في العالم. وبالإضافة إلى الحب والرحمة، فإن المسيحية تضع أيضا تأكيدا قويا على مفهوم المغفرة. إن تعاليم يسوع بشأن المغفرة تشكل جوهر الإيمان المسيحي، حيث يُدعى المؤمنون إلى مسامحة الآخرين تماما كما غفر الله لهم. إن هذا التأكيد على المغفرة هو مبدأ قوي يمكن أن يساعد الأفراد على التغلب على مشاعر الغضب والاستياء والمرارة، وتعزيز الشفاء والمصالحة في العلاقات. من ناحية أخرى، يؤكد الإسلام على الخضوع لإرادة الله واتباع الأركان الخمسة باعتبارها مبادئ أساسية للإيمان. إن مفهوم الخضوع، أو "الإسلام"، يكمن في قلب الإيمان الإسلامي، حيث يُدعى المؤمنون إلى الخضوع الكامل لإرادة الله في جميع جوانب حياتهم. من خلال تسليم أنفسهم لهداية الله، يسعى المسلمون إلى تنمية شعور التواضع والإخلاص والطاعة في علاقتهم بخالقهم. تعمل الأركان الخمسة للإسلام كواجبات وممارسات أساسية يتوقع من جميع المسلمين اتباعها. تتضمن هذه الأركان إعلان الإيمان (الشهادة)، والصلاة (الصلاة)، والصيام خلال شهر رمضان (الصوم)، والصدقة (الزكاة)، والحج إلى مكة (الحج) مرة واحدة على الأقل في العمر لمن استطاع إليه سبيلا. باتباع هذه الأركان، يُظهِر المسلمون التزامهم بإيمانهم ويعززون ارتباطهم بالله والمجتمع الإسلامي الأوسع. من خلال استكشاف تعاليم المسيحية والإسلام، نكتسب فهمًا أعمق للطرق المتنوعة التي يشكل بها الدين معتقداتنا وقيمنا وأفعالنا. يقدم كلا التقليدين الدينيين رؤى قيمة حول معنى الحياة وطبيعة الأخلاق ومسؤولياتنا تجاه أنفسنا والآخرين. سواء من خلال الحب والرحمة في المسيحية أو الخضوع والإخلاص في الإسلام، فإن الدين بمثابة مصدر قوي للتوجيه والإلهام للأفراد الذين يسعون إلى عيش حياة ذات معنى وهدف.

4. إن دراسة المعتقدات والممارسات الدينية للثقافات المختلفة من شأنها أن تعزز الفهم والتعاطف واحترام التنوع.

إن دراسة المعتقدات والممارسات الدينية للثقافات المختلفة ليست مجرد مسعى أكاديمي، بل إنها خطوة حاسمة نحو تعزيز الفهم والتعاطف واحترام التنوع في مجتمعنا. ومن خلال التعمق في النسيج الغني للتقاليد الدينية من جميع أنحاء العالم، يمكننا اكتساب رؤى لا تقدر بثمن في المعتقدات والقيم التي تشكل حياة إخواننا البشر. ومن الطرق الرئيسية التي تعزز بها دراسة الممارسات الدينية المختلفة فهمنا هي تزويدنا بنافذة على وجهات نظر الآخرين في العالم. فالدين بمثابة قوة قوية تشكل الطريقة التي ينظر بها الناس إلى العالم، ويفسرون تجاربهم، ويديرون علاقاتهم مع الآخرين. ومن خلال الانغماس في معتقدات وطقوس الثقافات الأخرى، يمكننا تطوير تقدير أعمق للطرق المتنوعة التي يفهم بها الناس العالم من حولهم. وعلاوة على ذلك، فإن دراسة المعتقدات الدينية للثقافات المختلفة من شأنها أيضًا أن تعزز التعاطف من خلال تمكيننا من رؤية العالم من خلال عيون الآخرين. عندما نخصص الوقت لفهم النصوص المقدسة والطقوس والرموز التي تحمل أهمية للأشخاص من مختلف التقاليد الدينية، فإننا نكون أكثر قدرة على التعاطف مع أفراحهم وصراعاتهم وأحزانهم. يمكن أن يساعد هذا الفهم المتعاطف في سد الفجوة بين الأفراد من خلفيات ثقافية مختلفة، وتعزيز الروابط وخلق شعور بالإنسانية المشتركة. إن احترام التنوع هو نتيجة حاسمة أخرى لدراسة المعتقدات والممارسات الدينية للثقافات المختلفة. من خلال الاعتراف بالطرق الفريدة التي تعبر بها المجتمعات المختلفة عن روحانيتها وتكريمها، يمكننا أن نزرع شعورًا عميقًا بالاحترام لثراء وتعقيد التجربة الإنسانية. يعمل هذا الاحترام للتنوع كترياق قوي للتحيز والتمييز وعدم التسامح، مما يعزز مجتمعًا أكثر شمولا وتناغما. في عالمنا المتزايد العولمة، حيث تتواصل الثقافات والأديان المختلفة على أساس يومي، أصبح من المهم أكثر من أي وقت مضى تنمية الفهم والتعاطف واحترام التنوع. من خلال دراسة المعتقدات والممارسات الدينية للثقافات المختلفة، يمكننا تجهيز أنفسنا بالأدوات اللازمة للتنقل عبر تعقيدات مجتمعنا التعددي بنعمة وحساسية. وفي الختام، فإن دراسة المعتقدات والممارسات الدينية للثقافات المختلفة تشكل رحلة تحويلية يمكنها توسيع آفاقنا وتعميق تعاطفنا وإثراء تقديرنا لتنوع التجارب الإنسانية. ومن خلال تخصيص الوقت للتعرف على التقاليد المقدسة للآخرين، يمكننا بناء جسور التفاهم، وإقامة روابط التعاطف، وزراعة ثقافة الاحترام للنسيج الغني من المعتقدات التي تشكل عالمنا. دعونا نغتنم هذه الفرصة للنمو في المعرفة والرحمة والانفتاح على التنوع العجيب للروحانية البشرية.

5. من خلال استكشاف معنى الدين، يمكننا اكتساب نظرة ثاقبة للتجربة الإنسانية والأسئلة الكونية للوجود.

لقد لعب الدين دائمًا دورًا مهمًا في تشكيل المجتمعات والثقافات البشرية عبر التاريخ. لقد وفر إطارا لفهم أسرار الوجود، ومعالجة المعضلات الأخلاقية، واستكشاف تعقيدات التجربة الإنسانية. من خلال التعمق في معنى الدين، يمكننا اكتساب نظرة ثاقبة عميقة للأسئلة الأساسية التي ابتليت بها البشرية لقرون. أحد أكثر جوانب الدين إقناعا هو قدرته على تقديم تفسيرات لأصول الكون والبشرية. تقدم العديد من الأديان أساطير الخلق التي تسعى إلى الإجابة على أسئلة حول كيفية تشكل العالم وكيف جاء البشر إلى الوجود. على سبيل المثال، في المسيحية، يصف سفر التكوين خلق الله للعالم في ستة أيام. وبالمثل، في الهندوسية، يروي الريجفيدا قصة التضحية الكونية بالكائن البدائي، بوروشا، الذي خُلق منه الكون. من خلال دراسة هذه الأساطير واستكشاف المعتقدات التي تكمن وراءها، يمكننا اكتساب فهم أعمق لكيفية تعامل الثقافات المختلفة مع أسرار الوجود. كما يعمل الدين كبوصلة أخلاقية للعديد من الناس، حيث يقدم التوجيه حول كيفية العيش في حياة فاضلة وأخلاقية. على سبيل المثال، توفر الوصايا العشر في اليهودية والمسيحية مجموعة من القواعد للسلوك تؤكد على الصدق واحترام الآخرين وقدسية الحياة. في البوذية، يحدد المسار النبيل الثماني طريقة لتحقيق التنوير من خلال السلوك الأخلاقي واليقظة والتأمل. من خلال فحص هذه التعاليم الأخلاقية، يمكننا اكتساب نظرة ثاقبة للقيم التي شكلت المجتمعات البشرية وما زالت تؤثر على مواقفنا وسلوكياتنا اليوم. علاوة على ذلك، يوفر الدين شعورا بالمجتمع والانتماء للعديد من الناس، ويقدم شبكة دعم من الأفراد ذوي التفكير المماثل الذين يتشاركون في المعتقدات والقيم المشتركة. غالبا ما تجتمع المجتمعات الدينية معا للعبادة والاحتفال بالمهرجانات ودعم بعضها البعض في أوقات الحاجة. على سبيل المثال، يجتمع المسلمون للصلاة الجماعية خلال شهر رمضان، ويجتمع المسيحيون معا لحضور خدمات العبادة يوم الأحد، ويحتفل الهندوس بعيد ديوالي بالألعاب النارية والأعياد. من خلال دراسة هذه الممارسات والطقوس الجماعية، يمكننا اكتساب فهم أعمق للحاجة البشرية للتواصل والانتماء. بالإضافة إلى ذلك، يوفر الدين إطارًا للتعامل مع الأسئلة العالمية المتعلقة بالحياة والموت والمعاناة والفداء والمعنى النهائي للوجود. تقدم العديد من التقاليد الدينية تفسيرات لسبب وجود المعاناة في العالم وكيف يمكن التغلب عليها من خلال الإيمان والصلاة والأعمال الصالحة. على سبيل المثال، في البوذية، تعلم الحقائق النبيلة الأربع أن المعاناة جزء متأصل من الحياة ولكن يمكن تجاوزها من خلال ممارسة اليقظة والرحمة. من خلال استكشاف هذه الأسئلة الوجودية من خلال عدسة الدين، يمكننا اكتساب نظرة ثاقبة للحالة الإنسانية والبحث عن المعنى الذي يتجاوز أنظمة المعتقدات الفردية. في الختام، من خلال الخوض في معنى الدين، يمكننا اكتساب فهم أعمق للتجربة الإنسانية والأسئلة العالمية التي ابتليت بها البشرية لقرون. من خلال دراسة أساطير الخلق، والتعاليم الأخلاقية، والممارسات المجتمعية، والأسئلة الوجودية، يمكننا اكتساب نظرة ثاقبة للطرق المتنوعة التي تعاملت بها الثقافات المختلفة مع أسرار الوجود والبحث عن المعنى. لا يزال الدين يلعب دورا حيويا في تشكيل المجتمعات والثقافات البشرية، حيث يقدم التوجيه والمجتمع والشعور بالهدف لمليارات الأشخاص في جميع أنحاء العالم. من خلال استكشاف النسيج الغني للمعتقدات والممارسات الدينية، يمكننا اكتساب تقدير أكبر لتعقيد وتنوع التجربة الإنسانية.

تقدم دراسة الدين رؤى عميقة في التجربة الإنسانية والترابط بين جميع الكائنات. من خلال المعتقدات والطقوس والممارسات المختلفة، يجد الأفراد المعنى والغرض والاتصال بشيء أعظم من أنفسهم. تسلط الأمثلة المقدمة في هذه المقالة الضوء على تنوع وثراء التقاليد الدينية عبر الثقافات وعلى مر التاريخ. من خلال استكشاف المعتقدات المختلفة واحترامها، يمكننا تعزيز الفهم والتعاطف والوحدة في عالمنا المتزايد العولمة. دعونا نستمر في دراسة وتقدير والاحتفال بالأهمية العميقة للدين في تشكيل هوياتنا وتشكيل عالمنا.

***

محمد عبد الكريم يوسف

........................

المراجع

1.     Smith, Huston. The World's Religions. HarperOne, 2009.

2.     Armstrong, Karen. A History of God: The 4,000-Year Quest of Judaism, Christianity and Islam. Ballantine Books, 1993.

3.     Nussbaum, Martha C. The New Religious Intolerance: Overcoming the Politics of Fear in an Anxious Age. Harvard University Press, 2012.

1- نشأة النقد الأدبي العربي: في المفهوم: يبدو أن النقد أمر فطري في الإنسان، فالإنسان يميز بفطرته بين الخير والشر، وبين القبح والجمال، وبين اللذّة والألم، وينفر من الكلمة الخشنة الجافة.

(والنقد الأدبي هو من يكشف أصالة الأدب أو عدم إصالته، ويميز جيده من رديئه، وسواء كان النقد علماً أو فناً فهو ليس قائماً بذاته، وإنما هو متصل بالأدب يستمد منه وجوده، ويسير في ظله، ويرصد خطأه واتجاهاته.). (1).

مفهوم النقد عند العرب:

النقد كما عبرت عنه المعاجم  العربيّة مأخوذ من ("نقد الصيرفي الدراهم، والدنانير  وانتقدها"، أي ميز صحيحها من زائفها، وجيدها من رديئها، ومن معانيه أيضاً "النقاش"، فيقال ناقد فلان فلاناً في الأمر، أي ناقشه فيه". ومن هذا المعنى  الأصلي للكلمة جاء معنى النقد في الأدب، ذلك أن ما يفعله الناقد من محاولة التمييز بين جيد الكلام ورديئه، إلا من جنس ما يفعله الصيرفي نقد الدراهم والدنانير). (2).

أما النقد الأدبي اصطلاحاً: (فيُعد عمليّة تحليل وتفسير وتقييم الأعمال الأدبيّة، وتتم عملية النقد من خلال أربع مراحل، وهي الملاحظة والتحليل والتفسير والتقويم. ففي المرحلة الأولى تتم قراءة النص الأدبي ومحاولة فهم معناه، ويقوم الناقد في المرحلة الثانية بتحليل النص الأدبي وتفكيكه إلى عناصره الأوليّة ومعرفة طريقة تنظيم الأجزاء مع بعضها بعضاً. وفي المرحلة الثالثة يشرح الناقد العلاقة بين الأجزاء والعناصر ومعرفة ما يودُّ المؤلف قوله، وأخيراً يُصدر حُكمه المبنى على فهمه للنص ككل.).(3).

أما تعريف النقد عند النقاد والأدباء العرب القدامى: فقد عرفه على سبيل المثال: "قدامة بن جعفر": (بأنّه علم تلخيص جيد الشعر من رديئة، كي لا يتخبّط الناس في الشعر، وكي يتفقّهوا في العلوم، فقليلًا ما يصيبون في فَهم الشعر، فالنقد يُبين صحة الكلام وصوابه.). (4). وتاريخ النقد الأدبي عند العرب صناعة وعلم، فلا بد للناقد من التمكن من أدواته، ويُفضّل في الناقد أن يلمّ بالعلوم الأدبيّة المختلفة من مثل عِلم الغريب، وعِلم البلاغة والنحو، وأغراض المعاني، وعلمَيْ الوزن والقوافي، والثقافة العامة في الأدب.. وعندما طُرح السؤال حول البداية الأولى للنقد العربي، تعددت الإجابات وتشعبت، فاختلف الناس فيها بين قابل ورافض، ولكل واحد من الطرفين منطلق يبرر به قبوله أو رفضه. هكذا أثارت مرحلة البداية الأولى للنقد نقاشا محتدماً بين الباحثين المحدثيـن الذين اختلفوا في تقويم ما أثير عن هذه المرحلة من أقوال نقديّة، وأحكام موجزة مرتجلة، ومقاييس ذوقيّة غير معللة.(5).

آراء في النقد الأدبي عند بعض النقاد العرب:

لقد تعدد آراء الباحثين في قضايا النقد الأدبي وتاريخه  في تحديد مفهوم النقد، ففريق من الباحثين يرى أن مرحلة العصر الجاهلي هي المرحلة التي تطور عنها النقد لينتهي إلى أن العرب عرفوا النقد انطلاقا من التلازم المفترض بين الشعر والنقد، فما دام لدينا شعر فلا بد أن يكون لدينا نقد. بل منهم من يذهب أبعد من ذلك حين يعتبر أن النقد أسبق إلى الوجود من تلك الفنون"، وهل الأديب إلا ناقد قبل أن تأخذ أفكاره صبغتها الفنية، ومن أشهر من حمل مشعل هذه الفئة:

الأستاذ "طه أحمد إبراهيم. والأستاذ محمد زغلول سالم". (6).

وفريق آخر قرأ النقد العربي القديم انطلاقا من مفاهيم نقديّة مستمدة من الثقافة الغربيّة، وانتهى برفضه للبداية الأوليّة للنقد، لينص أن النقد لن يظهر إلا في القرن الرابع الهجري، وقبل هذه المرحلة لا يمكن أن يُعتد به. وبذلك يكون قد أعاد قراءة النقد العربي القديم من خلال تصورات ومفاهيم جديدة حول النقد، يحكمه منهـج مـأخوذ مـن ثقافة الآخر، ومن رواد هذه الفئة " د. محمد مندور" . (7)

وفريق ثالث نص على أن النقد العربي لن يظهر إلا بظهور الفلسفة وقد توصل لهذه النتيجة من خلال استقراء تاريخي لتاريخ النقد الأدبي في أوربا، ومادامت الفلسفة قد تأخر ظهورها في الثقافة العربيّة، فطبيعي أن يتأخر ظهور النقد، ولن يظهر إلا مع ظهور الفكر الفلسفي على يد المعتزلة و المتكلمين، ومن رواد هذا الطرح الدكتور "محمد غنيمي هالل". (8).

هذا وإن الأشكال النقديّة عند العرب تستمد حضورها وفاعليتها في تاريخ النقد الأدبي عند العرب، من علوم اللغة وعِلم الفلسفة، فمنذ العصر الجاهلي عُرفت ألوانُ مختلفة من النقد، ويمكن أن تُجمَل الأشكال النقديّة عند العرب القدماء كما يأتي:

1- القصائد الحوليّة المحكّمة: وهي القصائد التي استغرقت حولًا كاملًا في تدقيقها الشديد أو مراجعتها.

2- الاحتكام، أو الشعر المحكم: وهي أن بعض الشعراء كانوا يلجؤون إلى من يُفاضل بينهم، ولُقِّب هذا الحَكَم بالقاضي، فكان يحكم بين الشعراء أيُّهم أجود بلاغة ولفظًا.

3- الأسواق الأدبيّة: وهي الظاهرة التي امتدت من العصر الجاهلي إلى الإسلام، وهي الأسواق التي يجتمع فيها الشعراء فيلقون الشعر ويتلقون النقد ملاحظة لهم أو عليهم، ومن أشهر هذا الأسواق في الجاهلية "سوق عكاظ". "

4- مجالس الشعراء: كانت مجالس الشعراء تدور فيها ملاحظات الشعراء بعضهم على بعض، وهي ملاحظات ذات قيم نقديّة يغلب عليها الروح الانطباعيّة والشكلانيّة، وكان لكل شاعر طريقته الخاصة في النقد. (9).

النقد الأدبي في العصر الجاهلي:

إن الملاحظات النقديّة التي توصل إليها النقاد عن العصر الجاهلي وشعره وشعرائه، تؤكد أن نقدهم كان مبنيا على (الذوق والفطرة) التي تتأثر بما تسمع من قول تصدر عليه الحكم غير معلل أو غير مشفوع بحيثياته.

فالناقد إذا ما استساغ بذوقه الفطري قصيدة أو جزءاً من قصيدة، أو بيتاً أو حتى نصف بيت منها، ما أسرع أن يندفع إلى التعميم في الحكم، ويجعل من الشاعر أشعر الناس، هذا بالنسبة لملكة النقد في تلك المرحلة. أما نقدهم فقد تحرك في ميدانيين كما يذكر الناقد "عبد العزيز عتيق" هما: (ميدان الحكم على الشعر)، و(ميدان الحكم على الشعراء وتفضيل بعضهم على بعض)، وغالباً ما تُمييز بعض القصائد الجيدة بألقاب. ففي ميدان الحكم على الشعر اتجه نقدهم إلى الألفاظ والمعاني، وبناء الصور الشعريّة، فنظم الكلام عندهم محكم أم غير محكم، والمعاني مقبولة أم غير مقبولة، والصور الشعريّة كاملة البناء أم ناقصة البناء. أما واقع النقد وتحركه في ميدان السعراء والمفاضلة بينهم وخلع الألقاب على بعض قصائدهم. فالحكم لشاعر بالشاعريّة، أو الحكم بتفضيله على غيره، أو الحكم بجودة قصيدة وتلقيبها بلقب خاص، لم يكن حكماً مسبباً ومعللاً، وإنما كان حكما تأثريّاً قوامه الذوق والفطرة. (10)

النقد الأدبي في عصر الرسول:

لا شك إن الشعر في عصر الرسول قلَّ كماً وكيفا وموضوعاً، وأنه ظل جاهليًاً في شكله ومضمونه وروحه، وهو لم يتطور عن نهجه القديم ألا قليلاً. وما تأثره في الإسلام إلا قليلاً و خاصة في المعاني والمقاصد الدينيّة، حيث فرض على الشاعر أن يلتزم قول الحق في كل ما يقول، ويبتعد عن الذم والحقد والهجاء وكل ما يخالف روح المحبة والتسامح. وهذا ما أكد عليه الرسول بقوله: (إنما الشعر كلام مؤلف فما وافق الحق منه فهو حسن، وما لم يوافق الحق فيه فلا خير فيه.). (11)

أما انقد في عصر الخلفاء الراشدين:

لقد ظل النقد الأدبي هنا يتمثل في جوهره مبادئ النقد الجاهل ذاتها عدا التمسك بالمضمون الأخلاقي الذي ساد في عصر الرسول. وبشكل عام إن نقد الشعر في عصر الخلفاء الراشدين والصحابة، كان يدعوا إلى العدول عنه إلى القرآن الكريم، والعمل على تلقين الأبناء أحسنه وأعفه تقويماً لألسنتهم وتهذيباً لنفوسهم، والاستعانة به عند الاقتضاء في تفهم القرآن كتاب الله. (فالشعر الذي يحقق المتعة الأدبيّة، ويُسكن به الغيض، وتطفأ به الثائرة، ويعطى به السائل، وينزع إلى الفضائل بصفة عامة، هو الشعر الذي راق للخلفاء الراشدين واستحق التشجيع والتقدير.). (12).

النقد الأدبي في العصر الأموي:

نما النقد الأدبي في العصر الأموي وازدهر في بيئات ثلاثة هي: الحجاز و العراق و الشام، وقد تلوّن في كل بيئة بلون الحياة و الظروف الاجتماعيّة و السياسيّة التي أحاطت بكل بيئة، لأن الأدب انعكاس للواقع، وباختلاف ظروف كل بيئة اختلف الشعر فأدى ذلك إلى اختلاف النقد بين هذه البيئات.

يطلق على العصر الأموي على المرحلة التي تبدأ بخلافة معاوية سنة 41هـ، وتنتهي بغلبة العباسيين عليهم وانتزاع السلطة منهم سنة 132هـ.

وبناءً على التحولات التاريخيّة التي تمت في بنية الدولة الأمويّة بسبب الفتوحات الواسعة ودخول شعوب أخرى لها ثقافتها وطموحاتها السياسيّة، ولكثرة تدفق الثروات على المسلمين العرب الفاتحين، راحت تتجلى مجموعة نزعات عند الشعراء الأمويين. فهناك من الشعراء لم يستطع شعرهم أن يعزل نفسه عن جملة الصراعات الدائرة وكان مؤثراً في الفتن الدائرة، ولسان الأحزاب، حيث كان لكل حزب شعراؤه الذين يناضلون ويعبرون عنه، ويصطبغ شعرهم بصبغة العقيدة التي يدعو إليها هذا الحزب أو ذاك. (13).

بيد أن الحياة السياسيّة وصراعاتها لم تكن الشغل الشاغل للشعراء، وإنما كان هناك شعراء أبعدوا أنفسهم عن حالات الصراع الدائرة، وراحوا يغردون لأنفسهم ويصنعون شعراً عاطفيّاً تعلق بالمرأة ومغامرات الشعراء معها، وخاصة بعد أن كثر عدد النساء من الموالي وما تركوه من أثر في حياة الشعر الأموي وطقوس الغناء والطرب وبخاصة في الحجاز وباديتها. حيث لا يزال شعر أهل الحجاز إلى اليوم له تأثيره وجماله وقيمته الأدبيّة. (وكان الشاعر "عمر بن ابي ربيعة" هو رائد هذا الشعر أو من حمل لواءه في الحجاز، وسار على منواله كثيرون من شعراء مكة والمدينة، من أمثال " العرجي" وأبو دهبل" و" الحاري بن خالد المخزومي"  و" عبيد الله بن قيس الرقيات" و" الأحوص" ونُصيب بن رباح"  و" قيس بن ذريح". ومن يتابع النقد الأدبي في العصر الأموي كما يذكر كتاب الأغاني، يدهش مما يرى من اهتمام عام بالنقد الأدبي على جميع المستويات ومختلف الطبقات. فالنقد الأدبي أسهم به في تلك لفترة النساء والرجال والشعراء وغير الشعراء كل على قدر فهمه وذوقه وروحه ونوع ثقافته.). (14). هذا وقد انصب النقد حول نقد الشعراء أنفسهم من حيث شعريتهم وأغراض شعرهم ومغامراته العاطفية وغير ذلك. (كما انصب على المفاضلات والموازنات الشعريّة، من حيث الصدق الشعري في المعنى والعاطفة، أو في الشعر الذي يوحيه العقل والمنطق، أو العقل والعاطفة، وتفضيل الثاني على الأول.). (15).. (كما بدأ يظهر في تلك الفترة الكلام عن السرقات الشعريّة أو أخذ بعض الشعراء عن بعض وغير ذلك من موقف.). (16). والنقد في هذه المدرسة غالبا ما اتجه أيضاً الى المعاني التي وعاها النص، والتي كان الناقد يعرضها على ذوقه الحضري، فيقبل منها ما يراه موائما لهذا الذوق، وما هو أليق لعاطفة الحب وأنسب لفن الغزل. (ومن النقاد كان هناك "ابن أبي عتيق". الذي تميز في نقده بذوق مترف وحس مرهف وبصيرة نافذة في التمييز بين جيد الشعر ورديئه، وكان على صلة وثيقة بتيارات الشعر واتجاهاتها.). (17).  والشعر الجيد عن "ابن أبي عتيقة" هو الشعر الذي تظهر فيه قوة وصلابة النقد، والذي يشتغل على دقة عاطفة قائله، وتأثيره في عواطف سامعيه. أي (أن يكون له موقع في القلب وعلوق في النفس، وأن يكون بليغاً في الوفاء بغرضه والتعبير عنه.). (18).. هذا إضافة إلى ما يمتاز به الشاعر وشعره من سمات وخصائص مثل: (دقة المعنى، ولطف المدخل، وسهولة المخرج ومتانة الحشو، وتعطف الحواشي، وإنارة المعاني، والإعراب عن الحاجة. وقبول المعاني السارة ورفض المعاني  المؤلمة التي تدعو إلى التطير).(19).. (إنها في العموم مدرسة الغزل وكان النقد فيها مطبوعاً بطابع الذوق الفني والرقة، والروح الإنسانيّة) (20). ، (تبعاً لأدب هذه البيئة التي شاع فيه ما شاع من رقة وخفة وظرف، وتذوق رفيع للجمال وأساليب القول). (21). أو كما يقول أحمد أمين: (لقد  نشأ في الحجاز شعر رقيق يتفق وروح العصر، فيه دعابة وفيه وصف للنساء صريح، وفيه قصص لأحداث الشعراء مع النساء .... هذا الأدب الجديد في هذه البيئة اللاهية استتبع كذلك رقيّاً في النقد يدل على رقي في الذوق). (22).

النقد الأدبي في العصر الأموي – العراق أنموذجاً:

قلنا في عرضنا السابق بأن النقد الأدبي في العصر الأموي نما وازدهر في بيئات ثلاث هي: الحجاز و العراق و الشام ، وقد تلوّن في كل بيئة بلون الحياة و الظروف الاجتماعيّة و السياسيّة والفكريّة التي أحاطت بكل بيئة، لأن الأدب انعكاس للواقع، وباختلاف ظروف كل بيئة اختلف الشعر، فأدى ذلك إلى اختلاف النقد بين هذه البيئات.

اختلف الشعر في بيئة العراق عما كان عليه في الحجاز والشام، فالشعر في العراق يشبه إلى حد كبير الشعر الجاهلي في مضمونه وأسلوبه، ويعود ذلك إلى عامل العصبيّة القبليّة التي عادت إلى الظهور من جديد بعد أن تلاشت إلى حد ما في صدر الإسلام حيث نبذها الإسلام، وكانت أغلب موضوعات الشعر في العراق تصب في الافتخار و الاعتزاز وهجاء الخصوم بما هو مر ومقذع. أما غرض الغزل وغيره من الأغراض الأخرى، فكانت ليست ذات أهميّة وقليلة الرواج، فانحصر الشعر غالبا في تلك النقائض التي حمل لواءها بالخصوص شعر الثالوث الخطير: "الفرزدق وجرير والأخطل" الذين جعلوا من العراق أشهر مكان للتنافس و التباري في هذا اللون من الشعر. وقد ساعد على انتشار شعر النقائض وولوع الناس به في سوق الشعر (المربد) الذي كان يشبه سوق عكاظ في الجاهليّة، يفد إليه الناس من كل جهة، ويجتمع فيه الشعراء ينشدون الأشعار في صورة تشبه ما كان عليه في الجاهليّة من مفاخرة بالأنساب وتعاظم بالكرم و الشجاعة، وإبراز ما لقوم كل شاعر من فضائل وأيام. ( 23).

كما  خلف لنا النقد الأدبي في العراق في العصر الأموي نوعاً من النقد يفاضل بين الشعراء ويوازن بين الأعمال الشعريّة، ويميز بين طرائق التعبير على أساس من فحولة الأسلوب...  (وهذا ما أفضى إلى بزوغ نجم النقد في هذه المدرسة، وهو نقد يقوم على المفاضلة بين الشعراء بناء على ما يقدم كل منهم في أشعاره، وما يستخدم من أساليب وطرق يُعبّر بها عن مضمون الفكرة أو الغرض الذي أراده الشاعر، وتميز شعراء هذه المدرسة بتعففهم عن استجداء أعطيات الخلفاء والأمراء وظهور العزة والأنفة فيهم.). (24). ومع نمو الحركات السياسيّة، خلف لنا نوعاً من الشعر الذي يرفض التوجه للأمراء والتمسح بالملوك واستجداء المال بالمدح كما في شعر الخوارج، كما  نمت الى جوار هذا الشعر حركة نقديّة مالت إلى تقييم الشعر على ضوء التزامه بالقيم الدينيّة والخلقيّة. (25).

ولا ننسى أن بيئة العراق بيئة علميّة ثقافيّة امتزجت فيها الأصول العربية والأصول الأجنبية، ولذلك تأثرت هذه المدرسة بالمنهج العلمي الذي اعتمد فيه نقادها غالباً على قواعد النحو وأصول اللغة، ويقيسون الأدب بمقاييسها، ويحاولون أن يخضعوا الشعراء لها. تلك هي مدرسة اللغويين في العراق التي غلب عليها الطابع اللغوي والنحوي، وإن لم تهمل الجوانب المعنويّة والتعبيريّة الأخرى. ولم يكن هؤلاء العلماء النقاد من اللغويين والنحويين، على درجة واحدة في التزام المقياس العلمي، (فالحق أن منهم من كان نقده يقوم أساساً على الأصول المقررة في اللغة والنحو والعروض، ومنهم من يميل الى الأصول الأدبية الفنيّة في التعبير والتصوير.). (26).

النقد الأدبي في بلاد الشام في العصر الأموي:

في الحقيقة لا يوجد في بلاد الشام سمات وخصائص متميزة يتفرد بها النقد الأدبي في هذه البلاد بالنسبة للعصر الأموي. وذلك راجع إلى أن أكثر سكان الشام من العرب اليمنيين الذين اكتسبوا لغة عرب الشام اكتساباً، (وبالتالي لم يستطيعوا أن يشتغلوا عليها في قول الشعر ونظمه. الأمر الذي حال دون ظهور شعراء معرفين ومشهورين لديهم سوى "عدي بن الرقاع العامدي" ومع ذلك هو لم يستطيع أن يرتقي بشعره إلى مستوى شعراء العراق مثل جرير والفرزدق وذو الرمة والأخطل.). (27).

(إن شعر الشام كان، إما وافداً، اقتصر دوره على مدح الخلفاء والأمراء والولاة طالباً عطائهم. أو هو شعر الحروب القبليّة التي كانت تدور بين القبائل القيسيّة واليمنيّة التي وفدت أثناء الفتوحات إلى بلاد الشام. ولعل الشعر الوحيد الذي نبع من بلاد الشام هو الشعر الذي احتفى به بعض الأمراء الذي انغمسوا باللهو وليالي الطرب والشراب، كيزيد بن معاوية، ويزيد بن عبد الملك، والوليد بن يزيد بن عبد الملك.). (28).

وأكثر النقد الأدبي الذي عرفته بيئة الشام في العصر الأموي، (قد صدر عن الخلفاء والأمراء لسعة إحاطتهم باللغة والأدب، ولمعرفتهم الدقيقة بمحاسن الكلام ولمشاركتهم الفعليّة فيما كان يجري من حوار ونقاش حول الشعر.). (29). كعبد "الملك بن مروان"، حيث كان له مجلسه الأدبي في قصره الذي يفد إليه الشعراء، وتعقد فيه حوارات نقدية حول الشعر ونقده في كل مذهب. بالرغم أن هذا النقد ظل يعتمد على الذوق الفطري ذي السمات والخصائص العربيّة الخالصة.(30).

النقد في العصر العباس:

في القرنين الثاني والثالث للهجرة ومنذ وصول العباسيين للخلافة، بدأ العصر الذهبي الذي أخذت فيه الحضارة العربيّة تنزع إلى الترف وتتشكل معظم مقوماتها، حيث نشأت أكثر العلوم العربيّة والإسلاميّة وبدأ تدوينها، وظهور ما يسمى بعصر التدوين، إذ نقل إلى العربيّة ما نقل من علوم اليونان والفرس والهند، (وفي هذه الفترة بدأ الشعر العربي يتحول إلى فن وصناعة بعد أن كان يصدر عن طبع وسليقة، وظهر من بين الموالي الكثير من الشعراء والكتاب والأدباء والعلماء، الذين عدو عرباً لنشأتهم في البصرة والكوفة اللتين نزلتهما في صدر الإسلام  بعض القبائل العربيّة التي ينتمي إليها بعض هؤلاء الشعراء بالولاء.). (31). وكان من أهم الأسباب التي أدت الى ازدهار النقد في العصر العباسي، تلك الظروف والعوامل الاجتماعية التي طبعت الأدب والعلوم بطبائعها، وأثرت في فكر الشعراء والنقاد وعكست ملامحها عليهم، ودفعت النقاد الى دراسة ما يكون لهؤلاء الادباء من خصائص أسلوبية يفرقون بها بين أديب وآخر.

عندما نتابع النقد في العصر العباسي نجد إمعانًا في الحضارة وإمعانًا في الترف،  وأن الشعر والأدب يتحولان إلى فن وصناعة بعد أن كانا يصدران عن طبع وسليقة كما بينا قبل قليل، حتى لنرى كثيرًا من الكتاب والشعراء من الموالي الذين عدوا عرباً بالمربى. كما نرى أن الثقافة راحت تتعاظم وتتسع وتشمل فروع المعرفة كلها لولم تعد تقتصر على الثقافة الدينيّة والأدبية، وذلك بسبب تدفق الثقافات الأجنبيّة على الخلافة الإسلاميّة من فارسيّة وهنديّة ويونانيّة، ورأينا كل مجموعة من المعارف تتحول إلى علم حتى اللغة والأدب والنحو والصرف. فكان طبيعيًّا أن يتحول الذوق الفطري إلى ذوق مثقف ثقافة علميّة واسعة، وأن يتأثر النقد الأدبي بهذه الثروة العلميّة والأدبيّة الواسعة.

لقد كان مما عمله العلماء، (أنهم جمعوا ما استطاعوا من أشعار الجاهليين والإسلاميين، فكانت المادة الأدبيّة التي ينقدونها أغزر وأوفر، وجمعوا مادة اللغة، واطلعوا على أقوال النقاد السابقين كما نقلت إليهم أقوال الفرس والهند واليونان في معنى البلاغة وشروطها. فكل هذا أفسح لهم مجال النقد، ومكّن لهم من رقي الذوق، كما مكن لهم من أن يحولوا النقد القديم غير المعلل الذي لا يعدو أستحسان أو استهجان، إلى نقد معلل يبين فيه سبب الاستحسان والاستهجان.). (32). وعلى هذا لم يعد النقد الأدبي على ما يبدو ضرباً من ضربا الترف الأدبي أو نقداً سلبيّاً يقف عند حدود التذوق، كما كان في المراحل السابقة، وإنما بدأ يتحول تدريجيّاً إلى نقد إيجابي يتجاوز حدود التذوق إلى حدود التفسير والتعليل، وإلى حدود إيراد الأحكام النقديّة مشفوعة بعللها وأسبابها. (مثلما أصبح للأدب والكثير من العلوم الأخرى اتجاهاً علميّاً حيث راحت تؤلف الكتب العربيّة في العديد من معارف ذلك العصر. فعلى مستوى الأدب والنقد الأدبي في العصر العباسي تم الاهتمام في هذا الاتجاه، وراح المهتمون ينهجون فيه نهجاً تاريخياً، حيث وضعت الكتب التي جُمع فيها الكثير من شعر الجاهليين والإسلاميين، ورتبوا أصحابها إلى طبقات، وذكر طرفاً من تاريخ حياتهم، ومن آراء وأقوال النقاد في شعرهم. مثل كتاب " جمهرة أشعار العرب"  لأبي زيد القرشي. وكتاب (طبقات الشعراء) لـ"محمد بن سلام.). كما وضعت كتب للنحو والبلاغة من قبل العديد من النحاة كأبي الأسود الدؤلي وابن جني وسيبويه.). (33). وظهر في هذا العصر الكثير من الأدباء (كابن قتيبة  والجاحظ الذي كان أديباً ونحويّاً، ومن الذين اشتغلوا على علم الكلام والبلاغة والمحسنات البديعة. فهذا "محد بن سلام" يكتب عن ضرورة ثقافة الناقد حيث يقول في كتابه (طبقات الشعراء): إن كثرة المدارس تعين على العلم، وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر الصناعات. والصناعات منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان.). (34).. وهو هنا يريد أن يقول إن قول الشعر صنعة لها أصولها العلميّة وهي كالحرفة التي تصقل بالممارسة والتجربة.

ولو تتبعنا ما روي لنا من النقد الأدبي في هذا العصر لرأيناه متجهًا إلى عدة اتجاهات لم تكتمل ملامحها النقدية بشكل واضح، ولذلك سنجد هنا نوعاً من النمذجة النظريّة لهذه المدارس النقديّة استنتجها بعض النقاد المحدثين من السيرة العامة لتاريخ النقد في العصر العباسي  منها:

أولاً: الاتجاه اللغوي:

هو اتجاه نقدي يعتمد على اتخاذ قواعد اللغة أساسًا لنقد الأدب، وقد بدأت خطواته الأولى بصورة أوليّة ساذجة في غضون القرن الثاني للهجرة، وذلك على أيدي طائفة من النحاة واللغويين والرواة الذين أصدروا أحكامهم على الشعر وانتقاداتهم للشعراء في ضوء بعض المقاييس النحويّة أو اللغويّة أو العروضيّة، التي كانت قد تحددت آنذاك. من أبرز هؤلاء: (عبدالله بن أبي إسحاق الحضرمي (ت117 هـ) ويحيى بن يعمر (ت 129هـ) وعيسى بن عمر الثقفي (ت149هـ) وأبي عمرو بن العلاء (ت154هـ)، والمفضل الضبي (ت168هـ)، والأصمعي (ت216هـ)، وغيرهم.). (35).

ثانيًا: الاتجاه الكلاسيكي الاتباعي:

وهو ذلك المنهج الذي يقوم على الالتزام بالأصول والتقاليد الفنيّة الموروثة، ويرى ضرورة اتباعها، وعدم الخروج عليها. وخير ما يمثل ذلك المنهج هو النقد العربي في فترة طويلة من تاريخه، فقد زاول النقد العربي لفترات طويلة هذا الأسلوب في النقد، وبخاصة حين استقر ما عُرف بعمود الشعر. ومن رأي القدماء في  هذه الاتجاه الفني (إنهم كانوا يحاولون شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف، ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة كثرت سوائر الأمثال وشوارد الأبيات والمقاربة في التشبيه، والتحام أجزاء النظم، والتئامها في التخيّر من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى، وشدّة اقتضائهما للقافية حتى لا تحدث منافرة بينهما، فهذه سبعة أبواب هي عمود الشعر. وقد مضى المرزوقي شارحًا ومحللاً هذه الأصول الفنية، ثم انتهى إلى إعلان الرأي العام العربي الذواقة للشعر، "فمن لزمها بحقها وبنى شعره عليها، فهو عندهم الْمُفْلِقُ المعظم، والمحسن المقدم، وهناك إجماع مأخوذ به ومنهج متبع حتى الآن".).(36).

ثالثًا: الاتجاه الرومانسي التجديدي:

وهو ذلك المنهج الذي يقوم على التحرر من الأصول الموروثة، وتعظيم الذوق الفردي بناء على أن الإنسان مقيّد بشخصيته، وأنه ليست هناك مقاييس يستطيع أن يزن بها أفكاره، أو أفكار غيره، فالشخصيات تختلف. ولذا ينبغي أن يفهم كل قارئ العمل الفني حسب طبيعته، أي: ميوله النفسيّة واستعداده الكافي. (ويمكن أن يُعقد الشبه هنا بين هذا المنهج وبين اتجاه التجديد الذي شاع في العصر العباسي وتزعمه "أبو نواس، وبشار، ومسلم بن الوليد"، وأضرابهم ممن نحوا نحو التجديد والخروج على عمود الشعر القديم. وبلغ أوجه عند "المتنبي وأبي العلاء المعري". ولعل أول محاولة علميّة جادة في ميدان علم البديع هي تلك المحاولة التي قام بها خليفة عباسي ولّي الخلافة يوماً وليلة ثم مات مقتولا وقيل مخنوقا سنة 296 هجرية. هذا الخليفة هو "أبو العباس عبد الله بن المعتز بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد"، والمولود سنة 247 هجرية. لقد كان شاعراً مطبوعا مقتدرا على الشعر، سهل اللفظ، جيد القريحة، حسن الإبداع للمعاني، مغرما بالبديع في شعره، وبالإضافة إلى ذلك كان أديبا بليغا مخالطا للعلماء، والأدباء معدودا من جملتهم، وله بضعة عشر مؤلفا في فنون شتى وصل إلينا منها: ديوانه، وطبقات الشعراء، وكتاب البديع.).(37).

(وإذا كان عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 471 للهجرة وصاحب كتابي: «دلائل الإعجاز» و «أسرار البلاغة» هو واضع نظرية علم البيان وعلم المعاني فإن عبد الله بن المعتز هو واضع علم البديع، كما يفهم ذلك من كتابه المسمى «كتاب البديع» الذي ألفه سنة 274 للهجرة).(38).

رابعًا: الاتجاه التاريخي:

إنه المنهج المعني بوصف الأحداث التي وقعت في الماضي وصفًا كيفيًّا، يتناول رصد عناصرها وتحليلها ومناقشتها وتفسيرها، والاستناد على ذلك الوصف في استيعاب الواقع الحالي، وتوقع اتجاهاتها المستقبلية القريبة والبعيدة. وهو في سياق الدرس الأدبي: يقوم على دراسة الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية للعصر الذي ينتمي إليه الأدب، ويتخذ منها وسيلة لفهم الأدب وتفسير خصائصه واستجلاء كوامنه وغوامضه. وهو يقوم بالأساس على توظيف المعلومات التاريخيّة في فهم الظاهرة الأدبية/الإبداعيّة باعتبارها مُعطًى تاريخيًّا قبل كل شيء، ويربط الوقائع الأدبيّة بالحقائق التاريخيّة فيصبح تاريخ الأدب فرعًا من التاريخ العام.

هذا وقد حفل التراث النقدي العربي بكثير من المقولات النقدية، التي يمكن أن تدرج في إطار هذا المنهج، وإن جاءت في صورة جزئية تمثل طبيعة العصر الذي قيلت فيه. فمن ذلك على سبيل المثال: (تعليل ابن سلام الجمحي  لشعر عدي بن زيد، وسهولة منطقه بأنه: "كان يسكن الحيرة ويراكز الريف". وتفسيره لقلة الشعر في مكة والطائف بقلة الحروب، فهو يقول: "وبالطائف شعراء وليس بالكثير، وإنما كان يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين الأحياء، نحو حرب الأوس والخزرج، أو قوم يغيرون ويغار عليهم، والذي قلل شعر قريش أنه لم يكن بينهم ثائرة ولم يحاربوا".). (39).

خامسًا: النقد النفسي:

لقد كان غرض هذا المنهج البحث عن سيكلوجيا المبدع من خلال أثره الأدبي الذي تركه عبر اتجاهات عديدة، فهي تارة تحلل أثرًا معينًا من الآثار الأدبيّة، لتستخرج من هذا التحليل بعض المعلومات عن سيكلوجيّا المؤلف.

وهي تارة أخرى تتناول جملة آثار المؤلف وتستخرج منها نتائج عامة عن حالته النفسية، ثم تطبق هذه النتائج العامة في توضيح آثار بعينها من آثاره .

وهي تارة تتناول سيرة كاتب من الكتاب على نحو ما تظهر من أحداث حياته الخارجيّة، وفي أمور أخرى كرسائله واعترافاته أو يومياته الشخصية ثم تبني من هذا كله نظرية في شخصيّة الكاتب: صراعاته، حرماناته، صدماته، عصاباته، لتستعمل هذه النظريّة في توضيح كل مؤلف من مؤلفاته.  وهي تارة أخرى تنتقل من حياة المؤلف إلى آثاره، ومن آثاره إلى حياته، موضحة هذه بتلك، وتلك بهذه. وهي في أكثر الأحوال تجمع بين هذه الأغراض كلها، وتستعمل هذه الأساليب جميعها...

ويحسن بنا هنا أن نذكر بعض أمثلة تطبيقات هذا المنهج في القديم، يقول ابن قتيبة: (وللشعر دواع تحث البطيء، وتبعث المتكلف، منها الطمع، ومنها الشوق، ومنها الشراب، ومنها الطرب، ومنها الغضب. ويقول أبي هلال العسكري في بيان أثر الحالة النفسية في قوة الشعر أو ضعفه: "إذا أردت أن تصنع كلامًا فأخطِر معانيه ببالك، وتذوق له كرائم اللفظ. واعمله ما دمت في شباب نشاطك، فإذا غشيك الفتور وتخونك الملال فأمسك، فإن الكثير مع الملال قليل والنفيس مع الضجر خسيس، والخواطر كالينابيع يسقى منها شيء بعد شيء، فتجد حاجتك، وتنال أربك من المنفعة، فإذا أكثرت عليها نضب ماؤها، وقل عنك غناؤها.). (40).

سادسًا: الاتجاه الذاتي في النقد:

وهو ما يعرب فيه الناقد عما يحسه ويتأثر به حين يقرأ عملا أدبيا، معتمداً فى حكمه عليه بالجودة والرداءة، أي على ما ينطبع فى نفسه حين يواجه هذا النص، لا على مقاييس موضوعيّة أو قواعد معينة، فهو إذن يقابل النقد الموضوعي.

وقد عرف نقاد العرب هذا اللون من النقد وسموه (النقد الإقناعي) فها هو ذا "ابن الأثير" في كتابه (المثل السائر) يقول: (وسئل جرير عن نفسه وعن الفرزدق والأخطل فقال: أما الفرزدق ففي يده نبعة من الشعر وهو قابض عليها، وأما الأخطل: فأشدّنا اجتراء وأرمانا للقرائض، وأما أنا فمدينة الشعر.) وسئل "أبو عمرو بن العلاء" عن الأخطل فقال: لو أدرك يوما واحداً من الجاهليّة ما قدمت عليه أحدا). (41). وهذا اللون من النقد كان سائداً فى الأدب العربى القديم كما بينا في مواقع سابقة، حيث كان الناقد آنذاك يصدر حكمه النقدي عن إحساس ذاتي بالأثر الأدبي، وتذوق فطري له معتمداً على أصالة عروبته، وسلامة ملكته ونقاء فطرته وصفاء طبعه.

سابعاً: النقد السلبي المتعصب:

لا شك أن هناك صلة وثيقة بين الأديب والناقد فيجب على الناقد أن يبين جوانب الحسن ومواطن الرداءة، وأن ينأ بنقده عن الميل والهوى، فلا يقتصر على كشف جوانب القبح أو يميل عن المهمة السامية للنقد الأدبي وله أن يخالف الأديب فى رأيه إن كان هناك ما يوجب المخالفة.

وقد أشار "ابن قتيبة" إلى التزام الناقد العدل فى حكمه فيقول: (ولم أسلك فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختاراً له سبيل من قلّد أو استحسن باستحسان غيره، ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، وإلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل إلى الفريقين، وأعطيت كلاً حظه ووفرت عليه حقه").(42). فابن قتيبة يوصى هنا الناقد بأن يلتزم العدل فى حكمه، والحيدة فى رأيه، والاحتكام إلى ذوقه النقدي السليم الذى لم يفسده التعصب ولم يتأثر بالأهواء والميول الشخصية.

وفى تاريخ النقد العربي ما يدل على أن بعض النقاد لم يلتزم بما أشار إليه ابن قتيبة، فاستسلم لنوازع نفسه وانقاد لهواه، وتعصب لشاعر بعينه أو عليه، فجاءت أحكامه النقدية بعيدة عن الصواب والجادة، وأتت آراؤه ولمحاته غير موضوعية تعوزها الدقة، (وهذا ما فعله أبو بكر الصولى فى كتابه (أخبار أبى تمـام) حين أسرف فى تعصبه لأبى تمام، وفعل ذلك الحاتمي مع المتنبي حيث تحامل عليه تحاملاً شديداً.). (43).

لاشك أن هذا اللون من النقد يفقد قيمته، لأنه نأى عن الصواب والعدل فى الحكم والتقويم وجنح إلى التعصب والتحامل، وانقاد إلى الأهواء والنزعات والميول الشخصية التي أبعدته عن الحيدة فى التقويم، وعن التمسك بالأصول النقدية القويمة.

ثامناً: الاتجاه الفلسفي في النقد العباسي:

تتضح الإفادة من النقد اليوناني في أي أثر من آثار التفكير البلاغي والنقدي عند العرب في كتاب، ("نقد الشعر" لقدامة بن جعفر"،(ت337هـ)، الذي كان نصرانيًّا وأسلم ثم كان أحد النقلة والمترجمين لآثار اليونان في المنطق والفلسفة وقد أتاح له ذلك خبرة طويلة بمذاهب اليونان في الأدب والنقد، وكان من الطبيعي أن تظهر آثار هذه المعرفة في كتابته عن الشعر العربي ونقده. فلا ريب في أن الثقافة اليونانيّة كانت من ابرز المؤثرات في قدامة بن جعفر؛ فقد كان ممن يشار إليه في علم المنطق وعد من الفلاسفة الفضلاء، وله كتاب في صناعة الجدل، ويدل كتابه "في الخراج" على ثقافة عالية)..(44).

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

.............................

الهوامش:

1- الدكتور عبد العزيز عتيق – تاريخ النقد الأدبي عند العرب – دار النهضة العربيّة للطباعة والنشر –بيروت – 1972 – ص 7.

2- المرجع نفسه – عبد العزيز العتيق – ص8.

3-  مدونات الجزيرة نت نظرة عامة في النقد الأدبي - عبدالحميد المدري.

4- .  رشيد العبيدي، الأدب ومذاهب النقد فيه، ص 98 ط الأولى، 1955.

5-  للاستزادة في ذلك راجع– الدكتور عبد العزيز عتيق – تاريخ النقد الأدبي عند العرب – دار النهضة العربيّة للطباعة والنشر –بيروت – 1972 – ص 5 و6.

6- موقع الأدب العربي - نشـأة النقـد العربـي القديــم بين الممارسة والتأريخ.  السيدة بشرى تاكـفـراست. ) بتصرف.

7- المرجع نفسه. ؤتصرف.

8- المرجع نفسه. بتصرف.

9-  طه أحمد إبراهيم، تاريخ النقد الأدبي عند العرب من العصر الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري، ص 6، ط دار الحكمة – بيروت، لبنان.). بتصرف.

10- الدكتور عبد العزيز عتيق – تاريخ النقد الأدبي عند العرب – دار النهضة العربيّة للطباعة والنشر –بيروت – 1972 ص34-35- 36. ). بتصرف

11- المرجع نفسه: ص 49.

12- المرجع نفسه: ص58.

13- للاستزادة في هذا الموضوع يراجع - الدكتور عبد العزيز عتيق – تاريخ النقد الأدبي عند العرب – دار النهضة العربيّة للطباعة والنشر –بيروت – 1972.   ص 105.

14- المرجع نفسه: ص113

15- المرجع نفسه: ص129

16 – المرجع نفسه: ص139.

17- المرجع نفسه: ص120.

18- المرجع نفسه: ص122.

19- المرجع نفسه: ص123.

20- تاريخ النقد الأدبي والبلاغة د/ محمد زغلول سلام ص85.

21- دراسات في النقد الأدبي د/ حسن جاد ص44..

22- النقد الأدبي – ظهر الإسلام 2 / 421 للاستاذ أحمد أمين.).

23-  (موقع المرسى – (النقد في العصر الأموي في بيئة العراق). بتصرف.

24- موقع سطور – (النقد في العصر الأموي - أنس محفوظ).

25- د/ محمد أحمد العزب - عن اللغة والأدب والنقد ص282، وراجع أيضاً النقد الأدبي لأحمد أمين 424 وما بعدها.).

26- موقع سطور -) النقد في العصر الأموي) - أنس محفوظ.

27- - الدكتور عبد العزيز عتيق – تاريخ النقد الأدبي عند العرب – دار النهضة العربيّة للطباعة والنشر –بيروت – 1972.   ص 105. ص191.

28- المرجع نفسه: ص192.

29 – المرجع نفسه: ص 195.

30- المرجع نفسه: ص214. بتصرف.

31- المرجع نفسه: ص271

32- للاستزادة في هذا الاتجاه – يراجع - موقع هنداوي – (النقد في العصر العباسي -).

33- المرجع نفسه: ص 176 و 177.

34- المرجع نفسه: 296.

35- موقع كنانة أون لاين -  - إ.د/صبري فوزي أبوحسين  (اتجاهات النقد الأدبي في العصر العباسي).

36- المرجع نفسه.

37 -(اتجاهات النقد الأدبي في العصر العباسي -إ.د/صبري فوزي أبوحسين – موقع كنانة أون لاين .). (كذلك يراجع موقع - موقع الدكتور عبد الحميد هنداوي – المناهج النقديّة -).

38-0 المرجع نفسه.

39- المرجع نفسه.

40- المرجع نفسه.

42- المرجع نفسه.

43- المرجع نفسه.

44- المرجع نفسه.

45- المرجع نفسه.

 

الصفحة 1 من 6

في المثقف اليوم