دراسات وبحوث

دراسات وبحوث

ـ استشراف أدوار معلم المستقبل:

أَولَتْ المجتمعات الحديثة المعلم عناية فائقة واهتماما ملحوظا باعتباره عنصرا رئيسا ومؤثرا في العملية التعليمية، وذلك من خلال تعدد وتنوع الصيغ والإحداثيات التعليمية في تأهيله وتكوينه وإعداده، على اعتبار أن فاعلية المؤسسة التعليمية ونجاحها تعتمدان بصورة مباشرة على كفاءة العاملين بها. ولقد صادف عملية إعداد المعلم وتكوينه الكثير من التطوير والتحديث عبر سنوات طويلة، لذا تغيرت طبيعة وماهية استراتيجيات عملية الإعداد، وسلكت المجتمعات المختلفة وفق رؤاها التربوية ودرجة نموها التعليمي وطبيعة مشكلاتها الاجتماعية والثقافية، ودرجة تقدمها الاقتصادي ومستوى نظرة هذه المجتمعات للمعلم وتحديد أهمية دوره في منظومة التعليم مسلكا جديدا مغايرا لما سبق.

ولعل الاهتمام بتكوين المعلم وتأهيله يرتكز على قناعة مفادها أن المعلم وكفاءته يؤثران بشكل واضح ومباشر على نجاح العملية التعليمية؛ باعتباره دعامة أصيلة في المشهد التعليمي، فإن رفع كفاءة إعداده وتكوينه يسهم في تحسين فاعلية النظام التعليمي برمته وتحقيق مخرجات التعلم ونواتجه بصورة جيدة. ولا شك أن مهمة إعداد معلم متميز جدير بمهنة التدريس إحدى أبرز المشكلات المستدامة المرتبطة بمنظومة التعليم الجديدة، كما أن المحافظة على جودة الأدوار التي يقوم بها المعلم في ظل تطورات اجتماعية وثقافية واقتصادية متسارعة ومتصارعة مسألة شائكة ومعقدة.

وفي ضوء التغيرات المتواترة على الصعيد التربوي والتعليمي بشدة فإنه ينبغي على مؤسسات إعداد المعلم بصورة وجوبية تزويده وإكسابه القدرات والمهارات والكفايات اللازمة لا المناسبة فحسب التي تمكنه من مواجهة هذه التغيرات القائمة والمتوقع حدوثها، وهذا يتطلب من كليات التربية إعداد معلم المستقبل اعتمادا على مراجعة مخرجاتها وعملياتها ونواتج التعلم المقصودة والأخرى المرغوبة؛ لتصبح مناسبة ومتوافقة مع متغيرات العصر، بل ومواكبة الإعداد لكل جديد وافد وطارئ على المنظومة التعليمية، من أجل تشكيل معلم قادر على المشاركة والمنافسة والتأثير.

وقضية إعداد المعلم لمهنة التدريس لها أهمية كبرى وخاصة في القرن الواحد والعشرين الذي لم يعد يقتصر دور المعلم فيه على نقل المعلومات والمعارف وتوصيلها بالتلقين المباشر، وإنما يتجاوز ذلك للقيام بمهام من شأنها إعداد نشء قادر على الإبداع وامتلاك مهارات التعلم مدى الحياة، لذا فإن عملية إعداد المعلم لاسيما معلم اللغة العربية عامل رئيس لنجاح منظومة متكاملة تحتاج إلى بذل الكثير من الجهد في تأهيله وتكوينه .

وإذا كان إعداد المعلم وتأهيله يحظى بأهمية واهتمام رسمي وآخر مجتمعي، فإن إعداد معلم اللغة العربية للمستقبل يحظى وينال مكانة مرموقة في الاهتمام لاسيما في الوطن العربي، والدول الأجنبية التي تهتم بتعلم اللغة العربية وتنشئ معاهد ومراكز متخصصة لتعليمها؛ ليس لكونه معلما فحسب، بل معلما للغة القرآن الذي يعد إتقان حفظه وتلاوته ومعرفة ألفاظه ومعانيه ودلالاته البليغة مُدخلا ضروريا لتعلم كافة العلوم المكتوبة باللغة العربية، مما يفرض عليه ـ المعلم ـ أدوارا ومسئوليات أخرى إلى جانب مهامه الأساسية، فهو مطالب بأداء مهام لغوية تتناسب والعصر الراهن، ومهام استشرافية تتزامن مع تحديات ومتطلبات المستقبل المتجددة.

ولقد أصبح تمكن معلم اللغة العربية للمستقبل من مهارات الأداء التدريسي ضرورة ملحة إذا ما رغب المعلم ـ نفسه ـ في تحقيق الفاعلية من تدريسه، وهذا ما أكدته نتائج دراسات تربوية عديدة من أن تنمية مهارات الأداء التدريسي لمعلم اللغة العربية بخاصة ركنًا أساسيا في جوانب إعداده علميا وعمليا في ظل تحديات متسارعة تواجه ملامح العملية التعليمية، فالمستجدات التعليمية المعاصرة جعلت عملية تأهيل المعلم وإكسابه مهارات تدريسية لازمة ومناسبة يتعاظم دورها وأهميتها لتحقيق التوازن بين الإعداد والمهنة سواء باكتساب المعرفة والفهم، أو بالتطبيق والتحليل، وأخيرًا بتأمل فعل الأداء التدريسي نفسه من أجل تجويده مستقبلا.

وبرز مفهوم الأداء التدريسي التأملي بصورة واضحة منذ مطلع القرن الواحد والعشرين نتيجة فرضية ممارسة المعلمين للتأمل تمكنهم من تحسين ممارساتهم التدريسية، وتمكنهم أيضا من توظيف المعارف والمعلومات والبيانات التي يرصدونها عن أدائهم التدريسي في الحكم عليه وتطويره للأفضل. فضلا عن أن المعلم الذي يفكر في أدائه التدريسي بطريقة تأملية يدرس التحديات التي تواجهه بالفعل والأخرى التي قد تعترض سبيله الصفي فيما بعد، ومن ثم التوصل إلى مداخل وطرائق مناسبة للتفاعل معها بإيجابية، فضلا عن تمكين المعلم من تحسين الأداء التدريسي وتعزيز الاتجاه الإيجابي نحو المهنة وتدعيم المشاعر الأكاديمية لدى تلاميذه.

ولقد ظهرت بوادر الاهتمام بالأداء التأملي للتدريس نتيجة المستويات المتدنية في أداء المعلمين وفكرة البحث عن استراتيجيات تسهم في استمرارية النمو المهني لديهم، والتي أبرزت ضرورة الاستغراق والاندماج في التقويم الذاتي للممارسات التدريسية باعتباره ـ التقويم الذاتي ـ مفتاحا للتنمية المهنية المستدامة لتطوير الوعي بالذات. وركزت التربية المعاصرة على التخلي عن فكرة التدريب الروتيني للطالب المعلم وتلقينه مجموعة من الأساليب التدريسية الجامدة، وتشجيعهم على التفكير التأملي الناقد فيما يقومون به من ممارسات تدريسية ليبتكروا ما يرونه مناسبًا من استراتيجيات تدريس ومواد تعليمية، وأصبحت الممارسة التأملية للأداء التدريسي من المداخل المثالية لإعداد المعلم؛ إذ تتطلب من المعلمين تطوير أنفسهم لأنهم يحللون ممارساتهم التدريسية ويقيمونها ذاتيا.

وتعد الممارسة التأملية للأداء التدريسي ذات أهمية كبيرة للمعلمين؛ لأنها تساعدهم في تحسين واقع أدائهم الصفي، حيث يستطيع المعلم من خلالها دمج المعرفة الحالية بالمعرفة السابقة وتعديلها للوصول إلى معرفة جديدة أكثر رسوخًا، كذلك لا يمكن الوصول إلى تحقيق أهداف التربية والتأكد من إيجابية نواتج التعلم لدى الطلاب إلا أن اكتساب كفايات التدريس في حد ذاتها غير كفيلة بتحقيق الأهداف التعليمية إلا إذا تمكن المعلم من مراقبة أدائه وتأمله سلوكياته الصفية المتعلقة باستخدامه لمهارات التخطيط والتنفيذ والتقويم.

وتعتبر الممارسة التأملية للتدريس التي يقوم بها الطالب المعلم عبر ملاحظته ومراجعته وتقييمه المستدام لممارساته التدريسية في أثناء تأهيله وتكوينه بمؤسسات إعداد المعلم للعمل على تحسين هذه الممارسات باستخدام آليات تنفيذية معاصرة أكثر أهمية وذات ضرورة، وهذا ما أكدته المعايير العالمية للمعلم (Indiana Department of Education , 2004) من خلال التنبيه على ضرورة الممارسة التأملية للمعلم كمؤشر من مؤشرات التنمية المهنية المستدامة، في حين أن وزارة التربية والتعليم المصرية ضمَّنت في معاييرها القومية للتعليم أهمية ممارسة المعلم للأداء التدريسي التأملي؛ حيث نص المؤشر الأول من مؤشرات معيار التنمية المهنية للمعلمين على أن " يتأمل ويقيم المعلم أفعاله وممارساته للارتقاء بأدائه .

ومما يعزز ضرورة الاهتمام بتنمية الأداء التدريسي التأملي لدى الطلاب المعلمين هو ما أشار إليه كثير من رواد التربية اللغوية المعاصرة حيث إن من أبرز مقتضيات التدريس المعاصر الجيد تغيير السلوكيات وتعديل الاتجاهات لدى المعلمين، ليس فقط من خلال تزويده بمعارف ومعلومات وحقائق عن طبيعة التدريس ونظرياته، بل من خلال تبصيره بالأساليب والطرائق التي تمكِّنه من تحقيق التنمية المهنية المستدامة عن طريق ملاحظة أدائه، ونقده لممارساته التدريسية ومعتقداته عنها، وبقدر أهمية امتلاك الطالب المعلم للمعرفة الدقيقة بمادة تخصصه الأكاديمي وما يتصل بها من معارف أخرى، وكفايات تتعلق بقدرته على التخطيط للدرس وتنفيذه وتقويمه، بقدر أهمية الممارسة التأملية للعناصر السابقة بالإضافة إلى تأمله لإدارته الصفية واتجاهاته نحو المتعلمين داخل الفصل.

ولقد تعددت الدراسات والبحوث التي تناولت متغير الأداء التدريسي التأملي وتنوعت بتنوع غرض التناول من حيث الكشف عن مدى توافر مهاراته لدى المعلمين، أو تقييم مستوى الأداء التأملي لديهم، أو من خلال إعداد برامج تدريسية وتدريبية لتنمية مهاراته، ويمكن تحديد أهمية ممارسة التأمل في الأداء التدريسي في النقاط الآتية:

1 ـ وضع الحلول المناسبة للتحسين المستمر في عمليتي التعليم والتعلم.

2 ـ زيادة الوعي بحاجات الطلاب والإمكانات التعليمية المتاحة.

3 ـ الانفتاح والاطلاع على الأفكار والأساليب التدريسية الجديدة.

4 ـ التنويع في استخدام أساليب التعليم والتعامل مع الطلاب داخل غرفة الفصل.

5 ـ الإحساس الكبير بالقدرة على تصريف الأمور داخل الفصل بكفاءة ومرونة.

6 ـ حث المعلم على التقييم الذاتي لأدائه بعد التطبيق العملي للنظريات المتعلقة بمفاهيم التعليم والتعلم.

وإذا كانت الممارسة التدريسية التأملية ممارسة تلازم المعلم الذي ينبغي أن يتحلى بسعة الأفق والإخلاص وتحمل المسئولية وتتيح له فرص التأمل بصورة منفردة أو من خلال المشاركة مع الأقران، فإن هذه الممارسة تتجلى بوضوح في تسجيل المعلم لملاحظاته ووصفه لأدائه الصفي كتابة؛ لأن الكتابة ومراجعتها تتيح له تعميق التجربة وربطها بخبرات سابقة وأخرى جديدة للوقوف على مستوى أدائه الراهن والمستقبلي مما يساعده على الاحتراف المهني، كما أن الكتابة تعد إحدى تطبيقات الأداء التدريسي التأملي كونها تجسد انطباعات المعلم حول أدائه الصفي ومعالجته للمشكلات وعرضه للتفاصيل التي تحدث في أثناء تفاعله مع الطلاب وتحليلها.

ويرى كثيرون أن إحدى أدوات الممارسة التأملية للتدريس الكتابة التفسيرية المتمثلة في المذكرات اليومية، والسجلات القصصية التي يعدها المعلم لتجاربه مع الطلاب داخل الفصل، وقوائم المراجعة التي تتضمن تفسيرا وتبريرا لأفعال المعلم وسلوكياته، وأخيرًا صحف التأمل التي تعكس مدى رؤية المعلم لمستقبله المهني المرتبط بمهارات التدريس الثلاث التخطيط والتنفيذ والتقويم. وأن ما يقوم به المعلم من كتابة سردية تفسيرية لواقعه التدريسي سينعكس على قراراته المستقبلية بشأن الفعل التدريسي وتغيير سياساته التعليمية مع طلابه على نحو إيجابي تدفعهم للتقدم في الدراسة والتعلم.

ويذكر (Pollard) أن من وسائل تنمية الأداء التدريسي التأملي للمعلم استخدام الكتابة المتمثلة في أكثر من صورة منها التقارير الذاتية Self Reports التي يعدها المعلم بعد الانتهاء من عملية التدريس، وتتضمن انطباعات وأفكار ورؤى المعلم حول مدى جودته في إعداد مخطط التدريس الصفي ومدى مناسبة المحتوى والأنشطة التعليمية التي تم تقديمها للطلاب، وكذلك إعطاء تفسيرات لما قام به من خلق بيئة صفية محفزة لهم، والمشكلات التي تعرض لها في أثناء إدارته للصف، كذلك يوميات المعلم Teacher Diary وهي المذكرات التي يقوم المعلم بكتابتها بشكل يومي عن عمليات التدريس ومواقفه التي مر بها خلال يومه المهني.

وتعد الكتابة التفسيرية من أكثر أنواع الكتابة انتشارا في حياتنا التعليمية المعاصرة تحديدا فيما يتصل بأداء المعلم حيث إنها تعطي له الفرصة في الوصف أو إعطاء معلومات تتعلق بالموقف التدريسي، ومن خلالها يسعى المعلم أن يقدم مجموعة من المعلومات والبيانات والمفاهيم التي تدور حول أدائه التدريسي متضمنة ـ الكتابة ـ رؤيته حول نظريات التدريس المستخدمة وتنبؤاته التدريسية واستنتاجاته، لذلك فهي عملية ذهنية معقدة تتكون من مجموعة من العمليات التي تحدث وتجري في وقت متزامن تستهدف وصف الأفكار والحقائق والأداءات الصفية سعيًا إلى تفسيرها وتحليلها.

ولأهمية الكتابة التفسيرية للمعلم بوصفها منتجًا تحليليا لأدائه التدريسي، فقد أكدت اللجنة الوطنية للكتابة The National Commission on Writing على أهمية إعادة التفكير في مهارات الكتابة المستخدمة والتأكيد على ضرورة طرح مبادرة " ثورة الكتابة في المدارس العامة والكليات " Writing Revolution in Public Schools and Colleges ، ومن ثم اقترحت إطارا لممارسة الكتابة التفسيرية بغرض إنتاج مقال وصفي يمتاز بالتماسك وتقديم أفكار محددة في ضوء الثوابت المنطقية، وهذا يقتضي من جميع المعلمين التدريب بوقت كافٍ على مهارات الكتابة التفسيرية، وتطوير تقنيات جديدة لتحسين آليات تدريس الكتابة وتقييمها. كما أشار المركز القومي للإحصاء التعليمي (NAEP) إلى أهمية زيادة الوقت المخصص لممارسة الكتابة التفسيرية في نطاق مواقف موجهة، وتوظيف الأفكار والحقائق والنظريات في بناء نصوص تفسيرية سردية.

وإذا استعرضنا الدراسات والبحوث التي استهدفت تنمية مهارات الكتابة التفسيرية، فإننا نستقرئ أن جميعها عَضَّد فكرة وعي المعلم بخصائص الكتابة التفسيرية وأهميتها في تجويد الأداء التدريسي وتحسين طبيعته، وأن التدريب عليها يمكِّن المعلمين من تقديم معلومات تفصيلية دقيقة حول ما يتعلمونه أو يؤدونه من مهام، مما يساعد على زيادة الفهم ودعم النظريات والأفكار حول طبيعة التدريس. وأن هذا النمط الكتابي يسهم في تقديم أدلة وشواهد داعمة لأداء المعلم التدريسي التي تعينه فيما بعد في المواقف الصفية على تحسين مستوى أدائه من ناحية، وإكساب المتعلمين المهارات والمعارف بصورة شيقة جذابة متميزة من ناحية أخرى؛ لأنه سيكون دائم المراقبة والتقييم المستدام لأدائه داخل الفصل.

ولقد اجتهد الباحثون في استنتاج مهارات الكتابة التفسيرية، وأسفر هذا الاجتهاد على تحديد مهارات رئيسة للكتابة التفسيرية تضمنت مهارات رئيسة كالأفكار المتمثلة في كتابة الفكرة الرئيسة والأفكار الفرعية، ومهارة التنظيم المتمثلة في نمط كتابة الفقرات والمقدمة المناسبة والخاتمة المنطقية للنص، ومهارة بناء النص التفسيري التي تتضمن مهارات فرعية مثل توظيف الأدلة والشواهد بما يدعم الموضوع، ومهارة الطلاقة التحريرية التي تشمل صياغة أنواع الجمل المختلفة والسيطرة على الموضوع عن طريق تعزيز المعاني باستخدام المترادفات والتضاد واختيار الكلمات الدالة، ومهارة المراجعة والتنقيح التي تراعي الصحة الإملائية والنحوية، وجودة التوظيف الصحيح لعلامات الترقيم .

ومع تزايد الاهتمام بقضايا التطوير المهني لأداء المعلم، ظهرت في الآونة الأخيرة توجهات ومداخل تدريسية وتدريبية أكثر فاعلية، تهدف إلى إكسابه المعارف والمعلومات والمهارات التي تتناسب مع متطلبات المشهد التعليمي الراهن واحتياجاته بكل متغيراته وضوابطه وتساعده على التخلص والقضاء من التحديات والمشكلات التدريسية، ومن هذه المداخل المعاصرة شديدة الصلة بالأداء التدريسي والكتابة التفسيرية مدخل التعلم القائم على السيناريو Scenario Based Learning. وفي ظل الجهود العالمية في تطوير برامج إعداد المعلمين بكليات التربية وبرامج التطوير المهني المدرسي، ظهر أنموذج التعلم القائم على السيناريو كتجربة تستند إلى مبادئ التطوير المهني القائم على النظرة الشاملة والمتكاملة لواقع الممارسات التدريسية من خلال التأمل في التدريس، وتطوير المعتقدات والكفايات التدريسية بناء على نتائج التحليل النقدي الذاتي وفق أطُر شاملة.

ومدخل التعلم القائم على السيناريو SBL مدخل دينامي غير خطي تحدث فيه عملية التعلم من خلال السياق الذي يتضمن الحصول على المعارف واكتساب المهارات، وهو مدخل يسمح للمشاركين باستنتاج المشكلات التي ربما تواجه الطالب المعلم في حياته المهنية المستقبلية داخل الفصل، وتجريب طرائق التعامل مع هذه المشكلات .

وظهر مفهوم التعلم القائم على السيناريو بسبب عدم الاقتناع بالنظرية السلوكية في التعليم الموجه فقط إلى تمارين الاستجابة للتحفيز والذي نجم عنه وجود انخفاض جودة مخرجات التعلم والتي اتسمت بعدم قدرة معظم المتعلمين على ربط ما تعلموه عن طريق التطبيق في حياتهم، وهذا الأنموذج يعتمد على النظرية البنيوية التي تؤكد على أن معرفة الفرد هي بناء له والمعرفة عي نتيجة لبناء المعرفة للعالم الحقيقي من خلال الأنشطة وهياكل المعلومات اللاز. لذلك جاء التعلم القائم على السيناريو كاستجابة سريعة لسد الفجوة بين النظرية والتطبيق؛ لأنه يعتمد على توفير مواقف تعليمية تجريبية تتضمن مشكلات العالم الحقيقي بشكل منظم، تسمح للمتعلمين بتطبيق وتوظيف معارفهم ومهاراتهم لحل المشكلات والتحديات التي تواجههم بشكل تعاوني وفي بيئة آمنة، مما يحقق التعلم النشط وإتقان المهارات ذات الصلة وتعميق تعلم الطلاب.

ولقد استخدم مصطلح السيناريو Scenario لأول مرة من قِبَل الروائي وكاتب النصوص السينمائية Leo Rosten عندما وجد مجموعة من الفيزيائيين تفتش عن اسم يصف البدائل للكيفية التي يمكن أن تتصرف بها الأقمار الصناعية، وكلمة سيناريو Scenario كلمة مترجمة من الإيطالية تعني وسيلة للتخطيط الاستراتيجي الذي يستخدمه الفرد أو المجموعة لإعطاء مرونة لخطط طويلة الأمد، وتعني التكيف والتعميم للأساليب التقليدية بربطها بالحاضر والمستقبل.

ويرى الدكتور حسن شحاتة (201٦) أن السيناريو عملية إدراك للمشكلات والقدرة على صياغة فرضيات جديدة والتوصل إلى ارتباطات جديدة باستخدام المعلومات المتوفرة، والبحث عن حلول وتعديل الفرضيات وإعادة صياغتها عند اللزوم ورسم البدائل المقترحة، ثم تقديم النتائج في آخر الآمر. وتتطلب هذه العملية التساؤل والبحث عن الغموض، والتقصي والخيال لتجسيد التفكير في صورة ذهنية أو رسوم أو أفكار، حيث " تتم ملاحظة الماضي واسترجاع آثاره لدراسة الحاضر، واتخاذ ذلك نقطة بدء لدراسة المستقبل ".

ويعتمد التعلم القائم على السيناريو على الفلسفة البنائية التي تؤكد أهمية ميول المتعلمين وخبراتهم السابقة، وعلى أن المتعلم هو محور الموقف التعليمي والتدريبي، وأن عملية التعلم تحدث عندما يقوم المتعلم ببناء معرفته بنفسه، فالتعلم يقوم على ما يصنعه الطالب من روابط بين ما اكتسبه من معارف ومعلومات، وتطبيقاتها الحياتية، ويذكر (Ultay) أنه عند ربط المعرفة الجديدة بالمعرفة السابقة للمتعلم وربط المعرفة بسياقات الحياة اليومية يصبح التعلم ذا معنى ويكتسب المتعلمون المعرفة من خلال الاكتشافات والاستنتاجات من خلال عملية الربط.

وتتمثل فوائد استخدام أنموذج التعلم القائم على السيناريو في قدرته على تحقيق جملة من النتائج الإيجابية بالنسبة للطالب المعلم منها تفعيل المنحى التكاملي من خلال الربط بين المعارف والنظريات والحقائق والسياقات الواقعية، ودعم عملية اتخاذ القرار الاستراتيجي للأداء في المستقبل واستكشاف النتائج والآثار المحتملة والسياسات التدريسية المستقبلية ، وترقية مهارة المتعلمين على تطوير المهارات والكفايات الاتصالية وممارستها بصورة وظيفية، وتشجيع المعلمين على التطوير المهني الشخصي والأكاديمي والاندماج في بيئة التعلم، وأخيرًا خلق بيئة تعليمية تفاعلية وتعاونية يعمل فيها الطلاب في وضع واقعي تتيح لهم إدارة الوقت بشكل جيد مع زيادة فرص التغذية الراجعة لهم.

ولقد أبرزت نتائج الدراسات والبحوث السابقة التي تناولت واستهدفت استخدام وتوظيف أنموذج التعلم القائم على السيناريو النتائج الإيجابية التي ارتبطت بالاستخدام في تنمية الأداء التدريسي وكفايات التدريس اللازمة، والتحصيل، وتحسين الكفاءة اللغوية، وتنمية مهارات اللغة والتفكير وحل المشكلات، حيث أبرزت فاعلية استخدام التعلم القائم على السيناريو في رفع الاستعداد الوظيفي للطالب المعلم، وتحسين الكفاءة الذاتية، وزيادة وعي متعلمي اللغة واستخدامهم لاستراتيجيات تعلمهم بكفاءة، والمساهمة في الاستدعاء السريع للمعلومات وذلك من خلال التطبيقات المتعددة للتعلم القائم على السيناريو والتي حددها الباحثون في التعلم القائم على الحالة، والتعلم القائم على السياق، والتعلم القائم على المشكلة، والسيناريوهات القائمة على المهارات، والسيناريوهات التخمينية.

ويمكن عرض هذه التطبيقات كالآتي:

1 ـ التعلم القائم على المشكلة Problem Based Learning: يتم في هذا التطبيق من التعلم توجيه المتعلمين إلى اكتساب المعرفة اللازمة لحل المشكلة، وقد تكون المعرفة الجديدة المكتسبة خلال حل المشكلة أكثر أهمية من المشكلة ذاتها، وهذا النمط يعد فرصة حقيقية مباشرة لاكتساب مهارات التفكير التأملي من خلال البحث عن المعلومات والبدائل والتحقق من الاحتمالات وتقييم النتائج.

2 ـ التعلم القائم على المشروع Project Based Learning: يركز هذا النمط من التعلم على تقديم منتج نهائي، ويتم فيه التركيز على تطبيق واستيعاب المعرفة المكتسبة سابقا.

3 ـ التعلم القائم على الحالة Case Based Learning: يتم في هذا النوع من التعلم تقديم حالات متعددة مرتبطة بموضوع الدرس إلى المتعلمين والتدريب عليها والتعامل معها عن قرب.

4 ـ التعلم القائم على السياق Context Based Learning : يتم في هذا النمط تقديم المعرفة للمتعلمين والتدريب عليها من واقع حياتهم التي يعايشونها وبخبرات حقيقية يمرون بها، والمعرفة التي يتم بناؤها في الوقت الحاضر هي نتاج التفاعل والترابط بين المعلومات والنشاط الفعلي والأدوات المستخدمة والسياق والأسس الثقافية.

5 ـ السيناريوهات القائمة على المهارات Skills Based Scenarios: تتطلب هذه السيناريوهات من المتعلمين إظهار معارفهم عمليا من خلال إنتاج أو تنفيذ مجموعة من الإجراءات والمهارات النوعية المرتبطة بتخصصاتهم الأكاديمية.

6 ـ السيناريوهات القائمة على التخمين Guessing based Scenarios: وفيها يسمح للمتعلمين بإبداء الرأي وتكوين الفرضيات حول مجموعة من الأحداث الماضية أو الحالية أو المستقبلية من المعلومات المعطاة والتي تم البحث عنها. ويطلق على هذا النمط سيناريوهات التوقع Predictive Scenarios بحيث إتاحة الفرصة للمتعلمين بالتنبؤ للإجابة عن تساؤل (ماذا سيحدث لو ؟).

ـ مشكلات تعليمية مستدامة:

وبالرغم من التأكيد على أهمية إعداد الطالب المعلم المتأمل الذي يخطط لأدائه التدريسي بصورة متميزة ترتكز على المعرفة السابقة والنظريات المعاصرة، ويراقب ويقيِّم أسلوبه في العمليات والإجراءات والخطوات التي يقوم بها لاتخاذ قرار صائب بشأن تحقيق أفضل بيئة ممكنة للتعلم بما يحقق النواتج التعليمية المرغوب فيها، إلا أن الواقع يفي بعدم وعي الطلاب المعلمين بمكانة وأهمية الأداء التدريسي التأملي ومهاراته، فضلا عن عدم وجود مقرر أو برنامج تدريبي بمرحلة الليسانس يستهدف تدريبهم بكليات التربية على التدريس التأملي.

فالطلاب المعلمون يتلقون خلال برامج إعدادهم بكليات التربية دراسة عدد من موضوعات ونظريات التدريس والتعلم، لكن المشكلة التي تواجه هؤلاء الطلاب (معلمي المستقبل) أن بعضا منهم لا يدرك الأهمية العملية لتعلم تلك الموضوعات والنظريات على النحو الصحيح؛ بحيث يستطيعون توظيفها لحل المشكلات التعليمية أو السلوكية التي قد تواجههم في الميدان العملي، ولم يمنحوا فرصا حقيقية لتطبيق أو ترجمة المحتوى النظري الأكاديمي لواقع عملي ملموس. وربما ترجع أسباب ضعف الطلاب المعلمين في امتلاك مهارات الأداء التدريسي التأملي وفق شكوى القائمين على تدريس مقررات طرق التدريس والتدريس المصغر لهم إلى عدم رسوخ مفاهيم الأداء التدريسي التأملي في أذهانهم، وعدم اتخاذهم قرار بشأن اعتماد مجموعة من الاستراتيجيات والإجراءات في تخطيطهم وتنفيذهم للدروس.

ولعل أكثر مظهر من مظاهر ضعف برامج إعداد معلم اللغة العربية بكليات التربية التباعد بين ما يدرسه الطالب في مدرجات الجامعة وما يمارسه بالفعل داخل جدران الفصول، وأشار إلى أنه يستلزم إيجاد هذه العلاقة أن نحدد على وجه الدقة ما ينبغي أن يكتسبه المعلم من مهارات تدريسية في ضوء ما يمارسه داخل الفصل، لذلك تعالت الصيحات في ميدان إعداد معلم اللغة العربية مطالبة بإعادة النظر في برامج هذا الإعداد.

وبرغم أهمية الأداء التدريسي التأملي وضرورة التدريب على مهاراته بالنسبة للطلاب المعلمين لاسيما طلاب شعبة اللغة العربية، إلا أن معظمهم يعتمدون على خبرتهم الشخصية التي تبدو محدودة بحكم سنوات الخبرة والتجارب الواقعية عندما تواجههم مشكلة تدريسية مع طلابهم في أثناء التدريب الميداني، وينأون بأنفسهم عن استشارة أقرانهم من الطلاب أو الأساتذة المتخصصين في طرائق التدريس، ويعتمد كل منهم على طريقته التي اعتاد عليها وألفها دون أن يخضع نفسه لعملية مستمرة من التقويم الذاتي والملاحظة المستدامة للمواقف التدريسية التي يمر بها.

ـ الأداء التدريسي التأملي:

يشير مفهوم الأداء التدريسي إلى أنه مُنجزٌ ناجِمٌ عن ترجمة المعرفة النظرية وتطبيقها إلى مهارات وعمليات وأداءات إجرائية وذلك من خلال الممارسة الإجرائية العملية والتطبيقية لنظريات التدريس، وتتحقق تلك الممارسات من خلال الخبرات الشاملة المكتسبة في مجال تخصص المتدرب، وتتم هذه الممارسة وفق ضوابط ومعايير إجرائية محددة يؤدي توافرها إلى تحقيق الجودة الشاملة في التنمية المهنية المستدامة.

وهذه السلوكيات التدريسية يمكن ملاحظتها وقياسها، ويتوقف مستوى الأداء التدريسي على الخلفية المعرفية والنظرية للمعلم، فضلا عن أن هذه الممارسات جزء أصيل من المكونات الرئيسة للمهارة، ومن ثم لا يمكن قياس المهارة إلا في ضوء هذه المؤشرات والممارسات الجزئية.

ويعد التدريس التأملي استجابة تربوية لمتطلبات معلمي المستقبل كما يوضح (Souto & Dice) من أن أهم مقتضيات التنمية المهنية والأكاديمية الاعتماد على الممارسات التأملية في أثناء التدريب على التدريس قبل الخدمة، والتي تؤدي بدورها إلى المساهمة في تغيير السلوك التدريسي والمواءمة بين النظرية والتطبيق. وهذا ما دفع (Boxley) للتأكيد على أهمية الممارسة التأملية للمعلم وضرورة تدريب معلمي قبل الخدمة عليها؛ حيث إنها تُكسب المسئولية وتحقق الالتزام الذاتي الذي يستهدف تطوير الشخصية التدريسية وتحسينها. لذلك تُمَثِّل الممارسة التأملية للتدريس فرصة يحصل من خلالها الطالب المعلم على تحليل أنشطته التعليمية لتحسين وتجويد أدائه التدريسي في المستقبل، وتمكينه من فهم تصرفاته الصفية التي تحقق ذاته المهنية، وتلك الممارسات بمؤشراتها الإجرائية تسهم في مساعدة الطالب المعلم في تبسيط أنشطة التدريس، وتعتبر الممارسة التأملية عجلة دفع رئيسة للتطوير المهني للتدريس.

ولقد تعددت التعريفات وتنوعت للأداء التدريسي التأملي حسب الاستخدام والتوظيف، فيعرفه (Paul) بأنه " الأعمال التي يقوم بها المعلم قبل وأثناء وبعد عملية التدريس، وتتمثل في عمليات التخطيط والتنفيذ والتقويم، وبدونها لا يستطيع المعلم أن يحقق أهداف الدروس بشكل فعال". ويعرف على أنه " سلوك المعلم أثناء مواقف التدريس سواء داخل الفصل أو خارجه وهو الترجمة الإجرائية لما يقوم به المعلم من أفعال، واستراتيجيات في التدريس أو في إدارته للفصل أو مساهمته في الأنشطة المدرسية أو غيرها من الأعمال أو الأفعال التي يمكن أن تسهم في تحقيق التقدم تحصيل التلاميذ".

ويرى (Brent) الأداء التدريسي التأملي " القدرة على التأمل والتفكير الناقد الإيجابي الذاتي والمستمر للممارسات والإجراءات التدريسية التي ينفذها المعلم؛ بهدف تحسين وتطوير هذه الممارسات والإجراءات".

ويُقصد بالأداء التدريسي التأملي أنه " ممارسات الاستفسار أو الاستبصار التي يقوم بها المعلم في أثناء تحركاته وأنشطته داخل الموقف التعليمي؛ لتحديد المسارات الخطأ على مستوى البنية المعرفية أو في الممارسات التدريسية ومعالجتها (Carey). ويعرفه (Goker) بأنه "قدرة المعلم على الانخراط في الممارسة التأملية للتدريس في دورة مستمرة من التخطيط والمراقبة والتقييم الذاتي من أجل فهم ممارساته وردود افعال التي تصدر منه أثناء عملية التدريس".

وفي ضوء استقراء التعريفات المتنوعة لمفهوم الأداء التدريسي التأملي، يمكن تحديد بعض الخصائص التي تميز المفهوم عن غيره من المفاهيم المتعلقة بعملية التدريس، منها ما يلي:

1 ـ مجموعة من الآليات والمناشط التي يتم استخدامها وتوظيفها بتتابع محدد وبتوجيه من المعلم لتأمل الموقف الصفي لبناء تصور ذهني صحيح حول المعرفة التدريسية.

2 ـ مجموعة من العمليات العقلية والممارسات الأدائية التي يقوم بها المعلم بغرض التفكير في هذه الممارسات وتأملها وتحليل استجاباته وتفاعلاته مع المتعلمين.

3 ـ ترجمة العمليات والاتجاهات والمعارف إلى سلسلة من الأفعال والإجراءات التطبيقية العملية.

4 ـ مجموعة من الأداءات التدريسية التي ترتكز على مراجعة الخبرات السابقة وتكون قابلة للملاحظة والقياس والتطبيق وفق معايير وضوابط محددة تعكس عملية التأمل التي يقوم بها المعلم.

5 ـ مجموعة من السلوكيات التدريسية المستندة إلى خلفية معرفية ومتطلبات قبلية مهارية ترتبط بعناصر الموقف التدريس التي تعد ضرورية وتعبر عن جودة أداء المعلم وكفاءته.

6 ـ الفحص الناقد للممارسات التدريسية من منظور شخصي (المعلم) ومن منظور الآخرين؛ حيث يتضمن تفكيرا دقيقا وواعيا للاختيارات التدريسية التي يقوم بها المعلم.

7 ـ وعي المعلم بمعتقداته وخبراته ورؤاه حول عملية التدريس والعوامل والدوافع التي تؤثر على أدائه داخل الفصل.

ـ مكونات الأداء التدريسي التأملي:

يتمثل الأداء التدريسي التأملي في ثلاثة مكونات رئيسة؛ المكون المعرفي، والمكون المهاري، والمكون النفسي. والمكون المعرفي يتمثل في محتوى المهارة أو المؤشر الذي يشتمل على مواصفات المهارة التدريسية، وكيفية أدائها النفسي والتربوي، ومدى مناسبتها للمتعلمين، ولأهداف المقرر الدراسي ومحتواه المعرفي، إلى جانب مواضع استخدامها في الموقف التدريسي نفسه. بينما يتمثل المكون المهاري في أسلوب المعلم لأداء مهارة التدريس وتنفيذ الأساليب المناسبة لها خلال الموقف التعليمي، والتي تتناسب مع أهداف المقرر الدراسي، وطبيعته، بما يساعد على تحقيق تلك الأهداف وتشجيع المتعلمين وتحفيزهم على التعلم. بينما يشير المكون النفسي إلى رغبة المعلم في تعلم المعرفة التدريسية المطلوبة والمرغوبة، وإحساسه بأهميتها في تطويره المهني، وفي أدائه الصفي، ومدى اقتناعه بضرورة اكتسابه لتلك المهارات بُغية نموه المهني المستدام.

ـ خصائص الأداء التدريسي التأملي الجيد:

يمتاز الأداء التدريسي التأملي الجيد بجُملةٍ من الخصائص التي يجب أن يكون الطالب المعلم على درجة من الوعي بطبيعتها وخصائصها، ويمكن تحديد بعض هذه الخصائص فيما يلي:

1 ـ العمومية: تمتاز مهارات النشاط والتفاعل داخل حجرة الصف الدراسية بالعمومية ومفاد ذلك أن وظائف المعلم ومهامه التدريسية تكاد تكون واحدة في معظم مراحل التعليم التي يقوم بالتدريس لها وربما في كل المواد الدراسية أيضا؛ لأن طبيعة التدريس متشابهة إلى قدر كبير.

2 ـ عدم الثبات: تبدو مهارات التدريس غير ثابتة بل تتأثر بعوامل التطور التي تدفعها إلى التحسين والتجويد، كذلك تطور المفاهيم التدريسية الخاصة بعمليتي التعليم والتعلم.

3 ـ التداخل: السلوك التدريسي التأملي الذي تعبر عنه المهارات والمؤشرات هو سلوك معقد ومركب وبالتالي من الصعب فصل بعض المهارات التي ترتبط بكل عنصر رئيس من عناصر التدريس عن غيره بسبب التداخل الحاصل بين هذه المهارات، لذا تم تقسيمها إلى مهارات رئيسة (التخطيط ـ التنفيذ ـ إدارة الصف ـ التقويم) ومهارات ومؤشرات فرعية.

4 ـ القابلية للتعلم: مهارات الأداء التدريسي التأملي قابلة للاكتساب والتعلم من خلال النمذجة وتعرف الخبرات السابقة والتدريب المباشر على استخدامها.

5 ـ الفحص الناقد: يتطلب الأداء التدريسي التأملي فحصا ناقدا مستمرا للممارسات التدريسية والإجراءات التي يقوم بها الطالب المعلم في أثناء تدريبه، وتعزيز خطوات التقدم نحو الأهداف التعليمية المرجوة في إطار مستوى معين قائم على الوعي بطبيعة المواقف التدريسية وخصائص المتعلمين.

6 ـ الدائرية: يعد الأداء التدريسي التأملي عملية دائرية مرنة يقوم فيها الطالب المعلم من خلالها بإعداد المخططات التدريسية ومراجعتها في ضوء فلسفة التدريس التأملي، وتنفيذ وتقييم عمليات التدريس ومهامه بشكل تأملي والممارسات التدريسية التي يقوم بها.

7 ـ الوعي المستدام: الممارسة التأملية للتدريس تفترض أن يعي الطالب المعلم ممارسته الحالية للتدريس والمعتقدات التي يقوم عليها، وأن يستبصر الممارسة الجديدة التي يقتضيها التدريس التأملي.

ـ مبادئ الأداء التدريسي التأملي:

1 ـ المعرفة السابقة لدى الطلاب المعلمين يمكن تعوق أو تعزز الأنشطة وعمليات التعلم، لذا يجب دعم الطلاب المعلمين في تأملها وفحصها ومن ثم تصحيحها وفق التصورات الذهنية الصحيحة.

2 ـ تنظيم الطالب المعلم للمعرفة وتحديد أنماط معالجتها بصورة إجرائية قابلة للقياس والملاحظة.

3 ـ بناء الدافعية لدى الطالب المعلم تحدد وتوجه استمراريته في اكتساب واستخدام مهارات الأداء التدريسي التأملي بكفاءة وفاعلية.

4 ـ تجزئة المهارات التدريسية التأملية إلى مهارات فرعية ومحاكاتها وتأملها من جانب الطالب المعلم نفسه ومن جانب أقرانه.

5 ـ التدريبات المتمركزة على الأهداف ونواتج التعلم المقصودة مصحوبة بالتغذية الراجعة تدعم جودة تعلم مهارات الأداء التدريسي التأملي وإتقانها.

هـ ـ مهارات الأداء التدريسي التأملي:

ثمة ملامح رئيسة تحدد مهارات الأداء التدريسي التأملي والتي تتمثل في مراعاة متغيرات التدريس الأساسية مثل الوعي بخصائص المتعلمين، والتمكن من المحتوى اللغوي المعرفي، وإدراك أهداف التعلم ونواتجه بعناية ودقة، كذلك الإحاطة المتميزة باستراتيجيات التدريس المناسبة والمعاصرة والتي يمكن توظيفها في التفاعل مع المتعلمين داخل حجرة الدراسة، فضلا عن مراعاة الطالب المعلم لمراحل التدريس الاستراتيجي التي تتضمن التهيئة للتعلم، وكيفية عرض وتقديم المحتوى ومدى مشاركة المتعلمين وطرائق التفاعل معهم، وصور الاندماج بين الطلاب وأنفسهم وصولا إلى تحقيق التعلم الاستقلالي لهم، وصولا إلى تقويم نتائج التعلم ومتابعتها من أجل التطوير والتحسين.

كما أن مهارات الأداء التدريسي التأملي التي يجب أن تتوافر في الطالب المعلم (تخصص اللغة العربية) ينبغي أن ترتبط ارتباطا وثيقا ببعض كفايات الأداء التدريسي الأساسية والتي تعد من المتطلبات القبلية للتعلم، والتي يمكن تحديدها في التمكن من استثارة دافعية المتعلمين، والقدرة على ربط بين المعارف النظرية والتطبيقية، والقدرة على استخدام أساليب التعزيز والتحفيز، واستخدام واختيار طرائق التدريس واستراتيجياته بما يتوافق مع الموقف الصفي، والقدرة على استخدام وتوظيف تكنولوجيا التعليم في التدريس.

ولقد تعددت الدراسات والبحوث السابقة التي اهتمت بتحديد أبرز مهارات الأداء التدريسي التأملي والتي ينبغي إكسابها للطالب المعلم والعمل على تنميتها، ومعظم هذه الدراسات أكدت أن المقصود بمهارات الأداء التدريسي التأملي المراد تنميتها لدى الطالب المعلم هو شكل من أشكال التعلم الذي يتطلب التأني في التخطيط للتدريس، وملاحظة مواقف التعلم قبل تنفيذها، مع الأخذ في الاعتبار بالخبرات السابقة للطالب المعلم وربطها بالخبرات والتجارب الراهنة والمستقبلية.

وباستقراء الدراسات والبحوث التي اهتمت بتنمية الأداء التدريسي التأملي، يمكن تحديد بعضها فيما يلي:

1 ـ التخطيط للتدريس:

ويقصد به أنه تصور مسبق لما سيقوم به المعلم من أساليب وأنشطة وإجراءات، واستخدام أدوات أو أجهزة أو وسائل تعليمية؛ من أجل تحقيق الأهداف التربوية المرغوبة ويضم مجموعة من المؤشرات والسلوكيات الأدائية منها ما يلي:

ـ التفكير مسبقا في خطوات عرض الدرس اليومي قبل الشروع في إعداد مخطط التدريس.

ـ إعداد خطة تفصيلية لتدريس المحتوى النظري (تتضمن عناصر تحضير الدرس).

ـ تقييم كل عنصر من عناصر خطة التدريس في ضوء معايير جودة هذه العناصر.

ـ مراجعة خطة الدرس عقب الانتهاء من إعدادها.

ـ مقارنة خطة الدرس مع مخططات بعض الطلاب المعلمين المتميزين.

ـ تقييم مدى جودة عناصر خطة الدرس بعد انتهاء إعدادها في ضوء ظروف التنفيذ الفعلي.

ـ تعرف مدى ملاءمة الوقت المخطط للتنفيذ مع وقت التنفيذ الفعلي.

ـ تدقيق النظر في تحديد احتياجات المتعلمين الفعلية.

ـ التفكير في كافة الاحتمالات الممكنة قبل إصدار أي حكم أو قرار يتعلق بالممارسات التدريسية.

ـ التفكير في وضع حلول مقترحة مسبقا للمشكلات المتوقع حدوثها في الموقف التدريسي.

ـ تحديد الإجراءات التدريسية التصحيحية الممكن اتخاذها في ضوء نتائج مراجعة وتحليل وتقييم الممارسات التدريسية السابقة.

ـ تأمل مدى مناسبة وملاءمة استراتيجيات التدريس المختارة لتحقيق نواتج التعلم المستهدفة.

ـ يصمم أنشطة تعليمية تناسب الفروق الفردية وانماط التعلم بين المتعلمين.

2 ـ التنفيذ:

ـ توظيف أسلوب التهيئة بما يساعد في وضع تصورات المتعلمين وأفكارهم موضع المساءلة.

ـ عرض محتوى الدرس في شكل مشكلات وقضايا تتطلب التأمل لتفسير النتائج في ضوء الأسباب.

ـ مراقبة مدى التقدم نحو تحقيق نواتج التعلم المستهدفة.

ـ تعرف تصورات المتعلمين حول المشكلات والقضايا المطروحة أثناء عرض الدرس.

ـ تعرف خبرات المتعلمين المختلفة للبناء عليها وتوفير فرص تعليم ذي معنى.

ـ مراقبة مدى النجاح في افتتاح الدرس وجذب انتباه المتعلمين نحوه.

ـ مراجعة جدوى استخدام الوسائل التعليمية التي تم استخدامها.

ـ تعرف مدى ملاءمة أنشطة الدرس للمتعلمين في ظروف التنفيذ الفعلي.

ـ غلق الدرس بربط عناصره وأنشطته وأساليب التقويم المستخدمة لنواتج التعلم المستهدفة.

ـ توظيف التغذية الراجعة في اتخاذ القرار المناسب بشن عمليات التعلم.

3 ـ إدارة الصف والمتابعة:

يقصد بها مجموعة من الأنشطة التي يقوم بها المدرس داخل الصف لتنمية السلوكيات المرغوب فيها، وحذف السلوكيات غير المرغوبة لدى التلاميذ وتكوين علاقات إنسانية صحيحة معهم وفيما بينهم؛ بهدف تحقيق جو اجتماعي إيجابي فعال ومنتج، وتضم مجموعة من المؤشرات والسلوكيات الأدائية منها ما يلي:

ـ تعرف مدى مناسبة تنظيم الفصل لاستراتيجيات وأهداف التدريس.

ـ يستخدم أساليب إدارة الصف التي تشجع التحكم الذاتي وتدعم المسئولية لدى المتعلمين.

ـ تجنب إصدار الأحكام على أداء المتعلمين قبل مراجعتها وتحليلها.

ـ توجيه الطلاب إلى البحث عن مسببات الأشياء والظواهر المدروسة.

ـ مراقبة جدوة التواصل مع المتعلمين في أثناء التدريس.

ـ مراعاة الفروق الفردية وأنماط التعلم المختلفة بين المتعلمين داخل الفصل.

4 ـ التقويم ومتابعة نتائج التعلم:

ويقصد بالتقويم أنه العملية التي ترمي إلى معرفة النجاح أو الفشل في تحقيق الأهداف العامة التي يتضمنها المنهج، وتحديد نقاط القوة والضعف به، حتى يمكن تحقيق المنشودة بأحسن صورة. ويضم مجموعة من المؤشرات والسلوكيات الأدائية منها ما يلي:

ـ تحديد مواطن القوة والممارسات التدريسية في ضوء نواتج التعلم المستهدفة.

ـ تصنيف مواطن القوة في الممارسات التدريسية وفقا لمهارات التدريس الرئيسة.

ـ تحديد مواطن الضعف في الممارسات التدريسية في ضوء نواتج التعلم.

ـ تقييم مدى تطور الأداء التدريسي من خلال عقد المقارنات بين الممارسات التدريسية التي تم تنفيذها.

ـ تحديد مدى الاتساق بين التصورات عن التدريس وبين الممارسات التدريسية الفعلية.

ـ تحديد مدى الاتساق بين التصورات عن التدريس وبين الإجراءات التصحيحية الممكن اتخاذها.

و ـ قياس الأداء التدريسي التأملي وتقويمه:

لا يمكن اعتبار عملية تقويم أداء الطالب المعلم مسألة بسيطة، بل هي بالفعل عملية شاقة كونها لا تقتصر على جمع البيانات والمعلومات والشواهد الخاصة بأدائه فحسب، بل تشمل عملية تقويم المعلم تحليلا عميقا ووصفا شاملا لهذا الأداء في ضوء معايير محددة سلفًا، وهذه العملية تتضمن ثلاثة أبعاد رئيسة؛ الأول تحديد مستويات الأداء التي يجب أن يحققها المعلم عند التنفيذ لدرسه، والثاني تجميع المعلومات حول أدائه الفعلي، بينما يشير المكون الثالث إلى تحليل النتائج التي أسفر عنها الأداء الفعلي له. ولقد رصد بعض التربويين المعاصريين في طرائق تقويم المعلّم وأساليبه، يمكن عرضها فيما يلي:

1 ـ مقابلة المعلم: يستخدم هذا الأسلوب عادة للمعلمين حديثي الخبرة التدريسية،، وتبعًا لهذا الأسلوب يوجِّه المقوِّم عددًا من الأسئلة المتنوّعة للمعلِّم، ثم يحلِّل إجابته عنها، ويعتبر أسلوب مقابلة المعلم غير دقيق في تجميع المعلومات الكافية حول أداء المعلم؛ حيث إنه يعتمد بصورة كبيرة على مهارات وكفايات الخبير الذي يُعهد إليه بالمقابلة، فإذا قام أكثر من خبير تقويم بإجراء مقابلة مع نفس المعلِّم، فإن كلّ واحد منهم يخرج بانطباعات تبدو غير ثابتة ومختلفة تمامًا عن المعلِّم، وهذا التبايُن ينشأ بسبب اختلاف الأسئلة التي توجّه إليه، واختلاف الاهتمامات التي يتبعها كلّ واحد منهم، ويؤكِّد عليها، فضلا عن تنوع خبراتهم وتباينها، وربما وجود حالة من التباين في التقويم أيضا قد ينشأ نتيجة الاختلافات في تفسر الاستجابات وتقيِّمها تلك التي تصدر عن المعلم.

2 ـ اختبار كفاءة المعلم: وفي هذا الأسلوب يجيب المعلِّم عن أسئلة اختبار يقيس كفاءاته الذاتيَّة التي تتضمن الكفاءة الأكاديميَّة، والكفاءة التدريسية، والكفاءة الاجتماعيَّة.

3 ـ الملاحظة الصفيَّة: تُعَدُّ الملاحظة الصفيَّة أكثر أساليب تقويم الأداء التدريسي للمعلِّم شيوعًا، وتشير نتائجُ الدراسات والبحوث التي أُجريت في مجال تقويم أداء المعلم إلى أنَّ الملاحظة المنظَّمة التي تُستخدم فيها بطاقات الملاحَظة المقننة تُعَدّ من أكثر أدوات القياس موضوعيَّة لتقويم الأداء التدريسي للمعلِّم؛ كونها تتيح ملاحظة سلوك المعلم وأدائه مباشرة داخل حجرة الدراسة، مما يسهم في معرفة الجوانب الإيجابيَّة والسلبيةَّ في أدائه، وهذا قد يسُاعِد على تطوير برامج إعداده، وتدريبه. ويوجد نظامان يمكن استخدامها في بناء بطاقات ملاحظة وقياس أداء الطالب المعلم في أثناء التدريب على التدريس، وهما:

أ ـ نظام القوائم سابقة الإعداد: ويُستخدم هذا النظام في ملاحظة أداء المعلِّم في أثناء التدريس عن طريق تحديد أنماط السلوك التدريسيّ مُسبَقًا، أي قبل بَدْء عمليَّة الملاحظة في ضوء تصوُّر الأداء، ثم رصد ما يحدث منها داخل حجرة المدرسة، بحيث تُحدَّد وتُصاغ هذه الأنماط في شكل عبارات سلوكيةَّ تتضمَّن الأفعال التي تصدر عن المعلم في أثناء التدريس، ولذلك تصُمَّم بطاقات خاصة تحتوي على عبارات تصف السلوك المتوقَّع من المعلِّم في أثناء عملية التدريس.

ب ـ نظام التصفيات أو المجموعات: يُستخدم هذا النظام في بناء بطاقات ملاحظة أداء المعلِّم في أثناء التدريس، ففيه يُرصَد تكرار الأداء الذي يصدر عن المعلِّم والطالب في أثناء التدريس، ويعتمد في ذلك على بطاقات خاصَّة يصُنَّف فيها أداء المعلِّم والطلبة إلى أنماط نوعيَّة، بالإضافة إلى رصد السلوك المشرك، ويهدف هذا النظام إلى تحديد نمط الأداء الذي يتميَّز به المعلِّم في التدريس حتى يسهل تعرف إيجابياته وسلبياته قياسًا على معاير محدَّدة.

ج ـ نقد الزملاء: في هذا الأسلوب يقوم الزملاء من المعلمين بملاحظة أداء بعضهم البعض من حيث فحص خطة الدرس، ومتابعة المهارات التدريسيةَّ في أثناء الحصة، وأساليب المعلِّم التدريسيةَّ.

د ـ التقويم الذاتيّ: يُعَدّ هذا الأسلوب أحد أهم المصادر لجمع المعلومات عن أداء المعلِّم، حيث إن المعلم يكون على وعي بآماله وتطلُّعاته واهتماماته وإنجازاته والأمور المتعلِّقة به أكثر من وعي الآخَرين بها، ويتطلَّب التقويم الذاتيّ محاسبة النفس، واكتشاف الأخطاء، وتقدير العواقب والنتائج، والتخطيط لعمل أفضل، كما يتطلَّب هذا الأسلوب من التقويم أيضًا نضجًا عقليًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا.

هـ ـ تحصيل الطلاب: وفيه تُستخدم نتائج اختبارات الطلاب التحصيلية، وهي تلك الاختبارات التي تقيس ما حصّله كل طالب في فترة زمنيَّة معيَّنة كدليلٍ على سلوك المعلِّم التدريسي؛ ما يُساعِد على تقويم أدائه، ويتم ذلك في ضوء ترتيب الطلاب أو الفصول الدراسيَّة طبقًا لمعايير معيَّنة.

ويعتبر مدخل التعلم القائم على السيناريو شكلا من أشكال التعلم الخبراتي Experimental Learning الذي يعتمد على وضع المتعلم في موقف تعليمي حقيقي يؤثر على قراراته المهنية، حتى يتمكن من اكتساب المعرفة اللازمة والمهارات التدريسية كما هو الحال في المواقف الصفية داخل حجرة الدراسة.

ولقد ارتبط مصطلح السيناريو بداية بالعمل الفني بشكل عام سواء كان للسينما أو المسرح، وهو في مفهومه العام الفني يمثل الحبكة الدرامية للقصة أو الرواية بتسلسل أحداثها والتصرفات المصاحبة لكل حدث، والمشاهد التي تبرز الحدث أو المفهوم أو الدرس المطلوب توصيله إلى الجمهور. ولقد ظهر المفهوم في صورته التعليمية في أواخر الثمانينيات على يد Roger Schank أحد خبراء الذكاء الاصطناعي وهندسة المناهج النفسية وبناء بيئات التعلم، وقام بتأسيس شركة متخصصة Socratic Arts قامت بتصميم وتنفيذ مبادئ التعلم القائم على السيناريو والتعلم بالممارسة في بعض المدارس والجامعات التعلم بالممارسة، والسماح للمتعلمين والمعلمين بارتكاب الأخطاء في بيئة تعليمية آمنة مع تصويبهم، وقامت الشركة بالعديد من عمليات المحاكاة للمعلمين مدعومة بالقصص والسيناريوهات التنبؤية التي قد تحدث داخل الفصول.

كما يعني التعلم القائم على السيناريو أنه عرض حالة تمثل نموذجا حقيقيا ويقوم الطالب ومجموعة الفصل بدراستها بعمق وتحليلها من خلال المناقشات وجمع المعلومات عنها، وتأمل التفاصيل ودراستها؛ للحكم عليها واتخاذ القرار بشأنها.وهو يعني خطة لمجموعة من الأحداث والتصرفات المتوقعة أو التي يمكن التنبؤ بها، وهو تسلسل لأحداث المستقبل الذي يتضمن عرضا لأحداث الماضي والحاضر.

والسيناريوهات المستقبلية كمدخل تعليمي يعد عملية توليد الكثير من الأفكار وإثارة التساؤلات حول ما تم رصده وتجميعه من حقائق ومعلومات وخبرات سابقة، واستخدام التأمل والعصف الذهني وإمطار الدماغ بهدف وضع تصور مبدئي عما سيحدث في المستقبل.

ويعد استخدام مدخل التعلم القائم على السيناريو أكثر مناسبة للطلاب المعلمين الذين تتوافر لديهم بعض الخبرة السابقة والمتطلبات القبلية بالموضوعات والمفاهيم والمهارات المطروحة أمامهم بغرض الاكتساب والاستخدام، وهو يختلف عن التعلم التقليدي ليس فقط كونه يعتمد على الأنشطة التعليمية فحسب؛ بل لأنه يهتم بتدريس الموضوعات غير الروتينية التي تتطلب من المتعلمين البحث والتجريب ومراجعة المعتقدات الذهنية المرتبطة بعملية التدريس نفسها في سياقات حقيقية، وعملية المراجعة هذه تتيح لهم إنتاج تصورات جديدة وأفكار قابلة للتطبيق تساعدهم في على المشكلات التي تعترض عملهم المستقبلي.

كما أن التعلم القائم على السيناريو يتيح للطالب المعلم الخبرة الواقعية الاستكشافية من خلال خوضه لتجارب ومواقف وسياقات تعليمية مقصودة وموجهة ومخططة تماما مثلما يتعرض لها في الواقع الصفي ويقوم بتحليلها وجمع الحقائق والمعلومات والبيانات بشأنها، ومن خلال عمليات الجمع والتحليل والربط بينها وبين خبراته السابقة يمكنه اتخاذ قرار تدريسي سليم وصياغته بصورة دقيقة.

مبادئ التعلم القائم على السيناريو:

يستند مدخل التعلم القائم على السيناريو على مجموعة من المبادئ والفرضيات التي تعزز مستوى ممارسته لتحقيق الأهداف التعليمية ونواتج التعلم المقصودة، وهذه المبادئ ـ جميعها ـ تعتمد على النظرية البنائية التي تؤكد على أن معرفة المتعلم هي بناء له وتتكون من خلال المخططات الذهنية وهياكل المعرفة والممارسات التجريبية لبناء عالم حقيقي موازٍ.

ويمكن تحديد مبادئ استخدام مدخل التعلم القائم على السيناريو في تنمية مهارات الأداء التدريسي التأملي فيما يلي:

أ ـ فحص المتغيرات المحتملة في البيئة الطبيعية والمتغيرات الاجتماعية، مع تحليل الوضع التنافسي و إعطاء نتائج محتملة لكل سيناريو.

ب ـ التنبؤ بسلوك المتعلمين داخل الفصل تحت كل سيناريو وتوظيفهم وتحديد أدوارهم من خلال سيناريو تفصيلي، واختيار السيناريو الذي يحقق أفضل النتائج والتوقعات بصورة سهلة وسريعة.

جـ ـ منح الطلاب المعلمين فرصا لممارسة عمليات العلم ومهاراته مثل الربط والتصنيف والمقارنة من خلال مواقف حقيقية وأنشطة تعاونية.

د ـ مساعدة الطلاب المعلمين على وضع مجموعة من الفرضيات والاحتمالات التي تعزز تعلمهم، مع توفير الخيارات والبدائل لمساعدتهم على اتخاذ قرار سليم.

هـ ـ المشاركة الديموقراطية بين الطلاب المعلمين لمناقشة القضايا الجدلية والموضوعات المتضمنة بالسيناريو؛ بهدف الوصول إلى رؤى متوافقة وقرارات جماعية سديدة.

الفعلي.

وتحدد بويل و روثستين أدوار الطالب المعلم في أثناء اكتساب مهارات التدريس التأملي باستخدام التعلم القائم على السيناريو في الأدوار الآتية:

أ ـ تلخيص الحالة: وهو خطوة ضرورية لكي لا تنحرف المناقشة عن المسار بالاتجاه نحو الجدال وترك الأسئلة الواقعية.

ب ـ تعريف المشكلة: لابد من الاتفاق حول ماهية المشكلة والاتفاق على المعضلات الأساسية قبل التعمق فيها بشكل أكبر.

ج ـ تعرف الحلول الممكنة: ويتم هذا من خلال استخدام المعلومات والأفكار المستمدة من المقرر عبر العصف الذهني.

د ـ تقييم الحلول المقترحة: من خلال وضع قائمة بالمزايا والمساوئ أو بالنتائج الإيجابية والسلبية، ثم صياغة قرارات أو الوصول إلى حلول قد تكون الأفضل عند الممارسة الحقيقية داخل حجرات الدراسة.

ـ خطوات استخدام التعلم القائم على السيناريو:

تعددت النماذج التدريسية التي استهدفت استخدام التعلم القائم على السيناريو وتنوعت بتنوع الأهداف المرتبطة بالاستخدام مثل نموذج Schank(1989)، ونموذج Chermmack (2003)، ونموذج Keough&Shanahan(2008)، ونموذج Chermack (2012)، ونموذج Kuhn&Muller (2014) وهذه النماذج الرائدة تبين كيف يستطيع التعلم بالسيناريو مساعدة الطلاب في بناء مجموعة من التصورات المتسقة والتي يمكن في ضوئها اتخاذ قرار بشأن الأداء التدريسي في المستقبل؛ لغرض تغيير التفكير وتحسين صنع القرار، إلا أن مجمل هذه النماذج اتفقت على خطوط عريضة وإجراءات متماثلة ومتشابهة سواء في التخطيط للاستخدام أو عند تنفيذها، وباستقراء هذه النماذج يمكن تحديد أبرز خطوات وإجراءات استخدام مدخل التعلم القائم على السيناريو في الخطوات الآتية:

أ ـ تحديد النطاق: ويعني التساؤل الذاتي للطالب المعلم من خلال طرحه مجموعة من الأسئلة المرتبطة بالأداء التدريسي مثل: ما المشكلة التدريسية التي ينبغي عليَّ مواجهتها وحلها؟، وماذا أريد أن أعرفه عن مستقبلي المهني؟، والتنبؤ بالتحديات المتوقعة، وهذا يشترط الاتفاق حول المشكلة التدريسية التي يتضمنها السيناريو، كذلك الاتفاق على المعضلات الأساسية قبل التعمق فيها بشكل أكبر. ويشمل تحديد النطاق كإجراء رئيس في التعلم بالسيناريو قرارات المعلم بشأن احتياجات المتعلمين، والأنسب من الأهداف والغايات، كذلك المحتوى الذي سيتم تدريسه.

ب ـ تحليل الاتجاهات: وفي هذا الإجراء يتم رصد وتحليل الاتجاهات المختلفة للمتعلمين واستنتاج مشكلاتهم التي قد تعوق مشاركتهم الصفية، مع استنتاج القيم الصفية السائدة في البيئة التعليمية، ومسح البيئة الصفية الراهنة،وتحليل المعلومات الأساسية المتاحة، والقيام بالعصف الذهني وتوليد أكبر قدر ممكن من الأفكار التي تتعلق برؤى المستقبل، كما يتم في هذه المرحلة توصيف المسارات المستقبلية لخصائص مشكلة تدريسية معينة، ووصف هذه المسارات التي يمكن أن تؤدي إلى وضع تدريسي مستقبلي.

ج ـ صوغ السيناريوهات: ويتضمن هذا الإجراء إعداد قصص سردية عن المستقبل المهني للطلاب المعلمين، والخطوط العريضة لعدة مسارات محتملة تستخدم لتحدي الافتراضات الأساسية لصانعي القرار. ويراعي عند إعداد السيناريوهات الموجهة الاهتمام بالنماذج الذهنية المسبقة للطلاب المعلمين والتي تكونت من خلال خبراتهم السابقة ضمن برنامج الإعداد والتأهيل بكلية التربية في السنتين السابقتين؛ من أجل أن يتأمل الطلاب المعلمون معتقداتهم التدريسية السابقة وبناء معرفة تدريسية جديدة في ضوئها أو تعديلها أو تغييرها من أجل تحسين الأداء التدريسي التأملي.

د ـ تحديد الخيارات: ويتم ذلك من خلال إنشاء خيارات لكل من السيناريوهات التي تم تحديدها، واقتراح تطبيقات التكنولوجيا الممكنة والمتاحة التي يمكن توظيفها في أثناء الاستخدام، وفي هذا الإجراء يتم تحديد الخيارات المتاحة للمشاركين الرئيسين في السيناريو. والمعلم في هذا الإجراء يقوم بتوفير البدائل ويحدد إذا ما كان تخطيط السيناريو قابلا للتطبيق أو مجديا ومدى مناسبته للمتعلمين من أجل انخراطهم فيه.

هـ ـ خيارات الاختبار: ويقصد بها قيام الطلاب بتحديد ومناقشة الآثار المحتملة والنتائج المتوقعة من السيناريو التعليمي، وفي هذا الإجراء يُطلب من المتعلمين استنساخ المعرفة الواقعية البسيطة. ويشمل هذا الإجراء تحديد السيناريوهات التي يمكنها تحقيق أهداف التعلم (تنمية الأداء التدريسي التأملي والكتابة التفسيرية) ومنها: سيناريو قائم على المهارات / سيناريو قائم على حل المشكلة / سيناريو قائم على القضايا التعليمية / سيناريو قائم على التخمين / سيناريو قائم على الألعاب.

وـ ـ خطة العمل: وفيها يتم تحديد الخطوات اللازمة التي ينبغي القيام بها لنجاح السيناريو، كذلك يتضمن هذا الإجراء تحليل الحالة ودراستها بعناية عن طريق المناقشة الجماعية الموجهة في ضوء المعلومات والبيانات المتوافرة. ويعتبر تحسين الأداء هو النتيجة الأولية لنظام التخطيط

ز ـ إدماج الإبداع: ويقصد به تطبيق عمليات التفكير الإبداعي في عملية السيناريو، وخلق سيناريوهات تستدعي مشاركة المتعلمين بإيجابية باستخدام مزيج من تقنيات القصص والصور.

ح ـ العصف الذهني: وهو يختلف عن ما تم في مرحلة تحليل الاتجاهات؛ حيث إن المتعلمين يقومون بتطوير أفكار السيناريو التعليمي نفسه وتحسينه من خلال استخدام الكتابة. ومن خلال العصف الذهني الذي يعتبر محرك الأداء يتم اكتساب المعرفة التدريسية والمهارة المطلوب استخدامها فيما بعد.

ط ـ تلخيص الحالة: في هذا الإجراء يقوم الطلاب بتلخيص خطوات سير التعلم كتابة؛ لكي لا تنحرف المناقشة عن المسار بالاتجاه نحو الجدال وترك الأسئلة التدريسية الواقعية.

ي ـ التقييم: يتضمن تحديد مستوى تعلم الطلاب أثناء وبعد مرحلة التنفيذ، ويشمل الاختبارات والتكليفات الكتابية والقيام بالمشروعات الصفية وإعداد التقارير. أما بالنسبة للطالب المعلم فهو يقوم بتقييم السيناريوهات وصياغة السياسات المستقبلية التي ترتبط بالأداء التدريسي.

لة وسريعة، كذلك منح الطلاب المعلمين فرصا لممارسة عمليات العلم ومهاراته مثل الربط والتصنيف والمقارنة من خلال مواقف حقيقية وأنشطة تعاونية، والعمل على مساعدة الطلاب المعلمين على وضع مجموعة من الفرضيات والاحتمالات التي تعزز تعلمهم، مع توفير الخيارات والبدائل لمساعدتهم على اتخاذ قرار سليم ـ فضلا عن توفير المشاركة الديموقراطية بين الطلاب المعلمين لمناقشة القضايا الجدلية والموضوعات المتضمنة بالسيناريو؛ بهدف الوصول إلى رؤى متوافقة وقرارات جماعية سديدة. وأيضا تحقيق فرص الانخراط النشط والاندماج التام المصحوب بالتأمل عند ممارسة مهارات التدريس؛ لإنتاج تصورات ذهنية جديدة تتعلق بالمشكلة أو الحالة التي يعرضها السيناريو التعليمي، وتضمين السيناريوهات أسئلة مثيرة للتفكير ومشكلات حقيقية مهمة تتصل بالواقع التدريسي الفعلي.

7 ـ تحديد تطبيقات التعلم القائم على السيناريو: قام الباحث بتحديد النماذج التي سيتم عرض السيناريوهات التعليمية في ضوئها من خلال فحص ودراسة أدبيات التربية الخاصة بالتعلم القائم على السيناريو، وكذلك الدراسات والبحوث التي استخدمت مدخل التعلم بالسيناريو، وتمثلت التطبيقات في النماذج الآتية: التعلم القائم على المشكلة ـ التعلم القائم على المشروع ـ التعلم القائم على الحالة ـ التعلم القائم على السياق السيناريوهات القائمة على المهارات، وحرص الباحث على تنوع أنماط التعلم القائم على السيناريو ضمانا لمراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين وتحقيق الإثارة والتنوع في الموقف التدريبي.

8 ـ الوسائل التعليمية المستخدمة في النموذج التدريسي: واشتملت على السبورة الإلكترونية التفاعلية، وبعض الفيديوهات التعليمية من شبكة الإنترنت الخاصة بالمهارات التدريسية التأملية، وبعض الصور التوضيحية.

9 ـ دليل المحاضر لاستخدام التعلم القائم على السيناريو: قام الباحث بإعداد دليل للمحاضر الذي يقوم بتدريس مقرر " طرق تدريس اللغة العربية 1" لطلاب الفرقة الثالثة بشعبة اللغة العربية، يتضمن خطوات إعداد السيناريو التعليمي المتضمن لنواتج التعلم المقصودة، والمحتوى المعرفي، والمشكلة التدريسية المتضمنة في السيناريو أو الموقف التدريبي، وأدوار المتعلم، ومجموعة من التوجيهات العامة لتحقيق أهداف استخدام النموذج التدريسي المقترح المتمثلة في خطوات تنفيذ التعلم القائم على السيناريو، ومصادر التعلم والوسائل التعليمية التي يمكن للمحاضر الإفادة منها، وكذلك التوصيف الدقيق لعملية سير السيناريو التعليمي وفق النموذج التدريسي والذي يشتمل على المكونات الأربعة (المنفذ ـ المعلومات الأساسية ـ الأهداف ـ الأحداث).

10 ـ خطوات التدريس باستخدام التعلم القائم على السيناريو: تمثلت خطوات النموذج التدريسي القائم على التعلم بالسيناريو في تدريس مقرر " طرق تدريس اللغة العربية 1" في الخطوات الآتية:

أ ـ مرحلة تعرف المتطلبات القبلية: وفيها يتعرف المحاضر الخبرات السابقة للطلاب المعلمين عن موضوع المحاضرة ومدى كفاياتهم التدريسية الأولية في تدريس مهارتي القراءة والكتابة، والوقوف على معتقداتهم الذهنية بشأن المعرفة اللغوية المرتبطة بمهارتي القراءة أو الكتابة، كذلك اتجاهاتهم نحو بعض الأداءات التدريسية.

ب ـ تحديد أهداف التعلم ونواتجه: يقوم المعلم بإعلام الطلاب المعلمين بأهداف موضوع اللقاء (المحاضرة) ويحفزهم لاستنتاج نواتج التعلم المقصودة والتي ينبغي تحقيقها عقب نهاية اللقاء.

ج ـ تقديم المعرفة: وفيها يقوم المحاضر بتقديم المعلومات الأساسية المرتبطة بالموضوع المقرر (تعريف القراءة ـ أهداف تدريس القراءة ـ مستويات القراءة) مستعينا في ذلك باستخدام الأسئلة السابرة والعصف الذهني.

ج ـ التوجيه والإرشاد: وفيها يقوم المحاضر بتوجيه وإرشاد الطلاب المعلمين إلى الأداءات التدريسية النموذجية التي ينبغي أن يقوموا بها في أثناء التدريب الميداني والمتعلقة بتدريس مهارتي القراءة والكتابة، ويمكن للمحاضر أن يطلب من الطلاب المعلمين بنمذجة ما قام به للتحقق من إلمامهم بالمعرفة النظرية للأداء التدريسي.

د ـ غلق المعرفة: يتم في هذه المرحلة غلق المعرفة المرتبطة بالموضوع من خلال تكليف الطلاب المعلمين بتلخيص ما تم تعلمه، ويقوم المحاضر بتقديم التغذية الراجعة وتقديم المعلومات في صورتها النهائية تمهيدا للانتقال إلى المرحلة التالية.

د ـ تقديم السيناريو: وفي هذه المرحلة يقوم المحاضر بتهيئة الطلاب المعلمين لتنفيذ السيناريو التعليمي الذي يتضمن بعض مهارات الأداء التدريسي التأملي في صورة مواقف حقيقية تتصل بالتخطيط للتدريس مثل صياغة الأهداف السلوكية، وقراءة المحتوى وتنظيمه، وكيف يمكن تقديمه بصورة شيقة مثيرة، وكيفية تحديد واختيار استراتيجيات التدريس المناسبة. ويتم في هذه المرحلة استخدام بعض المشاهدات التوضيحية المرئية (فيديوهات تعليمية) التي تساعد في تقديم المهارات بصورة تسهم في اكتسابها. وتشمل هذه المرحلة عمليتين رئيسيتين هما: مرحلة ما قبل التأمل التي تتضمن التهيئة لضمان تفاعل الطلاب المعلمين، ومرحلة التأمل وتتضمن الحوار والمناقشة بين المحاضر والطلاب في المواقف المعروضة. وفي المرحلة ذاتها يتم تكليف الطلاب المعلمين بتسجيل ملحوظاتهم واستفساراتهم عن الموقف التدريسي المتضمن بالسيناريو.

هـ ـ الحوار والمناقشة: يتم في هذه المرحلة تكليف الطلاب المعلمين بتأمل الممارسة التدريسية التي قاموا بها وتسجيل أبرز الملحوظات حول هذه الممارسة، والتعليق عليها من خلال إبراز المزايا والعيوب مع تبرير ذلك.

و ـ تعديل التصورات الذهنية: في هذه المرحلة يتم علاج بعض التصورات الذهنية الخطأ لدى الطلاب المعلمين والمرتبطة ببعض الأداءات التدريسية من خلال تقييم أداء الطالب المعلم ومناقشة الأخطاء التي وقع فيها لبناء صورة ذهنية صحيحة حول المهارة التدريسية.

ز ـ إعادة الممارسة التدريسية: عقب النقد البناء للممارسة التدريسية السابقة، يتم تكليف بعض الطلاب المعلمين بإعادة نفس الممارسة التدريسية المرتبطة بمهارات الأداء التدريسي التأملي؛ وذلك بهدف رفع كفاءة الطلاب المعلمين في إتقان المهارة وتدبر ما يقومون به من مهام تدريسية.

ح ـ التقويم: ويقصد بهذه المرحلة تقويم أداء الطالب المعلم في مهارات التدريس التأملي وتكليفهم بكتابة ملخصات قصيرة تصف وتفسر أدائهم التدريسي ومعتقداتهم الذهنية حول عملية التدريس ومهاراتها.

***

د. بليغ حمدي إسماعيل.

أستاذ المناهج وطرق تدريس اللغة العربية بكلية التربية جامعة المنيا- مصر

إن ثيمة الصراع بين العقل العلمي والعقل الخرافي، أو بشكل أدق الصراع بين الدين والعلم، هو جوهر وأساس وسبب السعي المعرفي الذي كرسّت له أغلب سنوات عمري للبحث عن الحقيقة، إن وُجدت. والتعبير عن ذلك موجود في كتبي، منذ كتابي الأول عن الكون وكان بعنوان "الكون أصله ومصيره وآخرها كتاب "من الكون المرئي إلى الكون اللانهائي". ومن بينها كتاب بعنوان " إله الأديان وإله الأكوان". و" سفر التكوين العلمي" و" الكون الإله" و" كون مرئي وأكوان خفية" و" الكون الجسيم والكون المتسامي" والثالوث المُحيّر: الله-الدين-العلم" و" الكون الحي" و" الكون المطلق" الخ... وكلها ناقشت معضلة الصراع بين العقل العلمي والعقل الخرافي.

وهذا الصراع موجود في كل زمان وكل مكان منذ آلاف السنين إلى يوم الناس هذا، وليس فقط في العالمين العربي والإسلامي. وما تركيزي على هذا الأخير إلاّ لأنه ما يزال مستمراً وبحدة ويتخذ أشكالاً أكثر خطورة بعد عودة الدين وهيمنته على الحياة الاجتماعية والتربوية والثقافية والفكرية منذ نهاية ستينات القرن الماضي. ففي عام 1969 صدر كتاب نقد الفكر الديني للدكتور صادق جلال العظم وتم منعه في العديد من الدول العربية ومحاكمة مؤلفه وناشره في بيروت، لأنه تجرأ على مناقشة العقلية الخرافية التي تصدق الخرافات ونحن نعيش في عصر العلم.

بدأ الصراع أولاً بين الدين والفلسفة قبل أن يدخل العلم حلبة الصراع بقوة منذ القرن السابع عشر وشراسة الهجمة الكنسية على الفلاسفة والعلماء إبّان فترة محاكم التفتيش واضطهاد المفكرين وحرق جيوردانو برونو حياً في الساحة العامة في روما سنة 1600 بتهمة الهرطقة والزندقة والإلحاد لجرأته في طرح أفكاره الفلسفية والعلمية نوعاً ما آنذاك والمخالفة لأطروحة الكنيسة الكاثوليكية. ولو أردنا الحديث باستفاضة عن الموضوع لاحتجنا إلى أسابيع بل وربما أشهر لتغطيته من جميع جوانبه.

لنبدأ بتعريف أولاً بما نقصده بالعقل الخرافي والعقل العلمي. العقل الخرافي هو الذي يتقبل ويصدق ويؤمن بالأساطير والخرافات والشعوذات والخزعبلات حيال كل شيء في الحياة والواقع والموت والآخرة والقيامة والجنة والنار والعقاب والثواب وعملية الخلق الرباني بطريقة كن فيكون وبما جاء في النصوص الدينية التي يعتبرها مقدسة، من أساطير وخرافات وغيبيات وماورائيات أما العقل العلمي فالمراد به هنا هو ذلك العقل الذي يستند للعلم فقط في إيجاد الأجوبة على التساؤلات الوجودية وتفسير الظواهر الطبيعية المتعلقة بالحياة والكون والوعي والتطور الخ ولا يقبل أو يرفض التصديق بما جاء في الكتب التي يقال أنها سماوية منزّلة ومقدسة.

لا بد من التنويه في البدء أنني لا أقصد هنا بالعقل الخرافي حصراً هو ذلك العقل الذي يعتقد ويصدق بالخرافات الدينية فقط، بل اقصد به كل ما ينافي العقل والوعي العلمي سواء أكان ذلك موجوداً في الأيديولوجيات والنظريات والأفكار الوضعية والدنيوية أو في النصوص والروايات الدينية، على السواء، وليس المقصود هنا بدين بعينه، بل إن الدين المطروح هنا هو مجرد فكرة وممارسة واعتقاد وإيمان سواء أكان هذا الدين وضعي دنيوي كالبوذية وغيرها، أو سماوي منزل كالدين اليهودي أو الدين المسيحي أو الدين الإسلامي، حيث تغطي هذه الفكرة الدينية مساحة زمنية تمتد لملايين السنين وليس فقط الفترة المرتبطة بتاريخ ظهور الأديان على الأرض، وكذلك فإن المقصود بالعقل العلمي هنا هو طريقة التفكير والتأمل، والشك والتساؤل، والبحث والتجريب، والطعن بالمسلمات الأسطورية أو الخرافية، وذلك منذ أن نشأ الوعي عند الإنسان قبل ملايين السنين ولو بشكله البدائي أو الجنيني إلى يوم الناس هذا.

إن الصراع بين العقل العلمي والعقل اللاهوتي الخرافي هو موضوع متكرر في تاريخ الفكر الإنساني. ويتجلى هذا الصراع في التوترات بين النهج العقلاني والتجريبي والمنهجي للمعرفة والمعتقدات القائمة على التقاليد والعقائد الدينية والخرافات. تتناول هذه المقاربة أصول هذا الصراع ومظاهره وآثاره عبر العصور التاريخية المختلفة، مع تسليط الضوء على القضايا المعرفية والاجتماعية والثقافية والفلسفية.

هناك الأصول التاريخية للصراع، والتي لايمكن الخوض فيها بالتفصيل ولكن يمكننا القول أن العصور القديمة والمفاهيم الأولى للعالم في الحضارات المبكرة قد تشكّلت، عندما كانت معرفة العالم غالبًا ما ترتبط بالمعتقدات الدينية والخرافية حيث تم تفسير الظواهر الطبيعية على أنها مظاهر للإرادة الإلهية أو الأرواح. المحاولات المبكرة للفهم العقلاني، بدأت هي الأخرى منذ وقت بعيد وبالتوازي تقريباً، مثل تلك التي قام بها فلاسفة ما قبل سقراط في اليونان، والتي كانت تتعارض أحيانًا مع التفسيرات الأسطورية. وبظهور الفلسفة العقلانية مع مفكرون مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو، وضعت الفلسفة اليونانية الأسس لنهج عقلاني ومنتظم للمعرفة. لقد طور أرسطو، على وجه الخصوص، أساليب المراقبة والتصنيف التي تصور العقل العلمي. ومع ذلك، غالبًا ما تعايشت هذه الأفكار مع المعتقدات الخرافية والدينية. سيطر اللاهوت المسيحي خلال العصور الوسطى في أوروبا على العقول، وهيمن على النهج الفكري. وكانت المعرفة تابعة إلى حد كبير للعقائد الدينية، وكان أي شكل من أشكال المعرفة يجب أن يكون متوافقًا مع الكتب المقدسة. وغالبًا ما تم قمع محاولات التشكيك في هذه العقائد. خاصة عند إعادة تقديم الفلسفة الأرسطية ومع إعادة اكتشاف نصوص أرسطو في القرن الثاني عشر، حيث ظهرت محاولة للتوفيق بين العقل والإيمان. حاول مفكرون مثل توما الأكويني إظهار إمكانية انسجام الفلسفة الأرسطية مع اللاهوت المسيحي. ومع ذلك، ظلت التوترات قائمة بين التفسيرات العقلانية والمعتقدات الدينية، ثم جاء عصر النهضة والثورة العلمية، وهي حقبة يمكن أن نعنونها بعودة الإنسان والعقل. كان عصر النهضة بمثابة تجديد الاهتمام بالمعرفة القديمة وتثمين العقل البشري. بدأت الاكتشافات في علم الفلك والطب والعلوم الأخرى في تحدي المعتقدات اللاهوتية والخرافية الراسخة ثم جاءت الثورة العلمية حيث شهد القرنان السادس عشر والسابع عشر ظهور الثورة العلمية مع شخصيات مثل كوبرنيكوس وغاليليو وكبلر ونيوتن. طرح هؤلاء العلماء أساليب تجريبية ورياضياتية لفهم العالم. إن نموذج كوبرنيكوس لمركزية الشمس، والذي أثبته غاليليو، يتحدى بشكل مباشر مذاهب الكنيسة، ويوضح بجلاء الصراع بين العلم واللاهوت. واستمر الوضع على حاله إبّان عصر التنوير وتطور العلوم الحديثة، وكما ذكرنا شهد القرن الثامن عشر، وعصر التنوير، تعزيزًا للعقل والتجريبية والشك تجاه المعتقدات الخرافية واللاهوتية. انتقد فلاسفة التنوير، مثل فولتير وديدرو وهيوم، الخرافات والدوغمائية الدينية، بينما دافعوا عن النهج العلمي والعقلاني الذي قاد إلى ولادة العلم الحديث وإنشاء المنهج العلمي وتخصص العلوم مما عزز الروح العلمية. وقد عززت المؤسسات والمنشورات العلمية النهج القائم على الملاحظة والتجريب والتحقق من صحة الأقران، في مواجهة العقائد الدينية والخرافات. ومن هنا ظهرت الصراعات الحديثة بين العلم والدين والخرافة وتمثلت بانتشار الداروينية والجدل الذي أثارته نظرية التطور لتشارلز داروين، التي عرضت في كتاب "أصل الأنواع" (1859)، وكان جدلا كبيرا من خلال تحدي قصص الخلق الموجودة في العديد من الأديان. لاسيما قصة الخلق في سفر التكوين التوراتي. لقد بلورت الداروينية الصراع بين التفسير العلمي لأصول الحياة والإنسان في المنظور العلمي مقابل المعتقدات الدينية التقليدية والأطروحة الدينية الخرافية والأسطورية، لحكاية الخلق الأسطورية التي وردت في النصوص الدينية عن خلق آدم وحواء والجنة والنار. العلم والدين في القرنين العشرين والحادي والعشرين مايزلان يواجهان مقاومة عنيفة من قبل المؤسسات الدينية الرسمية لاسيما الإسلامية. ففي القرن العشرين، استمر التقدم العلمي في علم الكونيات والأحياء والفيزياء بكل فروعها لاسيما علم الأكوان الكوسمولوجيا والفيزياء النظرية والفيزياء الفلكية في تحدي المذاهب الدينية. غالبًا ما كانت المناقشات حول موضوعات مثل نظرية الانفجار الكبير، وعلم الوراثة، ونظرية النشوء والارتقاء في علم الأحياء، وفي علم الأعصاب، تضع الروح العلمية في مواجهة الروح اللاهوتية. ولكن استمرت الخرافات على الرغم من التقدم العلمي، ولا تزال الخرافات تزدهر في العديد من الثقافات. وتظهر المعتقدات في السحر والأبراج ونظريات المؤامرة لذلك تبقى الذهنية الخرافية مؤثرة. ويظهر التوتر بين العلم والخرافة بشكل خاص في مجالات مثل الطب، حيث يمكن أن تتعارض الممارسات غير العلمية مع العلاجات القائمة على الأدلة في القضايا المعرفية والفلسفية. إن الصراع بين العقلية العلمية والعقلية اللاهوتية يثير أسئلة أساسية حول طبيعة المعرفة. يعتمد العلم على التجريبية والملاحظة والتحقق، في حين يعتمد اللاهوت والخرافات غالبًا على الإيمان والاعتقاد الساذج والتقاليد. تسلط هذه الأساليب المختلفة الضوء على مفاهيم متباينة لما يشكل ما نسميه عموماً جوهر وماهية "الحقيقة" . يعتمد المنهج العلمي على قابلية التشكيك والتكذيب والتجريب والتكرار. لأنه لايدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة وهذا يتناقض بشكل صارخ مع العقائد الدينية والخرافات، التي لا تخضع لنفس معايير التحقق، والتي تدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة لأنها متصلة بالسماء وبالله وبالتالي فإن دور المنهج العلمي في اكتساب المعرفة الموثوقة والقابلة للتكرار هو نقطة مركزية في هذا الصراع. إن الصراع بين الروح العلمية والروح الخرافية واللاهوتية هو أمر ثابت في تاريخ البشرية وما يزال مستمراً إنه يعكس التوترات العميقة بين الطرق المختلفة لفهم العالم وإيجاد المعنى. على الرغم من أن العلم قد حقق تقدمًا مذهلاً في تقديم تفسيرات عقلانية وتجريبية، إلا أن المعتقدات الدينية والخرافية لا تزال تلعب دورًا مهمًا في العديد من الثقافات. إن فهم هذا الصراع يسمح لنا بفهم أفضل لديناميكيات المعرفة الإنسانية والتحديات التي تواجهها.

لذا يمثل الصراع بين العقل العلمي والعقل الخرافي واللاهوتي كما قلنا، ثنائية تاريخية وفلسفية مهمة شكلت تطور المعرفة البشرية والمعايير المجتمعية. تطورت هذه العلاقة المعقدة من عصر النهضة العلمية وعصر التنوير، حيث بدأت الاكتشافات الرائدة والمنهجيات التجريبية في تحدي وجهات النظر الدينية والخرافية الراسخة، إلى المناقشات المعاصرة حول مواضيع مثل التطور والخلق وسياسات الصحة العامة. كانت الثورة العلمية بمثابة انحراف عن الفلسفة السكولائية المدرسية في العصور الوسطى والفيزياء الأرسطية، مع التركيز على الملاحظة المنهجية والاستقصاء العقلاني وشكلت بديلاً عن التفسيرات الإلهية والخارقة للطبيعة للظواهر الطبيعية. ومن الجدير بالذكر أن الأحداث والشخصيات التاريخية الرئيسية، مثل محاكمة غاليليو غاليليه بتهمة الهرطقة وحرق جيوردانو برونو وهو حياً في عام 1600، وترويج "أطروحة الصراع" من قبل جون ويليام درابر وأندرو ديكسون وايت، تؤكد على التوترات التي نشأت بين التقدم العلمي والعقائد الدينية. إن دفاع غاليليو عن مركزية الشمس واضطهاده اللاحق من قبل محاكم التفتيش الكنسية يوضح وحشية القمع الفكري الذي مارسته السلطات الدينية على التقدم العلمي. وعلى الرغم من فضح المؤرخين المعاصرين على نطاق واسع لـ "أطروحة الصراع"، إلا أنها أوضحت بشكل أكبر التوتر التاريخي الملحوظ بين العلم والدين. في العصر الحديث، يستمر النقاش في مجالات مثل علم الأحياء التطوري مقابل الخلقية أو نظرية الخلق الربانية كما جاءت في سفر التكوين التوراتي، واستجابة الجمهور للمبادئ التوجيهية العلمية، مما يسلط الضوء على الاحتكاك المستمر بين الأدلة التجريبية والمعتقدات الشخصية أو المجتمعية. وقد ساهم فلاسفة مثل فرانسيس بيكون ورينيه ديكارت في هذا الخطاب، حيث ميزوا بين النهج التجريبي والعقلاني للمعرفة. إن هذا التوتر الفلسفي يمتد إلى المناقشات اللاهوتية، حيث سعت شخصيات مثل توما الأكويني إلى التوفيق بين الإيمان والعقل. إن التأثير الاجتماعي والثقافي لهذا الصراع واضح عبر سياقات تاريخية مختلفة، بما في ذلك العصر الذهبي الإسلامي والتحديات التعليمية المعاصرة. وقد ساهمت شخصيات بارزة مثل تشارلز داروين وتوماس هنري هكسلي في تشكيل المناقشة بشكل أكبر، من خلال الدعوة إلى دمج التفكير العلمي في مناهج التعليم في فهمنا للأصول البشرية. كما توفر وجهات النظر النفسية حول الخرافات والمعتقدات الخارقة للطبيعة رؤى حول العمليات المعرفية والعاطفية الكامنة وراء هذه المعتقدات، مما يوضح التفاعل المعقد بين الشخصية والتأثيرات الثقافية وأنظمة المعتقدات. بشكل عام، يستمر الحوار المستمر بين الاستقصاء العلمي والمنظورات الخرافية أو اللاهوتية في التأثير على فهمنا الجماعي للعالم، مما يدفع إلى الصراع دائماً ونادراً ما يدفع نحو المصالحة وعلى نحو مؤقت ويؤكد هذا التفاعل الديناميكي على أهمية ربط المعرفة العلمية مع السياقات الثقافية والدينية لتعزيز رؤية أكثر دقة وشمولية للمعرفة البشرية والتنمية.

المنظورات التاريخية: ركز عصر النهضة العلمية بشكل كبير على استعادة المعرفة القديمة، وبلغت ذروتها في نشر إسحاق نيوتن كتاب "المبادئ" عام 1687، والذي صاغ قوانين الحركة والجاذبية الكونية، وبالتالي بدأ تشييد علم الكونيات الجدي. مهدت هذه الفترة الطريق لعصر التنوير اللاحق، حيث تم التعبير عن مفهوم الثورة العلمية من قبل مفكرين في القرن الثامن عشر مثل جان سيلفان بيلي، الذي وصفها بأنها عملية من مرحلتين لتفكيك القديم وتأسيس الجديد. غالبًا ما يُنظر إلى الثورة العلمية على أنها تتفوق على الأحداث التاريخية الأخرى مثل عصر النهضة والإصلاح بسبب تأثيرها العميق على العالم الحديث والعقلية الجمعية، مما يجعل الفترات التقليدية للتاريخ الأوروبي عتيقة إلى حد ما. الباحث بيتر هاريسون في كتابه يُشيد بدور المسيحية المهم في ظهور الثورة العلمية، مسلطًا الضوء على العلاقة المتشابكة بين التطورات الدينية والعلمية خلال هذه الفترة. يتميز هذا التحول النموذجي بالابتعاد عن الفلسفة السكولائية المدرسية في العصور الوسطى والفيزياء الأرسطية، مما يمثل تحولًا كبيرًا في فهم الظواهر الطبيعية وإدارتها. نشأ تفسيران رئيسيان فيما يتعلق بأسلوب حكم العالم: أحدهما يدعو إلى التدخلات الإلهية المستمرة والآخر لتشغيل القوانين الطبيعية غير المتغيرة. استفادت السلطات الكهنوتية من دورها الوسيط بين الأفعال الإلهية والصلوات البشرية، ومالت بشكل طبيعي نحو التفسير الأول. بمرور الوقت، ومع بدء الأساليب العلمية والاستقصاء العقلاني في تحدي واستبدال التفسيرات الخرافية واللاهوتية، أصبحت النصوص والأدلة التجريبية ذات أهمية قصوى. يؤكد هذا التحول على الصراع الأوسع بين العقل العلمي، الذي يعتمد على الملاحظة المنهجية والعقلانية، والعقل الخرافي واللاهوتي، الذي يعتمد غالبًا على التفسيرات الإلهية والخارقة للطبيعة للظواهر الطبيعية. لم تكن التغييرات الجذرية التي جلبتها الثورة العلمية فكرية فحسب، بل كانت لها أيضًا آثار اجتماعية وسياسية عميقة. لقد شهدت مؤسسات مثل الكنيسة الرومانية، التي مارست سابقًا نفوذًا كبيرًا على جوانب مختلفة من الحياة، تحديًا لقوتها وسلطتها من خلال النماذج العلمية الجديدة والتحول المصاحب نحو نظرة عالمية أكثر علمانية وعقلانية.

نظرية التطور والخلقية أو نظرية الخلق الإلهي:

استمرت الصراعات بين العلم والدين حتى العصر الحديث، وخاصة حول موضوعي التطور والخلقية. أو الخلق الرباني. تشير الدراسات الاستقصائية التي أجريت في عامي 2009 و2014 إلى أن جزءًا كبيرًا من الجمهور الأمريكي يدرك وجود صراع بين التفسيرات العلمية لأصول الحياة والمعتقدات الدينية حول الخل. لا يزال التوتر بين نظرية التطور، التي تدعمها مجموعة قوية من الأدلة العلمية، ووجهات نظر الخلقية، التي تتجذر في العقيدة الدينية، قضية مثيرة للجدال في المناقشات التعليمية والسياسية العامة. سلطت جائحة كوفيد-19 الأخيرة الضوء على الاحتكاك المستمر بين المبادئ التوجيهية العلمية والالتزام العام المتأثر بالمعتقدات والمواقف المتنوعة. أثناء الوباء، قوبلت تدابير الصحة العامة مثل عمليات الإغلاق، وفرض ارتداء الكمامات، ومتطلبات اللقاح بمقاومة من شرائح من السكان، مما يوضح كيف يمكن أن تتعارض التوصيات العلمية مع المعتقدات الشخصية والمعايير المجتمعية. تعكس هذه الخلافات أسئلة فلسفية أعمق حول الطبيعة البشرية، ومكاننا في الكون، ومسؤولياتنا تجاه بعضنا البعض كأعضاء في مجتمع مشترك. إن فهم هذه الصراعات والمناقشات الرئيسية يساعد في توضيح التعقيدات التي تحيط بالعالم. والعلاقة المتطورة بين البحث العلمي وأنظمة المعتقدات الأخرى، سواء كانت متجذرة في الدين أو الخرافة أو أطر أخرى.

الأسس الفلسفية:

مع بداية الثورة العلمية، أصبحت التجريبية بالفعل مكونًا مهمًا من العلوم والفلسفة الطبيعية. بدأ المفكرون السابقون، بما في ذلك الفيلسوف الاسمي ويليام أوكام في أوائل القرن الرابع عشر، الحركة الفكرية نحو التجريبية. دخل مصطلح "التجريبية البريطانية" حيز الاستخدام لوصف الاختلافات الفلسفية الملحوظة بين اثنين من مؤسسيها: فرانسيس بيكون، الذي وُصف بأنه تجريبي، ورينيه ديكارت، الذي وُصف بأنه عقلاني. كان توماس هوبز وجورج بيركلي وديفيد هيوم من أبرز رواد الفلسفة الذين طوروا تقليدًا تجريبيًا متطورًا كأساس للمعرفة البشرية. من أجل الحصول على المعرفة والسيطرة على الطبيعة، حدد بيكون في عمله نظامًا جديدًا للمنطق اعتقد أنه متفوق على الطرق القديمة للقياس المنطقي، وطور منهجه العلمي. تتألف هذه الطريقة من إجراءات لعزل السبب الرسمي لظاهرة ما (الحرارة، على سبيل المثال) من خلال الاستقراء الإقصائي. أكد بيكون على أنه يجب على الفيلسوف أن ينتقل من خلال الاستدلال الاستقرائي من الحقيقة إلى البديهية إلى القانون الفيزيائي. ومع ذلك، فقد لاحظ أيضًا أنه قبل البدء في هذا الاستقراء، يجب على السائل أن يحرر عقله من بعض المفاهيم أو الاتجاهات الخاطئة التي تشوه الحقيقة. على وجه التحديد، انتقد حقيقة أن الفلسفة كانت مشغولة جدًا بالكلمات والنقاش بدلاً من الملاحظة الفعلية للعالم المادي . استمر التباين بين الفلسفات التجريبية والعقلانية في التطور. أبرز ديكارت والمفكرون اللاحقون مثل كارل بوبر وتوماس ناغل أن الفكر العقلاني هو مسعى معياري لا يمكن تفسيره بالكامل بمصطلحات علمية بحتة . يعكس هذا توترا فلسفيا أوسع: فبينما يهدف العلم الطبيعي إلى وصف ما هو موجود، يتعامل الفكر العقلاني مع الحقائق المعيارية حول ما ينبغي أن يكون. وتؤكد هذه الثنائية على العلاقة المعقدة بين الملاحظة التجريبية والاستدلال العقلاني. يمتد هذا التناقض الفلسفي إلى المناقشات اللاهوتية. على سبيل المثال، وصف البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته العامة "الإيمان والعقل" الإيمان والعقل كجناحين متكاملين يرفعان الروح البشرية نحو التأمل في الحقيقة. هذه الفكرة لها جذور تاريخية، حيث دمج آباء الكنيسة الأوائل الفلسفة اليونانية للدفاع عن الإيمان، وهو التوليف الذي بلغ ذروته مع كتابات توما الأكويني في القرن الثالث عشر. لقد أثر دمج توما الأكويني للإيمان والعقل بشكل عميق على الفكر الكاثوليكي، وربطه بشكل وثيق بالأسس الفكرية للعلم الحديث.

التأثير الاجتماعي والثقافي:

أدى تقاطع التقدم العلمي والمعايير المجتمعية إلى تغييرات عميقة في كيفية إدراك الأفراد والمجتمعات لأنفسهم وعلاقاتهم مع الآخرين. إن هذه الظاهرة واضحة بشكل خاص في سياق ثورة تكنولوجيا المعلومات، والواقع الافتراضي، والاتصالات العالمية، والتي غيرت بشكل كبير العلاقات الشخصية، والقوى العاملة، والتعليم، والنسيج المجتمعي الأوسع . تؤثر هذه التحولات حتماً على المجالات الفكرية والعاطفية والعلاقاتية للحياة البشرية، مما يطرح تحديات وفرصًا لدمج الثقافة العلمية في الحياة اليومية. وعلاوة على ذلك، يوضح التقدم التاريخي للحضارات نمطًا في تطوير ونشر المعرفة العلمية. على سبيل المثال، خلال ذروة العصر الذهبي الإسلامي، أدى الاستخدام الواسع النطاق للغة العربية، إلى جانب الأطر الدينية والسياسية المشتركة، إلى تسهيل انتشار الأفكار العلمية في جميع أنحاء العالم الإسلامي. تم نقل المعرفة العلمية من خلال كل من الشبكات غير الرسمية، مثل المراسلات بين العلماء، والمؤسسات الرسمية مثل المستشفيات والمراصد. وعلى الرغم من هذه الفترة المزدهرة، إلا أن تراجع الخلافة العباسية كان بمثابة نقطة تحول، مما أدى إلى ركود التقدم العلمي في السياق الإسلامي . كما أن التأثير الاجتماعي والثقافي للعلم واضح أيضًا في البيئات المعاصرة. إن الدول ذات الأغلبية المسلمة، مثل الإمارات العربية المتحدة، تظهر مستويات عالية من التحضر والتطور التكنولوجي ولكنها غالبًا ما تكون أقل أداءً في مقاييس الناتج البحثي العلمي، مثل المنشورات والاستشهادات . كما تعمل هذه المناطق كأرض خصبة للاعتقادات الزائفة، بما في ذلك نظرية خلق الأرض القديمة والممارسات الطبية غير التقليدية، مما يسلط الضوء على التوتر بين المنظورات العلمية واللاهوتية في المجتمع الحديث . في السياقات التعليمية، يظل التحدي قائمًا في نقل المعرفة حول طبيعة العلم (NOS) بشكل فعال من الفهم النظري إلى التطبيق العملي. هذه القضية ذات صلة خاصة بالمعلمين قبل الخدمة الذين قد يتفوقون في وصف مفاهيم NOS ولكنهم يكافحون من أجل دمجها في سياقات أخرى. إن تبني المجتمع الأوسع لمحو الأمية العلمية يتطلب بالتالي نهجًا دقيقًا يأخذ في الاعتبار كل من السوابق التاريخية والتحديات المعاصرة في مواءمة المعرفة العلمية مع السياقات الثقافية والدينية. شخصيات بارزة قد شكّلت الصراع بين المنظورين العلمي واللاهوتي من خلال مساهمات العديد من الشخصيات البارزة. كان تشارلز داروين مترددًا في البداية في النشر عن أصول الإنسان ولم يناقش التطور البشري في عمله الرائد، . ومع ذلك، فقد أكد أن "الضوء سيُلقى على أصل الإنسان وتاريخه" (1859: 487). حدد داروين لاحقًا إفريقيا كمكان محتمل لنشأة البشر واستخدم التشريح المقارن لإظهار أن الشمبانزي والغوريلا كانت وثيقة الصلة بالبشر في عمله 1871 .كان توماس هنري هكسلي، الذي يُشار إليه غالبًا باسم "تابع داروين" لدفاعه القوي عن نظرية داروين في التطور، فعّالاً في جلب المناقشة حول التطور البشري إلى الصدارة. في كتابه الصادر عام 1863، ناقش هكسلي الأدلة الأحفورية مثل حفريات إنسان نياندرتال التي تم اكتشافها مؤخرًا من جبل طارق، حيث قدم إحدى أولى الحجج الشاملة للتطور البشري من منظور داروين. في القرن العشرين، انخرط علماء الأنثروبولوجيا القديمة في مناقشات حول الجدول الزمني للتطور البشري. لقد جادلوا فيما إذا كان البشر قد انفصلوا عن القردة العليا الأخرى منذ حوالي 15 مليون سنة أو منذ حوالي 5 ملايين سنة. وقد تم تسليط الضوء على هذا النقاش في النهاية من خلال التفاعلات الجزيئية - أولاً من خلال الاستجابات المناعية ثم من خلال الأدلة الجينية المباشرة. على سبيل المثال، كان العمل الذي قام به ريو وآخرون (2014) حول معايرة ساعة الميتوكوندريا البشرية باستخدام الجينومات القديمة محوريًا في هذا السياق. إن أصول الإنسان ليست مجرد مسألة بحث علمي بل هي أيضًا موضوع متشابك بعمق مع الاعتبارات الدينية والفلسفية. ففي المسيحية واليهودية وبعض فروع الإسلام، يُعتقد أن البشر قد خُلقوا على صورة الله. وقد تم تفسير هذا المفهوم بطرق مختلفة، بما في ذلك التفسيرات الوظيفية والبنيوية والعلائقية. وجهات النظر النفسية: لطالما كانت الخرافات والمعتقدات الخارقة للطبيعة موضوعات للبحث النفسي، لأنها تقدم رؤى حول العمليات المعرفية والعاطفية التي تكمن وراء السلوك البشري. غالبًا ما تدرس وجهات النظر النفسية حول هذه الموضوعات كيف يُشكّل الأفراد مثل هذه المعتقدات ويحافظون عليها، فضلاً عن الفوائد والأضرار المحتملة المرتبطة بها. الوسطاء المعرفيون والنفسيون القلق والسيطرة المدركة هي عوامل مهمة في تكوين المعتقدات الخرافية والخارقة للطبيعة. وجد وات وواتسون وويلسون أن الأفراد الذين لديهم مستويات عالية من القلق هم أكثر عرضة لاعتناق مثل هذه المعتقدات، ربما كوسيلة لممارسة الشعور بالسيطرة على المواقف غير المؤكدة. على نحو مماثل، أظهر تيرهون وسميث أن الإيحاء وبعض سمات الشخصية الإدراكية المعرفية يمكن أن تحفز تجارب شاذة لدى الأفراد، مما يدعم فكرة أن العمليات المعرفية تلعب دورًا حاسمًا في هذه المعتقدات. التحيزات المعرفية والأساليب الإرشادية توفر نظرية العملية المزدوجة للإدراك، والتي تتضمن عمليات التفكير الترابطية والحدسية (النظام 1) وعمليات التفكير التحليلي والتأملي (النظام 2)، إطارًا لفهم التفكير الخرافي. النظام 1 سريع وتلقائي، مما يجعله عرضة للتحيزات مثل الأسلوب الإرشادي للتوافر، حيث يحكم الناس على احتمالية الأحداث بناءً على مدى سهولة تذكرهم لحالات مماثلة. يمكن أن يؤدي هذا إلى تكوين معتقدات خرافية، حيث تصبح النتائج السلبية التي تلي الأفعال المغرية للقدر أكثر سهولة في الوصول إليها إدراكيًا وبالتالي يُنظر إليها على أنها أكثر احتمالية. وهناك التنظيم العاطفي والتأثير الإيجابي حيث من المثير للاهتمام أن التفكير الخرافي يمكن أن يتأثر بالحالة العاطفية للفرد. لقد ثبت أن التأثير الإيجابي يعزز التفكير الخرافي، في حين يمكن وصف الاكتئاب بأنه "فقدان للأوهام الإيجابية". وهذا يشير إلى أنه في حين أن الخرافات قد تكون غير عقلانية في بعض الأحيان، إلا أنها يمكن أن تؤدي وظيفة علاجية من خلال توفير الراحة وتقليل القلق. قد تحتاج الأبحاث المستقبلية إلى موازنة الجوانب غير العقلانية للخرافات مقابل فوائدها النفسية المحتملة. الارتباطات الشخصية: استكشف البحث أيضًا السمات الشخصية المرتبطة بالمعتقدات الخارقة للطبيعة. وجد غليكسون أن الأفراد الذين يؤمنون بالخوارق غالبًا ما يكون لديهم تعقيد إدراكي أعلى، مما قد يمكنهم من الترفيه عن مجموعة أوسع من الاحتمالات. اكتشف راتيت وبورسيك أن بعض سمات الشخصية، مثل الانفتاح على التجربة والبحث عن الأحاسيس، ترتبط باحتمالية أعلى للاحتفاظ بمعتقدات خارقة للطبيعة. تسلط هذه النتائج الضوء على التفاعل المعقد بين الشخصية وأنظمة المعتقدات. إن تأثيرات العوامل الاجتماعية والثقافية لها أيضًاً دور إذ تلعب المعتقدات الخرافية دورًا مهمًا في تشكيل المعتقدات الخرافية والخارقة للطبيعة. اقترح روزين ونيمروف أن المعتقدات الخرافية حول الصفات المعدية لسوء الحظ يمكن أن تساهم في الوصمة الاجتماعية والاغتراب، كما هو الحال في المخاوف التاريخية المحيطة بأمراض مثل الإيدز . يمكن أن تؤثر هذه المعتقدات على السلوك والمواقف العامة، مما يؤدي في بعض الأحيان إلى عواقب وخيمة. دراسات حالة المبتدئ البسيط: مشاركة تُعرف باسم سالي Sally تتضمن إحدى دراسات الحالة التوضيحية في فحص الصراع بين المنظورات العلمية والخرافية أو اللاهوتية. في تحليل نوعي لأفعالها أثناء المحاكاة، أظهرت محاكاة سالي غلبة للأفعال التحقيقية، مثل توليد فرضيات جديدة وإجراء الاختبارات واستخلاص النتائج. تتوافق هذه الأنشطة مع النماذج الراسخة للنشاط العلمي التي تعطي الأولوية للتجريب وتوليد الفرضيات وتقييم الأدلة . تشير مثل هذه الإجراءات التحقيقية إلى أن معتقدات سالي المعرفية تميل نحو البحث العلمي والفهم بأن المعلومات العلمية يمكن أن تتغير مع وجود أدلة جديدة، على النقيض من النظرة الثابتة المرتبطة غالبًا بالعقليات اللاهوتية أو الخرافية المرتبطة بالمعتقدات الدينية في الأوساط الأكاديمية تاريخيًا كانت متشابكة ومتناقضة، كانت العلاقة بين البحث العلمي والمعتقد الديني معقدة. خلال القرن السابع عشر، رأى العديد من الفلاسفة الطبيعيين، بما في ذلك إسحاق نيوتن، أعمالهم العلمية كدليل على الخلق الإلهي. ومع ذلك، بحلول القرنين التاسع عشر والعشرين، بدأ تديُّن العلماء في الانحدار، وانحرفت مواقفهم بشكل كبير عن عامة السكان. توضح الأمثلة المعاصرة مثل فرانسيس كولينز، الزعيم السابق لمشروع الجينوم البشري، استثناءات لهذا الاتجاه. دعا كولينز بنشاط إلى توافق العلم والمسيحية من خلال كتابه "لغة الله" (2006) ومعهد بيولوغوس . مركزية الشمس والثورة العلمية: إن التحول من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس يوفر دراسة حالة أخرى ذات صلة. فقد اقترح أريستارخوس الساموسي لأول مرة نموذج مركزية الشمس، الذي يضع الشمس في مركز الكون بدلاً من الأرض، في القرن الثالث قبل الميلاد. وعلى الرغم من أساسه التجريبي، لم يكتسب النموذج سوى القليل من الجاذبية والاهتمام في أوروبا في العصور الوسطى، حيث كانت الآراء اللاهوتية تهيمن على الفكر العلمي. ولم تبدأ مركزية الشمس في تحدي نموذج مركزية الأرض الراسخ حتى ظهور أعمال كوبرنيكوس وغاليليو وكبلر في عصر النهضة، مما يمثل تحولاً كبيراً نحو التفكير العلمي على حساب العقيدة اللاهوتية.

نظرية الانفجار العظيم:

إن تطور نظرية الانفجار العظيم يؤكد على الصراع والتقارب النهائي بين المنظورين العلمي واللاهوتي. وقد واجهت النظرية، التي اقترحها في البداية عالم الكونيات البلجيكي والقس الكاثوليكي جورج لوميتر في عام 1927، شكوكًا داخل المجتمع العلمي. ومع ذلك، فإن اكتشاف إدوين هابل للمجرات التي تتحرك بعيدًا عن بعضها البعض قدم دليلاً حاسمًا يدعم نموذج الكون المتوسع الذي اقترحه لوميتر. تمثل هذه النظرية، التي تصف الكون الناشئ عن تفرد أو فرادة كونية، تحولًا كبيرًا عن نظريات علم الكونيات السابقة المتأثرة باللاهوت والتي افترضت كونًا ثابتًا. تسلط دراسات الحالة هذه الضوء على العلاقة المتطورة بين الاستقصاء العلمي والمعتقدات الدينية أو الخرافية. في حين توضح الأمثلة التاريخية والمعاصرة التوتر بين هذه النظريات العالمية، فإنها توضح أيضًا كيف اكتسب التفكير العلمي القبول تدريجيًا، وغالبًا ما يدمج المفاهيم اللاهوتية أو يعيد تفسيرها في هذه العملية. الحل والمصالحة التأمل في تحول الفهم تكشف الرحلة التاريخية للعلم والدين عن تطور عميق في علاقتهما، والتي تتميز بفترات من الصراع والتباين والاتصال والتأكيد . أحد التأملات المهمة هو أن العوامل الاجتماعية والسياسية تلعب دورًا حاسمًا في بناء ما يُقبل كمعرفة علمية. يعمل المجتمع العلمي في إطار تاريخي حيث تعد الآليات مثل التدريب الأكاديمي وعمليات مراجعة الأقران ضرورية لأفضل الممارسات وقمع الآراء المنحرفة . سلط العمل الرائد لتوماس كون، "بنية الثورات العلمية"، الضوء على الطابع الجماعي للمشروع العلمي، وهو الوعي الذي كان محوريًا في تحويل الفهم الإرث والتأثير المستمر: لقد شكل الحوار بين العلم والدين بشكل كبير علاقتهما المعاصرة. اقترح وينتزل فان هوستين أن العلم والدين يمكن أن ينخرطا في ثنائي رشيق بناءً على تداخلاتهما المعرفية، مع الحفاظ على مجالاتهما المتميزة ولكن من خلال المحادثة والحوار ومن خلال الأساليب والمفاهيم والافتراضات المشتركة يفتح هذا المنظور مسارات للتفاعل الهادف والإثراء المتبادل، والانتقال من مجرد الصراع إلى مساحة من التعاون من أجل الفهم الإيجابي للطرفين.

تقاطع العلم والدين في السياق العالمي بات ملحوظاً، وكانت العلاقة بين العلم والدين متنوعة. وقد كشفت الأبحاث التي أجراها مركز بيو للأبحاث والتي شملت مسلمين وهندوس وبوذيين في ماليزيا وسنغافورة عن وجهات نظر متنوعة حول كيفية ارتباط العلم بالدين. وتسلط هذه المقابلات الضوء على أن التفاعل بين العلم والدين ليس متجانسًا ولكنه غني بالسياقات ومتعدد الأوجه. بالإضافة إلى ذلك، فإن فكرة أن المؤسسات الدينية والعلمانية يمكن أن تعزز السلوكيات الاجتماعية والمعادية للمجتمع تزيد من تعقيد علاقتهما. المشروع العلمي والكرامة الإنسانية: المشروع العلمي ليس موضوعيًا بحتًا ولكنه متشابك بعمق مع القيم الإنسانية والكرامة. يمثل العلم مجموعة من المعرفة التي لا غنى عنها ليس فقط للتنمية الفكرية ولكن أيضًا للنمو الروحي. إن وحدة المعرفة، التي تربط بين العقل والإيمان، أمر بالغ الأهمية للتنمية الشاملة للأفراد والمجتمعات . يُنظر إلى نشر المعرفة العلمية على أنه حق، وتثقيف الجمهور حول التقدم العلمي واجب، مما يسلط الضوء على دور العلم في تحقيق الصالح العام وتعزيز التنمية البشرية.

وأخيراً وليس آخراً أودّ أن أقول إنها منذ فجر البشرية وإلى يوم الناس هذا، كان هذا " الثالوث المُحيّر " الله، الدين، العلم " وهو عنوان كتابي بثلاثة أجزاء، يثير الخوف والخشية، وفيه طرفان يدعيان امتلاك الحقيقة المطلقة بينما يعمل الثالث على اكتشاف الحقيقة النسبية القابلة للتغيير والتطور كلما تقدمت التكنولوجيا والنظريات العلمية. ولكن هل توجد حقاً " حقيقة مطلقة؟" فالإله يأخذ أشكالاً وتعاريف وماهيات وصفات مختلفة من طرف لآخر، ولا ندري إن كان موجود حقاً أم هو مجرد فرضية أو ضرورة سيكولوجية أوردتها الأديان والمعتقدات البشرية وعزتها لذات متعالية متسامية أسمتها الله، وبكل لغات الأرض، أو اختلقتها البشرية لتراقب نفسها عبرها. أما الدين فقصته أكثر غموضاً وخطورة. فلقد حكم وسيّر سلوك البشر وما يزال منذ آلاف السنين، وأوجد مؤسسات دينية أفرزت كافة أنواع الشرور والعنف والحروب والبطش والقتل الوحشي والتكفير والسيطرة على عقول البشر بإسم الإله أو الرب أو الله، أما الطرف الثالث فهو ما يزال يحبو ويجرب، يفشل هنا وينجح هناك، على نحو نسبي، ويسعى إلى تحسين الوعي البشري والبحث عن أجوبة للأسئلة الكبرى التي تطرحها الإنسانية على نفسها. عن الأصل والمصير، عن المستقبل والمآل الذي ينتظر البشرية، ويبقى صعباً على الإدراك والفهم العام فيما عدا نخبة قليلة من العلماء، ويواجه دوماً جملة من التحديات والظواهر التي يعجز عن فهمها وتفسيرها ومنها أصل الحياة وسرها. ما معنى الحياة؟ أو ما معنى وجودنا بشكلٍ عام؟ من الوهلة الأولى يبدو أنه سؤال ينتمي إلى حقل الفلسفة والدين والفكر المجرد، ولا علاقة له بالعلم. لكن الكثير من موضوعات الفلسفة والدين صارت تقع الآن تحت طائلة العلم، وبالأخص علم الفيزياء. وما هذا الكتاب سوى محاولة متواضعة للغوص في هذه الأقانيم المجهولة لإيقاد شمعة في ظلمة الوجود.

وبهذا الصدد تذكرت طرفتين، الأولى هي عندما سأل أحدهم القديس أوغسطين ماذا كان يفعل الله قبل خلقه للكون والإنسان فرد عليه الفيلسوف القديس : كان يحضّر نار جهنم لمن سيسألون هذا السؤال مثلك. والثاني هي عندما التقى ستيفن هوكينغ بالبابا يوحنا فقال العالم البريطاني للحبر الأعظم ألا تسلّمون أخيراً بصحة نظرية الانفجار العظيم فرد عليه البابا بشرط أن تسلّمون أنتم بصحة أطروحتنا فدعو لنا ماقبل البغ بانغ ونترك لكم يامعشر علماء الفيزياء الكونية ما بعد البغ بانغ.

يُمثّل الصراع بين العقل العلمي والعقل الخرافي واللاهوتي انقسامًا تاريخيًا وفلسفيًا هامًا شكّل تطور المعرفة البشرية والمعايير المجتمعية. تطورت هذه العلاقة المُعقّدة من عصر النهضة العلمية وعصر التنوير، حيث بدأت الاكتشافات الرائدة والمنهجيات التجريبية بتحدي الرؤى العالمية الدينية والخرافية الراسخة، إلى النقاشات المعاصرة حول مواضيع مثل التطور والخلق وسياسات الصحة العامة. مثّلت الثورة العلمية انحرافًا عن الفلسفة المدرسية في العصور الوسطى والفيزياء الأرسطية، مُركّزة على الملاحظة المنهجية والبحث العقلاني على التفسيرات الإلهية والخارقة للطبيعة للظواهر الطبيعية.

من الجدير بالذكر أن أحداثًا وشخصيات تاريخية رئيسية، مثل محاكمة غاليليو غاليلي بتهمة الهرطقة، وترويج "أطروحة الصراع" من قبل جون ويليام درابر وأندرو ديكسون وايت، تُبرز التوترات التي نشأت بين التقدم العلمي والمذاهب الدينية. وتُجسّد مناصرة غاليليو لمركزية الشمس، وما تلاه من اضطهاد من قِبل محاكم التفتيش الرومانية، القمع الفكري الذي مارسته السلطات الدينية على التقدم العلمي. وتُوضح "أطروحة الصراع"، على الرغم من دحضها على نطاق واسع من قِبل المؤرخين المعاصرين، التوتر التاريخي الملحوظ بين العلم والدين. في العصر الحديث، لا يزال الجدل قائمًا في مجالات مثل علم الأحياء التطوري مقابل نظرية الخلق، واستجابة الجمهور للتوجيهات العلمية خلال جائحة كوفيد-19، مما يُسلّط الضوء على الاحتكاك المستمر بين الأدلة التجريبية والمعتقدات الشخصية أو المجتمعية. وقد ساهم فلاسفة مثل فرانسيس بيكون ورينيه ديكارت في هذا الخطاب، حيث فرّقوا بين النهجين التجريبي والعقلاني للمعرفة. يمتد هذا التوتر الفلسفي إلى المناقشات اللاهوتية، حيث سعت شخصيات مثل توما الأكويني إلى التوفيق بين الإيمان والعقل.

يتجلى التأثير الاجتماعي والثقافي لهذا الصراع عبر سياقات تاريخية مختلفة، بما في ذلك العصر الذهبي الإسلامي والتحديات التعليمية المعاصرة. وقد ساهمت شخصيات بارزة مثل تشارلز داروين وتوماس هنري هكسلي في تشكيل النقاش بشكل أكبر، داعيةً إلى دمج التفكير العلمي في فهمنا لأصول الإنسان. كما توفر وجهات النظر النفسية حول الخرافات والمعتقدات الخارقة للطبيعة رؤى ثاقبة حول العمليات المعرفية والعاطفية الكامنة وراء هذه المعتقدات، مما يوضح التفاعل المعقد بين الشخصية والتأثيرات الثقافية وأنظمة المعتقدات.

بشكل عام، لا يزال الحوار المستمر بين البحث العلمي والمنظورات الخرافية أو اللاهوتية يؤثر على فهمنا الجماعي للعالم، مما يدفع إلى الصراع والمصالحة. ويؤكد هذا التفاعل الديناميكي على أهمية دمج المعرفة العلمية مع السياقات الثقافية والدينية لتعزيز رؤية أكثر دقة وشمولاً للمعرفة البشرية والتنمية.

وجهات نظر تاريخية

ركز عصر النهضة العلمية بشكل كبير على استعادة المعارف القديمة، وبلغت ذروتها بنشر إسحاق نيوتن كتابه "المبادئ" عام 1687، الذي صاغ قوانين الحركة والجاذبية الكونية، مُكملًا بذلك توليف علم كونيات جديد. مهدت هذه الفترة الطريق لعصر التنوير اللاحق، حيث صاغ مفكرون من القرن الثامن عشر، مثل جان سيلفان بايلي، مفهوم الثورة العلمية، ووصفها بأنها عملية من مرحلتين لتفكيك القديم وتأسيس الجديد.

غالبًا ما يُنظر إلى الثورة العلمية على أنها تفوقت على أحداث تاريخية أخرى مثل عصر النهضة والإصلاح الديني، نظرًا لتأثيرها العميق على العالم الحديث وعقليته، مما جعل التصنيفات التقليدية للتاريخ الأوروبي قديمة بعض الشيء. يعزو الباحث بيتر هاريسون... لعبت المسيحية دورًا هامًا في صعود الثورة العلمية، مسلطًا الضوء على العلاقة المتشابكة بين التطورات الدينية والعلمية خلال هذه الفترة.

يتميز هذا التحول النموذجي بالابتعاد عن الفلسفة المدرسية في العصور الوسطى والفيزياء الأرسطية، مما يمثل تحولًا كبيرًا في فهم الظواهر الطبيعية وإدارتها. برز تفسيران رئيسيان فيما يتعلق بأسلوب إدارة العالم: أحدهما يدعو إلى التدخلات الإلهية المستمرة والآخر إلى تشغيل القوانين الطبيعية الثابتة. استفادت مؤسسة الكهنوت من دورها الوسيط بين الأفعال الإلهية والصلوات البشرية، مما جعلها تميل بشكل طبيعي نحو التفسير الأول.

بمرور الوقت، ومع بدء الأساليب العلمية والاستقصاء العقلاني في تحدي التفسيرات الخرافية واللاهوتية واستبدالها، أصبحت أهمية النصوص والأدلة التجريبية ذات أهمية قصوى. يُبرز هذا التحول الصراع الأوسع بين العقل العلمي، الذي يعتمد على الملاحظة المنهجية والعقلانية، والعقل الخرافي واللاهوتي، الذي غالبًا ما اعتمد على تفسيرات إلهية وخارقة للطبيعة للظواهر الطبيعية.

لم تكن التغييرات الجذرية التي أحدثتها الثورة العلمية فكرية فحسب، بل كانت لها أيضًا آثار اجتماعية وسياسية عميقة. فقد شهدت مؤسسات مثل الكنيسة الرومانية، التي كانت تمارس سابقًا نفوذًا كبيرًا على جوانب مختلفة من الحياة، تحديًا لسلطتها وسلطتها من خلال النماذج العلمية الجديدة والتحول المصاحب لها نحو رؤية عالمية أكثر علمانية وعقلانية.

كان التفاعل التاريخي بين البحث العلمي والمعتقدات الدينية أو الخرافية محفوفًا بالصراعات والنقاشات، وقد تجسد ذلك في العديد من الأحداث والشخصيات الرئيسية.

محاكمة غاليليو غاليلي

أصبح غاليليو غاليلي، عالم الفلك والفيزياء والمؤلف الإيطالي، رمزًا للصراع بين العقيدة الدينية والبحث العلمي، وذلك بعد محاكمته بتهمة الهرطقة أمام محاكم التفتيش الرومانية عام1633. وكان دعمه لنظرية مركزية الشمس لنيكولاس كوبرنيكوس، التي افترضت أن الأرض تدور حول الشمس، يتناقض تمامًا مع نظرية مركزية الأرض التي تبنتها الكنيسة الكاثوليكية. ورغم إضافة بعض التنازلات في كتابه للإشارة إلى أن نموذج مركزية الشمس كان مجرد فرضية، فقد أُدين غاليليو بـ"الشك الشديد في الهرطقة" وأُجبر على التراجع عن آرائه. وانتهت هذه المحاكمة، التي امتدت لعدة جلسات في أبريل ومايو من عام 1633، بإقامة جبرية على غاليليو طوال حياته، مع أنه واصل عمله العلمي حتى وفاته عام 1642من الجدير بالذكر أن اضطهاد غاليليو يُنظر إليه غالبًا كمثال رئيسي على القمع الفكري الذي مارسته السلطات الدينية على التقدم العلمي.

أطروحة الصراع

شهد أواخر العصر الفيكتوري انتشار "أطروحة الصراع"، وهو مصطلح يصف التوتر التاريخي الملحوظ بين العلم والدين. وقد شاع هذا المفهوم بفضل أعمال مثل كتاب جون ويليام درابر "تاريخ الصراع بين الدين والعلم" وكتاب أندرو ديكسون وايت "تاريخ صراع العلم مع اللاهوت في المسيحية". إلا أن مؤرخي العلوم المعاصرين دحضوا هذه الرواية تمامًا، موضحين أن العديد من ادعاءات درابر ووايت إما كاذبة، أو مُساء فهمها، أو مُحرّفة عمدًا. يُجمع المؤرخون المعاصرون على أن ما يُسمى "الصراع" بين العلم والدين مجرد أسطورة، وقد أُعيد تقييم العديد من الأحداث التاريخية التي يُستشهد بها عادةً كدليل على هذا الصراع لإظهار علاقة أكثر دقة.

التطور والخلق

استمرت الصراعات بين العلم والدين حتى العصر الحديث، لا سيما فيما يتعلق بموضوعي التطور والخلق. تشير استطلاعات الرأي التي أُجريت بين عامي 2009 و2014 إلى أن شريحة كبيرة من الجمهور الأمريكي ترى وجود تعارض بين التفسيرات العلمية لأصول الحياة والمعتقدات الدينية حول الخلق. ولا يزال التوتر بين نظرية التطور، المدعومة بمجموعة قوية من الأدلة العلمية، ووجهات النظر الخلقية، المتجذرة في العقيدة الدينية، قضيةً خلافيةً في نقاشات التعليم والسياسات العامة.

جائحة كوفيد-19

سلطت جائحة كوفيد-19 الأخيرة الضوء على الاحتكاك المستمر بين الإرشادات العلمية والالتزام العام المتأثر بتنوع المعتقدات والمواقف. خلال الجائحة، قوبلت تدابير الصحة العامة، مثل عمليات الإغلاق، وفرض ارتداء الكمامات، ومتطلبات التطعيم، بمقاومة من شرائح من السكان، مما يوضح كيف يمكن أن تتعارض التوصيات العلمية مع المعتقدات الشخصية والأعراف المجتمعية. تعكس هذه الخلافات أسئلة فلسفية أعمق حول الطبيعة البشرية، ومكانتنا في الكون، ومسؤولياتنا تجاه بعضنا البعض كأعضاء في مجتمع مشترك. يساعد فهم هذه الصراعات والنقاشات الرئيسية على توضيح العلاقات المعقدة والمتطورة. الترابط بين البحث العلمي وأنظمة المعتقدات، سواءً كانت متجذرة في الدين أو الخرافات أو غيرها من الأطر.

الأسس الفلسفية

مع بداية الثورة العلمية، أصبحت التجريبية بالفعل مكونًا أساسيًا في العلم والفلسفة الطبيعية. بدأ المفكرون السابقون، بمن فيهم الفيلسوف الاسمي ويليام الأوكامي في أوائل القرن الرابع عشر، الحركة الفكرية نحو التجريبية. استُخدم مصطلح "التجريبية البريطانية" لوصف الاختلافات الفلسفية الملحوظة بين اثنين من مؤسسيها: فرانسيس بيكون، الذي وُصف بالتجريبي، ورينيه ديكارت، الذي وُصف بالعقلاني. كان توماس هوبز وجورج بيركلي وديفيد هيوم أبرز رواد الفلسفة الذين طوروا تقليدًا تجريبيًا متطورًا كأساس للمعرفة البشرية.

لغرض الحصول على المعرفة والسيطرة على الطبيعة، حدد بيكون في عمله نظامًا جديدًا للمنطق اعتقد أنه يتفوق على الطرق القديمة للقياس المنطقي، مطورًا منهجه العلمي. تتكون هذه الطريقة من إجراءات لعزل السبب الرسمي لظاهرة ما (الحرارة، على سبيل المثال) من خلال الاستقراء الإقصائي. أكد بيكون على أن الفيلسوف يجب أن ينتقل من خلال الاستدلال الاستقرائي من الحقيقة إلى البديهية إلى القانون الفيزيائي. ومع ذلك، فقد أشار أيضًا إلى أنه قبل البدء في هذا الاستقراء، يجب على الباحث أن يحرر عقله من بعض المفاهيم أو الاتجاهات الخاطئة التي تشوه الحقيقة. على وجه التحديد، انتقد الفلسفة لأنها كانت مشغولة جدًا بالكلمات والنقاش بدلاً من الملاحظة الفعلية للعالم المادي. استمر التناقض بين الفلسفات التجريبية والعقلانية في التطور. أبرز ديكارت ومفكرون لاحقون مثل كارل بوبر وتوماس ناجل أن الفكر العقلاني هو مسعى معياري لا يمكن تفسيره بالكامل بمصطلحات علمية بحتة. يعكس هذا توترًا فلسفيًا أوسع: فبينما يهدف العلم الطبيعي إلى وصف ما هو موجود، يتعامل الفكر العقلاني مع الحقائق المعيارية حول ما ينبغي أن يكون. تُبرز هذه الثنائية العلاقة المعقدة بين الملاحظة التجريبية والاستدلال العقلاني.

يمتد هذا التناقض الفلسفي إلى المناقشات اللاهوتية. على سبيل المثال، وصف البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته العامة "الإيمان والعقل" الإيمان والعقل بأنهما جناحان متكاملان يرتقيان بالروح البشرية نحو تأمل الحقيقة. لهذه الفكرة جذور تاريخية، حيث دمج آباء الكنيسة الأوائل الفلسفة اليونانية للدفاع عن الإيمان، وهو توليفة بلغت ذروتها مع كتابات توما الأكويني في القرن الثالث عشر. وقد أثر دمج توما الأكويني للإيمان والعقل تأثيرًا عميقًا على الفكر الكاثوليكي، وربطه ارتباطًا وثيقًا بالأسس الفكرية للعلم الحديث.

التأثير الاجتماعي والثقافي

أدى تقاطع التقدم العلمي والمعايير المجتمعية إلى تغييرات عميقة في كيفية إدراك الأفراد والمجتمعات لأنفسهم وعلاقاتهم مع الآخرين. تتجلى هذه الظاهرة بشكل خاص في سياق ثورة تكنولوجيا المعلومات والواقع الافتراضي والاتصالات العالمية، والتي غيرت بشكل كبير العلاقات الشخصية والقوى العاملة والتعليم والنسيج المجتمعي الأوسع. تؤثر هذه التحولات حتمًا على المجالات الفكرية والعاطفية والعلائقية للحياة البشرية، مما يطرح تحديات وفرصًا لدمج الثقافة العلمية في الحياة اليومية.

وعلاوة على ذلك، يوضح التقدم التاريخي للحضارات نمطًا في تطوير المعرفة العلمية ونشرها. على سبيل المثال، خلال ذروة العصر الذهبي الإسلامي، سهّل الاستخدام الواسع للغة العربية، إلى جانب الأطر الدينية والسياسية المشتركة، انتشار الأفكار العلمية في جميع أنحاء العالم الإسلامي. تم نقل المعرفة العلمية من خلال كل من الشبكات غير الرسمية، مثل المراسلات بين العلماء، والمؤسسات الرسمية مثل المستشفيات والمراصد. وعلى الرغم من هذه الفترة المزدهرة، إلا أن تراجع الخلافة العباسية كان بمثابة نقطة تحول، مما أدى إلى ركود التقدم العلمي في السياق الإسلامي.

كما أن التأثير الاجتماعي والثقافي للعلم واضح أيضًا في البيئات المعاصرة. تُظهِر الدول ذات الأغلبية المسلمة، مثل الإمارات العربية المتحدة، مستويات عالية من التحضر والتطور التكنولوجي، إلا أنها غالبًا ما تكون ضعيفة الأداء في مؤشرات مخرجات البحث العلمي، مثل المنشورات والاستشهادات. كما تُشكل هذه المناطق أرضًا خصبة للاعتقادات الزائفة علميًا، بما في ذلك نظرية خلق الأرض القديمة والممارسات الطبية غير التقليدية، مما يُبرز التوتر بين المنظورين العلمي واللاهوتي في المجتمع الحديث.

في السياقات التعليمية، لا يزال التحدي قائمًا في نقل المعرفة حول طبيعة العلم (NOS) بفعالية من الفهم النظري إلى التطبيق العملي. تُعد هذه المسألة ذات صلة خاصة بالمعلمين قبل الخدمة الذين قد يتفوقون في وصف مفاهيم طبيعة العلم، لكنهم يجدون صعوبة في دمجها في الممارسات الصفية. الممارسة. لذا، يتطلب التبني المجتمعي الأوسع للمعرفة العلمية نهجًا دقيقًا يأخذ في الاعتبار السوابق التاريخية والتحديات المعاصرة في مواءمة المعرفة العلمية مع السياقات الثقافية والدينية.

شخصيات بارزة

تشكّل الصراع بين المنظورين العلمي واللاهوتي من خلال مساهمات العديد من الشخصيات البارزة. كان تشارلز داروين مترددًا في البداية في النشر عن أصول الإنسان، ولم يناقش التطور البشري في عمله الرائد. ومع ذلك، فقد أكد أنه "سيتم تسليط الضوء على أصل الإنسان وتاريخه" (1859: 487). حدد داروين لاحقًا إفريقيا كمكان محتمل لنشأة البشر، واستخدم علم التشريح المقارن لإظهار أن الشمبانزي والغوريلا كانتا وثيقتي الصلة بالبشر في عمله (1871).

كان توماس هنري هكسلي، الملقب بتابع أو "بولدوغ داروين" لدفاعه الشرس عن نظرية داروين في التطور، فعالاً في إبراز الجدل الدائر حول التطور البشري. في كتابه الصادر عام 1863، ناقش هكسلي الأدلة الأحفورية، مثل أحافير إنسان نياندرتال التي اكتُشفت مؤخرًا آنذاك في جبل طارق، مقدمًا بذلك إحدى أولى الحجج الشاملة للتطور البشري من منظور دارويني.

في القرن العشرين، انخرط علماء الأنثروبولوجيا القديمة في جدل حول الجدول الزمني للتطور البشري. وجادلوا حول ما إذا كان البشر قد انفصلوا عن القردة العليا الأخرى منذ حوالي ١٥ مليون سنة أم منذ حوالي ٥ ملايين سنة. وقد أضاءت الساعات الجزيئية هذا الجدل في نهاية المطاف - أولًا من خلال الاستجابات المناعية، ثم من خلال الأدلة الجينية المباشرة. على سبيل المثال، كان عمل ريو وآخرون (2014) حول معايرة ساعة الميتوكوندريا البشرية باستخدام الجينومات القديمة محوريًا في هذا السياق. أصول الإنسان ليست مجرد مسألة بحث علمي، بل هي أيضًا موضوع متشابك بعمق مع الاعتبارات الدينية والفلسفية. ففي المسيحية واليهودية وبعض المذاهب الإسلامية، يُعتقد أن الإنسان خُلق على صورة الله (صورة الله). وقد فُسِّر هذا المفهوم بطرق مختلفة، بما في ذلك التفسيرات الوظيفية والبنيوية والعلائقية.

المنظورات النفسية

لطالما كانت الخرافات والمعتقدات الخارقة للطبيعة موضوعات بحث نفسي، إذ تُقدم رؤى ثاقبة في العمليات المعرفية والعاطفية التي تُشكل أساس السلوك البشري. وغالبًا ما تدرس الرؤى النفسية لهذه المواضيع كيفية تكوين الأفراد لهذه المعتقدات والحفاظ عليها، بالإضافة إلى الفوائد والأضرار المحتملة المرتبطة بها.

الوسطاء المعرفيون والنفسيون

يُعد القلق والسيطرة المُتصوَّرة عاملين مهمين في تكوين المعتقدات الخرافية والخارقة للطبيعة. وقد وجد وات وواتسون وويلسون أن الأفراد الذين يعانون من مستويات قلق عالية هم أكثر عرضة لاعتناق مثل هذه المعتقدات، ربما كوسيلة لممارسة الشعور بالسيطرة على المواقف غير المؤكدة. وبالمثل، أثبت تيرهون وسميث أن الإيحاء وبعض سمات الشخصية الإدراكية المعرفية قد تُحفز تجارب شاذة لدى الأفراد، مما يدعم فكرة أن العمليات المعرفية تلعب دورًا حاسمًا في هذه المعتقدات.

التحيزات المعرفية والأساليب الإرشادية

تُوفر نظرية العملية المزدوجة للإدراك، والتي تشمل عمليات التفكير الترابطية والحدسية (النظام 1) وعمليات التفكير التحليلي والتأملي (النظام 2)، إطارًا لفهم التفكير الخرافي. يتميز النظام 1 بالسرعة والتلقائية، مما يجعله عرضة للتحيزات مثل أسلوب التوافر، حيث يُقيّم الناس احتمالية وقوع الأحداث بناءً على مدى سهولة تذكرهم لحالات مماثلة. يمكن أن يؤدي هذا إلى تكوين معتقدات خرافية، حيث تصبح النتائج السلبية التي تلي الأفعال التي تُغري القدر أكثر سهولة من الناحية المعرفية، وبالتالي يُنظر إليها على أنها أكثر احتمالية.

التنظيم العاطفي والتأثير الإيجابي

ومن المثير للاهتمام أن التفكير الخرافي يمكن أن يتأثر بالحالة العاطفية للفرد. لقد ثبت أن التأثير الإيجابي يعزز التفكير الخرافي، بينما يمكن وصف الاكتئاب بأنه "فقدان للأوهام الإيجابية". يشير هذا إلى أنه على الرغم من أن الخرافات قد تكون غير عقلانية في بعض الأحيان، إلا أنها يمكن أن تؤدي وظيفة علاجية من خلال توفير الراحة وتقليل القلق. قد تحتاج الأبحاث المستقبلية إلى موازنة الجوانب غير العقلانية للخرافات مع فوائدها النفسية المحتملة.

ارتباطات الشخصية

استكشفت الأبحاث أيضًا سمات الشخصية المرتبطة بالمعتقدات الخارقة للطبيعة. وجد جليكسون أن الأفراد الذين يؤمنون بالخوارق غالبًا ما يتمتعون بتعقيد معرفي أعلى، مما قد يمكّنهم من الاستمتاع بمجموعة أوسع من الاحتمالات. اكتشف راتيت وبورسيك أن بعض سمات الشخصية، مثل الانفتاح على التجربة والبحث عن الأحاسيس، ترتبط بزيادة احتمالية اعتناق معتقدات خارقة للطبيعة. تُسلط هذه النتائج الضوء على التفاعل المعقد بين الشخصية وأنظمة المعتقدات.

التأثيرات الاجتماعية والثقافية

تلعب العوامل الاجتماعية والثقافية أيضًا دورًا مهمًا في تشكيل الخرافات. المعتقدات الخرافية والخارقة للطبيعة. اقترح روزين ونيمروف أن المعتقدات الخرافية حول الصفات المُعدية للمصائب قد تُسهم في الوصم الاجتماعي والاغتراب، كما يتضح في المخاوف التاريخية المحيطة بأمراض مثل الإيدز. يمكن أن تؤثر هذه المعتقدات على السلوك والمواقف العامة، مما يؤدي أحيانًا إلى عواقب وخيمة.

دراسات الحالة المبتدئة البسيطة: سالي

تتضمن إحدى دراسات الحالة التوضيحية، التي تبحث في التعارض بين المنظورين العلمي والخرافي أو اللاهوتي، مشاركة تُدعى سالي. في تحليل نوعي لأفعالها أثناء المحاكاة، أظهرت سالي غلبة في الأنشطة الاستقصائية، مثل توليد فرضيات جديدة، وإجراء اختبارات، واستخلاص النتائج. تتوافق هذه الأنشطة مع النماذج الراسخة للنشاط العلمي التي تُعطي الأولوية للتجريب، وتوليد الفرضيات، وتقييم الأدلة. تشير هذه الإجراءات الاستقصائية إلى أن معتقدات سالي المعرفية تميل نحو البحث العلمي وفهم أن المعلومات العلمية قابلة للتغيير مع وجود أدلة جديدة، على عكس النظرة الجامدة التي غالبًا ما ترتبط بالعقليات اللاهوتية أو الخرافية.

المعتقدات الدينية في الأوساط الأكاديمية

تاريخيًا، اتسمت العلاقة بين البحث العلمي والمعتقد الديني بالتعقيد. خلال القرن السابع عشر، اعتبر العديد من فلاسفة الطبيعة، بمن فيهم إسحاق نيوتن، أعمالهم العلمية دليلاً على الخلق الإلهي. ومع ذلك، بحلول القرنين التاسع عشر والعشرين، بدأ تدين العلماء في التراجع، مبتعدًا بشكل كبير عن عامة الناس. وتوضح أمثلة معاصرة، مثل فرانسيس كولينز، الرئيس السابق لمشروع الجينوم البشري، استثناءات لهذا الاتجاه. وقد دافع كولينز بنشاط عن توافق العلم والمسيحية من خلال كتابه "لغة الله" (2006) ومعهد بيولوجوس.

مركزية الشمس والثورة العلمية

يُقدم التحول من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس دراسة حالة أخرى ذات صلة. اقترح أريستارخوس الساموسي لأول مرة في القرن الثالث قبل الميلاد نموذج مركزية الشمس، الذي يضع الشمس في مركز الكون بدلًا من الأرض. وعلى الرغم من أساسه التجريبي، لم يحظَ هذا النموذج بقبول واسع في أوروبا في العصور الوسطى، حيث هيمنت الآراء اللاهوتية على الفكر العلمي. ولم يبدأ نموذج مركزية الشمس في تحدي نموذج مركزية الأرض الراسخ إلا مع أعمال كوبرنيكوس وغاليليو وكبلر في عصر النهضة، مما شكل تحولًا كبيرًا نحو التفكير العلمي على العقيدة اللاهوتية.

نظرية الانفجار العظيم

يؤكد تطور نظرية الانفجار العظيم على الصراع والتقارب النهائي بين المنظورين العلمي واللاهوتي. طرحها في البداية عالم الكونيات البلجيكي والقس الكاثوليكي جورج لوميتر عام 1927، وواجهت هذه النظرية تشكيكًا داخل المجتمع العلمي. ومع ذلك، قدم اكتشاف إدوين هابل للمجرات وهي تبتعد عن بعضها البعض دليلًا حاسمًا يدعم نموذج الكون المتوسع الذي اقترحه لوميتر. تُمثل هذه النظرية، التي تصف نشأة الكون من نقطة تفرد، تحولاً كبيراً عن نظريات علم الكونيات السابقة المتأثرة باللاهوت والتي افترضت كوناً ثابتاً.

تُسلط دراسات الحالة هذه الضوء على العلاقة المتطورة بين البحث العلمي والمعتقدات الدينية أو الخرافية. وبينما تُظهر الأمثلة التاريخية والمعاصرة التوتر بين هذه الرؤى العالمية، فإنها توضح أيضاً كيف اكتسب التفكير العلمي قبولاً تدريجياً، وغالباً ما دمج أو أعاد تفسير المفاهيم اللاهوتية في هذه العملية.

الحل والمصالحة التأمل في تحول الفهم

تكشف الرحلة التاريخية للعلم والدين عن تطور عميق في علاقتهما، اتسمت بفترات من الصراع والتباين والاتصال والتأكيد. ومن التأملات المهمة أن العوامل الاجتماعية والسياسية تلعب دوراً حاسماً في بناء ما يُقبل كمعرفة علمية. يعمل المجتمع العلمي ضمن إطار تاريخي حيث تُعدّ آليات مثل التدريب الأكاديمي وعمليات مراجعة الأقران أساسية لأفضل الممارسات، وقمع الآراء المنحرفة. سلّط عمل توماس كون الرائد، "بنية الثورات العلمية"، الضوء على الطابع الجماعي للمشروع العلمي، وهو وعيٌ كان محوريًا في تغيير الفهم.

الإرث والأثر المستمر

شكّل الحوار بين العلم والدين علاقتهما المعاصرة بشكل كبير. اقترح وينتزل فان هيوستن أن العلم والدين يمكن أن ينخرطا في ثنائيٍّ أنيق قائم على تداخلاتهما المعرفية، محافظين على مجالاتهما المتميزة، ولكنهما يتحاوران من خلال مناهج ومفاهيم وافتراضات مشتركة. يفتح هذا المنظور آفاقًا للتفاعل الهادف والإثراء المتبادل، متجاوزًا مجرد الصراع إلى فضاء من التفاهم التعاوني.

تقاطع العلم والدين

في هذا السياق العالمي، اتسمت العلاقة بين العلم والدين بالتنوع. وقد كشفت الأبحاث التي أجراها مركز بيو للأبحاث، والتي شملت مسلمين وهندوسًا وبوذيين في ماليزيا وسنغافورة، عن وجهات نظر متباينة حول كيفية ارتباط العلم بالدين. وتُبرز هذه المقابلات أن التفاعل بين العلم والدين ليس متجانسًا، بل هو غني السياق ومتعدد الأوجه. إضافةً إلى ذلك، فإن فكرة أن كلاً من المؤسسات الدينية والعلمانية يمكن أن تعزز السلوكيات الاجتماعية وغير الاجتماعية تزيد من تعقيد علاقتهما

المبادرة العلمية والكرامة الإنسانية

المبادرة العلمية ليست موضوعية بحتة، بل هي متشابكة بعمق مع القيم الإنسانية والكرامة. يُمثل العلم مجموعة من المعارف الأساسية ليس فقط للتطور الفكري، بل أيضًا للنمو الروحي. إن وحدة المعرفة، التي تربط بين العقل والإيمان، أمرٌ بالغ الأهمية للتنمية الشاملة للأفراد والمجتمعات. ويُعتبر نشر المعرفة العلمية حقًا، وتثقيف الجمهور بشأن التقدم العلمي واجبًا، مما يُبرز دور العلم في تحقيق الصالح العام وتعزيز التنمية البشرية.

***

د. جواد بشارة

.....................

المراجع

[1]: الثورة العلمية - ويكيبيديا

[2] تاريخ الصراع بين الدين والعلم - مشروع غوتنبرغ

[3]: حقائق ونظريات في العلم واللاهوت: تداعيات على...

[4]: كيف حارب غاليليو الكنيسة الكاثوليكية وأصبح أول نجم خارق...

[5]: غاليليو - ملخص سريع - مرصد الفاتيكان

[6]: أطروحة الصراع - ويكيبيديا

[7]: تصور الصراع بين العلم والدين - مركز بيو للأبحاث

[8]: ما يكشفه تاريخ العلم والدين عن الانقسامات المعاصرة...

[9]: العلم والكنيسة الكاثوليكية - ويكيبيديا

[10]: العلم ورسالة الكنيسة الكاثوليكية | Inters.org

[11]: الدين والعلم - موسوعة ستانفورد للفلسفة

[12]: الدين والعلم - موسوعة ستانفورد للفلسفة

[13]: تقييم المعتقدات المعرفية للخبراء والمبتدئين ... | SpringerOpen

[14]: تطوير مقياس المعتقدات الخارقة للطبيعة والخارقة للطبيعة باستخدام ...

[15]: حياة الخرافات المتعددة - جمعية العلوم النفسية

[16]: مركزية الشمس - ويكيبيديا

[17]: مركزية الأرض مقابل مركزية الشمس: خلافات قديمة

[18]: 10 اكتشافات علمية غيّرت العالم

[19]: العلاقة بين الدين والعلم - ويكيبيديا

[20]: حول تقاطع العلم والدين - مركز بيو للأبحاث

[21]: عندما يحل العلم محل الدين: العلم كسلطة علمانية

مقاربة تحليلية متعددة الأبعاد.. دراسة في البنية الاقتصادية والسياسية والثقافية والدولية

يشكل العراق المعاصر ساحةً مركبة للصراع الاجتماعي–الاقتصادي، حيث تتشابك فيه عوامل التاريخ والسياسة والاقتصاد والثقافة والموقع الجيو–استراتيجي، لتنتج حالة من التوتر المزمن بين الفئات الاجتماعية المختلفة. فمنذ التغيير السياسي عام 2003، انتقل العراق من نظام شمولي مركزي إلى منظومة تعددية شكلية، لكنها سرعان ما ارتكزت على بنية محاصصة طائفية–إثنية، أنتجت نظامًا سياسيًا هشًّا ومجزأً، وأعادت إنتاج التفاوتات الطبقية بأشكال جديدة.

ورغم أن هذا التحول منح مساحات حرية نسبية، فإنه أوجد في الوقت نفسه تحديات عميقة، أهمها استمرار الاقتصاد الريعي النفطي بوصفه المصدر الرئيسي لتمويل الدولة، دون أن يقترن بتنمية إنتاجية حقيقية. أدى ذلك إلى ترسيخ هيمنة نخب سياسية–اقتصادية محدودة تتحكم في توزيع الريع، عبر قنوات زبائنية مرتبطة بالولاءات الحزبية والطائفية، ما أدى إلى تهميش قطاعات واسعة من المجتمع، خاصة الشباب والطبقات العاملة والريفية.

إن فهم طبيعة هذا الصراع لا يمكن أن يتم من خلال بعد واحد فقط، بل يستلزم مقاربة تحليلية متعددة الأبعاد، تأخذ في الاعتبار التفاعل المعقد بين:

1. البعد الاقتصادي–الريعي: الذي يحدد من يملك الموارد ومن يُقصى عنها، ويكشف آليات إعادة إنتاج التبعية الداخلية من خلال توزيع الريع النفطي.

2. البعد السياسي–المؤسسي: الذي يوضح كيف تُبنى مؤسسات الدولة على أسس محاصصة، وكيف تُستخدم هذه المؤسسات كأدوات لإدامة النفوذ الحزبي لا لتقديم الخدمات العامة.

3. البعد الثقافي–الرمزي: الذي يبرز دور الإعلام والتعليم والخطاب الديني في إعادة تشكيل الوعي الجماعي، وتوجيهه نحو هويات فرعية تصرف الانتباه عن جوهر الصراع الطبقي–الاقتصادي.

4. البعد الدولي–العالمي: الذي يربط الواقع الداخلي لمجتمع ما بعد 2003 بموقع العراق في النظام الاقتصادي العالمي، وعلاقاته المعقدة مع القوى الإقليمية والدولية.

هذه الأبعاد لا تعمل في جزر معزولة، بل تتفاعل باستمرار في حلقة مغلقة من الاستغلال الداخلي والتبعية الخارجية، بحيث يظل أي جهد إصلاحي معرضًا للإعاقة ما لم يعالج هذه الأبعاد مجتمعة. وقد كشفت موجات الاحتجاج الشعبي، خصوصًا انتفاضة تشرين 2019، أن الوعي الشعبي بدأ يدرك الترابط بين فساد النخب، وطبيعة الاقتصاد الريعي، وأدوات الهيمنة الثقافية، وضغوط البيئة الدولية، لكن تحويل هذا الوعي إلى تغيير فعلي ما زال يواجه عقبات هيكلية عميقة.

تسعى هذه الدراسة إلى تقديم قراءة علمية محايدة، تستند إلى التحليل المادي–التاريخي في تفسير جذور الصراع، مع الانفتاح على أدوات التحليل التي تقدمها مدارس علم الاجتماع والسياسة الحديثة، بما فيها النظرية البنائية–الوظيفية، نظرية الصراع الحديثة، التفاعلية الرمزية، مدرسة فرانكفورت، نظرية النظم العالمية، ودراسات الحركات الاجتماعية الجديدة. الهدف هو إنتاج نموذج تفسيري متكامل يمكن أن يشكل إطارًا لفهم آليات إنتاج وإعادة إنتاج الصراع في العراق، وتحديد فرص تجاوزه نحو نموذج تنموي–سياسي أكثر عدالة واستدامة.

بهذا، لا تقدم الدراسة مجرد تحليل أكاديمي للوضع الراهن، بل تسعى أيضًا إلى رسم خريطة فكرية تساعد الباحثين وصناع القرار والمجتمع المدني على فهم البنية المعقدة للصراع، واستشراف مسارات الخروج من الحلقة المفرغة التي يعيشها العراق منذ عقود.

1. مدخل عام

- تسعى هذه الدراسة إلى تحليل بنية الصراع الاجتماعي–الاقتصادي في العراق بعد عام 2003، من خلال توظيف منهج التحليل المادي للتاريخ بوصفه أداة لفهم العلاقة بين البنية الاقتصادية (علاقات الإنتاج، ملكية الموارد، أنماط التوزيع) والبنية الفوقية (المؤسسات السياسية، الثقافة، الإعلام، الخطاب الديني). هذا المنهج ينطلق من فرضية أن التطورات السياسية والاجتماعية لا يمكن فصلها عن الأساس الاقتصادي الذي يقوم عليه المجتمع (عبد الجبار، 2002، ص. 44).

- ويرتبط ذلك بقراءة نقدية للمفاهيم الأخرى في العلوم الاجتماعية التي تقدم تفسيرات مختلفة أو موازية، مثل البنيوية–الوظائفية، نظرية الصراع الحديثة، التفاعلية الرمزية، نظرية النظم العالمية، ومدرسة فرانكفورت.

2. التحليل المادي للتاريخ في فهم الظواهر الاجتماعية

- يركز التحليل المادي للتاريخ على أن علاقات الإنتاج هي المحدد الأساسي لتوزيع السلطة والثروة داخل المجتمع. هذه العلاقات تتشكل وفق نمط الإنتاج السائد، وفي الحالة العراقية المعاصرة نجد أنفسنا أمام نمط إنتاج ريعي–تابع يعتمد على النفط كمصدر شبه وحيد للدخل، وهو ما يسهم في تكوين طبقة حاكمة تستمد قوتها من السيطرة على عوائد الريع لا من ملكية أو تطوير وسائل الإنتاج (الخفاجي، 2004، ص. 61).

- هذا التحليل يختلف عن النماذج الكلاسيكية في أن العراق لا يضم قاعدة صناعية كبيرة قادرة على إنتاج طبقة عاملة صناعية تقليدية، بل يضم خليطاً من موظفي الدولة، العاملين في الاقتصاد غير الرسمي، والشرائح الهامشية. وهو ما يفرض إعادة صياغة المفهوم الكلاسيكي للصراع الطبقي ليتلاءم مع الاقتصاد الريعي وسماته.

3. الاقتصاد الريعي كإطار مفسر

- يشير فالح عبد الجبار إلى أن الدولة الريعية "توزع الثروة المستخرجة من الموارد الطبيعية بدلاً من إنتاجها"، مما يجعل الدولة مستقلة نسبياً عن المواطنين في تمويل نفسها، ويضعف من إمكانية نشوء عقد اجتماعي يقوم على الضرائب مقابل التمثيل (عبد الجبار، 2002، ص. 47). هذه الخاصية تؤدي إلى:

‌أ) تمركز السلطة الاقتصادية في يد الدولة.

‌ب) تحول التوظيف والخدمات إلى أدوات ولاء سياسي.

‌ج) إضعاف الطبقة الوسطى المنتجة وإحلال طبقة ريعية–كمبرادورية محلها.

4. الهيمنة وإعادة إنتاج الوعي

- لا يقتصر الصراع الاجتماعي على السيطرة على الموارد، بل يمتد إلى السيطرة على المعنى والرمز. وهنا تأتي أهمية إدماج مفاهيم مثل الهيمنة الثقافية كما صاغها أنطونيو غرامشي، والتي تفيد بأن الطبقة الحاكمة تحافظ على سيطرتها من خلال بناء توافق ثقافي–أيديولوجي يُقنع الطبقات الدنيا بقبول الوضع القائم (غرامشي، 1992، ص. 131).

- في السياق العراقي، يتجلى ذلك في استخدام الطائفية والرموز الدينية والمناسبات القومية كأدوات لإعادة إنتاج الولاءات، وتحويل الانتباه بعيداً عن جوهر الصراع الطبقي (حداد، 2011، ص. 89).

5. توسيع منظور التحليل عبر المدارس الاجتماعية الحديثة

- إلى جانب التحليل المادي للتاريخ، سيتم اختبار صلاحية عدد من المدارس الاجتماعية في تفسير الظواهر العراقية:

‌أ) البنيوية–الوظائفية: ترى أن المجتمع نظام متكامل، كل مكون فيه يؤدي وظيفة للمحافظة على الاستقرار (بارسونز، 1967، ص. 54). يمكن هنا تفسير نظام المحاصصة الطائفية كبنية تؤدي وظيفة استقرار سطحي للنظام السياسي، رغم أنها تعمّق الانقسام الطبقي.

‌ب) نظرية الصراع الحديثة: تدمج مفاهيم مثل رأس المال الرمزي (بورديو) لفهم كيف تحافظ النخب على سلطتها من خلال الاحتكار الرمزي والاقتصادي معاً (بورديو، 1990، ص. 82).

‌ج) التفاعلية الرمزية: تركز على المعاني التي يسبغها الأفراد على سلوكهم، وهو ما يفسر كيف تتحول الرموز والشعارات الاحتجاجية إلى أدوات لإعادة تعريف الهوية الوطنية على أسس غير طائفية.

‌د) مدرسة فرانكفورت: تقدم تحليلاً نقدياً لدور الإعلام والثقافة الجماهيرية في ترسيخ الهيمنة، حيث يرى أدورنو وهوركهايمر أن صناعة الثقافة تحوّل الوعي الجمعي إلى أداة في يد السلطة (هوركهايمر وأدورنو، 1981، ص. 47).

‌ه) نظرية النظم العالمية: تضع العراق في موقع "الطرف" في النظام الاقتصادي العالمي، ما يفسر تبعيته الاقتصادية والتكنولوجية لمراكز الرأسمالية (والرشتاين، 2001، ص. 115).

6. التكامل النظري

- المنهج في هذه الدراسة يقوم على المادية التاريخية كأساس، مع الاستفادة من المدارس الأخرى لفهم الجوانب التي قد لا يغطيها التحليل الاقتصادي وحده، مثل دور الرموز، المعاني، والنظم العالمية. النتيجة المتوقعة هي إطار تفسيري متعدد الأبعاد، يجمع بين تحليل البنية التحتية (الاقتصاد وعلاقات الإنتاج) والبنية الفوقية (الثقافة، السياسة، الإعلام)

7. الخلفية التاريخية للتحولات الطبقية في العراق (1921–2003)

7.1. العهد الملكي (1921–1958): اقتصاد شبه إقطاعي ونشوء البورجوازية التجارية

- تأسس النظام الملكي في العراق تحت الانتداب البريطاني على قاعدة اقتصادية يغلب عليها الطابع الزراعي، حيث سيطرت طبقة كبار الملاّك وشيوخ العشائر على الأراضي الزراعية الخصبة، خصوصاً في وسط وجنوب البلاد. كان الفلاحون يشكلون النسبة الأكبر من السكان، ويعانون من علاقات إنتاج شبه إقطاعية قائمة على الإيجار العيني والعمل بالسخرة، مع غياب شبه تام للخدمات الأساسية في الريف (بطاطو، 1978، ص. 43).

- في المدن، ظهرت بورجوازية تجارية مرتبطة بالموانئ والأسواق المحلية، وكانت تعتمد على الاستيراد وتوزيع السلع الاستهلاكية المستوردة من بريطانيا والهند، دون أن تطور قاعدة صناعية محلية تُذكر (بطاطو، 1978، ص. 112). أدى هذا إلى نشوء طبقة وسطى محدودة تمثلت في موظفي الدولة، المعلمين، وصغار التجار.

7.2. الجمهورية الأولى (1958–1968): الإصلاح الزراعي وصعود الدولة التنموية

- أحدثت ثورة 14 تموز 1958 تحولات كبيرة في البنية الطبقية من خلال الإصلاح الزراعي الذي حدّ من نفوذ كبار الملاّك، ووزع جزءاً من الأراضي على الفلاحين (عبد الجبار، 2002، ص. 51). كما توسع دور الدولة في الاقتصاد، فأنشأت مصانع حكومية في مجالات النسيج، الصناعات الغذائية، والإسمنت، مما أدى إلى ظهور طبقة عاملة صناعية ناشئة في المدن الكبرى.

- في هذه المرحلة، بدأت الطبقة الوسطى بالنمو مستفيدة من التوسع في التعليم والتوظيف الحكومي، إلا أن ضعف الخبرة الصناعية، إضافة إلى الصراعات السياسية والانقلابات المتتالية، حدّ من استقرار هذه التحولات (الخفاجي، 2004، ص. 77).

7.3. الجمهورية الثانية (1968–2003): الدولة الريعية وتضخم البيروقراطية

- مع وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1968، اتجهت الدولة إلى تأميم النفط عام 1972، ما أدى إلى تضاعف العوائد النفطية بشكل كبير (عبد الجبار، 2002، ص. 94). استخدمت هذه العوائد في تمويل مشاريع البنية التحتية، توسيع التوظيف الحكومي، وتوفير خدمات صحية وتعليمية مجانية، مما عزز مكانة الدولة كـ أكبر رب عمل في البلاد.

- لكن هذا النمط أدى أيضاً إلى ريعية الاقتصاد، إذ أصبحت الدولة المصدر الرئيسي للثروة، وانكمش القطاع الخاص الإنتاجي لصالح قطاع خدماتي وتجاري يعتمد على الاستيراد (الخفاجي، 2004، ص. 102).

- خلال الحرب العراقية–الإيرانية (1980–1988)، تحولت الدولة إلى اقتصاد حرب، فزادت عسكرة المجتمع وتراجعت الاستثمارات المدنية. ومع حرب الخليج الثانية (1991) وفرض الحصار الاقتصادي، انهارت معظم مؤسسات الدولة، وتقلصت الطبقة الوسطى نتيجة التضخم والبطالة، بينما توسع اقتصاد الظل والأنشطة غير الرسمية (MERIP، 1995، ص. 6).

8. ملامح البنية الطبقية عشية 2003

- عشية الغزو الأميركي، كان المجتمع العراقي يتسم بما يلي:

‌أ) طبقة حاكمة بيروقراطية–عسكرية متمركزة في جهاز الدولة والحزب.

‌ب) طبقة وسطى متآكلة تعتمد على الرواتب الحكومية المتدنية.

‌ج) طبقات شعبية واسعة تعيش على هامش الاقتصاد الرسمي، بما في ذلك العمال غير النظاميين، صغار الحرفيين، والمزارعين المتضررين من الإهمال الزراعي.

‌د) اعتماد شبه كامل على النفط كمصدر للدخل، مما جعل بنية الاقتصاد شديدة الهشاشة أمام أي صدمات خارجية.

- هذه الخلفية التاريخية تمهد لفهم أن الصراع الاجتماعي–الاقتصادي في العراق بعد 2003 لم ينشأ من فراغ، بل هو امتداد لتحولات طبقية ممتدة منذ العهد الملكي، لكنها أخذت بعداً جديداً في ظل الدولة الريعية المنهارة والاقتصاد النيوليبرالي المفروض بعد الاحتلال.

9. الصراع الاجتماعي–الاقتصادي في العراق بعد 2003: قراءة في ضوء التحليل المادي للتاريخ

9.1. ملامح التحول بعد 2003

- أدى الغزو الأميركي للعراق في نيسان 2003 إلى انهيار الدولة المركزية وتفكيك مؤسساتها الأساسية، خصوصاً الجيش وأجهزة الأمن، بموجب سياسات سلطة الائتلاف المؤقتة بقيادة بول بريمر. ترافق ذلك مع تبني إصلاحات نيوليبرالية سريعة تمثلت في فتح السوق للاستيراد الكامل، خصخصة بعض الأصول، وإلغاء التعرفة الجمركية تقريباً (MERIP، 2004، ص. 12).

- في ظل غياب جهاز دولة قادر على تنظيم السوق وحماية الإنتاج المحلي، ازداد الاعتماد على الواردات الاستهلاكية، وتراجعت الزراعة والصناعة بشكل حاد، مما عمّق الطابع الريعي للاقتصاد.

9.2. تشكّل الطبقة الحاكمة الجديدة

‌أ) البورجوازية الكومبرادورية الريعية

- برزت بعد 2003 طبقة حاكمة جديدة تتكون من زعماء الأحزاب السياسية الطائفية، قادة الميليشيات، كبار المسؤولين، ورجال الأعمال المرتبطين بالسلطة. هذه الطبقة لا تستمد ثروتها من الإنتاج، بل من السيطرة على آليات توزيع الريع النفطي عبر عقود حكومية، المنافذ الحدودية، وشبكات الفساد (الخفاجي، 2004، ص. 113).

- يصف فالح عبد الجبار هذه الظاهرة بأنها "تحويل الدولة إلى غنيمة سياسية واقتصادية بيد تحالفات حزبية–عسكرية" (عبد الجبار، 2009، ص. 76).

‌ب) آليات الهيمنة

1) التحكم بالموارد العامة: السيطرة على العقود النفطية والمشاريع الحكومية.

2) الزبائنية السياسية: توزيع الوظائف والمنافع وفق الولاء الحزبي والطائفي.

3) العنف المنظم: امتلاك فصائل مسلحة كأداة قمع وترهيب.

9.3. الطبقات الشعبية وأشكال الاستغلال

‌أ) الشرائح الأساسية

- الشباب العاطل عن العمل، حيث تجاوزت البطالة في بعض السنوات 40% بين الفئة العمرية 15–29 (الجهاز المركزي للإحصاء، 2018، ص. 33).

- الموظفون الصغار برواتب منخفضة وقوة شرائية متراجعة بفعل التضخم.

- العمال غير النظاميين بلا حماية اجتماعية أو تأمين صحي.

- المزارعون الذين تضرروا من الإهمال الحكومي والاستيراد العشوائي.

‌ب) من فائض القيمة إلى الحرمان من الريع

- في التحليل المادي للتاريخ، يتم الاستغلال تقليدياً عبر انتزاع فائض القيمة من العمل المأجور. لكن في العراق، تتخذ العملية شكلاً مغايراً، إذ يجري حرمان الغالبية من نصيبها في الثروة الوطنية، وخاصة عوائد النفط، من خلال سياسات توزيع زبائنية وفساد منهجي.

10. الطائفية كأداة لإعادة إنتاج الانقسام

- بعد 2003، فُرض نظام المحاصصة الطائفية ليكون إطاراً لتقاسم السلطة والثروة بين النخب، وفق تقسيم عمودي (شيعة–سنة–كرد)، بدلاً من الانقسام الأفقي الطبيعي بين طبقة حاكمة وطبقات محكومة (حداد، 2011، ص. 102).

- هذا النظام أدى إلى تفتيت الطبقة العاملة والمهمشين على أسس هوياتية، ومنع نشوء وعي طبقي موحد، رغم أن النخب – رغم صراعاتها السياسية – متحدة في الدفاع عن مصالحها الاقتصادية.

11. التحليل الثقافي–الإعلامي للهيمنة

- يتضح من منظور مدرسة فرانكفورت أن الإعلام بعد 2003 لعب دوراً محورياً في إعادة إنتاج الهيمنة، من خلال:

‌أ) تضخيم الخطاب الطائفي وتحويله إلى إطار مفسر للأحداث.

‌ب) تهميش أو تشويه الخطاب الاحتجاجي ذي الطابع الطبقي.

‌ج) ربط الشرعية السياسية بالدين أو الانتماء القومي، لا بالأداء الاقتصادي.

- كما أن التعليم ظل عاجزاً عن بناء وعي نقدي، إذ تم إفراغ المناهج من أي محتوى اجتماعي–اقتصادي تحليلي.

12. انتفاضة تشرين 2019: لحظة كسر القناع الطائفي

12.1.  خصائص الانتفاضة

- انتفاضة تشرين مثّلت نقطة تحول حين خرجت جماهير واسعة بشعارات مثل "نريد وطن" و"باسم الدين باكونا الحرامية"، رافضةً القسمة الطائفية ومركزةً على العدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد (Jadaliyya، 2020، ص. 4). وكان غالبية المشاركين كانوا من الشباب العاطلين والطبقات الشعبية المهمشة.

12.2. نقاط القوة والضعف

‌أ) القوة: الطابع العابر للطوائف، المطالب الاجتماعية الواضحة.

‌ب) الضعف: غياب قيادة موحدة، القمع الدموي، واستعادة النخب لخطاب الطائفية.

13. العوامل المعيقة للتغيير

‌أ) احتكار السلاح بيد الفصائل المسلحة.

‌ب) التدخلات الإقليمية والدولية التي تؤطر الصراع داخلياً كمنافسة نفوذ.

‌ج) ضعف التنظيم السياسي لدى الحركات الاحتجاجية.

‌د) إعادة إنتاج الوعي الزائف عبر الإعلام والتعليم والخطاب الديني.

14. الخلاصة المرحلية

- الصراع في العراق بعد 2003 هو صراع اجتماعي–اقتصادي مقنّع بخطاب طائفي، حيث تسيطر طبقة حاكمة ريعية–كمبرادورية على الدولة وتمنع نشوء وعي طبقي جامع. هذا النمط يرسخ اقتصاد التبعية، ويعيد إنتاج الانقسام عبر أدوات سياسية وثقافية متشابكة.

الفصل المقارن: مقاربات تفسير الصراع الاجتماعي–الاقتصادي في العراق

1. التحليل المادي للتاريخ كأساس

- يرتكز التحليل المادي للتاريخ على الربط الجدلي بين البنية التحتية (علاقات الإنتاج، ملكية الموارد، توزيع الثروة) والبنية الفوقية (المؤسسات السياسية، الثقافة، الأيديولوجيا). ويؤكد على أن التغيرات في البنية الاقتصادية تقود، على المدى الطويل، إلى تغيرات في البنية السياسية والثقافية (عبد الجبار، 2002، ص. 44).

- في الحالة العراقية، يوفر هذا التحليل تفسيراً مباشراً لهيمنة طبقة ريعية–كمبرادورية تتحكم في الريع النفطي وتعيد إنتاج سلطتها عبر أدوات سياسية وثقافية.

2. البنيوية–الوظائفية

‌أ) المدخل النظري: ترى هذه المدرسة، كما صاغها تالكوت بارسونز، أن المجتمع نظام متكامل تتعاون مؤسساته للحفاظ على الاستقرار (بارسونز، 1967، ص. 54).

‌ب) الإسقاط على العراق: يمكن تفسير نظام المحاصصة الطائفية كبنية تؤدي وظيفة استقرار ظاهري للنظام السياسي، إذ تمنع انهياره السريع عبر تقاسم السلطة بين النخب.

‌ج) التقييم مقارنة بالمادية التاريخية القوة: تفسر كيف يستمر النظام رغم فشله التنموي.

القصور: تتجاهل جذور الصراع الاقتصادي وتكتفي بوصف وظائف البنى القائمة، ما يجعلها أقل قدرة على كشف آليات الاستغلال.

3. نظرية الصراع الحديثة

‌أ) المدخل النظري: تطورت من الفكر المادي للتاريخ لكنها أضافت مفاهيم مثل رأس المال الرمزي ورأس المال الاجتماعي (بورديو، 1990، ص. 82)، لشرح كيف تحافظ النخب على سلطتها ليس فقط عبر الثروة، بل عبر السيطرة على الثقافة والتعليم والشبكات الاجتماعية.

‌ب) الإسقاط على العراق: النخب العراقية لا تحتكر الريع النفطي فقط، بل تحتكر أيضاً الشرعية الرمزية من خلال السيطرة على الإعلام والخطاب الديني.

‌ج) التقييم: القوة: توسع التحليل ليشمل الثقافة والرموز.

القصور: قد تفقد الصلة بالتحليل الاقتصادي العميق إذا استخدمت بمعزل عن البنية الإنتاجية.

4. التفاعلية الرمزية

‌أ) المدخل النظري: تركز على أن المعاني التي يسبغها الأفراد على سلوكهم هي التي تحدد العلاقات الاجتماعية (بلومر، 1969، ص. 12).

‌ب) الإسقاط على العراق: الطائفية تُفهم هنا كـ"معنى" أو "هوية" تُبنى عبر التفاعل اليومي والرموز (الشعارات، الأعلام، المناسبات)، بينما انتفاضة تشرين أنتجت رموزاً مضادة كـ"نريد وطن".

‌ج) التقييم القوة: توضح دور الرموز في الصراع.

القصور: لا تقدم تفسيراً مادياً لسبب استمرار هذه الرموز وهيمنتها.

5. مدرسة فرانكفورت (النظرية النقدية)

‌أ) المدخل النظري: تركز على نقد صناعة الثقافة ودورها في إعادة إنتاج الهيمنة (هوركهايمر وأدورنو، 1981، ص. 47).

‌ب) الإسقاط على العراق: الإعلام الحزبي والطائفي يوظف الأغاني، المسلسلات، والخطاب الديني لصرف الانتباه عن قضايا الفقر والبطالة.

‌ج) التقييم القوة: تكشف العلاقة بين الثقافة والهيمنة السياسية.

القصور: إذا لم تُدمج مع التحليل الاقتصادي، قد تظل على مستوى نقد الخطاب فقط.

6. نظرية النظم العالمية

‌أ) المدخل النظري: طورها إيمانويل والرشتاين، وتضع الدول ضمن تقسيم عمل عالمي بين مراكز، شبه مراكز، وأطراف (والرشتاين، 2001، ص. 115).

‌ب) الإسقاط على العراق: العراق في موقع "طرف ريعي" يصدر النفط ويستورد معظم احتياجاته، ما يعزز التبعية ويحد من الاستقلال الاقتصادي.

‌ج) التقييم القوة: تربط الصراع الداخلي بالاقتصاد العالمي.

القصور: قد تهمل الديناميكيات الداخلية إذا ركزت فقط على العلاقات الدولية.

7. الحركات الاجتماعية الجديدة

‌أ) المدخل النظري: تركز على الهوية والحقوق الثقافية والبيئية أكثر من الصراع الاقتصادي المباشر (ميلوتشي، 1996، ص. 34).

‌ب) الإسقاط على العراق: انتفاضة تشرين، وحركات النساء، والمبادرات البيئية تمثل أشكالاً من هذه الحركات، إذ تسعى لإعادة تعريف الهوية الوطنية.

‌ج) التقييم القوة: تبرز أهمية البعد الثقافي في التغيير.

القصور: تفتقر أحياناً إلى برنامج اقتصادي واضح.

الفصل الختامي: التحليل التكاملي والتوصيات

1. التحليل التكاملي

- يظهر من خلال المقارنة أن التحليل المادي للتاريخ يظل الإطار الأكثر قدرة على كشف الجذور الاقتصادية للصراع في العراق، من خلال تركيزه على علاقات الإنتاج، الملكية، وتوزيع الريع النفطي. فهو يفسر بوضوح لماذا تسيطر طبقة ريعية–كمبرادورية على الدولة، ولماذا تستمر في إعادة إنتاج سلطتها رغم الأزمات المتكررة (عبد الجبار، 2002، ص. 44).

- لكن هذا الإطار يكتسب قوة تفسيرية أكبر عندما يُدمج مع مخرجات المدارس الاجتماعية الأخرى:

‌أ) من البنيوية–الوظائفية نتعلم فهم كيف تستمر المؤسسات الطائفية في أداء "وظيفة استقرار شكلي"، حتى لو كان هذا الاستقرار على حساب العدالة الاجتماعية (بارسونز، 1967، ص. 54).

‌ب) من نظرية الصراع الحديثة نستفيد من تحليل رأس المال الرمزي والثقافي الذي تحتكره النخب، وهو ما يفسر قدرتها على كسب الولاءات رغم فشلها الاقتصادي (بورديو، 1990، ص. 82).

‌ج) من التفاعلية الرمزية ندرك أن المعركة الطبقية ليست فقط على الثروة، بل أيضاً على الرموز والمعاني التي تحدد الهوية والانتماء (بلومر، 1969، ص. 12).

‌د) من مدرسة فرانكفورت نحصل على أدوات لفهم دور الإعلام وصناعة الثقافة في ترسيخ الهيمنة وصرف الانتباه عن القضايا الاقتصادية (هوركهايمر وأدورنو، 1981، ص. 47).

‌ه) من نظرية النظم العالمية نرى أن الاقتصاد الريعي العراقي مرتبط عضوياً بموقعه الهامشي في الاقتصاد العالمي (والرشتاين، 2001، ص. 115).

‌و) من الحركات الاجتماعية الجديدة نكتشف أهمية البعد الهوياتي والثقافي في تحريك الجماهير، كما في حالة انتفاضة تشرين.

2. نحو نموذج تفسيري متكامل لفهم الصراع في العراق

- يمثل الصراع في العراق بعد 2003 حالة معقدة يصعب تفسيرها من خلال بعد واحد فقط، إذ تتداخل فيها العوامل الاقتصادية والسياسية والثقافية والدولية بشكل عضوي. ومن ثم، فإن النموذج التفسيري الأكثر دقة هو نموذج متعدد الأبعاد يجمع بين أربعة مستويات رئيسية، على النحو التالي:

‌أ) البعد الاقتصادي–الريعي:  في قلب هذا النموذج يقع الاقتصاد الريعي النفطي، حيث يشكل النفط أكثر من 90% من الإيرادات الحكومية وقرابة 60% من الناتج المحلي الإجمالي (الجهاز المركزي للإحصاء، 2018، ص. 33).

- ملكية الموارد: النفط ملكية عامة بحكم الدستور، لكن السيطرة الفعلية عليه بيد شبكة محدودة من النخب الحاكمة، التي توزع عوائده عبر قنوات زبائنية تخدم الولاء السياسي لا الكفاءة أو الحاجة.

- الإقصاء الاقتصادي: الغالبية العظمى من المواطنين، خصوصاً الشباب العاطلين والعمال غير النظاميين، محرومون من الاستفادة الحقيقية من هذه العوائد. فبدلاً من توظيف الريع في بناء قاعدة إنتاجية صناعية أو زراعية، يُستهلك في الرواتب الريعية والمشاريع الوهمية والعقود الفاسدة (عبد الجبار، 2009، ص. 76).

- إعادة إنتاج التبعية: اعتماد العراق المفرط على النفط يجعله عرضة لتقلبات أسعار الطاقة العالمية، ما يعني أن أي هبوط في الأسعار يؤدي مباشرة إلى أزمات مالية واجتماعية.

- الخلاصة الاقتصادية: الصراع هنا يتمحور حول من يملك حق التحكم في الريع النفطي، وكيف يتم استبعاد الأغلبية من المشاركة في إنتاجه أو الانتفاع به.

‌ب) البعد السياسي–المؤسسي: يتمظهر هذا البعد في نظام المحاصصة الطائفية والإثنية الذي أُقر بعد 2003، والذي وزع السلطة والثروة على أساس الانتماء المذهبي أو القومي بدلاً من الكفاءة أو التمثيل العادل.

- آلية التوزيع: المؤسسات السيادية والإدارية تُقسم بين الكتل السياسية وفق اتفاقات ما بعد الانتخابات، ويُترجم ذلك إلى تقاسم الحقائب الوزارية، المناصب العليا، والعقود الحكومية.

- إضعاف الدولة: هذا النظام يجعل الوزارات والمؤسسات أدوات نفوذ حزبي، حيث يدير الوزير الوزارة لصالح كتلته لا لصالح الدولة. النتيجة هي بيروقراطية مسيّسة وفاسدة.

- إقصاء المعارضين: من لا يندمج في منظومة الولاءات الطائفية–الحزبية يجد نفسه خارج دوائر النفوذ، ما يعمق الإقصاء الاجتماعي والسياسي (حداد، 2011، ص. 102).

- الخلاصة السياسية: البنية المؤسسية في العراق ما بعد 2003 ليست حيادية أو جامعة، بل هي أداة لإعادة إنتاج هيمنة النخب عبر قنوات توزيع السلطة والموارد.

‌ج) البعد الثقافي–الرمزي: هذا البعد يوضح كيف تُعاد صياغة الولاءات والانتماءات من خلال الإعلام، التعليم، والخطاب الديني.

- الإعلام: القنوات الفضائية والصحف الحزبية تضخم الروايات الطائفية وتُهمش الخطاب الطبقي أو الوطني الجامع، وتعيد تأطير الأزمات الاقتصادية بصيغة صراع هوياتي.

- التعليم: المناهج الدراسية في كثير من الأحيان تتجنب التحليل النقدي للتاريخ الاجتماعي والاقتصادي، وتكتفي بسرديات انتقائية تعزز الهوية الطائفية أو القومية.

- الدين: يتم توظيف الرموز والشعائر الدينية كمصادر شرعية سياسية، ما يخلق "رأس مال رمزي" للنخب يمكنها من كسب الولاء الشعبي حتى في ظل الفشل التنموي (بورديو، 1990، ص. 82).

- الخلاصة الثقافية: الصراع على الوعي والمعنى هو ساحة مركزية في العراق، إذ تستخدم النخب أدوات الثقافة والإعلام لترسيخ وعي زائف يحجب جوهر الصراع الطبقي.

‌د) البعد الدولي–العالمي: لا يمكن فهم الصراع الداخلي بمعزل عن الموقع الجيو–اقتصادي للعراق في النظام العالمي.

- اقتصاد الطرف: وفق تحليل النظم العالمية، العراق يقع في موقع "الطرف" الذي يصدّر المواد الخام (النفط) ويستورد السلع المصنعة، مما يعزز التبعية الاقتصادية (والرشتاين، 2001، ص. 115).

- التدخلات الإقليمية والدولية: النفوذ الإيراني، الأميركي، الخليجي، والتركي يتقاطع مع مصالح النخب المحلية، ما يجعل الصراع الداخلي في كثير من الأحيان انعكاساً لصراعات إقليمية ودولية على الموارد والموقع الاستراتيجي.

- النيوليبرالية المفروضة: السياسات الاقتصادية التي فُرضت بعد الاحتلال – مثل تحرير التجارة وخصخصة بعض القطاعات – جعلت الاقتصاد أكثر انفتاحاً على رأس المال العالمي، ولكن دون حماية إنتاجية محلية، ما فاقم هشاشة البنية الاقتصادية.

- الخلاصة الدولية: الصراع في العراق ليس فقط بين فئات داخلية، بل هو أيضاً نتاج موقعه التابع في الاقتصاد العالمي وتنافس القوى الكبرى عليه.

النتيجة العامة للنموذج

- هذا النموذج التفسيري متعدد الأبعاد يُظهر أن بقاء العراق في حلقة مفرغة من الاستغلال الداخلي والتبعية الخارجية هو نتيجة تفاعل هذه الأبعاد الأربعة معاً:

‌أ) البعد الاقتصادي يحدد من يملك الموارد.

‌ب) البعد السياسي يحدد من يوزع السلطة.

‌ج) البعد الثقافي يحدد كيف يُقنع الناس بقبول الوضع القائم.

‌د) البعد الدولي يحدد حدود الاستقلال وقدرة العراق على تغيير قواعد اللعبة.

- إن أي محاولة لكسر هذه الحلقة تتطلب استراتيجية شاملة تعالج الأربعة أبعاد في آن واحد، وليس بُعداً واحداً فقط.

التوصيات

أ. على المستوى المعرفي

1. تعزيز البحث الأكاديمي النقدي حول الاقتصاد الريعي، مع توسيع الدراسات الميدانية حول توزيع الريع وتأثيره على البنية الطبقية.

2. إعادة إدماج التحليل المادي للتاريخ في مناهج العلوم الاجتماعية بطريقة محايدة وغير أيديولوجية، لتدريب الباحثين على فهم العلاقة بين الاقتصاد والسياسة والثقافة.

ب. على المستوى السياسي

1. إصلاح النظام السياسي باتجاه تقليل الاعتماد على المحاصصة الطائفية وتوسيع التمثيل على أسس مصلحية–اجتماعية.

2. تعزيز النقابات ومنظمات المجتمع المدني كأدوات للتعبئة الطبقية العابرة للهويات الطائفية.

ج. على المستوى الاقتصادي

1. تنويع مصادر الدخل للحد من الاعتماد على النفط.

2. إعادة بناء القطاع الإنتاجي (الزراعة والصناعة) لتقوية الطبقة العاملة وتوسيع الطبقة الوسطى.

د. على المستوى الثقافي–الإعلامي

1. إصلاح المنظومة الإعلامية لتقليل هيمنة الخطاب الطائفي.

2. تطوير المناهج التعليمية لتشمل التفكير النقدي وفهم البنية الاجتماعية–الاقتصادية.

خاتمة عامة " إن الصراع الاجتماعي–الاقتصادي في العراق بعد 2003 لا يمكن فهمه إلا من خلال الجمع بين التحليل المادي للتاريخ وغيره من المقاربات الحديثة، بما يتيح رؤية متعددة الأبعاد تربط الاقتصاد بالسياسة والثقافة والموقع الدولي. هذا الدمج لا يعني التخلي عن الأساس المادي للتحليل، بل توسيعه ليشمل أدوات تفسير تكشف آليات الهيمنة وسبل مقاومتها على المستويين الداخلي والخارجي.

***

خليل إبراهيم كاظم الحمداني

باحث في مجال حقوق الانسان

............................

قائمة المراجع النهائية

المصادر العربية

- عبد الجبار، فالح. 2002. الدولة المستحيلة: العراق، السياسة والمجتمع منذ 1979. بيروت: دار الساقي.

- عبد الجبار، فالح. 2009. العمامة والعمامة المضادة: الحركات الدينية في العراق. بيروت: دار الساقي.

- الخفاجي، عصام. 2004. تشكل الطبقات في العراق الحديث. بغداد: دار الحكمة.

- بطاطو، حنا. 1978. الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق: دراسة في التاريخ الاجتماعي والسياسي. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية.

- حداد، فنر. 2011. الطائفية في العراق: رؤى متنازعة للوحدة. بيروت: دار الساقي.

- الجهاز المركزي للإحصاء. 2018. المسح الاجتماعي والاقتصادي للأسرة العراقية. بغداد: وزارة التخطيط.

- مركز أبحاث الشرق الأوسط (MERIP). 1995. "العراق بعد حرب الخليج: إعادة تشكيل الاقتصاد السياسي". مجلة تقارير الشرق الأوسط، العدد 195.

- مركز أبحاث الشرق الأوسط (MERIP). 2004. "اقتصاد العراق في ظل الاحتلال". مجلة تقارير الشرق الأوسط، العدد 231.

المصادر الأجنبية المترجمة أو المستشهد بها

- بارسونز، تالكوت. 1967. النظام الاجتماعي. ترجمة: محمد الجوهري. القاهرة: دار المعارف.

- بورديو، بيير. 1990. رأس المال الثقافي والرمزي. ترجمة: أحمد حسان. القاهرة: المركز القومي للترجمة.

- بلومر، هربرت. 1969. التفاعلية الرمزية: منظور وتطبيق. ترجمة: عبد الباسط عبد المعطي. القاهرة: دار المعرفة الجامعية.

- هوركهايمر، ماكس، وثيودور أدورنو. 1981. جدل التنوير: شذرات فلسفية. ترجمة: فالح عبد الجبار. بيروت: دار الساقي.

- غرامشي، أنطونيو. 1992. كراسات السجن. ترجمة: فالح عبد الجبار. بيروت: دار الفارابي.

- والرشتاين، إيمانويل. 2001. تحليل النظم العالمية: مدخل إلى الاقتصاد السياسي للتاريخ. ترجمة: أحمد حسان. القاهرة: المركز القومي للترجمة.

- ميلوتشي، ألبرتو. 1996. تحديات الحركات الاجتماعية. ترجمة: حسن نصر. بيروت: المنظمة العربية للترجمة.

مصادر من الدوريات الإلكترونية

- Jadaliyya. 2020. "Iraq’s Tishreen Uprising: Between Hope and Repression." Jadaliyya Articles.

- Middle East Report (MERIP). 2019–2021. مقالات متنوعة حول السياسة والمجتمع في العراق.

للإنسان العربي المعاصر..تأملات سوسيولوجية – نقدية

- (القهر الاجتماعي هو الوجه غير المرئي للسلطة؛ يتسلّل إلى الوعي ويعيد تشكيله دون قسر مباشر).

- (في المجتمعات القهرية، يُختزل الإنسان في موقعه الطبقي، لا في إمكاناته).

- (يُعاد إنتاج القهر كلما غاب الوعي النقدي وحل محله الامتثال الثقافي الجمعي). (الكاتب)

- المقدمة:

في خضم التحولات العاصفة التي تشهدها المجتمعات العربية المعاصرة، تتجلى ظواهر القهر الاجتماعي بوصفها مكوناً بنيوياً مهيمناً يعيد إنتاج ذاته داخل شبكات السلطة والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فالقهر في هذا السياق لا يختزل في صور العنف المادي المباشر فحسب، بل يتجلى أيضاً في أشكال رمزية ومعنوية دقيقة، تتسلل إلى تفاصيل الحياة اليومية، وتنتظم ضمن مؤسسات الدولة، والتعليم، والأسرة، والإعلام، والدين. ومن هنا تنبع الحاجة الملحة إلى مساءلة هذا القهر سوسيولوجياً، لا بوصفه حالة طارئة أو عرضاً سياسياً عابراً، بل كآلية مُمَأسَسة تتغذى من تاريخ طويل من السلطوية والتفاوت الطبقي والبطريركية، وتعيد إنتاجها باستمرار.

إن استدعاء الرؤى السوسيولوجية النقدية يتيح تفكيك البنى التي تنتج القهر وتشرعنه، ويفضح الطرق التي يتم بها تمرير الهيمنة من خلال أنماط التفكير والعادات والمؤسسات. فالقهر هنا ليس مجرد قيدٍ على الجسد أو الفكر، بل هو نمط معيش يومي يترسخ في الوعي، ويحول دون تشكّل الذات الحرة.

وتزداد أهمية هذا الطرح في السياق العربي الراهن، حيث تتقاطع الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية مع إرث النظم الاستبدادية، مما يجعل من دراسة القهر الاجتماعي ضرورة علمية لفهم تعقيدات البنية العربية الحالية، واستشراف آفاق المواطنة والعدالة الاجتماعية والتحول الديمقراطي الحقيقي. لذا يسعى هذا المقال إلى تقديم قراءة نقدية معمقة لآليات القهر الاجتماعي في المجتمعات العربية، من خلال مساءلة البنى الاجتماعية السائدة، وتفكيك أنساق الهيمنة الثقافية والسياسية التي تُطوِّق الإنسان العربي وتكبل حركته التاريخية. بناءً على ما سبق سنحاول تحليل ونقد تمظهرات القهر الاجتماعي في المجتمعات العربية المعاصرة من خلال مناقشة العناصر التالية:

أولاً- في مفهوم القهر الاجتماعي:

إن الباحث السوسيولوجي النقدي المدقق في وجوه أفراد المجتمع المقهور عبر الشوارع والأزقة، وفي الأسواق، وفي علاقاتهم اليومية، سوف يصل إلى نتيجة حتمية مفادها أن مظاهر الكبت والقلق والخوف والقهر الاجتماعي تسيطر على معظم سلوكياتهم وتصرفاتهم، فأصوات الشجار والصراع الاجتماعي تعلو لأتفه الأسباب، وكثير من المشكلات الاجتماعية تطفو على السطح تدلنا على وجود شرخ عميق وخلل كبير في أنساق البناء الاجتماعي.

يعتبر القهر الاجتماعي سبباً مباشراً لكثير من السلوكيات الخطيرة التي تشكل بمجموعها ما نستطيع تسميته بـ: (مجتمع المقهورين)، الذين يسعون إلى إثبات (الأنا الشخصية) بأية طريقة، وبأية وسيلة مسموح بها، أو غير مسموح مما أدى إلى ظهور عادة " العنتريات والعنجهية "، التي تتجلى في القفز فوق القانون، وفي تسخير الناس لحوائج  (المواطن العنتري)، وتترافق عادة العنتريات مع مظهر العضلات المفتولة، والشوارب، وهذا كله مؤشر على حاجة المواطن إلى إبراز وجوده في مجتمع تربى على كونه مجرد رقم في إحصائيات الدوائر الرسمية للدول.

- تفكيك مفهوم القهر الاجتماعي (متعدد الأبعاد): لغوياً قهَرَ يَقْهَر، قَهْراً، فهو قاهِر، والمفعول مَقْهور. قهَر الشّخصَ احتقره، تسلّط عليه بالظّلم: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ}. قهَر الجَيْشُ العَدُوَّ: غَلَبَه: فالشّجاعة تقهر البؤس. قهَرَ غرائزَه: سيطر عليها. يقال لا يُقْهَر: منيع لا يُهزَم. كما يقال قهَره على الاعتراف بجريمته: أي أجبره على الاعتراف. أسباب، ظروف قاهرة. ويقال أَخَذْتُهُم قَهْراً: أَي من غير رضاهم. أخرجه قهْراً: جبراً واضطراراً. القَهْرُ: الغَلَبة والأَخذ من فوق. اصطلاحاً هو شعور الإنسان بالقمع نتيجة سيطرة القوة عليه، أهم ما يميزه هو القمع من ناحية الأفكار والمشاعر مصادرة إرادته وحريته بالتعبير عن رأيه فيشعر الإنسان باحتقار الذات والرضوخ والتبعية للجهة التي تمارس عليه القهر. فلسفياً هو العوامل اللصيقة التي تجبر الإنسان على ما لا يرغبه، أو تحول دونه وما يرغبه. قهر الذات هو قهر مغزاه كون الذات إطار لا فكاك من ممارسة الوجود من خلاله، وقهر المكان هو قهر آتٍ من كل ما هو كائن حولنا ويهدف إلى تحديد مساحة أو كثافة وجودنا في اللحظة، وقهر الزمان هو قهر يحتمه كون الذات الكائنة في جزء من المكان هي حدث مؤقت على محور سابق عليها لا حق بها وهو محور الزمان. سوسيولوجياً يقصد بالقهر الاجتماعي تجربة الظلم الممنهجة والمتكررة باستمرار والمنتشرة انتشاراً واسعاً، وهذه التجربة ليست متطرفة كالعبودية والفصل العنصري وليست عنيفة أيضاً كما هو الحال في المجتمعات الاستبدادية بل يُقصد بالقهر الاجتماعي القهر والاضطهاد اليومي في الحياة العادية، ويشير مصطلح " القهر المتحضر " إلى الاضطهاد المتأصل في الأعراف والعادات والرموز التي لا نقاش بها. وفي الأسس التي تقوم عليها المؤسسات الاجتماعية والقواعد وما يفرض من عواقب جماعية في حال مخالفة هذه القواعد، ويمكن توضيحه بأنه الظلم الواسع والعميق الذي يطال بعض المجموعات في المجتمع نتيجة الأحكام المسبقة وردود الفعل اللا واعية في العديد من الأحيان والصادرة عن الأفراد العاديين (الذين هم غالباً أصحاب النوايا الحسنة) في تفاعلاتهم اليومية العادية ويسهم في دعم هذه الأحكام وردود الفعل كل من وسائل الإعلام والصور النمطية الثقافية وكذلك البناء الهرمي المجتمعي وآليات السوق الاقتصادية.

بذلك يرى الفيلسوف حسن حنفي (1935-2021) أن اتباع التقاليد هو اتباع القدماء على الرغم من تداول حكمة الفيلسوف اليوناني أفلاطون (427-347) ق.م القائلة: " لا تجبروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم "، فالقدماء هم الأوائل، عاشوا في الماضي، وتغير الزمن، ولكل زمن عاداته وتقاليده وأعرافه. كثيراً ما كتب علماء الاجتماع والانثروبولوجيا عن تطور العادات الاجتماعية، وتغير التقاليد. هي تعبير عن سلوك الناس في كل وقت، والزمان متغير، والتقاليد تتغير بتغيره. التقليد اشتقاقاً يعني الاتباع، في حين أن التجديد يعني الإبداع. ويتهم أنصار التقليد أنصار التجديد بالابتداع، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فيؤثر الناس السلامة والاتباع عن غير اقتناع.

ولما كان المجتمع يتقدم بصرف النظر عن أساليب الضبط الاجتماعي، تنقسم الحياة إلى ظاهر يتبع التقاليد والأعراف والعادات، وباطن يتبع تطور الحياة وتغير قواعد السلوك الاجتماعي، فتنشأ مظاهر النفاق والرياء والتظاهر والكذب. قول باللسان لا يقتنع به القلب، وسلوك في الظاهر لا ينم عن إيمان بالباطن. وتصبح الحياة كلها حجاباً في الظاهر، وسفوراً في الباطن. كما تنشأ ظواهر الكبت وأمراض القهر النفسي وقمع الرغبات، ويعيش الإنسان بشخصيتين، ويقابل المجتمع بوجهين: وجه يرضاه المجتمع، ووجه آخر يرضاه الفرد، لا يجرؤ على التعبير عنه صراحة. ويكون له سلوكان: الأول سلوك اجتماعي علني، وسلوك آخر فردي سري. الأول كاذب، والثاني صادق. فإذا ما تجرأ أحد على الإعلان والتمسك بالوجه الواحد والسلوك الواحد والشخصية الواحدة تم إقصاؤه واستبعاده واتهامه بالردة والكفر، وكان جزاؤه القتل الصريح. ويؤثر البعض السلامة والرضا بالسلوك الاجتماعي، وينغمس في الدنيا ينهل منها بالحلال، والأرزاق مقدرة مسبقاً.

خلاصة القول يُعرف القهر الاجتماعي سوسيولوجياً بوصفه نمطاً بنيوياً من الممارسات والعلاقات الاجتماعية التي تفضي إلى حرمان الأفراد أو الجماعات من قدراتهم على الفعل الحر والمشاركة المتكافئة في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ولا يُفهم هذا القهر باعتباره عنفاً مباشراً بالضرورة، بل يتجلى غالباً في صيغ رمزية وغير مرئية، تتوزع عبر المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، وتنتج آثاراً طويلة الأمد على الهوية، والوعي، والمكانة الاجتماعية.

ومن خلال المنظور الفلسفي، يعتبر القهر شكلاً من أشكال نفي الكينونة، إذ يسلب فيه الفرد أو الجماعة قدرتهم على تقرير مصيرهم بأنفسهم، ويتحول وجودهم إلى كائنات خاضعة لسلطة خارجية تُملي عليهم شروط البقاء. وفي هذا السياق ترى حنة أرندت أن القهر بوصفه ضداً للحرية السياسية، معتبرة أن " القهر هو انتفاء المجال العام الذي تظهر فيه الذات بحرية، وأنه يفكك شرط التعددية البشرية التي تجعل الحياة السياسية ممكنة ". أما من منظور الفيلسوف بول ريكور، فإن القهر يطال ليس فقط الجسد، بل أيضاً " الكرامة الرمزية " للإنسان، وينتج ما يسميه  " جرح الاعتراف "، أي شعور الفرد بأنه غير مرئي أو غير مُعترف به داخل جماعته.

أما في الإطار السوسيولوجي النقدي، فقد وسّع ميشال فوكو من فهم القهر ليشمل آليات السيطرة الدقيقة والمتغلغلة في تفاصيل الحياة اليومية، معتبراً أن السلطة الحديثة لم تعد تُمارس من خلال العنف المباشر، بل عبر شبكات من الانضباط والمراقبة تشكل الأجساد والعقول وتخضعها طوعاً. وفي الاتجاه ذاته، يرى بيير بورديو أن القهر الاجتماعي لا يتحقق فقط عبر القوة المادية، بل من خلال العنف الرمزي، أي فرض أنظمة التصنيف والتفكير والتعبير التي تجعل الأفراد يتقبلون دون وعي موقعهم المتدني في البنية الاجتماعية.

وفي ضوء ما سبق، يمكن القول إن القهر الاجتماعي هو حالة مركبة تتقاطع فيها أبعاد بنيوية (اللامساواة الطبقية، الجندرية، العرقية)، ومؤسسية (قوانين، أنظمة تعليم، إعلام)، ورمزية (لغة، قيم، رموز)، تنتج نمطاً من العلاقات الاجتماعية المأزومة حيث تمنع فئات واسعة من ممارسة (الفاعلية الذاتية)، وتحرم من شروط المواطنة الكاملة.

ثانياً- نظرية القهر الاجتماعي:

تفسر هذه النظرية وجود البناء الاجتماعي بالرجوع إلى فكرة استخدام القهر بصوره المختلفة، الفيزيقي، أو الرمزي أو الخلاق. وطبقاً لهذه النظرية يوجد القهر في المجتمع نتيجة للقوة التي تتحقق عند بعض الناس الذين يستخدمونها في إخضاع الآخرين لإرادتهم، فالناس يفعلون ما هو متوقع منهم لأنهم مضطرون إلى ذلك، أما إذا امتنعوا عن القيام بما هو متوقع منهم، فسوف يواجهون التهديد باستخدام بعض صور العقاب الفيزيقي، أو الحرمان من الملكية أو الموارد أو الحقوق. وتحاول هذه النظرية أن تفسر مختلف جوانب النظام الاجتماعي، فالناس يكبحون دوافعهم ويمتثلون المعايير لأنهم يخافون النتائج التي يمكن أن تترتب على إخلالهم بذلك. إنهم يقومون بالتزاماتهم ويتوقعون من الآخرين نفس الشيء، لأن الإخفاق في ذلك سوف يواجه بالعقاب من جانب السلطة.

وتستطيع هذه النظرية أيضاً تفسير مظاهر الانحراف والصراع والتغير، ففي جميع المجتمعات يوجد على الأقل، نوعان من الصراع. الأول: صراع بين الناس حول مراكز القوة، لأنه طالما أن النظام لا يقوم على شيء غير القهر، فإن أي مظهر يدل على الضعف من جانب هؤلاء الذين يشغلون تلك المراكز سوف يؤدى إلى صراع حولها ينشأ بين المقربين من مركز القوة. ويحدث ذلك في الغالب عندما تكون السلطة ضعيفة، أو ترزح تحت ضغط معين. أما الثاني فهو صراع بين هؤلاء الذين يمتلكون القوة، وبين أولئك الذين حرموا منها، فحينما يمارس القهر، نجد أنه يخلق بعض الحدود التي تؤدي إلى رد فعل ضده. وغالباً ما ينجح رد الفعل إذا صاحبته صراعات داخل الجماعة الحاكمة، وفي مثل تلك الظروف يمكن أن يحدث التغير الاجتماعي.

بالمقابل هناك من يربط بين الانحراف الاجتماعي والقهر الاجتماعي. حيث يؤمن منظرو هذه النظرية بأن الانحراف ظاهرة اجتماعية ناتجة عن القهر والتسلط الاجتماعي الذي يمارسه بعض الأفراد تجاه البعض الآخر، فالفقر مرتع خصب للجريمة، والفقراء يولدون ضغطاً ضد التركيبة الاجتماعية للنظام، مما يؤدي إلى انحراف الأفراد.

بمعنى آخر، إن الفقر، باعتباره انعكاساً صارخاً لانعدام العدالة الاجتماعية بين الطبقات، يولد رفضاً للقيم والأخلاق الاجتماعية التي يؤمن بها السواد الأعظم من أفراد البناء الاجتماعي. ولو اختل توازن القيم الاجتماعية، كما يعتقد دوركايم، فإن حالة الفوضى والاضطراب ستسود الأفراد والمجتمع. ومثال ذلك، إن الثورة الصناعية التي حدثت في البلدان الرأسمالية في القرون الثلاثة الماضية أدت إلى اختلال في توازن القيم الأخلاقية والاجتماعية، الذي أدى بدوره إلى شعور الناس بانعدام وضوح المبادئ والقيم الأخلاقية والاجتماعية. ونتيجة لذلك فقد ضعف وازع السيطرة على سلوك الإنسان الرأسمالي خصوصاً على نطاق الشهوة والرغبة الشخصية، فأصبح الفرد منحلاً متهتكاً لا يرى ضرورة لفرض التهذيب الاجتماعي القسري عليه وعلى الأفراد المحيطين به.

وترى هذه النظرية أيضاً بأن الانحراف الاجتماعي يعزى إلى عدم التوازن بين الهدف الذي يسعى الفرد إليه في حياته والوسيلة التي يستخدمها لتحقيق ذلك الهدف في البناء الاجتماعي، كما هو الحال في معظم البلدان النامية التي يعتبر فيها الاستبداد وغياب العدالة الاجتماعية ظاهرة ثقافية. فإذا كان الفارق بين الأهداف الطموحة والوسائل المشروعة التي يستخدمها الأفراد كبيراً، أصبح الاختلال الأخلاقي لسلوك الفرد أمراً واضحاً. نظرياً على صعيد الشعارات، يستطيع الفرد، أن يصبح أغنى إنسان في المجتمع بجهده وعرقه، أو أن يمسي فاشلاً في تحصيل رزقه اليومي. ولكن نظرة سريعة إلى الواقع الخارجي تفصح شيئاً مختلفاً. فلا يستطيع كل الأفراد أن يكونوا أغنياء في وقت واحد لأن المال محدود بحدوده النظام الاجتماعي والاقتصادي، فإذا تراكم المال عند الطبقة الغنية فإنه سيسبب حرماناً ونقصاناً عند الطبقة الفقيرة. فالفرد الذي لا يصل إلى تحقيق أهدافه عن طريق الوسائل المقررة اجتماعياً، يسلك مسلكاً منحرفاً يؤدي به إلى هدفه كالسرقة، والرشوة، والاتجار بالمواد التي يحرمها القانون. وهنا يلعب القهر الاجتماعي دوراً في توليد ضغط لدى بعض الأفراد كي ينحرفوا اجتماعياً.

وأوضح صور القهر الاجتماعي وهو ما يحدث نتيجة للقهر الذي تمارسه السلطة على الفرد، وعدم تكافؤ الفرص في مجتمعه وعدم الحصول على حقوقه كأحد أفراد هذا المجتمع، وقد أثبتت التجربة أن البلاد التي تخيم عليها نظم ديكتاتورية أكثر عرضة للحروب الأهلية والنزاعات الدموية بشكل يفوق غيرها من البلدان التي تتمتع بمناخ اجتماعي ديموقراطي، كما حدث في العراق ولبنان وما يحدث في سوريا مؤخراً.

وفي هذا المجتمع، يعد أي فعل خارج إطار القانون والشرعية فعلاً مشروعاً، يصفق له، ويُحفز الآخرين للقيام بمثله، أو أكثر منه، كي يثبت (الأنا) الخاصة به، فيؤدي هذا بالضرورة إلى غياب منطق القانون، ويعد من يطالب به، أو يتكلم حسب منطقه ساذجاً لا يستحق الدخول في عالم الرجال. وفي المجتمع المقهور يمارس الجميع القهر والظلم على من هو أدنى منه، في حركة هرمية، تعكس مدى القهر المُؤَسَس له في هذا المجتمع، ويمتد القهر ليورث إلى الأجيال اللاحقة، عبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية.

ثالثاً- مظاهر القهر الاجتماعي في المجتمعات العربية المعاصرة (قراءة سوسيولوجية نقدية):

تعيش المجتمعات العربية المعاصرة في ظل منظومة اجتماعية وسياسية تتشابك فيها آليات القهر، بحيث لا تكون مجرد أفعال قمعية عارضة، بل ممارسات بنيوية تتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية وتعيد إنتاج نفسها عبر الزمن. فالقهر الاجتماعي ليس فقط نتاجاً للسلطة السياسية المباشرة، بل هو بنية رمزية وثقافية ومؤسساتية، تتجلى في الهيمنة على الجسد والعقل، وتُمارس عبر أدوات تبدو محايدة أو حتى " طبيعية "، كما وصفها فوكو في تحليله لعلاقات القوة والمعرفة.

1- القمع السياسي: يمثل أحد أبرز مظاهر القهر في العديد من الأنظمة العربية، حيث تُستخدم أدوات الدولة - من قوانين الطوارئ إلى الرقابة الأمنية والإعلامية - لتقييد الحريات العامة وقمع الحراك الاجتماعي والمجتمع المدني. هذا الشكل من القهر يُمارَس باسم " الاستقرار " والحفاظ على السلم الاجتماعي، لكنه في الواقع ينتج ثقافة خوف مزمنة تكبل الفعل الجماعي وتفرغ المجال العام من مضمونه الديمقراطي. فالدولة العربية الحديثة والمعاصرة لا تزال تتعامل مع مواطنيها بوصفهم رعايا، لا كشركاء في الفعل والعلمية السياسية والتنموية.

2- التفاوت الطبقي والحرمان الاجتماعي: يُشكل التفاوت الطبقي والحرمان الاجتماعي أحد أكثر مظاهر القهر الاجتماعي رسوخاً في البنية السوسيولوجية للمجتمعات العربية المعاصرة، إذ لا يمكن فهمه بمعزل عن السياقات التاريخية والسياسية التي رسخت اقتصاد الريع، والتبعية الخارجية، وغياب العدالة الاجتماعية (التوزيعية). فالطبقات الاجتماعية في هذه المجتمعات لا تتشكل بوصفها نتيجةً طبيعية للجهد الفردي أو الحراك الاقتصادي، بل كنتاج لسياسات ممنهجة تعيد إنتاج الامتياز الطبقي لمصلحة فئات محددة على حساب الأغلبية المفقرة والمهمشة.

في هذا السياق، نجد أن المواطن العربي يُقصى ليس فقط من عملية صنع القرار السياسي، بل من الحق في الوجود الاقتصادي الكامل، حيث ترك وحيداً في مواجهة اقتصاد السوق بلا حماية اجتماعية، وبلا قدرة على التأثير في قواعد اللعبة. هذا النمط من التهميش يُعرف بالعنف البنيوي، وهو عنف غير مباشر، لا يمارس بالضرورة من خلال أدوات القمع الظاهرة، بل من خلال بنى اقتصادية وقانونية تعيد إنتاج الفقر وتطوق فرص التمكين الفردي والجماعي.

ويزداد هذا التفاوت الطبقي حدةً في ظل التحولات النيو ليبرالية التي اعتمدتها أغلب الدول العربية منذ تسعينيات القرن الماضي، بإيعاز من المؤسسات الدولية، حيث تم تفكيك مؤسسات الرعاية الاجتماعية، وخصخصة قطاعات التعليم والصحة، وتراجع دور الدولة في حماية الطبقات الفقيرة. هذه التحولات لم تؤدي إلى التنمية، بل فاقمت معدلات البطالة والهشاشة الاقتصادية، وخلقت فجوات صارخة في توزيع الثروة، لا سيما في المجتمعات التي تعتمد على اقتصاد ريعي غير منتج، تُهيمن عليه قلة ذات ارتباط مباشر بمراكز القرار السياسي.

ويحلل بورديو هذه الظاهرة من زاوية العلاقة بين الطبقة الاقتصادية والرمزية، مبيناً أن السيطرة لا تتحقق فقط بالمال أو السلطة، بل عبر امتلاك ما يسميه " رأس المال الرمزي " الذي يسمح للفئات المهيمنة بفرض رؤيتها على الواقع الاجتماعي، وتطبيع الفجوة الطبقية باعتبارها أمراً طبيعياً أو ناتجاً عن الكفاءة الفردية. هذا ما يفسر كيف يتم تطويع الفئات المقهورة لقبول موقعها المتدني في السلم الاجتماعي، دون وعي نقدي بالآليات البنيوية التي تقيّد حركتها.

في ضوء ما سبق، فإن التفاوت الطبقي في العالم العربي لا يعد مجرد مؤشر اقتصادي، بل هو نتيجة لنظام اجتماعي - سياسي يعيد إنتاج الامتيازات ضمن علاقات غير متكافئة، تتحكم فيها الدولة، ورجال الأعمال، وشبكات النفوذ. وهو أيضاً مظلة تظلل أشكالاً أخرى من القهر، كالقهر الجندري والثقافي، وتمنع تحقق المواطنة الكاملة. ومن هنا، لا يمكن فصل العدالة الطبقية عن مشروع التحرر الاجتماعي الشامل، الذي يعيد الاعتبار للحق في الكرامة والتمكين والعيش الكريم.

3- التمييز الجندري: يعبّر عن بعد آخر للقهر الاجتماعي، حيث تُمارَس الهيمنة على النساء والفئات المهمشة في إطار علاقات أبوية مؤسسية تكرسها التشريعات والأنظمة التعليمية والثقافية. بالمقابل نجد أن الأنظمة القانونية العربية غالباً ما تعيد إنتاج دونية النساء، ليس فقط من خلال القوانين ذاتها، بل عبر الأطر الثقافية التي تضفي شرعية على هذا التمييز. وهذا القهر الجندري يُمارَس على المستويين الرمزي والمادي، ويؤدي إلى إقصاء المرأة عن المجال العام، أو اشتراط وجودها ضمن حدود السلطة الذكورية.

4- الهيمنة الرمزية والقهر الثقافي: يرى بورديو أن هذا المظهر يُمارس عبر مؤسسات تبدو " محايدة " كالمدرسة، ووسائل الإعلام، والخطاب الديني، حيث يعاد إنتاج الهرمية الاجتماعية من خلال ترسيخ أنماط فكرية وسلوكية تقنع الأفراد بشرعية مواقعهم داخل البنية الاجتماعية. هذا النوع من القهر لا يُدرك بسهولة، لأنه لا يقوم على العنف المباشر، بل على " العنف الرمزي "، أي الإذعان الطوعي للتراتبيات المفروضة، بفعل التنشئة واللغة والتعليم. وهنا تصبح اللغة نفسها أداة للهيمنة، تعيد توزيع الشرعية والسلطة داخل الفضاء الاجتماعي.

إن مظاهر القهر الاجتماعي في العالم العربي ليست جزئية أو منعزلة، بل تتقاطع ضمن شبكة من العلاقات البنيوية التي تتغذى من التاريخ السياسي، والثقافة التقليدية، والاقتصاد الريعي، والاستبداد المؤسسي. وهذه الشبكة لا تُنتج القهر فحسب، بل تعيد إنتاجه، وتطبعه في الوعي الجمعي، مما يجعل مقاومته أكثر تعقيداً. وعليه، فإن فهم هذه المظاهر وتحليلها نظرياً وميدانياً يمثل خطوة أساسية نحو مساءلة البنى السائدة، وبناء مشروع تحرري يتجاوز القهر الرمزي والمادي على حد سواء.

وفي النهاية يمكننا القول إن من آثار القهر الاجتماعي تنامي مشاعر الحقد والكراهية في المجتمعات المقهورة خاصةً في ظل سلطة الاستبداد، فحين تمارس السلطة المستبدة العنف المفرط ضد أفراد المجتمع المسالمين غير القادرين على مواجهة العنف بالعنف المضاد. تحتقن ذاتهم بالحقد والكراهية بانتظار الفسحة الملائمة لتفريغها على شكل عنف مضاد للقصاص من رموز سلطة الاستبداد كما حدث في بلدان الربيع العربي. ويتوقف حجم العنف المضاد على حجم الحقد والكراهية الكامنة في وجدان الإنسان المقهور. فكلما كان القهر والاستبداد كبيرين تضاعف حجم الحقد والكراهية وأخذ أنماطاً متنوعة من الانتقام، يصعب السيطرة عليها لتفريغ شحنات الحقد والكراهية اللتين تثقلان وجدانه.

سيكولوجياً يعاني الإنسان المقهور عموماً أعراض القلق والتوتر والصداع المزمن والعدائية، وينعكس ذلك على مجمل سلوكه وتصرفاته، فالإنسان الذي مسخت إنسانيته من خلال القهر والاستبداد يتصرف بسلوك مضاد وخالٍ من الإنسانية ضد الآخرين، خاصة مع من هم أقل منه قوة ويمكن أن يمارس السلوك ذاته حال امتلاكه القوة الضرورية مع المتسلط نفسه، وبالعكس فإنه يخضع ويذعن للإنسان القوي.

إن الإنسان المقهور وما يعانيه من أمراض نفسية واجتماعية متلازمة ومستفحلة لا يمكنه الاستمرار في حوار هادئ ويرتفع صوته على نحو مستمر مع تزايد حدة النقاش، ويرفض الآخر المجرد الخلاف في الرأي، وتنم انفعالاته الآنية وحركة يديه ووجهه عن حالة عنف وهيمنة ولا يتورع عن استخدام عضلاته لإسكات الآخر. وفي هذا السياق يصف مصطفى حجازي سلوك الإنسان المقهور وتصرفاته أثناء الحوار والمناقشة قائلاً: " لا يتمكن الإنسان المقهور من الاستمرار في حوار هادئ فسرعان ما يحس بانعدام إمكانية التفاهم فتغشى بصيرته موجة من الانفعال، ويأخذ الحوار نمطاً من أنماط السباب، ثم يتحول إلى التهديد وبعد ذلك يصل إلى حالة من الاشتباك، ليأخذ نمطه الحدي باستخدام العضلات أو السلاح بسهولة مذهلة في ثورة من الغضب ". إن حالة العجز والوهن من إمكانية تغيير الواقع الذي يلازم الإنسان المقهور تجعله يعاني الإحباط واليأس وعدم القدرة على تحقيق الذات، وتدفعه الخشية من الإخفاق في خوض التنافس الاجتماعي إلى الخيبة والانكسار وتتعاظم هواجسه في الحقد والكراهية ضد المجتمع، كونه المسؤول المباشر عن هزيمته.

وعلى الصعيد الأسري من خلال ما نراه الآن من وقائع وإحداث نجد أن عدم التناغم بين أفراد الأسرة أصبح السمة السائدة، فنسبة كبيرة من الأسر تعاني من القهر المادي والمعنوي، فالزوج يقهر زوجته، ولا يراعي حقوقها، ولا يضعها في المكانة التي تليق بها، ويستخدم معها أساليب عنف مختلفة، ويسود بينهما مشاعر دفينة من التباغض والكراهية، كما يقهر أبناءه من خلال عدم تلبية مطالبهم، والإساءة إليهم، وإيذاءهم .وإلى جانب هذا، نجد الزوجة التي تقهر زوجها من خلال مطالبها المادية التي لا تنتهي، وتعنفه، وتوبخه عند عدم قدرته على تلبية ما تريد، وتتعامل معه من منطلق الندية، وينعكس هذا أيضاً على أبنائها، فلا يجدون المناخ الأسري المناسب للانتماء، فينشقون عن الأسرة، ويظهر هذا في عدم الولاء والطاعة للأبوين، وتكليفهما بأمور لا طاقة لهما بها.

فالكل يقهر الكل، فنجد الزوج الذي يطلق زوجته دون مبرر، والزوجة التي تخلع زوجها لأسباب واهية، والأبوين اللذين يدفعان أبناءهما إلى بؤر الفساد، والأبناء الذين يطردون أبويهم، ويودعونهم في دور المسنين، ويرفعون قضايا الحجر ضدهم. والزوجة التي تتفق مع عشيقها على قتل زوجها، والزوج المزواج، والذي لا يعدل بينهن، والأبناء الضائعة بين أبويهم. ومن ثم، تعد كل هذه الصور من القهر الذي يمتد إلى المجتمع الكبير، فيصبح مجتمعاً مقهوراً، لا يستطيع أن ينهض على قدميه، ولا يقوى على دفع عجلات الإنتاج، ويتخلف عن ركب التقدم والتطور في سلم الحضارة الإنسانية.

إن تحليل وسائل السيطرة والخضوع مـن خــلال فهم العلاقات الاجتماعية وآليات التأثر والتأثير في هذا السياق. يدفعنا إلى التركيز على بناءات القوة في إطار البناء اجتماعي التي تتجسد على أرض الواقع الاجتماعي من خلال ترسيخ علاقات السيطرة للجهة التي تمتلك مصادر القوة بشكليها المادي أو الرمزي ضد الفئات الضعيفة والهامشية في المجتمع. مما يتحتم علينا بالضرورة تحليل ونقد آلية السيطرة لهذه العلاقات وما تفرضه على البناء الاجتماعي (القهر الاجتماعي) بالتواطؤ مع الإيديولوجية السائدة في المجتمع من جهة، والقيم والعادات والتقاليد الرجعية، والظروف المجتمعية القاهرة من جهة أخرى.

رابعاً- نحو تفكيك منظومات القهر الاجتماعي وبناء أفق تحرري عربي: يُظهر تحليل القهر الاجتماعي في المجتمعات العربية المعاصرة أنه ليس ظاهرة عرضية أو سلوكاً فردياً منحرفاً، بل منظومة بنيوية مركبة تتداخل فيها عوامل السلطة، والطبقة، والثقافة، والنوع الاجتماعي، وتتمأسس داخل مؤسسات الدولة والمجتمع على حد سواء. وقد بيّن الفحص النظري أن هذا القهر لا يُمارَس فقط من خلال العنف المباشر أو القوانين القمعية، بل يتجلى كذلك في أشكال رمزية ناعمة تنتج الطاعة وتُقنن الإقصاء باسم النظام، أو القيم، أو التقاليد، أو الدين.

غير أن هذا الوضع، على تعقيده، ليس قدراً تاريخياً مغلقاً، بل يمكن تجاوزه من خلال تفكيك الأنساق التي تُعيد إنتاج القهر، وإعادة بناء الوعي الجمعي وفق أسس نقدية وتحررية. فالمسار الأول للخروج من هذا المأزق يبدأ من إعادة الاعتبار للفعل الاجتماعي الواعي، أي تمكين الأفراد من امتلاك أدوات الفهم النقدي للواقع، وتحريرهم من "التطبيع " مع أوضاعهم القهرية باعتبارها أوضاع قدرية. وهذا لا يتحقق إلا بإصلاح بنية التعليم، وفتح المجال العام، وتعزيز حرية التعبير والمشاركة السياسية الحقيقية.

أما المسار الثاني، فيتعلق بتفكيك البنى الثقافية والرمزية التي تشرعن التفاوت والتمييز، كأن تعاد مساءلة الخطابات الدينية والتعليمية والإعلامية التي تكرس صور الخضوع، والتبعية، واللامساواة. وهذا يتطلب توسيع نطاق النقد الثقافي، وتشجيع إنتاج بدائل معرفية تعيد تعريف مفاهيم السلطة، والمواطنة، والعدالة الاجتماعية.

وفيما يتعلق بالمسار الثالث، هو إعادة بناء الدولة العربية بوصفها إطاراً للعدالة لا أداة للهيمنة، وذلك عبر إصلاح السياسات الاقتصادية والاجتماعية، والانتقال من الدولة الريعية إلى الدولة التشاركية، وإرساء أنظمة قانونية تضمن الحريات، وتكافؤ الفرص، والاعتراف بالتعدد والاختلاف.

في الختام نؤمن بأن الخروج من مأزق القهر الاجتماعي في العالم العربي يستوجب مشروعاً تحويلياً طويل النفس، يبدأ من الوعي وينتهي بالفعل، ويجمع بين مقاومة البنى البنيوية الظالمة، وتشييد أنساق بديلة قوامها الحرية، والكرامة، والمساواة. فالمعركة ضد القهر، في جوهرها، ليست فقط مع أنظمة الحكم، بل مع البنى التي تطوق العقل والضمير واللغة، وتجعل القهر يبدو قدراً لا يُفكر في تغييره.

خامساً- مقترحات ورؤى سوسيولوجية لتفكيك القهر الاجتماعي في المجتمعات العربية المعاصرة: تنحصر فيما يلي:

1- تحليل أنماط العنف الرمزي في المؤسسات التعليمية العربية من خلال دراسات ميدانية تركز على كيفية إعادة إنتاج القهر الطبقي والجندري من خلال المناهج، واللغة التربوية، وأنظمة التصنيف داخل المدارس والجامعات.

2- ضرورة تجديد الخطاب الديني كأداة للتحرير من خلال تحليل الخطابات الدينية في فضاءات مختلفة (المنابر، الإعلام، التعليم)، للكشف عن دورها في دعم الوعي النقدي والتحرر.

3- توضيح آثار السياسات النيو ليبرالية في إنتاج الفقر في المدن العربية من خلال دراسة سوسيولوجية تبين كيف أدت سياسات الخصخصة وتراجع دور الدولة إلى تعزيز أنماط الحرمان الطبقي والإقصاء الاجتماعي.

4- الكشف عن مكانة المرأة العربية بين القهر الرمزي والتهميش السياسي من خلال تحقيق نظري وميداني في الآليات غير المباشرة التي تقصي النساء من المجال العام، رغم التحولات القانونية الشكلية.

5- تحليل سوسيولوجي للحراك الشبابي في مواجهة القهر الاجتماعي من خلال رصد كيف تنشأ حركات احتجاجية أو ثقافية مضادة في أوساط الشباب، كاستجابات بديلة للهامشية والقهر الرمزي والسياسي.

سادساً- التوصيات: بناءً على ما سبق نوصي بما يلي:

أ- إصلاح مناهج التعليم على أسس نقدية من خلال إدماج مفاهيم العدالة الاجتماعية، والتفكير النقدي، والاعتراف بالآخر في المناهج التربوية، بهدف زعزعة البنى التي تُكرّس التراتبية الاجتماعية.

ب- دعم الفضاءات العامة الحرة والمستقلة من خلال تعزيز وجود مؤسسات فكرية وإعلامية وثقافية مستقلة تتيح تبادلاً حراً للأفكار وتسهم في بناء وعي جمعي مقاوم للقهر.

ج- مراجعة القوانين التمييزية ضد النساء والأقليات من خلال إلغاء أو تعديل القوانين التي تكرس التمييز الجندري أو الطائفي أو الطبقي، وتبني منظومة قانونية تضمن المواطنة المتساوية.

د- تبني مفهوم العدالة الانتقالية في المجتمعات الخارجة من القمع والاستبداد من خلال استلهام نماذج العدالة الانتقالية كما في بعض بلدان (أمريكا اللاتينية، جنوب إفريقيا) لتفكيك إرث القهر ومعالجة آثاره عبر الاعتراف والمساءلة والمصالحة.

ه- بناء اقتصاد تشاركي (تفاعلي) قائم على العدالة الاجتماعية للخروج من النموذج الريعي أو النيو ليبرالي، باتجاه نموذج اقتصادي يعيد توزيع الثروة، ويوسع قاعدة الحماية الاجتماعية، ويعزز التمكين الاقتصادي للفئات المهمشة.

وفي النهاية لا تمثل هذه التوصيات حلولاً سحرية آنية، بل تشكل مسارات تراكمية لبناء مجتمع عربي أكثر عدالة وحرية. إنها تستلزم تضافر جهود الجامعات، والمراكز البحثية، وصناع القرار، والمجتمع المدني، لإعادة إنتاج المجال العام على أسس مقاومة للقهر، لا خاضعة له.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

.....................

- المراجع المعتمدة:

- بيير بورديو: الرمز والسلطة، ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط3، 2007.

- بيير بورديو: اللغة والسلطة الرمزية، ترجمة وتعليق: علاء عبد الرزاق، تموز للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2022.

- حسام الدين فياض: الإنسانية والمجتمع (ملامح الإنسانية في المجتمع المعاصر)، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب: السابع، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2025.

- حسام الدين فياض: نظرية العنف الرمزي عند بيير بورديو (دور القوى الناعمة في إعادة تشكيل معالم المجتمع)، من كتاب مقالات نقدية في علم الاجتماع المعاصر – النقد أعلى درجات المعرفة، المقال الثاني، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري الكتاب (3)، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2022.

- حسام الدين فياض: نظرية العنف المجتمعي - العنف الرمزي أنموذجاً (دراسة سوسيولوجية- تحليلية)، مجلة ريحان للنشر العلمي، سوريا، العدد: 23، 28-05-2022، ص(196-235).

- حسام الدين فياض: دور الانثروبولوجيا في تحليل الظواهر الاجتماعية المعاصرة: قراءة نقدية في تحولات البنية والسلوك والثقافة، نحو علم اجتماع تنويري للدراسات والأبحاث الإنسانية والسوسيولوجية، مقال إلكتروني، المجلد: 03، العدد: 029، ماردين، 15 يونيو – حزيران 2025.

- حسام الدين فياض: ما هي الليبرالية؟، موقع الحوار المتمدن، العدد: 8027، تاريخ 03/07/2024.

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=834771

- حسام الدين فياض: القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع العربي المعاصر، موقع الحوار المتمدن، العدد: 7786، تاريخ 05/11/2023.

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=810323

- حسام الدين فياض: الإذلال الاجتماعي: الوجه الآخر لنزع الصفة الإنسانية، العدد: 8185، تاريخ 08/12/2024.

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=850617

- حنّة أرندت: في العنف، ترجمة: إبراهيم العريس، دار الساقي، القاهرة، ط2، 2015.

- رشاد موسى: سيكولوجية القهر الأسري، عالم الكتب، القاهرة، ط1، 2008.

- شحاتة صيام: القهر والحيلة – أنماط المقاومة السلبية في الحياة اليومية، جامعة القاهرة، القاهرة، ط1، ب.ت.

- صاحب الربيعي: سلطة الاستبداد والمجتمع المقهور، صفحات للدراسات والنشر، دمشق، ط1، 2007.

- ماجد موريس إبراهيم: سيكولوجيا القهر والإبداع، دار الفارابي، بيروت، ط1، 1999.

- محمد عاطف غيث: دراسات في تاريخ التفكير واتجاهات النظرية في علم الاجتماع، دار النهضة العربية، بيروت، ط1، 1975.

- مصطفى حجازي: الإنسان المهدور (دراسة تحليلية نفسية اجتماعية)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء وبيروت، ط1، 2005.

- مصطفى حجازي: التخلف الاجتماعي – مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء وبيروت، ط9، 2005.

- موقع الباحثون السوريون: هل المجتمع هو المسؤول عن اضطهادنا!؛ القهر الاجتماعي، تاريخ الدخول إلى الموقع 03/06/2024.

https://www.syr-res.com/article/23429.html

- ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة (ولادة السجن)، ترجمة: علي مقلد، مراجعة وتقديم: مطاع صفدي، مركز الانماء القومي، بيروت، ط1، 1990.

- Asef Bayat: Life as Politics: How Ordinary People Change the Middle East, Stanford, Stanford University Press, 2013.

- Iris Marion Young: Justice and the Politics of Difference, Princeton: Princeton University Press, 1990.

- Paul Ricoeur: The Course of Recognition, Translated by: David Pellauer, Cambridge, MA: Harvard University Press, 2004.

 

ملاحظات أولية حول الوسط الحضري

منذ أكثر من أربعين عاماً كتب هنري لوفيبر "Henry Lefeber" في مؤلفه (الحق في المدينة) أن المدينة (شيء افتراضي)، وقد جرى بعدها تأكد هذا الزعم الذي يحتاج إلى التعمق، من خلال ملاحظة أن المناطق الحضرية تتجاوز المدينة، يتوقع الفيلسوف من خلال استقراء المدنية الحالية، ولادة مجتمع (متحضر كلياً). وقد أعطى ذلك المزيد من القوة النظرية والسياسية لفكرة افتراضية المدينة، ولكن بأية سياسة يمكن للمدينة أن تظل المكان والهدف، حتى الموضوع، إذا لم تعد موجودة؟ ففي الآونة الأخيرة لاحظ الجغرافي والفيلسوف ديفيد هارفي "David Harvey" بعد هنري لوفير أن (الحق في المدينة) يشير في نهاية المطاف إلى (مسألة لم تعد موجودة) أي دلالة فارغة "Signifiant vide" و(هذا يتوقف على من سيعطيها معنى) (1).

ان المثقف وفي أي مجتمع كان يحتاج إلى وسط اجتماعي/ مديني لكي لا يتشكل تكوينه الثقافي فحسب، بل لكي يكون صورة عاكسة لهذا الوسط البيئي الذي نشأ فيه، وتعد المدينة بوصفها الوسط الحضري الأرفع هي المسؤولة عن كل ذلك، وأن أي خلل يحدث في داخل بنية المدينة ونسقها الحضري، إنما ينعكس سلباً على المثقف وأدواره الاجتماعية، ونحن إذ نتكلم عن المثقف هنا،  فأننا لا نعني فئة محددة ، بل ان الامر يشمل كل من يعمل على الثقافة والمعرفة مستهلكاً ومنتجاً أي كان أسمه (أديباً، فيلسوفاً، أكاديمياً...الخ).

فالمعرفة على علاقة وثيقة بالمدينة، لأن المعرفة غايتها الأساسية تحقيق السلام وتبسيط الحياة وتسهيلها على الإنسان وتحقيق أكبر قدر من الحرية له، وهكذا فأن المعرفة والمدينة يشتركان في نفس الغاية ألا وهي توفير السلام والأمن، وهذا ما جعل المعرفة مصاحبة في تاريخ تطورها للمدينة، فالشتات التي تعيشه المدينة المعاصرة، ما هو إلا دليل قاطع على الانفصال الرهيب الذي حدث بين المدينة والمعرفة، وهي الآن تعيش عقبات ذلك لتصاب المدينة بالخواء السحيق والجفاف المعرفي الواضح، فالمعرفة الآن تبحث عن موطن لها لتفرخ فيه، ونحن هنا مطالبين بإعادة قراءة المدينة وإصلاحها من الداخل لإعادتها إلى الغاية التي وجدت من أجلها الا وهي مدينة السلام والرقي (2).

تأسيساً على هذا المعطى نطرح مجموعة من التساؤلات ما هي مسوغات قولنا بعطالة المثقف؟ وكيف تولدت أو نشأت هذهِ العطالة إن وجدت (أي موضوعة فقدانه التأثير في الوسط الاجتماعي الذي يحيا بهِ؟) بعبارة أخرى أليست عملية اتساع الفجوة بين المثقفين العراقيين والمجتمع الذين يحيون وسطه بدأت تتسع إلى حدٍ كبير وملاحظ بنحوٍ جلي؟ وما هي صلات الوسط الحضري الذي نقول بأنهياره بتلك العطالة؟ وما هي دلائل وعلامات ذلك الانهيار؟ وما صلة ذلك بموضوعة تدفق الفكر (الشعبوي) و(الشعبي) في المشهد الحضري؟ وكيف يمكن قراءة ذلك في ضوء الأطر الأنثروبولوجية والسوسيولوجية بوجٍهٍ عام؟

تنطلق هذهِ المقالة من فرضية جوهرية مؤداها: ان هناك عطالة واضحة في دور المثقف العراقي على مستوى النشاط الثقافي، من خلال غياب الحضور النقدي/الثقافي وظهور الجماعات الثقافية أو (الشللية الثقافية) التبادلية المنافع والمصالح، وفقدان المشروع الثقافي أو الفكري العراقي، سوى أطروحات مستنسخة عن مدارس فكرية اسلامية أو عالمية وتقديمها بوصفها العلاج السحري/النهضوي للمجتمع العراقي بل وللعالمين العربي والاسلامي.

وأن مرتكز هذهِ الفرضية أعلاه ينطلق من تصوراتنا النظرية التي تبين انهيار الوسط الحضري/ المديني الذي يعبر عن الحاضنة الثقافية التي تسهم في انتاج واعادة انتاج النسق الثقافي الحضري/البغدادي الذي بدا واضحا انه يفتقر إلى الحد الادنى للأشتراطات الثقافية لمسات الحضرية العقلانية التي يجب ان ينتظم بموجبها السلوك الثقافي العام.

أننا وإذ نمضي نحو ايراد الملاحظات الخاصة بعناصر وسمات الحياة الحضرية التي أسهم فقدانها في بغداد في عطالة المثقفين، إنما نأم وجهنا شطر الكتابة ونحن نتفق كلياً مع اطروحة علي حرب بأنه قد آن الأوان للمثقفين عموماً من التخلي عن أوهامهم في أرشاد العامة أو الوصاية على المجتمع وترشيد سلوكه، إذ قال: أعني هذا الوهم سعي المثقف إلى تنصيب نفسه وصياً على الحرية والثورة، أو رسولاً للحقيقة والهداية، أو قائداً للمجتمع والأمة، ولا يحتاج المرء إلى بيانات لكي يقول بأن هذه المهمة الرسولية الطليعية قد ترجمت على الأرض فشلاً ذريعاً وأحباطاً مميتاً (3).

ثم يقول: فليتواضع أهل الثقافة والفكر، انهم ليسوا نخبة المجتمع أو صفوة الامة، وانما هم اصحاب مهنة كسائر الناس، ولا أفضلية لهم على سواهم من العاملين أو المنتجين في سائر مجالات العمل وقطاعات الانتاج. بالطبع الافضلية هي لمن يتقن مهنته ويخلص لها، والاسبقية هي لمن ينتج أو يبدع في مجال عمله أو حقل اختصاصه (4).

ثم يمضي حرب بعد ذلك بإيراد مجموعة هذهِ الاوهام (وهم الحرية، وهم الهوية، وهم المطابقة، وهم الحداثة...)، ويمكن لمن أراد التفحص اكثر مراجعة تفاصيلها في مظانها التي احتضنتها، ولعل الوهم الاخير (وهم الحداثة) يستحق التوقف عنده، لأنه يلتقي مع الحياة الحضرية التي ندعو لها، وقد يساء فهمنا ونتهم بالتناقض على اعتبار ان اشتراطات الحياة الحضرية المفقودة هي حداثوية بالضرورة، وهذا الأمر يرد عليه كل من يعرف الحياة المدنية التي كانت تسود المدن العربية والاسلامية منذُ القرون الوسطى في طليعتها بغداد، أحيل القارئ الكريم على سبيل المثال لا للحصر إلى ما كبته البحاثة المعروف محمد مكية عن الحياة الحضرية والعمرانية والثقافية لمدينة بغداد في القرون السالفة!! (5).

يبقى الفهم الانثروبولوجي والسوسيولوجي الخاص بذلك الوسط الحضري يمثل مدخلاً تأطيراً نظرياً لا غنى عنه لبيان ان جدلية الثقافة أو الفكر والمدينية أو الوسط الحضري يمثل معياراً علمياً لا مناص من التسليم بوجوده لأجل الكشف عن تلك العطالة التي نفترض وجودها لدى المثقفين العراقيين.

ولما كان المثقف قد غدا وسيطاً فاعلاً في تقديم الفكر والمعرفة والثقافة إلى جانب المؤسسات الرسمية أو غير الرسمية (الاعلام)، وكما يرى علي حرب:...، بذلك يعمل المثقفون بخصوصيتهم كمنتجين للأفكار والمعارف والسلع الرمزية، بقدر ما يظهرون ميزتهم ويمارسون فاعليتهم المجتمعية، لا بوصفهم نخبة تقود الامة والمجتمع، بل بوصفهم وسطاء يعملون على توسيع المجال العمومي بتكوين مساحات للقاء والتفاهم أو للتواصل والتبادل .... (6).

ولكن هذا الوسيط (المثقف) يحتاج إلى وسيط أو وسائط حضرية أو مدينية تساعده على تحقيق وظيفته أو عمله الثقافي بوصفه محترف مهنة تشتغل في حقل الفكر والمعارف الانسانية، فالثقافة تحتاج إلى حواضن لها، ولا يوجد عبر التاريخ أفضل من المدينة وفضائها التداولي بالضروري أن تكون هي الوسيط الناجح لذلك.

نحن قدمنا وجهة نظر أهل الفلسفة (علي حرب) عن دور المثقفين أو النخبة في الوسط الحضري أو في المجتمع بوجهٍ عام، ولكن الانثروبولوجيون لهم وجهة نظر مغايرة، إذ يرون ان الصفوات الحضرية من كافة اصناف الزعامات والقيادات المحلية وفي مقدمتهم الموظفين والمثقفين انما يسهمون في احداث عملية التغيير الحضري، وذلك عبر نشر التعليم وزيادة الفوارق الطبقية وتصاعد الاستهلاك المظهري وتحفيز التحديث، بل والسعي نحو تكوين رأي عام ''Public Opinion'' (7).

وهذا الرأي آنف الذكر إنما يقدم للصفوات الحضرية أدواراً واسعة في احداث عمليات التحضير Urbanization، ونحن نريد ان نذهب باتجاه آخر في المقال لبيان ان انهيار الوسط الحضري قد قلل من حضور وتأثير هذه الصفوات لأن (أن قبلنا التصور الانثروبولوجي)، بعد قص اجنحته كما قدم علي حرب فيما تقدم ذكره.

ان الانثروبولوجيا قدمت منظورات ميدانية تأسيسية لفهم الوسط الحضري، وذلك بعد أن أعلن راد كليف براون R.K.Brown ان مجالات الدراسة الانثروبولوجية قد اتسعت لتشمل كل انماط المجتمع الانساني، وقد أكد بعد ذلك رالف بيلز R.Beels ان الانثروبولوجيا حان لها ان تسهم بمنهاجها وطرقها الخاصة في دراسة المجتمعات الحضرية بصفة عامة (8).

ثم أخذ الانثروبولوجيون بدراسة العلاقة بين المدينة والحضارة أو الثقافة Culture التي يرون فيها الروح العميقة للمجتمع، في حين ان المدينة هي الآلة الصماء الحاملة في طياتها الجوانب الجامدة فيها، بينما الحضارة أو الثقافة هي صورتها العاطفية ذات المظهر الروحي الأصيل لتجمع حيوي، فالعمليات الثقافية - الحضارية في المدينة تعتمد على استمرار العقل وتقدمه الذي لا يتوقف، فتمثل المجهود الانساني بغزوه ميادين الطبيعة عن طريق العقل في محيط العلوم والفنون وما إلى ذلك، وهكذا نرى ان اهتمامات الانثروبولوجيين الحضريين توزعت على موضوعات عدة لا حصر لها كان أبرزها: دراسة المشاكل الحضارية التي تمثلت في ازدياد اقتراف الجرائم وارتكاب الرذائل وظهور الاتجاهات الانانية واساليب الاستغلال التي يمارسها الانسان ضد أخيه الانسان في مجتمع المدينة (9).

ولعل هذا الأمر آنف الذكر هو بيت القصيد بالنسبة لأهتمامات المقالة الان انهيار الوسط لحضري لا يختصر بتراجع البعد العقلاني أو الترشيد العقلي أو سيادة القانون، أو طغيان القبيلة والقبائلية أو عودة الشعبويات الايديولوجية/ الريفية أو الطرفية (أطراف المراكز)، بل يشمل كذلك على أنهيار المنظومة الاخلاقية التي عطلت كذلك من السلوك الاخلاق للكثير من المثقفين العراقيين الذين يتسمون بالانتهازية والشعاراتية والتسلق وتملق الجماهير على وسائل الميديا أو نحوها.

ولكن الانثروبولوجست ميشال أجيي Michel Agier يقدم منطق أنثروبولوجي للمدينة التي شكلتها الديناميات الاجتماعية والمكانية والثقافية، عاداً انتاج ما يسمى (مدينة) عملية مستمرة تسهم بها جهود متعددة ولهذا هو يتسأل عن الكيفية التي تتشكل أو تقام بها (المدينة)؟، فوجد ان هناك ثلاثة خصائص للمدينة موضع التنفيذ، التعقيد والحركة والعلاقة، ونحن نوجزها على النحو الآتي:

- التعقيد: هذهِ المدينة التي تنبثق من مراقبة الحياة اليومية هي اكثر تعقيداً على نحوٍ متزايد، وتتكون من أمكنة معينة يعاد استثمارها وتحويلها واحتلالها مدة طويلة أو قصيرة، من شبكات اجتماعية تهيكل التنقلات والترابط الاكثر عمقاً أو الاقل عمقاً مع أماكن الاقامة، وأخيراً الاحداث العامة - السياسية أو الفنية المرتقبة - المنتجة للتبادلات، العابرة اولاً.

- الحركة: وهنا يجري تصور المدينة كمكان للتلاقي والاجتماع ولكن العنصر الابرز المسؤول عن ذلك هو حركة الناس، لاسيما الحركة نحو المركز انطلاقاً من الضواحي، والمناطق المحيطة بالمدينة (مناطق البؤس) و(الاطراف)، تعد تنقلاً على طريقة الغزو المكاني.

- العلاقة: وهنا يرى أجيي انه ليس هناك مركز في حد ذاته، بل على العكس إنها علاقة تحدد المركز بنفسه، كما تظهره، وفقاً للأوقات وللأماكن ما يريد قوله ان المركزية بدأت تتلاشى شيئاً فشيئاً بين المركز والاطراف وأصبح دور المركز رمزياً وهامشياً (10).

وكما يوجد جدل محتدم ومنذُ سنين خلت بين علماء الاجتماع حول معايير التحضر هل هي (كمية) أم (كيفية) أي هل تتصل بعناصر مادية يمكن ملاحظتها والتدليل عليها قياسياً وعمرانياً بنحوٍ واضح للعين؟ أم هي (كيفية) تتصل بنمط الحياة أو اسلوب الحياة الحضرية، أي تتصل بالذهنية الحضرية وطراز الثقافة الحضرية لطريقة التفكير والسلوك؟.

لعل عملية التشبث بالعناصر أو بالطريقة الكمية لا تدلل أو تبين لنا مغزى عطالة المثقف العراقي، وذلك لأن العمران والتوسع لمدينة (بغداد) على عدة صعد على وفق المعايير المادية تلك ستكون إلى جانب الطراز الحضري ستبين قوة زخم الوسط الحضري (ظاهرياً)، ولكن البحث في المعايير والبنى المضمرة لهذا التحضر على وفق المعايير الكيفية (نمط الثقافة وطرزها) ستبين لنا معالم تلك العطالة التي نبحث عنها في ورقة عملنا هذا.

وسنحاول التأطير النظري لذلك عبر اعتماد مراجعة سريعة/ مقتضبة لرؤية بعض علماء الاجتماع الذين درسوا المدينة ووسطها الحضري العام، فضلاً عن التوقف عند بعض أشارات المعايير الكمية حتى تكون الصورة جلية وواضحة عند الحديث عن الحضرية "Urbanism" التي: هي نمط من أنماط السلوك، ولاشك ان كل سلوك، هو سلوك هادف ومنضبط، فتصبح أذن أنماط السلوك الحضري وضوابطه وأهدافه، هي بالضرورة ظواهر مستمدة مما يسود "البناء الحضري" من معايير ونظم(11) (*).

يمكن عد المعيار الكمي لعدد السكان هو أساس جوهري للدراسات الحضرية وعلى مدى أجيال متعاقبة، فلقد تم التركيز على معيار التركيب الحضري للجماعات الحضرية، أي طبيعة الولادات والوفيات ونسبة الخصوبة ونسبة السكان، وهذا الأمر تمت مناقشته بإستفاضة من عدة باحثين لا عد لهم (12).

فالتحضر بوجهٍ عام يشير إلى الكثافة السكانية وتلاصق الدور من بعضها البعض، وعلى الرغم من ذلك فأنهم لا يعرفون بعضهم، وهذا ما تضمنه تعريف فيبر الشهير للمدينة: يمكننا أن نحاول تعريف "المدينة" بطرائق متعددة. وكل التعاريف تشترك في نقطة واحدة، وهي ان المدينة لا تكمن في سكن واحد أو سكنات متعددة منتشرة بشكل مبعثر، تتشكل المدينة على كل حال من السكن المجتمع (ولو نسبياً) أي من "محلة" "Localite" وفي المدن (وليس فيها وحدها)، تبنى الدور بالقرب من بعضها البعض، والقاعدة العامة هي أن تبنى حائطاً لحائط، ان التصور الشائع في الوقت الحاضر يربط المدينة بخصائص كمية محضة: إن المدينة هي المحلة الكبرى، والواقع ان هذا المعيار ليس خاطئاً، ومن وجهة النظر السوسيولوجية فإن هذا يعني تجمعاً لدور متلاصقة، وبشكل كثيف، تشكل معهُ تجمعاً سكانياً من قطعة واحدة، تكون من الشناعة والكبر بحيث أن الاجتماع العادي والخاص بالجوار يصل حداً يصبح فيه التعارف الشخصي والمتبادل بين السكان متعذراً (13) .

نحن لا نعول على كل ما تقدم على الرغم من أهميته في فهم الوسط الحضري ولكن لفهم عطالة المثقف التي نقول بوجودها في الوسط الحضري (المنهار) في مدينة بغداد، نحن نحتاج إلى الذهاب إلى المعايير (الكيفية) لفهم ذلك وأدراكه بنحوٍ جلي.

سنبدأ بآراء جورج سيمل "G. Simmel" (1858 - 1918) حول ثقافة المدينة الحديثة، أو المدينة الكبرى أو التجمع الحضري المتروبوليتان "Metropolitan"، والذي كان موضع اهتمام سيمل(*)، والذي ركز فيهِ على موضوعة "الذهنية الحضرية" وسماتها العامة.

في عام 1903 كتبَ سيمل مقالته السوسيولوجية الشهيرة (المتربول والحياة الذهبية)، وهي المقالة التي يعتبر العديد من الكتاب أنها أُسست لبدء الاهتمام السوسيولوجي الفعلي بالمدينة، ويندرج تحليل سيمل للعلاقة بين المتربول والذهنية في إطار ما يمكن التعبير عنه اليوم بالعلاقة بين الثقافة والمجال. ومنهج سيمل الشكلاني -الذي ستتأثر بهِ مدرسة شيكاغو-  يمهد لوجهة نظره الخاصة في تناول هذهِ العلاقة، إن الاشكال "Formes" العامة التي تجري فيها الحياة الاجتماعية يمكنها لوحدها أن تمكننا من فهم محتوياتها، والأشكال كما يقول سيمل هي "التجليات المكرسة" "Configurations Cristallisees" وهذا التكريس يعني انها اصبحت مستقلة عن الفعل أو الذات المؤسسة لها،  ولكنها في نفس الوقت وحتى وهي تعيش من خلال منطقها الخاص بها فإنها تجد نفسها في تعارض وتناقض مع الكائن الذي هيأ نشأتها ووجودها (14).

ان الأشكال بمثابة الأطر الاجتماعية المتنوعة التي يعاد بها صياغة ذهنية الانسان، بعد ان أوجدت هذهِ الأطر، ولكنها بتقادم الزمن تستقل رويداً رويداً عن مؤسسها الأول وتغدو بمثابة كيانات عامة، وهذا الأمر يتصل بفضاءات المدينة المتنوعة التي ستجترح الموجهات الثقافية الجديدة وتفرض شروطها الحياتية على ممارسات الإنسان وطرز تفكيره.

ولقد عبر سيمل عن هذهِ الأطر بعبارة "تراجيديا الثقافة" حيث يقول عنها: تلك هي تراجيديا الثقافة... فمفهوم الثقافة يفيد أن الذهن هو الذي يخلق الأشكال الموضوعية المستقلة والتي من خلالها يمر طريق الذات التي تذهب من نفسها لنفسها، وهكذا فإن العنصر المدمج والذي يكيّف الثقافة قد أصبح بدوره محدداً سلفاً بتطور خاص يستعمل ومن دون شك دوماً قوى الذوات الفردية، ويجرها إلى مجراه(15).

من الواضح ان سيمل يتحدث عن عملية قهر ثقافي تقوم الاشكال الحضرية للمدينة بتأديتها، مما تجعل الافراد ملزمين بالسير على وفق قواعد ذهنية خاصة على وفق رغائبها الثقافية تلك، وذلك لأن الافراد على الرغم من أنهم هم من صنع هذهِ الأشكال إلا انهم اصبحوا مسلوبين الإرادة إزائها لتنميطها الثقافي لهم.

بعبارة أخرى يرى سيمل ان الحقيقة الحتمية للحياة الحضرية لكل الانواع سواء في الاسرة أو القانون الحضري كانت متمثلة في الشعور بالقهر ذلك الشعور الذي يحيط بالإنسان في المدينة التي يعيشها إلى جانب الافراط في الحافز النفسي يقود الناس إلى محاولة الدفاع عن أنفسهم برد الفعل العاطفي بالنسبة لمن يحيطون بهم في المدينة، وهذا يعني إلا تحاول القيام برد الفعل كما يفعل جميع البشر، وكدفاع ضد تعقيد الحياة الحضرية، يحاول الناس ان يعيشوا في علاقة غير عاطفية وعقلية ووظيفية مع الآخرين، وهذا الدفاع يجعل الحياة منفصلة ويطبق الضبط على كل واحد على حدى، وإذا حاول الناس في المدينة ان يعيشوا حياتهم في الأسرة وفي العمل وفي الصداقة، فإنهم يتحطمون عن طريق التعقيدات الكامنة في كل من هذهِ الوقائع التي يعيشونها في الوسط الحضري (16).

وهذا الأمر يعني بطبيعة الحال أن المدينة تعيد تشكيل ابنائها أو سكانها بنحوٍ يجعلهم يتشابهون في طرز التفكير وأنماط السلوك، ولهذا وجدنا ان السكان المدينيين يمتازون بخصائص وسمات تفرقهم وتميزهم عن سكان الريف أو البوادي، ولقد اجمل سيمل خصائص الحياة المتروبولية في مظاهر عدة، يمكن أن ينظر لها كذلك بوصفها تعريفات للمدينة ذاتها، وهي كالآتي:

المتربول هو مجال (الاستقلال الفردي).

المتربول هو مجال (أولوية العقل على العاطفة).

المتربول هو مجال (سيادة العقل التجريدي).

المتربول هو مجال (سيادة العقل الحسابي).

المتربول هو مجال (إنتاج السأم).

المتربول هو مجال (العقل الحذر) (العقلية المتحفظة).

المتربول هو مجال (الحرية الممنوحة للأفراد).

المتربول هو مجال (تحقيق الكونية).

المتربول هو مجال (ألفردية والعقلنة).

المتربول هو مجال (ثقافة الموضوع) (الثقافة الموضوعية).

المتربول هو مجال (التقسيم الاكبر للعمل) (17).

ان المرتكز الرئيس الذي تدور حوله خصائص الحياة الحضرية هي "العقلانية"، وهذا الامر هو ذاته ما اهتم به ماكس فيبر عندما ولجَ الى موضوعة (المدينة) والحياة الحضرية، ومن ثم فان الذهنية الحضرية مدارها الرئيس هو (التفكير والسلوك العقلاني/ الحضري).

لقد كان جل اعمال ماكس فيبر -M.weber  (1864- 1920) تدول حول محورين اساسيين هما (العقلنة) و(الشرعية) أو (السيادة) "Herrschaft". ان المسألة التي ينبغي التنبيه إليها هي: ان ماكس فيبر هو يسعى الى وضع النموذج المثالي للمدينة كان يعتبر انه لا وجود للمدينة بالمعنى الذي يقدمه الا في اوروبا الغربية، لان المدينة الغربية هي  قمة ما بلغته العقلنة الحضرية والتي تتجسد في مختلف تنظيماتها، وسيتضح هذا الموقف اكثر عندما يخصص لهذه المدينة صفحات عديدة للإشادة بالديموقراطية المحلية التي نشأت وازدهرت فيها (المجالس السلطوية والقضائية والمالية المنتخبة، ووضع دستور خاص بكل مدينة)(*) . فهو يؤكد دائماً على الأصالة المتميزة والفريدة للحضارة الاوربية وللمدينة الغربية بالخصوص والتي عرفت وحدها نظام الجماعة الحضرية المنتخبة (النظام البلدي) الذي يعني المدينة في اوجه اشتغالها، إنها قمة العقلنة الحضرية التي تنتهي بإندماج وانصهار كل العناصر البشرية مهما كانت أصولها الجغرافية أو مكاناتها الاجتماعية في المواطنة الحضرية (وهذهِ المسألة سنعود لها لاحقاً)، ان الحضارة الغربية هي التي اكتشفت وابدعت المدينة(*)!! (بحسب رؤيته) (18).

إن الخلاصة العامة التي يمكن الخروج بها من أطروحات فيبر هو تركيزه المستمر على العقلانية التي تجد ممارساتها أو تطبيقاتها في الفعل الاجتماعي (الرشيد) كما حددهُ هو، ولما ربط بين انماط السيادة فأنه عول على أهمية المدينة بوصفها حاضنة اجتماعية لذلك النمط العقلاني، ولكونه مسؤولة بعدئذ عن ترسيخ معالم (عقلنة حضرية) بوصاية ورعاية سياسية مباشرة.

لو أردنا أن نذهب نحو العمق لفهم أصول تلك العقلنة الحضرية التي يتحدث عنها فيبر وصلاتها بالنظام السياسي العام، لنجد ان الامر يرتبط بالنموذج الاوروبي بدرجة معتد بها، وأن ظلت بعض الأمور التي ترتبط بمسارات حضارية خاصة، لعلنا نستطيع ان نفهم بعض هذهِ الأمور لو أننا تتبعنا بعض أطروحات شارلز تايلر ''Charles Taylor'' (وهو أحد الفلاسفة السياسيين المعاصرين) في كتابه المترجم مؤخراً إلى العربية المتخيلات الاجتماعية الحديثة ''Modern Social Imaginaries'' وهو ينطلق من مصطلح "المتخيل الاجتماعي" في تتبع تشكل الذات الغربية وهويتها، وبعض مسارات الحداثة التي مرت بها إزاء موضوعات إنسانية متعددة.

ويعني "بالمتخيل الاجتماعي" شيئاً أوسع وأعمق من الصيغ الفكرية التي قد يعتمدها الناس عندما يفكرون في الواقع الاجتماعي بعيداً عن الانخراط فيه، وأنا أفكر في الطرائق التي يتصور الناس من خلالها وجودهم الاجتماعي، وكيف ينسجمون مع الآخرين، وكيف تجري الأمور بينهم وبين أقرانهم، وكذلك في التوقعات التي تجري تلبيتها عادةً، إضافة إلى الأفكار والصور المعيارية الأعمق الكامنة خلف هذهِ التوقعات (19).

إن أنعكاسات الواقع الاجتماعي وطرائق الناس في تصور وجودهم الاجتماعي والتوقعات المتفق عليها، كل هذه الامور تجد صداها في الوسط الحضري (المدينة) بوصفها دائرة أوسع لعمل هذا التخيل الاجتماعي الذي يعكس هيمنة النزعة العقلانية الحضرية على حياة الافراد، ولقد فسرت اشتغالات كل من ماكس فيبر وجورج سيمل بوصفها متقاربات لموضوعة المخيال(*) أو التخيل الاجتماعي لحياة المدينة. وذلك على اعتبار ان هناك مجموعة من الصور التي تحكم الوعي والحياة الاجتماعية الحضرية داخل المدينة، ومن ثم فهي تسيّر أفرادها بموجبها، وهي تعبر ضمناً عن تصارع توجهين داخل المدينة بين العقلاني واللاعقلاني.

أبدت السوسيولوجيا الألمانية نهاية القرن التاسع عشر وتحت تأثير فينومنولوجيا هوسرل، نزوعاً إلى "الليونة المنهجية" مقارنة بنظيرتها الفرنسية، مبتعدة من هيمنة العلموية الوضعية من أجل دراسة حقيقة الموضوعات المعيشة، قيمها ومقاصدها، وذلك بإنجذاب بيّن إلى المظهر اللاعقلاني والعاطفي للحياة الاجتماعية، وضمن هذا السياق، يمكننا وصف خصائص فكر ماكس فيبر، فبحسب السوسيولوجي الالماني فإن رابطاً صارماً يوجد بين الدين والفن، وهو المتعلق بالحقل "اللاعقلاني" وبالمتعالي، يسبق النزعة الفكرية العقلانية في الغرب، في تحليل فيبر للسلطة الكاريزمية(*) وللجماعة العاطفية، كان البدهي ان يمنح دوراً مركزيا ًلقدرات اللاعقلاني في اقتحام الحياة اليومية من أجل شرعنة سلطة تستدعي اللاوعي الجماعي.  ويفصح فيبر عن ذلك بوضوح، العقلانية تعمل من الخارج، بينما قد تكون الكاريزما تغيراً من الداخل. الأفكار العقلانية نشعر بها ونتابعها كثيراً من الخارج، بينما المقدس هو شيء يندرج في قرارة أعضاء الجماعة (20).

وعلى الرغم من اهتمام فيبر بالأصول اللاعقلانية للذهنية الغربية، عبر حديثه عن الكاريزما، الا انه بين بلا لبس مآلاتها العقلانية المؤسساتية داخل بنية المدينة التي ستبلع كل تلك الحماسة العاطفية ومؤيدوها وتجعلهم أمام ضروريات الحياة المدنية/ البيروقراطية التي لا مناص منها، بوصفها مرتبط بالبنية الداخلية لأسس التغيرات الاجتماعية المتسارعة لذلك العقل الغربي الذي عمدَ عبرَ حداثته إلى فك السحر عن العالم وأصبح العالم خاضعاً لتغير العقلاني والنمط السلوكي العقلاني فحسب، وأن تبلورات كاريزمية تنشئ في احضان الدين أو البنى التقليدية/ الأبوانية مصيرها المحتوم هو الانصهار في بوتقة الوسط المديني/ العقلاني الذي يصهر كل التوجهات اللاعقلانية استناداً إلى العقلنة الحضرية وقوتها على التحويل والتغيير.

لقد نـُفي اللاعقلاني في الحياة البشرية بطريقة حددتها عملية فك السحر عن العالم، من خلال حرمان الإنسان من الاشباع العاطفي لشعوره الديني الحقيقي: أينما حققت المعرفة الامبريقية العقلانية، وبطريقته منهجية، عملية فك السحر عن العالم، وتحولهِ إلى آلية سببية، تجلى بشكل نهائي التوتر مع إدعاءات المسّلمة الأخلاقية التي تقول إن الكون ينظمه الله (...) التفكير الامبريقي في العالم خصوصاً ذلك الذي يحمل خلفيات/ رياضية/ يرفض مبدئياً كل تفكّر يبحث بصفة عامة عن معنى لما يطرأ ويستخدم في العالم (21).

أما بالنسبة إلى جورج سيمل فلقد ربط بين الأشكال الاجتماعية (لتجليات الوسط الحضري/ المديني) والتي أصبحت مستقلة عن الأفراد بعد أن كوّنوها وبين التخيل الاجتماعي، الذي ينجم عن هذهِ الاشكال، وبحسب مراجعات غراسي: بالمنظور نفسه، يرتبط سيمل بالنظريات عن المخيال، خصوصاً في ما يتعلق بمفهوم "الشكل" ووظيفته الكشفية. هدف علم الاجتماع هو تحليل أشكال العلاقات الاجتماعية التي هي مستقلة عن المضامين التي تحملها في مختلف أوضاع الحياة التاريخية - الاجتماعية، يمثل الشكل "الرابطة الضرورية... بين التجربة وجوهر الاشياء بين المعيش الاجتماعي والتمثلات القائمة تجاه ذلك المعيش، الاشكال يمكن أن تقارب النماذج الأصلية، بمعنى أنها ثابتيات (لا تغيّرية)، ثوابت تتُرجم في "وضعيات معتادة" ووفق ما يشير ميشيل مافيزولي، فإن شكلانية "Formisme" جورج سيمل يمكن ان تخفف من صرامة البنيوية، لأنه مع احتفاظه بمقاربته السديدة عن الثابتية، فإنه يمكنه افتكاك الهشاشة والتيارات الحيوية في الواقع المعيش (22).

لو قمنا بدمج هذهِ الأطروحات مع الفهم الذي تبناه تشارلز تايلر حول "المتخيل الاجتماعي" لوجدنا اننا نتحدث عن وسط حضري (المدينة) التي أنبجست من خلالها الحداثة الغربية برمتها والتي طالت كل جوانب الحياة، وهذا عين ما تحدث عنه فيبر وسيمل، إذ أن الذهنية الحضرية المتعقلنة التي تحدثوا عنها انما هي خلاصة (السيادة/ العقلانية (السياسية) من جهة و(الأشكال الاجتماعية لصيغ التحضر) فكلاهما صنعا عقل حداثوي/مديني عبَر عن تزاوج وتماهي (السلطة بمحددات الحياة الحضرية).

وخلاصة كل ذلك هو نشأة نظام اخلاقي للمجتمع (المديني)، وهذهِ هي الفرضية الأساسية لتشارلز تايلر والتي يحاول البرهنة عليها من خلال تلك المتخيلات الاجتماعية أو كما قال: "فرضيتي الأساس هي أن المفهوم الجديد، مفهوم النظام الأخلاقي للمجتمع، أمر مركزي في الحداثة الغربية ، وكان هذا في البداية مجرد فكرة في أذهان بعض المفكرين من أصحاب التأثير الواسع، لكنه صار في وقت لاحق يشكل المخيلة الاجتماعية لشرائح اجتماعية واسعة. ومن ثم المجتمعات بأسرها في آخر المطاف، وصار من الواضح بذاته الآن أننا نجد صعوبة في النظر إليه بإعتباره مجرد مفهوم محتمل من بين مفاهيم محتملة متعددة، وانتقال هذهِ النظرة إلى النظام الاخلاقي إلى متخيلنا الاجتماعي يعني قيام أشكال اجتماعية بعينها، هي تلك الأشكال التي تتصف حداثتنا الغربية بها من حيث الأساس: اقتصاد السوق، والمجال العام، والشعب الذي يحكم نفسه بنفسه، وغيرها"(23).

ولقد آن لنا نتسأل هنا؟ هل يمكن عدَ المعايير الحداثوية الغربية ولاسيما الوسط الحضري/المديني الغربي الذي صنع أو ولدَ ذهنية حضرية متعقلنة، بمثابة المقياس الذي ننطلق منه لفهم مزايا وسمات الوسط الحضري بوجهٍ عام لمدننا العربية لاسيما بغداد على وجه الخصوص؟ أم ان المسألة بها مجازفة ومغالاة ومماثلة غير متكاملة في ظل وجود أمرين يجادل عنهما الآن بقوة وهما:

أولاً: وجود حداثات متعددة وليس حداثة واحدة مركزية (الحداثة الغربية).

ثانياً: أن تطور الوسط الحضري/ الغربي بكل عناصره وسماته مختلف عن الوسط الحضري/ العربي والاسلامي والذي اقترن بخصوصيات ثقافية وجغرافية متعددة.

لعل المنطق السوسيولوجي الداخلي سيجعلنا أمام أهمية وجدوى الارتكاز على مقولات واطروحات علماء الانثروبولوجيا والاجتماع، ما دمنا نحاول اجراء مراجعة فعلية للوسط الحضري لمدينة بغداد، والوقوف على إنهياره، إذ كيف نشخص الانهيار في من دون مجسات ومقاييس اجتماعية نعرفُ بها مصداقية قولنا بحدوث هكذا انهيارات حضرية، لاسيما على المستوى (الكيفي/ الثقافي).

أن ورقة العمل هذه تقدم التأطيرات النظرية/الغربية على حذر شديد بطبيعة الحال، ولكنها في الوقت عينه تنظر اليها كذلك، بوصفها معايير عالمية لا يمكن تجاوزها أو اغغالها، أياً كانت الشروط الثقافية أو النقل السياقات الثقافية/ المحلية التي نرى وجودها في مدينة بغداد.

أننا نريد القول ان هذه التأطيرات النظرية عندما نجعلها أمامنا أو نعدها بمثابة المنظار الذي نسعى من خلالها ادراك ماهية المثقف العراقي في الوسط الحضري، فأننا لا نجد للوهلة الاولى وكقراءة أولية إلّا عطالة ثقافية واضحة، وذلك لأن المدينة انما تتحرك بموجب السلوك الثقافي لأبنائها، والمثقفون كما يفترض هم أعمدة هذا السلوك، وهم غائبون بغياب (المدينة) ذاتها، وصهرتهم العصبويات (القبلية والطائفية والحزبية...) التي جرتهم إلى ساحتها فأطلوا كسياسيين!! أكثر من كونهم مثقفين.

وبمقاربة أخيرة نقول اننا ننشد (المواطنة الحضرية) ''Citizenhood'' والتي يراد بها السلوك الثقافي المعبر عن الوسط المديني/الحضري الذي يجعل الافراد يتصرفون بنحو مماثل ومطابق من جهة الولاء للثقافة التي يحيون فيها في الوسط الحضري، انها بحسب ندوة لندن المنعقدة عام 1984 انما هي دلالة على الهوية، إذ تؤدي الولادة والنشأة في الشارع نفسه والعيش في الحي عينه إلى تآزرات بين الاشخاص تتجاوز الانشقاقات السياسية أو الايديولوجية. وأظهرت اعمال لاحقة ان المواطنة الحضرية متلازمة مع المكان: تفتح المواطنة الحضرية منفذاً آخر للمكان الجغرافي.... وهي أرض تتبلور فيها مختلف طرق تنظيم المجموعة الحضرية (24).

فالفكرة الجوهرية لمفهوم المواطنة الحضرية تركز على: ممارسات التمايز التي تسمح للافراد بتأكيد انتمائهم إلى الجماعة وهو ما يسمح للربط بين المواطنة الحضرية والهوية، ومن ثم يتم التشديد على عمليات الاندماج في المدينة واكتساب ثقافتها وهويتها عبر ممارسات فردية أو جماعية تفضي إلى الاستمدان (أو التمدين)(25).

انها بعبارة مكثفة العلاقة مع العالم الحضري الذي يحيا بوسطه الانسان، أو الجماعة، أو المجتمع مثل ما قال ميشال لوسو  ''Mishe Lussault'' عالم الجغرافيا الشهير بعد سؤاله المركزي: ما هي المواطنة الحضرية؟ وتبدو إجابته عن السؤال بديهية: هي بكل بساطة العلاقة بين أي فاعل اجتماعي فرد، سواء أكان شخصاً أو مجموعة أو مؤسسة، وبين محيطه، اي العالم الحضري الذي لا يمكن انتقاصه بحيث يلخص ببعده المكاني فقط (26) .

ان مفهوم (المواطنة الحضرية) إذا استدمج مع سائر المفاهيم والقضايا السابقة التي تم الحديث عنها من منظار انثروبولوجي وسوسيولوجي، انما تفضي بحسب اتخاذ كل ما تقدم كمعايير موضوعية للنظر إلى مدينة بغداد إلى صورة سوداوية ضاعت بها القيم المدينية/ العقلانية بل وتفسخت المدينة بنحو جلي.

مما يجعل من عطالة المثقف فيها تحصيل حاصل للوهلة الاولى وبحسب المقاربة النظرية (المعيارية)، وذلك لأن السلوك الثقافي/ الحضري المفترض وجوده بالنسبة للمثقف قد غاب بغياب المدينة ووسطها الحضري ذاته.

وما مقالتنا إلّا ملاحظات نظرية/ أولية لا يسمع المقام تفصيلها بأمثلة وبراهين للتدليل على ما قلناه حول عطالة المثقف العراقي، ولكننا نكتفي بالمعايير النظرية ذاتها كيما ندشن لرؤية مستقبلية لتحليل وافٍ عن فرضينا الجوهرية التي ابتدأنا بها المقال وهي قولنا: بأفتقار الوسط الحضري/البغدادي لأدنى حد من الاشتراطات الثقافية/المدينية لانتاج سلوك ثقافي/عقلاني يضطلع به هؤلاء (المثقفون) الذين تاهوا في صحراء المدينة!! ومنطقها الايديولولوجي الطاحن!!؟.

***

د. جعفر نجم نصر - أستاذ الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع

الجامعة المستنصرية

....................

الهوامش والمصادر

(1) ميشال أجيي، أنثروبولوجيا المدينة، ترجمة ومراجعة: سعيد بلمخبوت، اصدارات مجلة الفيصل، المملكة العربية السعودية، ط1، 2016، ص113.

(2) مونيس بخضرة، تاريخ الوعي، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، دار الأختلاف (الجزائر)، ط1، 2009، ص45

(3) علي حرب، أوهام النخبة أو نقد المثقف، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط5، 2012، ص98.

(4) المصدر نفسه، ص99.

(5) ينظر: محمد مكية، بغداد، دار الوراق ، لندن، بيروت، ط2، 2009، ص149-176.

(6) علي حرب، المصدر نفسه، ص175.

(7) ينظر: قيس النوري، الانثروبولوجيا الحضرية بين التقليد أو العولمة، مؤسسة حمادة للدراسات الجامعية للنشر والتوزيع، عمان، 2011، ص132-136.

)(8) G.M.Faster & Kemper, Anthropologist in cities, Little Bounce Co. Boston, 1979, PP.16-19.

(9) ينظر: مجيد حميد عارف، انثروبولوجيا التنمية الحضرية، مطابع التعليم العالي، بغداد، 1990، ص18-19.

(10) ينظر: ميشال أجيي، المصدر السابق نفسه، ص115-117.

(11) د. قباري محمد اسماعيل، علم الاجتماع الحضري، الناشر: منشأة المعارف، الاسكندرية، ط1، 1986، ص49.

(*) ومما ينبغي لفت الانتباه إليه هنا هو أن "حضارة المدن" إنما تكمن في ماضيها وتاريخها، أما الحضرية فلا تاريخ لها فقد تنشأ وتصدر المدن طفرة، وتسمى بـ"المدن الشيطانية" تلك التي تظهر فوراً لكي تلمع فجأة حول المناجم، ثم سرعان ما تخبو مدن الاشباح "Ghos Cities" نتيجة استهلاك ما فيها واستغلال معادنها، وتتحول مدن التعدين بعدها إلى "جبانات من المدن الخربة والمهجورة" على العكس من هذه النظرة القائمة، لقد ازدهرت الحياة الحضرية وتفتحت في دويلات الخليج العربي، لتفاصيل اكثر ينظر: المصدر السابق نفسه، ص48-50.

(12) ينظر: المصدر السابق نفسه، ص407-413.

(13) د. عبد الرحمن المالكي، مدرسة شيكاغو، ونشأة سوسيولوجيا التحضر والهجرة، افريقيا الشرق، المغرب، ط1، 2016، ص29.

(*) لقد كان سيمل أحد اربعة علماء اجتماع عرفتهم ألمانيا بين 1890-1920، ونعني بهم: فرديناند تونيز F. tounes""، وماكس فيبر، ورنر سومبارت "R. Soumparte"، فلقد اهتم هؤلاء الأربعة بالتغيرات الاجتماعية الكبرى التي فجرها التصنيع في ألمانيا وباقي الدول الأوروبية الأخرى التي كانت تشهد عملية الانتقال السريع والمثير في الحياة القروية إلى الحياة الحضرية المعقدة، ويعتبر ستيفان جوناس ان هؤلاء العلماء الاربعة هم الذين ابتكروا فكرة المدينة الكبرى كمفهوم نموذجي/مثالي، وكنمط ثقافي واسلوب في الحياة، أي كظاهرة كبرى تمس منذئذ كل المجتمع وكل الحضارة. ينظر: د. عبد الرحمن المالكي، مدرسة شيكاغو، مصدر سابق، ص40.

(14) د. عبد الرحمن المالكي، المصدر نفسه، ص42-43.

(15) المصدر نفسه، ص43-44.

(16) ينظر: محمد ياسر الخواجة، علم الاجتماع الحضري بين الرؤية النظرية والتحليل الواقعي، مصر العربية للنشر، القاهرة، 2010، ص51.

(17) د. عبد الرحمن المالكي، المصدر نفسه، ص44-45.

(*) بوجهٍ عام إن المدينة بالنسبة له، كما يتجلى من خلال التقرير حول محاضرة 1917 هي إحدى مميزات تاريخ الدستور الغربي، فهي تورد عنصراً جديداً من عناصر السيادة، وهو ما يسمى بالنموذج الرابع من شرعية السيادة، والذي يقوم على إرادة المحكومين، وبذلك فإن المدينة تسجل في نفس الوقت ميلاد الدولة القانونية، والديمقراطية الحديثة، وإن بقيت من حيث التحقق بعيدة جداً لتفاصيل اكثر ينظر: ماكس فيبر، الاقتصاد والمجتمع، ت: محمد التركي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2015، ص69.

(*) بوجهٍ عام إن المدينة بالنسبة له، كما يتجلى من خلال التقرير حول محاضرة 1917 هي إحدى مميزات تاريخ الدستور الغربي، فهي تورد عنصراً جديداً من عناصر السيادة، وهو ما يسمى بالنموذج الرابع من شرعية السيادة، والذي يقوم على ارادة المحكومين، وبذلك فإن المدينة تسجل في نفس الوقت ميلاد الدولة القانونية والديمقراطية الحديثة، وإن بقيت من حيث التحقق بعيدة جداً. لتفاصيل اكثر ينظر: ماكس فيبر، الاقتصاد والمجتمع، ت: محمد التركي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2015، ص69.

(18) د. عبد الرحمن المالكي، المصدر نفسه، ص35.

(19) تشارلز تايلر، المتخيّلات الاجتماعية الحديثة، ت: الحارث النبهان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، ط1، 2015، ص35.

(*) عَرَف مصطلح "المخيال Imaginaire" خلال تطوره التاريخي المفهومي معاني متعددة، فقد كان في البداية يقابل "الواقع/ الحقيقي"، فإنتهى إلى أن يقصى في مجال اللاوقعي/غير الحقيقي أي "الخيالي" أو "التوهمي" بعد ذلك، صار ينظر إليه بإعتبار مرادفاً للتخيل والفانتازيا أو الخيال النزوي "Fantaisie"، ما أفقد المفهوم أصالته خصوصاً أنه صار يستدعي تصوراً خرافياً (فانتازيا) لا علاقة له بالواقع، في المقابل، في خلال القرن العشرين، أعادت نظريات أخرى دراسة مقالة المخيال هذهِ من زاوية تتجاوز الزاوية الاختزالية للعقلانية، مفسحة في المجال لنسق حركي منظم للصور التي تتخذ معنى بفضل علاقة التفاعل الداخلية، وفاعلية هذا النسق شرعية، و لا واقعية" في آن لأنها تعتبر أداة للدخول في علاقة تفاعلية مع الكون من خلال فعل بنّاء وحيوي، من دونه سيغدو الكون مستعصياً على الإدراك، وإذا كانت العلاقة بالعالم ستمر من خلال الصور، فإن هذهِ الأخيرة تمتلك قوة عظيمة لأنها مؤسسة للمعنى، فالصورة، أو الرمز تقوم بـ"توسط الأبدي/ الازلي في الزمني". ينظر: فالنتينا غراسي، مدخل إلى علم اجتماع المخيال، ت: محمد عبد النور وسعود المولى، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، ط1، 2018، ص15-16. .

(*) يقول فيبر عن نشأتها: في المعنى "الخالص" الذي وقع وصفه هي دائماً وليدة أوضاع خارجية غير عادية - سواء كانت هذهِ بالأخص سياسية أم اقتصادية ام نفسانة دينية، أم كليهما معاً، فهي تصدر عن انفعال عاطفي خارج للعادة لدى مجموعة من الناس وعن تحمسهم للبطولة مهما كان مضمونها، ومن ذلك وحده ينتج: أنّ الإيمان بالكاريزما قد يؤثر بقوة لا تنفث وبوحدة ومناعة على صاحبه وحواريه -سواء كان هذا الإيمان نبوياً أم ذا مضمون آخر - مثلما يؤثر التحمس العقائدي على أولئك الذين يشعرون أنه أرسل إليهم عليه وعلى رسالته بإنتظام في حالة الصورة "Statu Nascendi" وإذا ماعادت الحركة التي رفعتها المجموعة القائدة كاريزماتياً عن المعتاد ولتشرق على الحياة اليومية، فتعظيم السيادة الكاريزماتية الخالصة على الاقل بإنتظام، إذ ستنتقل إلى "المؤسساتي" وستنثني ومن ثم ستصبح إما آلية وإمّا سيقع ردعها من خلال مبادئ بنيوية مغايرة تماماً لها أو تذوبيها بالاستعانة بهذه المبادئ في أشكال مختلفة ولغمه بحيث تكون مرتبطة بها فيما بعد بصفة وثيقة ومتغيرة غالباً إلى حد الطمس، ولا تمثل عنصراً مهيئاً للشكل التجريبي التاريخي الا بالنسبة للاعتبار النظري لتفاصيل اكثر: ينظر: ماكس فيبر، المصدر السابق نفسه، ص524  .

(20) فالنتينا غراسي، المصدر نفسه، ص51.

(21) فالنتينا غراسي، المصدر السابق نفسه، ص51-52.

(22) فالنتينا غراسي، المصدر نفسه، ص53.

(23) تشارلز تايلر، المتخلات الاجتماعية الحديثة، مصدر سابق، ص12.

(24) محمد ناصري، المواطنة الحضرية في مواجهة القرن، مقالة في كتاب: المدينة في العالم الاسلامي، المجلد الثاني، تحرير: سلمى الخضراء الجيوسي وآخرون، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2014، ص1125.

(25) المصدر نفسه، ص1129.

(26) المصدر نفسه، ص1130.

 

كوسيلة لتسوية الخلافات السياسية والطائفية

ملخص: يتطلب تحليل وفهم منطق اللجوء إلى القوة والعنف لتسوية الخلافات السياسية والأيديولوجية في المجتمعات العربية والإسلامية إعتماد منهج (هابرماس) الذي يعتمد على نظرية الفعل التواصلي وتستند على العملية النقدية والتحليل النفسي، وذلك من أجل تحقيق غاية تحرر الإنسان من الأوهام وتحقيق الإستقلالية والحياة الصالحة، وتروم النظرية التواصلية إلى فهم مغزى الفعل البشري من أجل الوصول إلى مجتمع تنتفي فيه الفروقات المبنية على النزوعات الطائفية والتي تشكل الدافع الأساسي للعنف كبديل للتسويات السياسية السلمية بواسطة الحوار والتواصل البناء في مجتمع متعدد و / أو تعددي، وتجاوز اللاعقلانية ومشكلة هيمنة الأيديولوجيات التي تبني عليها الفئات المتناحرة أوهامها وهي معتقدات خاطئة عن ماهية مصالحها، وهذا يؤدي إلى بناء نماذج مجتمعات استبدادية تعدم فرص أيجاد نظام اجتماعي مستقر، وتحول البشر إلى أفراد مجتمع متناحرين فيما بينهم بما يؤدي إلى حرب الكل ضد الكل حسب (طوماس هوبس).

كلمات مفتاحية: القوة والعنف – الخلافات السياسية – النظرية التواصلية – الطائفية – الحوار والتواصل .

مقدمة:

بينت الأحداث الجارية في مدينة السويداء في سوريا على أن السلم الإجتماعي في الدول العربية والإسلامية هش جدا، باعتبار أنه غير مؤسس على نظرية للدولة صلبة وصامدة تستطيع أن تحتوي كل الطوائف والإثنيات المشكلة للنسيج المجتمعي بشكل يؤدي إلى ضمان حقوق الجميع ووضع سقف للتعايش السلمي وقبول الإختلاف، (مع ضرورة التأكيد على نسبية هذا الحكم فيما يخص الحالة السورية، باعتبار أن الظروف السياسية الداخلية والتدخلات الأجنبية لابد أن تؤخذ بعين الإعتبار) وعلى هذا الأساس فالسلم الإجتماعي كوسيلة لتحقيق الإستقرار والتنمية يضلان في وضعية غير مريحة كفيلة بتحقيق مجتمع يسود فيه منطق القانون ويغلب عليه طابع الحوار العقلاني المبني على ركيزة المواطنة، لهذا فالدولة في المجتمعات العربية والإسلامية ماهي إلا تلك القشرة التي تغطي تقرحات المجتمعات وأمراضها الإجتماعية ونزوعاتها الأيديولوجية المدمرة، فحالما تزول تلك القشرة تنزع نحو العنف والإحتراب.

محاولة لفهم أسباب النزاعات المسلحة في الدول العربية

لابد لفهم أسباب النزاع بين الدروز وعشائر البدو في السويداء من الانطلاق من مساءلة دور الدولة في ذلك النزاع، (وهذه الحالة قابلة للتعميم بطبيعة الحال، نظرا لتشابه التركيبة الإثنية والطائفية في جميع الدول العربية) وعلى ما يبدو فغياب هذا الدور هو الذي فاقم الوضع وأدى إلى انتشار الفوضى والعنف، وهذا الوضع غير المستقر لمكونات مجتمع متعدد ومختلف عقائديا وطائفيا وإثنيا سوف يقودنا في التحليل إلى نتيجة مفادها أن الدولة في العالم العربي ليست سوى ذلك الكائن الهلامي القابل للانهيار في أية لحظة، لأنها لم تكن مبنية سوى على توافقات قبلية أو طائفية أو مصلحية ظرفية هشة، وليس على مبادئ وأسس عقلانية قادرة على استيعاب جميع الاختلافات والتوترات والتناقضات، وبالنسبة لهابرماس فالأسباب الحقيقية تعود إلى غياب الحوار والتواصل[1]، ووفقا لمفهوم العقلانية التواصلية فالمجتمعات التقليدية تشيد فهما أسطوريا للعالم يٌشكل داخل التقاليد الثقافية وجه التباين الحقيقي مع الفهم الحديث للعالم؛ حيث يؤدي الفهم الأسطوري للعالم إلى تشييد تمثلات للفعل غير عقلانية، وينتمي هذا الفعل الأسطوري إلى طور ما قبل الطور المنطقي للمعرفة والفعل، وهذا ما يؤدي إلى التفكير الوحشي، حيث الإيمان بالسحر مثلا في القبائل البداية حسب أبحاث (ليفي شترواس) أثبتت أن الفوارق بين التفكير الأسطوري والتفكير العقلاني الحديث تظهر بشكل أساسي على مستوى الوسيط اللغوي الذي تنعكس ضمنه علاقات الفاعل بالعالم، حيث تغدو الأفعال آلية للتنسيق بين أفعال الفاعلين المشاركين وتبريرها، و تدار بحسب المصلحة الجماعية عبر الوسائط اللغوية[2]، ويفترض الفعل التواصلي وجود اللغة باعتبارها وسيطا للتفاهم تصاغ ضمنه المقولات التي تعزز موقف الجماعة ضد الجماعة الأخرى المناوئة، وفي إطار هذه السردية المبتورة ينعدم الوطن وتفتقد الدولة ويصيران شيئان غير ضروريان بل وغير مرغوب فيهما، لأن العالم تعاد صياغته في قوالب تفاعلية رمزية وبلاغية تقوم بتشكيل المعنى وفق خارطة طائفية أو إثنية وهندسة عقلية جديدة تتمركز الطائفة أو الإثنية في صلبها عوض الوطن والدولة[3]، وحسب (ماكس فيبر) فنزع السحر عن العالم (فهم العالم بوضوح) يتطلب وعيا اجتماعيا متطورا؛ بحيث يؤدي إلى فهم أعمق له على ضوء دينامية الفعل الفردي وفهم الظواهر الإجتماعية يكون من خلال تحليل بنية الفعل الإجتماعي الفردي في المجتمع.

نظرية الدولة في الفكر السياسي الإسلامي

يحدد اِبن خلدون أنماط الحكم ثلاثة أنماط للحكم هي[4]: حاكم أو ملك مستبد، 2- الحكم المدني؛ 3- الحكم الديني أي الحكم بشرع الله أي الإمامة والخلافة. وبالتالي فابن خلدون يؤسس نظريته للحكم والسلطة على ثلاثة أنماط من المشروعية السياسية، وأورد أن مشروعية الخلافة مرغوب فيها باعتبار كونها الحكم بشرع الله أي الإمامة والخلافة، وربطها بالعصبية والغلبة، وهذه النظرية الخلدونية أثرت على الفكر السياسي الإسلامي، وجعلت منطق السلطة والدولة مرتبطا بعنصرين رئيسيين هما: الخلافة والعصبية، في حين وعلى خلاف ابن خلدون يرى الفارابي أن الدولة كيان يجب أن يرتكز على الأخلاق والحق والعدل، وأن الهدف من إنشاء الدولة هو الإنسان ذاته، فهي دولة تتمتع بالصلاح والعدل[5].

ويرى حسن البنا أن الدولة يجب أن تندرج ضمن إطار شمولية الإسلام باعتباره يتضمن مبادئ لبناء دولة تجمع الجانبين الدنيوي والأخروي في كفة واحدة[6]، ويجب على هذه الدولة أن تطبق الشريعة الإسلامية كمصدر وحيد للتشريع، ويرى علي عبد الرازق في نقده للخلافة أن القرآن والسنة لم يحددا نمطا معينا من الحكم في الإسلام وبالتالي ترك الأمر للإجتهاد البشري، وأن الآية التي تحدثت عن الشورى { وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (سورة آل عمران38)} لا يمكن الإستناد إليها بالقول إن القرآن حدد نمطا للحكم في الإسلام، لأنها تعتبر قاعدة عامة ولم تقدم أي تصور للحكم بناء على هذه القاعدة، كما أن السنة لم تقدم تفسيرا لهذه الآية، والتفسيرات المتوفرة إلى الآن ماهي إلا اجتهادات الفقهاء، وبالتالي فنظرية السلطة والدولة في الفكر الإسلامي لم تستطع الخروج من دائرة الفقه التراثي إلى مجال الفكر السياسي والإجتماعي، ويرى الجابري أن العقل العربي يرتكز على ثلاثية[7]: العقيدة – القبيلة – الغنيمة، وتشكل هذه القاعدة الركيزة الأساسية للفعل الإجتماعي والسياسي في الثقافة العربية، وتؤثر بالتالي على تمثل العرب والمسلمين لجميع العلاقات الإجتماعية بما فيها علاقة الفرد والمجتمع بالدولة والذي يرتكز على هذه الثلاثية.

آفاق بناء الدولة الحديثة في واقع المجتمعات العربية والإسلامية

يواجه بناء الدولة الحديثة في واقع المجتمعات العربية والإسلامية رهانات وتحديات كبيرة بعضها مرتبط بتمثل العرب و المسلمين للدولة والتي لا يجب أن تنفصل عن العقيدة الإسلامية والولاء للطائفة أو العشيرة، وهذا الأمر يطرح إشكالية العلمنة؛ بحيث لا يزال يعتقد العرب والمسلمون أو على الأقل قطاع كبير منهم (حتى من المثقفين) أنه يستحيل فصل الدولة عن الدين في التجربة الإسلامية على غرار ما هو معمول به في الغرب، باعتبار أن السياقين السياسي والإجتماعي مختلفان، وهذا الإعتقاد يتعزز بموقف سياسي مرتبط بإمكانية عودة الخلافة الإسلامية والتي سوف تعيد للعرب والمسلمين أمجادهم السياسية والإجتماعية، ويسود هذا الإعتقاد عند قطاع عريض من المسلمين باستثناء بعض المثقفين المحسوبين على التيار العلماني والحداثي؛ والذين يدعون إلى إتباع نفس خطوات الغرب في فصل الدين عن الدولة وتبني الأيديولوجية الليبرالية باعتبارها تجسد أرقى ما وصلت إليه البشرية في العصور الأخيرة من التنظيم السياسي والإجتماعي؛ وذلك بحكم كونها تتضمن مصفوفة من المبادئ السياسية والإجتماعية التي أثبتت نجاحها في تدبير المجتمعات الغربية؛ وبالأخص النظام الديمقراطي ومنظومة حقوق الإنسان[8].

غير أن الإشكال الذي يترتب عن هذه النظرية المتعلقة بالدولة سواء في الفكر السياسي الإسلامي أو في واقع العرب والمسلمين، هو عدم قدرتهم على بلورة تصور أو نظرية للدولة الحديثة بعيدة عن طوباوية الخلافة، وعدم قدرتهم على استبطان وقبول فكرة الدولة المدنية الحديثة القائمة على أساس العقد الإجتماعي كما صاغه (جون لوك) وما يستدعيه من الخروج من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية[9]، بالرغم من كونهم يعيشون في كنفها (الدولة المدنية) منذ بناء الدولة الوطنية القطرية؛ وهذا الواقع أدى بهم إلى بقائهم عالقين بين التجربة السياسية الإسلامية التي هي الخلافة المأمولة بما هي دولة تستند إلى الفقه الثراتي الذي يرتكز على تفسير النصوص الدينية وفق آليات وقواعد العصور القديمة، والغربية والتي هي الدولة المدنية الحديثة المعاشة التي ترتكز على الديمقراطية و مبدأي سمو القانون و المواطنة[10].

وهذا التناقض بين مرجعية ثراثية وأخرى حداثية، و بين حلم مفقود وواقع معاش الذي يعيشه المسلمون، أسقطهم في الإنتظارية وعدم الحسم في هوية الدولة، الشئ الذي أدى إلى تأجيل حل كل الإشكاليات السياسية والإجتماعية والإقتصادية المرتبطة به، ما نتج عنه في المحصلة عدم قدرتهم على حل الخلافات السياسية الناشئة فيما بينهم بناء على قاعدة المواطنة التي هي فكرة تقوم على مبادئ الحرية و قبول الإختلاف وتحقيق المساواة وصون حقوق الأقليات وتقاسم الخيرات المادية والرمزية داخل الوطن الجامع ونبذ الكراهية والعنصرية المؤديتان إلى الفرقة والإحتراب[11]، وهذا الوضع يجعل من المستحيل بناء مجتمعات قائمة على التضامن والتسامح بعيدا عن منطق الولاء للقبيلة والعشيرة والطائفة، بحيث تصبح فكرة الدولة والوطن كيانا مؤقتا فقط سرعان ما يتم التخلي عنهما لصالح التعصب للطائفة أو الإثنية أو القبيلة أو العشيرة[12].

4 – الحوار العقلاني والتواصل البناء كحل لمواجهة معضلة الدولة والطائفية

لقد أدى سقوط الأنظمة السياسية وانهيار الدول بسبب ثورات ما سمي بـــ " الربيع العربي" إلى بروز الانقسامات القبلية والطائفية، الشئ أثار نقاشا واسعا وقلقا من طرف الشعوب التي كانت تراهن على هذه الثورات لتحقيق الحرية و الديمقراطية والمساواة والعدالة الإجتماعية والقضاء على الفساد والاستبداد، غير أن سقوط تلك الأنظمة الإستبداية كشف عن واقع اجتماعي مزري ومشحون بالتوترات الطائفية والقبلية، الشئ الذي نتج عنه سقوط الشعوب التي أزاحت تلك الأنظمة الإستبدادية في مستنقع الطائفية وعدم قدرتها على التعافي من هذه الآفة المدمرة، وأدى هيمنة البديل الأيديولوجي المرتبط بـــواجهة "الإسلام السياسي" في واقع الدول التي عاشت هذه التجارب إلى عدم القدرة على بلورة آليات سياسية واجتماعية تفضي إلى بناء مجتمعات تسودها ثقافة المواطنة والتسامح، بل إن النخب الجديدة التي تولت زمام الأمور بعد الثورات سرعان ما سقطت بدورها في نفس الولاءات الطائفية والقبلية وقامت بإعادة إنتاج أسباب الإستبداد والفساد، كما أن غياب الحوار العقلاني المبني على قاعدة التوافق والمواطنة والمفضي إلى الرغبة في تحقيق السلم الإجتماعي على ركيزة التعايش السلمي أدى إلى تشبث كل طرف من الأطراف برأيه واعتقاده بصوابية قناعاته الطائفية وامتلاكه للحقيقة المطلقة ضدا على مصلحة الوطن الجامع، وبالتالي جنحت تلك الطوائف إلى تعميق الجراح وتكريس الإنقسام والإمعان في التدمير والإفساد ونشر الرعب والتوحش[13].

أبانت العديد من النزاعات المسلحة والاختلافات الأيديولوجية في الدول العربية والإسلامية عن فشل ذريع وعجز جلي في تدبير الاختلافات السياسية والأيديولوجية والطائفية بواسطة الحوار العقلاني والهادئ بعيدا عن التشنج والتعصب الطائفي والقبلي، ويأتي هذا الموقف كنتيجة للاستبداد السياسي الذي مورس على الشعوب الإسلامية لعقود طويلة، الشئ الذي نتج عنه غياب ثقافة قبول الاختلاف والحوار والتفاوض، ورغم تنصيص القرآن والسنة على ضرورة اِنتهاج أسلوب الحوار مع المخالفين حتى من غير ملة الإسلام، إلا أن العرب والمسلمين ونظرا لعدم قدرة الفقه الإسلامي على بلورة اجتهاد فقهي ينص على الإشادة بثقافة الحوار وقبول الاختلاف، لم يستطيعوا قط الخروج من هيمنة الفكر الأحادي الرافض للنقد والحوار البناء والنسبية في الرأي والحقيقة، وذلك بحكم تأثره بالاستبداد السياسي الذي هيمن على المجتمعات العربية والإسلامية؛ بحيث لم يكن بمقدور الفقهاء مخالفة السلاطين والحاكمين في آرائهم، فكان نتيجة ذلك سقوط الفقه الإسلامي في الأرثوذوكسية الدينية الرافضة للحق في الاختلاف[14].

يتطلب الخروج من هيمنة الفكر الأحادي الأرثوذوكسي على الذهنية العربية – الإسلامية، وكذلك عدم قدرة الميتافيزيقيا الأخلاقية المحرفة و الموسومة بتلبس العالم بالسحر الذي يحجب الحقيقة عن الإدراك، القيام بمجهود جبار من طرف الدولة والقوى الفاعلة في المجتمع سواء الفكرية منها والسياسية والثقافية والدينية والاقتصادية، وكذلك ومؤسسات التنشئة الاجتماعية ووسائل الإعلام، وذلك من أجل العمل على بناء نموذج للتعايش السلمي المرتكز على الحوار العقلاني البناء، وهذا المجهود يندرج ضمن ما سماه (يورغن هابرماس) العقلنة القانونية من حيث اعتبار القانون تجسيد للعقلانية ووسيلة تنظيمية، حيث يتحول القانون من وسيلة للضبط الأمني والإداري إلى وسيلة لإنتاج الفعل العقلاني للمجتمع ويساهم في إنتاج المعنى المفقود في مستنفع الطائفية الآسن، ويفسر ذلك بكون العقلانية التواصلية هي حالة تٌناقض الميتافيزيقية العرفانية والإشراقية التي يرتكز عليها العقل العربي في تفسير وفهم العالم وفي بناء العلاقات الاجتماعية.

***

محمد أيت بود

باحث في العلوم السياسية

....................

الهوامش:

[1] - يورغن هابرماس – نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس – (المجلد الأول) عقلانية الفعل والعقلية الإجتماعية – مكتبة سر من قرأ – المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – ص 139

2 - نفس المرجع السابق ص 212

3 - قراءة في دور نظرية التفاعلية الرمزية – دين تامي رضا – قادة بن عبد الله نوال – مجلة منيرفا – مجلد 4 – العدد1 – ديسمبر 2017 – ص 2.

4 - ابن خلدون، المقدّمة، تحقق محمّد تامر، (القاهرة: مكتبة الثقافة الدينيّة، 2005)، 152-156

5 -إبراهيم، ز. (2008). الفكر السياسي الإسلامي بين النص والتاريخ. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية

6 - مفهوم الدولة عند حسن البنا – أبرار حامد ثامر – مجلة الحكمة للدراسات والأبحاث – المجلد 4 العدد 06 – 15-11-2024 .

7 - محمد عابد الجابري - العقل السياسي العربي، محدداته وتجلياته، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط3 1995، ص 372

8 - جدلية العلاقة بين الدولة المدنية والدولة الدينية وأثرها في الاستقرار السياسي – أ.م.د ديمة عبد الله أحمد –مجلة اتجاهات سياسية – المجلد الثامن – العدد 29 – ديسمبر 2024 – ص 330

9 - حالة الطبيعة كما صاغها طوماس هوبس مرتبطة بتلك الحالة التي كان يعيشها الإنسان البدائي قبل اهتدائه إلى أشكال التنظيم الإجتماعي، والذي أكد على أن في هذه الحالة يصبح الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان، ومثل للدولة بالليفياتان أو ذلك الوحش الكبير الذي يجب أن يحد من غلواء حالة الطبيعة عند الإنسان.

10 - جدلية العلاقة بين الدولة المدنية والدولة الدينية وأثرها في الاستقرار السياسي – أ.م.د ديمة عبد الله أحمد –مجلة اتجاهات سياسية – المجلد الثامن – العدد 29 – ديسمبر 2024 – ص 331

11- - الطائفية في المجتمعات العربية وانشطار الدولة – عبد القوي حسان – مركز دراسات الوحدة العربية – الرابط: https://urls.fr/1LLA-U

12 - روان هانيبر، العقل الإسلامي أمام ثراث عصر الأنوار في الغرب، الجهود الفلسفية عند محمد أركون، منشورات الأهالي، ط 1، دمشق، سورية 2001، ص 23، 24

13- يمعن الفرقاء الطائفيون في دول الربيع العربي (مصر – ليبيا- تونس – اليمن – سوريا) في الانتقام من الأفراد المنتمين للطائفية المعادية أو الفرقاء السياسيين بشكل وحشي؛ حيث يتم التمثيل بالجثث وتصويرها في أبشع الصور والانتشاء بذلك أمام عدسات الكاميرات ونشرها في وسائل التواصل الاجتماعي، ويقومون بقتل الضحية بأبشع الطرق كالدهس أو الرمي من الطوابق الشاهقة أو الرمي بالرصاص معصوب العينين وأمرهم بالركض رغبة في بإطلاق السراح، أو القتل حرقا أو تلفيق التهم الباطلة وإيداعهم المسالخ البشرية والمعتقلات السرية.

14 - إشكالية الشريعة والقانون في الدولة الإسلامية – محمد أيت بود – مجلة الحوار المتمدن – الرابط: https://urls.fr/_aeILg

[1] - يورغن هابرماس – نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس – (المجلد الأول) عقلانية الفعل والعقلية الإجتماعية – مكتبة سر من قرأ – المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – ص 139

[2] - نفس المرجع السابق ص 212

[3] - قراءة في دور نظرية التفاعلية الرمزية – دين تامي رضا – قادة بن عبد الله نوال – مجلة منيرفا – مجلد 4 – العدد1 – ديسمبر 2017 – ص 2.

[4] - ابن خلدون، المقدّمة، تحقق محمّد تامر، (القاهرة: مكتبة الثقافة الدينيّة، 2005)، 152-156

[5] -إبراهيم، ز. (2008). الفكر السياسي الإسلامي بين النص والتاريخ. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية

[6] - مفهوم الدولة عند حسن البنا – أبرار حامد ثامر – مجلة الحكمة للدراسات والأبحاث – المجلد 4 العدد 06 – 15-11-2024 .

[7] - محمد عابد الجابري - العقل السياسي العربي، محدداته وتجلياته، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط3 1995، ص 372

[8] - جدلية العلاقة بين الدولة المدنية والدولة الدينية وأثرها في الاستقرار السياسي – أ.م.د ديمة عبد الله أحمد –مجلة اتجاهات سياسية – المجلد الثامن – العدد 29 – ديسمبر 2024 – ص 330

[9] - حالة الطبيعة كما صاغها طوماس هوبس مرتبطة بتلك الحالة التي كان يعيشها الإنسان البدائي قبل اهتدائه إلى أشكال التنظيم الإجتماعي، والذي أكد على أن في هذه الحالة يصبح الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان، ومثل للدولة بالليفياتان أو ذلك الوحش الكبير الذي يجب أن يحد من غلواء حالة الطبيعة عند الإنسان.

[10] - جدلية العلاقة بين الدولة المدنية والدولة الدينية وأثرها في الاستقرار السياسي – أ.م.د ديمة عبد الله أحمد –مجلة اتجاهات سياسية – المجلد الثامن – العدد 29 – ديسمبر 2024 – ص 331

[11] - روان هانيبر، العقل الإسلامي أمام ثراث عصر الأنوار في الغرب، الجهود الفلسفية عند محمد أركون، منشورات الأهالي، ط 1، دمشق، سورية 2001، ص 23، 24

[12] - الطائفية في المجتمعات العربية وانشطار الدولة – عبد القوي حسان – مركز دراسات الوحدة العربية – الرابط: https://urls.fr/1LLA-U

[13] - يمعن الفرقاء الطائفيون في دول الربيع العربي (مصر – ليبيا- تونس – اليمن – سوريا) إلى الانتقام من الأفراد المنتمين للطائفية المعادية أو الفرقاء السياسيين بشكل وحشي؛ حيث يتم التمثيل بالجثث وتصويرها في أبشع الصور والانتشاء بذلك أمام عدسات الكاميرات ونشرها في وسائل التواصل الاجتماعي، ويقومون بقتل الضحية بأبشع الطرق كالدهس أو الرمي من الطوابق الشاهقة أو الرمي بالرصاص معصوب العينين وأمرهم بالركض رغبة في بإطلاق السراح، أو القتل حرقا أو تلفيق التهم الباطلة وإيداعهم المسالخ البشرية والمعتقلات السرية.

[14] - إشكالية الشريعة والقانون في الدولة الإسلامية – محمد أيت بود – مجلة الحوار المتمدن – الرابط: https://urls.fr/_aeILg

التداعيات والاعتبارات النظرية والمقارنة

على الرغم من أن العالم العربي موحد بفضل العديد من العوامل الاجتماعية والتاريخية، إلا أنه يتألف من تعددية من الانتماءات العرقية والقومية والثقافية واللغوية والمذهبية ذات الأصول العريقة والتشابكات المعقدة. لقد ثبت أن تحقيق الاعتراف بالتعددية الثقافية بهذه التعددية أمرٌ بالغ الصعوبة والصراع، لا سيما في العراق، ولبنان، وسورية. ومع ذلك، نتطلع إلى حدوث تغيير في التصورات العربية للتعددية الثقافية والأقليات، وهو ما انعكس في المراجعات الأخيرة للميثاق العربي لحقوق الإنسان. وعلى الرغم من قصوره النظري ونقائصه العملية، قد يُثبت الميثاق العربي لحقوق الإنسان المُنقّح أنه نقطة انطلاق مفيدة لسد هذه الفجوة. يتضمن الميثاق عدة أحكام تتعلق بالتعددية الثقافية وحقوق الأقليات، والتي من شأنها أن تُوجّه نحو اتجاه أكثر مراعاةً للتنوع.

العالمين العربي والإسلامي

يضع الباحث التركي في السياسة المقارنة "شينر أكتورك" Şener Aktürk الدول العربية في فئة "معادية للعرق" في دراسته "أنظمة العرق: مقارنة بين الشرق والغرب والجنوب" Racial Systems: Comparing East, West, and South يدرس تحليله الدول بحثاً عن وجود خمس عشرة سياسة مميزة للاعتراف العرقي، بدءًا من استخدام الفئات العرقية في التعداد السكاني، ومرورًا بحقوق الأقليات اللغوية، ووصولًا إلى الحكم الذاتي الإقليمي.

من المهم هنا عدم الخلط بين العالم العربي والعالم الإسلامي. يبدو أن العديد من الدول الإسلامية خارج المنطقة العربية تتبع التوجهات العالمية العامة نحو التعددية الثقافية. لنأخذ إندونيسيا أو ماليزيا، بما لديهما من أنظمة معقدة لحقوق الأقليات والسكان الأصليين. هناك بالفعل أدبيات ثرية حول التعددية الثقافية في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة خارج العالم العربي، وخاصة في تلك الدولتين وشبه القارة الهندية. يوجد عدة دراسات وجميعها تتناول بعض القضايا النظرية والمعيارية الأساسية المتعلقة بآفاق المواطنة متعددة الثقافات في هذه البلدان. يشير هذا إلى أن مصاعب التعددية الثقافية في العالم العربي لا تتعلق بالإسلام في حد ذاته، بل تتعلق بخصائص الإرث العثماني والاستعماري، وبالجيوسياسية الإقليمية الحالية. وقد أثيرت قضايا مماثلة في الجدل المعروف حول "الاستثناء الإسلامي" مقابل "الاستثناء العربي" فيما يتعلق بالديمقراطية. أعتقد أن مصاعب الديمقراطية في العالم العربي لا يمكن تفسيرها من خلال الإسلام، بالنظر إلى النجاح النسبي للديمقراطية في الدول ذات الأغلبية المسلمة خارج نطاق الإسلام. يجب تجنب فكرة أن الشرق الأوسط استثناء من حيث عدد أو معاملة أو حساسية أقلياته.

في الواقع، إذا نظرنا إلى الأمر من خلال عدسة أوسع، فبدلاً من النظر إلى العالم العربي كاستثناء من الاستقبال الإيجابي عموماً والآثار التحويلية لسياسات التعددية الثقافية في معظم مناطق العالم، قد نرى أمريكا اللاتينية كاستثناء من رد الفعل العدائي عموماً والآثار المتناقضة للتعددية الثقافية، والسياسات التقليدية في معظم المناطق. كما أن تبني هذا المنظور الأوسع يُساعد على تجنب الادعاءات الحتمية المفرطة بشأن آفاق التعددية الثقافية. في حين أن مقاومة حقوق الأقليات والسكان الأصليين منتشرة على نطاق واسع في عالم ما بعد الاستعمار، فمن الواضح أن الدول قادرة على التغلب على هذه الموروثات. فالتاريخ ليس قدراً محتوماً، وهناك اختلافات صارخة حتى بين الدول المتجاورة ذات التركيبة السكانية والإرث التاريخي المتشابه. نحن بعيدون جداً عن معرفة الشروط اللازمة أو الكافية لاعتماد حقوق الأقليات والسكان الأصليين. كما أننا لا نملك نظريات راسخة حول متى ستصبح هذه الحقوق فعّالة عملياً، أو مُحدثة تحولاً في تأثيرها. يرى بعض الباحثين أن صعود سياسات "السكان الأصليين" في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى قد عزز سياسات غير ديمقراطية وإقصائية، بل وعنيفة. بدلاً من بناء علاقات مواطنة ديمقراطية أكثر شمولاً وسلمية كما هو الحال في أمريكا اللاتينية. لذا، يجب أن نرفض رفضاً قاطعاً كلاً من الاستثنائية والقدرية فيما يتعلق بسياسات الأقليات في العالم العربي. بدلاً من محاولة تحديد بعض الاستثنائية العربية المزعومة أو بعض ردود الفعل العربية المحددة مسبقاً لمطالبات الأقليات، من المهم دراسة العالم العربي كسياق مهم لاستكشاف ما هي في الواقع أسئلة عالمية حقيقية حول آفاق التعددية الثقافية. ما هي الظروف التي يمكننا في ظلها تصور جدلية داعمة متبادلة لبناء الأمة وحقوق الأقليات؟ في ظل أي ظروف يمكن أن يكون للنضال من أجل حقوق الأقليات تأثير تحويلي؟ في أي ظروف يمكن للمعايير الدولية أن تلعب دوراً بنّاءً في هذه العملية؟ إذا كانت هذه الأسئلة صعبة وغير محسومة في العالم العربي، للأسباب التي نوقشت سابقاً، فهي أبعد ما تكون عن السهولة أو الحل في أي منطقة أخرى.

لقد عرّف نظام الملل العثماني الأقليات على أسس دينية، وهناك بالفعل أدبيات واسعة حول وضع المسيحيين واليهود كأقليات محمية في العالمين العربي والإسلامي.

مع أن إرث الملل العثمانية ذو أهمية حاسمة لموضوعنا، إلا أنني لا أريد التكرار، فقد تناولت موضوع الملة في مقالة سابقة عن الأقليات. بل أريد التركيز على كيفية تصور التنوع العرقي والقومي ومناقشته في العالم العربي، وكيفية ارتباط ذلك بالخطابات العالمية الناشئة حول حقوق الأقليات والسكان الأصليين. تركز هذه الخطابات العالمية الجديدة بشكل أقل على الجماعات الدينية، وأكثر على جماعات مثل الأكراد في العراق أو سوريا، والأمازيغ في الجزائر، والجنوبيين في السودان. كما لا يرغب الفلسطينيون في إسرائيل أو العرب في إيران في أن يُنظر إليهم كأقلية دينية فحسب، بل كجماعة وطنية متميزة أو شعب أصلي (مع ما يرتبط بذلك من مطالبات بالأرض والحكم الذاتي وحقوق لغوية، وما إلى ذلك)، فكذلك تطالب مجموعات مختلفة داخل الدول العربية ليس فقط بالتوافق الديني، بل أيضاً بوضع الأقلية الوطنية أو السكان الأصليين. وتواجه مجموعات عرقية أخرى تمييزاً طبقياً (مثل الأخدام في اليمن) أو إقصاءً (مثل العمال المهاجرين في الخليج). تُمثل هذه الأنواع من المجموعات العرقية والوطنية المحور الرئيسي للخطابات الدولية الحديثة حول حقوق الأقليات والسكان الأصليين، إلا أن أهمية هذه المعايير الدولية أو ملاءمتها للعالم العربي لا تزال غير مدروسة إلى حد كبير.

مصطلح العالم العربي

يجب علينا أيضًا توضيح مصطلح "العالم العربي". في المقام الأول، نستخدم هذا المصطلح بمعناه الجغرافي التقليدي للإشارة إلى الدول ذات الأغلبية العربية، وجميعها أعضاء في جامعة الدول العربية. (تضم الجامعة أيضاً بعض الدول مثل جزر القمر وجيبوتي وموريتانيا والصومال حيث اللغة العربية لغة رسمية وليست لغة أغلبية، ولكن تركيزنا ينصب على الدول ذات الأغلبية العربية). ومع ذلك، فإن هذه الحالة تشمل الأقليات العربية في الدول المجاورة، مثل إسرائيل. فلهذه الأقليات العربية طرقها المميزة في ربط تقاليدها العربية/الإسلامية وواقعها المحلي بخطابات ومؤسسات أكثر عالمية. كما نُجري مقارنات ذات صلة مع الدول المجاورة: على سبيل المثال، مقارنة طريقة النظر إلى الأكراد في الدول ذات الأغلبية العربية (مثل سوريا والعراق) بمعاملتهم في إيران أو تركيا. تساعد هذه المقارنات في تسليط الضوء على ما يميز قضايا الأقليات في الدول ذات الأغلبية العربية (إن وُجد). نظام الملل تركً إرثًا باقٍ لا يزال قائماً حتى يومنا هذا يؤثر على الوحدة الوطنية.

عند تناول قضية حقوق الأقليات اليوم، من الضروري فهم هذه الخلفية لتجنب الاستراتيجيات - بما في ذلك الاستراتيجيات الدولية حسنة النية - التي ستُعزز ببساطة مكانتهم كمواطنين مُميزين. علينا أن نعلم كيف تُعقّد أعباء التاريخ جهود معالجة قضية الأقليات، والتأكيد على المساهمات الإيجابية المُحتملة التي يُمكن أن يُقدّمها إرث نظام المِلّ. وأنّ هذا الإرث ّ يحمل دروساً مهمة ليس فقط لحماية الأقليات، ولكن أيضاً لبناء هوية وطنية أكثر شمولاً، ومؤسسات عامة أكثر تمثيلاً. إنّ المعايير الدولية للأقليات وحقوق الإنسان، إذا فُسّر تفسيراً مناسباً، يُمكن أن تلعب دوراً بنّاءً في بناء جدلية إيجابية لبناء الأمة وحقوق الأقليات.

نؤكد على أهمية التعددية الثقافية الليبرالية للأقليات في العالم العربي. إذا أُريد للتعددية الثقافية الليبرالية أن تكون ذات صلة ومفيدة، فيجب إعادة صياغة العلاقة بين الليبرالية والتعددية الثقافية لتوضيح أن الليبرالية تسبق التعددية الثقافية، وأن ترسيخ البنية الأساسية للديمقراطية الليبرالية يسبق السعي إلى نسخة متعددة الثقافات منها تحديداً. إن الحفاظ على هذه الأولوية أمرٌ أساسي، ليس فقط للعالم العربي، بل أيضاً في الغرب. فإذا لم تتمكن التعددية الثقافية في العالم العربي من ترسيخ جذورها إلا بعد إرساء حد أدنى من الديمقراطية الليبرالية، فمن الصحيح أيضاً أن التعددية الثقافية في الغرب تواجه ردود فعل عنيفة وتراجعاً عندما يُنظر إليها على أنها تبتعد عن المبادئ الليبرالية الأساسية. وبشكل أعم، تُعدّ الديمقراطية الليبرالية شرطاً أساسياً لتعددية ثقافية مستدامة.

تغير مناهج دراسة العرقية

تتطلب دراسة أي أقلية تحليل بنية مجتمع بأكمله: إما أن تُعرّف الأقلية على هذا النحو في علاقتها بالأغلبية، أو أن المجتمع ككل يتكون من مجموعة من الأقليات. وتتنوع الأقليات بقدر ما تتنوع الانقسامات في أي مجتمع، على سبيل المثال، الرجال والنساء، كبار السن والشباب، المتعلمون والمتعلمات، العاملون والعاطلون عن العمل، وهكذا. ومع ذلك، فإن المحور الأكثر أهمية الذي يفصل الأقليات عن غيرها في المجتمع الحديث هو المحور الإثني، وبالتالي فإن الأداة الأساسية لدراسة الأقليات هي تاريخ الإثنية وعلم اجتماعها السياسي. وهناك أدبيات وافرة حول هذه القضية، مقسمة إلى عدة مدارس ومناهج رئيسية متنافسة.

هناك ثلاثة مناهج رئيسية لدراسة العرقية: القومية العرقية، والإقليمية العرقية، والدين العرقي. تتناول القومية العرقية محاولات الجماعات العرقية لإيجاد تعبير إقليمي على مستوى الدولة بأكملها، يُفترض أنه يتوافق مع احتياجات الأمة وحقوقها. تتحدى الإقليمية العرقية سلطات الدولة القومية من خلال المطالبة باستقلالية محلية-إقليمية أكبر للجماعات العرقية، أو حتى التطلع إلى شكل من أشكال الاستقلال في المستقبل البعيد. وتفترض الإثنية الدينية تداخل الوعي الديني مع بعض الخصائص الأخرى للعرقية - الأصل المشترك، أو الثقافة، أو اللغة - مما ينتج عنه شكل من أشكال النشاط العرقي الذي قد يكون أو لا يكون ذو توجه إقليمي، ولكنه ذو أهمية سياسية.

من الواضح أن بعض هذه الأشكال العرقية قد تتداخل وتعزز بعضها البعض. ومع ذلك، ينبغي إدراك أن أسس الوعي السياسي والنشاط في العلاقات العرقية لا تخضع فقط لتفسيرات مختلفة من مختلف المشاركين في العملية السياسية، بل تتغير أيضاً بمرور الوقت. بعبارة أخرى، تُعدّ هيكلة العرقية عملية بالغة التعقيد، ديناميكية وذاتية.

لذا، فإن السؤال الحاسم هو كيف ولماذا تصبح العرقية حقيقة سياسية من حقائق الحياة؟  تُقدّم ثلاث مدارس فكرية رئيسية إجابات مختلفة على هذا السؤال.

أولاً: النهجان الاقتصادي والعقلاني

ينبع هذان النهجان من عصور سابقة عبر النظريات الماركسية، التي عُدّلت لاحقاً بنهج إ"ميل دوركهايم" الاجتماعي. الفكرة الأساسية هي أن عملية التنمية الاقتصادية تُنشئ مجتمعات أكبر على حساب المجتمعات الأصغر، وأن دمج الوحدات الأصغر والأكثر تميزاً في إطار مجتمعي أوسع وأشمل أمر لا مفر منه مع تحول الاقتصاد الرأسمالي الحديث إلى حقيقة سائدة في المجتمعين الوطني والدولي. ويمكن إيجاد تنويعة جديدة على هذه المواضيع في نهج الاختيار العقلاني السائد في السنوات الأخيرة.

ثانياً: نهج التحديث

يفترض هؤلاء أن عملية التحديث، كما عُرِّفت عادةً في ستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي، تُنشئ فعلياً كيانات جديدة من خلال توسيع نطاق الاتصالات، وانتشار محو الأمية والتعليم، وإدخال التكنولوجيا الحديثة، وتداخل فكرة المشاركة الجماهيرية في العملية السياسية. افترضت الأشكال المبكرة لنظرية التحديث أن إنشاء مثل هذه الكيانات الجديدة من شأنه أيضاً أن يخلق دولاً جديدة يمكنها التغلب على هوياتها ما قبل الحديثة، تماماً كما افترض "كارل ماركس" و"دوركهايم".

ومع ذلك، فإن الأشكال اللاحقة والأكثر تطوراً لنظرية التحديث - ما يمكن أن نسميه نهج التحديث-الصراعي - أشارت إلى احتمالات معاكسة، تُعتبر أكثر ترجيحاً. حيث جادل هؤلاء الباحثون بأن عملية التحديث ولّدت الصراع العرقي وفاقمت منه من خلال تغيير أسس المجتمع الأكثر تقليدية، وخلط قضايا الشرعية، وإدخال موارد جديدة إلى ساحة المنافسة السياسية. وفقاً لهذه الطريقة في التفكير، فإن شكوك عملية التغيير الهائلة والمتعددة تُثير هروباً نحو العرقية كشكل من أشكال الاطمئنان والأمان من مخاطر الحداثة وخطرها. إضافةً إلى ذلك، فإن النخب المهددة بفقدان الوصول إلى الموارد في ساحة تهيمن عليها أشكال من المنافسة تجدها غير مألوفة، وبالتالي يصعب السيطرة عليها أو التلاعب بها، تميل إلى إحياء المشاعر العرقية والتضامن بهدف تحويلها إلى موارد سياسية حيوية.

وهكذا، قد يحاول القادة السياسيون الذين يجدون صعوبة في التكيف مع أسلوب أيديولوجي للسياسة الحزبية إنشاء أحزاب قبلية وعرقية لمواجهة التأثير الأيديولوجي وشرعية منافسيهم. فهم يزرعون حتماً مشاعر الفخر والتضامن والهوية في الجماعة العرقية التي يستخدمونها، حتى لو كانت هذه المشاعر كامنة منذ زمن طويل. وعندما تشعر مجموعات أوسع بالحرمان بسبب إعادة توزيع الموارد الاقتصادية وغيرها في ظل التحديث، فقد يلجأون أيضاً إلى الهوية العرقية كمصدر قوة.

ثالثاً: المناهج العرقية البدائية أو الأصيلة

تفترض هذه المناهج أن للجماعات العرقية وجوداً أصيلاً خاصاً بها، وليست مجرد خيالات يستغلها القادة والسياسيون أو يستغلونها. هذا التلاعب ممكن بالفعل، ولكن فقط عندما يكون هناك أساس موضوعي قوي لوجود هذه الجماعة، والذي يمكن إحياؤه أو استخدامه في العملية السياسية.

تؤكد التنويعات الأحدث في هذا الموضوع على ديناميكيات التطور المتضمنة في السياسة العرقية. على الرغم من احتمال وجود أساس موضوعي للعرقية، إلا أن الجماعات العرقية نفسها تتشكل وتُعاد صياغتها باستمرار. عند تحديد الحدود السياسية لآسيا وأفريقيا، على سبيل المثال، أعادت القوى الاستعمارية تعريف حجم الجماعات العرقية ونطاقها. أدى توسيع الحدود السياسية إلى استيعاب الجماعات العرقية وتمايزها: فمع اختفاء الجماعات القديمة، ظهرت جماعات جديدة، بينما اندمجت جماعات أخرى وانفصلت ببساطة.

لا بد أن يتناول النهج العرقي الأصيل علاقة الإثنية بالبنية الطبقية، وهو سؤالٌ مثيرٌ للاهتمام يعود إلى أيام المدرسة الماركسية. يرى أستاذ العلوم السياسية الأمريكي "دونالد هورويتز" Donald  Horowitz أن للهوية العرقية سمةً فريدة. "بينما يستطيع الأفراد تجاوز طبقتهم الاجتماعية، وبينما يُمكن الحراك الاجتماعي من جيل إلى جيل، فإن الروابط العرقية نسبية. فإذا وُلد المرء في جماعة عرقية، فليكن؛ فلا يمكنه الخروج من هويته العرقية."

من أهمّ حجج هذا النهج أن الإثنية مفهومٌ مقارنٌ بالفعل. أي أن الجماعات العرقية تُعرّف حتماً بعلاقتها بالآخرين بقدر ما تُعرّف بإدراكها لأيّ خصائص موضوعية. هناك جدلٌ كبيرٌ حول تداعيات هذه الأطروحة، ومع ذلك، لا يوجد جدلٌ يُذكر حول ضرورة إشراك فهم الإثنية في العلاقة النفسية بين الجماعات بشكلٍ بارز. وكما ذُكر سابقًا، فإن دراسة الأقليات والإثنية هي بالضرورة دراسةٌ للعلاقات بين الأغلبية والأقلية، وبين الأقلية والأقلية.

التداعيات والاعتبارات النظرية والمقارنة

في محاولةٍ لتقييم التداعيات النظرية للتحليل المقارن الأولي، يبدو من الآمن القول إن هناك نموذجاً للأقليات المدمجة، وأن لهذا النموذج خصائصه التي تجعله الأكثر وضوحاً. ثم هناك نموذج الأقليات شبه المدمجة، مثل الأكراد، حيث كان الوضع مختلفاً، على الرغم من وجود قدرٍ كبيرٍ من الإمكانات نفسها. النموذج المعاكس للأقليات غير المدمجة أو المشتتة والمنتشرة، مثل المسيحيين الأرثوذكس (أو اليهود في العصور السابقة)، يقع في الطرف الآخر من الطيف، وهناك حالة الأقباط بينهما، قريبة من النموذج المنتشر، ولكنها ليست مطابقة له، نظراً لأعدادهم الأكبر وتركزاتهم الديموغرافية الجزئية. لذا، لدينا طرفان مختلفان من الاستمرارية النظرية - المدمجة من جهة والمنتشرة من جهة أخرى - وبينهما شيء مثل شبه المدمجة وشبه المنتشرة. قد تكون هذه طريقة مناسبة لتصنيفها لأغراض التحليل والمقارنة. يجب أيضاً مراعاة متغيرات أخرى، بما في ذلك تعريف الأغلبية، لفهم ماهية الأقلية بشكل أفضل. فإن تعريف الأغلبية ليس دائمًا ثابتاً، بل يعتمد على الهوية الذاتية للمجتمع السياسي في لحظة معينة من التاريخ.

لقد لاحظ عدد من الباحثين أن الهوية العرقية قابلة للتغيير والتلاعب. في تحليله للسياسة العراقية قبل سنوات عديدة، صاغ الحاكم العسكري البريطاني للعراق في ثلاثينيات القرن الماضي "ستيفن هيمسلي لونغريغ" Stephen Hemsley Longrigg في كتابه "أربعة قرون من العراق الحديث" Four Centuries of Modern Iraq العبارة التالية: "أكراد لأغراض وزارية". يمكن لأي شخص أن يكتشف هويته كأقلية تحت ضغط العمليات السياسية، ويمكن لشخص آخر أن ينكر هذه الهوية لأسباب عديدة. إضافةً إلى ذلك، يمكن للمرء أن ينتمي، بل وينتمي بالفعل، إلى عدد من الكيانات العرقية وغيرها من الكيانات "الأصلية" في الوقت نفسه، مما يُظهر ما يُطلق عليه علماء الاجتماع السياسي "الانقسامات المتقاطعة". يمكن للمرء أن يكون عضواً في الأغلبية والأقلية في الوقت نفسه، أو عضواً في عدة أقليات. يمكن أن تكون نتائج هذا الانتماء المتعدد ذات أشكال مختلفة. كانت النظرية الكلاسيكية في الغرب ترى أن الانقسامات المتقاطعة مفيدة للمجتمع أساساً لأنها تُحسّن من بعضها البعض، وبالتالي تُرسي أسس مجتمع أكثر تعددية تتعايش فيه عناصر ومبادئ تنافسية مختلفة.

وقد تعرضت هذه النظرية للطعن مؤخراً في الغرب، وبالتأكيد لا يوجد دليل يُذكر يدعمها في الشرق الأوسط. سيُسارع المحللون إلى إضافة مُتغير آخر، يُشار إليه عادةً بمستوى المأسسة. تُجادل هذه النظرية بأن أسلوب بناء المؤسسات (الأحزاب، والنقابات، والأندية، والعمليات الانتخابية، ومجموعة مُتنوعة من المنظمات الرسمية) يُحدث فرقاً بالغ الأهمية في الحظوظ السياسية لأي بلد، لأن المأسسة وحدها هي التي تُمكّن النظام السياسي المُستقر من العمل بطريقة مُنظمة، بمعزل عن تقلبات التنافس النسبي على الموارد. عند ولادة هذا النهج النظري، في أواخر ستينيات القرن الماضي، كرر كبار كهنته مراراً وتكراراً أن الشرق الأوسط يتميز عموماً بانخفاض مستوى المأسسة، مما يعني أن هناك عدداً قليلاً من الكيانات السياسية التي صمدت بفضل قوتها الذاتية بدلاً من انغماسها في الانتماءات والولاءات العرقية والقبلية.

لا تزال هذه النظرية قوية، وإن كانت أقل شيوعاً اليوم، ولها تأثير مُباشر على مسألة الأقليات في الشرق الأوسط. أولاً: تكتسب هوية الأقلية أهمية أكبر في المُجتمعات التي تقل فيها المؤسسات المُعقدة والمستقرة، وذلك ببساطة لأن أساس الحياة السياسية والمُنافسة يكون أكثر محدودية. يساعد هذا أيضاً على تفسير سبب ميل القضايا العرقية في مثل هذه المجتمعات إلى أن تكون أكثر حساسية وتؤدي إلى مزيد من العنف. ثانياً: تقلّ الموارد والقدرات التي يمتلكها المجتمع المعني في محاولة معالجة علاقات الأغلبية بالأقلية عندما تكون المؤسسات السياسية ضعيفة، وذلك بسبب نقص الآليات التكاملية وحتى الساحات المحايدة التي يمكن أن تلتقي فيها الهويات والكيانات العرقية المختلفة على أسس مقبولة بشكل متبادل. يؤدي هذا النقص بدوره إلى الشك وعدم الثقة في المؤسسات القائمة، التي يُنظر إليها على أنها أسيرة مصالح عرقية متنافسة، مما يقلل من قدرتها على صياغة السياسات. وعلاقات تشمل مجموعة متنوعة من المصالح والولاءات.

ثالثاً: ستشعر الأقليات بأنها لا تستطيع حماية مصالحها إلا بإنشاء مؤسسات خاصة بها أو الاستيلاء على المؤسسات القائمة، مما يجعلها موضع شك في نظر الأغلبية.

كل هذه العوامل تؤدي إلى حياة سياسية شديدة التقلب، حيث يغيب التأثير المستقر للمؤسسات السياسية الدائمة، مما يؤدي إلى نتائج مُنهكة للبلاد. المؤسسة القوية الوحيدة القائمة هي الدولة، فتصبح محوراً للمنافسة العنيفة باعتبارها الكائن المؤسسي الوحيد الذي يستحق الاستيلاء عليه.

بتحليل بعض هذه الملاحظات النظرية في السياق الملموس لسياسة الشرق الأوسط، يبدو أنه نظراً لقلة المؤسسات وبؤر الولاء البديلة في المنطقة، فقد استمر الصراع العرقي بين الأغلبية والأقليات لفترة أطول، مع احتمالية أكبر للتقلب من أي مكان آخر، ويمكن، بل ينبغي، فهم هذا الأمر بشكل صحيح في ضوء الإسلام والسياسة.

اهتمامات نظرية إضافية

تُعد العلاقة بين الأقليات والدولة من السمات المهمة لدراسة العرق في الشرق الأوسط. ونظراً للتأخر النسبي في نشوء الدول في المنطقة وصعوبة مأسستها في مواجهة تحديات داخلية متعددة، فإن الواقع العرقي للحياة يُصبح أكثر إلحاحاً في دولة الشرق الأوسط الحديثة. فعندما تتداخل السياسات العرقية للأقليات مع الهويات الطائفية والدينية (أحياناً داخل إقليم معين داخل الدولة)، يمكن أن تُصبح الجماعات العرقية والأقليات مصدر إزعاج بالغ. ويصدق هذا بشكل خاص في

الدول التي لا يترك فيها التنوع الجديد نسبياً في القومية مجالاً كافياً للاعتراف بوجود الأقليات، التي يُنظر إليها على أنها تُشكل تحدياً لسلطة الدولة ليس فقط من خلال ما تفعله، بل أيضاً بحكم ماهيتها.

على الرغم من أن دولة الشرق الأوسط قد نجت بشكل مثير للإعجاب، إلا أنها في بيئة قاسية وغير مضيافة، إلا أنها بعيدة كل البعد عن الأمان. يُشكّل الظهور الأخير للنشاط الإسلامي المتطرف، إلى جانب تنامي الوعي العرقي، تهديداً جديداً وقوياً لشرعية الدولة واستمراريتها. ومع ذلك، فقد أظهرت هذه الدول، حتى الآن، درجة عالية من العزيمة والمهارة في احتواء هذا التهديد القوي. بل إن ردود الفعل على التحديات الأخيرة تُشير مجدداً إلى مأسسة الدولة الشرق أوسطية كحقيقة مؤثرة للغاية في التاريخ السياسي المعاصر للمنطقة.

تُشكّل المواجهة بين الدولة والتحديات العرقية الجديدة أحد أكثر مجالات الدراسة إثارة للاهتمام في سياسات الشرق الأوسط المعاصرة. ويسعى الباحثون إلى التأكيد على مفهوم الاستراتيجيات التي طورتها واعتمدتها سلطات الدولة تجاه الأقليات، والاستراتيجيات التي تستخدمها الأقليات تجاه الأنظمة والدول. ورغم أنه لا يزال من السابق لأوانه محاولة تصنيف هذه الاستراتيجيات تصنيفاً منهجياً، فإن مساهمات هؤلاء الباحثين تُسهم في إرساء أسس هذه المحاولة النظرية.

بشكل عام، لا توجد سوى دراسات حالة قليلة في الشرق الأوسط تُشكّل جوهراً معرفياً مقبولاً، استناداً إلى مادة تاريخية مُفصّلة وأسس علمية اجتماعية سليمة. إن الدراسات التاريخية تعاني من ثغرات خطيرة. مهما كانت قيمة هذه الدراسات كتاريخ سياسي، فإنها نادراً ما تتناول مسألة الهويات الوطنية والإقليمية باعتبارها متوافقة لا متعارضة. علاوة على ذلك، لا يتناول أي من هذه الأعمال نظريات القومية أو الموضوعات ذات الصلة بتكوين الدولة والأدبيات التاريخية والاجتماعية المتعلقة بها، إلا ما ندر.

ومع ذلك، ربما يُخطئ علماء الاجتماع أيضاً فيما يتعلق بالعلوم الاجتماعية، يبدو أن المتخصصين في هذه القضايا يشيرون إلى الأدبيات النظرية في مجلات تخصصاتهم بشكل أكثر تواتراً مقارنةً بدراساتهم لمواضيع مماثلة في مقالات أو كتب مخصصة لمواضيع الشرق الأوسط تحديداً. بعبارة أخرى، لا يستخدم المؤرخون مفاهيم العلوم الاجتماعية بشكل كافٍ، ولا يستخدم علماء الاجتماع ما يكفي من المعرفة الملموسة المكتسبة من تاريخ الشرق الأوسط.

ليس من الممكن ولا المرغوب فيه إجبار المؤرخين على كتابة علوم اجتماعية مشكوك فيها، أو إجبار علماء الاجتماع على كتابة تاريخ مشكوك فيه بنفس القدر. بدلاً من ذلك يجب إنتاج هذه الدراسات على مراحل تشمل ورشات عمل يقدم فيها متخصصون في تاريخ البلدان أوراقاً بحثية حول الحالات المختلفة.

مركزية الدولة والعلاقات بين الدولة والأقليات

العدد الهائل من الاستراتيجيات التي يتبعها كلا الجانبين استجابةً للقيود. الافتراض الأساسي بأنه في حين أن التلاعب بالهويات أمرٌ واقع، إلا أن هناك أيضاً شكلاً من أشكال العرقية الأصيلة، وهو تنويع على النهج الثالث لدراسة العرقية الموصوف سابقاً.  أهمية تداخل (أو انعدام) الخصائص العرقية للأقلية: السمات القومية، والوعي الديني، والثقافة المشتركة. وحساسية الأنظمة السياسية في الشرق الأوسط للتحديات الإقليمية المحتملة، ومن هنا تأتي أهمية التمييز بين الأقليات المدمجة مقابل الأقليات المنتشرة. أهمية التوقيت. لا نعرف سوى القليل نسبياً عن النقطة في الديناميكيات السياسية لكل بلد التي تشهد ارتفاعاً هائلاً في الوعي والميل إلى النشاط الجماعي.

سياسات البدائية

يُركز النهج العرقي الأصيل لدراسة السياسات العرقية على كل من ديناميكيات التغيير في الهوية والوعي العرقيين، والمتغيرات الموضوعية إلى حد ما التي تُحدد الأغلبية والأقليات، والتي تميل إلى الاستمرار مع مرور الوقت. يتعلق الأمر أيضاً بطبيعة السياسة في المجتمع المعني. ليس كل انقسام محتمل في المجتمع يُسيّس، ولكن في بعض الأحيان يحدث هذا التحول بسرعة هائلة. إحدى الطرق المؤثرة لمعالجة هذه القضية هي من خلال الصيغة الكلاسيكية للبدائية، التي كانت موجودة منذ ستينيات القرن الماضي وتشهد الآن انتعاشاً، بسبب الابتعاد عن كل من نظريات التحديث البسيطة والتعقيدات التي تنطوي عليها المناهج الاقتصادية.

النهج النظري للبدائية غني وعميق؛ وهو يستحق بجدارة مكانة مركزية في دراسة الأقليات والعرق. اقترح عالم الأنثروبولوجيا السياسية البارز "كليفورد غيرتز" Clifford Geertz الصيغة الأصلية في مقال نُشر عام 1963. جادل "غيرتز" بأهمية الروابط البدائية، تلك الروابط التي يولد بها المرء. في ذلك الوقت، كان التصرف وفقاً لهذه الهوية الموروثة يُعتبر أقل حداثة من المعايير العقلانية والعلمانية والنسبية للمجتمع المتقدم. لقد تم التخلي إلى حد كبير عن هذا النهج العرقي المركزي والتبسيطي؛ فقد أثبتت البدائية أهميتها البالغة في جميع المجتمعات، ولا يوجد دليل على قوتها بشكل خاص في أي جزء من العالم. أصبحت عالمية البدائية مقبولة بشكل عام الآن. ويبدو أنها في أوج قوتها في أوروبا الشرقية مع الفراغ الاجتماعي والسياسي الذي نتج عن انهيار المؤسسات القديمة والمجتمعات السياسية بسبب الموجة الثورية في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات.

قدم "غيرتز" أمثلة مختلفة على معنى الروابط البدائية: روابط قائمة على الدم، والقرابة، والدين، والعشائر، والتقارب التاريخي المفترض، وما إلى ذلك. على الرغم من أن بعضها يبدو متداخلاً، ويبدو الكثير منها خيالياً فحسب، فإن هذا لا يعني أنها أقل واقعية، لأن الأفكار في أذهان جماعات الناس هي حقائق سياسية من حقائق الحياة، وهي بنفس قوة أي عوامل موضوعية. ومع ذلك، يصعب التعامل مع الهويات البدائية لأنها قابلة للتغير بسرعة كبيرة وقد تظهر بأشكال مفاجئة. وقد حدثت هذه التحولات في مجتمعات تشهد تغيراً سريعاً، مما أدى إلى انعدام الأمن، وبالتالي تشجيع الناس على العودة إلى قوقعتهم الآمنة نسبياً على حساب المجتمعات السياسية الأكبر. الروابط البدائية سهلة الفهم، وتبدو دائمة وجديرة بالثقة. على النقيض من ذلك، يصعب التعايش مع المجتمعات السياسية الأكبر، لأنها تتطلب بعض التكيف مع الأفكار والخصائص المشتركة التي تبدو مصطنعة. التباين في الصعوبة مفهوم بسهولة.

تختلف الروابط البدائية في شدتها. وبالتالي، قد تهدد بتفتيت الدولة إما بمحاولة إجبارها على الانخراط في مجتمعات سياسية أكبر أو بتفتيتها إلى مجتمعات أصغر. في كلتا الحالتين، تهدد شرعية هياكل الدولة القائمة، وهذه هي أهميتها الجوهرية للسياسة المعاصرة. في ضوء القيود السياسية، نادراً ما تُنشئ الحركات القائمة على الروابط الأصيلة دولاً خاصة بها، وعندما تفعل ذلك، لا يُمكنها النجاح لأنها عملياً لا تخلو أبداً من الأقليات التابعة لها. لذلك، لا توجد أمثلة حقيقية على دول عرقية في الشرق الأوسط، ومن غير المرجح أن يكون لدينا أي منها في المستقبل أيضًا. ومن المثير للاهتمام أن حتى تلك الجماعات العرقية التي يُشار إليها في الأدبيات باسم "الأقليات المدمجة" لا تدّعي تأسيس دول خاصة بها. بل على العكس، تبدو هذه الأقليات الأكثر ولاءً للدول الوطنية القائمة التي ترغب في النجاح فيها، بل وتمتلك حصة كبيرة من السلطة الكامنة في آلية الدولة.

ماذا نستخلص؟

من الواضح أن هناك أنواعاً مختلفة من أوضاع الأقليات. هناك بلد لا توجد فيه أغلبية، بل أقليات فقط هو لبنان. توجد أغلبية كبيرة، ذات وضع أقليات واضح، في مصر. في سوريا، توجد أقلية إلى جانب أغلبية واضحة، على الرغم من أن الأغلبية لا تسيطر على المركز السياسي. تهيمن أقلية على الأغلبية، وأقلية كبيرة أخرى في العراق. في شبه الجزيرة العربية، تهيمن أغلبية واضحة، ولكن هناك أيضاً وجود كبير للعمال الأجانب إلى جانب أقليات إسلامية داخلية قوية. لدينا حالة السودان، حيث يوجد انقسام حاد بين شمال عربي مسلم وجنوب غير مسلم وغير عربي. في جميع أنحاء الشرق الأوسط، تندرج الحالات تقريباً ضمن أحد هذين النمطين. لا يمكننا حالياً التعميم بشأن جميع هذه الحالات. على سبيل المثال، لا يمكننا تحديد ما إذا كان أحد الأنماط أكثر ملاءمةً للتوافق بين الجماعات من نمط آخر، أو ما إذا كان أحد الأنماط أكثر عرضة للتنافس العنيف. ولكن يمكننا القول إن هذه الأنماط ليست خاصة بالشرق الأوسط بحد ذاته، إذ يمكن العثور عليها في أماكن أخرى من العالم.

من المنطقي افتراض أن أغلبية كبيرة واحدة قادرة على التمتع بحكم أكثر استقراراً من أغلبيات أصغر، ومن المنطقي أيضاً افتراض أن الأقليات المتعددة أصعب على الأغلبية في التعامل معها من أقلية واحدة. تُشكل الأقليات المنتشرة، كقاعدة عامة، تهديداً سياسياً أقل للأغلبية من الأقليات المدمجة ذات القاعدة الإقليمية؛ في الواقع، تُعد هذه الملاحظة إحدى النقاط التي تستحق التوسع فيها لاحقاً. يبدو أن الأرض والإقليم يُحدثان فرقًا كبيراً في تأثير الجماعات العرقية في الشرق الأوسط، ويبقى أن نرى مدى صحة هذا الأمر. وقد لوحظت مؤخراً أهمية القاعدة الإقليمية في الكيانات الجديدة الناشئة من أنقاض الاتحادين السابقين ليوغوسلافيا والاتحاد السوفيتي. وتوجد أمثلة أخرى في حالات معروفة للصراعات العرقية في أفريقيا وآسيا، من زائير إلى كمبوديا. ويبدو أن أحد القاسم المشترك بين هذه الحالات هو البعد الإقليمي الذي يُحوّل الأقلية المفترضة إلى قوة عرقية ملموسة.

يجب دراسة الأنماط السياسية الوطنية في مقابل أنماط وضع الأقليات. لقد رأينا أن الشرق الأوسط يضم أقليات متماسكة ونقيضها، الأقليات المنتشرة (العلويون على عكس المسيحيين الأرثوذكس اليونانيين، على سبيل المثال)، كما يُظهر تمييزات عرقية مقابل تمييزات دينية: ونعني بالتمييز الديني التمييز بين الإسلام وسائر الأديان. ومع ذلك، هناك بُعد آخر، وهو الفرق بين أصناف الإسلام التي تُعدّ مهمة بما يكفي لجعل الجماعات المعنية تُعادل الأغلبية والأقليات. هنا أيضاً يصعب وضع النظريات. على سبيل المثال، يمكننا النظر في فرضية مفادها أن الأقليات الإسلامية الداخلية من المرجح أن تكتسب أهمية أكبر في المستقبل المنظور نظراً لشرعيتها التي ستكون أعلى من شرعية الجماعات الأخرى. قد يتحسن وضع الأكراد في العراق، كما لو كان ذلك تشبيهاً للوضع الاستعماري السابق في دول أخرى، حيث كانت القوى الاستعمارية تفضل الأقليات المدمجة. قد يكون الدعم الدولي للحكم الذاتي الكردي في الشمال في أعقاب حرب الخليج عام 1991 نزوة تاريخية متأخرة، تؤدي وظيفياً نفس دور التفضيلات الاستعمارية القديمة للأقليات المدمجة في سوريا. من الواضح أن هذا الدعم أقل استقراراً بكثير من الدعم الاستعماري القديم، لكن تأثيره على المستقبل قد يكون حاسماً.

هناك العديد من العناصر والمتغيرات الأخرى التي تُحدث فرقًا في مصير الأقليات في العالم العربي. ومع ذلك، فإن التفاعل بين المواضيع الرئيسية المشار إليها في هذا التحليل الأولي - الأقليات المدمجة مقابل الأقليات المنتشرة، وطبيعة الروابط الأصلية، والتطرف، والإرث الاستعماري - يُهيئ المسرح الذي تتكشف فيه إشكالية الأقليات في الشرق الأوسط.

***

الدكتور حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

بين العقلانية التواصلية ونظرية الاعتراف.. مقاربة تحليلية - نقدية

يذهب "المهاتما غاندي" إلى أن سبب تفشي العنف في العالم هو عدم اكتشافنا أن مبدأ اللاعنف قوة يمتلكها الأقوياء وهي لا تقهر، كما لا يضيع أبداً تأثير حتى أونصة واحدة من قوة اللاعنف. أما " ألفين توفلر " يعتقد منذ ذلك اليوم الذي قذف فيه الإنسان القديم حيواناً صغيراً بحجر بدأ استخدام العنف لصنع الثروة. ويرى " هربرت ماركيوز " بدوره أن العنف منقوش في بنية مجتمعنا نفسه: إنه هو الذي يتراءى في العدوانية المتراكمة التي تهيمن على جميع نشاطات الرأسمالية الاحتكارية، في العدوان القانوني الذي يحدث على طرقنا الكبرى... . إذن العنف المجتمعي ظاهرة تنطوي تحتها أبعاد سياسية، وما العنف السياسي إلا إحدى الأدوات التي تستخدمها الشعوب للضغط على النظام السياسي المستبد في سبيل تحقيق أهدافهم المشروعة المتمثلة في القضاء على الظلم. وفيما يتعلق بالعنف الرمزي يعتقد " بيير بورديو " أن ما يصطلح عليه بالعنف الرمزي قد يأخذ شكل أفكار من شأنها أن تسيطر على ذهن الشخص وتستغله وتدفعه إلى المأساة، إن مختلف أشكال الهيمنة التي يخضع لها الناس، والتي توجه سلوكهم وأفكارهم وتحدد لهم اختياراتهم كلها تعبير عن عنف رمزي يمارس علينا دون بنادق أو خناجر، لكنه لا يقل عنها جرماً وألماً وعذاباً.

- تمهيد (نظرة عامة حول مفهوم العنف):

تعد ظاهرة العنف عموماً من أقدم الظواهر التي عرفتها البشرية، وإن كانت قد تطورت وانتشرت في عصور أكثر من غيرها، وخصوصاً في الفترة المعاصرة، الأمر الذي يبعث على القلق ويستدعي التأمل فيها، لأنها حصيلة مجموعة من العوامل السياسية والاجتماعية والظروف الاقتصادية. وقد اتخذ العنف أشكالاً متعددة ومتنوعة عبر التاريخ، وقصة قابيل وهابيل هي أبرز مثال على ذلك، حيث شهدت الأرض آنذاك أول جريمة قتل عرفها التاريخ الإنساني تم استخدام العنف فيها.

يُعرف العنف لغوياً بأنه كل قول أو فعل ضد الرأفة والرفق واللين، وهو فعل يجسد الطاقة أو القوة المادية في الإضرار المادي بشخص آخر، وهو أيضاً " استخدام القوة وعدم الرفق، وفعل عنف يعني الخرق والتعدي، فنقول عَنّفَ أي خرق ولم يرفق، فهو عنيف إن لم يكن رفيقاً في أمره". أما اصطلاحياً هو كل سلوك عدواني يتجه إلى الاستخدام غير الشرعي للقوة أو التهديد بهدف إلحاق الضرر بالغير، ويقترن العنف بالإكراه والتكليف والتقييد، وهو نقيض الرفق لأنه صورة من صور القوة المبذولة على نحو غير قانوني بهدف إخضاع طرف لإرادة طرف آخر. ورغم تعدد العوامل المؤدية إلى العنف، إلا أن منطلقه الأساسي هو غريزة العدوانية المتفاوتة في قوتها بين إنسان وآخر، وهي غريزة يتأثر أسلوب التعبير عنها بظروف متعددة منها الثقافة السائدة، فمثلما أن العدوان غريزة، فإن الشعور الاجتماعي والضمير والإحساس بالذنب كذلك مشاعر فطرية لدى الفرد، وبالتالي فإن العنف لا يصدر عن فرد ما على الأغلب إلا وقد رافقته أفكار ومشاعر سلبية يستند إليها لتبرير اعتدائه. ومهما اختلفت الدوافع والوسائل والأهداف والنتائج، فإنها جميعها تشير إلى مضمون واحد وهو العنف الذي يهدف إلى إلحاق الأذى بالذات أو بالآخر.

يعرّفه لالاند في موسوعته الفلسفية: " بأنه استعمال غير مشروع للقوة، من خلال فرض كائن ما نفسه على كائن آخر خلافاً لطبيعته دون وجه حق أو قانون ". أما موسوعة علم النفس فإنها تعرف العنف بأنه " شكل متطرف من أشكال العدوان، مثل الاعتداء أو الاغتصاب أو القتل ". هناك العديد من أسباب العنف بما في ذلك الإحباط، والتعرض لوسائل الإعلام العنيفة، والعنف في المنزل أو الحي، والميل إلى رؤية تصرفات الآخرين على أنها عدائية حتى وإن لم تكن كذلك. وفي معجم العلوم الاجتماعية يُعرف العنف بأنه استخدام الضغط أو القوة استخداماً غير مشروع أو غير مطابق للقانون من شأنه التأثير على إرادة فرد ما. أما في معجم كامبردج لعلم الاجتماع، فجوهر العنف هو إلحاق ضرر جسدي أو إيذاء شخص لشخص آخر، وتشمل أشكال العنف حسب القاموس الضرب والاغتصاب والتعذيب والقتل...، وبطبيعة الحال تتمايز أشكال العنف هذه عن الأشكال غير المادية للسلطة الاجتماعية من إكراه أو قوة أو إيديولوجيا أو قوة اجتماعية، والعنف هو التعبير الأكثر تطرفاً عن القوة، باحتوائه على أقصى مكامن القوة الكلية، التدمير المادي لفاعل اجتماعي من طرف آخر، كما يمكن للعنف أن يكون تعبيراً عفوياً عن علاقات القوة.

وأهم ما يميز الفعل العنفي عند الإنسان هو القصد أو النية، وليس فقط ما يترتب عليه من آثار تدميرية، فمن الممكن أن نتحدث عن فعل مدمر يكون مصدره الحيوان أو الطبيعة، ولكنه عنف مجازي لا يحمل أي معنى في ذاته لأنه غير صادر عن نية وإرادة حرة... فالعنف يخص الإنسان بوصفه الكائن الوحيد الذي يتخذ لديه هذا السلوك شكل تصرف واعِ غايته إلحاق الأذى بالغير بأساليب مختلفة. وتكاد تُجمِع كل التعريفات على أن العنف هو كل عمل قاسٍ غير مشروع يؤذي الآخر، وهو سلوك له مبرراته يقوم على إقصاء الآخر وعدم الاعتراف بوجوده.

وفي النهاية يمكننا القول إن العنف Violence من وجهة نظر علم الاجتماع " هو كل سلوك يصدر عن فرد أو جماعة من الأفراد بقصد إيذاء الآخرين، لفظياً أو بدنياً أو مادياً، صريحاً أو ضمنياً، مباشراً أو غير مباشر، ناشطاً أو سلبياً، ويترتب على هذا السلوك الحاق أذى بدني أو مادي أو نقص للشخص نفسه صاحب السلوك أو للآخرين ".

وقد اكتسب مفهوم العنف دلالات جديدة اليوم بارتباطه بالمعنى الحقوقي الحديث للكلمة وأصبح قريباً من معنى القوة والشدة. وهو ليس مجرد فعل إرادة بل يتطلب وجود شروط وظروف مسبقة وممارسة له ومن أهمها السلطة والقوة وأدواتها القمعية وتبريراتها الإيديولوجية التي تستمد منها شرعيتها.

إذن المشكلة ليس في وجود العنف في حد ذاته فهو موجود بوجود الإنسان، وإنما في اتساع مساحة ممارسات العنف وازدياد جرائم العنف، وهذه الزيادة، وهذا الاتساع قد اتخذ محورين: أولهما محور أفقي والثاني محور رأسي، والمحور الأفقي بمعنى اتساع مساحة ممارسات العنف داخل كل المؤسسات والوحدات الاجتماعية في المجتمع، داخل الأسرة، المدرسة، والمؤسسات التعليمية المختلفة وداخل وسائل الإعلام بكافة صنوفها، وداخل العمل والتجمعات السكانية ووسائل النقل والمواصلات. أما المقصود بالمحور الرأسي فهو ازدياد مساحة ممارسات العنف عبر المراحل العمرية التي يمر بها الإنسان منذ الطفولة مروراً بالمراهقة وحتى الكبر والكهولة، ويستوي في ذلك الذكور والإناث.   

بذلك يعتبر العنف أشد الظواهر الاجتماعية ملازمة للاجتماع البشري، بل وأشدها غموضاً وأكثرها إثارةً للقلق، لما يخلقه من آثار سلبية على المستوى الفردي والمجتمعي بأسره، فالعنف ظاهرة لازمت مسيرة وحياة الشعوب، على اختلاف درجات رقيها أو انحطاطها، وإن كانت بدرجات متفاوتة ووفق تمظهرات متعددة. ويعتبر سلوك ما عنيفاً بناءً على الاعتبارات التالية:

1. سمات السلوك نفسه: هل هو هجوم جسمي أو أذلال أو تدمير ممتلكات بغض النظر عن آثار هذا السلوك على الشخص الذي يتلقاه.

2. حدة السلوك: هناك استجابات عالية الشدة مثل التحدث بصوت مرتفع، فيطلق على أصحابها عنيفون. أما الاستجابات المنخفضة الشدة مثل التحدث بصوت منخفض فيطلق على أصحابها أفراد غير عنيفين.

3. تعبير الشخص المتلقي للعنف عن مقدار الألم والأذى الذي ألم به.

4. النوايا الظاهرة للشخص المعتدي.

5. سمات الملاحظ مثل جنسه ومركزه الاجتماعي والاقتصادي وخلفيته العرقية وتاريخ سلوك الفرد العدواني وغير العدواني.

6. سمات الفرد العدواني. وهكذا أصبحت جرائم العنف تحمل معها، خطورة الابتعاد عن الالتزام بروح الدين، وعدم اتباع أوامره، فضلاً عما تشكله هذه الجرائم من خلخلة في بنية المجتمع، وتفكيك في نسيج الأسرة الواحدة، وهو ما يتسبب عنه انزواء لثقافة التسامح، وتغييب لروح الحوار، حتى أصبح استخدام العنف الاجتماعي هو السبيل لحل الخلافات.

وفي النهاية يمكننا تعرف العنف المجتمعي: بأنه تعرض الشخص لتصرفات عنيفة في الأماكن العامة بصورة متعمدة وذلك من أشخاص لا تربطهم به صلة، ومن الأمثلة على العنف المجتمعي أعمال الشغب، وحرب العصابات، والبلطجة، والاعتداء بإطلاق النار من السيارات، والتطهير العرقي، والاعتداء الجنسي والحرب، كذلك يمكن تعريفه بأنه ممارسة بعض الأعمال بصورة متعمدة تجاه أفراد في المجتمع لإحداث ضرر جسدي أو نفسي. أو هو نوع من أنواع العنف يحدث في سياق المجتمع ويشمل التصرفات والأفعال التي تسبب أذى وضرراً للأفراد والمجتمع بشكل عام يتميز العنف المجتمعي بأنه يحدث بين الأفراد أو الجماعات في المجتمع، ويتسبب في خرق للقواعد الاجتماعية والقيم الأخلاقية. بمعنى أدق، العنف المجتمعي هو ظاهرة سلوكية مؤذية تقوم على إنكار الآخر، ويتم فيها استعمال العنف اللفظي أو الجسدي والاعتداء على الآخرين والتطاول على القانون من أجل تحقيق مصالح شخصية معينة. بناءً على ما تقدم سنحاول في هذه الدراسة استعراض تفسير نظريتي يورغن هابرماس وأكسل هونيث لمفهوم العنف المجتمعي من خلال العناصر التالية:

أولاً- تفسير يورغن هابرماس لمشكلة العنف المجتمعي: سعى الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني المعاصر يورغن هابرماس (1929- ) من خلال نظريته عن الفعل التواصلي إلى تحديد ملامح التعايش السلمي والاعتراف بالآخر بالاستناد إلى العقلانية التواصلية، التي تحكمها أخلاقيات المناقشة والحوار، التي ستفضي بطبيعة الحال - حسب التنظير الهابرماسي - إلى وضع الأسس العملية لممارسة الديموقراطية التواصلية، التي تعتبر المنطلق الأساسي لتجسيد مفهوم العيش المشترك مع الآخر والاعتراف به.

يستمد الفعل التواصلي عند هابرماس بواعثه من مفهوم العقلانية التواصلية، التي تمارسها " ذات قادرة على الكلام والفعل بهدف التوجّه نحو التفاهم بين الذوات "، مما يؤدي إلى عدم اللجوء إلى العنف أو إلى إلغاء الآخر والسيطرة عليه، وذلك بفضل قدرة الفعل التواصلي الذي يحدد العلاقات داخل مجالات عمومية قائمة على المناقشة والحوار متخذةً من المبادئ الأخلاقية أساساً لها، أطلق عليها هابرماس أخلاقيات المناقشة، التي تحكم العملية التواصلية حسب معايير متفق عليها.

ولكن تلك الأخلاقيات ليست مذهباً ولا نسقاً من القيم والمعايير الجامدة أو الثابتة، والدليل على ذلك، في أنه إذا تشكك أحد المشاركين في العملية التواصلية في الدقة المعيارية لتعبير ما، أو إذا تعرضت أحد ادعاءات الصلاحية للشك، فإن ادعاءات الصلاحية نفسها تصبح موضع سؤال، وفي هذه الحالة لا بد للمشاركين في التواصل إعادة فحص تلك الادعاءات من جديد ومراجعتها مراجعة نقدية لتصحيح أخطائها.

وهكذا يعتمد هذا التفسير على البعد التواصلي اللغوي والتفاهم العقلاني الهادف، الذي يؤدي بالأطراف المشاركة بالعملية التواصلية إلى محاولة تحقيق نوع من الاتفاق والإجماع المتبادل حول القضايا المطروحة للحوار، وفقاً لشروط وقواعد أخلاقية تنفي قهر الذوات أو السيطرة عليها أو خداعها مما يتيح لهم الفرص بالتساوي للمشاركة في الحوار والنقاش وصنع القرار،  كما أن الإجماع لن يتم الوصول إليه إلا عن طريق قوة الأطروحة الأفضل. مما يؤسس إلى مفهوم التعايش السلمي والاعتراف بالآخر.

فيما يتعلق بمفهوم العنف المجتمعي قدم هابرماس، تحليلاً عميقاً لمشكلة العنف المجتمعي من منظور فلسفي وسوسيولوجي، حيث اعتبر هابرماس أن العنف المجتمعي ليس مجرد فعل فردي أو اجتماعي عابر، بل هو ظاهرة معقدة تتأثر بالعديد من العوامل الثقافية، والسياسية، والاجتماعية.

ويرى هابرماس أن العنف المجتمعي هو نتيجة لفشل الحوار والتفاهم بين الأفراد والجماعات، فعندما تفشل الآليات السلمية لحل الخلافات، يلجأ الناس إلى العنف كوسيلة أخيرة للتعبير عن أنفسهم أو تحقيق أهدافهم. حيث تلعب السلطة والقوة درواً أساسياً في نشوء العنف المجتمعي عندما تتركز السلطة في أيدي فئة قليلة، وتستخدم هذه السلطة بطريقة قمعية، فإن ذلك يخلق بيئة مواتية لممارسة العنف المجتمعي. ويعتقد هابرماس أن غياب ترسيخ مبادئ الممارسات الديموقراطية بسبب القمع والاستبداد سيؤدي لا محال إلى ممارسة العنف، حيث يعتبر أن الأنظمة الديموقراطية وبالأخص التواصلية (التشاورية) هي أفضل الأنظمة لمنع العنف، لأنها توفر إطاراً للحوار والتفاهم بين مختلف الأطراف المتنازعة من خلال المشاركة السياسية، ويمكن للمواطنين التعبير عن آرائهم ومصالحهم بطريقة سلمية.

وفي النهاية يؤكد هابرماس على دور الثقافة والإيديولوجيا في تشكيل ممارسات العنف، فالأفكار والمعتقدات السائدة في المجتمع يمكن أن تساهم في تبرير العنف وتشجيعه. وفيما يتعلق بمفهوم الإرهاب قدم هابرماس تحليلاً خاصاً للعنف الإرهابي، وربطه بفشل الدول في تلبية احتياجات مواطنيها وحماية حقوقهم. كما ربط الإرهاب بالعنف الرمزي، حيث يستخدم الإرهابيون العنف للتعبير عن احتجاجهم على الظلم والاضطهاد.

ويرى هابرماس أن الحل الأمثل للقضاء على العنف المجتمعي بين أفراد المجتمع يتم من خلال التعايش والاعتراف بالآخر القائم على التفاهم والحوار المستمد من أسس العقلانية التواصلية. بمعنى آخر أن العلاقات الإنسانية لا تقوم إلا على التفاهم والحوار العقلاني التواصلي. ومن هذا المنطلق يرى هابرماس أن أهداف القوى التقليدية القائمة على الاقصاء لا تتفق تمام مع أهداف العقلانية التواصلية. لأن الشخص العقلاني بالنسبة لهابرماس " هو الشخص الذي يحاول الوصول إلى اتفاق أو تفاهم عن طريق الحوار ". أي المبتعد عن العنف المادي وممارسته اللا إنسانية. وهذا يعني أن اللغة والتواصل هما وسيلة أفراد المجتمع للوصول إلى اتفاق وإجماع مع الآخرين بهدف تجسيد التعايش؛ لأن الاتفاق الناتج عن العنف أو التأثير لا يمكن أن يعد اتفاقاً، بل يجب أن يعتمد الاتفاق فقط على الاقتناع الجماعي. وهكذا يصبح الحوار في سياقه الاجتماعي المستند إلى الفعل التواصلي وفق أخلاقيات المناقشة الهابرماسية عبارة عن أداة لإخراج المجتمع من الانعزال ويعتبر كذلك عنصراً لتحقيق الاندماج الاجتماعي بين أعضائه دون عنف ولا تطرف ويكمن دور الحوار في المجتمع بفتح باب المشاركة بين أعضائه في تحليل الأزمات التي يجتازها.

- نقد تفسير هابرماس لمشكلة العنف المجتمعي: انطلاقاً مما سبق يمكننا القول بأن مشكلة العنف المجتمعي - حسب هابرماس - لا يمكن القضاء عليها إلا بواسطة التوافق أو التفاهم المتضمن للأفعال اللغوية للمشاركين في عملية التواصل. حيث عملية التواصل مشروطة بالأبعاد الاجتماعية والثقافية الخاصة بها، ولكنها تبقى أيضاً ذات طابع كوني، وعلى هذا الأساس، قدم هابرماس من خلال نظريته الفعل التواصلي القائمة على اللغة المبدأ المعياري الذي يعطي مكانة أساسية للجانب الاجتماعي في النظرية النقدية. بذلك يجعل هابرماس من الحوار موقفاً خيالياً، على حين كان ينبغي عليه أن يفهمه بوصفه هادياً إلى التقدم. ويصبح الحوار المثالي مرتبطاً بعالم مثالي عن " الحياة الطيبة " في مجتمع متحرر تحرراً أصيلاً. وما دام هذا العالم لم يوجد بعد، فالحوار المثالي مجرد انعكاس لنقيض الوضع القائم. فإذا كان الأمر كذلك، لم يعد لهذا المثال قيمة بالنسبة للغرض الذي وضع من أجله، أعني من أجل أعادة البناء التاريخية للمجتمعات الغابرة على أساس درجة العقلانية المتحققة فيها، أو من أجل الإرشاد العملي للمجتمع الحاضر. وفي كلتا الحالتين لا يكون هناك غير إجابة واحدة ممكنة ألا وهي الحوار المثالي لم يوجد، ولا يوجد الآن. بناءً عليه تنحصر الانتقادات الموجهة لرؤية هابرماس في تحليل وتفسير العنف المجتمعي بما يلي: أولاً: بالغ هابرماس في تفاؤله بشأن إمكانية الوصول إلى إجماع عقلاني في جميع الحالات، حيث تجاهل هابرماس، تعقيدات الواقع الاجتماعي وتداخل المصالح المتضاربة والقوى غير العقلانية التي قد تعيق الحوار الفعّال. كما افترض هابرماس وجود فضاء عام مثالي يتم فيه التواصل بحرية وعقلانية، لكن هذا الفضاء قد لا يكون موجوداً دائماً في الواقع، حيث قد تهيمن قوى السلطة ووسائل الإعلام على النقاش العام وتعيق الوصول إلى تفاهم حقيقي. ثانياً: أهمل هابرماس دور السلطة والصراع الطبقي في تشكيل العلاقات الاجتماعية (خاصة الرؤية الماركسية)، حيث ركز بشكل كبير على التواصل اللغوي، بينما قلل من أهمية العوامل الاقتصادية والسياسية التي تؤثر في توزيع القوة والموارد، حيث يؤدي التركيز على الحوار العقلاني التواصلي إلى إخفاء التفاوتات الحقيقية في السلطة بين الأطراف المتفاعلة، ما يعيق تحقيق العدالة   والمساواة. ثالثاً: يعتبر تطبيق نظرية الفعل التواصلي في الواقع العملي أمراً صعباً للغاية، حيث يتطلب ذلك وجود أفراد قادرين على التواصل بعقلانية واحترام متبادل فيما بينهم، بالإضافة إلى وجود مؤسسات ديموقراطية تضمن حرية التعبير والمشاركة، ففي ظل وجود انقسامات حادة وصراعات عنيفة، قد يكون من الصعب إقناع الأطراف المتنازعة بالجلوس إلى طاولة الحوار والانخراط في نقاش عقلاني. رابعاً: تأثرت رؤية هابرماس إلى حدٍ كبيرٍ بالتقاليد الفكرية الغربية، مما جعلها غير قابلة للتطبيق في ثقافات أخرى ذات أنماط تواصل مختلفة (مثل ثقافات المجتمعات النامية). وقد يؤدي هذا التركيز المفرط على العقلانية التواصلية إلى تهميش أشكال أخرى من التواصل، مثل: التواصل غير اللفظي، والتعبيرات الثقافية    المختلفة. خامساً: ركز هابرماس بشكل أساسي على العنف المباشر، بينما أهمل مفهوم " العنف البنيوي " المتجذر في أشكال العنف الكامنة في البنى الاجتماعية والاقتصادية، مثل: الفقر، والتهميش، والتمييز. فقد أدى ذلك إلى تجاهل الحاجة الملحة إلى تغييرات جذرية في البنى الاجتماعية والاقتصادية لمعالجة الجذور الأولية للعنف والصراع الاجتماعي.

بناءً على ما تقدم نتساءل كيف يمكن لهابرماس من خلال أسس العقلانية التواصلية ذات الطابع الرمزي أن تجفف منبع العنف المجتمعي وهي غارقة في مثاليتها وطوباويتها بشكل يؤدي إلى انفصالها عما يجري بالواقع الاجتماعي. وعلى الرغم من هذه الانتقادات، لا يمكن إنكار أهمية مساهمات هابرماس في فهمنا للعلاقة بين التواصل والعنف. فقد قدمت نظريته أداة قيمة لتحليل الخطاب العام وتعزيز الحوار العقلاني والتواصلي، لكن يجب أن نأخذ في الاعتبار أيضاً القيود والتحديات التي تواجه تطبيق هذه النظرية في الواقع العملي، فمن الضروري أن نكمل رؤية هابرماس بنظريات سوسيولوجية أخرى تركز على دور السلطة والصراع الطبقي والعوامل الثقافية والاقتصادية في تشكيل ديناميكيات العنف والصراع الاجتماعي لتكوين رؤية تكاملية حول مشكلة العنف المجتمعي مثل نظرية: فلفريدو باريتو، والف داهرندورف، لويس كوزر، راندال كولينز.

ثانياً- تفسير أكسل هونيث لمشكلة العنف المجتمعي: « المجتمع الجيد هو المجتمع الذي يسمح لأفراده من خلال توفير الظروف الثقافية والاقتصادية والاجتماعية بتحقيق ذواتهم واستقلاليتهم. كما أنه المجتمع الذي يسمح لأفراده بتحقيق أحلامهم بدون المرور من تجربة الاحتقار أو الإقصاء. أو بعبارة أخرى جامعة، فالمجتمع الجيد هو الذي يضمن لأفراده شروط حياة جيدة » (أكسل هونيث).

 قدم الفيلسوف الألماني المعاصر أكسل هونيث (1949- ) من خلال نظريته حول " الصراع من أجل الاعتراف " إطاراً فلسفياً، سوسيولوجياً، عميقاً لفهم جذور العنف في المجتمعات المعاصرة بدلاً من التركيز على العوامل الاقتصادية، أو السياسية التقليدية، حيث دعا هونيث إلى تفسير ممارسات العنف كنتيجة مباشرة لعدم الاعتراف بالآخر. بمعنى آخر، يذهب هونيث إلى أن الدافع الرئيسي للعنف والصراعات الاجتماعية ليس فقط بسبب غياب العدالة الاجتماعية في توزيع الموارد المادية كما أدعت الماركسية، بل أيضاً بسبب النضال من أجل الحصول على الاعتراف الاجتماعي بأشكاله المختلفة.

بذلك، تحتل مقولة الصراع من أجل الاعتراف منزلة أساسية في الحراك الاجتماعي والسياسي، فمفهوم الاعتراف ليس مفهوماً نظرياً فحسب، بل مفهوماً عضوياً يتطلب سياسة عملية متعددة قائمة على تفعيل مفاهيم المواطنة والعدل والمساواة والديموقراطية، والتقدير، والاحترام، والهوية. كما أن تشكّل الهوية الذاتية يتعلق تعلقاً جوهرياً بهذا المفهوم، وكذلك النضال في وجه الهيمنة والقهر والفقر والاستبعاد والبطالة واحتقار المرأة وإذلالها.

يعتقد هونيث أن الإنسان كائن اجتماعي يبحث عن الاعتراف من الآخرين، وهذا الاعتراف يأتي في أشكال مختلفة، كأن يتم الاعتراف بكرامتنا، بقدراتنا، أو حتى بوجودنا بحد ذاته. وعندما يشعر الفرد بأن الآخرين ينكرون اعترافهم به، أو يحطون من قدره، فإنه قد يلجأ إلى العنف كوسيلة للدفاع عن ذاته أو لإجبار الآخرين على الاعتراف به. ويعرّف هونيث الاعتراف بأنه " الاحترام المتبادل للمكانة المتساوية والفريدة للآخرين ".

ويتكوّن الاعتراف - حسب هونيث - من ثلاثة أشكال أو نماذج معيارية متميزة للاعتراف هي: الحب، الحق (القانون)، التضامن، يستطيع أفراد المجتمع من خلالها تحقيق ذواتهم والاعتراف بها:

1. الحب: إن الحب هو الصورة الأولية للاعتراف، إذ إنه يربط الفرد بالجماعة محددة وخاصة الأسرة التي تمكنه من تحقيق مقصد أساسي يتمثل بالثقة في النفس.

2. الحق (القانون): أما الحق فهو ذو طابع قانوني وسياسي، بحيث يتم الاعتراف بالإنسان كذات حاملة لحقوق ما، ولهذا الاعتراف أهمية كبيرة لاكتساب ما يسمى احترام الذات.

3. التضامن: فهو يحيلنا إلى الصورة الأكثر اكتمالاً من العلاقة العملية بين الذوات وهذا لتحقيق مقصد أساسي يتمثل في إقامة علاقة دائمة بين أفراد المجتمع، بحيث يتمكن الفرد أن يتأكد أنه يتمتع بمجموعة من المؤهلات والقدرات التي تسمح له من الانسجام الإيجابي مع وضعه الاجتماعي، فيحقق ما يسمى بتقدير الذات.

بذلك تكون هذه الأشكال الثلاثة للاعتراف أي الحب الذي يحقق الثقة بالنفس، والحق الذي يحقق احترام الذات، وأخيراً التضامن وهو أساس تقدير الذات. إن أشكال الاعتراف هذه تحدد من الناحية الأخلاقية التطلعات الأساسية المشروعة داخل النسيج العلاقات الاجتماعية، وتقاس أخلاقية المجتمع حسب هونيث بمدى إمكانية ضمان شروط الاعتراف المتبادل بين الأفراد.

غير أن تحقيق هذا الاعتراف لا يمكن أن يتحقق إلا ضمن النزاعات الاجتماعية ولهذا يلعب مفهوم النزاع أو الصراع دوراً أساسياً في حركة التطور الاجتماعي، لأن مسببات وعوامل النزاعات والصراعات الاجتماعية ما زالت قائمة ولم يتم تجاوزها، وهذا يظهر بجلاء من خلال شعور الأفراد والجماعات ووعيهم بالظلم أو بما يسمى الاحتقار أو الازدراء الاجتماعي المسلط عليهم.

يعتقد هونيث أنه عندما يقرر الأفراد الانخراط في الصراعات الاجتماعية والسياسية لتغيير الأوضاع المعاشة القائمة التي تكرس تجارب الاحتقار الاجتماعي، وهي تقوم على ثلاثة أشكال: يتمثل الأول في الازدراء أو الاحتقار على المستوى الجسدي عبر التعذيب أو الاغتصاب مما يشعر الفرد الضحية بالذل والخضوع لإرادة الغير وتبعيته لهم، حيث تؤدي هذه التجربة إلى فقدان الثقة بالنفس وفي الآخرين. أما الثاني فإنه ينحصر عندما يحرم الفرد ما من حقوقه المشروعة لأن ذلك سيؤدي ضمنياً إلى أن المجتمع لا يتعرف بنفس درجة المسؤولية التي يعترف بها لأعضاء المجتمع الآخرين. وينحصر الشكل الثالث والأخير على المستوى القيمي، حيث يرى هونيث أن الحكم على القيمة الاجتماعية لبعض الأفراد بصورة سلبية والتي لا تليق بمقامهم الاجتماعي والأخلاقي، فهذا الشكل من الازدراء يتم على المستوى التقييمي والمعياري وله علاقة مباشرة بكرامة الغير وتقديرهم الاجتماعي داخل الأفق الثقافي للمجتمع

يرى هونيث أن المجتمعات المعاصرة تشهد انتشاراً واسعاً لمجتمعات الاحتقار (الإزداء)، حيث يتم تهميش فئات كبيرة من المجتمع وحرمانها من الاعتراف الكامل. ويربط هونيث بين العنف الرمزي (كالتمييز والتحقير) والعنف المادي. فالأول يمهد الطريق للثاني، حيث إن الشعور الدائم بالإهانة والظلم قد يدفع الأفراد إلى اللجوء إلى العنف المادي للدفاع عن أنفسهم.

ويذهب هونيث إلى أن الحل الأمثل للحد من العنف في المجتمعات المعاصرة يكمن في بناء مجتمعات تقوم على مبادئ المواطنة، والمساواة، والعدالة، حيث يتم الاعتراف بكرامة كل فرد بصرف النظر عن خلفيته أو هويته. بالإضافة إلى ذلك يجب تشجيع الحوار والتفاهم بين مختلف الفئات الاجتماعية، من أجل بناء علاقات قائمة على الاحترام المتبادل. كما يجب تغيير المؤسسات الاجتماعية القائمة وبالأخص المؤسسة التعليمية، والتربوية، والسياسية لجعلها أكثر عدالةً ومساواةً واعترافاً بالآخر.

خلاصة القول لم يكتفي هونيث بتحليل نماذج الاعتراف، ولا بوصف أشكال عدم الاعتراف، إنما حاول أن يقدم بديلاً فلسفياً يستند على مثال الانعتاق ويشكل أفقاً للفلسفة الاجتماعية. وأطروحته الأساسية في ذلك هي أن الصراع من أجل الاعتراف يشكل قوة أخلاقية تعزي وتنمي تطور وتقدم المجتمع. لماذا؟ لأن تجربة الإذلال تشكل منبعاً للوعي، ومصدراً لمختلف حركات المقاومة الاجتماعية والانتقاضات الجماعية لتحقيق العدل والمساواة والاعتراف بالآخر. بذلك يعتبر مشروع أكسل هونيث مشروع فلسفي يهدف إلى تأسيس نظرية اجتماعية جديدة، بغرض تجديد النظرية النقدية حتى تتلاءم مع التطورات التاريخية الجديدة، وتستجيب للتطلعات الإنسانية الحالية.

وهكذا قدّم هونيث نظرية موضوعية لفهم جذور العنف في المجتمعات المعاصرة من خلال تركيزه على أهمية الاعتراف، حيث يمكننا تطوير استراتيجيات اجتماعية أكثر فعالية للحد من العنف وبناء مجتمعات أكثر سلاماً وأمناً من خلال ترسيخ مفاهيم المواطنة والديموقراطية التي تعتبر السبيل الحقيقي للاعتراف والتعايش مع الآخرين.

وفي النهاية نجد أن هونيث أشاد بنظرية أستاذه هابرماس التي دفعت بالنظرية النقدية إلى الأمام وتقديمه لنظرية تُعرف بالتواصل أو الفعل التواصلي، ومقاربته التي تسمح باكتشاف البُعد الاجتماعي والعلاقات الجديدة التي أحدثها بين النظرية والممارسة، وهو ما أدى إلى ابتعاده عن أسلافه، وبخاصة فيما كتبه أدورنو وهوركهايمر في كتابهما جدل التنوير ولم يكتفي هابرماس بالنقد فقط كما فعل أسلافه، وإنما قدم نظرية الفعل التواصلي التي تعتبر في نظر هونيث، بمثابة منعطف حاسم في تاريخ النظرية النقدية أو مدرسة فرانكفورت. غير أنه بقى متحفظاً على اختزال هابرماس للحياة الاجتماعية إلى البعد اللغوي والتمركز حول اللغة قد يحجب عنها حقيقة التفاعلات المجتمعية ويؤدي إلى عدم القدرة على إدراك التجارب الاجتماعية والأخلاقية المرتبطة بأشكال الظلم والاحتقار وعدم الاعتراف بالأفراد والجماعات.

- نقد تفسير هونيث لمشكلة العنف المجتمعي: على الرغم من أهمية نظرية هونيث وتأثيرها الكبير في الفلسفة الاجتماعية والسياسية المعاصرة، إلا أنها واجهة العديد من الانتقادات، حيث يرى العديد من النقاد أن هونيث بالغ في أهمية الاعتراف كدافع وحيد للصراعات الاجتماعية، كما أنه تجاهل عوامل أخرى مهمة كالمصالح الاقتصادية، والقوة السياسية. ويرون أن الصراع لا يقتصر فقط على الجوانب الرمزية والثقافية، بل يشمل أيضاً جوانب مادية ومؤسساتية. كما نأخذ على هونيث أنه لم يقدم لنا تعريفاً واضحاً ومحدداً عن مفهوم الإهانة الاجتماعية (الإزداء الاجتماعي) الذي يؤدي إلى العنف المجتمعي (الصراع الاجتماعي) من أجل الاعتراف، مما جعل من الصعب تحديد ما يُعتبر إهانة وما لا يعتبر كذلك. هذا الغموض أدى إلى تفسيرات ذاتية ومختلفة للإهانة، مما أضعف القدرة التحليلية والتفسيرية لنظريته عموماً. كما يوجد صعوبة بالغة في التمييز بشكل واضح بين أشكال الاعتراف الثلاثة التي ذكره هونيث (الحب، الحق " القانون "، التضامن)، حيث قد تتداخل هذه الأشكال وتتفاعل مع بعضها البعض في الواقع الاجتماعي هذا من جانب. ومن جانب آخر نجد أن هونيث تناول مفهوم العنف الرمزي كشكل من أشكال إنكار الاعتراف، إلا أنه تجاهل نسبياً العنف المادي المباشر، كالعنف الجسدي، والعنف الممنهج. ويرى البعض أن التركيز على العنف الرمزي والثقافي قد يؤدي إلى إغفال أهمية العنف المادي في الصراعات الاجتماعية.

وأخيراً يذهب بعض النقاد إلى أن نظرية هونيث ذات طابع مثالي، حيث تفترض وجود إمكانية لتحقيق اعتراف متبادل كامل بين جميع الأفراد والجماعات في المجتمع، يرون أن هذا الافتراض يتجاهل واقع الصراعات المستمرة والتنافس على الموارد، والقوة، والسلطة في المجتمعات الإنسانية المعاصرة كما عبّر عنها عالم الاجتماع الأمريكي المعاصر راندال كولينز، حيث تقوم نظرية الصراع عنده على افتراض هام مؤداه، توجد مجموعة معينة من السلع Goods التي تتمثل في القوة والهيمنة، وما يرتبط بها من عملية توزيع الثروة، حيث يسعى الناس دائماً للحصول عليها في كل المجتمعات تحقيقاً لمصالحهم وأهدافهم الذاتية. ففي العالم قد تكون هذه السلع موزعة بصورة غير عادلة ومتساوية، مما يزيد من عملية الطموح وزيادة سعيهم في الحصول عليها مستقبلاً، الأمر الذي ينتج عملية الصراع الدائمة والمضادة.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

.......................

- المراجع المعتمدة:

- إبراهيم حيدر: سوسيولوجيا العنف والإرهاب، دار الساقي، بيروت، ط1، 2015.

- أبو النور حسن: يورجين هابرماس "الأخلاق والتواصل"، دار التنوير، بيروت، 2009.

- أحمد زكي بدوي: معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، مكتبة لبنان، بيروت، 1982.

- أكسل هونيث: الصراع من أجل الاعتراف (القواعد الأخلاقية للمآزم الاجتماعية)، تعريب: جورج كتورة، المكتبة الشرقية، بيروت، ط1، 2015.

- الزواوي بغوره: الاعتراف (من أجل مفهوم جديد للعدل) دراسة في فلسفة الاجتماعية، تقديم: فهمي جدعان، دار الطليعة، بيروت، ط1، 2012.

- آلن هاو: النظرية النقدية – مدرسة فرانكفورت، ترجمة: ثائر الديب، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 1584، ط1، 2010.

- أندريه لالاند: موسوعة لالاند الفلسفية، المجلد: الأول، ترجمة: خليل أحمد خليل، منشورات عويدات بيروت- باريس، ط2، 2001.

- إيان كريب: النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة: محمد حسين غلوم، مراجعة: محمد عصفور، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، العدد: 244، أبريل (نيسان)، 1999.

- جيمس جوردن فينليسون: يورجن هابرماس- مقدمة قصيرة جداً، ترجمة: أحمد محمد الروبي، مراجعة: ضياء وراد، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط2، 2015.

- حسام الدين فياض: الــــعنف ضد الــــمرأة (الاغتصاب الجنسي نموذجاً)، نحو علم اجتماع تنويري، ماردين، ط1، 2017.

- حسام الدين فياض: مقالات نقدية في علم الاجتماع المعاصر – النقد أعلى درجات المعرفة، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري الكتاب (3)، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2022.

- حسام الدين فياض: نظرية العنف المجتمعي - العنف الرمزي أنموذجاً (دراسة سوسيولوجية- تحليلية)، مجلة ريحان للنشر العلمي، سوريا، العدد: 23، 28-05-2022.

- حسام الدين محمود فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر (دراسة تحليلية- نقدية في النظرية السوسيولوجية المعاصرة)، سلسلة نجو علم اجتماع تنويري، الكتاب: الأول، كريتار، إسطنبول، ط1، 2020.

- خليل قطب أبو قورة: سيكولوجية العنف، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ط1، فبراير1996.

- ستيفن إريك برونر: النظرية النقدية: مقدمة قصيرة جداً، ترجمة: سارة عادل، مراجعة: مصطفى محمد فؤاد، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط2، 2016.

- صفوان مبيضين: العنف المجتمعي، دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2018.

- عطيات أبو السعود: الحصاد الفلسفي للقرن العشرين وبحوث فلسفية أخرى، منشأة المعارف، الإسكندرية، ط1، 2001.

- علي إسماعيل مجاهد: تحليل ظاهرة العنف وأثره على المجتمع، مركز الإعلام الأمني، الملكية الأكاديمية للشرطة، البحرين، 2008.

- كمال بومنير: النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت من ماكس هوركهايمر إلى أكسل هونيث، الدار العربية للعلوم ناشرون وآخرون، بيروت، ط1، 2010.

- مجموعة مؤلفين: الفلسفة الألمانية والفتوحات النقدية، إشراف وتحرير: سمير بلكفيف، جداول للنشر والترجمة والتوزيع، بيروت، ط1، 2014.

- مهند مصطفى: سياسة الاعتراف والحرية (سجال وإطار نظري تحت طائلة الراهن العربي)، مجلة تبين، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، العدد: 17، المجلد: 5، بيروت، 2016.

- نور الدين علوش: المدرسة الألمانية النقدية- نماذج مختارة من الجيل الأول إلى الجيل الثالث، دار الفارابي، بيروت، ط1، 2013.

- هشام عمر النور: تجاوز الماركسية إلى النظرية النقدية، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2012.

- يورغن هابرماس: نظرية الفعل التواصلي (عقلانية الفعل والعقلنة الاجتماعية)، المجلد: الأول، ترجمة: فتحي المسكيني، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر، ط1، 2020.

- يورغن هابرماس: نظرية الفعل التواصلي (في نقد العقل الوظيفي)، المجلد: الثاني، ترجمة: فتحي المسكيني، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر، ط1، 2020.

- يوسف ميخائيل أسعد: البشرية والمستقبل الغامض، نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، 1993.

إن استغلال الانقسامات الطائفية من قبل الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية، والعنف الطائفي، والاضطهاد الذي تواجهه مختلف الجماعات العرقية والدينية، وتهديدات التقسيم أو الانفصال التي أصبحت الآن سيناريوهات حقيقية، تجعل قضية الأقليات قضية محورية لاستقرار منطقة الشرق الأوسط. لا تزال إدارة التنوع معياراً حاسماً لتقييم التحولات السياسية الجارية في هذه المنطقة. أحاول تسليط الضوء على البعد السياسي والعالمي لظاهرة الأقليات، ومواجهة التفسيرات الثقافية والدينية السائدة.

إن الخطابات الطائفية والإثنية ليست جديدة. ومع ذلك، فقد تم حجبها لعقود لخدمة النزعات الاستبدادية. مع فشل الدولة القومية التي نشأت بعد حروب الاستقلال، لم تكن القوى السياسية مستعدة لمواجهة التركيبة المعقدة للمجتمع، وفضّلت الاختباء وراء أسطورة التعايش المثالي بين الجماعات العرقية والدينية. في بعض البلدان، أصبح استغلال الأقليات أداةً مُحكمة الاستخدام من قِبل القوى السياسية. في بعض الأحيان، تجاوزت الشمولية "المحلية" الاحتلال الاستعماري في تطبيق شعار "فرّق تسد". ادّعى الطغاة تجسيد الوحدة الوطنية، في حين أن كل شيء يوحي بأنهم بذلوا قصارى جهدهم لمنع استمرارها بتعليق الجنسية.

وهكذا، فإن احتجاز الأقليات العرقية والدينية رهائن أمرٌ راسخ. لقد عززت القوى السياسية، بسوء إدارتها المتعمد للتنوع، الشروخ داخل مجتمعاتها، بينما تدّعي عكس ذلك. كان من بين القوى الدافعة وراء هذه السياسة الدقيقة غرس الخوف من الآخر وتثبيط أي شعور بالانتماء الوطني. في الحالة السورية، على سبيل المثال، مارس النظام الاستبدادي قمعاً "انتقائياً" رداً على الاحتجاجات التي اندلعت عام 2011. وسواءً كان ذلك خوفاً من الانتقام أو بدافع القناعة، فقد لعب رجال الدين الرسميون، الذين أسرتهم الحكومة، دوراً رئيسياً في تعزيز هذا المناخ.

يجب إعادة النظر في مفهوم "الأقلية" باعتقادي، حتى وإن اقتصر على تعريف تقليدي. فهو في الواقع مفهوم سياسي أكثر منه طائفي أو عرقي. وبينما لا ينبغي رفض البعد الديني والعرقي رفضاً قاطعاً، يُفضّل اعتبار أن الأقلية الحقيقية هي أغلبية الشعب بكل تنوعه العرقي والمجتمعي. وبالتالي، هؤلاء هم أولئك المستبعدون من المجال العام والمحرومون من حقوقهم، وخاصة الحق في التعبير عن أنفسهم بحرية.

أصل وتطور فكرة "الأقلية" في منطقة الشرق الأوسط

منذ بداية الألفية الجديدة، شهد التاريخ الاجتماعي والسياسي لمنطقة الشرق الأوسط تسارعاً هائلاً تحت ضغط القوى المتصارعة على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية. في هذا الإطار، يمكن اعتبار الانتفاضات العربية بمثابة ذروة سياسية، أو بالأحرى "دولة ناشئة" جديدة. شهدت خلالها موازين القوى وتسلسلاتها الهرمية السابقة تحدّياً وتفكيكاً جزئياً، وهي اليوم في طور إعادة تنظيم تدريجي من خلال تشابك المصالح والأولويات والقوى المختلفة. تُثير النتائج المباشرة لهذه العملية التحويلية الشاملة جدلاً واسعاً، مع العديد من أوجه القصور والغموض مقارنةً بالتطلعات الأولية. ولا يزال من الصعب التنبؤ بالنتائج على المدى الطويل وفهمها بشكل كامل. ويرجع ذلك أيضاً إلى أن التوترات الجيوسياسية، والرغبات الأجنبية، والتطلعات الاجتماعية والسياسية المحلية والوطنية المختلفة والمتناقضة في كثير من الأحيان، فضلاً عن المخاوف الأمنية الملحة، قد اندمجت وتداخلت بشكل غير متساوٍ، مما أدى إلى مضاعفة وتضخيم التشرذم والاستقطاب.

ومن أبرز النتائج في هذه المرحلة التحويلية المعقدة الانتشار العشوائي للعنف في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أنه سيكون من غير النزاهة تجاهل حقيقة أن القوس الحالي للصراع والإكراه يصيب معظم هذه الفئات السكانية على قدم المساواة خارج الانتماءات الدينية أو العرقية، فإن المجتمعات المسلمة وغير المسلمة هي من بين الضحايا الذين يعانون أكثر من غيرهم من هذه الفترة من الأزمة. وقد تصاعدت المخاوف بشأن قضايا الأقليات في منطقة الشرق الأوسط خاصة بعد أن فر مئات الآلاف من المسيحيين من المنطقة نتيجة الصراعات والحروب. ساهمت هذه الأحداث في التراجع الحاد في وجود الأقليات القومية في المنطقة. ففي القرن الماضي، أدى انخفاض المواليد وتدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية في معظم الدول العربية، على سبيل المثال، إلى انخفاض نسبة المسيحيين من حوالي 10% من إجمالي السكان في بداية القرن العشرين إلى ما بين 3% و5% في الشرق الأوسط.

في أعقاب هذه الأحداث والديناميكيات، سُلِّط الضوء مجدداً على وضع الأقليات الدينية ومكانتها داخل مجتمعات منطقة الشرق الأوسط والمجالات السياسية، مما أثار جدلاً حول مصيرها بين البقاء والهجرة الحتمية إلى الخارج. ومع ذلك، فإن تعريضها للخطر يُشير إلى أزمة أوسع وأعمق تُحيط بالمنطقة بأسرها وتُعقّدها، مما يجعل مفهوم الأقلية محورياً لفهم الأزمة السياسية وأزمة الشرعية اليوم. ولهذا السبب تحديداً، يجب إعادة النظر في سياق وتطور فكرة الأقلية، كمفهوم ومؤسسة، في منطقة الشرق الأوسط المعاصرة منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية، وفي أي شكل عادت مؤخراً للظهور كإحدى القضايا الجوهرية في الاهتمامات السياسية الإقليمية والدولية المعاصرة.

من الأهمية العمل على تفكيك مفهوم الأقلية لتحديد دلالاته المتعددة. ويتطلب الأمر فهم مرونة هذا المصطلح لتجنب سوء الفهم والاستغلال، مع التركيز بشكل مباشر على الأسباب الجذرية لقضايا الأقليات الحالية في المنطقة وكل دولة. وتقديم لمحة عامة موجزة عن الطابع المتعدد الأوجه لقضايا الأقليات في منطقة الشرق الأوسط، والعوامل المتعددة التي تغذي هذه الديناميكيات، على المستويات التاريخية والوطنية والإقليمية والعابرة للحدود الوطنية. ويكتسب هذا السياق أهمية خاصة للتأكيد على تعقيد ديناميكيات التحول السياسي في المنطقة اليوم، متجنباً النزعة الثقافية والاستثنائية. ومن ثم تحليل العلاقة التاريخية بين الأقلية، كمفهوم ومؤسسة، وسيادة الدولة، والجغرافيا السياسية.. لطالما جعلت هذه العلاقة الحميمة والبنيوية قضايا الأقليات مثيرة للجدل بشكل خاص في هذا السياق، ولا تزال تُمثل أحد أقوى القيود على إدارة التنوع. في الواقع، لطالما مثّلت الأغلبية والأقلية مجالات تنافس متنازع عليها على السلطة والقيادة الإقليمية، بدلاً من أن تكونا مصطلحين لترسيخ مواطنة حقيقية وفعالة قائمة على ضمان المساواة في الحقوق على المستويين الجماعي والفردي.

ولا يجب اختزال الأزمة الحالية في قائمة بسيطة من قضايا الأقليات المختلفة، ولا إلى نقد فكرة الأقلية في حد ذاتها. وبالمثل، على الرغم من تركيزه الحتمي على المستويين الجماعي والمجتمعي، علينا عدم التقليل من شأن التوتر القائم بين أبعاد الفرد والجماعة، وأهمية تقييم هذه الديناميكيات لفهم أهمية قضايا الأقليات الراهنة فهماً كاملًا. بل على العكس تماماً: بما أن الاستقرار المستقبلي لمنطقة الشرق الأوسط سيعتمد حتماً على فهم جديد لمعظم المفاهيم المرتبطة بهذا النحو السياسي للتنوع والديموغرافيا، يبدو من الضروري مواصلة الجهود لبحث جذورها التاريخية والمفاهيمية، بالإضافة إلى آثارها المعيارية وتكيفاتها المؤسسية، في محاولة لتفسير سبب عودة فكرة الأقلية، كمفهوم ومؤسسة، إلى هذا الدور المحوري في السياسة الإقليمية والدولية الحالية.

 فكرة "الأقلية" ومرونتها: نظرة عامة على واقع الشرق الأوسط

على الرغم من أن كلمة "أقلية" - وضمناً كلمة "أغلبية" - تبدو واضحة بذاتها، إذ تشير تقليدياً إلى العلاقات بين وحدات متميزة ذات ثقل عددي وديموغرافي متفاوت ضمن إقليم ووسط اجتماعي وسياسي ومجال محدد، إلا أن هذه النظرة العامة تنطلق من الاعتقاد بأن هذا المصطلح متعدد المعاني إلى حد كبير. فالأقلية مفهوم مرن يمثل تحدياً ومورداً في آن واحد عند استخدامه. ويمكن أن يوفر سياقه ودراسته أدلة مهمة لإعادة النظر في تاريخ النظام السياسي والدولة الحديثين على المستويين المحلي والدولي، باعتباره أحد أسس صياغة هرميات السلطة والهيمنة المعاصرة. في الوقت نفسه، قد يُضعف سوء استخدامها فهمنا للتحديات الراهنة، إذ يُدمج في كلمة واحدة عناصر وإشارات مُفرطة، مما يُؤدي إلى خلق التباسات وسوء فهم، أو حتى إلى إضفاء الشرعية، عن غير قصد، على صراعات انقسامية واستقطابات جديدة، بناءً على تقييمات سطحية وثقافية للديناميكيات والتفاعلات السياسية.

لطالما مثّلت كلمة "أقلية" حقيقة سياسية قائمة على أعداد موضوعية ومُدركة. علاوة على ذلك، يرتبط فهم الأقليات اليوم ارتباطاً هيكلياً بظهور الدولة القومية أو التمثيلية الحديثة. وسواءٌ فكّرنا في الأقلية وفقاً لمبدأ الديمقراطية بمفهومها العام للغاية، كطريقة لاتخاذ القرارات الجماعية مع نوع من المساواة، أو أحلنا هذه الفئة إلى حالة مجتمع داخل إقليم مُتميّز على أساس العرق، أو الإثنية، أو اللغة، أو الدين، أو الثقافة، فإن مصطلح "أقلية" يثير حتماً تساؤلات تتعلق بالمكانية، والزمانية، والتمثيل، والسمات المعيارية السياسية. تصف تجربة مجتمعات مثل الفلسطينيين كيف تُنشأ فئات الأقلية والأغلبية بدقة من خلال التركيبات المتغيرة والمتحولة لهذه العناصر. يساعدنا التفكير في تاريخ الفلسطينيين منذ فترة الانتداب على تقدير وفهم كيف أن الموقعية والزمانية والتمثيلية والسمات المعيارية السياسية لم تحدد فقط نضال الفلسطينيين لتأكيد هويتهم الوطنية على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، ولكنها ساهمت أيضاً في تحديد تجارب متعددة لكونهم أغلبية وأقلية داخل أرض فلسطين ـ"إسرائيل".

وكذلك في الأردن، وسوريا، ولبنان، أو خارج الشرق الأوسط، مما يُعقّد التفاعل بين التعريفات الموضوعية والذاتية لما تعنيه هذه الفئات في تاريخهم. لذلك، تُعدّ الأغلبية والأقلية تعبيرات عددية لعلاقات القوة والتفاعلات السياسية، تتجاوز الخطوط الداخلية، والخارجية والرأسية، والأفقية. ويؤدي استخدامهما وظائف وصفية وتنظيمية مختلفة، وغالباً ما تكون شائعة. ويعتمد تعريف الأغلبية على وجود الأقلية، والعكس صحيح. وبالتالي، فإن هذه الفئات علاقاتية وإجرائية في حد ذاتها، تتطور وتتحول بمرور الوقت لأنها نتاج علاقات قوة هرمية داخلية وداخلية، وكذلك موضوعية ومعيارية. ويمكن أن يحمل استخدامهما معانٍ متعددة، قد لا تكون بالضرورة متوافقة، ولكنها تحمل في طياتها إشارات مشتركة وعامة إلى مجالات القوة والسلطة والشرعية.

وفقاً للمفهوم الأكثر شيوعاً، استُخدمت كلمة "أقلية" لوصف إحدى النتائج التي حددها الارتباط بين الحقائق المعيارية والديموغرافية/العددية في الدول القومية الحديثة. ومن خلال هذا الارتباط، تتشكل فئة الأقلية الحديثة كمفهوم ومؤسسة. في هذه الحالة، تُفرض أو تُقبل الأغلبية والأقلية موضوعياً وذاتياً على أساس عوامل وعناصر تُعتبر أساسية ومُهمة لتأسيس الدولة، والهويات الجماعية والتضامن، مثل السمات الإثنية، واللغوية، والدينية، والثقافية.

ومع ذلك، وكما توضح فكرة المجتمعات المتخيلة، فإن العملية الانتقائية لتفعيل هذه السمات في تكوين هويات جماعية أكثر تعقيداً وتقديراً مما يُتصور عادةً. علاوة على ذلك، تتأثر هذه العملية تأثراً عميقاً بتقنيات الإعلام والاتصال. في الواقع، تُعدّ الأقليات والأغلبيات أيضاً نتاجاً لوساطة مستمرة وإعادة تفسير لما ينبغي اعتباره أصلياً ومصطنعاً، وكذلك موضوعياً وذاتياً في نسيج هوياتهم.

من منظور الأغلبية/الدولة القومية، تُعدّ الأقلية عنصراً من عناصر المجتمع يتعارض مع مبادئه التأسيسية، وإن كانت أقل عدداً، إلا أنها تثير تساؤلات حول التكامل والاستيعاب والإدارة. وتعتمد أهمية هذه التساؤلات على مدى اعتبار وجود الأقلية تهديداً محتملاً لاستقرار وأمن مبادئ الدولة القومية. ويمكن القول إن مجرد وجود الأقلية، أو الاعتراف بها علناً، يُشكِّل تهديداً للنسيج الوطني أو يُقوِّضه. وتُشير تجارب العلويين والأكراد في تركيا الحديثة إلى عواقب اعتبار التنوع تحدياً للنسيج الوطني. فقد عانت هذه المجتمعات من أشكال التمييز لأنها اعتُبرت مختلفة عن الإطار الطائفي والعرقي الذي بُني عليه النسيج التركي المتجانس الحديث. وتُضيف حالة الأكراد مزيداً من التعقيد. نظراً لتوزعهم بالتساوي بين تركيا، وسوريا، والعراق، وإيران وتركيزهم في مناطق محددة، فقد أثار الوجود الكردي ودعوته للاعتراف به دائماً العديد من المخاوف والشكوك. من ناحية، أثار تركيزهم داخل أراضٍ محدودة شبح الانفصال في "الدولة المضيفة"، وخاصة تركيا والعراق. ومن ناحية أخرى، أصبحوا في كثير من الأحيان أهدافاً للمنافسة الإقليمية والتدخل الجيوسياسي.

وقد تضمنت التوترات بين أنقرة ودمشق في التسعينيات بشأن تطوير سدود مائية جديدة الوجود الكردي في تركيا بشكل غير متوقع، حيث اتهمت أنقرة النظام السوري بدعم حزب العمال الكردستاني (PKK) كاستراتيجية للتدخل في مثل هذه المشاريع وعرقلتها. وفي الآونة الأخيرة، يمكن أيضاً تفسير النشاط التركي والتدخل العسكري في الأزمة السورية في هذا الإطار. وبالمثل، هناك حالات أخرى سُيِّست فيها قضايا الأقليات بشكل كبير وحُوِّلت إلى قضايا أمنية بسبب الخوف من الانفصالية والنزعة التوسعية، على سبيل المثال، قضية بلوشستان بين باكستان وإيران، أو قضية خوزستان في إيران، حيث سعى صدام حسين إلى ضمها بزعم وجود سكانها العرب السنة فيها خلال حرب 1980-1988.

الأقليات القومية في دولة الشرق الأوسط

ترتبط الاستخدامات السابقة لكلمة "أقلية" تاريخياً بتعريف الأقليات القومية، أو "الأقليات القديمة"، ووضعها المحمي في فترة ما بين الحربين. وقد تطور هذا التصنيف المنهجي خلال مؤتمرات القرن التاسع عشر في فيينا (1815)، وباريس (1856)، وبرلين (1878)، ودُوّن رسمياً في مؤتمر باريس للسلام عام 1919. ويمكن أن تكون الأقلية القومية "أمة" لم تتمكن من "السيطرة" على دولتها ذات السيادة، أو وجدت نفسها منفصلة عن وطنها، بالإضافة إلى جماعات ومجتمعات ذات هويات "ما قبل قومية" تختلف نوعاً ما عن هوية الأغلبية/الأمة التي تعيش فيها، مما يثير تساؤلات حول الاندماج أو الاستيعاب. يرتبط هذا الفهم لكلمة "أقلية" في الغالب بفكرة وجود أصل بدائي لهويات الجماعات ودور العرق في التاريخ. في الشرق الأوسط الحديث، غالباً ما تم تجاهل الجانب العرقي للأقليات القومية في القوانين والدساتير. وقد أثبتت الحركات القومية، سواء كانت تركية، أو عربية، أو إيرانية، أنها أكثر عرضة لهذه المشكلة. فقد تم تجاهل التنوع العرقي اللغوي بشكل عام لبعض المكونات، أو تم احتواؤه ومواجهته طوعاً، كما هو الحال مع الأكراد. ولكن على نطاق أوسع، وعلى غرار ما حدث في سياقات ومناطق أخرى، كما هو الحال في أوروبا الشرقية، كانت فئة الأقليات القومية بحد ذاتها إشكالية بشكل عام في عملية بناء الدولة والأمة في منطقة الشرق الأوسط. وكثيراً ما تم السعي إلى إدارة التنوع من خلال النفي بدلاً من الإدماج. في الواقع، حتى عندما تم الاعتراف بوضع الأقليات ومنحها بقوانين خاصة أو أشكال من التمييز الإيجابي، مثل نظام الحصص، كان العامل الديني هو الذي يُؤخذ في الاعتبار في كثير من الأحيان في ظل الخطاب العام حول وحدة الأمة واحترام التراث الإسلامي.

وعادةً ما مُنحت المجتمعات المسيحية واليهودية وضعاً خاصاً مُكرساً، بينما لم يُمنح أي اعتراف للمسلمين غير التقليديين أو الجماعات أو المعتقدات غير المسلمة التي لا يعترف بها التراث الإسلامي تقليدياً، مثل البهائيين، واليزيديين. هذا لا يعني أن الضمانات المقدمة للمجتمعات المسيحية حمت مكانتها تماماً في المجالات العامة في منطقة الشرق، ولكن لم يُنظر إلى الاعتراف بها على أنه يتعارض مع فرضية وجود أمة موحدة، بل على أنها طوائف إسلامية مختلفة.

ومع ذلك، فقد خضعت هذه الفئة لنقاشات حوارية، ليس فقط من قِبل الأغلبية، ولكن أيضاً من قِبل مختلف الأقليات، وذلك للامتناع عن الإشارة إليها أو عزلها عن النظام السياسي والمجال العام، ومقاومة ذلك. إن رفض الأقباط وصفهم بالأقلية، أو بشكل أعم، التزام المسيحيين العرب بالقومية العربية والأحزاب الشيوعية، يشهد على رغبتهم في الاعتراف الكامل بهم في إطار سياساتهم، متجاوزين الانقسامات الدينية أو مستوعبين الاختلافات الدينية من أجل الوصول إلى الميادين السياسية الوطنية على قدم المساواة.

ولكن هناك أيضاً أمثلة أخرى تُظهر تعقيد فئة الأقلية وكيف يمكن لمرونتها أن تُنتج حقائق نمطية ومختلفة تبعًا للسياق. تُظهر حالة بدو النقب في إسرائيل، والبدون في الكويت، والقبائل البدوية في الأردن بوضوح أن فئات الأقلية والأغلبية تعتمد هيكلياً على الترابطات السياسية السياقية والنمطية. كان تعريف وجود فئة تُسمى "البدو" في الإمارة الهاشمية، ثم في المملكة لاحقاً، حاسماً في تصميم علاقة قوة متينة بين الدولة وهذه المجتمعات. لا يزال البدو في الأردن يستفيدون من نظام الحصص، وحتى سبعينيات القرن الماضي، سُمح لهم رسمياً بممارسة أساليبهم التقليدية في حل الخلافات القانونية. وعليه، ورغم أن مصطلح "الأقلية" لم يُستخدم علناً لوصف حالتهم، إلا أن تطبيق إطار الأقلية على هذه الفئة العرقية الفرعية أسفر عن عواقب محددة من حيث الموقع والتسلسل الهرمي والتمثيل، راسماً مسارات التكامل والاستقطاب والسيطرة. جعلتهم الدولة ركيزة شرعيتها، بينما اكتسب جزء من القيادات البدوية الأردنية موارد مادية ورمزية غير متوقعة بفضل وجود المملكة.

في المقابل، تشرح حالة البدون في الكويت بدقة كيف يمكن توظيف العوامل العرقية الفرعية، مثل الأنساب والقبلية، للتقسيم والسيطرة بهدف الإقصاء. وباعتبارهم إحدى القبائل التي فشلت في التسجيل أثناء تأسيس الدولة في الكويت وإعلان استقلالها، فقد تم حبس البدون ليس فقط في حالة انعدام الجنسية الدائمة، ولكن أيضاً ضمن تصنيف يحدد هويتهم الجماعية من خلال نفي حقوقهم، حيث يشير هذا المصطلح إلى عدم وجود جنسية. ثنائية الدون، أو بدونها. لذلك، في هذه الحالة، خلقت السلطة المعيارية حالة من التهميش والتبعية، مما جعلهم أقلية غير مرئية ومتجاهلة.

وأخيراً، فإن حالة بدو النقب في فلسطين المحتلة أكثر إثارة للجدل ويصعب تلخيصها، إذ تشمل كامل تعقيد السياق الإسرائيلي الفلسطيني. تحول مصطلح "بدو" في هذا السياق تدريجياً إلى فئة شبه عرقية مستقلة، تُعرّف على أساس التاريخ والثقافة والإقليمية والعرق واللغة والتهميش الاجتماعي والاقتصادي والتكامل المنفصل والعوامل الجيوسياسية. لذلك، فإن وضعهم كأقلية يتجاوز بكثير نطاق الأقلية القومية. فرض تصنيف البدو منذ فترة الانتداب هذه المجتمعات على وضع هامشي اجتماعياً، واقتصادياً، وثقافياً، أي وجود من الدرجة الثانية بحكم التعريف.

 أولاً: فصلهم تصنيف البدو هيكلياً عن العرب الفلسطينيين وعرب إسرائيل، مما أدى إلى فئة شبه عرقية مستقلة. ثانياً: ربط اللجوء الدائم إلى مصطلح "بدوي" هذه الجماعات هيكلياً بفكرة الترحال والتخلف، وكلاهما يتعارض مع مفهوم الدولة الحديثة والمواطنة، وبالتالي يُنظر إليهما على أنهما أقل شأنًا. ازداد وضعهم كأقلية تعقيداً لاحقاً بسبب القضية الإسرائيلية الفلسطينية.

من جهة، يرى جزء من هذا المجتمع ضرورة مكافحة استخدام مصطلح "بدوي" كفئة للنأي بنفسه عن هذا التحيز الثقافي المُسبق. قد يُمثل إعطاء الأولوية للعروبة استراتيجيةً للهروب جزئياً من هذا التحيز الاجتماعي والثقافي، وتحقيق التكافؤ مع بقية السكان العرب المقيمين في إسرائيل. قد يُجنبهم هذا أيضاً ارتباطهم المتكرر بمجتمعات أخرى تعيش في سيناء. في الوقت نفسه، قد يُسفر رفض تصنيف البدو عن آثار جانبية غير متوقعة. ففقدان الخصوصية واعتبارهم عرباً إسرائيليين قد يُخمد مواقفهم ومطالبهم بمعاملة خاصة في إسرائيل نظراً لوضعهم المميز كبدو. لذلك، تُفسر حالات البدو في الأردن، والكويت، وإسرائيل التأثير المعياري والسياقي للوضعية والزمانية والعوامل العلائقية على قضايا الأقليات، وأهمية تقييم معنى فئة الأقلية القومية في كل سياق محدد.

الأقلية كشرط وسمة

منذ تأسيس الدول الحديثة، وبشكل متزايد خلال القرن العشرين، أصبح مصطلح الأقلية يُعرّف تقليديًا كلاً من حالة هشاشة الجماعات والمجتمعات الأصغر ديموغرافياً، بالإضافة إلى حالة الخضوع والتهميش التي تُحددها سلطة الجماعات الأكثر فاعلية وعلاقاتها المعيارية. وهكذا، تُنتج هذه التصنيفات التي تنقل فكرة التعارض الهيكلي بين الهيمنة النشطة (الأغلبية) والخضوع السلبي (الأقلية). وتُعتبر حالة البدون المذكورة آنفاً في الكويت مؤشراً في هذا الصدد. وفقاً لهذا المنظور، تُصبح الأقلية في الغالب مرادفاً لوصف أشكال مختلفة من الضعف والتمييز والاضطهاد أو الاستغلال المنهجي، دون أن ترتبط بالضرورة بالأعداد. يمكن استخدام مخطط الأقلية للحديث عن حالات مثل الفصل العنصري أو الأنظمة الاستبدادية، وكذلك لوصف ظروف التمييز والعزلة والإقصاء في السياسة والمجتمع التي تنطوي على سمات جنسانية وأجيالية. يوضح تصميم آليات التمييز الإيجابي المخصصة للمرأة والممنوحة تقليدياً للأقليات القومية، مثل نظام الحصص، كيف يمكن أيضاً إعادة النظر في قضايا النوع الاجتماعي في إطار الأقلية الاجتماعي والسياسي. فيما يتعلق بالاستبداد، تُستخدم كلمة الأقلية عمومًا للإشارة إما إلى الحرمان من الحقوق الذي يفرضه نظام قاسٍ أو إلى الحكم القمعي لمجتمع، أو مجموعة، أو عشيرة، أو عائلة على الآخرين. يمكن اعتبار الأنظمة الاستبدادية أو السلطوية أقلوية بحكم تعريفها، على الرغم من أنها تحكم عادةً بآليات واستراتيجيات وأساليب تُجزّئ وتُستدرج أو تُقصي بشكل انتقائي قطاعات كاملة من الأمة، وتُضفي شرعية وهمية على نفسها كأغلبية حاكمة دون الحاجة إلى التوافق الدقيق مع الظروف الديموغرافية والاجتماعية والسياسية. في هذه الحالة، ينقلب الفهم والدلالة التقليديان لمصطلح الأقلية تماماً، ليصبح معياراً لوصف انعدام الشرعية والحكم الشرس لفئة صغيرة على بقية السكان، مما يتعارض مع أي مبدأ ليبرالي وديمقراطي.

ولكن هناك أيضاً أشكال أخرى من "التهميش" والإقصاء التي تدخل في هذه الفئة، سواء كأوضاع أقلية وطنية أو سياسية/اجتماعية. هذه الأقليات هي لا تتناسب أو تختلف عن التعريف الرسمي لـ "الأقلية" و "الأغلبية"، إما لأنها لا تتوافق مع المعايير الدينية أو العرقية المفروضة أو بسبب التمييز الاجتماعي والاقتصادي والتحيز الثقافي. هذه الأقليات المتجاهلة ليست فقط بعضاً مما يسمى بالمجتمعات الإسلامية غير التقليدية في الشرق الأوسط، مثل العلويين في تركيا، أو البهائيين في بلدان مختلفة. مثل الغجر في أوروبا، يعاني الدوم الذين يسكنون هذه المنطقة عموماً من عزلة هيكلية لأسباب متعددة تتراوح من التحيز الثقافي والحرمان الاجتماعي والاقتصادي إلى الجهل بتاريخهم، وتقاليدهم، وأصولهم، وثقافتهم. وبالمثل، فإن السود الذين يعيشون في الشرق الأوسط ومناطق عربية أخرى يُستبعدون تقليدياً ويُقلل من شأنهم في خصوصيتهم، مستبعدين من قبل النسيج الوطني. في كلتا الحالتين، ينتج تهميشهم عن حقيقة أن "اختلافهم" لا يُحسب حتى كقضية أقلية مشروعة سواء محلياً أو إقليمياً أو على المستوى الدولي.

في الوقت نفسه، تشرح قضية ما يسمى بالزبالين ("جامعي القمامة") في القاهرة كيف يمكن تحديد أشكال التهميش من خلال مزيج من أشكال التمييز الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والديني التي يفرضها كل من مجتمع "الأقلية"، أي المسيحيين المصريين الذين يتشاركون معهم نفس الديانة، والأغلبية، أي بقية السكان المسلمين المصريين. وبالمثل، فإلى جانب حالة الصراع المستمر مع الفلسطينيين، تقدم قضية اليهود المزراحيين في إسرائيل مثالاً آخر على العزلة والتهميش على أساس مزيج من الصور النمطية الثقافية التي تدعمها الأغلبية وتمارسها.

 الأقلية وتداعياتها المتعددة

سواء كانت سياسية، أو ثقافية، أو معيارية، أو دينية، أو عرقية، أو اجتماعية، اقتصادية أو عائلية-عشائرية، فإن الظروف التي تعزز التهميش أو الإقصاء تؤدي إلى عملية "أقلية"؛ بمعنى آخر، فإنها تضع مجموعة أو مجتمعاً أو طبقة من السكان في حالة أدنى هيكلياً (أقلية). ولكن يمكن أيضاً استخدام "الأقلية" لوصف الديناميكية التي تحفز مجموعة أو مجتمعاً معيناً على الدفاع عن حقوقه باعتباره "أقلية". وهذا يجعل كلمة أقلية مرنة للغاية وواسعة الانتشار. وكمؤسسة، يشير مصطلح الأقلية إلى الحاجة إلى اعتراف خاص وحماية وضمانات لمجتمعات عرقية لغوية أو ثقافية أو دينية متميزة ومعترف بها. وهذا هو الفهم التقليدي لمصطلح الأقلية، والذي يتوافق مع تاريخ دقيق لتدوين الحقوق الجماعية وحالة الحماية في القانون الدولي من عصبة الأمم، إلى إعلان الأمم المتحدة الأحدث بشأن الأقليات لعام 1992. كمفهوم ومبدأ، يصف هذا المصطلح ظروفاً مختلفة من القهر والإساءة، سواءً التي عانى منها أو فُرضت عليه، ويشمل "الضحايا" و"الجناة". في الوقت نفسه، تبقى التفسيرات والاستخدامات المحتملة مرتبطة بطريقة ما بأحد المعايير التي أنتجت في الأصل مفهوم الأقلية القومية، ألا وهو الإقامة والارتباط التاريخي الواضح بأرض ومنطقة. ومع ذلك، في أوقات الهجرات الجماعية، سواء لأسباب أمنية أو لأسباب سياسية واقتصادية ومناخية، قد يحتاج هذا الارتباط الإقصائي بين الأقلية والإقليمية إلى مراجعة وتطوير من أجل استيعاب ظروف أقلية جديدة أو عمليات "بناء الأقليات". إن نمو مجتمعات جديدة من السكان والعمال، غالباً على هامش "أوطانهم" الجديدة، قد يثير في المستقبل تساؤلات جديدة حول الأقليات، والتي غالباً ما يتم تجاهلها حالياً. من وجهة نظري، لا تقتصر هذه الظواهر على أوروبا والغرب ككل. في منطقة الشرق الأوسط اليوم، يُثير عدد الأفراد الآسيويين والأفارقة العاملين في المنطقة، سواءً في الشرق الأدنى أو الخليج، قضايا كبيرة تتعلق بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية والسياسية، بالإضافة إلى الحقوق الجماعية والفردية. هذا لا يعني بالضرورة إدراج هذه التجارب ضمن نطاق الأقليات، ولكنه يثير تساؤلات حول ضرورة التمييز بين هذه الحالات على مستوى المجموعات والمجتمعات المحلية.

لذلك، لا ينبغي اعتبار جودة أي حالة أو وضع من أوضاع الضعف مبنياً على الأرقام فحسب، بل يجب وضعها في سياقها والبحث فيها بعمق، كل حالة على حدة، من منظور كلٍّ من فئتي الأغلبية والأقلية. عند تطبيق مصطلح الأقلية دون سياق دقيق، فإنه يميل إلى الإفراط في التعميم على أساس توزيع ضمني لا يقبل الشك للقيم بين "الضحايا" و"المضطهدين". من ناحية، ورغم أن "تهميش" المهمشين أو المعزولين أو المضطهدين يبدو وكأنه يُعطي صوتاً للمجتمعات المُجبرة على حالة من الحرمان، إلا أنه غالباً ما يُحيي شكوكاً قديمة ونهجًا ثقافية. إن الميل إلى إبراز العوامل العرقية والدينية كعدسة وحيدة لتفسير سياسات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اليوم يُعيد باستمرار تجسيد الجهات الفاعلة والموضوعات التي تم تحليلها، مُعيداً إنتاج صورة للمنطقة وسكانها ككيانات ثابتة، قابلة للتمييز موضوعياً على أساس هوياتهم "ما قبل الحداثة" و"دون الوطنية" التي تتطلب فقط تطبيق حلول سياسية متماسكة وثابتة لم تُعتمد بعد - بالمناسبة. تُصبح الفسيفساء العرقية والدينية في منطقة الشرق الأوسط مصدراً لجميع الأزمات والصراعات. وهكذا يُعاد تنظيم الساحة السياسية إلى مجموعات ومجتمعات مُتماسكة وسهلة التمييز على أساس "الهويات الدينية" التي تُنبئ فوراً بسلوكيات وتطلعات سياسية مختلفة.

من ناحية أخرى، يميل الافتقار إلى السياق والتعميمات المُفرطة إلى تجاهل أن خطابات الأقليات تُمثل أيضاً موارد سياسية ورمزية قوية تحت تصرف المجموعات والمجتمعات. كما ذُكر سابقاً، يُمكن تأييد خطاب الأقليات إما من قِبَل نظامٍ ما لإضفاء الشرعية على حكمه، كما حدث في سوريا، أو من قِبَل جماعةٍ أو مجتمعٍ هشٍّ لتعزيز حقوقه. في الحالة الأخيرة، لا ينبغي اعتبار المجتمع الهشّ المُعرّف كأقليةٍ محروماً تلقائياً من القدرة على التأثير. هذه الأقليات ليست دائماً ضحايا سلبيين، ولكنها غالباً ما تستخدم استراتيجياتٍ مختلفةً للتفاعل مع الأغلبية، بدءًا من الوساطة والتوفيق والاندماج، وصولاً إلى التمكين الذاتي والتعبئة، وحتى خيار الهجرة المُتطرف. لذلك، تُشارك هذه الأقليات بفاعلية في تعريف هذه الفئة ووضعها في سياقها وتطويرها. على سبيل المثال، بينما طرح المؤتمر القبطي الأول عام 1911 فكرة وجود أمة قبطية، رفض جزء كبير من هذه الطائفة علناً، خلال مناقشة الدستور المصري (1922)، خطابات الأقليات ونظام الحصص القائم على انتمائهم الديني المتميز، واعتبروا مصيرهم في الأمة المصرية جزءًا كاملاً من "أغلبية" البلاد. وبالمثل، عزز تدوين المجتمعات المختلفة التي تعيش في العراق الحديث نقاشاً معقداً حول تفسير فئة الأقلية.

 في عشرينيات القرن الماضي، رفض اليهود الناطقون بالعربية في العراق تصنيفهم كأقلية، مع إعطاء الأولوية لتحديد هويتهم كعراقيين. بدلاً من ذلك، سعت الكنيسة الكلدانية إلى التوسط في هذه الفئة للحصول على اعتراف كامل باستقلاليتها الكنسية وللوصول إلى المجال السياسي العراقي، مما عزز دخول البطريرك الكلداني إلى مجلس الشعب لممارسة نفوذ مسيحي على مستوى النخبة العراقية. فسرت الكنيسة الكلدانية وضع الأقلية كمورد لحماية المجتمع، ولكن ليس لفصله عن النسيج الوطني أو جعله هامشياً سياسياً. وأخيراً، يدعم الآشوريون والأكراد موقفاً مختلفاً تماماً، حيث يستخدمون على نطاق واسع خطاب الأقلية ليكونوا مميزين ومعترف بهم في شخصياتهم.

في الواقع، فإن كلمة "أقلية" ليست "محايدة" ولا "أحادية" في دلالاتها وتداعياتها. فهي تشمل بطبيعتها العديد من المستويات التحليلية المختلفة، من المعياري إلى المؤسسي، والسياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والثقافي، والتاريخي. لا ينبغي الخلط بين هذه المرونة والنسبية، مما يجعل مصطلح "أقلية" قابلًا للاستخدام دائماً. كما ذُكر في بداية هذه النظرة العامة، ينبغي وضع قضايا الأقليات في سياقها وفهمها كعملية ونتيجة للتداخل بين الموقعية، والزمانية، والتمثيلية، والسمات المعيارية السياسية. هذا الترابط هو ما يجعل قضايا الأقليات حاضرة بشكل خاص في مناطق مثل منطقة الشرق الأوسط، ولذلك تظل هذه القضايا منظوراً ذا مغزى يمكن من خلاله تحليل مسار الأزمة متعدد الأوجه الحالي في هذه المنطقة.

***

الدكتور حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

مازال مبدأ فصل الدين عن الدولة يشكل محوراً مهماً للنقاش بين الأفراد وفي المنتديات والفكر العربي. وما زال الخلاف فيه قائماً وبحدّة، بين مؤيدٍ متشدد ومعارضٍ متعصب. فالمؤيدون لهذا المبدأ يدعون إلى فصل السلطة السياسية، متمثلة بالحكومة ومؤسساتها، عن السلطة الدينية أو الشخصيات الدينية، أي أنه يهدف إلى فصل الدين عن شؤون الدولة، ويقولون إن قوانين وتشريعات الدولة يجب ألا تٌبنى على أساس ديني. وقد أخذ المثقفون العرب، أمثال سلامة موسى وشبلي شميل وطه حسين وكثيرون غيرهم، هذا المبدأ ودافعوا عنه دفاعاً مستميتاً. وهم يعتبرون أن التديّن مسألة شخصية بين الفرد وربه، ولا دخل لمؤسسات الدولة بالدين. وقالوا بأن الدين يمثل عقبة كبيرة في مسيرة النهضة وتطور الفكر. واعتبروا أن النهضة الأوربية هي المثال القدوة التي يجب أن نقتدي بها ونتتبع خطواتها بحذافيرها، إذا ما أردنا أن ننهض بمجتمعنا.

يعتبر البعض أن العلمانية هي الكلمة أو المصطلح المرادف والبديل لمفهوم فصل الدين عن الدولة، إلاّ إن العلمانيون يقولون إن العلمانية مفهوم أوسع وأشمل من مبدأ فصل الدين عن الدولة على الرغم من أنه يوحي بمقولة فصل الدين عن الدولة. فعلمانية الدولة مثلا تعني أن الدولة لا تتخذ في دستورها ديناً معيناً كصفة لها، وهذا لا يعني أن شعار الدولة الإلحاد، بل إنها تقبل وتحترم كل العقائد والأديان بضمنها مبدأ الّا دين، وبذلك فهي لا تفضّل دين على آخر، ولذلك فإن الدولة لا تفرض شعائر وأحكام دين معيّن على مواطنيها. الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، هي دولة علمانية بنص الدستور لكن معظم سكانها يعتنقون الديانة المسيحية ويمارسونها بحرية، وتحظى المؤسسات الدينية فيها بمساندة ودعم من الدولة. فالكنائس تُبنى بمساعدات مالية سخية من الدولة وتعفى من الضرائب وتحصل على مساعدات مالية حكومية. وهكذا شأن الأديان الأخرى في الولايات المتحدة الأمريكية.

 أما علمانية الفرد فهي حرية الفرد في اعتناق ما يشاء من الأديان بضمنها عقيدة الالحاد بحرية تامة ودون محاسبة أو عقاب.

يتهم البعض العلمانية بأنها تدعوا إلى الإلحاد ومحاربة الدين. ويرفض العلمانيون هذه التهمة ويقولون إنهم لا يحاربون الدين ولا يدعون إلى الإلحاد بل إنهم يحترمون الأديان، لكنهم يعتبرون الدين مسألة شخصية خاصة بالفرد. فهي علاقة خاصة بين الشخص وخالقه ولا شأن للدولة فيها. ويعتقد العلمانيون أن العلمانية هي الطريق الأمثل للنهضة كون العلمانية هي السبب الرئيسي في نهضة الغرب.

من ناحية أخرى، يقول المعارضون لمبدأ العلمانية وفصل الدين عن الدولة، إن الدين يدعو إلى إتمام مكارم الاخلاق وبناء القيم السامية لخلق مجتمع سامي آمن وحضاري، فبدون الوازع الديني يمكن أن يجنح الافراد والمجتمع بسهولة إلى ارتكاب الاعمال السيئة والقبيحة لعدم وجود الرقيب الديني في النفس البشرية. فالوازع الديني مهم للسيطرة على النفس الأمارة بالسوء. وإن السلطة تحتاج إلى الدين كما إن الدين يحتاج إلى السلطة والحاكم لتطبيق ومتابعة احكام الدين. ذلك لأن تلك الاحكام تحتاج إلى متابعة ومراقبة لإنفاذها. لذا فإن الدين والدولة متلازمان يكّمل أحدهما الآخر.

وما زال الخلاف قائماً بين الفريقين، فريق التراث وفريق الحداثة أو فريق القديم وفريق التجديد أو كما يُطلق عليهم أيضاً بالأصوليين والعلمانيين. وقد نشأ بينهم جدال فكري محتدم، وتحول إلى صراع مستعر ومستمر. وأصبح أيّ من الفريقين يسعى بحدة إلى اثبات فشل الطرف الآخر وتوضيح دوره في تخلّف المجتمع. وتطور الصراع بينهم إلى التنكيل بالآخر والتكفير والقتل. ووضِع هدف القيام بنهضة المجتمع جانباً وأصبح مهمشاً. نسيَ الفريقان أن عليهم أن يتعاونوا ويتكاتفوا لمعرفة أسباب تخلّف الأمة وإيجاد السبل لنهضة المجتمع، وتفرغوا للصراع فيما بينهم. ويمكن ملاحظة ذلك وبسهولة، من خلال متابعة مسيرة النهضة العربية التي بدأت في منتصف القرن التاسع عشر مع رعيلها الأول من رواد النهضة العربية وما أبدته من تقدم وانفتاح واضح في مجال الفكر والثقافة والنهضة، لكنها بدأت مرحلة الانتكاس في نهاية القرن العشرين ووصلت إلى أدنى مراحل الانحدار والتخلف في الوقت الحاضر. فماذا حصل بين الأمس واليوم؟ وكيف يمكن تبرير هذا التخلف الجديد بعد السير على طريق النهضة. ألا يشير هذا إلى أن الأفكار المتداولة أصبحت عقيمة وتحتاج إلى تجديد!!

من قراءة وجهتي نظر الطرفين، المؤيّدة والمعارضة لمبدأ العلمانية وفصل الدين عن الدولة، يمكن القول إن مبدأ فصل الدين عن الدولة كان صحيحاً وفعّالا بالنسبة للمجتمع الأوروبي بسبب ما عانوه من تخلّف وانحطاط نتج عن السيطرة المطلقة للكنيسة ورجال الدين (وليس الدين نفسه) على مقاليد الحكم والحكّام في اوروبا، فالكنيسة كانت تمتلك السلطة الدينية والسياسية في نفس الوقت، وتحارب العلم والعلماء، واحتكرت الكنيسة العلم والتعليم لمنتسبيها فقط دون غيرهم من الناس. لكن هذا الواقع لا يَصُح ولا ينطبق على الدين الإسلامي والمجتمع الإسلامي، كون الدين الإسلامي لا يحارب العلم ولا العلماء، بل يدعو إلى العلم والتعلّم، ويعتبرها فريضة واجبة على كل مسلم ومسلمة، كما أن الدين الإسلامي كرّم العلماء ووصفهم بأنهم " ورثة الأنبياء". ومن ناحية أخرى، فإن رجال الدين والمؤسسات الدينية والجوامع في المجتمع الإسلامي لم تكن لهم سلطة سياسية ابداً، بل كانوا دائماً خاضعين لسلطة الحاكم وتنفيذ أوامره بدون نقاش. وإن مراجعة التاريخ الإسلامي لا يذكر أن رجل دين أو مؤسسة دينية امتلكت سلطة سياسية اقوى من سلطة الخليفة أو امير المؤمنين، بل على كانوا تابعين لسلطة الحاكم ومطيعين له، وما زال الحال عليه لحد الآن في تبعية المؤسسة الدينية لأوامر الحاكم والسلطة السياسية. فلماذا يحتاج المجتمع العربي إلى فصل الدين عن الدولة.

لو نظرنا إلى أصل وجذور العلمانية لوجدنا أن أصل فكرة العلمانية يعود إلى الغرب الأوربي، وأنها ليست من اساسيات الفكر العربي. ظهر مفهوم فصل الدين عن الدولة في اوروبا أواخر القرن السابع عشر (عام 1685م) بعد أن عانت أوروبا في العصور الوسطى من سلطة وطغيان الكنيسة، والتي كانت تحتكر الدين على أساس أنها تمثل السلطة الإلهية في الأرض وتصدر الأوامر الربانية. وقد كشف مارتن لوثر (مؤسس البروتستانتية) فساد الكنيسة الأخلاقي والمالي مما جعل الناس يفقدون ثقتهم بالكنيسة ورجال الدين، لكن المجتمع لم يفقد ثقته بالدين بدليل أن الديانة المسيحية بقيت منتشرة في أوروبا وتمارس بشكل علني لحد الآن. وكذلك حاربت الكنيسة العلم والعلماء عندما حكمت على غاليليو بالسجن لأنه تجرأ واثبت بما لا يقبل الشك أن الكرة الأرضية ليست مركز الكون وأنها تدور حول الشمس وليس العكس كما كانت تعتقد الكنيسة مما زعزع ثقة الناس بالكنيسة ورجال الدين (الاكليروس). وللتوضيح، فإن مَن حاكَم غاليليو وأصدر الحكم عليه هي الكنيسة الكاثوليكية برئاسة البابا وليس سلطة الملك، وإن من سَجن غاليليو هي الكنيسة وليس سلطة الملك، وهذا يعكس مفهوم السلطة السياسية للكنيسة، كونها تتعدى سلطة الملك. كما أن أوروبا عانت من حروب دينية مدمرة راح ضحيتها الملايين من البشر، ويذكر على سبيل المثال، حرب الثلاثين عاماً بين الكاثوليك والبروتستانت (من عام 1614 إلى 1648) وقتل فيها ثمانية ملايين مسيحي أوروبي. هذه الأحداث جعلت المفكرين الغربيين يدعون إلى محاربة سلطة الكنيسة الدينية والسياسية وتحييدها عن سلطة القرار، فأعتُمد مفهوم العلمانية بشكله المتشدد ضد الكنيسة ورجال الدين وليس ضد الدين والديانة المسيحية تحديداً.

من متابعة تسلسل الأحداث التاريخية المذكورة أعلاه، يمكن الاستنتاج بما لا يقبل الشك أن الكنيسة المسيحية امتلكت أعلى سلطة سياسية في أوروبا في العصور الوسطى، وإنها مارست طغياناً في احتكار العلم ومحاربة العلم ونشرت التخلّف في البلاد، ولذلك حاربها الأوروبيون ونزعوا عنها السلطات غير الدينية (السياسية والاقتصادية والإدارية). والتساؤل المشروع الذي يبرز في هذا السياق هو: هل كان أو هل إن هناك سلطة سياسية أو اقتصادية في التاريخ الإسلامي أو المجتمع الإسلامي تعلو على سلطة الحاكم (سواء الخليفة أو امير المؤمنين أو رئيس الجمهورية)؟ لأن المقاربة هي بين أعلى سلطة دينية، الكنيسة وبابا الفاتيكان وبين سلطة الملك أو الامبراطور وليس أقل من ذلك. مثال على ذلك، ما حدث في عام 1077م عندما غضب البابا غريغوري السابع على الامبراطور الروماني هنري الرابع، بسبب تدخله المباشر في تعيين رجال دين في الكنيسة، لذلك أمر البابا بمنع تقديم كل أنواع الخدمات الدينية والكنيسية للإمبراطور، وهدده بإزاحته عن عرشه إذا لم يعتذر عن خطأه. وفعلاً أصبح عرش الامبراطور مهدداً بالزوال، لذلك اضطر الامبراطور أن يذهب إلى كاتدرائية البابا في إيطاليا لمقابلته والاعتذار له. ولم يقبل البابا أن يقابل الامبراطور عقاباً له، وجعله ينتظر ثلاثة أيام في العراء خارج اسوار الكنيسة إذلال له، ثم عفا عنه بعد ذلك. هذا هو مثال واضح وصريح لقوة السلطة السياسية للمؤسسة الدينية (الكنيسة)، وليس في هذا المثال ما يشير إلى السلطة الدينية للمؤسسة الدينية أو الكنيسة، ذلك لأن السلطة الدينية هي من صميم عمل الكنيسة وهو سبب وجودها عند المسيحية. ولو سلبت منها سلطة التشريعات الدينية لأنتفت الحاجة لوجود الكنيسة، فتصبح التشريعات الدينية عرضة لاجتهادات عامة الناس من غير المتخصصين بدراسة العلوم الدينية أمثال علماء الدين والفقهاء، وبالتالي تسود فوضى اجتهادات الآراء الدينية يشارك فيها كل من هب ودب، وممن ليس له أساس علمي ديني أو معرفي فكري، فينتج عنها بلبلة وتشتت العقول، كما هو حاصل في مجتمعنا الإسلامي في الوقت الحاضر.

للإجابة على سؤال مدى قوة السلطة السياسية للمؤسسة الدينية أو رجل الدين في التاريخ الإسلامي أو المجتمع الإسلامي، يتوجب علينا معرفة ما إذا كان قد ذُكر في التاريخ الإسلامي اسم لمؤسسة دينية أو رجل دين تمتعَ بسلطة سياسية أعلى من سلطة الحاكم، كما هو الحال في المثال المذكور أعلاه عن سلطة البابا وسلطة الكنيسة. والجواب هو بالتأكيد كلا، إذ لم يعرف في التاريخ الإسلامي أو الحضارة الاسلامية وجود رجل دين أو مؤسسة دينية إسلامية امتلكت سلطة أعلى من سلطة الحاكم.

يقول فؤاد زكريا (وهو من كبار المثقفين العرب وشيخ العلمانيين) في كتابه الصحوة الإسلامية في ميزان العقل: "غير إن القول بأن الإسلام لا يعرف ولم يعرف مؤسسة دينية على الإطلاق هو قول ينطوي على قدر غير قليل من الإسراف، فالأزهر على سبيل المثال مؤسسة يحتل قمتها شيخ الأزهر الذي كان – قبل أن يخضع منصبه لمطالب السلطة السياسية في العقود الأخيرة – أكبر الشخصيات الدينية التي تتمتع بتبجيل وتوقير في كافة ارجاء العالم الإسلامي". ونرى في هذا الطرح تناقضاً واضحاً لمفهوم المؤسسة الدينية وقوة السلطة السياسية للمؤسسة الدينية، إذ يعترف فؤاد زكريا في مثاله هذا بأن شيخ الأزهر قد خضع لمطالب السلطة السياسية في العقود الأخيرة، مما يعني أن الأزهر حاليا ليس له سلطة سياسية. وهذا كما هو معلوم المطلب الأساسي في مبدأ فصل الدين عن الدولة، اقصد التخلي عن السلطة السياسية للمؤسسة الدينية وليس السلطة التشريعية الدينية. وقد اعتبر الدكتور فؤاد زكريا الأزهر مؤسسة دينية إسلامية كبرى على الرغم من أنها مؤسسة دينية مصرية فقط، بمعنى أن احكامها لا تسري بالضرورة في الدول الإسلامية الأخرى غير المصرية، كدول المغرب أو المشرق العربي أو باقي الدول الإسلامية غير العربية، مما يوحي أن لا وجود لمؤسسة دينية إسلامية في التراث الإسلامي يوازي سلطانها سلطان الكنيسة عند الاوروبيين.  بنفس الوقت يركز الدكتور فؤاد زكريا على صفة الاحترام والتبجيل التي يحظى بها شيخ الأزهر، وكأن هذا الوقار والتبجيل سلطة سياسية كبرى تعلو على سلطة الحاكم وتستوجب إحلال العلمانية. ويذكر الدكتور فؤاد زكريا مثال آخر في نفس الصفحة من الكتاب، وفيه أيضاً الكثير من التناقض، فيقول: "وهيئة الإفتاء وعلى رأسها مفتي الديار وكذلك هيئة كبار العلماء، تمثل بدورها سلطة دينية لا جدال فيها، يُطلب رأيها في تعديل قوانين هامة مثل قانون الأحوال الشخصية". وواضح هنا أنه يتحدث عن السلطة الدينية وليست السلطة السياسية للمؤسسة الدينية، ويجعل طلب رأيها واستشارتها في تعديل قانون الأحوال الشخصية يوازي سلطة عليا لها. واتساءل هنا، إذا هو لا يجيز الاستنارة برأي المؤسسة الدينية في تعدل قانون خاص بالأحوال الشخصية، فرأي مَن هو الواجب بالاستشارة، هل هو رئيس الجمهورية أم وزير الداخلية مثلاً؟؟

يقول عبد الوهاب المسيري في كتاب العلمانية تحت المجهر: "يذهب محمد عابد الجابري إلى أن العلمانية جزء من التشكيل الحضاري الغربي، والذي يعني فصل الدين عن الدولة. وهو لهذا يعتبر أن مفهوم العلمانية غريب عن الإسلام، لأنه يرى أن الإسلام ليس كنيسة كي نفصله عن الدولة، وعلى هذا فالعلمانية ليس قضية في الفكر العربي. ولذا أكد الجابري ضرورة استبعاد مصطلح العلمانية عن قاموس الفكر العربي لأنه لا يعبر عن الحاجات العربية الموضوعية".

وبالنسبة لمصطلح رجل الدين في الفكر العربي، لابد من التوضيح أن مصطلح رجل الدين أو مفهوم رجل الدين لم يوجد في الإسلام ولا في الثقافة أو التاريخ أو التراث الإسلامي، وإنما هو اقتصر على الكنيسة في الديانة المسيحية، ذلك أن الديانة المسيحية تشترط وجود طرف وسيط بين الإنسان وربه لكي تقبل العبادات من البشر، وهذا الوسيط هو رجل الدين الذي يُعرف بانتسابه للكنيسة، وبزيّه الخاص، ويقوم بأداء الطقوس والعبادات. ومثل هذا التوصيف كان موجوداً أيضاً في الحضارات الفرعونية والبابلية، كذلك لأنهم كانوا يؤمنون بالحاجة لوجود طرف وسيط لأداء الطقوس والشعائر الدينية.

أمّا في الديانة الإسلامية فلم ولن تكن هناك حاجة لوجود رجل دين، لأن العلاقة بين العبد وربه مباشرة ولا تحتاج إلى وسيط. ومن المؤكد أنه لم يكن وجود لمنصب رجل الدين في عصر النبوة والخلافة الراشدة، لوجود شخصيات فذة تمتلك زمام الأمور. وكذلك الحال في حقبة الدولة الاموية والعباسية والاندلسية، حيث لم يكن هناك ذكر لمصطلح رجل الدين. لكن ظهر علماء دين وفقهاء في الدين ومفسرين للقرآن ومجالات أخرى، وكل هؤلاء لم يُسَموا برجال دين في الثقافة الإسلامية وإنما سُمّوا بمسمياتهم العلمية التخصصية. ويبدو أن مصطلح رجل الدين دخل حديثاً في الفكر العربي، منذ بداية القرن العشرين، منقولاً من الثقافة الغربية. وقد وضعت صورة مشوّه لرجل الدين في العقل العربي والإسلامي تتمثل بكونه رجل معمم جاهل غير مثقف، وتمّ شيطنته على أساس انه ينشر الاساطير والخرافات ويدعو إلى تخلّف المجتمع. إن صورة رجل الدين هذه التي رسخت اذهاننا هي من صنع افكارنا، فهي لم تعتمد من قبل مؤسسة دينية معترف بها، ولا من سلطة مدنية معينة وليس لها زيّ معين ولا وظيفة محددة، كما هو الحال في الكنيسة والحضارات القديمة، ولذلك فهو مصطلح دخيل وغريب عن الفكر العربي والإسلامي.

والخلاصة؛ وبعد مرور أكثر من خمسين عاماً من النقاش بين العلمانيين والاصوليين انتكست النهضة ووصلت ثقافة المجتمع إلى أدنى الدرجات، وعمت الفوضى في الفكر والثقافة العربية، ففقد الفرد العربي ثقته بنفسه وبمجتمعه وقادته ومثقفيه. فإلى متى نستمر بهذا الحال؟ ومتى نعي أن علينا مسؤولية نهضة المجتمع وثقافة الفرد؟ ومتى نفهم أن الطريق الذي نحن سائرين فيه هو طريق مسدود، ويتعين علينا البحث عن سبل جديدة مفيدة للمجتمع بدلاً من التنكيل بالآخر وازدراء العقائد والأفكار؟

***

د. صائب المختار

 

عندما بدأت التنقيبات الاثرية في عشرينيات القرن الماضي في كل من بلاد الرافدين وبلاد النيل وبلاد الشام من قبل بعثات إنكليزية وفرنسية وامريكية عثر المنقبون على الواح من الطين والحجر واوراق البردي منقوش عليها وعلى جدران المعابد إشارات مبهمة حاول هؤلاء معرفة اسرار هذه الكلمات ومثلما استطاع الضابط الفرنسي (شامبليون) حل رموز الكتابة الهيروغليفية في مصر استطاع الباحثون في العراق والشام ومصر من حل رموز هذه الإشارات وتبين لهم انها تشير الى وجود (ثالوث مقدس) لدى السومريين والبابليين في العراق وكذلك في مصر والشام ويمثل هذا الثالوث الظواهر الطبيعية ورموز بعض الحيوانات التي يقدسها المصريون مثل القطط والطيور وقد ظهرت للباحثين ان مسألة الثالوث المقدس مسألة عالمية موجودة في الكثير من الحضارات والأديان في الهند والصين ومصر والعراق واليونان والرومان.

ومن جانب اخر اهتم الانسان القديم بالأرقام واعتبرها رموز سحرية فالرقم (1) يرمز الى التوحيد أي عبادة الله الواحد والرقم (2) رمز الديانات الثنوية التي تؤمن بالهين: النور والظلام او الخير والشر كالزرادشتية والمانوية والرقم (3) هو الثالوث المقدس عند المسيحيين وكذلك اهتم به الفيلسوف (فيثاغورس) الذي اعتبره اصل كل شيء والرقم (4) يرمز الى الفصول الأربعة.كما حظي الرقم (7) بقدسية في التوراة والانجيل والقرآن.

الثالوث في الحضارات القديمة

الثالوث عند السومريين

 يتكون الثالوث عند السومريين من الآلهة: آن - انليل - انكي، و آن او (آنو) هو كبير الآلهة وخالق الكون والانسان ومقره في السماء وبيده مفاتيح الكون كما يقول السومريون. اما (انليل) فهو اله الهواء و انكي هو اله الماء والحكمة.

الثالوث البابلي: الشمس - القمر - الزهرة. والزهرة هي الكوكب المعروف وقد سماه البابليون بأسم (عشتار).

الثالوث المصري: يتكون من اوزيرس - ايزيس - حورس. فاوزيرس تصنفه الاساطير المصرية بانه الانسان الأول وانه قتل ثم عاد للحياة وايزيس اخته وزوجته وقد نسب اليها انها تعيد الحياة الى الميت اما حورس فهو ابنها وقد جسده المصريون على شكل صقر متوج.

الثالوث اليوناني: يتكون من ثلاث كلمات: الله - الكلمة - الروح وهذه الكلمات تشبه الثالوث المسيحي.

الثالوث الروماني: جو بيتر - جو نو - مينر فا، جو بيتر هو اله السماء والرعد والبرق - جو نو اله الزواج - مينر فا هو اله الحكمة والحرب.

الثالوث الصيني: الشمس - السماء - الارض.

الثالوث في الأديان

الثالوث الهندوسي: اله العاصفة - اله النار - النظام.

الثالوث البوذي: بوذا - تعاليم بوذا - المجتمع البوذي.

ثالوث البراهمة: براهما - فيشو - شيتا.

الثالوث اليهودي: الرب - الأرض - الشعب.

ثالوث العرب الجاهلي في الجزيرة العربية: يقول هشام بن محمد الكلبي في كتابه (الاصنام) (ان قريشا كانت تطوف بالكعبة مرددة:واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى فانهم الغرانيق العلى وان شفاعتهم لترتجى واللات والعزى ومناة هي اصنام ثلاثة موضوعة في الكعبة اتخذ منها عرب ماقبل الإسلام ثالوثا مقدسا.

الثالوث المسيحي: الاب - الابن - روح القدس

الاب هو الله والابن هو المسيح وروح القدس هو الوحي. وهكذا يعلن الثالوث المسيحي ان لله ثلاثة اقانيم (صفات) في جوهر واحد أي وحدة في الجوهر وتعدد في الصفات او الخواص وهذه الخواص هي: خاصية الوجود - خاصية العقل - خاصية الحياة أي ان الله حي لايموت. وقد دافع المسيحيون الأوائل عن عقيدة الثالوث بالادلة العقلية والمنطقية وردوا على الاتهامات الموجهه لهم بالقول: نحن لانقول (1+1+1)بل نقول (1x1x1)فتكون النتيجة واحد. كما دعم المسيحيون عقيدة التثليث بالاحجام الرياضية فالصندوق مثلا له ثلاثة ابعاد: الطول والعرض والارتفاع. والانسان ثالوث يتكون من الذات - العقل - الروح.

ومن اجل تثبيت عقيدة الثالوث المقدس اقرت الكنيسة مبدأ التثليث رسميا في مؤتمر (نيقيا) في تركيا عام 325 م وقد حضره الملك (قسطنطين) والقى فيه كلمة حث فيها على وجوب تنظيم العلاقة بين الله والمسيح باعتباره أبنا له ثم جرى تأكيد هذا المبدأ في مؤتمر القسطنطينية عام 381 م... وهكذا اصبح موضوع التثليث حقيقة دينية وليست فلسفية واعتبارها حقيقة الهية وقد وردت باشكال متعددة في الكتاب المقدس (الانجيل).

الثالوث الإسلامي

مما لاشك فيه ان الدين الإسلامي دين توحيد وقد رفع شعار (لا اله الا الله) وقد اكدت ايات القرأن هذا الاتجاه مثلما جاء في سورة الإخلاص (قل هو الله احد لم يلد ولم يولد) الا ان بعض المستشرقين الذين اهتموا بدراسة الإسلام مثل المستشرق الألماني (نولدكه) الذي حاز على شهادة الدكتوراه من كتابه (تاريخ القرأن) وغيره من المستشرقين قد أشاروا الى وجود تثليث في فواتح السور القرأنية او مايسمى ب(البسملة) وفسروا قول القرأن (بسم الله، الرحمن، الرحيم) بأنه ثالوث إسلامي فالله هو الرب والرحمن هي رحمة الله الشاملة لكل الناس والرحيم هي رحمة الله الخاصة لبعض الناس او لأنسان بعينه وذهبوا ابعد من هذا بان الإسلام كان متأثرا بالدين المسيحي وانه اخذ عنه مبدأ (الثالوث المقدس).

الا ان مفسري الايات القرأنية المحدثين وشيوخ الإسلام وكذلك المفكرين قد تصدوا لهذا الاتجاه واعتبروه تحريفا وتشويها لايات وسور القرأن والاحاديث النبوية التي تؤكد على ان الدين الإسلامي هو دين التوحيد الخالص الذي لاتشوبه شائبة.

***

غريب دوحي ناصر

 

تتميز غالبية دول العالم بتنوع بشري كبير، يتجلى في مجموعات سكانية تختلف عن الأغلبية المهيمنة في أصولها الثقافية أو الدينية أو اللغوية. هذا التنوع، الذي يُميز العديد من المجتمعات الحديثة، يُصعّب تصور مجتمع متجانس تماماً من حيث الدين أو اللغة أو الخلفية العرقية. تلفت الصراعات الدينية في العالم الحديث الانتباه بشكل متزايد إلى مخاوف الأقليات الدينية والإثنية، لا سيما في الشرق الأوسط، حيث تتقاطع الانقسامات العرقية والدينية مع الحدود السياسية للدول. وفي إطار جهودها لتعزيز الوحدة الوطنية، اعتمدت بعض الحكومات أشكالاً من التجانس الثقافي، متجاهلةً أن التنوع المجتمعي مصدر قوة لا تهديد. هذا النهج، الذي يتجاهل التنوع أو يعالجه بسياسات تكاملية، غالباً ما يؤدي إلى نتائج سلبية، تُعمّق مشاعر التهميش لدى فئات أصغر عدداً. لذلك، فإن احترام التنوع والاعتراف به قانونياً وسياسياً ليس مجرد خيار، بل ضرورة لضمان استقرار الدولة وبناء مجتمعات أكثر شمولًا وإنصافًا.

تعريف مصطلح "الأقلية"

في السياق الأكاديمي، يُعد مصطلح "الأقلية" مفهوماً متعدد الأبعاد يُتناول في مجالات مختلفة، لا سيما العلوم السياسية، والقانون، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا. يُعرّف التعريف السياسي "الأقلية" بأنها مجموعة أو فئة من المواطنين في بلد معين يختلفون عن الأغلبية من حيث الجنس أو اللغة أو الدين. يُبرز هذا التعريف البعد السياسي، مُلقياً الضوء على اختلافات الهوية داخل البلد وما ينتج عنها من تحديات تتعلق بالانتماء والمواطنة والتمثيل.

في سياق آخر، يُعرّف مصطلح "الأقلية" وطنياً بأنه الجزء من سكان بلد ما الذي ينتمي إلى أصل عرقي مختلف عن أصل الأغلبية. يُؤكد هذا التعريف على العلاقة الوثيقة بين الهوية الوطنية ومفهوم الأقلية، لا سيما في الدول متعددة الثقافات والأعراق.

من منظور القانون الدولي، تُعرّف "الأقلية" بأنها مجموعة سكانية تختلف عن الأغلبية في العرق أو الدين أو اللغة، سواءً كانوا من السكان الأصليين أو من المهاجرين المستوطنين، مع منحهم حقوق المواطنة الكاملة دون تمييز. تتحمل الدولة مسؤولية حماية حقوقهم. يُشدد هذا التعريف على التزام الدولة القانوني بضمان المساواة في الحقوق والحريات، بغض النظر عن الانتماءات الثقافية أو الدينية أو العرقية.

تتناول بعض المصادر مصطلح الأقلية من منظور اجتماعي، إذ تُعرّفه بأنه أي جماعة تشعر بالتمييز أو سوء المعاملة من قِبل التيار المجتمعي السائد. يُركز هذا المنظور على التجربة الذاتية والمعيشية للأقليات، مُسلّطًا الضوء على مشاعر الدونية أو الإقصاء كعامل أساسي في فهم وضعها.

تُظهر هذه التعريفات المتنوعة أن مصطلح "الأقلية" لا يُمكن اختزاله في بُعد واحد، بل هو مفهوم مُعقّد يجب دراسته من منظورات سياسية واجتماعية وقانونية. كما تكشف هذه المنظورات أن قضية الأقليات ليست مجرد ظاهرة ديموغرافية، بل هي تحدٍّ هيكلي يتعلق بتنظيم التنوع داخل الدولة وضمان المساواة في الحقوق لجميع الفئات دون تمييز.

العلويين والدروز

تشمل الأقليات المدمجة بشكل رئيسي العلويين والدروز في سوريا، وبدرجة أقل الدروز في لبنان، وبدرجة أقل في إسرائيل. يكمن تماسكها في أنها تحتل منطقة جغرافية محددة جيداً، لا تُشكل سوى جزء صغير من الدولة. على الرغم من وجود أقليات مسيحية ويهودية كبيرة في التاريخ الحديث للشرق الأوسط، إلا أنها لم تتمكن قط من الاستحواذ على حصة كبيرة من سلطة الدولة كما هو الحال، على سبيل المثال، مع العلويين في سوريا كما كان حاصل في نظام الأسدين. لا شك أن السياسة السابقة للقوى الاستعمارية ساهمت في تشكيل وضع العلويين، ولكن من الواضح أن الجمع بين المساحة والديموغرافيا كان عاملاً رئيسياً في ثرواتهم.

بشكل عام، يمكن للحكومات الاستعمارية أن تُحدث فرقاً حاسماً في توزيع الموارد بين الأقليات. ففي حالة سوريا، على سبيل المثال، أصبح الاعتماد الكبير على تجنيد الأقليات في الجيش الاستعماري عاملاً حاسماً بعد الاستقلال، عندما أصبح الجيش أهم قوة سياسية في الدولة بعد انهيار الهياكل البرلمانية. أما في حالة سوريا، فقد لا تتعلق هيمنة الأقليات بالمسائل العرقية بحد ذاتها فحسب، بل أيضاً بقضايا مثل العلاقات المدنية العسكرية؛ ومن ثم، فإن استيلاء الجيش على السلطة يخلق هيمنة الأقليات كنتيجة ثانوية.

لذا، فإن نموذج الأقليات المدمجة في سوريا ليس سوى واحد من عدة نماذج محتملة، وإن كان ربما الأكثر إثارة للاهتمام، لأن الأقليات المدمجة هي الأسهل في التعامل معها نظرياً وعملياً. ومع ذلك، فإن مصير الأقليات المدمجة الأخرى، مثل الدروز في لبنان، مختلف تماماً: حيث لم يتمكنوا من السيطرة على آليات الدولة، نظراً لضعف الدولة ووجود هذه الآليات بالكاد، إن وُجدت أصلًا. ومع ذلك، فإن نموذج الأقليات المدمجة يُعد أداة مفاهيمية بالغة الفائدة لتحليل المشكلة في جميع أنحاء المنطقة، ويمكن تعلم الكثير من هذه الحالات في ضوء الصورة الأوسع للشرق الأوسط ككل. أولاً: يجب أن نسأل بأي معنى يُعتبر العلويون والدروز أقليات حقيقية؟ كلاهما يتحدثان العربية، ولا يختلفان كثيراً في عاداتهما وتقاليدهما عن الجماعات الناطقة بالعربية الأخرى في الدولة؛ فهما عرب بوضوح بالمعنى الثقافي والاجتماعي، إن لم يكن السياسي. ومع ذلك، فكلاهما أقلية بالمعنى الديني، إذ تطورا كفرعين من الإسلام، حتى وصلا في النهاية إلى حدّ لم يعد يُعتَبران فيه مسلمَين.

من الواضح أن ديانة الدروز جاءت بعد الإسلام السني، وشملت انتقالاً من مصر إلى جنوب لبنان، ثم من أجزاء من لبنان إلى فلسطين ولاحقاً إلى سوريا. ومنذ القرن الحادي عشر، كان كون المرء أقلية دينية يعني أيضاً عزلة ديموغرافية وجيوستراتيجية إلى حدّ ما؛ أي التمركز في الجبال والابتعاد عن المناطق الحضرية والقرى التي تهيمن عليها أغلبية مسلمة. وهكذا، طوّر الدروز شعوراً قوياً بالتضامن القبلي أو العرقي، عززته مهارتهم في فنون الدفاع عن النفس، في بيئة غير آمنة عموماً، حيث لم تكن الحكومة المركزية قادرة أو راغبة في حماية هذه الأقليات. لقد أدى تاريخهم إلى هوية عرقية مميزة، والتي بدورها شهدت قدراً كبيراً من التكيف والانسيابية في التعامل مع القوى السياسية الخارجية، دون المساس بالهوية الذاتية بأي معنى عميق للكلمة. يبقى أن نرى ما إذا كان هذا النمط سيستمر في بيئة أكثر حداثة، حيث قد تصبح الأنماط التقليدية للعزلة الجغرافية والاجتماعية غير ذات صلة وغير عملية.

الأقلية العلوية

حالة العلويين أبسط من حالة الدروز. لم يشاركوا في أي حركة هجرة واسعة النطاق من جزء إلى آخر في الشرق الأوسط. على الرغم من أن أحد التقاليد المعروفة يُشير إلى أنهم من نسل شعب كنعاني قديم لم يتحدث اللغة العربية إلا في العصور الوسطى، فمن الواضح، على الأقل منذ العصور الوسطى، أنهم اتبعوا النمط الحالي لكونهم جماعة ناطقة بالعربية تتبع نسخة من الطائفة الإسماعيلية الشيعية، وبالتأكيد لم يغادروا أرضهم القديمة.

يشكل العلويون أغلبية الثلثين في المنطقة التي يعيشون فيها، في المنطقة الساحلية لشمال سوريا وامتدادها إلى تركيا. وعلى الرغم من وجود مجموعات صغيرة من العلويين في الأردن وكذلك في لبنان، إلا أنهم في الأساس طائفة سورية. يشكل العلويون في سوريا حوالي 75% من العلويين في الشرق الأوسط عموماً، على عكس الدروز الذين يتمركزون في كل من لبنان وسوريا، مع مركز ثالث يتطور ببطء في إسرائيل. ومثل الدروز، يميلون أيضاً إلى العيش في القرى الجبلية ويركزون على الجوانب السرية في الدين. وقد ساعد هذان العاملان، السرية والعزلة النسبية في المناطق الجبلية، في الحفاظ على تضامن قبلي وتميز افتقرت إليه العديد من الأقليات الأخرى في الشرق الأوسط. دفعت الظروف التاريخية في سوريا القوة الاستعمارية الفرنسية إلى تطوير موقف تفضيلي تجاه هاتين الأقليتين، مما مأسس دورهما في الجيش، إلى درجة هيمنتهما لاحقاً على نخب الدولة في ظل "التعايش" المعروف بين الجيش والحزب في النظام السوري السابق. ومن اللافت للنظر في هذا السياق أن العلويين، الحزب المهيمن في التحالف، لم يتجاوزوا أبداً ثُمن إجمالي سكان البلاد.

الأقلية الكردية

يجدر التفكير في الأقليات المدمجة في سياق إقليمي أوسع. هل هم الاستثناء الذي يثبت القاعدة، أم أنهم نوع من القاعدة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا نرى حالات أكثر وضوحاً في أماكن أخرى؟

أحد الأمثلة المباشرة التي تتبادر إلى الذهن هو حالة الأكراد، وهم أكبر مجموعة عرقية في الشرق الأوسط يمكن تصنيفها كأقلية. يبدو أن العديد من خصائص الحالة الكردية تتوافق تماماً مع نموذج الأقليات المدمجة. إنهم يعيشون في عدد من البلدان (العراق وإيران وتركيا وسوريا) في مناطق يشكلون فيها أغلبية ساحقة - في كل من هذه الحالات، يقيم ملايين السكان في منطقة كردستان المحددة. (الأعداد الديموغرافية الدقيقة غير معروفة؛ أحياناً يوصف العدد الإجمالي للأكراد بأنه يتجاوز 20 مليوناً، وأحياناً أقل بكثير). يميل الأكراد، مثل الدروز والعلويين، إلى العيش في المناطق الريفية في الجبال. في مناطق معينة، ويتفوقون أيضاً في فنون القتال.

على عكس الدروز والعلويين، فإن الأكراد مسلمون بوضوح، وهم من أتباع المذهب السني، وهو المذهب السائد. مع ذلك، لا يتحدث الأكراد العربية، بل يتحدثون لغة هندو-أوروبية، أقرب إلى الفارسية، التي تُكتب أحياناً باللاتينية، وأحياناً أخرى بالخط العربي. من حيث المعايير الموضوعية، يبدو أن وجود لغة مستقلة يعتبره العديد من الباحثين ذا أهمية حاسمة في تحديد أقلية مميزة. بهذا المعنى، فإن "عروبة" الأكراد موضع شك أكبر بكثير من عروبة الدروز أو العلويين، لأنهم لا يعيشون في دول عربية حصرية، بل يوجدون أيضاً في إيران وتركيا وأجزاء من الاتحاد السوفيتي السابق لا يمكن اعتبارها عربية. (نظرية القومية العربية الكلاسيكية نفسها تُعلي من شأن اللغة كإحدى أهم سمات الهوية العربية). ومع ذلك، فإن كونهم مسلمين سنة يجعلهم جزءًا من التيار الرئيسي في الشرق الأوسط، وبالتالي ينتمون إلى الأغلبية في بعض النواحي.

يمكن اعتبار الأكراد أقلية متماسكة في أماكن مثل العراق، حيث سعوا جاهدين لتطوير نماذج مختلفة للتوافق السياسي، بعضها يتعلق بالاندماج في الحياة السياسية في المركز، وبعضها الآخر يتعلق بطموحات الحكم الذاتي الإقليمي. لكن انتشار الأكراد في جميع أنحاء الشرق الأوسط دون أغلبية واضحة في أي بلد جعلهم مختلفين عن الأقليات المتماسكة الأخرى. على سبيل المثال، صعّب انتشارهم الجغرافي عليهم حل مشاكلهم في أي بلد، لأن الدول الأخرى تخشى من قوة سابقة قانونية على أقلياتها. وبينما رأى البعض أنه من المناسب دعم التطلعات الكردية لأسباب تتعلق بمبررات وجودهم، عارض آخرون الأهداف الكردية للأسباب نفسها. إن مصير الأكراد في العراق في سبعينيات القرن الماضي يُعدّ دليلاً صارخاً ومأساوياً على تحديات بناء علاقات مستدامة وطويلة الأمد في منطقة محفوفة بالتغيير المفاجئ، والذي غالباً ما يكون من صنع حفنة من الأفراد.

ومع ذلك، يُشبه الأكراد أمةً من الناحية النظرية، ربما أكثر من أي أقلية أخرى في الشرق الأوسط، مما يُصعّب عليهم إيجاد مكانٍ لهم تحت الشمس. ومن المزايا التي تمتع بها العلويون والدروز - على الأقل في العقود الأخيرة - أنهم لم يُشتبه في دعمهم لبدائل الدولة القومية المحتملة، بينما يُشتبه في قيام الأكراد بذلك تحديداً. يصعب عليهم الاكتفاء بأهداف الدروز والعلويين الأكثر تواضعاً، لأنهم يبدون موضوعياً يستحقون أكثر، ويبدو أنهم يمتلكون نفوذاً أكبر بكثير. لذا، يُخشى منهم أكثر. في أذهان الكثيرين في المنطقة، يُشكل الأكراد تهديداً ليس بسبب أفعالهم، بل بسبب هويتهم. وهنا تكمن مأساة حقيقية لهذا الشعب، الذي يُمثل أكبر وأبرز أقلية عابرة للقوميات في الشرق الأوسط. ومن العوامل الحاسمة الأخرى الواضحة في مصير الأكراد أنهم لم يحظوا قط بمعاملة تفضيلية على أيدي القوى الاستعمارية.

الأقليات المركبة

ليس من السهل تحديد البديل للأقليات المُركّبة، على الرغم من وجود مثل هذه البدائل بوضوح. على سبيل المثال، يعيش مسيحيون أرثوذكس في أماكن مختلفة في سوريا ولبنان وفلسطين، ومع ذلك لا يتمتعون بوضع الأغلبية في منطقة معينة، ولا يملكون مركزاً واحداً. يميلون إلى عدم الفعالية السياسية، إذ يفتقرون إلى جميع مزايا الأقليات الأخرى. أعدادهم لا تجعلهم مهمين حقاً؛ كما أن حقوقهم في التصويت ليست مهمة، فالتصويت عموماً لا يُحدث فرقاً حقيقياً، ويفتقرون إلى القوة السياسية التي توفرها قاعدة إقليمية قوية أو ارتباط وثيق بأدوات السلطة (مثل الجيش). هذا الضعف السياسي لا يجعلهم غير مهمين، إذ لا يزال بإمكانهم ترك بصماتهم على الحياة الثقافية وقطاع الأعمال، كما كان الحال قبل عقود، وخاصة فيما يتعلق بنشأة القومية العربية. ومع ذلك، كلما ازداد قبول الجماهير للقومية العربية، ازداد ارتباطها بالأفكار الإسلامية، وهو تناقض لم يتمكن المسيحيون قط من حله. كلما حاولوا طرح بدائل أيديولوجية للسياسة الإسلامية (مثل القومية العلمانية أو الاشتراكية)، ازدادت هذه البدائل إما تأثراً بالطابع الإسلامي أو فشلاً - وهي حالة نموذجية من "اللا مخرج".

أما حالة المسيحيين الأقباط في مصر فهي مختلفة نوعاً ما. فأعدادهم كبيرة، حوالي ١٠٪ من السكان، وقد شهدوا ارتفاعاً مفاجئاً في مستوى وعيهم السياسي وتطلعاتهم. تذبذبوا بين السياسة التقليدية لأقلية تقبل دورها الهامشي وأسلوب سياسي حازم للغاية.

أصبح الأسلوب مشكلةً لنظام السادات، الذي تردد بين قطبين: أولاً: اتخاذ موقفٍ تصالحي تجاه النشاط القبطي. وثانياً: محاولة قمع تسييس الدين، وهو ادعاءٌ عبثيٌّ في ظل ظروف الشرق الأوسط. ونظراً للطابع الإسلامي القوي للسياسة الجماهيرية في مصر اليوم، يصعب تصور نجاح الأقباط في تأكيد دورهم الجماعي في السياسة كمجتمع شبه مستقل، إذ يفتقرون إلى السمات الإقليمية للأقليات المتراصة، على الرغم من وجود قرى أو أحياء قبطية.

الإسلام والسياسة

يُعد هذا الموضوع من أكثر المواضيع رواجاً في التحليل السياسي اليوم. إن مركزية الإسلام وتأثيره الهائل في سياسات الشرق الأوسط راسخة لدرجة أنها لا تحتاج إلى مزيد من الأدلة أو التوثيق. ومع ذلك، فإن تداعيات هذه الحقائق على مختلف مناحي الحياة لا تُفهم دائماً بشكل صحيح. على سبيل المثال، تُعتبر العلاقة بين الإسلام والعرقية ظاهرة معقدة، ومن الواضح أن هناك أشكالاً مختلفة من هذه العلاقة. ومع ذلك، فمن الآمن عموماً القول إن الإسلام ليس ديناً عرقياً، مثل اليهودية. فكون المرء يهودياً كما وصفه بعض الكُتّاب اليهود مؤخراً، هو مسألة "عضو في القبيلة" بقدر ما هو مسألة ممارسة أو حتى الإيمان بمبادئ اليهودية كدين. كلما ساد التنوع الحديث للقومية اليهودية في إسرائيل وجعل نفسه محور الولاء السائد بين اليهود في العالم، ازداد هذا التوجه قوة، حتى وإن لم يكن التعبير عنه بهذه القسوة. من الواضح أن هذا التوجه يعكس أيضاً تمرد اليهود على أنماط حياتهم لقرون عديدة، والتي اتسمت بانشغال شديد بالشعائر الدينية على حساب الحياة السياسية. ربما كانت الشعوب الأخرى التي تواصلت معها اليهودية متدينة في الماضي، لكنها على مدى القرون الخمسة الماضية أصبحت علمانية التوجه بشكل متزايد، بينما ظل اليهود متدينين حتى منتصف القرن التاسع عشر تقريباً.

حتى ذلك الوقت، كان مفهوم اليهودي العلماني (ناهيك عن المجتمع اليهودي العلماني) متناقضاً عملياً. وكان من أبرز تحديات التاريخ اليهودي منذ منتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر استيعاب هذا التغيير في هذا التعريف والهوية الناتجة عنه. ومن أسباب نجاح إعادة التعريف هذه أن اليهود يشعرون بالفعل بانتماء قبلي، وهو ما عوّض إلى حد كبير عن نقص المحتوى الديني في الحياة اليهودية في معظم أنحاء إسرائيل وفي كثير من الشتات.

مع الإسلام، الأمور أكثر تعقيداً بكثير. في حين يمكن اعتبار الإسلام مجتمعاً سياسياً متفوقاً بكثير على أي دولة قومية واحدة، إلا أنه في الممارسة العملية كان يعني اتباع مبادئ الدين الإسلامي. وعلى الرغم من وجود حالات أُجبر فيها المسلمون على الانحياز إلى مجتمعهم السياسي بسبب الحروب الأهلية، كما هو الحال في لبنان أو باكستان، أو في البوسنة، فإن أسلمة المجتمع السياسي تعني عادةً درجة أعلى من الوعي الديني. لقد كان بناء مجتمع سياسي يهودي في الأساس عمل القوميين العلمانيين، الذين عارضتهم منذ فترة طويلة معظم المؤسسة الدينية، في حين أن بناء المجتمعات السياسية الإسلامية في الآونة الأخيرة كان في الأساس عمل المسلمين المتدينين، وغالباً ما يعملون ضد مبادئ وممارسات القوميين العلمانيين. لا تزال هوية السياسة والدين تمثل مشكلة كبيرة بالنسبة للأقليات في الدولة اليهودية التي ليست جزءًا من الأمة اليهودية، كما هو الحال في حالة العرب الإسرائيليين، ولكن طبيعة النظام السياسي اليهودي تقدم تبايناً مثيراً للاهتمام مع الدولة الإسلامية المزعومة.

لأن الدين ليس الأساس الوحيد للمجتمع اليهودي - إذ يعتبره العديد من القوميين العلمانيين أثراً مزعجاً من الماضي - غالباً ما يُنظر إلى الدين في إسرائيل على أنه من الأفضل تركه للمؤسسات الدينية المختلفة، التي تعمل بشكل مستقل تقريباً عن الدولة. بل إن القوميين العلمانيين مستاؤون من هذا التنازل عن وظائف الدولة لجهات فاعلة غير حكومية، ويجادلون، عن حق، بأن هذا يمثل تقاليد عثمانية عفا عليها الزمن في نهاية القرن العشرين. ومع ذلك، فإن هذا الترتيب، في جوهره، يوفر مخرجًا مناسباً.

القومية اليهودية

تسمح القومية اليهودية العلمانية للمؤسسة الدينية اليهودية، وكذلك المؤسسات الدينية الأخرى، بالعمل بما يرضيها إلى حد ما، مع الحفاظ على الطابع اليهودي للدولة من خلال الهيمنة السياسية والثقافية. وبهذا المعنى، لا تواجه إسرائيل أي مشكلة مع الأقليات الدينية، وإنما مع الأقليات السياسية والثقافية فقط. المؤسسة الدينية اليهودية مستاءة فقط لأنها محصورة في مناطق اختصاص معينة، حيث لا يكون معظم اليهود تحت نفوذها في معظم الأوقات.

ولذلك، تسعى المؤسسة الدينية اليهودية إلى مزيد من السلطة على اليهود الذين لا يخضعون لسلطتها، ولا تهتم كثيراً بإجبار غير اليهود على إطاعة أي قوانين أو مبادئ يهودية. إنها تشعر بالارتياح للتقاليد العثمانية، وعندما يجادل اليهود الليبراليون العلمانيون ضد الإكراه الديني، فإنهم يقصدون دائماً فرض اليهود على اليهود الآخرين، بدلاً من فرض اليهود على غير اليهود. لقد انتهى الصراع على الطابع اليهودي لدولة إسرائيل، على الأقل بمعنى أنها دولة يهودية. في حين أن المعنى الدقيق لهذا المصطلح غير واضح، إلا أن المسألة قد حُسمت عملياً، ولا تتوهم المؤسسة الدينية عموماً أنها تستطيع جعل الدولة أكثر يهودية مما هي عليه بالفعل من خلال التشريع الديني. دولة إسرائيل يهودية لأن أغلب سكانها من اليهود، الذين يسيطرون على السياسة ويشكلون النخبة الثقافية التي تصنع رموز العيش في البلاد. أما من يقعون خارج نطاق هذه الرموز، كما هو الحال مع عرب إسرائيل، فسيواجهون دائماً صعوبة بالغة في الاندماج في هذا التعريف الثقافي للأمة، لكنها دولة يهودية بهذا المعنى الثقافي-القومي وليس بالمعنى الديني.

مع ذلك، يختلف الوضع اختلافاً جوهرياً في بقية أنحاء الشرق الأوسط. ففي لبنان، على سبيل المثال، لم تُحسم طبيعة الدولة بعد، ولا يُسمح للأغلبية المسلمة بالهيمنة على الحياة السياسية أو الثقافية. ومن ثم، فإن تشدد جميع الجماعات المعنية وطموحها للسيطرة على المركز السياسي، أو على الأقل على جزء منه، من خلال الحد من تأثير الجماعات الدينية الأخرى، غالباً ما يتجلى في العنف. حتى لو سلمنا بأن لبنان استثناء، كدولة شبه "لا دولة"، فإن الصراع على مستقبل الدول العربية الأخرى لا يزال في طور النشوء. يُشكل هذا الصراع أحد المحاور الرئيسية للنهضة الإسلامية، وهو موضوع رائج في الأوساط الفكرية والسياسية التي تُعنى بالشرق الأوسط اليوم.

ومن المحاور الرئيسية لهذا الصراع التمييز بين دولة المسلمين ودولة المسلمين، وهو تمييز يُمثل، من نواحٍ عديدة، جوهر المسألة في أي دولة تدّعي الطابع الديني.

يتفق جميع المراقبين تقريباً على أن إسرائيل دولة يهودية أكثر منها دولة دينية. ونتيجةً لذلك، نادراً ما تُحاول صياغة أسلوب مختلف جذرياً لإدارة الدولة. فالنماذج المختارة للمحاكاة غالباً ما تكون من الدول الصناعية الغربية الأكثر نجاحاً، وليس من أمجاد الماضي اليهودي، سواءً أكانت حقيقية أم مُتخيلة، أو من أي بنية نظرية فوقية للنظرية السياسية اليهودية. يُنشئ هذا التوجه لغةً مشتركةً للسياسة المعيارية في إسرائيل، ويُمثل معادلةً قويةً بين الأغلبية والأقلية، اللتين تسعيان إلى صورةٍ واحدةٍ تقريباً للدولة الصالحة. يختلف الوضع تماماً في حالة القوى الإسلامية التي تتمتع بقوة هائلة في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وكما يُظهر مثال إيران، يسعى الإسلاميون جاهدين لإنشاء دولة على صورتهم الخاصة، دولة لا تختلف عن الدولة الغربية الحديثة فحسب، بل تسعى صراحةً إلى تحديها. وفي هذا المسعى، لا يجمعهم لغة مشتركة ولا نموذج مشترك مع القوى غير الإسلامية؛ وهذه الفكرة عن الدولة الإسلامية قادرة على تهديد غير المسلمين وإحداث شرخ بينهم. في فترات مختلفة من التاريخ القصير للجمهورية الإسلامية الثورية الإيرانية، شهدنا بالفعل تهديدات خطيرة لليهود والبهائيين. وقد يتكرر هذا النوع من التهديد ضد جميع الأقليات غير الإسلامية، لأن هذه، كما يُقال، طبيعة الوحش.

صراع الهويات

لا يزال هذا الصراع على هوية الدولة قائماً في دول أخرى في المنطقة، ولا يزال شكل الدولة المستقبلية موضع شك. يمكننا أن نتخيل التهديد الذي يواجهه الأقباط المصريون، على سبيل المثال، إذا نجحت القوى الإسلامية في الاستيلاء على السلطة في ذلك البلد. لقد ثبت بالفعل أن مصر دولة إسلامية، لأن 90% من مواطنيها مسلمون، ولأن النخبة السياسية المصرية - رغم كل ادعاءاتها وطموحاتها بالتحديث - فضّلت السير في دروب الدول الإسلامية الأخرى. لكن ما تطالب به موجة التطرف الإسلامي هو اتخاذ تلك الخطوة نحو التحول إلى دولة إسلامية. وبغض النظر عن تعريفها، فإن هذا التحول سيهدد غير المسلمين في مصر. وسيُدخل حتمًا تشريعاتٌ مبنية على التراث الإسلامي، على حساب العناصر العالمية للدولة القومية الحديثة، الأكثر استيعابًا للأقليات.

ومن ثم، فإن النهضة الإسلامية لا تعني العودة إلى "الأيام الخوالي" للحكم العثماني، بتفويضه السلطة لمختلف الطوائف الدينية في هيكل شديد اللامركزية. بل على العكس، تُمثل الموجة الإسلامية الحالية تناقضاً غريباً بين السلطة المركزية للدولة القومية الحديثة (وهي نقيض الإمبراطورية العثمانية متعددة الجنسيات)، وطموحات القادة المستمدة من التقاليد الأخروية والحنينية للتراث الإسلامي. ولعل هذا التناقض، في المستقبل، عندما يتضح تعريف الدولة الإسلامية، قد يختفي أو يتحول بما يتوافق مع وجود الأقليات غير الإسلامية. في الوقت الراهن، من المؤكد أن مصير الأقليات خلال الهجمة الإسلامية سيكون مصيراً يسوده عدم اليقين والقلق. بشكل عام، يُتوقع من الإسلام أن يكون ركيزةً اجتماعيةً وثقافيةً للقومية، ليحلَّ، في بعض النواحي، محلَّ اشتراكية العصور السابقة: فالاشتراكية، في نهاية المطاف، غريبةٌ عن الشرق الأوسط كغربة الدولة القومية الحديثة. ومهما بلغت عالميةَ طابعها وتعددَ جنسياتها من الناحية الديموغرافية، فقد استُخدم الإسلام كخادمٍ للقومية، لا كبديلٍ لها.

لا يُمكن التنبؤ بالاتجاهات المستقبلية للنضال من أجل دولة إسلامية، ناهيك عن نتائجه. ربما ينحسر المد الإسلامي، أو قد يستقر في نمطٍ معتدلٍ لا يُهدد المصير السياسي للأقليات. ومع ذلك، فمن المرجح جداً أن تستمر الأنماط الحالية لبعض الوقت. ولعلَّ جوهر الوضع الحالي يكمن في أن الإسلام لم يُشكِّل تحدياً حقيقياً لهيمنة الدول السائدة في الشرق الأوسط. بمعنى آخر، لم ينجح الإسلاميون في تقديم التزامهم بإطار إسلامي أوسع، كالأمة الإسلامية، كبديل عن الدول القائمة، على الرغم من الإمكانيات النظرية الكامنة في الأطر الإسلامية. عملياً، استقرت الموجة الإسلامية في معظم الحالات في تحالف بين القومية المُعرّفة بالولاء لدولة واحدة والولاءات الأوسع، كالمشاعر العربية والإسلامية، كإطار عام للإيمان والقيم.

لا شك أن الاندماج الناتج عن ذلك غير مستقر، مليء بالتوترات المنطقية والعملية-السياسية. وهكذا، خاض الكيان الإسلامي الإيراني معارك دامية مع كيانات إسلامية أخرى، وسعت إلى استنهاض الولاءات الإسلامية لشعبها. ولأن العدو كان إسلامياً أيضاً (رغم اتهامه بالعلمانية والخيانة)، لم يكن النداء الإسلامي كافياً في هذه الحالة تحديداً. كان لا بد من حشد النزعات القومية، بحيث أُعيد تدوير القومية عملياً، ليس في شكلها النقي، بل في شكل متوافق مع الطابع الإسلامي للنظام. على سبيل المثال، استُخدمت جاذبية الإسلام الشيعي، وهو دين الدولة في إيران، ضد الطابع السني للنخبة العراقية.

انقسام مذهبي

يُعيدنا الانقسام السني الشيعي إلى مسألة تعريف الأقلية في الشرق الأوسط. على الرغم من وجود العديد من الأقوال التي تُشير إلى أن "بيت الإسلام واحد"، إلا أن هذا بعيد كل البعد عن الحقيقة عملياً. لقد كان الانقسام بين السنة والشيعة حقيقةً محوريةً في التاريخ السياسي للشرق الأوسط لدرجة أنه لا يمكن تجاهله. هل يُشكل السنة أقلية في إيران؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يحمل مصطلح الأقلية نفس الدلالة كما هو الحال في حالة الأقلية العرقية واللغوية مثل الأكراد؟ إذا كانت الإجابة بالإيجاب، فلدينا ثلاثة تعريفات على الأقل للأقليات في الشرق الأوسط: العرقية، والدينية، والإسلامية الداخلية. عندما يتزامن انقسامان أو أكثر من هذا القبيل، فمن المرجح أن نجد مشكلة أكثر خطورة مع الأقليات، ولكن عادةً لا ينشأ هذا التعقيد في الشرق الأوسط. وهكذا، فإن الأكراد أقلية عرقية، لكنهم مسلمون، وإن كانوا سنة، مما يُفاقم التعريفات في بلد شيعي كإيران. ومع ذلك، فإن السؤال النظري الرئيسي هو كيفية التعامل مع حالة بلد كالعراق.

نعلم أن السنة الحاكمين في العراق يمثلون في الواقع أقلية من السكان - فالشيعة يتمتعون بأغلبية عددية وليست سياسية. من حيث الهيمنة السياسية والثقافية، سيطرت النخبة السنية الحضرية بقوة منذ نشأة الدولة العراقية الحديثة. ومع ذلك، نادراً ما نجد في الأدبيات إشارة إلى حالة السنة في العراق كأقلية، وهي كذلك تقنياً، خاصة إذا أشرنا فقط إلى السنة العرب، أي غير الأكراد، في العراق. هذا الفشل مثير للاهتمام، لأنه يُظهر أن التركيبة السكانية ليست سوى أحد العناصر التي تُشكل كيفية تعاملنا مع الجماعات في المجتمع، وأن عناصر أخرى تدخل في الصورة أيضاً. إن السنة في العراق بوضعية خاصة، حيث لم يكن يُنظر إليها على أنهم في وضع مماثل للأقليات المتراصة في سوريا، على الرغم من وجود بعض التشابه بينهما. فإذا استولى الشيعة على السلطة في العراق عبر التاريخ، وهيمنوا على المركز السياسي، فمن الممكن أن نبدأ بالفعل بسماع المزيد من الإشارات إلى السنة هناك كأقلية حقيقية.

في أماكن أخرى من المنطقة، توجد بالتأكيد أقليات إسلامية داخلية، وعادةً ما يُعاملها العلماء والسياسيون على هذا الأساس. والشيعة في مختلف دول شبه الجزيرة العربية ليسوا سوى مثال واحد، وهناك أمثلة أخرى كثيرة. في الواقع، مع تأكيد الشيعة على ثقتهم بأنفسهم، بدعم من إيران، من المرجح أن تزداد أهمية هذه الأقليات. من الواضح أن الشيعة يتعرضون للتسييس بشكل متزايد، ولن يُشتروا بسهولة بشعارات الولاء للإسلام، لأن نسختهم من الإسلام تختلف اختلافاً كبيراً عن نسخة السنة: ولهذا الاختلاف تداعيات سياسية عديدة. نظراً لانتمائها إلى الإسلام تحديداً، قد تتمتع الأقليات داخل الإسلام بأعلى درجات الشرعية للنشاط السياسي كأقليات، وللاختلاف عن الأعراف السائدة في بلد معين. إلا أن آثار هذا النوع من النشاط الأقلوي لم تُفهم بالكامل بعد، لأن العملية حديثة نسبياً.

حالة السودان المتطرفة قبل الانفصال

يُمثل السودان حالةً مثيرةً للاهتمام ومهمةً في التركيبة العرقية للشرق الأوسط. فهو من أكبر دول المنطقة، إلى جانب المملكة العربية السعودية والجزائر، ويمتد على مساحة تقارب 2.5 مليون كيلومتر مربع، ويمتد من الحدود المصرية شمالاً إلى عمق وسط أفريقيا. من حيث عدد السكان، ينقسم السودان إلى قسمين مختلفين اختلافاً كبيراً: شمال إسلامي ناطق بالعربية، وجنوب مختلف لغوياً وعرقياً، مسيحي جزئياً، ويتبع ديانات أفريقية تقليدية جزئياً. (ولذلك يُعتبرون وثنيين من قبل المسلمين والمسيحيين، مع أن وصفهم بالشرك هو الأنسب على الأرجح). عانى السودان من حرب أهلية طويلة وشديدة بين الشمال والجنوب منذ نشأته تقريباً. يبدو أن هذه الحرب الأهلية تنتهي بين الحين والآخر باتفاق تفاوضي، ثم تنهار سريعاً بسبب التوترات الحتمية في العلاقة المعقدة بين القسمين، ونادراً ما تُعالج الأسباب الكامنة وراء الصراع في مختلف الاتفاقيات.

ربما تُمثل حالة السودان أوضح مثال على الانقسامات التي تُشكل أساس الشرق الأوسط بأكمله. يُمكن اعتبار الانقسام الرئيسي انقساماً دينياً، يُفصل المجتمع الإسلامي عن بقية العالم. يُصنف هذا الانقسام الشمالَ ضمن منظومة الدول الإسلامية والجنوب ضمن منظومة الدول الأفريقية السوداء. ويُجادل آخرون بأن الانقسام الرئيسي هو الذي يجعل الشمال عربياً لا إسلامياً. لا يُمكننا في أي مكان آخر في الشرق الأوسط أن نرى جزءًا كبيراً من بلدٍ ما يسكنه عدد كبير من السكان ليسوا مسلمين ولا عرباً. علاوة على ذلك، فإن هذا الانقسام إقليمي أيضاً، أي أن السكان غير المسلمين وغير العرب يشغلون منطقةً خاصة بهم، وهي منطقة بعيدة نسبياً عن المركز السياسي للبلاد، وبالتالي يصعب السيطرة عليها.

تُظهِر مقارنة هذه الحالة بحالات أخرى في المنطقة تفردها. فهناك أعداد كبيرة من المسيحيين في لبنان، مع تمركز كبير للموارنة في منطقة جبلية يصعب الوصول إليها. ومع ذلك، فهم عرب، ويشكل اعترافهم بهذه الهوية جزءًا أساسياً من الميثاق الوطني. أما الأكراد، فيتركزون في عدة دول بدلاً من دولة واحدة؛ ولا يقل أهمية عن ذلك كونهم من المسلمين السنة، لذا فإن وضعهم كأقلية عرقية ولغوية لا يُعززه العوامل الدينية المهمة للغاية في الدول الإسلامية. تعكس هذه الحالة تفرد السودان، الذي يتفاقم عدم استقراره المحتمل أحياناً بسبب الشقاق الطائفي الشديد للأغلبية العربية الإسلامية. كما تُشبه هذه الحالة إلى حد كبير الانقسامات العرقية الكلاسيكية التي تعصف الآن بدول مثل يوغوسلافيا السابقة.

تُظهر حالة السودان سمة أخرى من سمات العديد من مجتمعات الشرق الأوسط: التعصب الحزبي الشديد بين الأغلبية والأقلية. (تشير معظم التقديرات إلى أغلبية الثلثين وأقلية الثلث). يجب فهم هذا التعصب الحزبي لفهم تعقيدات السياسة السودانية. ومع ذلك، يُعيق التعصب الحزبي أحياناً إيجاد حل للصراعات العرقية. فهو يُصعّب إيجاد دعم توافقي لنماذج التعايش، وبالطبع، في حالة الجنوب، يُسهم في انتشار الصراعات الداخلية والعنف على نطاق واسع. كالصراع بين الأغلبية والأقلية. هذا النمط، وإن بدا متطرفاً في السودان، موجود أيضاً في لبنان، مما يجعل فهم السياسة هناك وإدارتها أكثر صعوبة، ناهيك عن تحولها إلى مستوى أعلى من الاستقرار. مع ذلك، ليس لدينا تفسير نظري لما إذا كانت المجتمعات شديدة التشرذم تميل إلى مواجهة توترات أكثر خطورة مع الأقليات، أو ربما العكس، حيث تميل المجتمعات المجزأة ذات الأقليات أيضاً إلى تجزئة الأغلبية وكل أقلية داخلياً.

***

الدكتور حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

لا يختلف الباحثون على مختلف مدارسهم أن المحور الجوهري للتشيع هو المطالبة بحكم رشيد ومشروعية للسلطة، سواء من ذهب منهم إلى النص، أو إلى ضرورة اختيار الأفضل، أو اختيار الشخص الذي ينهض مدافعاً عن العدل والنهوض (1)، وعلى الرغم من إصرار كثير من العلماء أن أصل النشأة أصل ديني إلا أن الراجح أن الهدف السياسي والاجتماعي كان المنطلق والمبدأ ثم تحول إلى نظرية سياسية وبعد ذلك صاغه الشيعة منظومة عقائدية وفكرية، ولعل النشأة التاريخية تتراكم من (مسلسل الأحداث المؤسسة للممارسة الشيعية التي كانت ضمن هذا الأفق (2)، واعني الأفق القانوني وليس أفق القوة

ومن الممارسات التاريخية أن أصحاب الأمام علي (ع) قد مارسوا قدراً كبيراً من ضبط النفس إزاء الخلفاء الثلاثة الأوائل، وتعاونوا مع خصومهم السياسيين وتولوا لهم، ونصحوهم مع إصرارهم على أحقية وجهة نظرهم (3) وحين تتحول هذه الممارسة التاريخية الى أصول تأسيسية لها قيمة الأصول المرجعية، فأن معارضة الشيعة في أصلها معارضة سلمية وإيجابية طالما لم تمارس السلطة العدوان المفرط ضدهم (4) فهم يتعاملون مع سياسات الاقصاء والتهميش وحجب الفرص ولكنهم يقفون ضد سياسات عنف السلطة موقفا حازما تهون ازاءه التضحيات الجسام

ولعل من مسار الشيعة في ممارسة المعارضة الإيجابية ما يمكن اعتباره موضع فخر للأمة عندما يتنازل مثلا الأمام الحسن (ع) عن حقه السياسي والدستوري حفاظاً على القيمة الإنسانية، وحق الناس في بيئة تخلو من النزاعات الدموية، وهذا ما نلحظه في سيرة الأمام علي بين الحسين زين العابدين التي امتدت (61 – 95 هـ) وفي ذروة القسوة المتناهية للسلطة الأموية وهو يعالج المشكلات المتصلة بالشان العام للمجتمع بأعلى درجات الحكمة والصبر والايجابية والتدبر والنصح وإعادة بناء الذهن الإسلامي .

وقد وثقت بعض تلك السيرة الايجابية في الصحيفة السجادية وهي (مجموعة قداسات وأدعية) لها مداليلها الاجتماعية والسياسية، و في رسالة الحقوق التي هدفها تحويل الفكر السياسي إلى مدونة قانونية تقدم بوصفها معايير الحق وقواعد للعدالة (5)

ويلفت النظر أن الأمام الباقر وهو خامس أئمة الشيعة كان يرشد وهو المعارض الأبرز مع عبد الملك ابن مروان في قضية سك العملة النقدية التي كان الروم يحتكرون صناعتها، ولعدم وجود عملة يتداولها المسلمون فقد اضطروا للتعامل بها لكن تنبه الناس إلى أن فيها رسوم شركية فأمر عبد الملك باستبدالها برسوم إسلامية لكنه لم يجد من يكتشف لهم سبل سك العملة، فهدد صاحب الروم إن يكتب فيها شتماً لنبي الإسلام، ولم يجد عبد الملك حلاً للمعضلة عند جهازه الإداري فلجأ للأمام الباقر فخطط له طريق سك الدراهم والدنانير الإسلامية ووضع له النقوش والأوزان و تعطي هذه الواقعة صورة واضحة لمدى إيجابية الشيعة في التعامل الإيجابي حتى مع مخالفيهم عقيدة وفكراً وممارسة ويشير المؤرخون إلى رسائل كثيرة كانت بين الباقر (ع) وبين عمر بن عبد العزيز مة بالنصح والرشد لان ابن عبد العزيز بدأ مشروعا تصحيحيا ومثله في علاقة الإمام الصادق (ع) بالمتغيرات السياسية في فترة انتهاء حكم الأمويين ومجيء العباسيين، فقد آثر أن تعتقد قوى المعارضة الشيعية أن الأولوية للمعارضة الفكرية على المعارضة السياسية وقد رفض ما عرض عليه أبو سلمه الخلال من تولى الخلافة (6) .وهكذا من يتعرف على سيرة ائمة الشيعة وخواصهم يجد أخلاقيات العمل السياسي التي لا تقبل أصلاً التوصل إلى أهدافها بالعنف والتعصب وفرض أنموذج القهر الاجتماعي .

وبعد زمن الأئمة كما يقول فرانسو توال في كتابه الجغرافية السياسية للشيعة (أن التشيع مذهب الأقلية المضطهدة والمحاصرة اجتماعياً ومع ذلك بلور التشيع رؤية مبدئية للتاريخ ولمستقبل البشرية بانتظار المصلح العادل الآمر الذي جعل هذا المذهب حركة سلمية مستمرة .(7) ويرى أن المهدوية فكرة دينية تتطلع الى مصير ممتاز للعالم وتتحدث عن العدالة التي ينشدها جميع البشر وعن الحق الذي يجب أن يسود العالم وعن فلسفة علمية للتاريخ ولم ترتبط قضية المهدي عند الشيعة بمفهوم الخطيئة أنما ارتبطت بالتطلع لإقامة الحكم العادل الرشيد دون ممارسة متعصبة أو فرض الرؤية المذهبية بالعنف ولو على سبيل التمهيد لدولة المهدي، وهكذا ظلت عقيدة المهدي عند الشيعة مانعة لهم من اعتماد العنف والتوسع بالنفوذ والهيمنة على (المتاحات الجيوسياسية الضعيفة) ولعل تاريخ دول الشيعة وسلوكهم السياسي والمذهبي (البويهيون، الحمدانيون، الفاطميون) يعد تاريخاً نظيفاً من النزعة التطهيرية للأخر (8) رغم أن هذه الدول ليست بالضرورة ملتزمة تماما بفكر الشيعة الأمامية، فالادارسة زيديون مثلا، وطبرستان زيديون، والبويهيون بدأوا زييدين ثم صاروا أمامية، والدولة الفاطمية مذهبها أسماعيلي لقد صار من المتفق عليه أن السلوك السياسي في هذه الممارسات الشيعية (كدول) لم يكن سلوكاً أقصائياً إلا في استثناءات قليلة يمكن معرفة أسبابها وظروفها .

أن نشأة التشيع لم تشبه نشأة اتجاهات أخرى اعتمدت على مبدأ القوة، وفرض الأمر الواقع، فلم تكن نشأة الشيعة كنشأة الخوارج، ولم تكن نشأتهم نشاة إقصائية كما هو حال تيار الحنابلة، إنما كانت حركة سياسية عقائدية تهدف الى (دولة عادلة وحاكم ملهم هو الأعدل والأعلم) وتتبنى سلوك إيجابي مع الخصوم و المخالفين ما لم يصل التنافس إلى صدّام دموي استئصالي كالذي حصل في كربلاء (61هـ) اومع زيد الشهيد في (123) وقبله مع التوابين (65هـ) .

التراث الشيعي المبكر وصلته بالأصولية الدينية

من ينشغل بمتابعة ومسح التراث الفكري الشيعي المبكر يجد مصادر هذه الدراسة مضطربة غاية الاضطراب فهناك المصادر (الرسمية التي دونتها الدولة التاريخية للمسلمين وهم يقاومون وجود التشيع ويجد المتتبع اهتمام كبير لدى مدوني الشيعة ولجوئهم إلى لغة التبجيل والتعظيم والغلو أحياناً كما يجد عند المستشرقين في الغالب اعتمادهم على النوع الأول من المصادر كما يلاحظ أن مؤلفي الشيعة لم يكتبوا تاريخ الشيعة والتشيع كتابة كافية وربما يعزى ذلك لانشغالهم بإثباتات (مرتكزهم الأساس: هو مبحث الإمامة ) فمن عصور (أصحاب الأئمة) كما ينقل النجاشي نجد أن أهم موضوع أنشغلو به أثبات الإمامة، وتابعهم على ذلك كتاّب عصر الغيبة المبكر كالمفيد والمرتضى في كتابه الشافي (9)وهكذا نجد هذا الأمر عند الطبري الشيعي (10) والطبرسي بالاحتجاج (11) ليصل الأمر للعلامة الحلي في كتابه الإلفين (12) وشرح التجريد ولعل هذا الهم مستمرا حتى الوقت الحاضر إذ نجد دلائل الصدق للمظفر (13) يتناول مبحث الإمامة بشيء بالغ من الاهتمام وإذا تقصينا هذا التراث المدون (فيما لم يتعرض بشكل مركّز إلى الإمامة )، فنجد كتاب المحاسن للبرقي يتناول فقه الوفاق ويعلل الأحكام ويركّز على الآداب الاجتماعية ويتوسع في توصيف السلوك السلمي للأئمة . (14)

ويمارس مؤلفو الشيعة الكتابة عن الفرق والمقالات ولكنهم لا يكتبون ما تطفح من سطوره الكراهية فأي مقارنة بين كتب الملطي أو أبن حزم  مع كتاب النوبختي تظهر لك الفروق جليه، أو أية مقارنة بين كتاب الشهرستاني (الملل والنحل) وبين كتاب سعد بن عبد الله الأشعري (ت130) (المقالات والفرق) لاسيما وقد ذكر الباحثون أنه أقرب مدون إلى عصر الأئمة . (15)

يقابله مثلاً محمد أبن أحمد الملطي (ت377) الذي كتب كتاب (التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع) وقد صدر مطبوعاً ومحققاً 1950م، وبمتابعته تجده يعول على الآثار الضعيفة ويسلك مسلك التعصب المغالى به فلقد حكم على الفرق الأخرى بالضلالة والكفر (16) ومثله عبد القاهر البغدادي في كتابه (أصول الدين)، بينما لا نجد في التراث الشيعي المبكر نصوصاً باعثه على الإلغاء والإقصاء والكراهية والعنف والتكفير والتفسيق كما نجده في مدونات المدرسة السلجوقية النظامية مثل فضائح الباطنية للغزالي الذي ألفه استجابة للمستظهر العباسي (487هـ) وفيه يكفر الغزالي كل من يراهم باطنين ومثله قواصم الباطنية وحجة الحق وتهافت الفلاسفة وكتاب غياث الأمم للجويني يقول الصلابي أن مضمون الكتاب الرد على المخالفين للسنة وعلى الأخص الشيعة (17)

وبالمقارنة: لا نجد (دار العلم) الذي أنشأها أبو نصر سابور بن اردشير وزير بهاء الدولة (416هـ) في الكرخ سنة (383هـ) والتي أوقف لها كتباً كثيرة بلغت عشرة ألاف وأربعمائة مجلد وعهد بإدارتها إلى نقيب الطالبيين أنها داراً أقيمت لمكافحة فكر وإقصاء مذهب وتكفير جماعه، وأنها كانت حاضنة لكل الآراء والمذاهب (18) وينقل لنا التاريخ أن مجلس الشيخ المفيد (مرجع الشيعة آنذاك ت 413 هـ) كان مجلساً يضم مختلف أهل العلم (19) ولمجرد أن جاء السلاجقة (447هـ) أحرقوا المكتبات والمدارس ومحو الذاكرة وأهدروا التراث وشردوا العلماء إلى أقاصي البلاد (20) ولم يحدثنا التاريخ أن (الأزهر) الذي أسسه الاسماعيليون كان مؤسسة مذهبية أو كان الغرض منه أنتاج معرفة أقصائية وفكر واحدي الرؤية .لقد استمرت المدارس النظامية على منهجها التكفيري حتى 817 هـ أي قرابة أربعة قرون، ولك أن تقدر نوع مخرجاتها من رجال الدين والمؤلفات، والذين أشتغلوا موظفين في البلدان مثل القضاء والحسبة .

يقول الصلابي: لقد تخرج من هذه المدارس جيل تحققت على يديه معظم الأهداف التي رسمها نظام الملك (21) ويكمل: بأن أبرز آثارها تقلص نفوذ الفكر الشيعي (22)، ويذكر أن المدرسة النظامية مهدت بتراثها لنور الدين زنكي والأيوبيين (23) .وعلى الرغم مما حصل في بغداد من إقصاء كان الشيخ الطوسي الشيعي يكتب مجمع البيان  بخطابات الاعتدال والوسطية والمهنية العالية، ونجد بعده العلامة الحلي وهو يدخل في الفكر الشيعي ما صح من إنتاج معرفي لدى السنة . وهذا للمنصف عرض موضوعي للايجابية الشيعية المجانبة للعنف واقصاء وشيطنة الاخر المذهبي وهذه دعوة للمراجعة والتامل وإعادة تشكيل المواقف بموضوعية

***

ا. د. عبد الأمير كاظم زاهد

.........................

(1) النوبختي: فرق الشيعة ص 44، الشهرستاني: الملل والنحل 1/144 .

(2) برنارد لويس: فرقة الحشاسين ص 32 .

(3) أحمد صبحي: نظرية الإمامة .

(4) إبراهيم بيضون: التوابون .

(5) ظ تذكرة الخواص / 291، المفيد: الإرشاد / 231

(6) أبن الطقطقي: الآداب السلطانية / 111 .

(7) فرانسو توال: الجغرافية السياسية ص 79 .

(8) محمد جواد مغنية: دول الشيعة ص 29 .

(9)

(10)

(11)

(12)

(13)

(14)

(15) الصدوق: كمال الدين وتمام النعمة /25 .

(16) السبكي: طبقات الشافعية 2/58 .

(17) محمد علي الصلابي: دولة السلاجقة 395 .

(18) م . ن: المدارس النظامية في عهد السلاجقة / 17 .

(19) صاحب محمد حسين نصار: الشيخ المفيد ص 112 .

(20) حسن الحكيم: الشيخ الطوسي / 210 .

(21) محمد علي الصلابي: دور المدارس النظامية ص 27 .

(22) م .ن ص /28 .

(23) م . ن ص / 28 .

بين المدينة العربية الاسلامية وتاريخية الدعوة المحمدية

مقدمة: يُمثل هشام جعيط (1935-2021) أحد أبرز المؤرخين والمفكرين العرب في القرن العشرين، حيث قدم إسهامات فكرية عميقة في دراسة التاريخ الإسلامي، متميزًا بمنهجه النقدي الذي يجمع بين التحليل التاريخي والأنثروبولوجي والفلسفي. تتمحور أعماله حول فهم الظواهر التاريخية الإسلامية، لا سيما في سياق نشأة المدينة العربية الإسلامية وتاريخية الدعوة المحمدية، كما يتضح في مؤلفاته مثل الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية وثلاثيته عن السيرة النبوية، وخاصة الجزء الثاني تاريخية الدعوة المحمدية في مكة. يهدف هذا المقال إلى تحليل فكرة التاريخ عند جعيط من خلال مقارنة رؤيته لنشأة المدينة العربية الإسلامية وتاريخية الدعوة المحمدية، مع التركيز على منهجه النقدي وتأثيره على فهم التاريخ الإسلامي. الإطار النظري: فكرة التاريخ عند هشام جعيط

يرى هشام جعيط أن التاريخ ليس مجرد سرد للأحداث، بل هو عملية استقراء وفهم عميق للديناميكيات الاجتماعية والثقافية والدينية التي شكلت المجتمعات. في كتابه الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية، يقدم جعيط رؤية شاملة لنشأة المدينة الإسلامية كنتاج لتفاعل الحضارة العربية مع الحضارات السابقة مثل البابلية والفارسية والهلنستية. يعتمد جعيط على منهج تاريخي تفهمي يسعى إلى فهم المناخ الذهني والعقلي للعصر، مع التركيز على القيم والأفكار التي هيمنت على المجتمع .  في سياق تاريخية الدعوة المحمدية، يتبنى جعيط منهجًا نقديًا يعتمد على فحص المصادر التاريخية بعين عقلانية، متجنبًا الروايات الأسطورية أو غير المثبتة. في الجزء الثاني من ثلاثيته عن السيرة النبوية، تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، يركز على تحليل السياق الاجتماعي والثقافي لمكة قبل وبعد الإسلام، معتبرًا أن الدعوة المحمدية لم تكن مجرد ظاهرة دينية، بل نتاج تفاعل معقد بين الفرد (النبي محمد) والمجتمع .  يتميز منهج جعيط بالجمع بين التحليل التاريخي والأنثروبولوجي، حيث يرى أن التاريخ يجب أن يُفهم من خلال البنى الاجتماعية والثقافية التي تحكم سلوك الأفراد والجماعات. هذا المنهج يتضح في مقاربته للمدينة العربية الإسلامية كنموذج حضاري، وللدعوة المحمدية كظاهرة تاريخية متجذرة في سياقها الاجتماعي.

نشأة المدينة العربية الإسلامية: رؤية جعيط

في كتابه الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية، يقدم جعيط تحليلًا معمقًا لنشأة المدن الإسلامية مثل الكوفة والبصرة، معتبرًا إياها نتاجًا لتحولات اجتماعية واقتصادية عميقة في المجتمع العربي بعد ظهور الإسلام. يرى جعيط أن المدينة الإسلامية لم تكن مجرد تجمع سكاني، بل فضاءً حضاريًا يعكس تفاعل العرب مع الحضارات المجاورة. على سبيل المثال، يشير إلى أن الكوفة كانت مركزًا فكريًا أنتج شعراء ومفكرين كبار مثل المتنبي، مما يعكس دورها كحاضنة للثقافة والفكر.  يؤكد جعيط أن المدينة الإسلامية تمثل نقطة تحول في مفهوم الاجتماع العربي، حيث انتقلت من هيكلية القبيلة إلى هيكلية مدنية تحكمها مؤسسات دينية وسياسية. في هذا السياق، يرى أن الإسلام لعب دورًا محوريًا في توحيد القبائل تحت راية الأمة، مما ساهم في بناء مدن مثل الكوفة والبصرة كمراكز للإدارة والثقافة. يعتمد جعيط في تحليله على مقارنة المدينة الإسلامية مع الحضارات السابقة، مثل البابلية والرومانية، لإبراز خصوصية النموذج الإسلامي الذي جمع بين الدين والسياسة والثقافة في إطار واحد .

تاريخية الدعوة المحمدية: منهج نقدي

في كتابه تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، يتبنى جعيط منهجًا نقديًا صارمًا في التعامل مع المصادر التاريخية، حيث يسعى إلى تخليص السيرة النبوية من الروايات الأسطورية والمبالغات. يرى جعيط أن مكة، كمركز تجاري وديني، شكلت بيئة فريدة لظهور الدعوة المحمدية، حيث كانت التجارة قد غيرت قيم المجتمع من الشرف القبلي إلى الثروة والنفوذ . يشير إلى أن مكة، على الرغم من أهميتها، لم تصل إلى مستوى التحضر العالي مثل أثينا اليونانية، حيث ظلت القبيلة هي المحدد الأساسي للهوية الاجتماعية.  يؤكد جعيط أن الدعوة المحمدية لم تكن مجرد حدث ديني، بل كانت استجابة للتحديات الاجتماعية والثقافية في مكة. يعتمد في تحليله على القرآن كمصدر رئيسي، مستخدمًا ترتيب نزول السور لفهم تطور الدعوة من مرحلة أخلاقية إلى مرحلة توحيدية صارمة، ثم إلى مرحلة المواجهة والاضطهاد. هذا التقسيم يعكس رؤية جعيط للتاريخ كعملية ديناميكية تتفاعل فيها الأفكار الدينية مع السياق الاجتماعي. ومع ذلك، أثار منهج جعيط النقدي جدلًا بين الباحثين. فقد اتهمه البعض بتأثره بالمقاربات الاستشراقية التي تشكك في المصادر الإسلامية التقليدية. في المقابل، يرى آخرون، أن جعيط اختار موقفًا عقائديًا ينطلق من الإسلام نفسه، لكنه يسعى إلى إعادة قراءته بعقلانية .

مقارنة بين المدينة الإسلامية والدعوة المحمدية

تتجلى فكرة التاريخ عند جعيط في مقاربته المزدوجة للمدينة العربية الإسلامية والدعوة المحمدية، حيث يرى أن كلاهما يمثلان وجهين لعملية حضارية واحدة. المدينة الإسلامية، كما يراها جعيط، هي نتاج التحولات التي أحدثتها الدعوة المحمدية، حيث شكل الإسلام إطارًا موحدًا للقبائل العربية، مما أتاح نشوء مدن مركزية مثل الكوفة والبصرة. في الوقت ذاته، يرى أن الدعوة المحمدية لم تكن مجرد حدث ديني، بل كانت عملية اجتماعية وسياسية أعادت تشكيل الهوية العربية.  من الناحية المنهجية، يعتمد جعيط في دراسته للمدينة الإسلامية على تحليل البنى الاجتماعية والاقتصادية، بينما يركز في تاريخية الدعوة المحمدية على نقد النصوص والمصادر. هذا الاختلاف في المنهج يعكس مرونة جعيط في التعامل مع الظواهر التاريخية، حيث يجمع بين التحليل الكلي (للمدينة) والتحليل الجزئي (للدعوة).  على سبيل المثال، في دراسته للكوفة، يركز جعيط على كيفية تحولها إلى مركز فكري وحضاري، بينما في دراسته للدعوة المحمدية، يركز على دور النبي محمد كفرد مبدع تجاوز سياقه الاجتماعي.هذا التكامل بين البعدين الفردي والجماعي يعكس رؤية جعيط للتاريخ كحركة ديناميكية تجمع بين الإرادة الفردية والسياق الاجتماعي.

النقد والجدل حول منهج جعيط

أثار منهج جعيط النقدي جدلًا واسعًا بين الباحثين. فقد اتهمه البعض بالتأثر بالمناهج الاستشراقية، خاصة في تشكيكه بالروايات التقليدية واعتماده على القرآن كمصدر رئيسي دون الاعتماد الكلي على الأحاديث والسير . يرى هؤلاء أن جعيط يميل إلى تفكيك الصورة التقليدية للنبي محمد، مما قد يُنظر إليه كمحاولة لتقويض المخيال الإسلامي.  في المقابل، يدافع آخرون عن جعيط، معتبرين أن منهجه يمثل محاولة لإعادة قراءة التاريخ الإسلامي بعقلانية وموضوعية.  أن جعيط ينطلق من موقف إسلامي، لكنه يسعى إلى فهم التاريخ بعيدًا عن المقدسات التي قد تحجب الرؤية العلمية . كما يرى البعض أن جعيط نجح في تحويل التاريخ إلى مادة فكرية جذابة، بعيدًا عن السرد الإخباري التقليدي .

خاتمة

تُعد فكرة التاريخ عند هشام جعيط نموذجًا فريدًا للتعامل مع الظواهر الإسلامية، حيث يجمع بين التحليل التاريخي النقدي والفهم الأنثروبولوجي للسياقات الاجتماعية. من خلال دراسته للمدينة العربية الإسلامية وتاريخية الدعوة المحمدية، يقدم جعيط رؤية شاملة ترى التاريخ الإسلامي كعملية ديناميكية تجمع بين الدين والسياسة والثقافة. منهجه النقدي، رغم الجدل الذي أثاره، يمثل إسهامًا مهمًا في إعادة قراءة التاريخ الإسلامي بعيون عصرية، بعيدًا عن التقديس أو التشكيك غير المبرر. في النهاية، تظل أعمال جعيط مرجعًا أساسيًا لفهم التاريخ الإسلامي، سواء في سياق نشأة المدن أو تطور الدعوة المحمدية، مما يجعله أحد رواد الفكر التاريخي العربي المعاصر.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.......................

المصادر والمراجع:

جعيط، هشام. (1986). الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية. بيروت: دار الطليعة.

جعيط، هشام. (2007). في السيرة النبوية: تاريخية الدعوة المحمدية في مكة. بيروت: دار الطليعة.

جعيط، هشام. (2004). تأسيس الغرب الإسلامي. بيروت: دار الطليعة.

جعيط، هشام. (2014). في السيرة النبوية: مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام. بيروت: دار الطليعة.

 

تُعدّ مسألة كيفية تعامل الدول مع الأقليات العرقية والشعوب الأصلية قضيةً بالغة الأهمية والحساسية في جميع أنحاء العالم. وكثيراً ما يُقال إننا نعيش في عصر "سياسات الهوية" أو "سياسات الاعتراف"، حيث من المرجح أن تطالب الأقليات بأشكال من الاعتراف الرسمي والتسهيلات، مثل الحقوق اللغوية، والاستقلال الثقافي أو الديني، والحكم الذاتي الإقليمي، أو زيادة التمثيل السياسي. ومع ذلك، فإن طبيعة مطالب الأقليات هذه وردود فعل الدول عليها تختلف اختلافاً كبيراً من منطقة إلى أخرى. كيف يتم فهم هذه القضايا ومناقشتها في العالم العربي؟ ما هي المفاهيم التي يستخدمها الناس لوصف قضايا التنوع العرقي؟، وما هي النماذج أو السوابق التاريخية التي يستشهدون بها كأمثلة على النجاح أو الفشل؟ ما هي الآمال أو المخاوف التي تُحرك استجابتهم لمطالب الأقليات؟ ما المعايير التي يستخدمونها للتمييز بين التسهيلات العادلة وغير العادلة، أو المطالبات التقدمية والرجعية، أو الأقليات المستحقة وغير المستحقة؟

بما أن الغالبية العظمى من سكان الدول الاثنتين والعشرين الأعضاء في جامعة الدول العربية هم من الناطقين بالعربية والمسلمون السنة، فمن الشائع في الأدبيات اعتبار "الأقليات" في العالم العربي أولئك الذين يختلفون عن تلك الأغلبية الديموغرافية في أحد أو كليهما. بناءً على هذا المنطق، يمكن تقديم التصنيف الثلاثي التالي للأقليات:

أولاً: عرب غير مسلمين: جماعات دينية عربية عرقياً/لغوياً وليست مسلمة سنية، بما في ذلك العديد من الطوائف المسيحية العربية - الروم الأرثوذكس، والروم الكاثوليك، والأقباط، والموارنة، واللاتين، والبروتستانت - بالإضافة إلى طوائف إسلامية مختلفة، ولا سيما الشيعة، والعلويين، والدروز، والإسماعيليين.

ثانياً: مسلمون غير عرب: جماعات عرقية/قومية مسلمة سنية وليست عربية، مثل الأكراد، والأمازيغ/البربر، والتركمان، والشركس.

ثالثاً: جماعات ليست عربية ولا مسلمة: اليهود، والأرمن، والآشوريون، وقبائل جنوب السودان.

وغني عن القول، إن مثل هذه التصنيفات يجب النظر إليها بحذر. فهي ليست تخطيطية فحسب، بل قد تُجسّد أيضاً، متجاهلةً كيف تغيرت هذه الهويات وحدودها بمرور الوقت.

وعلاوة على ذلك، فهي لا تخبرنا شيئاً عن أهمية أو بروز هذه التمييزات في حياة الناس أو في سياسات المجتمع. إن تعريف أعضاء أي من هذه المجموعات لأنفسهم والتعبئة السياسية كـ"أقلية" هو أمرٌ يجب تفسيره، لا اعتباره أمراً مسلماً به.

في عالمنا اليوم، وفي كل منطقة من مناطق العالم، تتسم المناقشات حول قضايا الأقليات العرقية ببعدين محلي وعالمي، وتستند إلى الخطابات العالمية واللهجات المحلية. من ناحية، هناك خطاب عالمي للتعددية الثقافية، تدعمه منظمات دولية مختلفة مثل الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، والذي صيغ في الإعلانات الدولية الحديثة بشأن حقوق الأقليات والسكان الأصليين.

هذا الخطاب، الذي تشكل بقوة من خلال التجارب الغربية الليبرالية الديمقراطية للتعددية الثقافية، يُؤطر حقوق الأقليات كامتداد طبيعي ومناسب لمبادئ حقوق الإنسان القائمة، وبالتالي فهي مبدأ عالمي. يعكس هذا تحولاً كبيراً في هذه المنظمات الدولية، التي غالباً ما دعمت بقوة في العقود السابقة نماذج الاستيعاب لبناء الأمة. بينما تُصرّ المنظمات الدولية على احترام سيادة الدول القائمة وسلامتها الإقليمية، وبينما لا تزال أصداء نهج الاستيعاب السابق قائمة، يُنظر الآن إلى احترام حقوق الأقليات على أنه أحد متطلبات الدولة اللائقة والحديثة.

وتُطبّق هذه التوقعات المعيارية بشكل متزايد على الدول العربية. في الواقع، جادل بعض المعلقين بأنه "بالنسبة لكل دولة في الشرق الأوسط، أصبح احترام حقوق الأقليات - إلى جانب حقوق المرأة - مقياسًا لنجاح انتقالها إلى الديمقراطية".

من ناحية أخرى، لكل منطقة من مناطق العالم تقاليدها الخاصة في التعايش العرقي والديني، وغالبًا ما تكون لها مفرداتها ومفاهيمها المميزة التي قد تختلف عن النهج الغربي أو الدولي. لا تزال التقاليد تُشكل بقوة توقعات الناس حول ما يُشكل أشكالاً مشروعة ومناسبة للعلاقات بين الدولة والأقليات. في العالم العربي، يشمل ذلك الأفكار الإسلامية المتعلقة بأهل الذمة، والنماذج العثمانية المتعلقة بنظام المِلّة، وتجارب مثل التاريخ الطويل والمؤلم للتدخل الغربي في قضايا الأقليات والتلاعب بها، والذي يعود تاريخه إلى اتفاقيات الاستسلام بين القوى الغربية والإمبراطورية العثمانية، بالإضافة إلى ذكريات التعاون والصراع العرقي خلال نضالات التحرير الوطني.

لذا، فإن السؤال المحوري هو كيف يفهم المواطنون العلاقة بين الخطابين العالمي والمحلي حول التنوع العرقي؟

 لا ينبغي لنا أن نفترض تلقائياً أنهما متناقضان أو غير متوافقين. تجدر الإشارة، على سبيل المثال، إلى أن الدول العربية صوّتت بالإجماع في الأمم المتحدة على كل من إعلان حقوق الأقليات لعام 1992 وإعلان حقوق السكان الأصليين لعام 2007، بالإضافة إلى إعلان اليونسكو لعام 2001 بشأن التنوع الثقافي. ومع ذلك، يبقى صحيحاً أن اللجوء إلى الخطاب العالمي الجديد لحقوق الأقليات أمرٌ حساس سياسياً. تشير الأبحاث من مناطق أخرى إلى أن نشطاء الأقليات غالباً ما يلجؤون إلى الخطاب العالمي كوسيلة لإضفاء الشرعية على مطالبهم، لكنهم يسعون أيضاً إلى إثبات توافق هذه المطالبات مع الخطابات المحلية القائمة، بينما قد تُصر جهات فاعلة أخرى على أن الخطابين متعارضان جذرياً، أو أن الخطاب العالمي قد فقد مصداقيته بسبب أصوله الأوروبية المركزية أو الاستعمارية. هذه الديناميكيات معروفة جيداً بالفعل في المجال الأوسع لحقوق الإنسان بشكل عام، وشاهد على النقاشات الحيوية حول العلاقة بين الإسلام والمعايير الدولية لحقوق الإنسان.

فيما يتعلق بالشعوب الأصلية. أصبح الالتزام بحقوق الشعوب الأصلية عنصراً راسخاً في مفهوم الديمقراطية في المنطقة، ليس فقط بين النخب المُدربة في الغرب، بل في المجتمع المدني بشكل عام. وينعكس هذا في الصعود الملحوظ لما يُطلق عليه "الدستورية متعددة الثقافات" في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية. رافق التحول من الديكتاتوريات العسكرية إلى الديمقراطية اعتراف دستوري بالوضع القانوني المتميز للجماعات الأصلية، بما في ذلك حقوق الحكم الذاتي، والمطالبات بالأراضي، والاعتراف بالقانون العرفي في العديد من البلدان.

ويجادل آخرون بأنهم يسجنون الناس في نصوص ثقافية، ويهددون حريتهم الفردية. وللتأهل لحقوق التعددية الثقافية الجديدة، يُتوقع من أفراد المجتمعات الأصلية أن "يتصرفوا كالهنود" - أي أن يتبعوا ممارسات ثقافية "أصيلة" - وهو توقع يعزز نفوذ القادة المحافظين أو الأبويين داخل المجتمع، الذين يؤكدون على سلطة تحديد ما هو "أصيل". ولقد أُثيرت مخاوف مماثلة بشأن مخاطر تبني التعددية الثقافية في العالم العربي.

هل يُمكننا تخيّل قصة مماثلة في العالم العربي؟ هل للمعايير الدولية صدى محلي، وإذا كان الأمر كذلك، فهل يُمكنها أن تدعم تحسيناً فعالاً ومستداماً في وضع الأقليات؟ هل يمكن لسياسات الأقليات أن تكون بمثابة وسيلة لسياسات تحويلية أعم، تدعم ثقافة أوسع للديمقراطية وحقوق الإنسان، وتتحدى النزعات السياسية القديمة الاستبدادية أو الزبائنية أو الأبوية؟

من السابق لأوانه إصدار أحكام قاطعة، ففي جميع أنحاء العالم العربي، لا تزال الأقليات "مواطنين مميزين" يُنظر إلى تعبئتهم السياسية بعدم ثقة إذا ليس قمعاً صريحاً. في الواقع، لا تزال قضية الأقليات إشكالية قائمة، وموضوعٌ مُحَرَّمٌ في العديد من البلدان.

ومنذ ذلك الحين، غاب العالم العربي فعلياً عن شبكات السياسات العالمية المعنية بحقوق الأقليات والسكان الأصليين. إن شبكة الروابط الكثيفة في سياق أمريكا اللاتينية ـ على سبيل المثال ـ والتي تربط نضالات الأقليات المحلية بالمنظمات غير الحكومية الدولية والمنظمات الحكومية الدولية، غائبة في معظم أنحاء العالم العربي. ونتيجة لذلك، غابت الأصوات العربية إلى حد كبير عن النقاش الدولي.

هذا نمط شائع في مجال حقوق الإنسان الدولية: فالإعلانات العالمية في الأمم المتحدة تتبعها إعلانات وخطط استراتيجية في الدول الأخرى، موجهة أساساً إلى الأقليات في شبه القارة الهندية.  أو بتعبير أدق، نظرًا لغياب أصوات الأقليات من داخل الدول العربية، غالبًا ما تُرك الأمر لجماعات المنفى/الشتات للتحدث نيابةً عنها في المحافل الدولية. وكانت الجماعات القبطية في الولايات المتحدة، أو الجماعات الأمازيغية في فرنسا، الأكثر تعبيراً على الصعيد الدولي، وعلى المستوى الإقليمي.

 ومع ذلك، لم تحاول جامعة الدول العربية، ولا منظمة المؤتمر الإسلامي وضع تفسيرات أو خطط عمل خاصة بحقوق الأقليات إقليمياً. هذا لا ينفي وجود مجموعة من التسويات الخاصة بالأقليات في مختلف الدول العربية - فكر في الأشكال التاريخية لتقاسم السلطة في لبنان، على سبيل المثال، أو التحركات الأخيرة لتوفير مساحة ثقافية أكبر للغة والثقافة الأمازيغية في المغرب. ومع ذلك، نادراً ما كان لهذه التسويات، إن وجدت، الآثار التحويلية والديمقراطية التي يطمح إليها دعاة حقوق الأقليات. بل على العكس، يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها في جوهرها رشاوى تقدمها الأنظمة الاستبدادية لنخب الأقليات، بشرط ألا تتحدى الهياكل الاستبدادية وغير الديمقراطية الأساسية للدولة. ولا يُنظر إليها على أنها بوادر أو أدوات لإصلاحات ديمقراطية وحقوقية أوسع، بل كجزء من بنية الحكم الاستبدادي. وحتى عندما صاغت نخب الأقليات مطالبها في البداية بعبارات أكثر تحولية، فقد نجحت الدول العربية في فصل استيعاب الأقليات عن التغيير الاجتماعي الأوسع. ونتيجة لذلك، لم يجعل حتى الإصلاحيون الديمقراطيون في العالم العربي حقوق الأقليات أولوية.

ما الذي يفسر هذا التشكك في سياسات الأقليات الجديدة ومقاومتها؟ من الواضح أن هناك العديد من العوامل المؤثرة. لكن يمكننا تحديد ثلاثة عوامل مشتركة على الأقل.

(1) إرث نظام المِلِّي. (2) إرث الحكم الاستعماري. (3) ضرورات بناء الدولة بعد الاستعمار.

أولاً: إرث المِلّة

 يُفسَّر أيُّ نقاشٍ حول الأقليات في العالم العربي فوراً في ضوء التاريخ الطويل للسياسة العثمانية تجاه الأقليات، والمعروفة بنظام المِلّة. في الواقع، جادل العديد من المُعلّقين بأنّ مصطلح "الأقلية" في العالم العربي هو ببساطة البديل العلماني الحديث لمصطلح "المِلّة"، وبالتالي تُفترَض حقوق الأقليات بأنها مطالبات "مِلّة جديدة". لذا، لفهم مقاومة حقوق الأقليات، علينا أن نفهم الآراء المُتناقضة بشأن نظام المِلّة.

حكمت الإمبراطورية العثمانية العالم العربي لمدة خمسمئة عام، وحافظت القوى الاستعمارية الأوروبية التي حلت محل العثمانيين في نهاية الحرب العالمية الأولى على الإطار الأساسي للسياسة العثمانية. وفي ظل نظام الملل، أقرت الإمبراطورية العثمانية بأن "أهل الكتاب" التوحيديين الآخرين - وخاصة المسيحيين واليهود - لهم الحق ليس فقط في التسامح، بل أيضاً في درجة من الحكم الذاتي والاستقلال الداخلي. وقد خدم نظام الملل هذا عدداً من الأغراض العملية للعثمانيين، ولكنه كان يُنظر إليه أيضاً على أنه مطلب من متطلبات الإسلام، حيث إن القرآن الكريم يفرض على الحكام المسلمين حماية هذه الأقليات الدينية طالما أنها تقبل بالحكم الإسلامي. تُعدّ الملل العثمانية، بهذا المعنى، تفسيراً لمبدأ "أهل الذمة" القرآني، أو الأقليات الدينية المحمية.

وعند مقارنتها بالحروب الدينية بين الأشقاء التي اجتاحت أوروبا طوال معظم هذا التاريخ الممتد لخمسمائة عام، يُنظر إلى نظام الملل العثماني على نطاق واسع، وبحق، على أنه مثالٌ رائع على التسامح الديني والتعايش. وقد جادل بعض المعلقين بأن هذا التقليد يُوفر أساساً راسخاً وواضحاً للأفكار المعاصرة حول حقوق الأقليات والسكان الأصليين.

ومع ذلك، يرى آخرون أن إرث الملل ليس مورداً بنّاءً يُبنى عليه، بل وصمة عار تُثقل كاهل مطالب الأقليات. ورغم أن الملل كانت مُثيرة للإعجاب كمخطط تاريخي للتسامح، إلا أنها اتسمت أيضاً بعدد من السمات المُقلقة. إن نظام الملل - وفكرته القرآنية الأساسية عن أهل الذمة - يرتكز على افتراض أن الدولة ملك حصري للمسلمين، الذين يقدمون بعد ذلك الحماية والتسامح للمجموعات التابعة والخاضعة. نتيجةً لذلك، يُنظر إلى وضع الذمّي على أنه وضع من الدرجة الثانية - ما يُطلق عليه النقاد "الذمّية" - بناءً على "رابطة الخضوع"، والتي تنعكس على سبيل المثال في القيود المفروضة على حجم الكنائس، وفي القواعد غير المتكافئة بشأن التحول (يمكن للمسلمين التبشير بين المسيحيين، ولكن ليس العكس؛ فالمسلمون الذين يتحولون إلى المسيحية يفقدون ممتلكاتهم).

وعلاوة على ذلك، يُشير هذا إلى أن هذه الأقليات ليست جزءًا من المجتمع الأوسع الذي تحكم الدولة باسمه: فالدولة ملك للمسلمين، والأقليات مُستبعدة من بعض المناصب العليا فيها.

وهكذا يُقال إن نظام الملل يعزل الأقليات. وأخيراً، يُجادل النقاد بأن الملل تُحافظ على سياسات غير ليبرالية وغير ديمقراطية. يمنح نظام الملل السلطة للنخب الأبوية داخل الأقليات، والتي بدورها تُساعد في دعم حكام غير ديمقراطيين في الدولة. وبالتالي، تُمثل الملل شكلاً من أشكال السياسة الزبائنية.

بقدر ما تُفسَّر مطالب الأقليات على أنها مطالب بالحفاظ على نظامٍ شبيهٍ بنظام الملة أو إعادة تأسيسه، يُنظر إليها على نطاقٍ واسع في العالم العربي على أنها تتعارض مع المفاهيم الحديثة للمواطنة المتساوية، والوحدة الوطنية، والمساءلة الديمقراطية. تجدر الإشارة إلى أن سمات نظام الملة هذه لا تُمثّل بأي حالٍ من الأحوال استلزاماً لمفهوم "الأقلية" كما يُستخدم في النقاش الدولي الأوسع. بل على العكس، تُؤكّد كلٌّ من الأمم المتحدة والهيئات الإقليمية، مثل مجلس أوروبا، على وجوب اعتبار الأقليات مواطنين كاملي الحقوق في الدولة، وأن حقوق الأقليات مُصمَّمةٌ لتسهيل مساهمتهم في المجتمع، وأن حقوق الأقليات نفسها يجب أن تمتثل للمبادئ الأساسية للمساواة بين الجنسين، والمساءلة الديمقراطية، والحرية الشخصية. لا تشترك المعايير الدولية المعاصرة لحقوق الأقليات والسكان الأصليين، إن وُجدت، مع الأفكار التاريخية عن أهل الذمة. ومع ذلك، فإن هذا الارتباط قويٌّ للغاية في العديد من الدول العربية، لدرجة أن الأقليات نفسها تقاوم اللجوء إلى المعايير الدولية لحقوق الأقليات، خوفًا من أن يُسلّمها ذلك إلى أهل الذمة.

على سبيل المثال، عندما اقترح مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية الذي يترأسه سعد الدين إبراهيم، الباحث والأكاديمي المصري الذي يحمل الجنسية الأميركية، عقد مؤتمره عام 1994 في القاهرة حول آثار إعلان الأمم المتحدة لحقوق الأقليات في العالم العربي، اتهمه بعض المثقفين الأقباط البارزين بتخفيض مكانة الأقباط من "مواطنة كاملة" إلى "أقليات معزولة". فعندما حارب الأقباط مع المسلمين ضد المستعمرين البريطانيين في مصر، كانوا يقاتلون من أجل مستقبل يكونون فيه مواطنين كاملي الحقوق، ويُنظر إلى تسمية "الأقلية" على أنها تعيدهم إلى هامش الحياة السياسية كمواطنين. تم الهجوم على هذا المؤتمر والجهة الداعية إلى أن قرر سعد أن ينفي المؤتمر إلى قبرص حيث عقد هناك. فقد اتهم سعد بتنفيذ مخطط أمريكي لإثارة الفتن الطائفية وإثارة النزعات العرقية الانفصالية وتقسيم المنطقة إلى دويلات.

إن الأمر القرآني بوجوب محاربة الأقليات حتى "تُذل" (سورة التوبة: 29) "يمثل بداية فكرة أن غير المسلمين - حتى لو استُبعدوا من المجتمع الإسلامي ونظموا في مجموعات منفصلة - يمكن ربطهم بالأمة برباط الخضوع".

ذمّي محمي، ولكنه خاضع ومعزول. كما حاول مركز ابن خلدون كما هو واضح، فإن المفهوم الحديث للأمم المتحدة للأقلية لا ينطوي على أي معنى للعزلة أو الخضوع، ومن الواضح أن عشرات الأقليات والشعوب الأصلية حول العالم التي تلجأ إلى هذه المعايير الدولية لا تعتبر نفسها متنازلة عن الجنسية لصالح أهل الذمة. ومع ذلك، تظل الملل الصورة الأبرز للوضع السياسي للأقليات في المنطقة. ونتيجة لذلك، لا ترتبط سياسات الأقليات بالتمكين والمشاركة والمساهمة، بل بالضعف القانوني والتهميش السياسي والدونية الاجتماعية.

الإرث الاستعماري

تُثقل سياسات الأقليات بإرث ليس فقط من إرث الذمية، بل أيضاً من إرث التلاعب الاستعماري واستراتيجيات فرق تسد. في الواقع، كانت "حماية الأقليات" أحد المبررات الرئيسية التي قُدِّمت للحكم الاستعماري، على افتراض أنه لا يمكن الوثوق بالأغلبية المحلية في الحكم العادل. كان هذا هو المبرر المزعوم للقوى الأوروبية للمطالبة بسلطة قضائية خارج حدودها على الأقليات المسيحية في الإمبراطورية العثمانية، ثم للحكم الاستعماري الشامل مع تراجع الحكم العثماني. وبالاعتماد على هذا المبرر، كان لدى الحكام الاستعماريين بطبيعة الحال حافز ليس فقط لتحديد الأقليات التي تحتاج إلى الحماية، ولكن أيضاً للمبالغة في حاجتهم إلى تلك الحماية، جزئياً من خلال تضخيم الاختلافات الثقافية المزعومة ومستويات انعدام الثقة أو العداء بين الجماعات. لا داعي للمضي قدماً القول بأن القوى الاستعمارية "اخترعت" الأقليات، لكنها بالتأكيد عملت بجد لترسيخ الحدود بين الجماعات العرقية والدينية، وتثبيط تشكيل أي حركة تحرر وطني موحدة ضد الحكم الاستعماري.

لم يكتفِ الحكام الاستعماريون بـ"حماية" بعض الأقليات، بل منحوا أيضاً بعضاً منها امتيازات، سواءً مادياً (مثلًا بتسهيل حصولهم على التعليم، وبالتالي زيادة فرص حصولهم على وظائف الخدمة المدنية)، أو رمزياً (مثلًا بوصف الأقليات بأنها أكثر تحضراً أو أكثر حباً للحرية)، مع تشويه سمعة الأغلبية.

باختصار، تُعد الأدبيات حول التلاعب الاستعماري بقضايا الأقليات هائلة.  لقد شكّلت شخصية "الأقلية" في تاريخ الشرق الأوسط مسرحاً لتعبير وممارسة القوة الأوروبية. وليس هذا مجرد تاريخ قديم. فالقوى الأجنبية لا تزال تستغل قضية الأقليات في الدول العربية، ويُنظر إلى الأقليات على نطاق واسع على أنها تتعاون مع القوى الأجنبية لإضعاف حكم الدولة.

في الماضي، كان المسيحيون هم في المقام الأول الذين يُشتبه باستمرار بولائهم الشديد للغرباء وافتقارهم إلى الوطنية، ولكن منذ الثورة الإيرانية، يُنظر إلى الشيعة أيضاً على أنهم طابور خامس لإيران.

تكثر الشائعات حول دعم وكالة المخابرات المركزية الأمريكية للأقباط، أو حول دعم إسرائيل للأكراد وللدروز، وكلها تهدف إلى إبقاء الدول العربية ضعيفة ومنقسمة. كانت الجماعات الطائفية المعارضة للحكومة تُشتبه بتواطؤها مع القوى الأوروبية في الماضي؛ أما الآن، فتُتهم بأنها "عملاء" لإسرائيل والولايات المتحدة.

بدلاً من أن تكون جزءًا من اللعبة السياسية المشروعة، أصبحت احتجاجات الأقليات تُوصم بالتلاعب من قِبل الغرب وإسرائيل، وتُقمع من خلال مصادرة الأراضي، وتقييد التعبير العام، وفرض قواعد أمنية مشددة.

ونتيجةً لذلك، فإن فكرة "حماية الأقليات"، لا سيما عندما تنطوي على إمكانية جذب الجهات الفاعلة الدولية، لا تُعتبر شكلاً مشروعاً وطبيعياً للتنافس السياسي المحلي، بل تهديداً جيوسياسياً لأمن الدولة. وبهذا المعنى، لا تزال سياسات الأقليات في العالم العربي "مُؤمَّنة" إلى حد كبير، وبالتالي، تخضع لأشكال قاسية من الرقابة.

تُعتبر العلاقات بين الدول والأقليات، ليس مسألة سياسات ديمقراطية عادية تُناقش، بل مسألة أمن دولة، حيث يجب الحد من النقاش والتعبئة السياسية لحماية الدولة. في ظل هذه الظروف، تتلاشى آفاق المواطنة متعددة الثقافات.

لتجنّب اتهامات الخيانة والتواطؤ، لا يتعيّن على الأقليات إعلان ولائها علناً فحسب، بل قد يتعيّن عليها أيضاً التخلي عن فكرة حقوق الأقليات ذاتها. بما أن مبدأ حقوق الأقليات كان وسيلةً لإخضاع السيادة الوطنية للحكم الأجنبي، فإنه لا يمكن أن يكون الآن أداةً لخلاصهم.

بناء الأمة في مرحلة ما بعد الاستعمار

بالنظر إلى إرث الملل العثمانية وسياسة فرّق تسُد الاستعمارية، واجهت الدول العربية في مرحلة ما بعد الاستعمار مهمةً دقيقةً وصعبةً في بناء شعورٍ بالوحدة الوطنية مع إدارة التنوع العرقي والديني. من المهم أن نتذكر أن حدود الدول العربية لم تُرسم لتسهيل تقرير المصير لشعوب المنطقة، بل كانت في كثير من الأحيان نتيجةً عشوائيةً للحكم الاستعماري، حيث جمعت مجموعاتٍ متباينة في كيانٍ سياسي جديد، وفي الوقت نفسه فرّقت المجتمعات التاريخية عبر الحدود. لذلك، في معظم الحالات، لم يكن هناك سوى القليل من شعور قائم بالانتماء الوطني يمكن الاستناد إليه. غالباً ما كان لدى مواطني هذه الدول العربية الجديدة شعور بالولاء القومي العربي أو الإسلامي، بالإضافة إلى هويات عرقية أو طائفية أو إقليمية محلية (بعضها يتجاوز حدود الدولة)، ولكن ربما لم يكن لديهم شعور يُذكر بأنهم "تونسيون" أو "عراقيون"، على سبيل المثال. كما لم تكن هناك تقاليد عملية للسيادة السياسية أو المواطنة الوطنية شاملة عرقياً ودينياً.

في ظل هذه الظروف، قد يتساءل المرء عما إذا كانت فكرة "الدولة القومية" بحد ذاتها - التي تم تصديرها في النهاية إلى المنطقة في ظل الإمبريالية الغربية - مناسبة حقاً للعالم العربي. ومع ذلك، فقد حظي المثل القومي "أمة واحدة، دولة واحدة" بتبني واسع النطاق في العالم العربي، كما هو الحال في أماكن أخرى، وكان من المتوقع أن ينخرط قادة دول ما بعد الاستعمار في "بناء الأمة"، بل وشُجِّعوا، سواء من قِبَل مواطنيهم أو من قِبَل المجتمع الدولي، في هذا "البناء".

كان من الممكن أن يتطلب الأمر قيادةً مُلهمةً بشكلٍ خاص لمواجهة تحدي بناء شعورٍ شاملٍ وتضامنيٍّ بالوطنية في ظل هذه الظروف.

إذا كان تقدم التعددية الثقافية قد جعل الأيديولوجية القومية الإقصائية أقل شرعية إلى حد ما، وخاصة في الغرب، فإن شعار "أمة واحدة، دولة واحدة" لا يزال مؤثراً للغاية في كل مكان، بما في ذلك في الشرق الأوسط.

في ظل هذه الظروف، نادراً ما حظيت الدول العربية في فترة ما بعد الاستعمار بمثل هذه القيادة. بل على العكس، اتجهت الدول العربية في فترة ما بعد الاستعمار، عموماً، نحو أشكال مُفرطة في بناء الأمة، مما أدى مع مرور الوقت إلى تفاقم مشاعر التهميش والإقصاء.

كُتب الكثير عن تطور القوميات العربية، وكيف تلاعب القادة الاستبداديون في الدول العربية بأيديولوجيات القومية العربية لإضفاء الشرعية على حكمهم. وفقاً لإحدى الروايات المألوفة، تبنت الدول العربية في مرحلة ما بعد الاستعمار في البداية مفهوماً علمانياً للأمة يُعلي من شأن اللغة والثقافة العربيتين والروابط القومية العربية. كان لهذا المفهوم العلماني فضل شمول المسيحيين الناطقين بالعربية كأعضاء كاملي العضوية في الأمة العربية، وإن كان ذلك على حساب استبعاد الأقليات العرقية واللغوية مثل الأكراد أو الأمازيغ. منذ حرب عام 1967، واجه هذا المفهوم العلماني للقومية العربية تحدياً من خلال تعريف إسلامي (سني) للأمة، يُعلي من شأن الروابط القومية الإسلامية، والذي يتميز بشمول الأكراد والأمازيغ كمسلمين، وإن كان ذلك على حساب استبعاد المسيحيين والمسلمين غير التقليديين مثل الشيعة.

هناك بعض الحقيقة في هذه الرواية المألوفة عن القوميات العربية. تبنت جميع الدول العربية في البداية سياسات تعريب فضّلت اللغة العربية والروابط القومية العربية على حساب مكونات أخرى من المجتمع المحلي، ووصم اللهجات واللغات والثقافات المحلية الأخرى بأنها متخلفة ومُفرّقة.

وقد أفسح هذا التركيز العلماني على التعريب المجال جزئياً للتركيز على الإسلام كمصدر للوحدة السياسية والهوية. فبينما ابتعدت الأنظمة القانونية في معظم الدول العربية بعد الاستقلال عن الشريعة الإسلامية، أو قصرت اختصاصها على شؤون الأسرة أو الشؤون الدينية، أدخلت عدة ولايات في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي تعديلات دستورية تشترط توافق قانون الدولة مع المعايير الإسلامية.

وقد اعتبرت الأقليات الدينية هذا الابتعاد عن السياسة العلمانية، إلى جانب أوجه عدم المساواة المفروضة قانوناً والمطالبات الرسمية بالعالمية الثيوقراطية، أمراً ضاراً. لذا، فقد تغير مصدر الهوية الوطنية في العالم العربي، وما ينطوي عليه من أشكال الإدماج والإقصاء، بمرور الوقت.

يمكننا تتبع هذه الأشكال من الإدماج والإقصاء في سياسات المواطنة. إن المواطنة في كل دولة عربية تجمع، بدرجات متفاوتة، عناصر من هياكل القرابة ما قبل الإسلام، ومفهوم الأمة كجماعة دينية، وفكرة القومية العربية كجماعة وطنية، وفكرة السيادة الشعبية ذات الحدود الإقليمية. نتيجةً لذلك، قد يتمتع المسلمون أو العرب الذين يعيشون خارج الدولة بامتياز الحصول على الجنسية، بينما قد يتمتع غير المسلمين أو غير العرب بأقل من ذلك.

لكن بعض الخبراء يجادلون بأن التباين بين المفاهيم العلمانية والإسلامية للأمة مبالغ فيه. على الرغم من كونها علمانية ظاهرياً، إلا أن القومية العربية كانت دائماً مرتبطة بالإسلام، إذ كان يُنظر إلى الإسلام على نطاق واسع على أنه "تاج" تاريخ العرب، وكانت اللغة العربية ثمينة لأنها لغة القرآن. وبشكل أعم، "قلّة من الإسلاميين اتبعوا منطق الجماعة الإسلامية في مقابل الأمة، وقلّة من القوميين لم يمنحوا الدين مكانة مرموقة في سمات الأمة".

ونتيجة لذلك، لطالما حظيت الأقليات غير العربية وغير المسلمة، في أحسن الأحوال، بإدماج هش ومشروط في الأمة، قبل عام 1967 أو بعده. ربما يكون التباين الأكثر صلة هو تمييز خضر بين "القومية المناهضة للاستعمار" و"قومية الدولة". اتسمت القومية المناهضة للاستعمار في العالم العربي "بالتنوع والشمول في حركات مقاومة القمع الاستعماري"، بينما اتسمت القومية الدُولية (سواءً بنسختها العلمانية أو الإسلامية) بالاستبداد والتجانس، حيث تعاملت مع جميع أشكال المعارضة على أنها معادية للوطن وتهديد أمني.

أما أشكال المواطنة متعددة الثقافات التي كانت مُتصورة في زمن القومية المناهضة للاستعمار، فقد أُخمدت بفعل ضرورات القومية الدُولية. وادّعت الدول العربية الدُولية، مثل الدول الشيوعية، "الإجماع الوطني"، وهي ادّعاءات لا يُمكن استدامتها إلا بقمع التنوع والاختلاف، ما انطوى بالتالي على "إجماع قسري".

أصبحت هذه المفاهيم "الإجماعية" للأمة الآن مُفقودة على نطاق واسع، لكنها خلّفت إرثًا يُنظر فيه إلى التعبئة السياسية للجماعات الطائفية على أنها تهديد ومشكلة. على أي حال، لا تزال المشكلة الأصلية قائمة. لا تزال الدول العربية في فترة ما بعد الاستعمار تواجه مهمة بناء الأمة، بعد سبعين عاماً أو أكثر من استقلالها. ولا يزال العديد من الدول العربية منشقين عن التقاليد، وقد يُحرمون من الجنسية أو يواجهون فقدانها. وهذا يشير إلى "مشكلة" سياسية واجتماعية، وما إذا كان المصطلح يفرض مفاهيم وانشغالات غربية بشكل غير مناسب على المجتمعات العربية.

بالنظر إلى هذه العوامل، قد يبدو أن مقاومة حقوق الأقليات في العالم العربي مُفرطة في التحديد، وأن هذا يُفسر "الاستثناء العربي" الواضح للاتجاهات العالمية العامة نحو التعددية الثقافية.

لكن هذا مُبسط وسريع للغاية. العديد من العوامل التي ناقشناها موجودة بنفس القدر خارج العالم العربي. إرث "فرّق تسد" الاستعماري، على سبيل المثال، بالإضافة إلى ضرورات بناء الأمة في مرحلة ما بعد الاستعمار، حاضرة في كل مكان. في آسيا وأفريقيا، وليس في الشرق الأوسط فحسب. وللعديد من المناطق نسخها التاريخية الخاصة من "الذمية" ما قبل الاستعمار، والتي تُثقل كاهل سياسات الأقليات المعاصرة.

وهكذا، وكما هو متوقع، تنتشر مقاومة حقوق الأقليات والسكان الأصليين على نطاق واسع. وإذا بدت المقاومة العربية لسياسات الأقليات المعاصرة في تناقض صارخ مع تبني السياسات العرقية في دمقرطة أمريكا اللاتينية، فإن التناقض أقل بكثير مع أجزاء أخرى من عالم ما بعد الاستعمار، مثل جنوب شرق آسيا أو أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وهنا، كما في أي مكان آخر، يجب أن نكون حذرين من ادعاءات "الاستثنائية"، لا سيما بسبب الطريقة التي تؤثر بها هذه الادعاءات على تصورات المستشرقين للعالم العربي أو الإسلامي.

***

الدكتور حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

قراءة في مباديء منهجية للتعددية

في المجتمعات المتخلفة معرفيا يتحول الخلاف في الراي الى عداء وخصومة واسقاط للاخر وسحب الثقة منه تجد صعوبات بالغة في تطور الفرد والمجتمع وتجده عاملا من عوامل عدم التكامل المعرفي الى جانب الضرر الاجتماعي البالغ الذي يصيب القدرة على الإفادة من العلم ولكننا لم نتلقى درسا من التاريخ المشرق في تراثنا

وكان علينا ان نتدبر في قصة ذلك السؤال الموجه للامام الحسن العسكري ع عن مرويات بني فَضّال في القرن الثّالث الذي وضع في جوابه احد المباديء الكبرى في التعامل مع المختلف فاستمر العمل فيه حتّى نهاية القرن الخامس

لقد ضمّت الكوفة أسرة علميّة تسمى ال فضال وهي اسرة شيعيّة كبيرة، تعجّ كتب حديث الإثنا عشريّة برواياتها ومصنّفاتها، و كان هناك شبه إجماع على وثاقة رجالها، بل كانت لبعضهم الزّعامة العامّة والمرجعيّة العليا للشّيعة ممثلة بالحسن بن عليّ بن فضّال المتوفّى سنة: 244هـ”، وأولاده الثّلاثة: محمّد، وأحمد، وعلي الذي كان المرجع العامّ في عصر. لكنّ المشكلة في هذه الأسرة هي فطحيّتها

والفطحيّة: فرقة آمنت بمرجعيّة أو إمامة عبد الله بن جعفر الصّادق “ع” بعد رحيل الأخيرين، الصادق وابنه ـ أعني عبد الله المعروف في الأوساط الإثني عشريّة بالأفطح ـ ثم عاد معظم معتنقيها إلى الإيمان بإمامة أخيه غير الشّقيق موسى بالكاظم “ع” وذلك لمجموعة نصوص وسياقات أكّدت تصويب موقفهم خلافا لما ظهر من انسياق مع فكرة أنّ الإمامة أو المرجعيّة الدّينيّة يمكن أن تنتقل بشكل عرضي ما بين الأخوين ولا ضرورة لحصر انتقالها بطريقة طوليّة بعد الحسن والحسين “ع” كما هو الرأي المشهور لدى المذهب الإثني عشريّ. لقد عمل الشيعة بمدونات ال فضال قرابة قرنين وفي الرّبع الأوّل من القرن الرّابع الهجري ظهرسؤال في بغداد والكوفة عن مشروعية العمل بمروياتهم فظهرت رواية تُنسب للامام العسكري “ع” أجاب فيها عن سؤال كان قد وجّه إليه يستفسر عن حكم التّعامل مع كتب آل فضّال من النّاحية الشّرعيّة؛ بوصفهم فقهاء كبار ولديهم فتاوى وكتب على الرغم من انهم كانوا يُعدّون من كبار الفطحيّة، ومع ذلك كانّ الامام العسكريّ “ع” قد أجاب عن هذا الاستفسار فاوصى بالتّفريق بين عقيدتهم وبين نقولاتهم ومرويّاتهم، وطلب من السّائلين: أن يذروا آراءهم، ويأخذوا برواياتهم. لان هناك روايات وكتب عديدة نسبت إلى بني فضال علما ان الشيخ الطوسي، والكشي والسيد ابن طاووس والنجاشي قد صرحوا بمدحهم ورفض المامقاني نسبة الكفر والانحراف اليهم قد ذكروا الحسن وأبنائه أحمد وعلي ومحمد وعدد من عائلة بني فضال ومكانتهم

لكن ابن إدريس 595 ه كان يعتبر بني فضال كافرين وملعونين" ومنحرفين ومعه من يعتقد أن بني فضال فطحيين فبينما يعتقد الاغلب ان الحسن بن علي بن فضال (ت: 224 هـ) من خواص أصحاب الإمام الرضا، كما يرى بعض العلماء المعاصرين من رجالي الشيعة كالسيد أبي القاسم الخوئي و أنه من أصحاب الإجماع بينما يرى الكشي أن الحسن بن علي بن فضال فطحي، رغم ان أحمد بن الحسن بن علي بن فضال من أصحاب الإمام الهادي والإمام العسكري . ويعد علي بن الحسن بن علي بن فضال فقيه أهل الكوفة ومن أصحاب الإمام الهادي، والإمام العسكري وقد ذكر السيد الخوئي نقلا عن الكشي أنه هاجر إلى العراق وخراسان، ولم يكن فيهما من هو أفقه وأفضل منه، وكان عنده العديد من روايات الأئمة، كما أنه كان يحفظ منها أكثر من سائر الناس. لكن السيد الخوئي لم يصرح بوثاقته

روايتهم للحديث

لقد روى بنو فضال روايات عديدة وصنفوا كتب كثيرة في مختلف الموضوعات،[١٩] وقد ورد اسم الحسن بن علي بن فضال في اسناد أكثر من مائتين وسبع وتسعين رواية،[٢٠] وذكر لأحمد بن الحسن بن علي بن فضال روايات في باب الغسل، فضيلة المسجد، والبيع، والنكاح، والخمس، وشروط لباس المصلي، والذبح، وصلاة الميت.[٢١] ونسب إلى الحسن بن علي كتاب البشارات، والرد على الغلاة والزيارات، والنوادر، والناسخ والمنسوخ،[٢٢] ومن مؤلفات علي بن الحسن كتاب الوضوء، وكتاب الصلاة، وكتاب الزكاة، وكتاب التنزيل من القرآن والتحريف، وكتاب الفرائض، وكتاب المواعظ، وكتاب التفسير، وكتاب وفاة النبي،[٢٣][ملاحظة ١]وذكر له كتاب تحت عنوان أصفياء أمير المؤمنين،وقد ادعي علاوة على وثاقتهم في أنفسهم وثاقة مشايخهم ومن يروي عنهم اكراما لهم فجاءت الرواية عن الإمام الحسن العسكري التي يرويها الشيخ الطوسي، في معرض الإجابة على تساؤل الشيعة حول بني فضال بقوله ع : اعملوا بالروايات الواردة عنهم، ولا تأخذوا بمعتقداتهم، ٢]وبناء عليه يرى بعض المحققين أن من مصاديق توثيق الروايات هو أن يرد رواة بني فضال في سندها،[٢٥] وقد اعتمد الأنصاري "رحمه الله" على هذه الرواية وحكم بصحة روايات بني فضال وقال في أول كتاب الصلاة بعد ذكره مرسلة داود بن فرقد قال ( والرواية وإن كانت مرسلة إلا أن سندها إلى الحسن بن فضال صحيح وبنو فضال ممن أمرنا بالأخذ بكتبهم ورواياتهم اعتمادا على الرواية المتقدمة[2] و ذكر الشيخ الأنصاري "رحمه الله" نظير هذا الكلام في مسألة الاحتكار من خاتمة كتاب البيع صفحة 212 وقد اشكل السيد الخوئي "رحمه الله على الانصاري لان في الرواية سندا ودلالة عدة اشكالات أما من حيث السند فمن جهتين:

ففيه أبو محمد المحمدي قال حدثني أبو الحسين بن تمام قال حدثني عبد الله الكوفي، قال حدثني عبد الله الكوفي خادم الشيخ الحسين بن روح رضي الله عنه وهو السفير الثالث للإمام المهدي قال سئل الشيخ يعني أبا القاسم رضي الله عنه ـالسفير الثالث الحسين بن روح النوبختي السمان عن كتب أبن أبي العزاقر ـابن الشلمغاني صاحب كتاب التكليف ـ بعد ما ذم وخرجت فيه اللعنة من الناحية المقدسة فقيل له فكيف نعمل بكتبه وبيوتنا منها ملاء قال أقول فيها ما قاله أبو محمد الحسن بن علي العسكري "صلوات الله عليهما" وقد سئل عن كتب بني فضال وكانت كتب ابن الشلمغاني منتشرة في زمن السفير الثالث ).[3]

وكان إشكال للسيد الخوئي في عبد الله الكوفي فإنه لم يترجم في الكتب الرجالية ولم تعلم حاله فلا يمكن الركون إلى هذا الخبر للجهالة في سنده.

الإشكال الثاني هو أبو الحسين بن تمام فإنه لم يذكر بشيء ولم يوثق، ويناقش السيد الخوئي بان النجاشي قد ذكر ان محمّد بن عليّ بن الفضل‏ بن تمام الدهقان الكوفيّ المكنّى بأبي الحسين، بـقوله: «ثقة، عيناً، صحيح الاعتقاد، جيّد التصنيف»، أمّا حال النّقيب أبي محمّد المحمّدي فهو شيخ من شيوخ الطّوسي في نقل الرّواية فقد وصفه النّجاشي بعبارة: “سيد في هذه الطائفة”، [رجال النّجاشي: ص65

وأما من ناحية الدلالة فالإمام “عليه السلام” في مقام بيان أن فساد عقيدة الراوي لا يمنع من الأخذ بروايته فالمدار على الوثاقة فما دام هو ثقة فحتى لو كان فاسقا المهم إنه ثقة لا يتعمد الكذب وإن كان مذهبه فاسدا فنحن لا نقول بحجية قول العدل الإمامي بل يكفي أن يكون ثقة لا يتعمد الكذب فالإمام “عليه السلام” في مقام بيان أن وثاقة الراوي لا يضرها فساد عقيدة الراوي لكونهم ثقات في أنفسهم وأما أنهم لا يروون إلا عن الثقات وأن كل رواياتهم صحيحة فلا دلالة للرواية عليه[4]

يقول السيد الخوئي ـ « الحديث في مقام بيان أنّ فساد العقيدة بعد الاستقامة لا يضرّ بحجيّة الرّواية المتقدّمة على الفساد، وليس في مقام بيان أنه يؤخذ بروايته حتّى فيما إذا روى عن ضعيفٍ أو مجهولٍ، فكما أنّه قبل ضلاله لم يكن يؤخذ بروايته فيما إذا روى عن ضعيف أو مجهول، كذلك لا يؤخذ بتلك الرّواية بعد ضلاله»، وعلى هذا الأساس أفاد بأنّ ما «ذكره الشّيخ الأنصاري وغيره من حجيّة كلّ رواية أيا كانت صحيحة باسناد بني فضال كلام لا أساس لهمعجم رجال الحديث: ج1، ص71، ط4

وافاد الشّبيري الزّنجاني قال أنّ العبارة ناظرة إلى عقيدة الفطحيّة، مقرّراً: أنّ المعنى المراد يحتمل فيه إمّا: إقبلوا حديثهم ودعوا عقيدتهم، أو: أنّ عقيدتهم لا تمنع من الأخذ بحديثهم.

ويذكر الشيخ الداوري احتمالا ثالثا وهو أن ابن الشلمغاني لما كتب كتاب التكليف كان صحيح العقيدة فلا يضر فساد عقيدته بعد ذلك وادعاءه السفارة من الأخذ بكتابه السابق وكذلك بنو فضال حينما كتبوا الروايات كانت عقيدتهم صحيحة ثم بعد ذلك وأصبحوا من الفطحية ولا يضر الأخذ برواياتهم أيام كتابتهم للروايات وهم على نهج الحق لكن الإنصاف هذا الاحتمال بعيد جدا لأن احمد بن الحسن بن فضال كان من الفطحية ويقال إنه في أواخر عمره عدل إلى مذهب الحق وأما أولاده احمد بن فضال وعلي بن الحسن بن فضال فهم على مسار أبيهم.

فإذا أردنا أن نحقق وندقق في عبارة خذوا ما رووا وذروا ما رأوا يمكن استظهار ثلاثة مبان:

المبنى الأول تصحيح الراوي وتوثيق كل راو رووا عنه بنو فضال وهذه الثمرة رجالية،

المبنى الثاني تصحيح الرواية فكل ما رواه بنو فضال صحيح ويعامل معاملة الصحيح حتى لو كان فيها إرسال أو كان فيها رواة ضعاف فإن جميع رواياتهم صحيحة وهذه ثمرة روائية وليست ثمرة رجالية.

المبنى الثالث بيان أن فساد عقيدة الراوي لا يضر بصحة روايته ما دام ثقة وهذا ليس فيه ثمرة رجالية أو ثمرة روائية وإنما بيان لنكتة رجالية وهي أن المدار في قبول رواية الراوي على الوثاقة وليس سلامة العقيدة.وتبنى السيد الخوئي "رحمه الله" المعنى الثالث اما الشيخ الأنصاري "رحمه الله" فتبنى المعنى الثاني .

قال الشيخ الطوسي في العدة في بحث حجية خبر الثقة (المدار كل المدار على الوثاقة ومن هنا عمل الأصحاب بروايات العامة وروايات الفطحية وروايات منحرفي العقيدة لأنهم كانوا من الثقات ويذكر أمثلة كالسكوني ويذكر أمثلة ومنهم بنو فضال وإخبار الواقفة مثل سماعة بن مهران وعلي بن أبي حمزة وعثمان بن عيسى  وبنو سماعة والطأطريون وغيرهم[5] فكلام الشيخ الطوسي مؤيد لمنهج الوثاقة لأن فساد عقيدة الراوي لا يقدح في الأخذ برواية الراوي ما دام ثقة.

و بما قرره الشيخ الطوسي في العدة من مبدأ وثاقة الراوي عملت الطائفة بإخبار الفطحية مثل عبد الله بن بكير وغيره وإنما عملت الطائفة بإخبار هؤلاء لأنهم ثقات لا أن جميع رواياتهم صحيحة والذي يمكن استظهاره من قول الإمام “عليه السلام” هو ما اشرنا إليه من قوله “عليه السلام” (خذوا ما رووا وذروا ما رأوا)

ويقال أن هذا لا ربط له باستقامة بني فضال وعدمها وإنما ورد السؤال عن الكتب بما هي كتب وليس السؤال عن الأشخاص فأجاب “عليه السلام” بأن كتبهم معتمدة وهو الصحيح ويؤيده أمران:

الأمر الأول نفس المورد والمقيس عليه وهو الشلمغاني فإن الكلام عن فساد عقيدته، سؤال عن فاسد العقيدة والأمر الثاني ما ذكره الشيخ الطوسي "رحمه الله" في العدة فالرواية ـ رواية بني فضال ـ ظاهرة في الأخير وهو أن فساد العقيدة والانحراف بعد الاستقامة لا يضر بالوثاقة.

فنستفيد أن فساد العقيدة لا يضر بالأخذ بالراوي هذا أولا ونستفيد أن كتب وروايات بني فضال صحيحة

يقول وعلى أي تقدير فلو افترضنا تمامية دلالة الرواية على المدعى فالرواية مختصة بكتب بني فضال ورواياتهم

ونستفيد مما تقدم ان الخلاف في الراي والاجتهاد المسوغ في مجال الفقه او الأصول او الاعتقاد فيما هو غير معلوم بالضرورة لا يسقط اعتبار صاحب الراي وليس لجهة أيا كانت ان تحكم عليه بالاقصاء.

***

ا. د. عبد الأمير كاظم زاهد

 

القهرية والتسلطية

(منذ بدء الحضارة البشرية كان هناك حاكم ومحكوم، ظالم ومظلوم، سارق ومسروق. وأسوأ حاكم هو الذي لا يسمع إلا صوته، ولا يرى إلا رأيه، والأشد سوءاً هو من يضع في بطانته أشطر وُعّاظ السلاطين الذين يجمّلون له قبحه، ويُحللون له حرامه، وهم يعلمون. ومنذ قديم العصور كان الشغل الشاغل للمفكرين والفلاسفة والأنبياء ودعاة اللا عنف أن يغسلوا أدمغة البشر من أمراض الأنانية وجنون التملك، وأن يمنعوا استعباد القوي للضعيف، والغني للفقير، والرجل للمرأة، والكبير للصغير)(1).

- تمهيد يطرح تساؤل لدراسة مستقبلية (كيف السبيل إلى تجاوز الاستبداد؟):

سعى العالم العربي منذ انطلاق فجر النهضة الثقافية التنويرية والإصلاحية في القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا إلى طرح تساؤل محوري في غاية الأهمية: " لماذا تخلف المسلمون والعرب، ولماذا تقدم غيرهم؟  "، فعلى الرغم من تباين الرؤى واختلاف المرجعيات، فإنه يبدو وكأن ثمة اتفاقاً بينهم على اعتبار تفوق المجتمعات الغربية راجعاً أساساً إلى نظامه السياسي الضامن في رأيهم للحرية، والمقيد للسلطة بالقانون، وأن تأخر العالم الشرقي عموماً، بما فيه البلاد العربية والإسلامية، راجع بطبيعة الحال إلى نظامه السياسي القائم على " الاستبداد ". وإن هذا الموقف يصدق على الفكر الإصلاحي العربي والإسلامي عموماً، سواء ذلك الذي قام باسم السلفية، أو ذلك الذي أراد أن يكون ليبرالياً أو قومياً.

فالاستبداد هو أصل التخلف وجذره، وأن نقيضه الضامن للحرية والمقيد للسلطة بالقانون هو، في المقابل، أصل النهضة، فإن شرط النهضة عند هؤلاء المفكرين كان لا بد أن يتحدد بتجاوز الاستبداد لا غير. وهكذا كان لا بد أن يؤول سؤال النهضة إلى سؤال السياسة: " كيف السبيل إلى تجاوز الاستبداد؟".

واللافت أن الإجابة على سؤال السياسة قد تحددت بطريقة الإجابة على " سؤال النهضة ". فإذا كان الوعي قد أدرك جذر تخلفه في الاستبداد، بسيادة نقيضه (الديموقراطية، والحرية، والعدل) في أوروبا، فإن أصل النهضة ونموذج التقدم، سعى إلى الربط بين لا استبداد أوروبا، وبين ما لها من التنظيمات والمؤسسات السياسية القائمة على العدل، ومعرفتها واحترامها من رجالها المباشرين لها(2).

ومنذ ذلك الحين والخطاب العربي (السياسي والثقافي عموماً) لا يعرف إلا مجرد السعي إلى استعارة ونقل هذه المؤسسات، وبما يجري تداوله في فضائها من مفردات " الدستور " و" الديموقراطية " و" حقوق الإنسان " وغيرها، وذلك عبر المماثلة بينها، وبين ما يراه موازياً لها في هياكله التراثية القديمة، ساعياً بذلك إلى إزالة شبهة تناقضها مع الشرع، وهكذا دون أن يشغله الوعي بالسياق المعرفي الخاص الذي تبلورت واكتملت هذه المؤسسات والمفاهيم في إطاره، فراح، لذلك، يستعير مفاهيم انتهت إلى الانفصال في مجالها الأصلي عن دلاليتها الدينية، بواسطة مفاهيمه التي لم تزل لصيقة بدلاليتها الدينية، ومن هنا عجزه وشقاء وعيه.

والمهم أن العالم العربي قد شهد منذ أواخر القرن الماضي تجارب حزبية وبرلمانية متفاوتة القيمة والتأثير، لكنها بسبب العجز عن إنجاز الاستقلال، وتدهور الواقع الاجتماعي سرعان ما انحسرت تماماً في خمسينيات القرن المنصرم، حيث شهد العالم العربي موجة من الانقلابات العسكرية كتبت النهاية الحزبية لهذه التجارب، وأعلنت عودة الاستبداد صريحاً لا يكذب، رغم أن البعض قد راح يزخرفه بأنه قد عاد مستنيراً وعادلاً هذه المرة. لقد بدا إذن أن التنظيمات ليس فيها الإبراء من الاستبداد(3).

وبإزاء هذا الإخفاق الشامل، فإن البعض قد مضى يتأمل في مدى ملائمة الوضع الاجتماعي السائد، أو حتى طبيعة الدول العربية الراهنة، لبناء الديموقراطية الحقة. وهكذا فإن ثمة من يدعي قياساً على كون الديموقراطية الأوروبية التي اكتمل نضجها بتبلور الطبقة الوسطى ونمو وعيها، أن مأزق الديموقراطية الوهمية في العالم العربي يرتبط بضعف الطبقة الوسطى، وهشاشة وعيها وهلاميته، ومن هنا ضرورة أن نساعد الرجل، رجل الطبقة المتوسطة، على أن يغرس في بلادنا هذه الشجرة، ألا وهي " شجرة الديموقراطية".

وثمة أيضاً من راح يرى عوائق الديموقراطية في طبيعة الدول العربية التابعة، التي لا تستطيع أن تفي بوعدها لمواطنيها، وأن توفر الخدمات، وتتكفل بالحاجات المتزايدة بتزايد السكان، الذي هو ظاهرة في العالم النامي. وهكذا يشتد ضغط المجتمع بمشاكله المتفاقمة عليها، فتقاومه بقمع متزايد، وباعتماد أكثر على الخارج في طلب المساعدة والحماية، وهذه الوضعية هي من العوائق الموضوعية لقيام نظام ديموقراطي.

وبالرغم من قيمة هذه التحليلات وجديتها، فإن أحداً لم يتجاوز (في بحثه عن سبيل لتخطي الاستبداد) السياسة إلى ما وراءها، وأعني إلى الثقافة بما هي خطاب يؤسس لكل ممارسة، حتى السياسي منها. والحق أن ظروف الإخفاق الراهن - في المسألة الديموقراطية وغيرها - تقتضي الحفر فيما وراء كل ممارسة عن جملة المفاهيم والتصورات المعرفية المؤسسة لها في العمق، والتي تفعل فعلها غالباً في اللا وعي الجمعي. فدون هذا الحفر، ستبقى الشروط المنتجة للإخفاق قائمة في العمق، بلا أي تجاوز. ومن هنا ضرورة البحث عما يؤسس لغياب كل ما هو إنساني وديموقراطي من عالمنا في بنية الثقافة السائدة، وليس في مجرد الشرط الاجتماعي والسياسي، على أهميته. ولعل ذلك، لا غيره، هو بيت القصيد(4).

- المقدمة:

تحوَّل الحديث في الديموقراطية في العالم العربي إلى نوع من الوسواس الذي لا ينتهي، لأن هذه الديموقراطية لا تأتي، ولا تتمكن من نشر نعيمها على المجتمع وناسه. ذلك أن الاستبداد على اختلاف أشكاله ودرجات شدته وألوانه يشكل الوجه النقيض لها. وكلما تعالت المطالبة بها فذلك يعني أن نقيضها الخفي هو الفاعل، وهو الذي يفرض سلطانه. ويكتسب هذا القول مصداقيته من كون الاستبداد هو ابن العصبيات الشرعي، بل هو ابنها البكر والمفضل الذي يحميها ويضمن لها الاستمرار(5).

وفي حقيقة الأمر، يتصف الاستبداد بالفساد والداء الاجتماعي الذي ينخر في فعالية الحياة والمجتمع، حيث يجعل من الشعوب المستبَدة عظاماً نخرة مطحونة وكيانات هشة هزيلة لا تقوى على مواجهة مسؤولية التقدم والتطور والانطلاق. كما يعني الاستبداد ذوبان إرادة الشعب في إرادة المستبد والخضوع إلى مشيئته والارتهان بنزواته ومصالحه والزوال بزواله، ففي عِرف الاستبداد يجب على الأمة أن تبني وتؤسس مشروعها الحضاري والاقتصادي والثقافي بناءً على إدارة شخص دائم مستقر بعيد عن الهزات والتقلبات هذه الإرادة ستصبح فيما بعد إرادة الأمة الجمعية ومصالحها وحقوقها(6).

ويعتبر عبد الرحمن الكواكبي* من أهم المفكرين الذين درسوا وحللوا وفسروا مفهوم الاستبداد بكل تجلياته من خلال كتابه " طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد "، الذي يصفه بأنه آفة تدور مع الهوى حين قال: " إن الاستبداد هو التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى إن مقاومة الاستبداد هي كلمة حيّة وصرخة قد تكون في واد إن ذهبت اليوم مع الريح ستذهب غداً بالأوتاد "(7). ويشير الكواكبي إلى بعض صفات المستبد فيقول: " إن المستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المعتدي، فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عند النطق بالحق "(8).

- ما هو مفهوم الاستبداد: لغوياً الاستبداد (مصدر) الفعل استبدَّ بـ يستَبِدّ، استبداداً، فهو يقول به فاعل مُستبِدّ، يتحكم في مفعول به مُستبَدّ به. استبدَّ الشَّخصُ بالأمر: تعسَّف، انفرد به مِن غير مُشاركٍ له فيه. والاستبداد هو الانفراد بالرأي من غير مشورة. وفي السياسة نقول حكم استبدادي أي أساليب حكم طاغية أو مستبد. حكم مجحف ومتعسف(9).

أما في القواميس الفرنسية (Larousse et Robert) فهناك توافق على معنى مصطلح Despote بالفرنسية المكافئ لمصطلح المستبد بالعربية. أصل الكلمة من اليونانية وتعني السيد، أو الحاكم الذي يحكم بسلطة اعتباطية، مطلقة وقمعية، أو هو حاكم يعطي نفسه سلطة مفرطة واعتباطية، أما على المستوى الشخصي اليومي فالمستبد هو من يمارس على محيطه تسلطاً مفرطاً(10).

وفي المقابل عرف جيمس ماديسون (1751-1836) الطغيان والتعسف على أنه تجمع لكل السلطات والصلاحيات من تنفيذية، واستشارية، وقضائية، بيد واحدة. والاستبداد حسب الكواكبي أصل كل فسادٍ. وهو غرور المرء برأيه، والأنفة عن قبول النصيحة، أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة. والطغيان كما يعرفه أرسطو " هو صورة للحكم الفردي في ممارسة السلطة دون رقيب ولا حسيب "(11)، فالطغيان ليس له حدود ولا قانون يخضع له، بل كما قال أفلاطون الطغيان بأنه: " حكم الشهوة والأنانية الفردية "(12).

بذلك، يتصف الطغاة بأنهم من ذوي الفردية الأنانية العدوانية ولذلك فالطغيان مرض نفسي. ولا يمكن أن يلجأ إليه الشخص سوي. وهنا الفرق بين الزعامة والطغيان. فالزعيم شخص عظيم أي أنه ضخم الشخصية، ولكنه ليس فردياً أنانياً، بل هو محب للجماعة متجاوب معها مخلص لها حسن المعاملة لها. وإنما عظم شخصيته هو الذي يجعله في مكان القيادة، وليس أنانيته الطاغية التي تميل إلى استبعاد الآخرين وإخضاعهم. وربما كان المحك الواضح بين التركيب النفسي للزعيم والتركيب النفسي للطاغية، أن الزعيم يبحث عن القوى والطاقات في الجماعة فينميها، ويفرح كلما وقع طاقة نافعة فيستعين بها ويدفعها إلى الأمام، بينما الطاغية لا يطيق إلا نفسه، فكلما وجد طاقة بارزة سعى إلى التخلص منها ولو بطريق الغدر الخسيس، ولا يعينه أن تكون نافعة للجموع، فنفع نفسه عنده هو الأول والأخير، ولا مصلحة سواه(13).

أما الاستبداد اصطلاحاً هو الانفراد بإرادة شؤون المجتمع من قبل فرد أو مجموعة، عن طريق الاستحواذ والاستيلاء والسيطرة من دون وجه حق(14). ومن صفات الحكم المستبد ما يلي:

الانفراد بشؤون الحكم حيث تنعدم الشورى في الحكم الاستبدادي.

تولي السلطة عن طريق الاستيلاء والقوة فالحاكم الذي يتولى السلطة بطريقة غير شرعية أو غير دستورية سواء أكان ذلك عن طريق الانقلابات أو عن طريق تزوير الانتخابات هو حالم مستبد.

وفي النهاية يمكن لنا القول: إن المستبد هو الذي يتولى السلطة بطرق غير شرعية ويمنع تداولها سلمياً، أو يحكم برأيه وهواه دون مشورة أهل الخبرة ولا يتقيد بقانون، ودون النظر إلى رأي المحكومين.

والاستبداد بعبارة مكثفة هو التفرد بالسلطة والرأي مع قمع المعارضة سواء كان المستبد أباً أو عائلة أو عشيرة أو رجل دين أو معلماً أو حزباً سياسياً... والسلطة المستبدة هي تلك السلطة التي تمارس حكم الناس دون أن تكون هي ذاتها خاضعة للقانون، فالقانون في نظر هذه السلطة قيد على المحكومين دون أن يكون قيداً على الحاكم(15). لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا في هذا المقال كيف يؤثر النهج الاستبدادي على إعادة إنتاج منظومة القيم الاجتماعية القهرية ؟

في حقيقة الأمر، يستند نهج سلطة الاستبداد إلى منظومة فكرية فاشية، تستقطب خلالها العناصر الضالة من المجتمع لتدعيم أجهزتها القمعية. ويُسفر عن ذلك الاضطهاد والعنف المسلّط على مجتمع ما- في مرحلة من مراحل نموه التاريخي - تغيير في أنماط سلوكه العام الناتج بطبيعة الحال عن ممارسات سلطة الاستبداد وصياغة منظومة قيمه الاجتماعية* والثقافية والفكرية، فينقله نقلة نوعية من مجتمع مسالم إلى مجتمع يعتمد لغة العنف لإخضاع الآخر، ويعد هذا السلوك رد فعل مضاد طارئ وقسري مسلط عليه من قبل سلطة الاستبداد، مما يجعل المجتمع مجموعة من القطيع تقوده حيث تشاء وأي خروج عن مسار القطيع بوعي أو بدون وعي تعمد سلطة الاستبداد من خلال استخدام القوة إلى إعادتهم إلى مسار القطيع أو تقطيعهم إلى أوصال ليكونوا عبر لبقية أفراد القطيع.

ولتسليط الضوء أكثر على الأنماط غير السوية التاريخية والمحدثة وظاهر تماهي الإنسان المقهور بسلطة الاستبداد، يجب علينا توضيح ما يلي: حيث يتمثل النمط الأول في " اختلال أنماط السلوك الاجتماعي " عندما تسعى السلطة المستبدة إلى ابتكار آليات العنف والقهر وسُبله للسيطرة على المجتمع لإطالة فترة تحكمها فيه ولا تقتصر تلك السبل على ذلك، وإنما تترافق مع نهج وتوجه فكري يعمل على ترسيخ مفاهيم الإذعان والخضوع في وجدان الإنسان المقهور من أجل شل حركته المضادة أمداً طويلاً. وهنا تمكن خطورة مؤسسة الاستبداد خاصة إذا نجحت في إضعاف حركة التوجهات الفكرية المضادة وشلّها من التسرب إلى مفاصل المجتمع، كما تعمل على ترسخ حالة الشعور بالتهديد المتواصل وعدم الاستقرار في اللا وعي، مما يجعل الإنسان المقهور في موقف الدفاع الدائم والحذر الشديد من أي شيء يمت بصلة إلى السلطة أو قد يخالف توجهاتها للحفاظ على حياته. حينها يصاب الإنسان المقهور بحالة من العجز واليأس وعدم القابلية لاستيعاب الأحداث الجارية في محيطه، والقبول بالأمر الواقع، ويلجأ إلى أساليب الادعاء الفارغ بإدراك الأحداث الجارية للوصول إلى حالة من التوازن النفسي الكاذب(16).

أما النمط الثاني ينحصر في " السلوك المتوارث للإذعان والخنوع في المجتمع "، فحينما تخضع المجتمعات للاستبداد والعنف المفرط أمداً طويلاً تنغرز في ذاتها أنماطاً من السلوك غير السوي تتنافى وسماتها الأساسية للحفاظ على ذاتها المستلبة من الهلاك. ومع الزمن يصبح السلوك غير سوي نمطاً سائداً في المجتمع، ومنغرزاً في اللا وعي لدى الغالبية من أفراده، ولا يجد فيه المجتمع سلوكاً شاذاً ومنحطاً يجب التخلي عنه، لأنه متوارث عبر الأجيال ولم يعد قادراً على التمييز بينه وبين السلوك السوي. تشير أنماط السلوك الشاذ إلى المجتمعات المتخلفة، خاصة في أريافه، فمع انتهاء مرحلة الإقطاع وانحسار سطوة الإقطاعي تجد أن العديد من أبناء الأرياف مازالوا يمارسون سلوكاً شاذاً في إبداء الخضوع والإذلال لأسر الإقطاعيين(17).

وفي العصر الراهن نجد أن سلطات الاستبداد تمارس سلوكاً مماثلاً لفرض أنماط الخضوع والإذلال على أفراد المجتمع، فبمجرد أن ينتمي الفرد إلى عائلة رئيس سلطة الاستبداد أو عشيرته أو رموزه يفرض سطوته وبطشه لإخضاع أفراد المجتمع لمشيئته. بذلك أُجبرت المجتمعات بما أصابها من الاستبداد على ارتداء الأقنعة للحفاظ على ذاتها المستلبة من بطش سلطة الاستبداد وسطوتها، وهي غير قادرة على خلع أقنعتها حتى بعد زوال سطلة الاستبداد والتخلي عن أنماط سلوكها الشاذ في الخضوع والإذلال، لأن أنماط سلوكها الشاذ منغرزة في اللا وعي وتحتاج إلى فترة ليست بالقليلة لتقتنع بأن سلطة الاستبداد لم يعد لها وجود، ويجب عليها التخلي عن سلوكها الشاذ والتصرف بحالة سوية تماشياً مع تغير الحالة السياسية(18).

وأخيراً يصف لنا النمط الثالث " تماهي الإنسان المقهور بسلطة الاستبداد "، وفي هذا السياق نجد أن الدافع الأولي لاستخدام العنف والاستبداد ضد المجتمع من قبل السلطات المستبدة يعود إلى هواجسها بأنها غير شرعية، ولا تحظى بالتأييد الضروري لها، لذا تلجأ إلى استخدام العنف المفرط لإخضاع القسم الأعظم من السكان لسلطتها، وكلما زاد الرفض الاجتماعي لها ضاعفت وتيرة عنفها واستبدادها. حينها يولّد لدى الفرد في المجتمع الإحساس بالخطر الدائم الذي يهدد حياته، ويجعله متحفزاً للأخطار ودائم الشك في محيطه وعلاقاته بأفراد المجتمع الآخرين. كما تدفعه هواجسه في الشك إلى والريبة إلى إيقاع الأذى بكل من حوله نوعاً من الدفاع عن النفس المهددة في كل حين، في مجتمع الغابة المليئة بالوحوش، المستعدة للانقضاض على ضحيتها وفرض هيمنتها على الآخرين، وبهذا تضمحل أواصر العلاقات الإنسانية بين أفراد المجتمع الواحد، لتحل مكانها علاقات اضطهادية مبنية على تحقيق المصالح الذاتية وعلى حساب الآخرين، مما يؤدي إلى انهيار منظومة القيم الاجتماعية واضمحلالها على الصعيد العام. وعلى الصعيد الخاص نجد أن السلوك الفردي في الحياة الاجتماعية وفي علاقاته الآخرين بات يتماهى بسلوك السلطة المستبدة. أي أن ممارسة الفرد للعنف والاضطهاد لأقرانه الضعفاء من البشر مستمداً من سطلة الاستبداد ذاتها مما يجعله بالمقابل يقدم فروض الولاء والطاعة العمياء والخضوع الذليل لفكرة الاستبداد بحد ذاتها(19)، لأنها أصحبت هي من تُصيغ الوعي الجمعي في مجتمع الاستبداد.

وفي هذا السياق يصف مصطفى حجازي سلوك هذا النموذج من الإنسان المقهور قائلاً " يتحول الإنسان المقهور من ضحية إلى معتدٍ على أمثاله من الأضعف قدرة والأقل خطورة، وهذا التحول يجعله أداة بطش بيد المتسلط نتيجة معاناته من حالة وهم القيمة والاعتبار الذاتيين، ما يدفعه إلى الاستزلام لدى المتسلط وهذا هو التماهي بعدوان المتسلط "(20).

بذلك يتخلص الإنسان المقهور من مأزقه في مجتمع الاستبداد من خلال قلب الأدوار حين يلعب دور القوي المعتدي ويسقط كل ضعفه وعجزه على الضحايا الأضعف منه. ويتم ذلك بالضرورة من خلال التماهي بالمعتدي حيث يستعيد الإنسان المقهور بعض اعتباره الذاتي، أو على وجه الدقة يصل إلى شيء من الوهم الاعتبار الذاتي(21).

وهنا يجب أن نشير، أن آثار القهر والاستبداد التي مُورِسَت ضد هذه المجتمعات لا تنتهي بزوال مسبباتها، وإنما تظهر نتائجها الكارثية والمدمرة على المجتمع حال انهيار سلطة الاستبداد، حيث يتماهى بعض أفراد المجتمع بسلطة الاستبداد المنهارة فيستخدمون العنف والاستبداد تعبيراً عن الآثار السلبية الكامنة في وجدانهم منذ أمد طويل(22).

وعلى الرغم من أن الحراك العربي المعاصر، قد انتزع الشعوب العربية من الحدود الضيقة والسموات التي تحرسها الحكومات، إلى فضاء الحرية الواسع وحلمها الممكن بعد امتناع طويل. إلا أنها علمتنا - وهي تقف اليوم في منتصف طريقها- أن الاستبداد يقبع في عقول المواطنين (الوعي الجمعي) وليس فقط في قصور المستبدين. وأن العبودية، التي يئن منها المواطن، يعاني الحاكم من شكلها ألواناً، فإذا كان الشارع يعيش في رعب، فالقصر، أيضاً، في خوف دائم، وأن فعل الإذلال واقع على الجميع. وأن النظام السياسي العربي المستبد، كما منظومة الأخلاق الاجتماعية، كلاهما قد فقد توازنه. وعلمنا الحراك العربي، أن تجليات الاستبداد مهما كانت لا تكون مؤثرة فقط في أوقات الأزمات وغياب البدائل، لكنها تشق طريقها واثقة كلما ترسخ الجهل وعم الظلام وانعدم الوعي بين أفراد المجتمع، ووجدت الغنيمة التي يمكن أن يتقاسمها الحكام مع المحكومين(23).

إلا أنه في وقتنا المعاصر لم يعد يستطيع فرد واحد إجبار الشعوب بكل مكوناتها على الرضوخ للطغيان والاستبداد الذي يقمعهم ويذلهم. ولم يعد الاستبداد قادراً على الصمود كثيراً في ميادين الحرية المضاءة ليلاً ونهاراً بنور الثورات ونارها. كما أن منظومة القيم الاجتماعية في مجتمعاتنا العربية، بصدد إعادة الهيكلة والبناء، فهي تبحث عن نفسها وتفتش عن جذورها وهويتها، وتبحث عمن يجددها ويقدمها للأجيال الجديدة المتعطشة لنيل الحرية.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

.......................

(1) إبراهيم الزبيدي: نحن نكتب وهم لا يقرأون، صحيفة العرب الدولية، لندن، السنة:44، العدد: 12245، الجمعة 19/11/ 2021، ص(8).

(2) علي مبروك: السلطة والمقدس (جدل السياسي والثقافي في الإسلام)، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط2، 2024، ص(7-8).

(3) المرجع السباق نفسه، ص(8-9).

(4) المرجع السباق نفسه، ص(9-10).

(5) مصطفى حجازي: الإنسان المهدور- دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2005، ص(73).

(6) برهان زريق: الاستبداد السياسي، وزارة الإعلام السورية، دمشق، ط1، 2016، ص(5).

* عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي ( ولد في حلب 23 شوال عام 1271 هـ / 9 تموز 1855 م وتوفي في القاهرة 6 ربيع الأول عام 1320 هـ / 15 حزيران 1902 م) أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب " طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد "، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي.

(7) عبد الرحمن الكواكبي: الرحالة كاف طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، تحقيق: محمد جمال طحان، دمشق، دار الأوائل للنشر والتوزيع الخدمات الطباعية، 2003، ص(23).

(8) عبد الرحمن الكواكبي: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، كلمات عربية للترجمة والنشر، القاهرة، بدون تاريخ، ص(18).

(9) حسام الدين فياض: مقالات نقدية في علم الاجتماع المعاصر (النقد أعلى درجات المعرفة)، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2022، ص(236).

(10) مصطفى حجازي: الإنسان المهدور- دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، مرجع سبق ذكره، ص(76).

(11) مولاي المصطفى البرجاوي: الطغيان، مجلة البيان، الرياض، العدد: 323 رجب 1435هـ، مايو 2014م. https://www.albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?id=3635

(12) أميرة حلمي مطر: جمهورية أفلاطون، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1994، ص(42).

(13) محمد قطب: دراسات في النفس البشرية، دار الشروق، القاهرة، ط 10، 1993، ص(298-299).

(14) محمد هلال الخليفي: قراءة تاريخية في مفهوم الاستبداد وتفسيره وآليات تكريسه، من كتاب: جذور الاستبداد في الحياة السياسية العربية المعاصرة، الفصل الثامن، تحرير: علي خليفة الكواري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2005، ص(279).

(15) ماجد الغرباوي: الضد النوعي للاستبداد، مؤسسة المثقف العربي والعارف للمطبوعات، بيروت، ط1، 2010، ص(30).

* منظومة القيم الاجتماعية: هي جملة القيم الجماعية الشائعة في مجتمع ما والمترابطة معاً، والتي تشكل في جملتها وعبر تفاعلها نسقاً من التصرفات والسلوكيات والمعايير، التي تميز هذا المجتمع عن غيره من المجتمعات، وتفسر كثيراً من أحواله، وأوضاعه السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية. انظر: عماد الدين محمد عشماوي: أثر الاستبداد في منظومة الأخلاق الاجتماعية، مجلة الكلمة، العدد 141، يناير 2019. http://www.alkalimah.net/Articles/Read/20241

(16) صاحب الربيعي: سلطة الاستبداد والمجتمع المقهور، صفحات للدراسات والنشر، دمشق، ط1، 2007، ص(47-48).

(17) حسام الدين فياض: مقالات نقدية في علم الاجتماع المعاصر (النقد أعلى درجات المعرفة)، مرجع سبق ذكره، ص(240).

(18)  صاحب الربيعي: سلطة الاستبداد والمجتمع المقهور، مرجع سبق ذكره، ص(50-51).

(19) المرجع السابق، ص(52-53).

(20) مصطفى حجازي: التخلف الاجتماعي – المدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط9، 2005، ص(128).

(21) المرجع السابق، ص(128-129).

(22) حسام الدين فياض: مقالات نقدية في علم الاجتماع المعاصر (النقد أعلى درجات المعرفة)، مرجع سبق ذكره، ص(243).

(23) عماد الدين محمد عشماوي: أثر الاستبداد في منظومة الأخلاق الاجتماعية، مرجع سبق ذكره،

http://www.alkalimah.net/Articles/Read/20241

 

أولا: تعريف المفهوم

كلمة " مفهوم " Concept تتداول بشكل مألوف في معظم النظم الفكرية في عصرنا على السواء مثل التاريخ وعلم الاجتماع، علم النفس والفلسفة – الخ. والحقيقة أن المفاهيم تشكل الموضوع الرئيس للعديد من فلاسفة هذا القرن، فهي خبزهم وزبدهم، وطعامهم وشرابهم. فقد تساءلوا حول كثير من المفاهيم مثل: خير good، عدد " Number " احمر red وغيرها. ورأوا وجود ضروريات واستحالات معينة تحدد قيمة مفاهيمنا، وتشكل فئة خاصة ناتجة من الحقائق " المفاهيمية "، إنهم يصفون بنية العلم الطبيعي على أنها تشمل عدد من " الانساق المفاهيمية " conceptual Systems التى يمكن توضيحها، على نحو ما، بشكل ملائم بواسطة أنساق صورية أو بديهية ؛ كما أنهم يدرسون أصول "الأطار " العام للمفاهيم التى افترضت مسبقا في معرفتنا اليومية عن العالم. وكثيرين منهم يصفون حتى المهمة الرئيسية للفلسفة نفسها على أنها البحث عن ذلك التحليل المفاهيمي. ومع ذلك، فإنه بالرغم من كل اهتمامهم الشكوكي بالممارسة الفعلية للتحليل المفاهيمي، فإن المعنى الدقيق للمصطلحات " مفهوم " و " مفاهيمي " من النادر توضيحه ويظل غامضا في معظم الأحيان.. إنهم يعرفون تماما ما هي المفاهيم طالما لم يطلب منهم الحديث عنها ؛ لكن أى مفاهيم ؟، وما " المفاهيم ؟ " ؛.. هل المفاهيم تتعلق بكيفية استخدامنا للغة ؛ أو بكيفية تكوين خبرتنا،أو بكيفية تصنيفنا للأشياء التى يجب تناولها.. ما هي بالضبط ؟. (1)

والمفاهيم بدورها هي صور عقلية لا يمكن مشاهدتها. إن أمثال هذه المفاهيم ليست أكثر من نتائج استدلالية مشتقة من استدلالات سابقة عليها.. وهكذا. من هنا أثارت هذه المفاهيم تساؤلات فلسفية عميقة عن وضعها الوجودي وحقيقتها المعرفية. وكذلك عن معايير قبول النظريات العلمية. فهل تشير هذه المفاهيم إلي كائنات فعلية حقيقية، وإن قصرت دونها الحواس. وما برهاننا علي ذلك ؟ أم هي بناءات منطقية تستمد لبناتها من الملاحظة العلمية، ثم يكملها الخيال العلمي المبدع، جنبا إلي جنب مع قواعد الاستدلال المنطقي. وحينئذ، يجب ان نقنع منها بجانبها اللفظي مادام التحقق من نتائجها يكفل لنا جانبها التجريبي. أى الجانب التجريبي من النظريات التي تشتمل علي هذه المفاهيم. فصدق الكل يكفل لنا، ضمنا صدق ما ينطوي عليه من أجزاء. وهل المفاهيم ما هي إلا أدوات أو وسائل نحن الذين ابتدعناها واتفقنا عليها لتطوير فهمنا للطبيعة. ولتمكيينا من التعبير عنها بشكل أبسط يساعدنا علي تحقيق مزيد من التعميمات العلمية. وحينئذ لا يجوز لنا الحديث عن " حقيقة " هذه المفاهيم، او " وجود " ما تدل عليه " بل عن وظيفتها أو أو فائدتها فحسب. أم هي مجرد وسائل ابتدعناها لتسهيل فهمنا وتعبيرنا عن ما يصادفنا من ظواهر. أم مجرد تصورات مفيدة أكثر منها حقائق واقعية. ويمكننا إن شئنا أن نستبدل بها غيرها إن وجدناها أنفع منها. ومن الواضح ان هذه الأراء وغيرها لابد ان تنعكس علي تصورنا للطرائف التي يتوصل بها العلماء لأمثال هذه المفاهيم، أهي مواضعات يصطلح عليها العلماء كم يصطلحون علي دلالة أى رمز من الرموز وطرق مجالات استخدامه، ام هي نوع من البصيرة النافذة التي يتمتع بها قلة من العلماء النوابغ، تجعلهم يرون ملا نري، ويدركون ما نعجز عن إدراكه،أم....... ماذا.؟. (2)

والحقيقة أن الانقلاب الكبير الذي أحدثته الفيزياء المعاصرة في التصور التقليدي للكون، وما ترتب عليه من التشكك في كثير من النتائج التي كان ينظر إليها من قبل علي أنها صحيحة صحة مطلقة، مسلمات الفكر الفيزيقي النيوتني، دفع فلاسفة العلم المعاصرين إلي مزيد من الاهتمام بالمفاهيم ومنهم بريد جمان P. W. Bridgman مؤسس الاجرائية operationalism وتولمن رائد الأداتية Instrumentalism. أما بريد جمان فقد قضي عشر سنوات يتأمل في حقيقة ما يجري من أحداث في فروع علم الطبيعة،وفي اساس الفكر الطبيعي، وظهرت نتائج هذه التأملات علي مراحل، أهمها ما ظهر في كتاب له نشر سنة 1922 بعنوان "تحليل الأبعاد " ثم في كتابه " منطق علم الطبيعة الحديث " سنة 1927، ثم في كتاب ثالث بعنوان " طبيعة النظرية الفيزيائية " سنة 1936، ثم في كتاب رابع بعنوان " تأملات عالم طبيعة " سنة 1950، ثم في كتاب خامس بعنوان " طبيعة بعض مفاهيمنا الفيزيائية " سنة 1952.(3)

وبوجه عام: توجد تعريفات كثيرة للمفاهيم نذكر منها:

1- المفاهيم هى مكونات التفكير: المفاهيم هي مكونات فرعية لمحتويات الفكر، تشكل الأساس الذي يُبنى عليه التفكير. تمثل هذه المحتويات وقائع وقدرات عقلية افتراضية قد تكون مشتركة بين مفكرين مختلفين أو مستقرة لدى مفكر واحد عبر الزمن. ن امتلاك مفهوم يعني القدرة على التفكير في الأفكار التي تحتوي على هذا المفهوم. وبالتالي، تشكل المفاهيم أساليب أو طرائق ينظر من خلالها المفكر إلى الأشياء، الخصائص، والعلاقات. فمفهوم أي شيء هو الطريقة التي يتم بها التفكير في ذلك الشيء، مما يجعل المفاهيم أدوات ذهنية تساعد في تنظيم وفهم العالم من حولنا.(4)

فالمفاهيم، باعتبارها مكونات لمحتويات الفكر، تتسم بطبيعتها التمثيلية أو المقصودة، إذ هي مجرد تمثلات عقلية تعكس الواقع أو تبنيه. ولا يمكن فصل هويات المفاهيم عن خصائصها أو وظائفها المقصودة التي تحدد استخدامها وفائدتها. عادةً ما يتم التعبير عن المفاهيم من خلال اللغة، حيث تُجسّد في معاني الكلمات التي يستخدمها المتكلم. فعلى سبيل المثال، عندما نقول "هذا كرسي"، فإننا لا نعبر فقط عن وجود الكرسي كشيء مادي، بل نعبر عن "مفهوم الكرسي" ذاته باستخدام كلمة "كرسي"، مما يجعل اللغة أداة لتمثيل المفاهيم ونقلها بين الأفراد.(5)

2- هى الصفات أو المعاني التي يثيرها اللفظ في الذهن عندما يقرأ أو يسمع ... أو الخصائص أو الصفات التي تُفهم من هذا اللفظ، أي الخصائص والصفات التي يثيرها اللفظ في ذهن السامع أو القارئ.. مجموعة من الأشياء، أو الحوادث، أو الرموز تجمع معا على أساس خصائصها المشتركة العامة، التي يمكن أن يشار إليها باسم أو رمز خاص.

3- هى صورة عقلية لمجموعة من الأشياء لها سمات وخواص مشتركة. أو فكرة مجردة تصف جملة من السلوكيات أو المظاهر، يتم التوصل إلىها من خلال تعميم لحالات أو أمثلة خاصة. أو صورة عقلية (Mental image) للأحداث والأجسام والعلاقات اتى تتكون فى العقل).(6)

لقد استخدمت كلمة "مفهوم" concept فى البحث الفلسفى بمعان مختلفة عديدة يمكن التمييز بين ثلاثة منها:

أ-  قد يدل المفهوم على الحالة النفسيةstate psychological للعقل عندما يستخدم المرء كلمة أو عبارة ليحدد شئ مفرد أو طائفة ما من الموضوعات.

ب- ربما يشير المفهوم إلى معنى كلمة أو عبارة عبر مرحلة معينة من مراحل تطور فكر الفرد، أو من مراحل تطور العلم أو ثقافة معطاة، أو حتى مراحل الجنس البشرى جملة.

جـ - يمكن أن يدل المفهوم على المعنى المنطقى للفظ. وهذا المعنى الثالث "للمفهوم" نجده فى التعريفات المعجمية، كما أنه يمثل المعنى المألوف "للمفهوم" فى دراسة المنطق(7)

وما يميز المفهوم، أولاً وقبل كل شيء، هو طابعه التجريدي والشامل. إنه يتسم بالقدرة على تجاوز الدلالات المتداولة والسائدة، بهدف بلوغ مستوى أعلى من التجريد والعمومية. هذا التجاوز يمنح المفهوم دقةً تقنية، وصرامةً موضوعية، وضبطًا إبستيمولوجيًا، مما يجعله أداة أساسية في التحليل الفلسفي والعلمي. والعملية المفاهيمية هى عملية تحول تُنقل خلالها دلالة ما من مستوى التصور الأولي، الذي يكون أقرب إلى الفهم العامي أو العفوي، إلى مستوى أكثر دقة وتنظيمًا. هذا التحول لا يهدف فقط إلى تحقيق وضوح معرفي، بل أيضًا إلى بناء أداة معرفية قادرة على التعامل مع الواقع بأسلوب منهجي ومتقن، حيث تُصبح المفاهيم وسيلة لفهم العوامل الأساسية وتحديدها ضمن سياقات معقدة.

ويجب التمييز بين المفهوم والماصدق، فاذا كان المفهوم هو المعنى أو الفكرة الذهنية التي يشير إليها لفظ معين، فان الماصدق هو التجسيد الواقعي أو الأمثلة الفعلية التي تنطبق عليها الفكرة أو المفهوم. الماصدق يمثل الجانب الخارجي والملموس لما يشير إليه المفهوم. كلمة ماصدق تتكون من مقطعين: ما: بمعنى (الذي)، صدق: بمعنى الذي دل عليه اللفظ.والماصدق هو الأفراد أو الأشياء أو الموضوعات التي يصدق عليهم أو ينطبق لفظ ما.

أمثلة توضيحىة:

مفهوم مسجد: مكان معد لصلاة المسلمين.

مفهوم إنسان: كائن حي مفكر.

مفهوم جامعة: بناء معد للتعليم.

مفهوم كرسي: شيء مخصص للجلوس، وله قاعدة وأربعة أرجل عادةً.

- ماصدق مسجد: كل المساجد في الواقع

- ماصدق جامعة: كل الجامعات في الواقع

- ماصدق انسان: عمر، أحمد، رباب..ألخ.

- ماصدق كرسى:: الكراسي الموجودة في غرفتك، مكتبك، أو في العالم الواقعي.

وهكذا يتمثل الفرق بين المفهوم والماصدق فى: التجريد مقابل الواقعية (المفهوم: تجريدي، يوجد في العقل- الماصدق: ملموس، موجود في العالم الخارجي.). الشمولية مقابل التحديد (المفهوم: عام، يشمل كل ما ينطبق عليه اللفظ - الماصدق: خاص، يشير إلى مثال معين أو حالة محددة (..التصور مقابل التطبيق) المفهوم: يتعامل مع الفكرة أو التصور الذهني- المصداق: يركز على التطبيق الواقعي أو المثال العملي.). وتتمثل علاقة المفهوم بالماصدق فى: المفهوم يسبق الماصدق منطقيًا، لأنه الأساس الذي تُحدد به الأمثلة الفعلية التي تنطبق عليه.

ثانيا: صناعة المفاهيم

الفلسفة ليست مجرد حقل معرفي أو مبحث أكاديمي، بل هي أسلوب حياة ورؤية شاملة للوجود. إنها التعبير الأسمى عن صوت العقل وفضاء لطرح الأسئلة العميقة التي تثيرها روح الإنسان القلقة والباحثة عن المعنى في خضم الحياة. الفلسفة تقف ضد الخضوع لأصوات تصادر حرية الإنسان في التفكير، تلك التي تقول له: "لا تفكر، نحن نفكر لك". بل تدعو الفلسفة الإنسان إلى رفض أن يكون ألعوبة في يد الآخرين، وإلى التحلي بالشجاعة الفكرية ليكون سيد ذاته، ممارسًا التفكير النقدي والمستقل.

وكل عصر يحمل روحه الفلسفية الخاصة، حيث إن الفلسفة تعبر عن الهموم الفكرية والمشاكل الوجودية التي تواجه الإنسان في كل حقبة. إنها تمثل حوار العقول الكبيرة عبر الأزمان، من سقراط وأفلاطون إلى الفلاسفة المعاصرين، الذين سعوا جميعًا لفهم طبيعة الإنسان، الكون، والحياة. الفلسفة هي ميراث الأسئلة الخلاقة التي رافقت الإنسان منذ أن وطأت قدمه الأرض: لماذا نحن هنا؟، ما معنى الحياة؟، كيف يمكننا أن نعيش عيشة صالحة؟. هي انعكاس للتطلع نحو السماء والبحث عن إجابات للأسئلة الكبرى، تلك التي لا تزال تتردد في عقول البشر عبر التاريخ.

كما يحمل تاريخ الفلسفة إرثًا غنيًا بالمفاهيم التي شكلت طرق التفكير وأسست لرؤى مختلفة عن العالم. الفلاسفة لم يكتفوا بتقديم أفكار مجردة، بل أضفوا دلالات خاصة على المفاهيم التي استخدموها في بناء أنظمتهم الفكرية، مما جعل أسماءهم تقترن بالمفاهيم التي صنعوها وأبدعوها.وهنا نذكر أمثلة من الفلاسفة والمفاهيم المرتبطة بهم:

1- سقراط: اقترن بمفهومي "الفضيلة والرذيلة"، حيث ركز على الوسطية كطريق لتحقيق الخير الأخلاقي.

2- أفلاطون: ارتبط بفكرة "الحوار" كما يظهر في محاوراته، التي أسست منهجًا للتفكير الجدلي والاستكشاف الفلسفي.

3- ديكارت: اشتهر بـ"الكوجيتو " (أنا أفكر، إذن أنا موجود)، كنقطة انطلاق لبناء يقين معرفي.

4- ليبنتز: ارتبط بمفهوم "الموناد"، الذي يمثل الوحدات البسيطة التي تتألف منها جميع الكائنات.

5- كانط: عرف بالفكر "النقدي"، الذي يهدف إلى فحص حدود المعرفة والإمكانات البشرية.

6- برجسون: قدم مفهوم "الديمومة" لفهم الزمن كتجربة داخلية وليس كمجرد تسلسل ميكانيكي.

7- هيجل: اشتهر بـ"المطلق" كنقطة نهاية للوعي الجدلي.

8- هيدجر: ركز على "الكينونة" و"الدازاين" (الوجود- هنا)، لفهم الإنسان في علاقته بالوجود.

9- هوسرل: أسس مفهوم "القصدية" لفهم الوعي في توجهه نحو الظواهر.

10- ناقش جون أوستن مشكلة المفاهيم في مقالاته الرئيسية "هل توجد مفاهيم قبلية؟" وأوضح أن البحث فيها أشبه بالنبش في قبور الموتى لالتقاط بعض العظام، ولكنه يبدو عملاً شيقاً ويستحق الاجتهاد والدراسة. ونجده يقسم مقالته إلي ثلاثة أقسام: الأول: يدور حول مسألة الكليات universals من حيث أصلها ووجودها، والثاني: يبحث فيه طبيعة المفاهيم، والثالث: يرتكز فيه علي دراسة فكرة التشابه.

فعند دراسة أفكار الفلاسفة، لا يمكن عزل أفكارهم عن المفاهيم التي انطلقوا منها، إذ إن هذه المفاهيم تمثل الأدوات التي بواسطتها أبدعوا رؤاهم وطرحوا إشكالياتهم. الفهم الحقيقي لفلسفة أي مفكر يتطلب العودة إلى هذه المفاهيم الأصلية ودراسة كيفية استخدامها وتطويرها. رأى كانط الفلسفة باعتبارها "تفكيرًا بالمفاهيم"، حيث يتم استخدام المفاهيم لتحليل الواقع وتأطير التجربة الإنسانية.وأكد جيل دولوز أن الفلسفة ليست مجرد تحليل للمفاهيم الموجودة، بل هي إبداع للمفاهيم. يقول دولوز: "الفلسفة إبداع للمفاهيم".وبهذا، يرى أن وظيفة الفيلسوف الأساسية هي صياغة مفاهيم جديدة تعيد تفسير العالم وتفتح آفاقًا جديدة للتفكير.

وهنا يتبادر إلى الذهن سؤالان أساسيان، الأول: من هو جيل دولوز؟ والثانى: ماذا يعني تعريفه للفلسفة بأنها "إبداع للمفاهيم"؟.

جيل دولوز (1925–1995) هو فيلسوف فرنسي بارز في القرن العشرين، اشتهر بأعماله التي تمزج بين الفلسفة والفن والأدب والسياسة. ركزت فلسفته على الإبداع والتجديد في الفكر، حيث عُرف بقدرته على تفكيك الأنظمة الفكرية التقليدية وإعادة صياغتها بطرق مبتكرة. تعاون مع الفيلسوف فيليكس غتاري في عدة أعمال بارزة، مثل الرأسمالية والفصام، وأسهم في تطوير مفاهيم جديدة حول الفلسفة، والذات، والرغبة، والسلطة.. تصور جيل دولوز الفلسفة بوصفها عملية إبداعية تُنتج المفاهيم التي تعكس تفاعلات الفكر مع الواقع، ووصف نفسه بـ"الميتافيزيقي الخالص"، مما يشير إلى اهتمامه العميق بالتساؤلات الأساسية حول الوجود والمعرفة. في عمله المميز الاختلاف والتكرار، سعى دولوز إلى تطوير ميتافيزيقا حديثة تتماشى مع تطورات الرياضيات والعلوم المعاصرة. في هذه الميتافيزيقا، يتم استبدال مفهوم الجوهر بمفهوم التعدد، والحدث يحل محل الجوهر التقليدي، كما تحل الافتراضية محل الإمكانية.(8)

وإلى جانب جهوده الميتافيزيقية، أنتج دولوز دراسات مهمة في تاريخ الفلسفة، تناول فيها أعمال هيوم، وليبنتز، وسبينوزا، وكانط، ونيتشه، وبرجسون، وفوكو. كما امتدت اهتماماته إلى الفنون، حيث كتب دراسة في مجلدين عن السينما، بالإضافة إلى أعمال حول بروست، وزاخر مازوخ، وفرانسيس بيكون. اعتبر دولوز هذه الدراسات أعمالًا فلسفية خالصة وليست مجرد نقد، حيث سعى فيها إلى خلق مفاهيم فلسفية تعبر عن الممارسات الفنية لهؤلاء الرسامين والمخرجين والكتاب. إلى جانب جهوده الميتافيزيقية، أنتج دولوز دراسات مهمة في تاريخ الفلسفة، تناول فيها أعمال هيوم، ونيتشه، وكانط، وبرجسون، وسبينوزا، وفوكو، وليبنتز.(9)

في عام 1968، بدأ دولوز شراكة فكرية مع فيليكس جواتاري، الناشط السياسي والمحلل النفسي الراديكالي. أثمرت هذه الشراكة عن مجموعة من الأعمال المشتركة، أبرزها كتاب الرأسمالية والفصام المكون من جزأين: ضد أوديب (1972) وألف هضبة (1980)، وقد توّج هذا التعاون بعملهم الأخير ما هي الفلسفة؟ (1991) الذي يُعتبر تأملًا عميقًا في طبيعة الفلسفة وأهدافها.(10)

يرى جيل دولوز أن الفلسفة تتمثل في خلق أو بناء المفاهيم، وهي عملية إبداعية تعيد تشكيل الفكر. يُعرّف دولوز المفهوم على أنه تعدد مكثف، ينشأ على مستوى المحايثة (immanence)، ويسكنه ما يُطلق عليه "شخصيات مفاهيمية"، وهي عناصر ديناميكية تُفعّل الآلة المفاهيمية. هذه الشخصيات المفاهيمية ليست ذواتًا مستقلة، لأن التفكير عند دولوز لا ينبع من ذاتية فردية، بل يحدث في إطار العلاقة بين الإقليم (territory) والأرض (earth)، مما يعكس تفاعلًا بين الفكر والمحيط. في مقابل ذلك، يميز دولوز بين الفلسفة والعلم والفن من حيث الأدوار التي يؤديها كل مجال. فالعلم يخلق وظائف على مستوى مرجعي، بمعنى أنه يصوغ نماذج تفسيرية ومنهجيات تجريبية تعتمد على الدقة المرجعية. أما الفن، فيقوم بخلق "كتلة من الإحساس"، وهي مركب يتكون من تصورات (percepts) ومؤثرات (affects)، مما يعني أن الفن لا يكتفي بالتعبير عن الواقع، بل يعمل على إعادة تشكيله من خلال تجربة حسية عميقة.(11)

تعريف جيل دولوز للفلسفة بأنها "خلق المفاهيم" يترتب عليه ثلاث نتائج مهمة:

أولا: يُعرِّف جيل دولوز الفلسفة كنشاط يرتبط تقليديًا بالإبداع، وهو نشاط يتماشى مع طبيعة الفن. يرى دولوز أن الفلاسفة مبدعون، تمامًا مثل الفنانين، لكن ما يُبدعونه ليس لوحات أو منحوتات أو أفلامًا أو روايات، بل مفاهيم. في لغة دولوز، الفلاسفة يُنتجون المفاهيم، بينما يُبدع الفنانون مجموعات حسية تتألف من التصورات والتأثيرات هذا التمييز يبرز الفلسفة كعملية إبداعية تتوازى مع الفنون، لكنها تختص بصناعة أدوات فكرية، تهدف إلى تفسير العالم وفهمه بطرق مبتكرة وعميقة، في حين يعبر الفنانون عن تجربتهم من خلال وسائل حسية تثير المشاعر والتصورات.(12)

الإبداعات المفاهيمية، وفقًا لجيل دولوز، تحمل طابعًا شخصيًا يعكس هوية الفيلسوف الذي ابتكرها، تمامًا كما تحمل الأعمال الفنية توقيع الفنان. في عالم الفن، نُشير إلى "عباد شمس" فان جوخ أو "أعلام" جاسبر جون كأعمال مميزة تحمل بصمة مبدعها. وبالمثل، في الفلسفة، نتحدث عن "كوجيتو" ديكارت، أو "موناد" ليبنتز، أو "إرادة القوة" لنيتشه، وهي مفاهيم ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمبتكريها وتعبر عن رؤاهم الفكرية. حتى في الطب، يظهر هذا النمط من الإبداع المميز، حيث تُنسب اكتشافات معينة إلى مبتكريها، مثل مرض الزهايمر الذي يُنسب إلى الطبيب ألويس ألزهايمر، أو مرض باركنسون الذي يحمل اسم الطبيب جيمس باركنسون. هذا التشابه يعكس الطبيعة الإبداعية التي تربط بين المفاهيم الفلسفية والعلمية والفنية، حيث يُصبح كل منها نتاجًا فرديًا يعبر عن عبقرية مبتكره.(13)

ثانيا: تعريف دولوز للفلسفة بأنها "خلق المفاهيم" لا يقتصر على الإشارة إلى أن الفلاسفة مبدعون كالفنانين، بل يُظهر أيضًا أن الفنانين هم "مفكرون" على نفس القدر من الأهمية. بالنسبة لدولوز، التفكير ليس حكرًا على المفاهيم الفلسفية، بل هو عملية شاملة تتجسد بطرق مختلفة عبر الفنون. الفنانون، مثل الفلاسفة، يمارسون التفكير، ولكن من خلال أدواتهم الخاصة: الرسامون يفكرون من خلال الخطوط والألوان، حيث تتحول اللوحات إلى تعبير بصري عن أفكار معقدة. الموسيقيون يفكرون بالأصوات، حيث تصير الألحان والأنغام وسائل للتعبير عن حالات وجدانية وفكرية. الكتاب يفكرون بالكلمات، حيث تُصبح النصوص الأدبية حوامل لمعاني وأفكار عميقة. صانعو الأفلام يفكرون بالصور، حيث ينقلون رؤى وأفكارًا من خلال لقطات ومشاهد مترابطة.(14)

ثالثا: حسب جيل دولوز، لا يوجد أولوية لأي من الأنشطة الإبداعية – سواء كانت الفن أو الفلسفة – على الأخرى. فخلق مفهوم فلسفي ليس أكثر صعوبة أو تجريدًا من إنشاء صور مرئية أو مؤثرات جديدة في الفن. بالمثل، ليس من الأسهل قراءة صورة أو لوحة أو رواية مقارنة بفهم مفهوم فلسفي. هذه النظرة تشير إلى أن الفلسفة والفن يشتركان في نفس العملية الإبداعية، وكل منهما يعبر عن تفكير وتفاعل مع العالم بطرق مختلفة. دولوز يرفض الفصل بين الفلسفة والفنون أو العلوم أو السياسة. فالفلسفة لا يمكن أن تُمارس بشكل مستقل عن هذه المجالات الأخرى؛ فهي دائمًا في علاقة تفاعلية ومتبادلة معها. لهذا السبب، عندما كتب دولوز في موضوعات مثل الفنون أو العلوم أو الطب أو الطب النفسي، فعل ذلك كفيلسوف، مؤكداً أن أعماله في هذه المجالات يجب أن تُقرأ على أنها فلسفة، "لا شيء سوى الفلسفة" بالمعنى التقليدي للكلمة.(15)

نعم، هذه النقاط الثلاث تلخص بشكل دقيق طريقة دولوز في وصف العلاقة بين الفلسفة والفن، أو بشكل عام، بين الفلسفة وفعل الإبداع:

1- الفلاسفة مبدعون كالفنانين: الفلاسفة، مثل الفنانين، يبتكرون مفاهيم، وهذه المفاهيم هي أشكال إبداعية تعكس تفاعل الفكر مع الواقع. الفلسفة في هذا السياق تُعتبر فعلًا إبداعيًا بقدر ما هي عملية خلق مفاهيم جديدة.

2- الفنانون والمؤلفون هم مفكرون مثل الفلاسفة: الفنانين، مثل الفلاسفة، هم مفكرون، لكنهم يفكرون باستخدام مواد أو وسائط غير مفاهيمية. بدلاً من المفاهيم المجردة، يفكر الفنانون في صور، أصوات، ألوان، أو نصوص. هذه المادة الفنية هي وسيلتهم للتفكير والتعبير عن رؤاهم وأفكارهم.

3- لا أولوية لأي نشاط على الآخر: دولوز يؤكد أن لا أحد من هذه الأنشطة (الفلسفة، الفن، وغيرها) له أولوية على الآخر. يمكن للفلاسفة أن يخلقوا مفاهيم حول الفن، كما يمكن للفنانين والمؤلفين التعاون مع الفلسفة لإنشاء مفاهيم جديدة. هذا التعاون بين الفلسفة والفن يمكن أن يؤدي إلى ما يُسمى بـ "الفن المفاهيمي"، حيث يجتمع الفن والفلسفة لخلق شيء جديد يعكس التفاعل بين الفكرة والشكل.(16)

ثالثا: تعريف المهارة

تاريخيًا، استُخدم مصطلح "المهارة" skill للإشارة إلى العامل الحرفي والتقني. وقد كان مفهوم المهارة يشمل "القدرة على أداء مهمة محددة ذات طابع مهني أو تقني". أما اليوم، فقد توسّع ليشمل مجموعة متنوعة من المهام، مثل، فى مجال اللغة (القراءة، الكتابة، التحدث، الاستماع)، فى مجال الرياضة والأرقام (الحساب، القياس، التعامل مع الرسوم البيانية والجداول)، فى مجال التنسيق والبراعة فى الآداء (حل المشكلات، التعامل مع التحديات اليومية، بناء العلاقات الشخصية، محو الأمية الرقمية والتعلم المستمر). تُعد المهارات عنصرًا أساسيًا لإنجاز أي عمل، بدءًا من القراءة والكتابة والتواصل، وصولًا إلى التفكير النقدي، حل المشكلات، التحفيز، اتخاذ القرارات، القيادة، إدارة الذات، والتعلم المستمر.ومع تطور الزمن، تتغير المهارات استجابةً للمستجدات؛ حيث تختفي مهارات قديمة وتبرز أخرى، في إطار السعي نحو المزيد من الابتكار والتطور.(17)

للمهارة تعريفات كثيرة نذكر منها:

"البراعة والدقة في تنفيذ المهام."

"القدرة على استخدام المعرفة بفعالية وسلاسة في الأداء والتنفيذ."

"القدرة المكتسبة التي تمكّن الفرد من القيام بشيء ما بكفاءة عالية."

وتُعبر المهارة عن "الدراية والمعرفة المتكاملة، حيث إن المعرفة والمهارة يرتبطان بشكل متبادل، إذ تُعد المهارة تجسيدًا عمليًا للمعرفة يحدد العمل وينظمه."(18)

المهارة هى صفة شخصية تتميز بثلاث سمات رئيسية:

- البراعة: وتعنى القدرة على أداء المهام بدقة واتقان.

- الكفاءة: وتشير الى تحقيق النتائج الموجودة بأقللا جهد ووقت ممكن.

- التكيف: وهو القدرة على توظيف المعرفة واتلخبرة فى مواجهات تحديات وظروف متغيرة.

ويمكن توضيح ذلك كما يلى:

- إنتاجيًا: استخدام المهارة يؤدي إلى إنتاج قيمة معينة، سواء كانت مادية أو معنوية. فالمهارة تتيح تحويل المعرفة والخبرة إلى نتائج ملموسة ذات فائدة، مما يعزز الكفاءة ويزيد من الإنتاجية في مختلف المجالات.

- توسعيًا: يتم تعزيز المهارات وتطويرها من خلال التدريب المستمر والتعلم المنهجي. فالمهارات ليست ثابتة، بل يمكن صقلها وتحسينها عبر اكتساب خبرات جديدة، والتعرض لتحديات متنوعة، والاستفادة من الموارد التعليمية التي ترفع مستوى الأداء والكفاءة.

- اجتماعيًا: يتم تحديد المهارات وفقًا للسياق الاجتماعي والثقافي الذي ينتمي إليه الفرد. فالمجتمع يلعب دورًا محوريًا في تعريف المهارات ذات القيمة، وتحديد الأولويات بناءً على احتياجاته ومعاييره. كما أن التفاعل الاجتماعي يساهم في صقل المهارات من خلال التعلم التعاوني وتبادل الخبرات.(19)

6- خصائص النشاط المعقد الذي يتطلب فترة من التدريب المقصود، والممارسة المنظمة، بحيث يؤدى بطريقة ملائمة، وعادة ما يكون لهذا النشاط وظيفة مفيدة. ومن معاني المهارة أيضا الكفاءة والجودة في الأداء. وسواء استخدم المصطلح بهذا المعنى أو ذاك،فإن المهارة تدل على السلوك المتعلم أو المكتسب الذي يتوافر له شرطان جوهريان، أولهما: أن يكون موجها نحو إحراز هدف أو غرض معين، وثانيهما: أن يكون منظما بحيث يؤدي إلى إحراز الهدف في أقصر وقت ممكن. وهذا السلوك المتعلم يجب أن يتوافر فيه خصائص السلوك الماهر.(20)

7- هى القدرة على الأداء والتعلم الجيد وقتما نريد. والمهارة نشاط متعلم يتم تطويره خلال ممارسة نشاط ما تدعمه التغذية الراجعة. وكل مهارة من المهارات تتكون من مهارات فرعية أصغر منها، والقصور في أي من المهارات الفرعية يؤثر على جودة الأداء الكلي.(21)

8- هى:قدرة الفرد على داء االعمل بكفاءة اكبر من المعتاد.

9- هى السلوك المتعلم او المكتسب الذى يتوافر له شرطان جوهريان: اولهما ان تكون موجها نحو إحراز هدف معين وثانيهما ان تكون منظمة بحيث تؤدى الى احراز الهدف فى اقصر وقت واقل جهد ممكن.(22)

رابعا: تعريف التفكير الفلسفى

أي تفكير يتناول حقيقة معتقد فلسفي يُعد تفكيرًا فلسفيًا. وبينما يُعد الفلاسفة المحترفون أولئك الذين يجعلون التفكير الفلسفي مهنتهم، فإنهم لا يحتكرون هذا النوع من التفكير، حيث يمكن أن نجده أيضًا عند مفكرين آخرين، مثل العلماء، والأدباء، والنقاد، وغيرهم. تتسم المشكلات الفلسفية بتشابكها الوثيق؛ فكلما توصل الفيلسوف إلى حل لمشكلة معينة، ظهرت له مشكلات جديدة تتطلب حلولًا، مما يجعل الفلسفة عالمًا مليئًا بالإثارة والتجدد. وتتعدد فروع الفلسفة لتشمل مجالات متنوعة، منها: فلسفة العلم، فلسفة الدين، فلسفة الفن (الجماليات)، فلسفة التاريخ، فلسفة التربية، فلسفة الحكومة (الفلسفة السياسة)، فلسفة العلوم الاجتماعية، فلسفة الرياضيات وفلسفة اللغة، وغيرها من المجالات التى تعكس تنوع اهتمامات الفلسفة واتساع افقها.(23)

التفكر، ببساطة ووضوح، يُعد سمة من سمات الحياة اليومية، ويرتبط بالحس المشترك أو بالمفاهيم الدارجة. فهو جزء لايتجزأ من الممارسة الانسانية اليومية. بشكل عام، الفلسفة هي ممارسة الفكر المنضبط، تسعى باستمرار لتحقيق الحكمة وفهم الخبرة الإنسانية. وتهدف، في نهاية المطاف، إلى تحديد تلك الخبرة وتوجيهها. وفي هذا السياق، يرى ماكنتاير أن النشاط الفلسفي يمثل مخزونًا من الأفكار حول طبيعة الواقع والوجود والإنسان، بالإضافة إلى تقييم التجربة الإنسانية ذاتها. كما يشمل دراسة كيفية معرفة الأشياء، وتحديد المفاهيم التي يمكن توظيفها لحل المشكلات التي تواجه البشر.أما راندال، فيرى أن التقليد الفلسفي أشبه بـ"صندوق أدوات" يحتوي على مجموعة من الأدوات الفكرية التي يمتلكها الفيلسوف، ويستخدمها في معالجة المشكلات التي تواجهه.(24)

تسعى الممارسة الفلسفية جاهدة لتحقيق التوازن المثالي بين الوضوح والبساطة. إنها توازن دقيق بين التحليل الشامل للتجارب التي تشكل الإشكاليات المختلفة، وبين التكامل المستمر للتفاصيل المتناقضة داخل تلك التجارب.الغاية من التجربة الإنسانية تكمن في البحث عن جودة الحياة؛ حياة تتسم بالمبادئ، والقيم، والطمأنينة. ومن هذا المنطلق، يصبح البحث في الفلسفة بمثابة تنوير لما تعنيه جودة الحياة، وإضاءة للسبل التي تؤدي إليها.(25)

يقول الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت René Descartes (1596- 1650م): (أنا أفكر إذا أنا موجود)، وهو يؤكد بذلك أهمية التفكير فى الحياة وأن الإنسان (كائن لديه القدرة على التفكير). والتفكير أرقى سمة يتسم بها الإنسان الذي كرمه الله سبحانه وتعالى وميزه على غيره من سائر الكائنات الحية، وبه تمكن الانسان من بناء الحضارة الإنسانية وتحقيق الازدهار والتقدم فى جميع المجالات والانتقال من مرحلة البداوة إلى المدنية.

لكن اذا كان ذلك كذلك فما هو التفكير ؟.... ليس من اليسير تقديم تعريف دقيق لعملية التفكير، فهى من العمليات الحيوية المعقدة التى عجزت الدراسات الفسيولوجية والسيكولوجية عن ادراك كنهها،وكشف الغطاء عن أسرارها.(26) ومع ذلك توجد عدة تعريفات للتفكير نذكر منها:

1- تعريف ابن منظور:

يعرف الفكر بقوله: والفكر: إعمال الخاطر في الشيء، والتفكر اسم التفكير، ومنهم من قال فكري، ورجل فكير: كثير التفكير، وقال الجوهري: التفكر: التأمل.(27)

2- الفيروز آبادي:

يعرفه بقوله: "الفكر، بالكسر ويفتح إعمال النظر في الشيء كالفكرة".(28)

3- الراغب الأصفهاني:

يعرفه بقوله: “الفكرة قوّة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكّر جولان تلك القوّة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلاّ فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب".(29)

4- علماء البيولوجيا:

يعرفونه بأنه " المحاولات التى يبذلها الكائن الحى عندما يحاول أن يحل ما يواجهه من المشكلات فى بيئته، أو يتغب على ما يصادفه من صعاب لكى يتمكن من فهم هذه البيئة والسيطرة عليها أو التكيف معها ".(30)

5- شارلز فيرنيهو Charles Fernyhough

يعرفه بقوله: " التّفكير هو كل ما يقوم به العقل الواعي ويشمل العمليات الإدراكية، والحساب الذّهني، وتذكّر الأشياء كرقم الهاتف أو استحضار صورة معيّنة من الماضي وغيرها. وهو أيضاً الحوار الدّاخليّ المكثّف والموسّع، والذي يقوم بتجميع المعلومات وتحليلها".(31)

التفكير ميزةٌ أساسية منحها الله لكل إنسان، وبهذا لا يكون التفكير محصوراً بالفلاسفة وحدهم إنَّما يرتبط التفكير بكل إنسان، أما التفكير الفلسفي الذي يطرح التساؤلات المختلفة من خلال العقل، فإنَّ لكل إنسانٍ عقلاً، ولا بدَّ له أن يتفلسف في لحظةٍ ما، ويفكر في أي أمرٍ ما من حوله، أو يشك، ويحاول معرفة الحقائق وأسئلة الوجود وأعماق الأشياء، كما أنَّ التفلسف مفروضٌ على الإنسان كمعطى عقلي، أي أنّه جزءٌ من تكوين العقل البشري، وله علاقةٌ طبيعية ووثيقةٌ بالتفكير.(32)

بدأ التفكير الفلسفى المنظم فى اليونان منذ أواخر القرن السابع قبل الميلاد، وكان أقدم المذاهب الفلسفية المذهب الأيونى، وقد حاول أتباعه رد الأجسام المختلفة الى أصل أساسى، أو عنصر واحد، وزعم بعضهم أنه الماء أو الهواء أو النار أو التراب، وأجمعوا على أنه لاينشأ شىء من العدم، ولاينعدم شىء موجود، وقالوا بالشمول، وذلك فى أن هذا العالم روحا واحده تسوده وتنظمه.(33)

يسعى التفلسف أيضًا إلى توضيح الكلمات من خلال تحديد المفاهيم، ولهذا تكمن مشروعيته في تقليل أشكال سوء الفهم، وتفادي الالتباس، وضبط المحاور الدقيقة للخطاب. فالفلسفة تدفعنا إلى توجيه التفكير نحو الحقيقة، مما يساعدنا على فهمها بوضوح ودقة.(34)

خامسا: سمات التفكير الفلسفى

من خصائص التفلسف:

التحليل

التقييم النقدى

التفكير المجرد

الدافع العالى للانجاز

الاستقلال الفكرى

الشعور بالدهشة (35)

سادسا: تعليم الفلسفة

هل الفلسفة للجميع أم أنها حكر على الفلاسفة وحدهم، ولاتوجد عند غيرهم؟ وهل يمكن تعلم الفلسفة؟

"  الفلسفة للجميع"، لذلك يعتقد مارتن هيدجر أنه من المستحيل فهم طبيعة الفلسفة دون الانغماس فيها أو ممارستها من خلال التفلسف. فعندما نسأل: "ما هي الفلسفة؟"، نحن بالفعل نكون داخل الفلسفة، لا خارجها. نحن نعيشها ونتحرك داخل فضائها، وليس على أطرافها أو بعيدًا عنها. مع أن البعض يرى أنه من المستحيل إعادة إنتاج فلاسفة مثل أفلاطون، أرسطو، أو كانط، وإنه لا يمكن "تعلم" أن تكون فيلسوفًا. فعلى سبيل المثال، يعتبر صموئيل تايلور أن "الفلسفة أداة " مفقودة لدى الكثيرين. أما فريدريك نيتشه، فيعتقد أن "الفلاسفة يولدون، ولا يُصنعون". وفي السياق نفسه، يرى جون هارولد هايك أن "الفلاسفة الذين صُنعوا ليسوا فلاسفة حقيقيين". تتجلى الفلسفة إذًا كدعوة مفتوحة للجميع، لكنها تتطلب استعدادًا داخليًا وقدرة فطرية على التفكير العميق والبحث عن الحقيقة.(36)

خلاصة القول: لا ضير إطلاقًا في قبول الركائز السابقة التي تؤكد إمكانية تعليم الفلسفة من خلال التفسير والتحليل والتقييم النقدي للحجج والقضايا، والمتابعة الإبداعية والتواصل الفعّال. فمثل هذه المهارات لا تتطلب خلفية خاصة، وهي في متناول كل من يرغب في تعلمها. ومع ذلك، ليس الجميع قادرين على تعلم هذه الأنشطة الفلسفية أو إتقانها. إذ يتطلب الوصول إلى مستويات عميقة ومؤثرة في الفلسفة خلفية خاصة محددة تتألف من ثلاثة:

قدرة عالية على التفكير المجرد: تمكن الشخص من التعامل مع الأفكار والمفاهيم المجردة وتحليلها بعمق.عناصر أساسية.

دافع عالٍ لتحقيق الاستقلال الفكري: رغبة قوية في التفكير باستقلالية بعيدًا عن القوالب الجاهزة والتبعية الفكرية.

القدرة على الشعور بالدهشة الفلسفية: امتلاك الفضول والرغبة في التأمل والتساؤل حول الوجود والحياة والعالم.

حتى الأشخاص الذين يمتلكون المهارات الفلسفية الأساسية يحتاجون إلى تعلم الفلسفة لتعزيز هذه القدرات وتنميتها خلال عملية الدراسة والتأمل الفلسفي. بمعنى آخر: الأشخاص ذوو القدرات الفلسفية المحدودة: يمكنهم اكتساب وتعزيز القدرات الفلسفية الضرورية، مثل التفسير والتحليل والتقييم النقدي، ليتمكنوا من الانخراط في التفلسف بطريقة ما، حتى لو لم يصلوا إلى مستويات الاحتراف العالية. الأشخاص ذوو القدرات الفلسفية العالية: يمكنهم الاستفادة من تعلم الفلسفة لصقل مهاراتهم واكتساب التقنيات المهنية التي تساعدهم على التفلسف بشكل أكثر فعالية واحترافية، مثل تطوير منهجيات التحليل النقدي، وبناء منظومات فكرية متماسكة، والتواصل الفلسفي الفعّال.(37)

الخلاصة: أن تعليم الفلسفة ليس حكرًا على فئة محددة؛ فهو يخدم جميع الأشخاص، بغض النظر عن مستوى مهاراتهم الفلسفية. فهو يعمل على تمكين الأفراد من فهم أعمق، وتطوير أدواتهم الفكرية، وتعزيز قدرتهم على مواجهة التحديات الفكرية المعقدة بطريقة منهجية ومبدعة.

***

ا. د. ابراهيم طلبه سلكها

أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة – جامعة طنطا

...............................

الهوامش

1- د.ابراهيم طلبه سلكها: فلسفة العلم عند ستيفن تولمن، دار المصطفى للنشر والتوزيع، ص129

2- المرجع نفسه، ص ص 120- 121

3- الموضع نفسه

4- TYLER BURGE: CONCEPTS, DEFINITIONS, AND MEANING, Source: Metaphilosophy, Vol. 24, No, 4 (October 1993), pp. 309- 310

5- Ibid, p- 311

6- Kevin Dunbar, David Klahr: Scientific Thinking, BritainOxford University Press2012, P- 611

7- Lewis, Clarence Irving: mind and The world – othe 39 Qutilne of a theory of knowledge, Dover publication p- 89.

8- Edward N. Zalta and Uri Nodelman: "Gilles Deleuze" In" The Stanford Encyclopedia of Philosophy" , First published Fri May 23, 2008; substantive revision Fri Jun 3, 2022

9- Loc- Cit

10- Loc- Cit

11- Loc- Cit

12- Daniel W. Smith: On the Nature of Concepts, Journal of Philosophy: A Cross- Disciplinary Inquiry, Spring 2011, Vol. 6, No.15,p- 20

13- Ibid, p- 21

14- Ibid,p- 22

15- Loc- Cit

16- Loc- Cit

17- Mohamed S. Abdel- Wahab and others: PRODUCTIVITY, SKILLS, AND TRAINING: APROBLEM OF DEFINTION? Loughborough University, UK,p- 109

18- Kantrowitz, T. M: Development and Construct Validation of a Measure of soft Skills Performance. Ph. D. thesis, Georgia Institute of Technology, Atlanta, GA, 2005,p- 3

19- Green, F : What is Skill? An Inter- Disciplinary Synthesis published by the Centre for Learning and Life Chances in Knowledge Economies and Societies at: http://www.llakes.org

20- آمال صادق وفؤاد أبوحطب: علم النفس التربوى، الأنجلو المصرية، القاهرة، ط4، 1994م، ص 330

21- Cottrell, S: The study skills handbook, London, Macmillan press, Ltd,1999,p- 21

22- آمال صادق وفؤاد أبوحطب: مرجع سابق، ص658

23- MONROE C. BEARDSLEY and ELIZABETH LANE BEARDSLEY: PHILOSOPHICAL THINKING AN INTRODUCTION, Library of Congress, PRINTED IN THE UNITED STATES of AMERICA,1965,pp- 5- 11

24- Alasdair MacIntyre, After Virtue, second edition, (Notre Dame, IN: University of Notre Dame Press, 1984): 187.

Sea Also:

- John Herman Randall, Jr., How Philosophy Uses Its Past, (New York: Columbia University Press, 1963): 19.

25- William James, The Will To Believe, (New York: Dover Publications, 1897, 1956): p- 65

26- د.منير كامل وسرحان الدمرداش:التفكير العلمى، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة،ط2،1963،ص 9

27- ابن منظور: لسان العرب، مادة فكر

28- الفيروز أبادى:القاموس المحيط،مادة فكر

29- الراغب الأصفهانى:معجم مفردات أعلام القرأن، مادة فكر

30- د.منير كامل وسرحان الدمرداش: مرجع سابق، ص 10

31- Charles Fernyhough: "What do we mean by'thinking'?" www.psychologytoday.com, Retrieved,p- 21

Sea Also

Kevin N. Dunbar and David "Scientific Thinking and Reasoning - Abstract and Keywords", Oxford Handbooks - Scholarly Research Reviews, Retrieved 2020,p- 13

32- جوزيف بوخينسكى: مدخل إلى الفكر الفمسفي، دار الفكر العربى، مصر،ط3،1960،ص ص 6- 8

33- لورانس ڤانين- ڤيرنا: لماذا نتفلسف؟ سبل الحرية، ترجمة محمد شوقى الزين، دار الروافد الثقافية، ط1، ص ص 34- 35.

34- Oleksandr Kulyk: On the Possibility to Teach Doing Philosophy, ASIANetwork Exchange A Journal for Asian Studies in the Liberal Arts, December 2018,p- 2

35- Ibid,p- 4

36- Ibid,pp- 8- 9

37- Loc- Cit

في تاريخ الإسلام هجرتان؛ هجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة فراراً من أذى مشركي قريش، وهي أكثر وقائع السيرة النبوية في سياقها التاريخي جدلاً، وأخصبها حديثاً . والمستقرئ للسيرة النبوية يدرك أن دوافع الهجرة إلى الحبشة ليست خافية، كما أن تحديد مكانها ـ أي الحبشة ـ يدل على وعي رسول الله (ص) وسعة إدراكه بأساليب المشركين في مواجهة الدعوة الإسلامية. ولقد اختار الرسول (ص) الحبشة مكاناً للهجرة بعد أن تأكد أن النجاشي حاكم الحبشة ملك عادل لا يظلم عنده أحد. ولقد أشار الرسول (ص) إلى عدل النجاشي بقوله لأصحابه: ” لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد “.

ـ الهجرة الأولى.. دوافع ونتائج:

وحديث هجرة المسلمين إلى الحبشة لأمر شائك وشيق أيضاً؛ فالدوافع إلى الهجرة معلومة ويمكن للناظر حصرها في بعدين لهما ثالث هما؛ الاضطهاد الديني، والتعذيب والتكيل بالمسلمين. ولكن هناك سبب ثالث مهم جدير بالذكر والاهتمام، وهو نشر الدعوة خارج مكة، وهذا ما أشار إليه المؤرخون، حيث أشاروا إلى أن الرسول (ص) كان يبحث عن قاعدة أخرى غير مكة، قاعدة تحمي هذه العقيدة وتكفل لها الحرية، ويتاح فيها أن تتخلص من هذا التجميد الذي انتهت إليه في مكة، حيث تظفر بحرية الدعوة وحماية المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة ”.

إن واقعة هجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة فراراً من أذى مشركي قريش، لمن أكثر وقائع السيرة النبوية في سياقها التاريخي جدلاً، وأخصبها حديثاً. والمستقرئ للسيرة النبوية يدرك أن دوافع الهجرة إلى الحبشة ليست خافية، كما أن تحديد مكانها ـ أي الحبشة ـ يدل على وعي رسول الله (ص) وسعة إدراكه بأساليب المشركين في مواجهة الدعوة الإسلامية. ولقد اختار الرسول (ص) الحبشة مكاناً للهجرة بعد أن تأكد أن النجاشي حاكم الحبشة ملك عادل لا يظلم عنده أحد. ولقد أشار الرسول (ص) إلى عدل النجاشي بقوله لأصحابه: ” لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد “.

ولأن الفلسفة الكامنة وراء فكرة هذا الكتاب لا تعني مباشرة بذكر أحداث السيرة النبوية وتفاصيلها التاريخية فإننا سنلقي بعض الضوء على بعض الوقائع المرتبطة بحادثة الهجرة إلى الحبشة.

وهجرة المسلمين إلى الحبشة مثيرة وجاذبة للعقول؛ فالدوافع إلى الهجرة معلومة ويمكن للناظر حصرها في بعدين لهما ثالث هما؛ الاضطهاد الديني، والتعذيب والتكيل بالمسلمين، ولكن تفاصيل ما قبل الهجرة وأثنائها قد يحيطها قدر من الغموض، وربما نجد عتمة ونحن نتلمس أطراف هذه التفاصيل في سيرتي ابن إسحاق وابن هشام.

ولكن هناك سبب ثالث مهم جدير بالذكر والاهتمام، وهو نشر الدعوة خارج مكة، وهذا ما أشار إليه الأستاذ سيد قطب في كتابه ” في ظلال القرآن ”، حيث قال: ” ومن ثم كان يبحث الرسول (ص) عن قاعدة أخرى غير مكة، قاعدة تحمي هذه العقيدة وتكفل لها الحرية، ويتاح فيها أن تتخلص من هذا التجميد الذي انتهت إليه في مكة، حيث تظفر بحرية الدعوة وحماية المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة ”.

وهذا يجعلنا نسلم بالقول بأن هجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة كانت لمهمة سامية لنصرة الدين الإسلامي وتوسيع نطاقه خارج شبه الجزيرة العربية. ولكن يمكننا أن نقول في شأن هذه الهجرة أن معظم من هاجر إلى الحبشة لم يكونوا من أثرياء مكة، لذا قد لم تتح لهم فرصة السفر والترحال خارج مكة، ورغم أن هذه الملاحظة قد يراها البعض عيباً وقصوراً، إلا أن قلة الخبرة بالسفر جعلت هؤلاء المهاجرين الكرام يرون في هجرتهم مكرمة أولاً لأنهم يفوزون بدينهم بعيداً عن مشركي مكة، كما أن قلة الأسفار قد تكون فضلاً عند هؤلاء، لأنهم لم يخالطوا من قبل أخطار السفر والترحال والهجرة فمن ثم تكون نفوسهم وأفئدتهم مطمئنة بعض الشئ لما لم يخالطونه من مصاعب تقترن والسفر والهجرة والانتقال إلى أماكن بعيدة.

وقلة الثراء لم نكن نشير إليها لإلصاق عيب بصحابة رسول الله (ص)، فلن يكون منا هذا أبداً، ولكن للتأكيد على أمر بالغ الأهمية، فمعظم من سافر إلى الحبشة لم يجيئها تاجراً أو كرجل موسر، إنما جاءها بدينه الذي هو عصمة أمره، وهو محض نجاته من الشرك والوثنية، وكفى بالله رفيقاً وسنداً، كما أن عظمة التمسك بدين الله تفوق عظمة امتلاك المال والنفوذ والقوة بالجاه والعتاد، وكان هذا سر نجاح هجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة.

ويمكننا أن نتلمس عبقرية أخرى لرسول الله (ص) في اختياره للحبشة مكاناً للهجرة، وهي أن الحبشة كانت تعتبر مركزاً مهماً من مراكز التجارة، وهذا سيساعد المسلمين في العمل بعدما ضن عليهم اكتساب العيش والرزق في مكة نتيجة اضطهاد المشركين.

ـ الغرانيق العلا:

وقف المستشرقون طويلاً أمام حديث الغرانيق، ولا شك هي وقفة حقد وكراهية للإسلام ورسوله وللمسلمين كافة، حتى حينما سئل ابن إسحاق عن حديث الغرانيق قال: ” إنه من وضع الزنادقة ”.

ففي رمضان سنة خمس من تاريخ النبوة، أي بعد هجرة المسلمين بحوالي ستين يوماً خلت خرج رسول الله (ص) إلى المسجد الحرام، وكان حول الكعبة نفر كبير من قريش، وكانت قد نزلت على رسول الله (ص) سورة النجم، ولا شك أن قصة الغرانيق قصة ملفقة، ومتهافتة، دسها من دس حقداً وغلاً على الإسلام والمسلمين، وهي تعد بحق من الأساطير الخرافية التي لا ولن تليق بصاحب العصمة رسول الله (ص)، وتتلخص في أن رسول الله (ص) قرأ على هؤلاء النفر سورة النجم حتى بلغ قوله تعالى:) أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى (20) (سورة النجم / 19 ـ 20)، وقرأ بعدها (ص):” تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى ”، قال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، ولقد علمنا أن الله يرزق ويحيي ويميت ولكن آلهتنا تشفع عنده، فلما بلغ السجدة سجد، وسجد معه المسلمون والمشركون كلهم على السواء، إلا شيخاً من قريش؛ رفع إلى جبهته كفاً من حصى فسجد عليه.

ومعظم من ذكر هذه الأسطورة يقول إن رسول الله (ص) لما قالت قريش: ” أما جعلت لآلهتنا نصيباً فنحن معك ”، كبر عليه ذلك فجلس في بيته حتى أمسى، ثم أتاه جبريل (عليه السلام)فقرأ عليه سورة النجم، فقال جبريل (عليه السلام): أو جئتك بهاتين الكلمتين ؟، يقصد تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى، فحزن الرسول (ص) حزناً شديداً، وخاف من ربه، فأنزل الله عليه:) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) ((سورة الحج / 52).

والمستقرئ لهذه الواقعة التي لا تخرج عن كونها أسطورة من الأساطير الخرافية يتأكد على الفور أنها قصة ملفقة ومدسوسة على أكرم الخلق أجمعين، ويجدها تخالف العقل والمنطق والتاريخ والسياق النبوي نفسه.

فالقاطع للشك أن الله تعالى أخبرنا بأنه تعهد حفظ قرآنه من أن يدخل عليه ما ليس منه، يقول تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) ((سورة الحجر / 9).

ونعلم أنه ليس للشيطان حظ ونصيب من المؤمنين، فما بالكم برسول الله (ص)، يقول الله تعالى في كتابه العزيز:) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ (83) ((سورة ص /82 ـ 83). وكيف هذا، ورسول الله (ص) هو القائل لو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في شماله على أن يترك هذا الأمر أو يموت دونه ما فعل.

والحجة الأخيرة التي نوردها ونحن في سياق الحديث عن قصة الغرانيق، تتعلق بصاحب السيرة (ص)، فالعارف بالرسول (ص) وحياته وصفاته وشمائله ومكارم أخلاقه يأبى صحة هذه القصة الملفقة الباطلة. فهو منذ طفولته، ومروراً بصباه وشبابه لم يجرب عليه الكذب قط، وحادثة جبل الصفا معروفة وقد تم ذكرها في ثنايا هذا الكتاب من قبل، وكان صدق النبي (ص) مسلماً به عند الناس كافة، فهل يُعقل أن هذا الرجل الذي عُرِف بالصادق الأمين أن يقول على ربه ما لم يقل ؟.

وهل من الطبيعي أن مثل هذا الرجل بصفاته وصنائعه وطباعه يخشى الناس والله أحق أن يخشاه ؟ إن ما جاءت به قصة الغرانيق التي دسها من دس لضرب من المستحيل، ولو فكر بعض الحاقدين على الإسلام ورسوله قليلاً كيف يقول هذا رسول الله (ص) بعد عشر سنين من بعثته، وبعد أن احتمل هو ومن معه كل صنوف وفنون الاضطهاد والتعذيب والتنكيل والمقاطعة، وقطع سبل العيش والحصار الاقتصادي.

والمنافقون الذين يربطون بين قصة الغرانيق وبين عودة المهاجرين من الحبشة، لم يعوا ويدركوا أن السبب الحقيقي والرئيس لتلك العودة هو نصرة الإسلام وعزته بإسلام حمزة وعمر بن الخطاب (رضي الله عنهما)، حتى اضطرت قريش بقوتها وبطشها إلى مهادنة المسلمين، وحينما علمت قريش بعودة المهاجرين من الحبشة، أدركت أن شوكة الإسلام ستقوى ويعظم أمرها، ومن هنا فكرت ودبرت وضع الصحيفة التي قرروا فيها ألا يناكحوا بني هاشم، ولا يخالطونهم، كما أجمعوا أن يقتلوا رسول الله (ص) إن استطاعوا ذلك، والله حافظٌ لنبيه. وهذا يجعلنا نسلم بالقول بأن هجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة كانت لمهمة سامية لنصرة الدين الإسلامي وتوسيع نطاقه خارج شبه الجزيرة العربية.

ـ الهجرة النبوية.. عهد جديد:

وهجرة ثانية وهي الهجرة الخاصة بالرسول (ص) إلى المدينة المنورة، وكانت هجرته خالصة لوجه ربه سبحانه وتعالى مخلصاً فيها، فهيأ الله له إخلاصه وإخلاص صديقه أبي بكر الصديق (رضي الله عنه)، وهيأ الله لهما التوفيق في الهجرة. وحين عزم رسول الله (ص) على ترك مكة إلى المدينة، ألقى الوحي الكريم في قلبه وعلى لسانه هذا الدعاء الجميل: (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيرا) (سورة الإسراء: 80).

ولعل خير خبر عن حادث الهجرة وأصدقه ما رواه الصديق أبو بكر بنفسه، ولما لا، فعن أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها وعن أبيها) أنها قالت: كان لا يخطئ رسول الله (ص) أن يأتي بيت أبي بكر، أحد طرفي النهار إما بكرة، وإما عشيا، حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه رسوله في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهري قومه. أتانا رسول الله (ص) بالهاجرة، في ساعة كان لا يأتي فيها.

قالت: فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله (ص) في هذه الساعة إلا لأمر حدث. فلما دخل، تأخر أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله (ص) وليس عند رسول الله أحد إلا أنا وأختي أسماء، فقال رسول الله (ص): أخرج عني من عندك ! قال: يا رسول الله، إنما هما ابنتاي. وما ذاك ؟ فداك أبي وأمي.

قال رسول الله (ص): إن الله قد أذن لي بالخروج والهجرة. فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله ؟ قال: الصحبة. قالت أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها وعن أبيها): فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أباً بكر يومئذ يبكي. ولقد روى الصديق أبو بكر ما جرى ليلة سرى مع الرسول (ص) وهو ما جاء في حديث البراء بن عازب (رضي الله عنه).

فقال: ” أسرينا ليلتنا، حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق فلم يمر فيه أحد، حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل، لم تأت عليها الشمس بعد فنزلنا عندها، فأتيت الصخرة، فسويت بيدي مكاناً ينام فيه رسول الله (ص) في ظلها، ثم بسطت عليه فروة، ثم قلت: نم يا رسول الله وأنا أنفض ما حولك ” (أي أحرسك وأطرف هل أرى خبراً).

فنام رسول الله (ص) وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براع مقبل بغنمه على الصخرة يريد منها الذي أردنا، فقلت: ” لمن أنت يا غلام ؟ ”، قال: لرجل من أهل المدينة، فقلت: ” أفي غنمك لبن ؟ ”، قال: نعم، قلت: ” أفتحلب لي ” ؟. قال: نعم. فأخذ شاة، فقلت: ” انفض الضرع من الشعر والتراب والقذى ”، ففعل.

فأتيت النبي (ص) وهو نائم، فكرهت أن أوقظه، فوقفت حتى استيقظ، فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله، فقلت يا رسول الله اشرب، فشرب. ثم ارتحلنا بعد ما زالت الشمس، وأتبعنا سراقة بن مالك بن جعشم ونحن في جلد من الأرض (أي في أرض غليظة صلبة)، فقلت: يا رسول الله أتينا ؟، فقال: لا تحزن إن الله معنا، فدعا النبي (ص) فارتطمت يدا فرسه إلى بطنها، أي نشبت في الأرض ولم تكن تتخلص.

وكان المسلمون قد سمعوا بالمدينة خروج النبي (ص) إليها، فكانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة أول النهار، فينتظرون قدومه الشريف، فما يردهم ويقهرهم إلا حر الشمس، وذات يوم، أوفى رجل من يهود يثرب على أطم من آطامهم لأمر ينظر فيه، فبصر به وأصحابه مبيضين، فلم يملك هذا اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب، هذا حظكم الذي تنتظرونه. فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوه (ص) بظهر الحرة.

وقد روى الإمام البخاري أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قدم فنزل جانب الحرة، ثم بعث إلى الأنصار، فسلموا على المهاجرين الرسول (ص) وصاحبه الصديق، وقالوا: اركبوا آمنين مطاعين. فركب حتى نزل جانب دار أبي أيوب. ولقد فرح أهل المدينة بمقدم الرسول (ص) فرحاً شديداً، وصعد الصبية وذوات الخدور على الأجاجير يقلن:

طلع البدر علينا من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ما دعى لله داع

أيها المبعوث فينا جئت بالأمر بالمطاع

وخرجت جوار من بني النجار، يضربن بالدف، وهن يقلن:

نحن جوار من بني النجار يا حبذا محمد من جار

ولقد قال أنس (رضي الله عنه) يوم أن خرج رسول الله (ص) من مكة مرتحلاً ومهاجراً إلى المدينة: ” لما خرج رسول الله (ص) من مكة، أظلم منها كل شئ، فلما دخل المدينة، أضاء منها كل شئ ”.

إن أدهش ما في الهجرة العظيمة تفاصيلها، ومن تفاصيلها إحاطة الله عز وجل بنبيه وصاحبه، يقول تعالى في ذكر تفاصيل الهجرة: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 40).

وكم من سطور أكثر إمتاعاً تلك التي سطرها عالمنا وشيخنا الجليل الشيخ محمد الغزالي في كتابه الماتع (فقه السيرة) وهو يصور لنا حال السير والمسير في ظلمة الصحراء واصفاً هجرة النبي المختار (ص) وصاحبه: ” إن أسفار الصحراء توهي العمالقة الآمنين، فكيف بركب مهدر الدم مستباح الحق ؟. ما يحس هذه المتاعب إلا من صلى نارها ”.

لكن النبي (ص) في رعاية الله وآمنه، وكفى بالله حافظاً. أتى المهاجر العظيم (ص) المدينة وهو على يقين بأن الله ناصر لدينه، فما كان عليه إلا أن يؤسس البناء المتين لمجتمع إسلامي جديدة، ووضع عهوداً مدنية مع اليهود.

لم) تسترعي انتباهنا إلى حقيقة واحدة بجوار جملة من التفاصيل والإحداثيات والمواقف والقصص النبوية الجميلة، حقيقة أن رسولنا الكريم عظيم طيلة حياته، عظيم وهو صبي، عظيم وهو شاب يافع، عظيم وهو رجل مكتمل الرشد والرجولة، عظيم في سماحته، عظيم في يقينه بنصرة الله له، عظيم في إحسانه وبرِّه، عظيم في جهاده عظيم في كفاحه، في هجرته كان عظيماً أيضاً، لذلك استحق النبي (ص) أن ينال لقب المهاجر العظيم.

***

د. بليغ حمدي اسماعيل

أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية.

ـ كلية التربية ـ جامعة المنيا.

المهندسة المعمارية زَها حديد نموذجاً.. دراسة في ديناميكيات الابتكار الثقافي

(لا يمكنك استهلاك الإبداع. كلما استخدمته أكثر، زاد ما لديك)..  "مايا أنجيلو، شاعرة وكاتبة أمريكية"

يربط " ألبرت أينشتاين " الإبداع بالمتعة والذكاء قائلاً: ” الإبداع هو ذكاء الاستمتاع “، مما يشير إلى أن الدافع الداخلي والشغف بالعمل قد يكونان جزءاً أساسياً من العملية الإبداعية.

” العبقرية دالة على التغير، والتغير اشتياق وتطلع إلى عالم جديد “ (صمويل بتلر، كاتب وروائي من المملكة المتحدة).

” يُعد الإبداع حجر الزاوية الأساسية في التطور والتقدم البشري والتميز الحضاري، فهو القدرة على توليد أفكار أو حلول جديدة وقيمة. يتجلى الإبداع في شتى المجالات، من الفنون والعلوم إلى الأعمال التجارية والتنمية الشخصية، مما يجعله محط اهتمام المفكرين والباحثين على مر العصور. كما تتعدد أوجه الإبداع وتختلف تعريفاته باختلاف السياقات والتخصصات، إلا أن جوهره يكمن في الخروج عن المألوف وتقديم ما هو أصيل ومبتكر. إن فهم طبيعة الإبداع ومحفزاته وعلاقته بمختلف جوانب الحياة يمثل أهمية قصوى للأفراد والمجتمعات الطامحة إلى النمو والازدهار “. (الكاتب)

لا يحدث الإبداع من فراغ. فعندما ندرس الشخص المبدع أو المنتج الإبداعي أو العملية الإبداعية فأننا غالباً ما نتجاهل الوسط الثقافي والبيئي، أي أننا ننزع الإبداع من سياقه، غير أن الثقافة حاضرة دوماً فالعلاقة التي تربط بين ثقافة المبدع وإبداعه علاقة متينة، فقد قيل قديماً أن المبدع ابن بيئته، بمعنى أن ذات المبدع هي مرأة كاشفة تنبثق منها كل محددات هويته، وتتحول إلى رسالة جمالية إبداعية تنقل عمق شخصيته وجوهرها، وكلما كان المبدع صادقاً في عمله، صافياً في إبداعه، كلما ظهر ذلك جليّاً في أعماله.

تمثل انثروبولوجيا الإبداع ميداناً بحثياً حديثاً نسبياً ضمن العلوم الاجتماعية، إذ تسعى إلى فهم الإبداع الإنساني بوصفه ظاهرة ثقافية واجتماعية لا تقتصر على الأبعاد الفردية والنفسية فقط. وبينما ركزّت دراسات الإبداع التقليدية على العبقرية الفردية أو السمات النفسية، فإن الانثروبولوجيا تُعيد تعريف الإبداع في ضوء السياقات الثقافية والاجتماعية، مركزةً على كيفية تشكيل المجتمعات للابتكار الفني، والتكنولوجي، والمعرفي.

بذلك يهدف هذا المقال إلى تقديم محاولة تأصيلية لانثروبولوجيا الإبداع، من خلال تحديد المفاهيم الأساسية، واستعراض النظريات المفسرة، ورصد أهم مجالات الاهتمام البحثي، وصولاً إلى إبراز الأطر النظرية والمنهجية التي تشكل هذا الحقل المعرفي المتداخل، بالإضافة إلى طرح نموذج تطبيقي عن دراسة حالة إبداعية في العالم، حيث وقع الاختيار على المهندسة المعمارية العالمية " زَها حديد ".

تُعرّف الانثروبولوجيا باختصار شديد علم دراسة الإنسان في أبعاده البيولوجية، الثقافية، الاجتماعية، واللغوية. أما الإبداع فهو عملية توليد أفكار أو منتجات جديدة وملائمة ثقافياً ضمن سياق اجتماعي معين. بذلك يمكننا تعريف انثروبولوجيا الإبداع بأنها فرع من الانثروبولوجيا الثقافية تدرس الإبداع باعتباره ظاهرة اجتماعية وثقافية، محللةً الأطر التي تنتجه وتدعمه أو تكبحه داخل الجماعات البشرية. كما تُعنى انثروبولوجيا الإبداع بكيفية فهم المجتمعات لمفهوم " الجِدَّة ‌" و" الأصالة "، وكيفية تفاعل الأفراد والجماعات مع الأفكار أو الابتكارات الجديدة، ضمن شروطهم الثقافية والمعرفية.

سيكولوجياً، يُنظر إلى الإبداع بوصفه حالة نفسية تنبع من تفاعل معقد بين الإدراك، الانفعال، والدافعية. فالإبداع لا يُختزل في مجرد إنتاج شيء جديد، بل يعكس استعداداً داخلياً للفرد على التفكير خارج النماذج المألوفة، والقدرة على التفاعل الحي مع المحيط الثقافي والاجتماعي. وتؤكد الدراسات النفسية أن العمليات الإبداعية غالباً ما ترتبط بحالات وجدانية مثل التأمل، القلق الإيجابي، التوتر المنتج، أو حتى الحزن العميق، حيث يُستثمر هذا الانفعال في تحويل التجربة الذاتية إلى مخرجات ذات طابع جمالي أو فكري. وبهذا المعنى، فإن الإبداع لا يفهم فقط على أنه مهارة عقلية، بل هو تجربة وجدانية ومعرفية تترجم من خلال الفرد إلى سلوك تعبيري يتجاوز حدود العقلانية الصارمة ليُلامس مناطق اللاوعي والحدس والتخيل.

كما لا يُمكن فهم الإبداع بمعزل عن السياق الاجتماعي والثقافي الذي ينشأ فيه، فهو ليس فقط تعبيراً عن قدرات فردية، بل هو نتاج اجتماعي يجسّد تفاعلات الفرد مع محيطه. فالإبداع يتشكل داخل منظومات القيم والمعايير والتجارب الجمعية، ويعد استجابة لتحديات الواقع الاجتماعي أو نقداً له أو إعادة تشكيله. كما أن طبيعة المشكلات التي يسعى الإبداع إلى معالجتها، والوسائل التي يستخدم فيها، وحتى مدى قبوله وتقديره، كلها تتحدد وفقاً للبنى الاجتماعية السائدة. بهذا المعنى، فإن الإبداع هو فعل ثقافي جماعي، يعكس شروط الإنتاج التاريخي والاقتصادي والسياسي التي تؤطر المجتمع، وهو تعبير عن الوعي الجمعي بقدر ما هو تجلٍ لرؤية فردية.

بناءً على ما سبق يمكننا تعريف الإبداع بأنه " الوحدة المتكاملة لمجموعة العوامل الذاتية والموضوعية التي تقود إلى تحقيق إنتاج جديد، وأصيل وذي قيمة من قبل الفرد أو الجماعة " أو أنه " النشاط أو العملية التي تقود إلى إنتاج يتصف بالجدة والأصالة والقيمة من أجل المجتمع ". وأما الإبداع بمعناه العام الواسع فهو " إيجاد حلول جديدة للأفكار والمشكلات والمناهج... ويرى بعض الباحثين أن التفكير المبدع شكل راقٍ للسلوك يظهر في حل المشكلات، ويرون أن حل المشكلات يعد إبداعاً إذا ما حقق توافقاً مع واحد أو أكثر من الشروط الآتية:

1- أن يمثل إنتاج التفكير جِدة وقيمة (سواء بالنسبة للفرد أو للثقافة).

2- التفكير اللا اتفاقي، أي التفكير الذي يغير الأفكار المقبولة مسبقاً أو بنفيها.

3- التفكير الذي يتضمن الدافعية أو المثابرة والاستمرارية العالية التي تظهر على مسار العمل بشكل متقطع أو مستمر، والذي تكمن فيه القدرة العالية لتحقيق أمر ما.

4- تكوين مشكلة ما تكويناً جديداً. ذلك أن النشاط الإبداعي يظهر كجملة خاصة من النشاط في حل المشكلة المتسمة بالجدة واللا اتفاقية في تكوين المشكلة تكويناً جديداً.

وهكذا تنوعت آراء المفكرين حول تحديد مفهوم الإبداع، حيث سعى كل منهم إلى التقاط الجانب الأهم في هذه العملية المعقدة. ويلاحظ أن هناك اتفاق على أن الإبداع ينطوي على رؤية الأشياء بطريقة مختلفة، كما ورد في المقولة الشائعة: " الإبداع، هو النظر الى المألوف بطريقة غير مألوفة ". وهذه العبارة تؤكد على أهمية تحدي الافتراضات واستكشاف وجهات نظر جديدة في التجارب اليومية. وأن " القدرة على ربط الأمور بطريقة غريبة هي محور الإبداع الذهني بغض النظر عن المجال ". وهذا يشير إلى أن الإبداع يتضمن إقامة روابط بين عناصر قد تبدو غير متصلة للوهلة الأولى.

في واقع الأمر، يمثل الإبداع حاجة معرفية مجتمعية ملحّة، إذ يسهم في تجديد أنماط التفكير والإنتاج والمعنى داخل المجتمع، ويعكس سعي الجماعة البشرية إلى تجاوز الأطر المعرفية التقليدية في مواجهة التغيرات المتسارعة. فالمجتمعات، لا تتطور من دون مسارات إبداعية تفتح أفقاً جديداً للفهم والتأويل، سواء في العلم أو الفن أو التنظيم الاجتماعي. ويتم خلق الفعل الإبداعي لدى الأفراد من خلال تفاعلهم مع بيئات محفزة على التساؤل والنقد والتجريب، وهي بيئات تشجع على الانفتاح المعرفي وتقدير التنوع الفكري، وتقلل من سلطة الامتثال والقولبة. فكلما زادت قدرة المجتمع على إتاحة المجال للتعبير الحر وتقدير المختلف، زادت إمكانيات نشوء الفعل الإبداعي بوصفه ممارسة معرفية تُعيد صياغة الواقع وتنتج بدائل ممكنة له. فالإبداع والحفاظ عليه هو ارتباط تبادلي بين الكائن الحي وبيئته، وبالنسبة لمعظم البشر فالبيئة هي الثقافة التي تقدم مصفوفة ومحتوى للإبداع، وفي الواقع هي سياق كل سلوك إبداعي، تشجع الثقافة الإبداع إلى الحد الذي يوفر للفرد الفرصة لتجربة العديد من جوانب الإبداع، وتحديد وسائل مناسبة للتعبير الإبداعي.

كما يرتبط الإبداع ارتباطاً جوهرياً بحرية التعبير عن الذات، فهو يسمح للفرد بأن يستكشف هويته ويعبر عن تجربته الشخصية دون قيود مفروضة من قبل البنى الثقافية والاجتماعية. وتشير الأبحاث إلى أن الممارسات الإبداعية تعزز شعور الأفراد بالاستقلالية، حيث يمكنهم الخضوع لعمليات توليد الأفكار الإبداعية من تجاوز الحدود المعرفية والهيكلية التقليدية. كما ترتبط هذه الحرية بعوامل نفسية مثل الثقة بالنفس وتقدير الذات، إذ يساهم الإبداع في بناء صورة إيجابية للذات من خلال إتاحة المجال لاستكشاف الإمكانات الفردية والتعبير عنها بشكل فني أو فكري. هذا على المستوى الفردي. أما على المستوى المجتمعي نجد أن عملية الإبداع ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحرية التعبير عن الرأي، إذ تمكن هذه الحرية الأفراد من طرح أفكارهم ومواقفهم دون الخوف من الرقابة أو العقاب، مما يشجع على استكشاف رؤى جديدة وتحدي الأفكار السائدة. فعندما تتاح المساحة للقول الصريح والنقد البناء، تتحول المشاعر والانطباعات الشخصية إلى محركات للإبداع تفضي إلى إنتاج محتوى فكري وفني يعكس تنوع الخبرات والآراء داخل المجتمع. كما يشير تقرير منظمة اليونسكو إلى أن حماية حرية التعبير تساهم في إثراء التنوع الثقافي وتعزيز الابتكار، لأن التبادل الحر للأفكار يوفر بيئة حاضنة للإبداع الجماعي والفردي على حد سواء.

 وفيما يتعلق بصفات وخصائص الإنسان المبدع نجد أن الإنسان المبدع يتميز بمجموعة من السمات والخصائص منها النفسية، حيث تشمل الانفتاح على الخبرة الذي يعزز الدافعية الذاتية للانخراط في العمليات الإبداعية ويعتبر عاملاً وسيطاً بين الخصائص الشخصية والإنتاج الإبداعي، كما ترتبط قدرته على الابتكار بالمفعول الذاتي والثقة بالنفس التي تعزز الانخراط في الأنشطة الإبداعية والتحمس الدؤوب لتطوير أفكار جديدة. وتظهر الأبحاث أن المرونة المعرفية تلعب دوراً جوهرياً في إنتاج الحلول غير التقليدية من خلال القدرة على تبديل الأطر الذهنية واستيعاب وجهات نظر متعددة. فضلاً عن ذلك، يمتاز المبدعون بملامح متضادة متوازنة، كالجمع بين العفوية والانضباط أو الخيال والواقعية، مما يدعم قدرتهم على توليد أفكار مبتكرة ومجدية عملياً .

وعلى الصعيد الثقافي، يكوّن رأس المال الثقافي (المتمثل في المعرفة والمهارات والرموز المتوارثة) بيئة تغذي الإبداع عبر توفير قواعد معرفية غنية يمكن إعادة تركيبها بطرق جديدة، في حين تظهر دراسات مقارنة أن التنوع الثقافي يوسع نطاق الأفكار المولدة ويزيد احتمال نشوء رؤى إبداعية فريدة. اجتماعياً، ينعكس الإبداع في شبكات العلاقات التي توفر الدعم والتعاون، فقد لوحظ أن الأفراد المبدعين غالباً ما يعملون ضمن شبكات كثيفة تسمح بتبادل المعرفة والخبرات، مما يعزز الإنتاجية الابتكارية. كما تسهم شبكات الدعم الفني (التي تشمل الزملاء والموجهين والمساهمين) في صقل المهارات الإبداعية وتمكين المشاريع الفنية من النجاح. ويضيف المنظور الديناميكي للشبكات الاجتماعية أن التفاعلات المتكررة والمتنوعة داخل المجتمع تشكّل سياقاً يشجع على المقاربة الجديدة للأفكار وينشط دورة التجريب والابتكار المستمر .وأخيراً، تتكامل هذه العوامل لتجعل من الإبداع نتاجاً متعدد الأبعاد يجمع بين الاستعدادات النفسية، والثقافية الغنية، والبيئات الاجتماعية الداعمة التي تهيئ الظروف لظهور وإدامة الأفكار المبتكرة.

بناءً على ما سبق سنحاول الاستعانة بمجموعة من النظريات لفهم عملية الإبداع انثروبولوجياً منها النظرية البنائية الاجتماعية، حيث طُوّرت هذه النظرية على يد بيتر بيرغر وتوماس لوكمان عام 1966، وهي تفترض أن الواقع الاجتماعي بما فيه الأفكار، القيم، والمفاهيم، يتم بناؤه من خلال التفاعل بين الأفراد داخل السياقات الثقافية. ترتكز فكرتها الرئيسية بأن الإبداع لا ينبع من عبقرية فردية معزولة، بل هو نتيجة التفاعل مع الإطارات الاجتماعية، التي تحدد ما يعتبر " جديداً " أو " مقبولاً ". وتعتقد أن مفهوم التنشئة الاجتماعية من أهم المفاهيم ذات الصلة بعملية الإبداع على اعتبار أن ما يمكن اعتباره " إبداعاً " يتم تعلمه اجتماعياً من خلال عملية التنشئة الاجتماعية. كما تعتبر عملية إعادة إنتاج المعنى من أهم المفاهيم المرتبطة بمفهوم الإبداع، فالأفراد المبدعون ينتجون معاني جديدة عبر استجابتهم لتغيرات السياق الاجتماعي، وتم تطبيق هذه النظرية انثروبولوجياً من خلال دراسة كيف تحدد مجتمعات السكان الأصليين في أستراليا أنماط الفن التقليدي المسموح بإبداعه وتعديله؟

وفي ذات السياق ترى نظرية الفعل الإبداعي التي طورها ألفريد غيل عام 1998 ضمن عمله حول الفن والفاعلية، حيث رأى أن الإبداع عملية يعبّر فيها الأفراد عن قدراتهم الذاتية ضمن منظومات رمزية. فالإبداع هو فعل قصدي (Agency) يمارسه الأفراد رغم القيود الاجتماعية، لإحداث تغيير معنوي أو مادي. اعتمدت هذه النظرية على مجموعة أهم المفاهيم ذات الصلة بالإبداع منها الاستراتيجية الرمزية من خلال استخدام الرموز لإحداث معاني جديدة. والتحليل الثقافي الذي يهدف إلى تعديل الأنماط التقليدية لابتكار تعبيرات جديدة ضمن الموروثات الاجتماعية. وتم تطبيق هذه النظرية في تحليل كيفية تجديد فنون الجداريات الحضرية في أمريكا اللاتينية كأدوات مقاومة ثقافية.

أما فيما يتعلق بنظرية النسبية الثقافية في الإبداع المرتبطة أساساً بأعمال فرانز بواس وأتباعه الذين دافعوا عن أن لكل ثقافة معاييرها الخاصة للحكم على الأفعال والمعاني. وتذهب هذه النظرية أنه لا توجد معايير عالمية لقياس الإبداع، ما يُعتبر إبداعاً في ثقافة ما قد يُنظر إليه باعتباره خرقاً في ثقافة أخرى. وتؤمن هذه النظرية بالتنوع القيمي في فهم الإبداع ضمن أنظمته الرمزية المحلية، وعدم التمركز الثقافي أي تفادي قياس الإبداع بمعايير غربية أو معيارية. وتم تطبيق هذه النظرية عملياً في دراسة كيفية ابتكار أشكال جديدة من الطقوس الدينية ضمن المجتمعات الإفريقية استجابة للضغوط الاقتصادية والسياسية.

 وتذهب نظرية الشبكات الفاعلة في رؤيتها لعملية الإبداع، التي طورها كل من برونو لاتور وميشيل كالون وغيرهم، إلى رفض الفصل بين البشر والأشياء، معتبرةً أن كليهما يشتركان في تكوين الواقع. فالإبداع حسب رأيهم هو نتاج شبكة معقدة من العلاقات بين البشر والعناصر المادية وغير البشرية (أدوات، تقنيات، مواد، ...إلخ).

  وتعتمد هذه النظرية على مجموعة معينة من المفاهيم خلال تفسيرها لعملية الإبداع منها التحالفات الهجينة بين الفاعلين البشريين وغير البشريين. والتفاوض الشبكي من خلال إعادة ترتيب العناصر داخل الشبكة لإنتاج أنماط جديدة من الفعل أو التفكير. وتم تطبيق هذه النظرية في تحليل كيف ساعدت الهواتف المحمولة البسيطة في الريف الإفريقي على ظهور أساليب جديدة للابتكار الاجتماعي مثل (التحويلات المالية عبر الهاتف).

وأخيراً نظرية الأداء في تفسير الإبداع وتنطلق من أعمال إرفنج جوفمان 1958 في " عرض الذات في الحياة اليومية "، ثم توسعت لاحقاً مع جوديث باتلر في قضايا الهوية. وتعتقد هذه النظرية أن الإبداع يُمارس عبر الأداء الاجتماعي، أي عبر تمثيل الأدوار وإعادة تشكيلها باستمرار ضمن فضاءات ثقافية معينة. فالابتكار الأدائي يوضح لنا كيفية إنتاج هوية أو معنى جديد من خلال الأفعال المتكررة. بالإضافة إلى تحولات المعنى عبر الأداء حيث يمكننا أن نفهم كيف يمكن أن تؤدي نفس الأفعال إلى معانٍ جديدة حسب السياق الاجتماعي الجديد. وتم تطبيق هذه النظرية في دراسة كيف يبتكر الشباب الهويات الثقافية الجديدة عبر الرقص الحضري أو المسرح التفاعلي في البيئات الحضرية.

ومن أهم مجالات دراسة انثروبولوجيا الإبداع، الإبداع الفني والثقافي حيث يعتبر الفن أحد أهم الميادين التي تتجلى فيها انثروبولوجيا الإبداع. إذ تسعى الانثروبولوجيا لفهم كيفية تعريف المجتمعات لمفهوم " الفن "، وكيفية إنتاجه وتلقيه وتأويله. لا يُنظر إلى العمل الفني كمنتج فردي فحسب، بل كنتيجة تفاعلية مع منظومات الرمز والمعنى الجماعي. وتُحلل دراسات الإبداع الفني كيف تضع المجتمعات معايير " الجمال " و" الابتكار "، وكيف تتغير هذه المعايير عبر الزمن. كما أن الدراسات الحقلية تبحث كذلك في أدوار الفنانين ضمن أنظمتهم الاجتماعية من خلال الإجابة على التساؤلات التالية: هل يُنظر إليهم كقادة فكريين، أم كغرباء مبدعين، أم كجزء من الاقتصاد الثقافي؟

 ومن أهم مجالاتها أيضاً الابتكار التكنولوجي والتحول المادي حيث يرتبط الابتكار التقني بالإبداع الجماعي، إذ تركز انثروبولوجيا الإبداع على كيفية استجابة المجتمعات للاحتياجات اليومية عبر تطوير أدوات أو تقنيات جديدة. بهذا لا يُدرس الابتكار باعتباره اختراعاً فردياً بل كنتيجة للتفاعل بين الإنسان والبيئة والمواد. مثال ذلك: دراسة تطور أدوات الزراعة التقليدية في المجتمعات القروية باعتبارها ابتكارات استجابة للتغيرات البيئية. ويتم التركيز في هذا السياق على دراسة الكيفية التي تنتقل بها التقنيات عبر الثقافات (الانتقال الثقافي)، وكيف يُعاد تفسيرها ضمن السياقات المحلية.

كما تسعى انثروبولوجيا الإبداع إلى دراسة الأدب الشفوي والسرد الإبداعي من خلال عملية تحليل انثروبولوجيا الإبداع للأدب الشفهي والقصص والأساطير بوصفها أنماطاً من الإبداع الجمعي. بالإضافة إلى توضيح كيف يُعيد الساردون الشعبيون خلق الحكايات لتناسب التحولات الاجتماعية. بذلك تركّز الأبحاث في هذا السياق على آليات الإبداع ضمن القيود الثقافية مثل التوفيق بين احترام التقاليد وضرورة تقديم أشكال تعبير جديدة. كما تحاول فهم كيفية استخدام السرد لبناء الهوية الثقافية أو لإعادة صياغة الذاكرة الجمعية.

وفي ظل مفهوم العولمة الكونية برز مجال آخر في دراسات انثروبولوجيا الإبداع يدعى ريادة الأعمال والاقتصاد الإبداعي خاصة في السياقات التي تربط الابتكار بالاقتصاد. حيث تدرس الانثروبولوجيا كيف يُعاد تعريف مفاهيم النجاح والابتكار في المشاريع الصغيرة والمبادرات المجتمعية. كما تركز البحوث على كيفية دمج الممارسات التقليدية مع نماذج اقتصادية جديدة مثل: (السياحة الثقافية، أو الصناعات اليدوية المُطورة). وتستكشف كيف يُعزز الإبداع فرص التمكين الاجتماعي والاقتصادي، خصوصاً لدى الفئات المهمشة.

وتعتقد الانثروبولوجيا أن الإبداع عنصراً مركزياً في التحولات الاجتماعية والسياسية، خاصةً خلال فترات الأزمات أو الثورات أو التغيير السياسي. كما تُدرس أشكال الإبداع في الحركات الاجتماعية على سبيل المثال (الشعارات، والأغاني، والأشكال الجديدة للتنظيم الاجتماعي). وتبحث أيضاً تلك الدراسات كيف يستخدم الفاعلون الإبداع لتحدي الأنظمة القائمة أو لتخيل بدائل اجتماعية وثقافية، حيث يتم استخدام الفن الاحتجاجي أو الإعلام البديل كأدوات لإعادة تشكيل الفضاءات العامة.

ومع تزايد الهجرات والتواصل العالمي ظهر مجال الإبداع في التفاعل العابر للثقافات، يدرس علماء الانثروبولوجيا الإبداع الناشئ عن تلاقح الثقافات المختلفة. وتركز البحوث في هذا المجال على كيفية ابتكار هويات هجينة وأشكال فنية جديدة نتيجة التفاعل بين أنماط ثقافية متباين، وتتم دراسة كيف تُستخدم عناصر ثقافية معينة بطرق مبتكرة تتجاوز المعاني الأصلية لها من خلال عملية (التهجين الثقافي).

وأخيراً تدرس الانثروبولوجيا الإبداع في اللغة والتواصل، حيث تحلل انثروبولوجيا الإبداع كذلك كيف يتم ابتكار تعبيرات لغوية جديدة مثال ذلك (اللهجات الجديدة، أو المفردات المبتكرة) كاستجابة للتغيرات الاجتماعية والثقافية. وتدرس طرق ابتكار المعاني الجديدة، خاصةً في البيئات المتعددة اللغات أو في سياقات الإعلام الرقمي.

- دراسة حالة إبداعية (المهندسة المعمارية العالمية زَها حديد نموذجاً): الإبداع تجربة إنسانية متعددة الأوجه تنطوي على التفاعل بين عوامل الموهبة الوراثية، والتأثيرات البيئية أو الاجتماعية والثقافية ذلك أن جميع الأفراد لديهم القدرة على شكل من أشكال التعبير الإبداعي، ومع ذلك يتجلى الإبداع في طرق فريدة من نوعها بالنسبة لشخصية الفرد، وكذلك بما يتفق مع السياق الثقافي، وقد يُدرس الإبداع من حيث الخصائص الشخصية، وطرق المعالجة، والنتائج الذاتية، والمنتجات الثقافية، مما يؤكد تأثير الثقافة على جميع جوانب الإبداع.

وفيما يلي سنحاول استعراض دراسة حالة لأيقونة الإبداع المعماري المعاصر زَها حديد Zaha Hadid (1950–2016) التي تجسّد الإبداع كظاهرة متعددة الأبعاد نفسياً واجتماعياً. ولدت في بغداد وتلقت تعليمها الأول في الرياضيات قبل أن تلتحق بـArchitectural Association   في لندن، حيث جمعت بين تراثها الثقافي ومقاربتها التحليلية الصارمة والتجريب الشكلي الجريء لابتكار مبانٍ أعادت تعريف الهندسة التفكيكية. إن عمليتها الإبداعية ضمّت التفكير التحليلي العميق (متجذراً في خلفيتها الرياضية) مع رغبة في تحدي الأعراف السائدة في الشكل والوظيفة، فتوالدت هياكل سائرة وديناميكية تستثير الوجدان الفردي والفضاء العام. نفسياً، تعكس أعمالها انفتاحاً استثنائياً على الخبرة ومرونة معرفية وعزيمة صلبة في مقابل التحديات الجندرية والمهنية في بيئة يهيمن عليها الرجال. اجتماعياً، استفادت من شبكات المموّلين والمؤسسات (كجائزة بريتزكر) والمتعاونين العالميين للحفاظ على رؤيتها ونشرها، مسلّطةً الضوء على أن الإبداع فعل جمعي مزروع في سياق ثقافي. وتجسّد مشاريعها الأيقونية - مركز لندن للألعاب المائية، ومركز حيدر علييف، وأوبرا قوانغتشو- إرثاً يستمر في إلهام أجيال جديدة من المعماريين حول العالم. بناءً على ما سبق سنقوم بدراسة الحالة الإبداعية عند المهندسة زها حديد بالاعتماد على العناصر التحليلية التالية:

1- الخلفية والسياق الاجتماعي: ولدت زَها محمد حسين حديد اللهيبي في 31 أكتوبر 1950 بالعاصمة العراقية بغداد ضمن عائلةٍ سياسيةٍ وثقافية، فقد كان والدها رجل أعمالٍ وناشطًا سياسياً، ما أكسبها وعياً مبكراً بتشابك الثقافة والسلطة. درست الرياضيات في الجامعة الأميركية في بيروت (1968–1972)، ثم التحقت بمدرسة الجمعية المعمارية في لندن وتخرجت فيها عام 1977، حيث تأثرت في بداياتها بالسريالية (الفوق واقعية) ومشتقاتها الهندسية. أسست مكتب Zaha Hadid Architects في عام 1980، وواجهت صعوبات في الحصول على مشاريع بناء ملموسة، فتوجهت إلى عرض رسوماتها المستقبلية في معارض دولية حتى حظيت بالاهتمام العالمي.

2- الأبعاد النفسية للإبداع: برزت لدى زها سمات نفسية عدة تعتبر من ركائز الإبداع منها الانفتاح على الخبرة، حيث سمح لها شغفها بالتجريب الفني برؤية الفضاءات كنظمٍ متدفقة، متجاوزةً الهندسة الإقليدية التقليدية. بالإضافة إلى المرونة المعرفية حيث مكنها خلفيتها الرياضية من إعادة تصور الأنظمة الهيكلية على أنها شبكات ديناميكية، لا ككتل ثابتة. وأخيراً، الدافعية الذاتية والثقة بالنفس من خلال تحديها المتواصل للمعايير الذكورية والثقافية في مهنة يغلب عليها الرجال مما يدل على مستوى عال من الفاعلية الداخلية والدافعية الجوهرية.

3- الإبداع كفعل اجتماعي متجذر: تُظهر مسيرة زها حديد أن الإبداع فعل ينشأ في شبكة علاقات اجتماعية وثقافية متشابكة من خلال التركيز على التراث الثقافي الهجين، حيث استقت من تجربتها بين بغداد ولندن عناصر جمالية ومفاهيمية خلقت هوية معمارية فريدة تمزج بين الذائقة الشرق أوسطية والتقنيات الغربية. بالإضافة إلى حصولها على الاعتراف المؤسسي حيث حصدت جائزة بريتزكر Pritzker Prize عام 2004 والميدالية الذهبية من RIBA (منظمة مهنية للمعماريين في المملكة المتحدة) عام 2016، مما منحها شرعية دولية دعمت انتشار أفكارها وتصاميمها. وأخيراً قدرتها على التعاون المهني فبفضل شراكاتها مع مكاتب هندسية مثل Arup البريطانية وبلديات عالمية مكنت من تحويل تصاميمها الطموحة إلى واقع معماري ملموس.

4- عملية الإبداع والابتكار: اتبعت زها منهجية إبداعية تقوم على التكامل بين النظرية والتجريب النمذجة المعمارية الحاسوبية، حيث تبنّت مبكراً البرمجيات ثلاثية الأبعاد لاستكشاف أشكالٍ انسيابية ومعقدة لا يمكن تنفيذها يدوياً. بالإضافة إلى الرسم التخطيطي التعبيري لتحافظ على ممارسة الرسم الحر كأداة للتواصل الحي مع فريق العمل ولتوضيح الفكرة المكانية للمشروع. كما أنها وظّفت مواد مثل الخرسانة المسلحة المقوّاة بالألياف والفولاذ المنحني لإضفاء طابع ديناميكي بصري ووظيفي على مشاريعها (كما في دار الأوبرا في قوانغتشو). ومن أهم ومن أهم أعمالها التي نُفذت محطة إطفاء الحريق في ألمانيا، متحف الفن الحديث في مدينة سينسيناتي بأمريكا، ومركز الفنون الحديثة في روما، معرض منطقة العقل في الألفية بلندن، المركز الثقافي في أذربيجان وجسر الشيخ زايد في دولة الإمارات العربية المتحدة، محطة لقطار الأنفاق في ستراسبورج، المركز العلمي في ولسبورج، محطة البواخر في سالرينو، مركز للتزحلق على الجليد في إنسبروك، ومبنى بي إم دبليو المركزي، ومركز حيدر علييف الثقافي في باكو.

5- الأثر والإرث المعماري (العمارة السائلة):  تركت زها حديد إرثاً معمارياً بارزاً يتميز بلغة بصرية جديدة، حيث قاد أسلوبها المعروف (بالعمارة السائلة أي الانسيابية والقدرة على التدفق والحركة) جيلاً جديداً من المعماريين إلى تبني مبادئ الانسيابية والفضاء المتحرك. بالإضافة إلى قدرتها على تجاوز الحواجز الجندرية لكونها أول امرأة تحصد جائزة بريتزكر، فتحت الطريق أمام النساء في حقل العمارة على الصعيد العالمي. كما أن مبانيها في باكو وروما ولندن جسّدت روح التقاء التقاليد المحلية مع الابتكار العالمي، معززة دور العمارة كجسر للحوار الثقافي.

خلاصة القول، تمثل انثروبولوجيا الإبداع فتحاً معرفياً جديداً في مقاربة ظواهر الابتكار الإنساني، إذ تؤطره ضمن سياقات ثقافية وتاريخية محددة، متجاوزة الفهم الفرداني والنفسي للإبداع. وقد أظهرت النظريات المفسرة أن الإبداع لا يُنتج بمعزل عن البنى الاجتماعية بل يتفاعل معها تفاعلاً جدلياً. وتشير التوجهات البحثية المعاصرة إلى أهمية استكشاف المزيد من البيئات الثقافية المتنوعة لفهم تنوع الإبداع البشري. إن تعزيز هذا التخصص من شأنه أن يثري فهمنا للكيفية التي تتجلى بها الطاقات الخلّاقة في المجتمعات البشرية.

فظاهرة الإبداع جزء لا يتجزأ من السياق، إذ أنها تنطوي على شخص أو مجموعة من الأشخاص الذين يعملون ضمن السياق، وهذا السياق لديه العديد من المستويات والأوجه، فمن الممكن التمييز بين الخصائص الفيزيائية والاجتماعية للبيئة، حيث تقع ضمن نطاق البيئة الاجتماعية العديد من المستويات بدءاً من الأسرة والمدرسة، ومؤسسات العمل في المجتمع المحلي والبيئة الإقليمية إلى المستوى العالمي العابر للحدود الوطنية.

وفي النهاية يمكننا اعتبار الإبداع ظاهرة ملزمة من الناحية الثقافية، وليست مجرد عملية عقلية، وطبقاً لهذا المنظور ينتج الإبداع من خلال النظم الاجتماعية، وتقييم الأفكار، وإنتاج الأفراد أو الجماعات.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

.....................

- المراجع المعتمدة:

- روبرت ج. ستيرنبرج: المرجع في علم نفس الإبداع، ترجمة: خالد عبد المحسن وآخرون، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 997، ط1، 2005.

- قياتي عاشور: العلاقة بين الثقافة والإبداع من منظور سوسيو – انثروبولوجي، مجلة دراسات، العلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلد: 48، العدد: 04، ملحق: 01، عمان، 2021.

- عبد الستار إبراهيم: الإبداع وقضاياه وتطبيقاته، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط1، 2002.

- مجموعة من المؤلفين: سيكولوجية الإبداع – أسس نظرية وتطبيقات مؤسسية، تحرير: أيمن عامر، الإشراف العلمي: زين العابدين درويش، كلية التجارة، جامعة القاهرة، القاهرة، ط1، 2017.

- علي الحمادي: صناعة الإبداع، دار ابن الحزم، بيروت، ط1، 1999.

- إلهام عبد الرحمن: تأثير الأنثروبولوجيا الرقمية في الإبداع التشاركي لإدارة العلامة التجارية عبر الأنترنت، مجلة العمارة والفنون والعلوم الإنسانية، المجلد: 07، العدد: 04، إبريل 2022.

- حسام الدين فياض: تقديم الذات الإنسانية عند إرفنج جوفمان (ما بين الفن المسرحي ونظام التفاعل الاجتماعي) المقال: العشرون، من كتاب: الإنسانية والمجتمع (ملامح الإنسانية في المجتمع المعاصر)،  سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب: السابع، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2025.

- حسام الدين فياض: العولمة الرمزية وثقافة التهجين الكوني (دور ثقافة اللوجو - الشعار- في تنميط الفكر الإنساني المعاصر)، موقع الحوار المتمدن، العدد: 8322، 24/04/2025. https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=866097

- حسام الدين فياض: طغيان عالم الأشياء في عصر ما بعد الإنسانية، صحيفة المثقف، أقلام فكرية، تاريخ النشر 04 آذار- مارس 2024. http://almothaqaf.com/aqlam-3/974299

- علي محمود جاسم الصراف: العمارة الانسيابية وتأثيرها على التصميم الداخلي والأثاث في ظل التكنولوجيا الرقمية المتقدمة، المجلة العلمية في بحوث العلوم والفنون النوعية، المجلد: 01، العدد: 12، الإسكندرية، ديسمبر 2019.

- Peter L. Berger & Thomas Luckmann: The Social Construction of Reality: A Treatise in the Sociology of Knowledge, New York: Anchor Books, 1966.

- Thomas Hylland Eriksen: Small Places, Large Issues: An Introduction to Social and Cultural Anthropology, 4th ed, London: Pluto Press, 2015.

- Alfred Gell: Art and Agency: An Anthropological Theory, Oxford: Clarendon Press, 1998.

- Tim Ingold: Making: Anthropology, Archaeology, Art and Architecture, London: Routledge, 2013.

- Bruno Latour: Reassembling the Social: An Introduction to Actor-Network-Theory, Oxford: Oxford University Press, 2005.

- R. Keith Sawyer: Explaining Creativity: The Science of Human Innovation. 2nd ed. Oxford: Oxford University Press, 2012.

- Zaha Hadid: Wikipedia, Last modified April 2025. https://en.wikipedia.org/wiki/Zaha_Hadid.

- Zaha Hadid: Biography, Buildings, Architecture, Death, & Facts. Britannica.com. Accessed 2 May 2025. https://www.britannica.com/biography/Zaha-Hadid.

- About Zaha: Zaha Hadid Foundation, Accessed May 2, 2025. https://www.zhfoundation.com/about-zaha-hadid/.

- The Abstractionist, The New Yorker, December 21, 2009. https://www.newyorker.com/magazine/2009/12/21/the-abstractionist.

- The Evolution of Zaha Hadid, Architect, JSTOR Daily, June 2022. https://daily.jstor.org/the-evolution-of-zaha-hadid-architect/.

- Zaha Hadid: The Architect-In-Chief, Glamour.com. Accessed May 2, 2025. https://www.glamour.com/story/zaha-hadid.

- How Zaha Hadid First Rose to Fame, Time.com, January 1999. https://time.com/4277849/zaha-hadid-1999-profile/.

- Remembering the Limitless Imagination of Zaha Hadid, Vogue.com, April 2016. https://www.vogue.com/article/zaha-hadid-tribute.

البيعة في لغة العرب: الصفقه على ايجاب البيع، وصفق يده بالبيع والبيعة، وعلى يده صفقا: ضرب بيده على يده عند وجوب البيع، وتصافقوا: تبايعوا، اما البيعة كمصطلح إسلامي:فتعني صفق اليد على اليد، فهي كما أصبحت في لغة العرب علامة على وجوب البيع، فقد اصبحت في الاسلام علامة على معاهدة المبايع للمبايع له ان يبذل له الطاعة في ما تقرر بينهما، ويقال: بايعه عليه مبايعة: اي عاهده عليه.

وورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: (ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله، يد الله فوق ايديهم، فمن نكث فانما ينكث على نفسه، ومن اوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه اجرا عظيما).

ولاحظ ان الاية نددت بالنكث –عدم الوفاء بمضمون البيعة واردفته بالوفاء الذي هو سبب للاجر العظيم ويلاحظ انها عهد غير قابل للنكول والتزام على المحكوم ولا توجد إشارة لالتزام الحاكم.ونذكر من سنة الرسول (صلى الله عليه وآله): ثلاث مرات أخذ الرسول (صلى الله عليه وآله) فيها البيعة من المسلمين:

البيعة الاولى أول بيعة جرت في الاسلام هي بيعة العقبة الاولى، فقد اخبر عنها عبادة بن الصامت وقال: وافى موسم الحج من الانصار اثنا عشر رجلا ممن اسلم منهم في المدينة وقال عبادة: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة النساء وذلك قبل أن يفرض علينا الحرب، على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل اولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين ايدينا وارجلنا، ولا نعصيه في معروف، فان وفيتم فلكم الجنة، وان غشيتم من ذلك شيئا فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له، وان سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله عزوجل: ان شاء عذب، وان شاء غفر، وسميت هذه البيعة ببيعة العقبة الاولى. وتلاحظ فيها التزامات المبايع دون ذكر المبايع له

البيعة الثانية الكبرى بالعقبة روى كعب بن مالك وقال: خرجنا من المدينة للحج وتواعدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة أواسط ايام التشريق، وخرجنا بعد مضي ثلث الليل متسللين مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاث وسبعون رجلا وامرأتان، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الاسلام ثم قال: (ابايعكم على ان تمنعوني مما تمنعون به نساءكم وابناءكم) فاخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع به أزرنا، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله اهل الحروب....

فقال أبو الهيثم بن التيهان: يا رسول الله ان بيننا وبين الرجال حبالا، وانا قاطعوها يعني اليهود فهل عسيت ان نحن فعلنا ذلك ثم اظهرك الله ان ترجع إلى قومك وتدعنا فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: (بل الدم الدم والهدم الهدم...) اي: ذمتي ذمتكم وحرمتي حرمتكم

وهنا نستفيد من قوله ودعا الى الله وتلا شيئا من القران انه عرض مشروعه السياسي او الحضاري كما نلاحظ اشتراط واحد ممن بايعوا شرطت وافقه عليه وهنا تبدو الالتزامات متقابلة وان كانت وافرة في المبايع اكثر من تفصيلات التزامات المبايع له

بيعة الرضوان، أو بيعة الشجرة في سنة سبع من الهجرة، استنفر رسول الله صلى الله عليه وآله اصحابه للعمرة فخرج معه الف وثلاثمائة، أو الف وستمائة، ومعه سبعون بدنة، وقال لست احمل السلاح، انما خرجت معتمرا واحرموا من ذي الحليفة، وساروا حتى دنوا من الحديبية على تسعة اميال من مكة، فبلغ الخبر اهل مكة فراعهم، واستنفروا من أطاعهم من القبائل حولهم وقدموا مائتي فارس عليهم خالد بن الوليد أو عكرمة بن ابي جهل، فاستعد لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: إنَّ الله امرني بالبيعة، فاقبل الناس يبايعونه على ألا يفروا، وقيل بايعهم على الموت، وأرسلت قريش وفدا للمفاوضة فلما رأوا ذلك تهيبوا وصالحوا رسول الله صلى الله عليه وآله...هذه ثلاثة أنواع من البيعة على عهد الرسول صلى الله عليه وآله وهي:

أ- البيعة على الإسلام وهي التزام المسلم بشريعة الإسلام كاملة وهذه ليست بيعة سياسية للحاكم

ب- البيعة على اقامة الدولة الإسلامية وهي التزام المسلم إزاء المشروع السياسي

ج- البيعة على القتال. وهي التزام المسلم بالمشاركة بالدفاع عن الإسلام

وعن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " البعة معناها انه على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، الا أن يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة "وهنا تبدو الالتزامات متقابلة بيد ان ما ينقض البيعة معاصي المبايع له اذا ظهرت ولم يراعها الفقهاء ويذكروا تفصيلاتها

وعن ابن مسعود قال: قال: " سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها " فقلت: يا رسول الله! ان ادركتهم كيف أفعل؟ قال: " تسألني يا ابن أم عبد كيف تفعل؟ فانه لا طاعة لمن عصى الله ".

وعن عبادة بن الصامت في حديث طويل آخره: " فلا طاعة لمن عصى الله تبارك وتعالى فلا تعتلوا بربكم ". وفي رواية: " لا تضلوا بربكم"..

ويتضح لنا ان للبيعة اركان

أ- المبايع وهو المتعهد بالطاعة

ب-المبايع له.وهو من له حق الطاعة من العباد

ج- مضمون البيعة المعاهدة على الطاعة او القيام بعمل ما.

ويلاحظ ان شروط تحقق البيعة المشروعة في الاسلام غير واضحة في الفقه الساسي

ولكن الفكر التنويري نظمها فركز انها تنعقد إذا توفرت فيها الشروط الثلاثة التالية:

أ- ان يكون المبايع ممن تصح منه البيعة، ويبايع اختياريا.

ب- ان يكون المبايع له ممن تصح مبايعته. وهنا لم يشترط الفكر الإسلامي ان يكون لديه برنامج عمل واضح ومعلوم عند المبايع انما اجمله بالقول ان تكون البيعة لامر يصح القيام به.

فلا تنعقد بيعة المكره، كذلك البيعة لا تنعقد بأخذها بالجبر وفي ظل السيف. ولا تصح البيعة للمتجاهر بالمعصية، ولا تصح البيعة للقيام بمعصية الله، وما حصل في دول الخلافة كلها عكس ما ورد في اعلاه

إذن فالبيعة مصطلح إسلامي، لها أحكامها في الشرع الإسلامي. فاذا توفرت شروطها فيرد فيها الحديث الشريف: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)

زلكن الفقه السياسي اطلقه بلا قيد فهي قطعا صحيحة في حق من لا يأمر بمعصية ولا يأمر بخلاف ما أمر الله، كما أنه لا بيعة لمن يعصي الله، لما ورد عن رسول الله (ص): (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) (صحيح البخاري، كتاب الأحكام،

وهذا الفرض لا يتحقق يقينا إلا في المعصوم، لأن غير المعصوم تصدر عنه المعصية، ولذلك لا سمع ولا طاعة للحكام الطغاة المتغلبين، ولا بيعة صحيحة في حقّهم

.. ويلاحظ في البيعه امر مهم وهو على رغم ان للنبي والامام عند الشيعة نص بحق ولاية الامر والحكومة وبتشريع من الله تعالى الا انه تعالى لم يرضخهم ويجبرهم لكون ان لهم حق الحكومة فقد تقرر ان يصل المعصوم الى السلطة بالطرق الاعتيادية وبغير طرق الاعجاز وذلك يتطلب وجود ناصرين له من البشر، فكان اخذ البيعة منهم لاجل التأكد من وجود ثلة كافية من الناس تعهدوا بنصرة المعصوم والعمل معه في جهاده وسائر اموره ولولاهم لعجز المعصوم بحسب القوة البشرية ومن دون الاعجاز عن تحقيق السلطة

وعلى هذا فقد رفض الشيعة جعل البيعة مؤسسة للحق السياسي وشرعية الخلافة لانه قد يبايع من لا تصح معه شرعاً، وقد كشف التأريخ عن صدق ذلك، فكم تولى منصب الخلافة، بأسم البيعة وقد تبين بعدها أنه لا يصلح لها بل افسد المفهوم وعاث في الأرض فسادا فالمبايعة إنما تعني الطاعة والامتثال لأوامره من كان مخلصا عالما حكيما نزيها عارفا بمصالح الناس

لقد كانت للبيعة في زمن الرسول دلالات وأهداف محددة:

- فعن عبادة بن الصامت رض أن رسول الله ـ ص: قال (بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله، فأمره إلى الله، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه) قال عبادة: فبايعناه على ذلك.

- ويلاحظ هنا الالتزامات على المبايع لان مضمون البيعة: عهد والتزام بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم والالتزام بأوامره ونواهيه، ونصرة الإسلام والمسلمين، والسمع والطاعة في كل الأحوال، والقتال في سبيل الله، وقول الحق وعدم الخوف في الله لومة لائم. وهذا لايستقيم مع غير المعصوم او ثبتت عدالته مطلقا.

لقد عرف فقهاء القانون الدولي البيعة بأنها التزام بالطاعة والإخلاص يرتبط به شخص تجاه الأمة أو العاهل الذي يكون المبايع من رعاياه. فروابط البيعة التزامات قانونية طبقا للعرف والمبادئ القانونية العامة، التي طبقت في النظام القانوني الإسلامي والتي تعطي السلطان حق الرئاسة في أمور الدنيا والدين على من يرتبطون به، وهي تشمل حق التشريع والقضاء والتنفيذ والإمامة، فذلك هو المضمون الحقوقي للبيعة وهو مضمون سيادي. وقد استعملت لفظة البيعة في محكمة العدل الدولية في مقابل كلمة "الالتزام التي هي في عرف القانون الصياغة القانونية لذلك فالالتزام بين البيعة في الإسلام والفكر الغربي:

إذا أردنا أن نعقد مقارنة بين الفكر السياسي الإسلامي والفكر الغربي بخصوص البيعة، نجد أنهما لا يتشابهان فانتخاب الحاكم هو تعاقد قائم بين طرفين لهما معا أهلية التعاقد على قبول برنامج الحاكم وطاعته والتعاقد السياسي لا يخرج عن مضمون هذا الفهم والفكر السياسي الإسلامي قد سبق الفكر الديمقراطي الغربي بالصياغة القانونية للالتزام

لكن الفكر الإسلامي يركز على التزامات المحكوم ولا يعطيه صراحة حق فسخ البيعة، بينما يقرر الفكر الغربي مبدأ العقد بين الأمة والحاكم بأن تتعهد الأمة أو الجماعة المبايعة له بالطاعة في كل ما يصدر منه في حدود برنامج البيعة التي اطلعت عليه ووثقت انه صادق في تنفيذه، وفقا لمبادئ حقوقية ودستور مكتوب، بينما في الفقه السياسي الإسلامي أورد بان تبايعه على كتاب الله وسنة رسوله، على ان يعاهد الإمام الأمة بأن يحكم بكتاب الله وسنة رسوله، وأن يقيم العدل بين الناس، ويأخذ لنفسه السمع والطاعة ممن أعطاهم هذا العقد، وفي ذلك اجمال بحاجة الى تفاصيل لان الاجماع يمكن ان يكون بصالح الحاكم

فعقد البيعة المطلوب حاليا هو "عقد حقيقي" أي مستوف للشروط القانونية ووضوح تفاصيل ما يبايع عليه وما هي واجبات الحاكم وأنه مبني على الرضا، وأن الغاية من هذا العقد أن يكون هو المصدر الذي يصحح سلطة الحاكم فالبيعة عقد، طرفاه: الأمة الرشيدة المطلعة على برنامج الحاكم والحاكم الصادق العفيف

مما تقدم يظهر

1- ان المراد والمقصد من ان البيعة في زمن المعصوم مضمونة النتائج ومحصنة من تسرب الاستبداد بالعصمة الثابتة للمعصوم بالنقل او الممارسة فالامة تعرفه جيدا وتعرف برنامجه واراءه في إدارة الشأن العام وتثق به وتامل منه تحقيق مصالها

2- ان البيعة في زمنه ص كانت بالأساس للالتزام بالإسلام عقيدة وشريعة واخلاقا فالبرنامج واضح والقبول به عن بينة والبيعة هنا ليست للشخص انما للبرنامج الذي تدار به الدولة والمجتمع فقياس البيعة بعد عصر المعصوم على عصره ومضمونها قياس مع الفارق لان حكام ما بعد عصر النبوة اخذوا البيعة لشخوصهم وبلا برنامج

3- ظهر ان البيعة ممارسة مجتمعية كانت قبل الإسلام لاظهار الولاء والطاعة لشيخ القبيلة او ملوك الفرس او الروم وهي ملزمة للمبايع ويحصل على الجوائز مقابل الإقرار الملزم بالطاعة ولب المناقشة ان البيعة تقليد سابق اخذته عصور السلطة بعد النبوة من تطبيقات سابقة ونظًر له الفقهاء مع قلة التعمق بالمفهوم القراني له ومقاصد ذلك المفهوم واظن ان ذلك يعد من التحولات المفاهيمية التي افضت الى تأسيس الاستبداد في تجربة تاريخنا الإسلامي على الأقل من عصر معاوية

4- لذلك علينا ان نفرق بين بيعة الرسول وبيعة الامام علي ع والبيعة التي حكاها لنا فقهاء السلطان لعدم تطابق الممارسة مع حقائق المضمون وهنا أحيل القارىء ان يطلع على طلب الامام علي ممن أراد بيعته ان تكون البيعة علنية شاملة بلا وسطاء (ك اهل الحل والعقد) واختيارية وفي مكان عام وبعد ان يستمعوا للبرنامج السياسي فقال لهم في المسجد، ان بيعتي لا تكون خفيا ولا تكون الا عن رضا المسلمين"، فقالوا: نبايعك.

5-  ولم يلاحق علي ع من امتنع عن البيعة مثل سعد بن ابي وقاص وعبد الله بن عمر الذي بايع يزيد في استباحة المدينة المنورة بعد واقعة الحرة على انه له عبد قن ليزيد

6- المثير للانتباه ان التنظيرات الفقهية تطبق اجماعا على انها اقرار بالطاعة والاذعان والانقياد ولا يذكر شرط الرضا الطوعي الا نادرا جدا حتى ان ابن خلدون يجعل مضمون البيعة تخويل الحاكم النظر في أمور المبايع نفسه وجميع أمور المسلمين

7- سؤال أخير يوجه للفقه السلطاني وهو في حالة عهد الحاكم السابق للاحق ما قيمة البيعة سوى القبول الاذعاني الذي يفضي لحاكمية الاستبداد

8- ذهب قائلون ان بيعة علي ع بعد مقتل عثمان انه قتل ولم يستخلف لذلك باتت البيعة ضرورية فبان ان الاصل هو توصية السابق كشرط للشرعية وليست البيعة سوى اعلان الطاعة للحاكم الجديد اما علي فلم يدع الناس الى نفسه ولم يجبرهم على بيعته بسيفه ولم يغلبهم باصحابه انما وضع برنامجه وخيًر الناس في بيعته

وقد اعلن برنامجه قال (ع): أيها الناس أعينوني على أنفسكم وأيم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه، ولأقودن الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق وإن كان كارها. وطبق ذلك عمليا في اول يوم أصبح فيه أميرا للمؤمنين (ع) بعد البيعة انه دخل بيت المال ودعى بمال كان قد اجتمع فقسمه ثلاثة دنانير بين من حضر من الناس كلهم فقام سهل بن حنيف فقال: يا أمير المؤمنين قد أعتقت هذا الغلام، فأعطاه (ع) ثلاثة دنانير مثل ما أعطى سهل بن حنيف.

ثم قال ع ألا لا يقولن رجال منكم غدًا، قد غمرتم الدنيا، فاتخذوا العقار، وفجروا الأنهار، وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة، فصار ذلك عليهم عارا وشنارا إن لم يغفر لهم الغفار اذا منعوا مما كانوا به، وصيروا إلى حقوقهم التي يعلمون لا يقولون: حرمنا ابن أبي طالب، وظلمنا حقوقنا، ونستعين بالله ونستغفره.

وأما من كان له فضل وسابقة منكم، فإنما أجره فيه عند االله، فمن استجاب لله ورسوله، ودخل في ديننا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده.

فأنتم أيها الناس عباد الله المسلمون، والمال مال الله، يقسم بينكم بالسوية، وليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى، وللمتقين عند الله خير الجزاء، وأفضل الثواب لم يجعل الله الدنيا للمتقين جزاءًا، وما عند الله خير للأبرار. وبذلك منع الامتيازات على أساس القدم بالدخول للاسلام او للجهاد من اجل كلمته فذلك كله مقايضة مع الله وليس على حساب حقوق الناس

قال: «وَاعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، وَلَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَعَتْبِ الْعَاتِبِ» أي ان لديه برنامجه الخاص ويعزز ذلك انه رفض شرط العمل بسيرة الشيخين

وقال ايها الناس انكم بايعتموني علي ما بويع عليه من كان قبلي وانما الخيار للناس قبل ان يبايعوا، فاذا بايعوا فلا خيار لهم، وان على الامام الاستقامة وعلى الرعية التسليم، وهذه بيعة عامة ولم تكن بيعتكم اياي‏ فلتة، وليس امري وامركم واحد، واني اريدكم لله، وانتم تريدونني لانفسكم، وايم الله لانصحن للخصم، ولانصفن المظلوم

9- اللافت ان عليا ع لم يذكر انه منصوص عليه ومبايع من يوم الغدير ولم يستعن بالنصوص انما تعامل كاي انسان غير مميز وبالعقلانية والحق والاستقامة الشخصية

10- لقد حصلت البيعة في ظرف فراغ دستوري كان يمكنه بسببها اعلان حالة طواريء والاحكام العرفية لكنه دعا في برنامجه الى الشورى والعمل بالحق والعدل والمساواة ورفض الامتيازات التي منحها عثمان لعدد من الصحابة رغم ان الظرف كانت فيه تلك البيعة بلا قوة دوله ساندة لارادة الامة تفرض بها ارادتها

***

ا. د. عبد الأمير كاظم زاهد

....................

المصادر

1- الطبري ج 3

2- ابن الاثير الكامل في التاريخ ج3-4

3- ابن كثير البداية والنهاية ج 7

4- ابن عبد ربه العقد الفريد

5- نهج البلاغة شرح ابن ابي الحديد

6- ابن قتيبة الامامة والسياسة

7- عبد العزيز الدوري مقتل عثمان

 

الجزائر وقائع ومعيقات نموذجا

المجتمع المدني ركيزة أساسية في بناء المجتمعات الحديثة، حيث يمثل المساحة الفاصلة بين الدولة والمواطنين، ويضم مختلف المنظمات والجمعيات غير الحكومية التي تهدف إلى تحقيق المصالح المشتركة وتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان. كما يوضح البحث كيف تطور مفهوم المجتمع المدني عبر التاريخ، بدءًا من الفكر السياسي الكلاسيكي مرورًا بفلاسفة العقد الاجتماعي مثل هوبز ولوك وروسو، وصولًا إلى الفلسفة الحديثة مع هيغل، ماركس، وغرامشي…، الذين قدموا تحليلات مختلفة حول دوره في المجتمع.

في السياق الجزائري، يبرز المقال دور المجتمع المدني في النضال التحرري ضد الاستعمار الفرنسي، ثم التحديات التي واجهها بعد الاستقلال بسبب هيمنة الدولة المركزية، قبل أن يعرف انفراجًا جزئيًا مع دستور 1989. ومع ذلك، فإن القوانين المقيدة، خاصة قانون الجمعيات 2012، لا تزال تعرقل نشاطه، رغم بروز دوره خلال الأزمات مثل جائحة كورونا والحراك الشعبي. يناقش البحث أيضًا العلاقة بين المجتمع المدني والدولة، حيث يُنظر إليه أحيانًا كعنصر داعم للاستقرار وأحيانًا كجهة معارضة. في الختام، يؤكد البحث على أهمية دعم المجتمع المدني لضمان مشاركة شعبية فعالة وتحقيق تنمية مستدامة في الجزائر.

باللغة الإنجليزية:

Civil Society as a Fundamental Pillar in Building Modern Societies

Civil society serves as a crucial pillar in the construction of modern societies, acting as the intermediary space between the state and citizens. It encompasses various non-governmental organizations and associations that aim to achieve common interests and promote democracy and human rights. The research also explores how the concept of civil society has evolved throughout history, from classical political thought to social contract theorists such as Hobbes, Locke, and Rousseau, and further into modern philosophy with Hegel, Marx, and Gramsci, who provided different analyses of its role in society.

In the Algerian context, the article highlights the role of civil society in the liberation struggle against French colonialism and the challenges it faced after independence due to the dominance of the central state. A partial political opening occurred with the 1989 Constitution. However, restrictive laws, particularly the 2012 Associations Law, continue to hinder its activities, despite its prominent role during crises such as the COVID-19 pandemic and the popular Hirak movement. The study also examines the relationship between civil society and the state, where it is sometimes seen as a stabilizing force and at other times as an opposing entity. In conclusion, the research emphasizes the importance of supporting civil society to ensure effective popular participation and achieve sustainable development in Algeria.

باللغة الفرنسية:

La Société Civile comme Pilier Fondamental dans la Construction des Sociétés Modernes

La société civile constitue un pilier essentiel dans la construction des sociétés modernes, représentant l’espace intermédiaire entre l’État et les citoyens. Elle regroupe diverses organisations et associations non gouvernementales visant à promouvoir les intérêts communs, la démocratie et les droits de l’homme. Cette recherche explore également l’évolution du concept de société civile à travers l’histoire, depuis la pensée politique classique jusqu’aux théoriciens du contrat social tels que Hobbes, Locke et Rousseau, et jusqu'à la philosophie moderne avec Hegel, Marx et Gramsci, qui ont apporté des analyses variées sur son rôle dans la société.

Dans le contexte algérien, l’article met en lumière le rôle de la société civile dans la lutte pour l’indépendance contre le colonialisme français, puis les défis qu’elle a affrontés après l’indépendance en raison de la domination de l’État central. Une ouverture partielle a eu lieu avec la Constitution de 1989. Cependant, des lois restrictives, notamment la loi sur les associations de 2012, continuent de freiner son action, malgré son rôle prépondérant lors des crises telles que la pandémie de COVID-19 et le mouvement populaire du Hirak. L’étude analyse également la relation entre la société civile et l’État, perçue tantôt comme un facteur de stabilité, tantôt comme une force d’opposition. En conclusion, la recherche souligne l’importance de soutenir la société civile afin de garantir une participation populaire efficace et de favoriser un développement durable en Algérie.

مقدمة:

في المجتمعات البشرية، لا تقتصر العلاقات بين الأفراد على الروابط الشخصية أو التفاعل داخل الأطر الرسمية، بل تمتد إلى فضاءات أوسع تتيح لهم فرصة التعاون، والتعبير عن تطلعاتهم، والمشاركة في الشأن العام. فمنذ القدم، سعى الإنسان إلى تنظيم ذاته ضمن مجموعات وهيئات تعمل على تحقيق مصالح مشتركة، سواء من خلال تعزيز التماسك الاجتماعي أو الدفع نحو التغيير والإصلاح. ومع تطور الفكر السياسي والاجتماعي، برزت أشكال جديدة من التنظيم تسعى إلى تحقيق التوازن بين حاجات الأفراد ومتطلبات السلطة، مما أتاح مجالات أرحب للتأثير في القرارات العامة والمساهمة في رسم ملامح المستقبل.

ومع تعاقب الأزمنة، شهدت هذه المساحات تحولات جوهرية، حيث تأثرت بالسياقات التاريخية والسياسية لكل مجتمع، وأصبحت تلعب أدوارًا محورية في نشر الوعي، وحماية الحقوق، وتعزيز قيم المواطنة. لكن في المقابل، واجهت تحديات عدة، تراوحت بين القيود المفروضة على أنشطتها، وضعف الموارد، والتأثيرات التي قد تحدّ من استقلاليتها. وفي ظل التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم اليوم، من عولمة متزايدة إلى ثورة رقمية تعيد تشكيل طرق التواصل والتنظيم، يبرز التساؤل: ما واقع هذه الفضاءات في المجتمعات الحديثة، وما مدى تأثيرها في ظل التحديات الراهنة؟

وفي السياق الجزائري، تكتسب هذه الإشكاليات أهمية خاصة، حيث مرت البلاد بمحطات تاريخية مختلفة أثرت في طبيعة هذه التنظيمات وأدوارها، مما يفتح المجال أمام تساؤلات أعمق حول ما ملامح هذه الظاهرة في الجزائر؟ وفيما تتمثل ابرز العوامل المؤثرة في تطورها، والتحديات التي تواجهها، وآفاقها المستقبلية؟

1. المجتمع المدني في اللغة:

بالرجوع إلى القواميس والموسوعات نجد في موسوعات الفلسفة والعلوم الاجتماعية ان مصطلح civil societé لم يرد فيها، بل وردت كلمة civil لكن جاء للتعبير عن مصطلحات اخرى وكذلك يستعمل لفظ civil في اللاتينية civis للتعبير عن دلالات ذات صلة بالحقوق الخاصة بالمواطن العادي (خلاف للجند) على خلاف معاجم تاريخ الأفكار فيظهر مصطلح civil disobedience بمعنى العصيان المدني ، وتطلق عليه هذه الصفة بمعنى عصيان القانون المدني او أنه عبارة عن مقاومة حضارية أو متميِّزة، او إنه إشتقاق من عصيان المواطنين الناجم عن إنعدام الحقوق المدنية1.

و يعرّفه جميل صليبا بأنه "المجتمع الذي تسوده قوانين وضعية تستهدف مصلحة الأفراد وتكفل لهم حقوقهم وهو يقابل المجتمع الطبيعي الذي يكون خاضعًا لقوانين طبيعية أو غريزية"2. لفهم هذا التعريف بشكل أكثر عمقًا، يمكن تفكيكه إلى عدة عناصر رئيسية. أولًا، يميز صليبا بين القوانين الوضعية والقوانين الطبيعية؛ فالقوانين الوضعية هي التي يضعها الإنسان من خلال مؤسسات الدولة لتنظيم العلاقات بين الأفراد وحماية حقوقهم، مثل الدساتير والقوانين المدنية، بينما القوانين الطبيعية أو الغريزية تحكم المجتمعات قبل ظهور الدولة، مثل غريزة البقاء والعلاقات القبلية. بناءً على ذلك، المجتمع المدني وفق صليبا هو المجتمع الذي تجاوز الحكم العشوائي ليحكمه نظام قانوني مصمم لصالح أفراده. ثانيًا، يركز التعريف على أن الهدف الأساسي للمجتمع المدني هو تحقيق مصلحة الأفراد وضمان حقوقهم، حيث لا يكون مجرد تجمع بشري، بل كيان تنظيمي يسعى إلى تحقيق العدل وحماية الحريات الفردية. ويوضح صليبا الفرق بين المجتمع المدني والمجتمع الطبيعي، حيث إن المجتمع الطبيعي يخضع لقوانين الغريزة والقوة، بينما المجتمع المدني يتميز بتنظيم العلاقات وفق قوانين متفق عليها تضمن العدالة بين الأفراد. حيث يضع تعريف صليبا القانون في قلب المجتمع المدني، ويعتبره المعيار الأساسي الذي يميزه عن المجتمعات البدائية، حيث إن المجتمع المدني ليس مجرد تجمع بشري، بل هو مجتمع منظم بقوانين تحقق العدالة وتحمي الحقوق الفردية، مما يجعله تطورًا عن المجتمعات التي تحكمها الفطرة أو القوة فقط.

2. المجتمع المدني في الإصطلاح:

فيعني مجموعة التنظيمات المستقلة ذاتيًا، التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، وهي عير ربحية تسعى إلى تحقيق مصالح أو منافع مشتركة للمجتمع ككل او بعض فئاته المهمشة (مثل مناطق الظل)، او لتحقيق مصالح أفرادها ملتزمة بقيم ومعايِّير الاحترام والتراضي والادارة السامية للاختلافات والتسامح وقبول الآخر3. أي أن المجتمع المدني هو مجموعة من التنظيمات المستقلة عن الدولة والأسرة، والتي تسعى إلى تحقيق مصالح المجتمع أو بعض فئاته المهمشة، مثل سكان مناطق الظل، أو حتى مصالح أفرادها، دون أن يكون هدفها الربح. وتشمل هذه التنظيمات الجمعيات الخيرية، والنقابات، والمنظمات غير الحكومية التي تعمل في مجالات مثل حقوق الإنسان، والتنمية، وحماية البيئة. ويعتمد المجتمع المدني على قيم الاحترام، والتسامح، وقبول الآخر، وإدارة الاختلافات بشكل سلمي، مما يجعله مساحة للتعاون والعمل الجماعي من أجل تحسين حياة الأفراد وتعزيز العدالة الاجتماعية.

كذلك يعرف بأنه مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، اي بين مؤسسات القرابة ومؤسسات الدولة التي لا مجال للإختيار في عضويتها، هذه التنظيمات التطوعية الحرة تنشأ لتحقيق مصالح افرادها او لتقديم خدمات للمواطنين أو لممارسة أنشطة إنسانية متنوعة، وتلتزم في وجودها ونشاطها بقيم ومعايِّير الاحترام والتراضي والتسامح والمشاركة والإدارة السامية للتنوع والإختلاف4. بمعنى أن المجتمع المدني هو مجموعة من التنظيمات التطوعية الحرة التي تنشط في المجال العام بين الأسرة والدولة، حيث يختار الأفراد الانضمام إليها طوعًا لتحقيق مصالحهم أو تقديم خدمات للمواطنين أو ممارسة أنشطة إنسانية متنوعة. يتميز المجتمع المدني بالتزامه بقيم الاحترام والتراضي والتسامح والمشاركة، مع احترام التنوع والاختلاف. وتشمل مؤسساته الجمعيات الخيرية، والنقابات العمالية، والمنظمات غير الحكومية، والأندية الثقافية والرياضية، وغيرها من الكيانات التي تساهم في تعزيز الديمقراطية والتعددية، وتقديم الدعم الاجتماعي، والتعبير عن تطلعات الفئات المختلفة في المجتمع، مما يجعله عنصرًا أساسيًا في التنمية المستدامة والتغيير الاجتماعي.

وفي إطار ما تقدم يمكن القول أن الركيزة الأساسية والأمر الاساس في قيام المجتمع هو الاعتراف المتبادل بين الدول من جهة والمجتمع المدني من جهة أخرى ومشروعية حقه في العمل ومزاولة أنشطته كافة دون معيقات. حيث يقوم المجتمع المدني على شكل منظمات كذا يمكن اعتبار الجمعيات التطوعية والاتحادات مثل النوادي الرياضية وجمعيات رجال الأعمال وجمعيات الرفق بالحيوان وغيرها من جمعيات حقوق الإنسان واتحاد العمال وغيرها. . . أمثلة على منظمات المجتمع المدني5.

3. المجتمع المدني عند الفلاسفة:

ـ توماس هوبز (1588/1679) المجتمع المدني لديه هو المرحلة التي تأتي بعد الحالة الطبيعية، حيث يخرج الافراد من حالة الحرب المستمرة عبر العقد الاجتماعي. في هذه المرحلة يتنازل الافراد عن حقوقهم الطبيعية لصالح سلطة حاكمة (سواء كانت ملكًا أو حكومة مطلقة) التي تضمن لهم الأمن والاستقرار مقابل التنازل عن حقوقهم لصالح الحاكم "القانون هو اساس المجتمع"مع غياب الحق في التمرد اجمالاً"المجتمع المدني عند هوبز هو مجتمع منظم تحكمه سلطة قوية تمنع الفوضى لكنه يقوم على الخوف والطاعة أكثر من الحرية والمساواة 6. حيث يرى هوبز أن المجتمع المدني يأتي بعد الحالة الطبيعية التي كانت مليئة بالفوضى والصراعات. ولتجنب هذه الفوضى، يوافق الأفراد على التنازل عن حقوقهم الطبيعية لصالح سلطة حاكمة قوية (ملك أو حكومة مطلقة)، والتي تفرض النظام وتضمن لهم الأمن والاستقرار. في هذا المجتمع، يكون القانون هو الأساس، لكن الأفراد يفقدون حقهم في التمرد، مما يجعله مجتمعًا قائمًا على الخوف والطاعة أكثر من الحرية والمساواة.

ـ جون لوك (1632/1704) يتأسس على حماية الحقوق

الطبيعية (الحياة، الحرية، الملكية) من خلال عقد اجتماعي يضمن حكومة شرعية تستمد سلطتها من رضا المحكومين7. يقوم المجتمع المدني على فصل السلطات (الفصل بين السلطة التشريعية والتنفيذية لمنع الاستبداد) ورفض الحكم المطلق (رفض أن تكون السلطة بيد شخص واحد دون قيود قانونية او دستورية) مع حق الأفراد في مقاومة الطغيان اذ إنتهكت الحكومة حقوقهم وتمردت (تغيِّير الحكومة) حيث رأى لوك ان المجتمع المدني ينظم الأفراد لحماية حقوقهم

يعتقد جون لوك أن المجتمع المدني يقوم على حماية الحقوق الطبيعية للأفراد، مثل الحياة والحرية والملكية، من خلال عقد اجتماعي يضمن حكومة شرعية تستمد سلطتها من رضا الشعب. في هذا المجتمع، يتم فصل السلطات التشريعية والتنفيذية لمنع الاستبداد، كما يُرفض الحكم المطلق الذي يمنح السلطة لشخص واحد دون قيود قانونية. وإذا انتهكت الحكومة حقوق الأفراد، فلهم الحق في مقاومة الطغيان وتغييرها، لأن الهدف الأساسي للمجتمع المدني عند لوك هو تنظيم الأفراد لحماية حقوقهم.

ـ جون جاك روسو (1712/1778) أن المجتمع المدني لديه يتشكل على يد أفراد احرار بالطبيعة وأخلاقيون بالقوة وما يمكنهم من تجاوز انعزالهم هو رغبتهم في الأمان وميلهم للتعاطف8 فالمجتمع الوليد عن فكرة العقد يحقق الإنتقال من الحالة الطبيعية ليجعل الانسان بشرًا كامل الإنسانية الى المجتمع المدني الذي لا يخضع لأي نظام إلهي او لنظام فرض الطبيعة وباعتباره رابطة أخلاقية، بدفع الأفراد الذين يشاركون على نحو كامل في الحياة السياسية للجماعة، حيث اعتبر أن المجتمع المدني قد يكون أداة لاستعباد الإنسان إذا لم يكن قائمًا على الإرادة العامة حيث رأى روسو أن المجتمع المدني يتشكل من أفراد أحرار بطبيعتهم وأخلاقيين بالقوة، حيث يدفعهم حب الأمان والتعاطف إلى تجاوز عزلتهم والتعايش في جماعة. هذا المجتمع، الناتج عن العقد الاجتماعي، يمثل انتقالًا من الحالة الطبيعية إلى مجتمع يحقق إنسانية الأفراد الكاملة، دون خضوع لأي نظام إلهي أو قوانين طبيعية مفروضة. وهو رابطة أخلاقية تدفع الأفراد للمشاركة الكاملة في الحياة السياسية. لكن روسو يحذر من أن المجتمع المدني قد يتحول إلى أداة لاستعباد الإنسان إذا لم يكن قائمًا على الإرادة العامة.

ـ فريديريك هيغل (1770/1831) عرفه بأنه"ذلك الحيِّز الإجتماعي والأخلاقي الواقع بين الأسرة والدولة ومؤسساته ضرورة بشرية لاغنى عنها. يشتمل على أفراد يتنافسون من أجل مصالحهم الخاصة لتحقيق حاجاتهم المادية "9 بالتالي هو ذلك التنظيم الذي يستهدف ملأ حيز الفراغ الإجتماعي والإقتصادي بين الدولة ومؤسساتها الحكومية من جهة، والأسرة من جهة أخرى مستعينا بمؤسسات وسيطة أُطلق عليها التعاونية الأهلية10. حيث يُنظر إلى المجتمع المدني كمرحلة بين الأسرة والدولة، يحقق فيها الأفراد استقلاليتهم ضمن إطار القانون المجتمع المدني هو المجال الاجتماعي والأخلاقي الذي يقع بين الأسرة والدولة، ويعد ضرورة لا غنى عنها في حياة الأفراد يضم أفرادًا يتنافسون لتحقيق مصالحهم المادية والخاصة، لكنه يعمل أيضًا على سد الفراغ الاجتماعي والاقتصادي من خلال مؤسسات وسيطة تعرف بالتعاونيات الأهلية يتيح هذا التنظيم للأفراد فرصة تحقيق استقلاليتهم ضمن إطار القانون، مما يجعله حلقة وصل بين الدولة والأسرة، حيث يسهم في تحقيق التوازن بين المصالح الفردية والمصلحة العامة.

ـ كارل ماركس (1818/1883) عرفه بأنه المجال الذي يعكس العلاقات الإقتصادية والطبقية داخل المجتمع وليس مجرد فضاء مستقل يوازن بين الدولة والمجتمع كما تصوره بعض الفلاسفة (من امثال: هيغل) ، ماركس رأى بأن المجتمع المدني هو بنية تحتية إقتصادية تتشكل من العلاقات الإنتاجية (البرجوازية والبروليتاليا) وتو الأساس الذي تقوم عليه الدولة والنضام السياسي، وبذلك فهو ليس ساحة محايِّدة للتفاعل ، إنما فضاء تتحكم به الطبقة المسيطرة إقتصاديًا11 (اي البرجوازية) في فكر ماركس تحرير المجتمع لايكون من خلال إصلاح المجتمع المدني بل عبر تغيِّيره جذريًا عبر الثورة الإشتراكية التي تلغي الملكية الخاصة وتحقق مجتمعًا بلا طبقات.

ـ انطونيو غرامشي (1891/1937) من أبرز المفكرين الماركسيِّين الذين طورو مفهوم المجتمع المدني بشكل جذري وهو عنده "ساحة الصراع الأيديولوجي" حيث تمارس الطبقة الحاكمة هيمنتها الثقافية12 عبر المؤسسات غير القسرية (مثل الاعلام، التعليم الكنائس… اي التي لا تستخدم القوة وانما التأثير وسيطرتها تكون بناءً على القبول الطوعي بإرادة الافراد وليس نتيجة الاكراه او القمع المباشر) وأن التغيِّير الاجتماعي لايكون فقط بالثورة العنيفة بل عبر تفكيك الهيمنة الفكرية ونشر وعي جديد، وهو دور المثقف العضوي الذي يناضل ضد الأفكار السائدة لصالح الطبقة الكادحة (مثل العمال، المزارعين، الموضفين…)

ـ ألكسيس دي توكفيل (1805/1859) كذلك إعتبر أن المجتمع المدني هو سلسلة لامتناهية من الجمعيات والنوادي التي تجذب المواطنين بكل عفوية، كمل أكد على دور الروابط والجمعيات الإجتماعية في تشكيل المجتمع المدني. حيث يُنظر إلى المجتمع المدني على أنه شبكة واسعة من الجمعيات والنوادي التي تنشأ بعفوية، حيث ينضم إليها الأفراد بدافع الاهتمام الشخصي أو الحاجة الاجتماعية وليس بفرض من الدولة. فهو سلسلة غير متناهية من المنظمات التي تتشكل وتتغير وفقًا لمتطلبات المجتمع، مما يجعله كيانًا ديناميكيًا ومتجددًا. وتلعب الروابط والجمعيات الاجتماعية دورًا أساسيًا في تشكيل المجتمع المدني، حيث توفر فضاءات للحوار والتعاون والتضامن بين الأفراد، مما يسهم في تعزيز قيم الديمقراطية والمسؤولية المشتركة. وبهذا، لا يقتصر المجتمع المدني على المؤسسات الرسمية، بل يتمثل في التفاعلات الحرة التي تجمع المواطنين خارج نطاق الدولة والسوق، مما يمنحه استقلالية وحيوية في بناء المجتمع وتطوره.

4. المجتمع المدني في الفكر العربي والإسلامي:

هو مفهوم يعكس دور الأفراد والمؤسسات في تنظيم شؤونهم بعيدًا عن سيطرة الدولة المباشرة، من خلال آليات مثل الوقف، الشورى، الحسبة، والتكافل الاجتماعي. في التراث الإسلامي، لم يكن المصطلح مستخدمًا بصيغته الحديثة، لكنه كان حاضرًا في بنية المجتمع عبر المؤسسات الأهلية التي قدمت خدمات اجتماعية وتعليمية واقتصادية بشكل مستقل، مثل الأوقاف التي مولت المدارس والمستشفيات، ونظام الحسبة الذي ضمن الرقابة الأخلاقية على الأسواق. أما في الفكر السياسي الإسلامي، فقد قدم ابن خلدون رؤية عن العصبية كعامل تماسك اجتماعي، بينما أشار الماوردي إلى دور "أهل الحل والعقد" كممثلين للمجتمع في اتخاذ القرارات، وركز ابن تيمية على مسؤولية المجتمع في مراقبة الحاكم. ومع دخول الحداثة، تأثر المفكرون العرب بالنموذج الغربي للمجتمع المدني، حيث دعا رفاعة الطهطاوي إلى تأسيس مؤسسات مدنية تدعم التقدم، بينما اعتبر عبد الرحمن الكواكبي أن قوة المجتمع المدني ضرورية لمواجهة الاستبداد. وفي الفكر العربي المعاصر، انقسمت الرؤى بين تيار إسلامي وقومي يرى المجتمع المدني متجذرًا في القيم الدينية، وتيار ليبرالي وعلماني يؤكد على فصله عن الدولة لضمان الديمقراطية وحقوق الإنسان. ورغم التحديات، (مثل تدخل الدولة وضعف الحريات) يبقى تعزيز المجتمع المدني ضروريًا للنهوض بالمجتمعات العربية وتحقيق التنمية المستدامة13.

ومنه يشير مفهوم المجتمع المدني إلى دور الأفراد والمؤسسات في تنظيم شؤونهم بشكل مستقل عن الدولة، من خلال آليات مثل الأوقاف، والشورى، والتكافل الاجتماعي. ورغم أن المصطلح لم يكن مستخدمًا بصيغته الحديثة في التاريخ الإسلامي، إلا أن بنيته كانت حاضرة في مؤسسات أهلية، كالأوقاف التي مولت المدارس والمستشفيات، ونظام الحسبة الذي راقب الأسواق. وقد قدم مفكرون مثل ابن خلدون رؤى حول العصبية كمصدر للتماسك الاجتماعي، والماوردي عن دور "أهل الحل والعقد"، وابن تيمية عن مسؤولية المجتمع في مراقبة الحاكم. مع دخول الحداثة، تأثر المفكرون العرب بالنموذج الغربي؛ فدعا الطهطاوي إلى تأسيس مؤسسات مدنية تدعم التقدم، واعتبر الكواكبي المجتمع المدني قوة ضرورية لمواجهة الاستبداد. وفي الفكر العربي المعاصر، برز اتجاه إسلامي يربط المجتمع المدني بالقيم الدينية، مقابل تيار ليبرالي يدعو لفصله عن الدولة لضمان الديمقراطية. ورغم التحديات التي تواجهه، مثل تدخل الدولة وضعف الحريات، يبقى المجتمع المدني عنصرًا أساسيًا لتحقيق التنمية في العالم العربي.

5. المفاهيم ذات الصلة بالمجتمع المدني:

فنجده يشمل مجموعات ومنظمات تعمل لخدمة الناس دون أن تكون جزءً من الحكومة (أي مستقلة تماما) هنالك مفاهيم قريبة منه مثل المجتمع الأهلي الذي يمثل كل كيان قائم على الروابط التقليدية (مثل الاسرة، العشرة، القبيلة…) والمجتمع السياسي الذي يشمل الأحزاب والحكومات كما نجد أيضا المجتمع المحلي الذي يهتم بمشاكل الناس في منطقتهم، والقطاع الثالث الذي يشمل الجمعيات الخيرية والمنظمات غير الربحية. كذلك الحركات الاجتماعية التي تسعى للتغيير في قضايا (مثل حقوق الإنسان والبيئة) والمنظمات غير الحكومية التي تعمل بشكل مستقل عن الدولة والشركات لمساعدة الناس وتحسين المجتمع.

حيث عَبَرَ المجتمع المدني من خلال نشأته بمراحل عديدة في سيرورة حتى وصل إلى التركيبة المميزة له في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة في عصرنا الحالي. وينبغي أن ندرك أن كل مرحلة توزعت بتوفر إلى حد ما أقل من المتطلبات اللازمة لتميز المجتمع المدني بتركيبته الخاصة. وبهذا الخصوص هناك من يحدد مجموعة من الشروط التاريخية التي من خلال فصلها مناخا تماما، بل من الضروري أن نبرز ما يسمى بالمجتمع المدني في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة. ولا مانع من وجود شرطين على الأقل للدلالة على وجود المجتمع المدني الذي يجب تمييزها عن ظواهر مثل: الليبرالية، الاقتصاد الرأسمالي وغيرها من الظواهر الأخرى المصاحبة لقيامه كذا ظهور الفروق بين الديمقراطية الحديثة في الدولة الليبرالية وتحرر في التنظيمات التطوعية والمنظمات في المجتمع بالنظر إلى هذه المجموعة من الاشتراطات البسيطة التي بدأت عن المرحلة الأولى في مستوى الوعي الاجتماعي والتحولات الاستراتيجية على نظام المجتمع وتأريخ سيره واشتغاله، وهي صلاحيات تتحدد تاريخيا واجتماعيا، والقيام بذلك عن طريق المشاركة أو الخروج عن طريق المؤدي إليها. هذا الطريق الذي يمر حتما بترسيخ الممارسة وضمان حقوق الإنسان وحيث يمكن القول أن المجتمع المدني يمثل حجر أساس وركيزة أساسية في بناء مجتمعات أكثر تماسكًا ووعيًا.

6. تجليات المجتمع المدني في الفكر الجزائري:

حتى في بلدنا الجزائر نموذجا بارزا فإذا أردنا إسقاط هذه الفكرة عليها فنجد لديها أهمية كبيرة ذلك بإلقاء الضوء على المناطق المهمشة سواء مناطق ظل او مؤسسات تعرف تقشفا ونوعًا من التهميش من قبل السلطات سواء أكان تهميشاً عفويا أو غير ذلك، حيث يتاح للأفراد فرصة المشاركة الفاعلة في القضايا العامة بعيدًا عن سلطة الدولة والسوق، ومن خلال دوره في دعم الإستقرار كذا تعزيز القيم الديمقراطية وحيث يعدّ المجتمع المدني في الجزائر بذلك عنصرًا أساسيًا في النسيج الاجتماعي والسياسي، حيث يضم مجموعة واسعة من الجمعيات، والمنظمات غير الحكومية، والنقابات، والمبادرات التطوعية التي تسعى إلى تعزيز الحقوق، وتحقيق التنمية، وتقديم المساعدة الإنسانية. ورغم أن دوره أصبح أكثر بروزًا في السنوات الأخيرة، إلا أنه لا يزال يواجه تحديات هيكلية وقانونية تعرقل تطوره وفعاليته. تاريخيًا، كان المجتمع المدني في الجزائر مرتبطًا بالحركات التحررية والاجتماعية منذ فترة الاستعمار الفرنسي، حيث لعب دورًا حيويًا في دعم المقاومة، وبعد الاستقلال، عرفت الجزائر نمطًا من الدولة المركزية التي حدّت من استقلالية الجمعيات، مما أدى إلى تحجيم دور المجتمع المدني لعقود طويلة.

مع بداية التسعينيات، وخاصة بعد الإصلاحات السياسية التي أقرها دستور 1989، شهد المجتمع المدني انفتاحًا ملحوظًا، حيث سمح بظهور تعددية جمعوية ونقابية أوسع. لكن سرعان ما قُيد هذا التقدم بفعل الأحداث السياسية والأمنية التي شهدتها البلاد خلال العشرية السوداء، مما أدى إلى فرض المزيد من القيود القانونية، أبرزها قانون الجمعيات لعام 2012، الذي فرض إجراءات صارمة على تأسيس الجمعيات وتمويلها، وأعطى للسلطات صلاحيات واسعة في حلّها أو منع أنشطتها.

ورغم هذه العراقيل، استطاع المجتمع المدني الجزائري أن يلعب أدوارًا مهمة، لا سيما في أوقات الأزمات، مثل جائحة كورونا، حيث بادرت الجمعيات إلى تنظيم حملات تضامنية واسعة، وتوزيع المساعدات، ودعم الفئات الهشة. كما أظهر الحراك الشعبي منذ 2019 ديناميكية جديدة، حيث أصبحت الجمعيات والمبادرات المدنية أكثر انخراطًا في النقاش العام، مطالبة بإصلاحات سياسية، وتعزيز الحريات، وتفعيل دور المجتمع المدني كشريك حقيقي في التنمية والديمقراطية. ومع ذلك، لا تزال التحديات قائمة، إذ تواجه الجمعيات صعوبات في التمويل والاستقلالية، إضافة إلى نظرة رسمية ترى في بعض أشكال النشاط المدني تهديدًا محتملاً للاستقرار14.

لكن رغم هذه العقبات، يبقى المجتمع المدني في الجزائر ركيزة أساسية لأي تحول ديمقراطي وتنموي، حيث يشكل فضاءً للمشاركة الشعبية والتعبير عن المطالب المجتمعية، ما يجعل مستقبله مرتبطًا بالإصلاحات القانونية والسياسية التي قد تمنحه هامشًا أوسع من الحرية والفاعلية. في حين ان اليوم يعيش المجتمع المدني في الجزائر اليوم وضعًا معقدًا تتداخل فيه الفرص والتحديات، في ظل بيئة سياسية وقانونية تفرض قيودًا على عمل الجمعيات والمنظمات غير الحكومية، لكن في الوقت ذاته، تتيح فضاءات محدودة للنشاط المدني. فعلى الرغم من أن الجزائر تزخر بآلاف الجمعيات الناشطة في مجالات متعددة، مثل حقوق الإنسان، التنمية، البيئة، والثقافة، إلا أن الواقع الراهن يكشف عن صعوبات تتعلق بالإطار القانوني، والتمويل، والاستقلالية، خاصة بعد التطورات السياسية الأخيرة التي أعقبت الحراك الشعبي لعام 2019.

من الناحية القانونية، لا يزال قانون الجمعيات لعام 2012 ساري المفعول، وهو قانون يفرض إجراءات معقدة لتأسيس الجمعيات، ويمنح السلطات صلاحيات واسعة لحلها أو رفض اعتمادها دون مبررات واضحة. كما أن التمويل يمثل عائقًا كبيرًا، إذ تواجه الجمعيات قيودًا على تلقي الدعم الأجنبي، في حين أن الموارد المحلية، سواء من القطاع الخاص أو تبرعات الأفراد، لا تزال محدودة بسبب غياب سياسات واضحة لدعم العمل المدني. هذه العوامل تجعل العديد من الجمعيات غير قادرة على الاستمرار أو تؤدي إلى تحولها نحو العمل الخيري البحت، بدلاً من التركيز على القضايا الحقوقية أو الإصلاحية.

أما على مستوى النشاط الميداني، فقد برزت الجمعيات كفاعل مهم خلال الأزمات، مثل جائحة كورونا وحرائق الغابات التي شهدتها بعض الولايات في السنوات الأخيرة، حيث لعبت دورًا أساسيًا في تعبئة الموارد وتقديم الدعم للمتضررين، في ظل محدودية الاستجابة الرسمية. لكن في المقابل، هناك تضييق على الجمعيات ذات الطابع السياسي أو الحقوقي، حيث تواجه قيودًا على أنشطتها، سواء من خلال عدم منحها التراخيص لتنظيم فعالياتها أو فرض ضغوط على أعضائها في السياق الراهن، هناك مطالب متزايدة بإصلاحات قانونية تضمن استقلالية المجتمع المدني وتوسع من دوره في صناعة القرار العام، خاصة في ظل تعهدات السلطة السياسية بإعطاء دور أكبر للمجتمع المدني كشريك في التنمية. ومع ذلك، فإن هذه الوعود لا تزال تصطدم بواقع يتسم بعدم الثقة بين الدولة والجمعيات، حيث يُنظر إلى بعض مكونات المجتمع المدني على أنها امتداد للمعارضة، بينما ترى الجمعيات نفسها أنها تعمل في إطار المصلحة العامة دون أجندات سياسية مباشرة.

بالتالي، فإن مستقبل المجتمع المدني في الجزائر مرتبط بالإصلاحات السياسية والقانونية التي قد تمنحه مجالًا أوسع للعمل، إضافة إلى قدرة الناشطين على تنظيم أنفسهم بشكل أكثر احترافية واستقلالية. ورغم الصعوبات، فإن الحراك الاجتماعي والتغيرات الجيلية داخل المجتمع الجزائري قد تدفع باتجاه ديناميكية جديدة تجعل من المجتمع المدني فاعلًا رئيسيًا في التحولات القادمة ورغم ذلك كله إلا ان المجتمع المدني يظل في نهاية المطاف قوة ديناميكية تساهم في إحداث طفرة وتحولات إيجابية تعكس وعي المجتمعات وتطلعاتها نحو مستقبل أكثر عدالة وازدهارٍ.

يُعدّ المجتمع المدني ركيزة أساسية في أي مجتمع متطور، حيث يسهم في نشر الوعي، وتعزيز الحقوق، وتحقيق التنمية المستدامة من خلال الجمعيات والمنظمات التي تهتم بقضايا التعليم، والصحة، والبيئة، والعدالة الاجتماعية. فهو يمثل صوت المواطنين، ووسيلة لتقوية الروابط بين الأفراد، وتمكينهم من المشاركة الفعالة في القرارات التي تؤثر على حياتهم.

رغم دور المجتمع المدني الإيجابي، إلا أنه قد يواجه بعض الآثار السلبية، مثل استغلال بعض الجمعيات والمنظمات لأغراض شخصية أو سياسية بدلًا من خدمة المجتمع. كما يمكن أن يؤدي التدخل الخارجي في تمويل بعض المنظمات إلى فقدان استقلاليتها وتأثير أجندات خارجية على قراراتها. إضافة إلى ذلك، قد تعاني بعض الجمعيات من ضعف التنظيم والفساد الداخلي، مما يقلل من فعاليتها. كما أن التعدد الكبير للمنظمات دون تنسيق بينها قد يسبب تشتت الجهود وعدم تحقيق نتائج ملموسة ومن الآثار السلبية التي قد تصادفه وتعرقل من سيره نذكر منها: أنه يسبب بعض المشكلات عندما لا يتم تنظيمه بشكل جيد أو عندما يتم استغلاله لأغراض غير مشروعة من بينها:

- الاستغلال السياسي: بعض المنظمات والجمعيات قد تتحول إلى أدوات بيد جهات سياسية تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة، بدلًا من خدمة المجتمع بموضوعية يمكن أن تساهم هذه المنظمات في نشر التفرقة وزرع الخلافات بين الأفراد بدلًا من تعزيز الوحدة والتضامن.

- التدخل الأجنبي وفقدان الاستقلالية: بعض الجمعيات تعتمد على تمويل خارجي، مما قد يجعلها تخدم أجندات دولية بدلًا من التركيز على قضايا المجتمع المحلي في بعض الحالات، قد تستخدم المنظمات كواجهة للتأثير على القرارات السياسية والاقتصادية للدولة.

- ضعف التنظيم والفساد الداخلي: بعض الجمعيات تعاني من مشاكل إدارية مثل سوء التسيير، وعدم وجود شفافية في التصرف في الأموال.

يمكن أن تتحول بعض الجمعيات إلى مشاريع شخصية تسعى فقط لجمع التمويل دون تقديم خدمات حقيقية.

- تشتت الجهود وعدم الفعالية: في بعض البلدان، يوجد عدد كبير جدًا من الجمعيات التي تعمل في نفس المجال دون تنسيق فيما بينها، مما يؤدي إلى تكرار الجهود وعدم تحقيق نتائج ملموسة.

غياب آليات رقابية فعالة يؤدي إلى ضعف تأثير بعض الجمعيات في المجتمع.

-إضعاف دور الدولة في بعض المجالات فعندما تتدخل المنظمات المدنية بشكل مفرط في تقديم الخدمات الاجتماعية (مثل التعليم والصحة)، قد يؤدي ذلك إلى تقليل دور الدولة في هذه المجالات، مما قد يسبب مشاكل على المدى الطويل. قد تعتمد بعض الحكومات على المجتمع المدني لسد ثغرات في الخدمات الأساسية، بدلًا من تحسين البنية التحتية والسياسات العامة.

ومنه نستطيع القول أن المجتمع المدني أداة قوية للتغيير الإيجابي، لكنه ليس دائمًا مثاليًا. إذا لم تكن هناك ضوابط وآليات رقابة جيدة، فقد يتحول إلى أداة للتلاعب السياسي، أو يصبح غير فعال بسبب الفساد وسوء التنظيم. لذا، من المهم العمل على تعزيز الشفافية والرقابة لضمان أن تبقى منظمات المجتمع المدني تخدم المجتمع بشكل حقيقي.

خاتمة:

في الختام، يمكن القول بأن المجتمع المدني سلاح ذو حدين، يمكن أن يكون قوة بنّاءة تساهم في التنمية والديمقراطية، لكنه قد يكون أيضًا أداة للفوضى أو الاستغلال إذا لم يُدار بشكل مسؤول. لكنه مع ذلك يُعدّ جزءًا مهمًا من أي مجتمع حديث من الصعب الاستغناء عن دوره تمامًا، خاصة في المجتمعات التي تسعى إلى تحقيق التوازن بين الدولة والمجتمع. المجتمع المدني ليس مجرد كيان إضافي، بل هو عنصر أساسي في تعزيز الديمقراطية، وحماية الحقوق، وتقديم الخدمات التي قد تعجز الدولة عن توفيرها بكفاءة، حيث يساعد في نشر الوعي، والدفاع عن الحقوق، وتعزيز المشاركة في القضايا العامة. كما يلعب دورًا كبيرًا في التنمية، من خلال الجمعيات والمنظمات التي تهتم بالتعليم، والصحة، وحماية البيئة، وغيرها من المجالات بينما في الجزائر، شهد المجتمع المدني تطورًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، حيث أصبحت الجمعيات والمنظمات تلعب دورًا مهمًا في مساعدة الفئات المحتاجة، والمطالبة بالإصلاحات، وحماية الحريات العامة. ورغم ذلك، لا يزال يواجه تحديات عديدة، مثل القيود القانونية وصعوبة الحصول على التمويل وضعف التعاون مع الدولة، ومع ذلك فإن تقوية المجتمع المدني ودعمه يمكن أن يسهم في بناء جزائر أكثر ازدهارًا وعدالة، حيث يكون للمواطنين دور حقيقي في رسم مستقبل بلدهم. فكلما زادت حرية هذه المنظمات واستقلاليتها، زادت قدرتها على إحداث تغيير إيجابي يخدم المجتمع بأسره.

***

جيهان بهلولي

قسم الفلسفة / جامعة باجي مختار - عنابة

..........................

قائمة مصادر ومراجع:

1. الطاهر بلعيور، المجتمع المدني كبديل سياسي في الوطن العربي، مجلة العلوم الاجتماعية والإنسانية، جامعة بسكرة، العدد 10، 2006، ص ص3-4

2. جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ج2، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، 1982، ص471

3. اماني قنديل، الموسوعة العربية للمجتمع المدني، مكتبة الأسيرة، القاهرة، ط1، ص64

4. وائل السواح، الديموقراطية، سلسلة التربية البدنية، منشورات بيت المواطن، دمشق، ط1، 2014، ص48

5. حسام شحادة، المجتمع المدني، بيت المواطن للنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2015، ص16

6. فريال حسن خليفة، المجتمع المدني عند توماس هوبز وجون لوك، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، ، 2004، ص 16

7. فريال حسن خليفة، المجتمع المدني عند توماس هوبز وجون لوك، المرجع السابق، ص18

8. جون إهرنبرغ، المجتمع المدني، التاريخ النقدي للفكرة، ترجمة علي حاكم صالح حسن ناظم، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2008، ص290

9. رضوان زيادة، تحديات الإصلاح في العالم العربي، مركز الراية للتنمية الفكرية، دمشق، ط1، 2006، ص 124

10. رضوان زيادة، تحديات الإصلاح في العالم العربي، المرجع السابق، ص125

11. بن داود إبراهيم ، المجتمع المدني بين الفاعلية والتغيِّيب، دار الكتاب الحديثة، القاهرة، ط1، 2015، ص13

12. بن داود إبراهيم، المجتمع المدني بين الفاعلية والتغيِّيب، المرجع السابق، ص38

13. سعد الدين إبراهيم، المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 1993، ص 25-40.

14. حسينة حماميد، المجتمع المدني في الجزائر: الواقع والمعوقات، مجلة الصراط، مجلد 14، العدد1 ، 2012. ص71—120

 

ملاحظات تمهيدية: طُرحت أربع نظريات للسلطة أو النفوذ autorité عبر التاريخ.

النظرية اللاهوتية: السلطة الأساسية والمطلقة لله. جميع السلطات الأخرى مستمدة منه (المدرسانيون وأنصار النظام الملكي الشرعي).

نظرية هيجل: السلطة علاقة بين السيد والعبد.

نظرية أرسطو: يبرّر أرسطو السلطة بالحكمة، أي القدرة على التنبؤ بالمستقبل، وبالتالي تجاوزه.

نظرية أفلاطون: تنبع السلطة من العدل أو الإنصاف.

هذه النظريات الأربع متنافية؛ فكل منها تعتبر نفسها السلطة الشرعية الوحيدة، وترى السلطات الأخرى مظهرًا من مظاهر القوة. السلطة ليست قوة، لأن اختزال السلطة إلى قوة هو إنكار لوجود السلطة نفسها.

المنهج الذي اتبعه من ألكسندر كوجيف:

يجيب التحليل الفينومينولوجي على السؤال: "ما هي؟" ويسعى إلى الكشف عن ماهية هذه الماهية وبنيتها. وهكذا، يسعى إلى كشف مختلف أنواع تجلياتها غير القابلة للاختزال.

يربط التحليل الميتافيزيقي ظاهرة السلطة بالعالم الواقعي. ويتيح لنا تحديد ما إذا كانت الظواهر تتوافق مع جميع الاحتمالات التي يوفرها العالم، وما إذا كانت الظواهر ذات أصل ميتافيزيقي بسيط أم معقد.

يدرس التحليل الأنطولوجي بنية وجود السلطة واحوالها (لكن كوجيف لن يُجري هذا التحليل).

تتيح لنا نظرية السلطة المنبثقة من هذا التحليل الثلاثي استخلاص الاستنتاجات التالية:

التطبيقات السياسية: استنباط نظرية للدولة من نظرية للسلطة.

التطبيقات الأخلاقية: استنباط أخلاق سياسية محددة غير الأخلاق الخاصة.

التطبيقات النفسية: إيجاد قواعد عمل لتوليد السلطة على البشر أو الحفاظ عليها.

أ. التحليلات

أولاً: التحليل الفينومينولوجي

أ‌) التعريف العام للسلطة

ب‌) ليس لدينا سلطة إلا على ما يُمكن أن "يتفاعل"، أي ما يُمكن أن يتغير وفقًا لما يُمثله. السلطة ملكٌ لمن يُحدث التغيير: إنها فاعلة.

ومن ثم، فإن وسيط السلطة هو فاعل حرّ وواعٍ (إله أو إنسان). وبالتالي، فإن الفعل الاستبدادي يكون دائمًا واعيًا وحرًا.

لا يُواجه الفعل الاستبدادي معارضة ممن يُوجَّه إليه. السلطة علاقة؛ وبالتالي فهي ظاهرة اجتماعية.

السلطة هي قدرة فاعل على التأثير على آخر دون أن يتفاعل الأخير، مع بقائه قادرًا على ذلك.

وهكذا، السلطة هي القدرة على التصرف دون مساومة (إذا أثار الأمر نقاشًا، فلا سلطة، لأن أي نقاش هو في الأساس تسوية).

ب) السلطة والقانون

يُظهر هذا التعريف أن ظاهرة السلطة مرتبطة بظاهرة القانون. في الواقع، لديّ الحق في فعل شيء ما عندما أستطيع فعله دون مواجهة معارضة (ردود أفعال)، والمعارضة، من حيث المبدأ، ممكنة.

لكن هناك فرق جوهري بين هاتين الظاهرتين:

في حالة السلطة، يُدمر رد الفعل السلطة.

في حالة القانون، لا يُدمر رد الفعل القانون (يكفي أن يُعاني من رد الفعل من لا يملك الحق).

لذلك، تُستبعد السلطة القوة، والقانون يُشير إلى القوة مع كونه شيئًا آخر غير القوة.

تُفسر العلاقة بين السلطة والقانون لماذا تتمتع كل سلطة بطابع قانوني أو شرعي في نظر من يُقرّون بها.

لذلك:

1. القووي

ممارسة السلطة ليست كاستخدامها. الظاهرتان مُتعارضتان. استخدام القوة يُثبت عدم وجود سلطة. السلطة وحدها هي التي تُجبر الناس على فعل ما لم يفعلوه عفويًا، دون استخدام القوة.

ملاحظة: الحب يُنتج نفس نتيجة السلطة. لذلك، يُمكننا الخلط بين الحب والسلطة، والتحدث عن "سلطة" للمحبوب على من يُحب، أو عن "حب" من يُقرّ بالسلطة لمن يُمارسها. ومن هنا الميل الفطري للإنسان إلى حب من يعترف بسلطته، وكذلك الاعتراف بسلطة من يحب.

2. الشرعي

يمكن أن يكون الفعل القانوني فعلًا استبداديًا أيضًا. فالقانون لا يملك سلطة إلا لمن "يعترفون" به، ولكنه يبقى حقًا حتى لمن يخضعون له دون الاعتراف به. الفعل الاستبدادي "قانوني" أو "شرعي" بحكم التعريف، لأن الاعتراف بسلطة هو، في الوقت نفسه، اعتراف بشرعيتها.

3. الإلهي

كل ما يؤثر عليّ دون أن تكون لديّ القدرة على التفاعل معه هو إلهي. (ومع ذلك، يمكن للإلهي أن يفقد طابعه الإلهي: فالنجوم كانت مُؤلهة، والفيزياء دنستها). ولهذا السبب نُسبت أعلى درجات السلطة دائمًا إلى الإلهي، ولهذا السبب نُسبت السلطة البشرية دائمًا إلى الطابع الإلهي. ومع ذلك، في حالة الفعل الإلهي، يكون رد الفعل البشري مستحيلاً تماماً، بينما في حالة الفعل الاستبدادي البشري، يكون رد الفعل ممكناً بالضرورة. السلطة الإلهية أبدية؛ والسلطة البشرية مؤقتة وقابلة للزوال؛ ويمكن أن تضيع في أي لحظة: فهناك عنصر من المخاطرة. وبالتالي، لا بد أن يكون لكل سلطة بشرية مبرر لوجودها: سبب لوجودها. فمجرد ملاحظة وجودها لا يكفي لإدراكها.

أ) لماذا نُقرّ بالسلطة؟ لماذا نخضع لأفعال السلطة دون رد فعل؟ للإجابة على هذا السؤال، يُمكننا البدء بالتمييز بين أربعة أنواع من السلطة:

1. سلطة الأب على الولد (النظرية السكولاستية أو اللاهوتية)

هذه هي سلطة العمر، والتقاليد، وسلطة الميت (الوصية)، وسلطة المؤلف على عمله.

ملاحظة حول سلطة الموتى: عمومًا، للأموات سلطة أكبر من الأحياء (وهذا هو حال الوصايا)، لأنه من المستحيل ماديًا الرد على ميت. لذا، للموتى سلطة بحكم التعريف. لذا، فإن سلطة الموتى ذات طابع إلهي؛ فالموتى لا يُخاطرون. وهذا هو مصدر قوة وضعف هذه السلطة.

2. سلطة السيد على العبد (نظرية هيجل)

هذه هي سلطة الجندي على المدني، والرجل على المرأة، والمنتصر على المهزوم.

٣. سلطة القائد على الجماعة (نظرية أرسطو)

هذه هي سلطة الأعلى على الأدنى، وسلطة المعلم على الطالب، وسلطة العالم، والنبي.

٤. سلطة القاضي (نظرية أفلاطون)

هذه هي سلطة المُعترف، سلطة الرجل العادل. الرجل العادل هو أنقى مثال على سلطة القاضي.

حول سلطة الأب (النظرية اللاهوتية والمدرسانية) في النظرية اللاهوتية، تأتي كل سلطة شرعية حقيقية من الله، وهي مجرد انتقال للسلطة الإلهية. تنتقل السلطة بالوراثة. ومع ذلك، فإن مفهوم الوراثة يتدخل في سلطة الأب. تنتقل سلطة الأب كميراث إلى الابن الذي سيصبح بدوره أبًا. وبالتالي، فإن كل سلطة بشرية هي ذات جوهر إلهي. ولأن الله يجسد قمة السلطة، نجد في النظرية اللاهوتية أربعة أنواع من السلطة المحضة: الله سيد ورب للإنسان. لكن بما أن سلطة السيد مبنية على المخاطرة التي يخوضها في صراع حياة أو موت، ولأن الله هو الله، فهو لا يُخاطر بشيء. لذلك، لا تستطيع النظرية اللاهوتية تفسير حالة سلطة السيد المجردة. وفي حالة محبة الله، لا مجال للسلطة، لأن الله يريد أن يجعل البشر يتصرفون تلقائيًا، ولذلك يتخلى عن سلطته كمحبة (محبوبة ومُحبة).

الله هو الرئيس، القائد الذي يقود شعبه وهو يعلم مصيرهم مُسبقًا.

الله هو القاضي الأعلى.

الله هو "الأب". مفهوم الله-الأب هو فكرة "الخلق". خلق الله البشر؛ وهو علتهم الشكلية. ومع ذلك، لا يمكن للنتيجة أن تُنكر علتها. بمعنى آخر، تؤثر النتيجة في النتيجة بإنتاجها، لكن النتيجة لا يمكن أن تُؤثر في السبب. لذا، عندما تُدرك البشرية أنها من عمل الله، فإنها تتخلى عن وهم إمكانية رد الفعل على الأفعال الإلهية. إنه يعترف بالسلطة الإلهية، وهي ليست سوى هذا الاعتراف: الاعتراف بالسبب (أي التخلي الواعي والإرادي عن ردود الفعل). في الواقع، سلطة الأب هي سلطة السبب على النتيجة. ينقل السبب قوته وجوهره إلى النتيجة. لذلك، يوجد في سلطة الأب مبدأ وراثي (السبب): النقل. يضمن الله وحدة المجموعة بتحديد أصلها؛ لذا، فهو دائمًا إله الأسلاف. والماضي الذي يحدد الحاضر له دائمًا أصل إلهي. نرفض الرد على سلطة التقاليد، لأن ذلك سيكون رد فعل على أنفسنا، وهو نوع من الانتحار. وبالمثل، فإن سلطة الموتى هي "سبب" أكثر منها سلطة الأحياء، لأن "السبب" يزول بعد إحداث "نتيجته"، ولا يوجد إلا في تلك النتيجة.

حول سلطة المعلم (نظرية هيجل)

تنشأ السلطة من صراع الحياة والموت من أجل الاعتراف. يسعى كلا الخصمين إلى هدف إنساني في جوهره، لا حيواني: أن يُعترف بهما في كرامتهما الإنسانية. يتغلب السيد المستقبلي على خوفه الحيواني من الموت، لكن العبد المستقبلي لا يفعل ذلك. يُقر بالهزيمة، ويُدرك تفوق المنتصر، ويخضع له. وهكذا، يتغلب السيد على الحيوان الكامن بداخله ويُخضعه لما هو إنساني بامتياز: "الرغبة في الاعتراف"، الغرور الخالي من أي قيمة "حيوية". أما العبد، فيُخضع الإنسان للحيوان. سلطة السيد على العبد تُشبه سلطة الإنسان على الحيوانات والطبيعة عمومًا. إلا أن الحيوان يُدرك نقصه ويقبله بحرية. أما العبد، فيتخلى طواعيةً عن القدرة على الرد على أفعال سيده. يفعل ذلك لأنه يعلم أن رد الفعل هذا ينطوي على مخاطرة بحياته، ولأنه لا يريد قبول هذه المخاطرة.

في سلطة القائد (نظرية أرسطو) من يدرك أنه أقل رؤيا من غيره، يسهل على الآخرين قيادته.

مثال: في عصابة من الأطفال، يقترح أحدهم سرقة تفاح. على الفور، وبهذه الحقيقة تحديدًا، يُثبت نفسه قائدًا للعصابة. وقد أصبح كذلك لأنه كان يرى أبعد من الآخرين، ولأنه كان الوحيد الذي وضع خطة، بينما عجز الآخرون عن تجاوز مستوى المعطيات المباشرة.

في سلطة القاضي (نظرية أفلاطون)

يرى أفلاطون أن السلطة الشرعية الوحيدة هي التي تستند إلى العدل. أما السلطات الأخرى فهي غير مستقرة؛ فهي عابرة وعرضية. أي سلطة لا ترتكز على العدل ليست سلطة، ولا تُحافظ عليها إلا بالقوة. في الواقع، تُثبت الصراعات التي قد تنشأ في أشكال أخرى من السلطة أن العدل قادر على إقامة سلطة محددة قادرة على تدمير سلطة السيد أو القائد أو الأب. إذا لم نعترض على "أحكام" مُحكّم (مُختار بحرية)، فذلك لأننا نفترض نزاهته، وبالتالي تجسيده للعدالة. وبالتالي، يتمتع الشخص "العادل" أو "النزيه" بسلطة لا تقبل الجدل، حتى لو لم يكن مُحكّمًا. في الواقع، يمكننا أن نستنتج أن الحياد يُولّد السلطة دائمًا.

أ) لذلك، هناك أربعة أنواع من السلطة المحضة:

الأب (العقل) > السكولاستية

السيد (المخاطرة) > هيجل

القائد (المشروع - التنبؤ) > أرسطو

القاضي (العدالة - الإنصاف) > أفلاطون

ومع ذلك، فإن الحالات الملموسة للسلطة هي دائمًا مزيج من أنواع السلطة الأربعة. تجدر الإشارة أيضًا إلى أنه بما أن السلطة الحقيقية كلها شاملة تقريبًا، فإن منح شخص ما أحد أنواع السلطة الأربعة يؤدي بطبيعة الحال إلى منحه سلطة الأنواع الثلاثة الأخرى. وبالمثل، فإن أي شخص يمتلك سلطة انتقائية يميل بطبيعته إلى تحويلها إلى سلطة كلية. علاوة على ذلك، فإن ملاحظة غياب نوع خالص من السلطة يؤدي إلى إبطال نوع السلطة السائد. على سبيل المثال، ملاحظة أن القائد "عديم الفائدة" كقاضٍ يميل إلى عدم الاعتراف بسلطته كقائد. في الواقع، فإن غياب نوع خالص من السلطة يُضعف سلطة نوع آخر، لكنه لا يلغي وجودها. على هذا النحو يمكننا التمييز بين السلطة المطلقة والسلطة النسبية:

السلطة المطلقة: لا يُثير أيٌّ من الأفعال رد فعل.

السلطة النسبية: يتمتع الشخص بسلطة أكبر أو أقل اعتمادًا على الأفعال التي لا تُثير رد فعل (كلما قلّت ردود الفعل، زادت السلطة).

في الواقع، يُعتبر الله وحده صاحب السلطة المطلقة، أي أنه يجمع أنواع السلطة الأربعة دون أن يثير أي رد فعل تجاه أفعاله.

ب) أما نشأة السلطة، فهناك:

سلطة تلقائية: تنشأ من أفعال من سيتولى هذه السلطة.

سلطة مشروطة: تنشأ من أفعال أشخاص غير من سيتولى هذه السلطة. لذا، فهي تفترض وجود سلطة أخرى تعتمد عليها.

لذا، فإن أي نشأة حقيقية للسلطة تكون تلقائية بالضرورة. وما يُسمى بالنشوءات المشروطة ما هي إلا حالات انتقال.

ملاحظة 1: لدى شخص ما مشروع، وهو قائد مُنتخب. مشروعه هو الذي ولّد سلطته كقائد، وليس انتخاب الآخرين. لذلك، فهو لا يمتلك السلطة لأنه مُنتخب، بل لأنه استفاد من السلطة التي انبثقت من مشروعه. الانتخاب هو العلامة الخارجية (الظهور) لسلطته، التي سبق الاعتراف بها.

ملاحظة ٢: تُغفل "النظرية الديمقراطية" في "العقد الاجتماعي" أن الانتخاب لا يُولّد السلطة، بل يُؤكّدها. بمعنى آخر، لا يُجسّد الانتخاب السلطة القائمة إلا ظاهريًا.

ما هي هذه السلطة التي تنتقل عبر الانتخاب؟

لا يُمكن للمرء أن يمتلك سلطة على نفسه (ففكرة رد الفعل لا معنى لها هنا). لذا، فإن انتخاب شخص ما فرديًا لا يمنحه أي سلطة عليّ. لا يكون لمفهوم السلطة معنى إلا في الانتخاب الجماعي، لأنه داخل المجموعة، يُمكن تمييز أحزاب مختلفة. يُمكننا الحديث، على سبيل المثال، عن سلطة الأغلبية على الأقلية.

ينص العقد الاجتماعي على أن هذه السلطة سلطة خاصة لا تُقارن بغيرها. لكن وجود الأقلية بحد ذاته يُثبت أنها لا تعترف بسلطة الأغلبية. ومع ذلك، حيث لا توجد سلطة، تُقمع ردود الفعل بالقوة.

لذلك، عندما تدّعي الأغلبية ما يُسمى بالسلطة النوعية، لمجرد تفوقها العددي، فإنها في الواقع تدّعي القوة المطلقة (نظام الأغلبية المطلقة هو نظام قائم على القوة وحدها). لذلك، يختلف نظام الأغلبية (القوة) عن النظام الاستبدادي (السلطة).

في الواقع، غالبًا ما تتخلى الأقلية عن أي رد فعل بوعي، لأن الأخير محكوم عليه بالفشل. هذا التنازل الواعي عن "رد الفعل" يُولّد وهم سلطة فريدة ومحددة للأغلبية. إذا طلب مني بطل ملاكمة مغادرة المقهى، فسأفعل ذلك دون "رد فعل"، ولكن بالتأكيد ليس لأنه يتمتع بسلطة في نظري. وبالمثل، لا توجد سلطة فريدة (محددة) للأقلية.

تُبرّر سلطة الأقلية بـ"النوع" لا بـ"الكم" (حتى المتكبر يدّعي أنه جزء من النخبة وليس الأقلية). ولكن عند التحليل، نجد أن الأقلية تدّعي دائمًا أحد أنواع السلطة الصرفة الأربعة.

السلطة في الإرادة العامة

إن وجود الإرادة العامة (= سلطة الكل على الأجزاء) أمرٌ لا جدال فيه؛ ويستحق روسو الثناء لتسليطه الضوء على هذه الحقيقة. لكن هذه السلطة ليست سلطةً فريدةً من نوعها؛ بل هي في الواقع مزيجٌ من الأنواع الأربعة الصرفة للسلطة.

يُظهر مفهوم "الإرادة العامة" بحد ذاته أنها تدّعي سلطةً مطلقةً (بل إنها غالبًا ما تتخذ شكل السلطة الإلهية). وبصفتها سلطةً مطلقةً، يجب أن تدمج الأشكال الأربعة الصرفة للسلطة.

1. سلطة القائد في الإرادة العامة

الكل الميكانيكي ليس سوى مجموع أجزائه؛ فهو مُحددٌ تمامًا بها. لذلك، لا يُمكننا القول إن الأجزاء تخضع للكل وتُحدده إلا في الكائن الحي. بمعنى آخر، لا يُمكننا القول إن الكل ليس مجرد مجموع أجزائه، بل هو شيءٌ أكبر من مجموع أجزائه إلا في الكائن الحي. لذا، لا يمكننا الحديث عن سلطة الكل على أجزائه إلا إذا رُسم المجتمع قياسًا على الكائن الحي (ومن ثم، لا يمكن للتحليل الظاهراتي للإرادة العامة أن يستند إلا إلى هذه المقارنة).

الفكرة البيولوجية للكل تستلزم نتيجتين:

الوراثة، أي ديمومة بنية الكائن الحي (الدجاجة تسبق البيضة).

تناغم عناصر هذا الكائن الحي المختلفة.

يُحدد الكل الأجزاء (فالكل يُسبب التناغم والديمومة)، ولكن في أي تغيير "جوهري"، تُحدد الأجزاء الكل. باختصار، لا يمكن أن يُحدث التغيير الجذري للكائن الحي إلا بواسطة الأجزاء نفسها.

في الواقع، سلطة الإرادة العامة هي مزيج من الأب والقاضي، ولكنها ليست قائدًا أبدًا. فالقائد يُنشئ نفسه قائدًا نتيجة مشروع يقترحه (= تغيير في الواقع). لذلك، لا يمكن إلا لإرادة خاصة (الجزء) أن تتمتع بسلطة القائد. (علاوة على ذلك، عند روسو، تُنفَّذ الإصلاحات من قِبَل المُشرِّع، الذي يتَّسم بشخصية الفرد؛ قد يكون فردًا جماعيًا، أو أغلبيةً أو أقلية، ولكنه ليس كلًا مُعارضًا للأجزاء؛ بل هو دائمًا جزء مُعارض للكل.)

2. سلطة السيد في الإرادة العامة

بما أن الكل مُتميِّز عن مجموع أجزائه (إنه أشبه بشيء أكثر من ذلك)، فهو ليس واقعًا ماديًا. لذلك، لا يُمكنه المُخاطرة بحياته في صراع حتى الموت. لذا، فإن سلطة الكل على أجزائه ليست سلطة السيد على عبيده. لذا، لا علاقة للإرادة العامة بالقوة.

3. سلطة الأب في الإرادة العامة

تُعبِّر عن الجانب "الوراثي" و"الدائم" لسببية الكل. سلطة الإرادة العامة من نوع "الأب": إنها سلطة "التراث"، سلطة كل ما يُسهم في الحفاظ على الهوية مع الذات.

٤. سلطة القاضي في الإرادة العامة

ولكن بما أن الكل يتكون من أجزاء متعددة، فلا بد من تحقيق الانسجام بين أجزائه. في العالم البشري، يتحقق هذا الانسجام من خلال العدالة. لذا، فإن سلطة الإرادة العامة هي سلطة الأب، مقترنة بسلطة القاضي. ولكن إذا انتقلنا من سلطة الكل إلى سلطة الأغلبية، يتغير التحليل. تتلاشى سلطة القاضي، لأن وجود الأقلية يُثبت عدم انسجام أجزاء الكل. وفي الواقع، لم يعد الكل خاضعًا للعدالة. لذلك، عندما تدّعي الأغلبية أغلبيتها، لا يمكنها ادعاء سلطة القاضي. لا يمكنها إلا ادعاء سلطة الأب؛ فهي بمثابة حارس للتقاليد.

مسألة انتقال السلطة: يحدث هذا الانتقال إما بالوراثة، أو بالتعيين، أو بالانتخاب.

1. الانتقال الوراثي

في أي انتقال للسلطة، يُفترض أن السلطة ليست مرتبطة بشخص معين؛ بل يمكن توريثها. في الواقع، يمكن استبدال الشخص الذي يجسدها. لذلك، لا تتولد السلطة من وجود الشخص الذي يحملها، بل من أفعاله. وبالتالي، إذا قام شخص ما بنفس الأفعال، فسوف يستفيد من نفس السلطة. وبالتالي، لدينا سلطة واحدة وحاملو سلطة متعددون. في الانتقال الوراثي، تنتقل الفضائل من الأب إلى الابن. هذا مفهوم سحري ومادي. تُفهم الفضيلة على أنها جوهر موجود في جميع أنحاء العائلة، وفقًا لتسلسل هرمي (من الأصغر إلى الأكبر، من الصبي إلى الفتاة). في الوقت الحاضر، فقد الانتقال الوراثي هيبته واختفى تقريبًا.

٢. الانتقال بالتعيين

يحدث هذا عندما يُعيّن المرشح للسلطة من قِبل شخصٍ يتمتع هو نفسه بسلطة من نفس النوع. لذلك، يمكن أن يكون المرشح أي شخص، إذ يستمد سلطته من الشخص الذي اختاره (يمكنه نقل فضيلته إلى الشخص الذي اختاره على شكل توجيهات ونصائح، إلخ).

٣. الانتقال بالانتخاب

يحدث هذا عندما يُعيّن المرشح من قِبل شخصٍ لا يملك أي سلطة، أو سلطة من نوعٍ مختلف. لا يمكن للمرشح أن يستمد سلطته من الشخص الذي انتخبه، إذ لا يملك هذا الأخير أي سلطة، أو سلطة من نوعٍ مختلف. لذا، فهو لا يدين بسلطته إلا لنفسه. فالانتخاب يكشف عن قيمته فقط، أي يكشف عن سلطته. بحكم طبيعتها، تفترض السلطة التوالد التلقائي. وأي انتقال يُضعفها.

الانتقال في أنواع السلطة المختلفة:

سلطة القاضي أقل عرضة للانتقال لأنها مبنية على العدالة الشخصية.

سلطة الأب أكثر عرضة للانتقال بالوراثة.

تُناسب سلطة السيد الانتقال بالانتخاب بشكل أفضل، لأن الصدفة تلعب دورًا مُحددًا في نشأة سلطة المنتصر.

مع ذلك، لا يُمكن لسلطة السيد أن تستفيد من الانتقال الوراثي، لأن سلطة السيد قائمة على المخاطرة الشخصية. في الواقع، لطالما استندت السيادة الوراثية إلى القوة لا إلى السلطة.

تُناسب سلطة القائد التعيين بشكل أفضل، لأن القائد يُفترض به أن يستشرف المستقبل، وأن يعرف من هو الأنسب لخلافته. في الواقع، يُفترض أن تكون سلطة القائد قادرة على نقل سلطة غير سلطة القائد.

II. التحليل الميتافيزيقي

السلطة ظاهرة إنسانية، وليست طبيعية، وبالتالي فهي اجتماعية وتاريخية. لذا، تفترض السلطة وجود مجتمع، والمجتمع يفترض وجود تاريخ. في الواقع، لا يمكن للسلطة أن تتجلى إلا في عالم ذي بنية زمنية.

ومن ثم، فإن الأساس الميتافيزيقي للسلطة هو تعديل لكيان "الزمن" (الذي يُفهم على أنه "الزمن البشري" أو "الزمن التاريخي"). في الزمن التاريخي، يسود المستقبل. ولذلك، تسود سلطة القائد، لأنه هو من يضع المشاريع. لذا، فإن السلطة بامتياز هي سلطة قائد ثوري ذي مشروع عالمي (ستالين).

للزمن قيمة السلطة في ثلاثة أشكال:

الماضي: وضع جليل. فالعصور القديمة تبرر سلطة مؤسسة وبالتالي يمكننا ادعاء السلطة من آلاف السنين الماضية (موسوليني)

المستقبل: يستمد الشباب سلطتهم من المستقبل الذي يجسده. سلطة "رجل الغد". يمكننا ادعاء السلطة من آلاف السنين القادمة (هتلر)

الحاضر: لا نريد أن نتخلف عن العصر. سلطة الموضة. سلطة الواقع في مقابل الوهم الشعري للماضي، والوهم الطوباوي للمستقبل

السلطات الزمنية الثلاث تعارض سلطة الأبدية. الأبدية ليست سوى نفي للزمن، وبالتالي فهي تابعة له. لذا، فإن السؤال هو: هل هذه السلطات الأربع سلطة فريدة (محددة)، أم مظهر من مظاهر أنواع السلطة الأربعة الصرفة؟

الدليل الأول: نجد البنية الرباعية نفسها في السلطة وفي الزمان (الأب، السيد، القائد، القاضي / الماضي، الحاضر، المستقبل، الأبدية).

الدليل الثاني:

سلطة القاضي تُعارض السلطات الثلاث الأخرى التي تُشكل جسدًا واحدًا.

سلطة الأبد تُعارض السلطات الزمنية الثلاث التي تُشكل جسدًا واحدًا.

سلطة القاضي لا تُنقل، بينما تنتقل السلطات الثلاث الأخرى بأفضل ما يُمكن، غالبًا بالوراثة (لا يرث أحد سلطة القاضي من قاضٍ بالنسب البسيط). سلطة القاضي تُقاوم أي خلافة، وبالتالي أي "تأخير".

سلطة القاضي، كما هي، خارج الزمان؛ يُفترض أنها موجودة إلى الأبد، بينما تستمر السلطات الثلاث الأخرى عبر الزمان، بل إن انتقالها يُظهر جوهرها الزمني.

يستطيع "القاضي" أن يحكم على السلطات الثلاث الأخرى، ولكنه بطبيعته لا يخضع لسلطة الأنواع الثلاثة الأخرى من السلطات.

لا سلطان للأبدية إلا بقدر ما تُعارض الأزمنة الثلاثة (الماضي، الحاضر، المستقبل).

لا سلطان للقاضي إلا بقدر ما يُعارض السلطات الثلاث الأخرى.

لذلك، يبدو أن سلطة القاضي هي شكل من أشكال سلطة الأبدية، أي شكل من أشكال التجلي السلطوي للأبدية في علاقتها بالزمن.

الفعل العادل خارج الزمن لأنه ليس تابعًا "لمصالح اليوم"، ولا "لتحيزات" يمليها الماضي، ولا لرغبات متجذرة في المستقبل. بل هو كذلك في كل زمان، لأنه، لكونه عادلًا، يبقى كذلك "أبديًا" وينطبق على الماضي والحاضر والمستقبل.

الأبدية هي تكامل الأزمنة الثلاثة (الماضي، الحاضر، المستقبل).

العدل هو تكامل السلطات الثلاث الأخرى (الأب، السيد، القائد). لا يُمكنهم تكوين كلٍّ ثابت إلا بخضوعهم جميعًا للعدل.

الزمانية كأساس ميتافيزيقي للسلطة:

الأبدية هي الأساس الميتافيزيقي لسلطة القاضي.

الزمان البشري (الزمان التاريخي) هو الأساس الميتافيزيقي لأنواع السلطة الثلاثة الأخرى.

يبقى أن نرى كيف تتوزع هذه السلطات الثلاث النقية على أنماط الزمن الثلاثة:

سلطة الأب: انتقال وراثي = فكرة الماضي = تجلي الماضي.

سلطة القائد: انتقال بالتعيين = نداءات للمستقبل = تجلي المستقبل.

سلطة السيد: انتقال بالانتخاب = أفعال تنتمي إلى الحاضر = تجلي الحاضر.

لننتقل الآن إلى تحليل مباشر للزمنيات الثلاث:

الماضي: لا سلطة للماضي الخالص. الماضي التاريخي هو الذي يملك السلطة؛ وهو ما يحدد حاضري ويشكل أساس مستقبلي. لذلك، لا يمارس الماضي سلطته إلا عندما يتجلى في صورة تاريخ.

سلطة الأب هي سلطة السبب التاريخي. لسلطة الأب أساسها الميتافيزيقي في وجود الماضي في الحاضر: التاريخ (= التجلي الرسمي للماضي).

المستقبل: لا سلطة للمستقبل الخالص. المستقبل التاريخي هو الذي يملك السلطة، بقدر ما يحدد الحاضر مع الحفاظ على صلاته بالماضي. لذلك، لا يمارس المستقبل سلطته إلا عندما يتجلى في صورة مشروع.

سلطة القائد هي سلطة المشروع. لسلطة القائد أساسها الميتافيزيقي في وجود المستقبل في الحاضر: المشروع (= التجلي الرسمي للمستقبل).

الحاضر: لا سلطة للحاضر الخالص (الزمن الصفر في الفيزياء)؛ الحاضر التاريخي (= اللحظة التاريخية) هو صاحب السلطة. الحاضر التاريخي هو الكيان الذي له "حضور حقيقي" في مجموعة الأشياء الحاضرة فقط، أي ما لا وجود له: العقل. اللاوجود في العالم الزمني هو الماضي والمستقبل. والحاضر التاريخي هو الفعل. لكن الفعل يعارض الوجود كتحول للوجود. سلطة السيد مبنية على المخاطرة، وبالتالي على فعل يُعرّضها للخطر. والفعل تجلٍّ للزمن في الحاضر. سلطة السيد هي سلطة الفعل بقدر ما تحمل في طياتها مخاطرة. لسلطة السيد أساسها الميتافيزيقي في الحاضر التاريخي: الفعل (= التجلي السلطوي للحاضر). سلطة السيد هي سلطة من يكون، في جميع المجالات، "مستعدًا للمخاطرة"، و"يعرف كيف يتصرف"، و"قادرًا على اتخاذ القرار"، ولكنه ليس دائمًا "عاقلًا" و"حكيمًا". إدراك الزمن في البنية السببية للعالم الزمني وفقًا للعلل الأرسطية الأربعة: يتحقق الخلود من خلال العلة الصورية = القاضي = سلوك سلبي، نظري، غير مبالٍ.

الماضي هو العلة المادية = الأب = سلوك عملي، فاعل، مهتم (ذاكرة وجودية أو تقاليد).

الحاضر هو العلة الفاعلة = السيد = سلوك عملي، فاعل، مهتم (فعل يُنجز في الحاضر).

المستقبل هو العلة النهائية = القائد = سلوك عملي، فاعل، مهتم (فعل يُسقط في المستقبل).

ب. الاستنتاجات

أولًا. التطبيقات السياسية

سنتناول فقط العواقب السياسية المتعلقة بتقسيم السلطات ونقلها. تتجاهل نظرية الدولة مفهوم القوة. والقوة التي لا تستند إلى القوة لا يمكن أن تستند إلا إلى السلطة.

ملاحظة: السلطة تُولّد القوة، لكن القوة لا يُمكنها أبدًا أن تُولّد السلطة السياسية. في الواقع، نظرية "السلطة السياسية" هي نظرية للسلطة. لذلك، بدلًا من "السلطة السياسية"، سنتحدث عن "السلطة السياسية". كما تتطلب السلطة السياسية دعمًا حقيقيًا، أي مجموعة من الأفراد. وهنا تبرز إشكالية "تقسيم" و"انتقال السلطة".

تقسيم السلطة

في نظرية العصور الوسطى، تنبع السلطة من السلطة الإلهية. رئيس الدولة هو موظفٌ إلهي. وكما رأينا، تتضمن السلطة الإلهية الأنواع الأربعة الصرفة للسلطة. في النظريات الدستورية، يجب توزيع السلطة السياسية بين عدة "دعائم" مستقلة = تقسيم للسلطات (مونتسكيو).

ملاحظة: لا يكون الفصل منطقيًا إلا إذا سلمنا بإمكانية التعارض. تفرق هذه النظرية بين ثلاث سلطات فقط:

السلطة القضائية = القاضي

السلطة التشريعية = القائد

السلطة التنفيذية = السيد

تلغى هذه النظرية سلطة الأب. وبالتالي، فهي بترٌ للسلطة كما كانت تقصد النظريات المدرسية والمطلقة.

ولأن سلطة الأب تعني "التقليد"، فإن إلغاؤها له طابع "ثوري" واضح (حول الثورة البرجوازية).

السلطة السياسية، المحرومة من سلطة الأب، وبالتالي المحرومة من الماضي، لا يمكنها إلا أن تتجه نحو المستقبل، وبالتالي نحو سلطة القائد. لهذا السبب، تُفضي النظرية الدستورية، في تطبيقها البرجوازي الثوري، إلى ديكتاتورية نابليون أو هتلر. يمكن ابداء هذه الملاحظة: 1789-1848: الثورة البرجوازية. انقلبت البرجوازية على الماضي وتوجهت نحو المستقبل. 1848-1940: الهيمنة البرجوازية. لكن في عام 1848، استحوذ مشروع ثوري آخر على المستقبل. والبرجوازية، التي تُحارب هذا المشروع الثوري، انقلبت على المستقبل. ثم انسحبت إلى الحاضر. هنا وُلدت الروح البرجوازية حقًا، مُعارضةً كل ما ليس برجوازية. لا ماضي ولا مستقبل؛ الحاضر هو الشيء الحقيقي الوحيد. لكن الحاضر بلا ماضي أو مستقبل ليس إلا حاضرًا "طبيعيًا"، غير إنساني، غير تاريخي، غير سياسي.

الهيمنة البرجوازية هي إذًا الاختفاء التدريجي للواقع السياسي، أي لسلطة الدولة: فالحياة يهيمن عليها جانبها الحيواني، ومسائل الغذاء والجنس.

سلطة الأب راسخة في القرية، بينما تميل المدينة إلى عدم الاعتراف بسلطة الأب، بل إلى تدميرها.

القرية تعيش على المدى البعيد؛ أما المدينة، على العكس، فتُمضي الوقت، وتُفكر في المستقبل. المدينة تُقر بسلطة الرئيس.

النظرية الدستورية تُشير أو تفترض مسبقًا سيطرة المدينة على القرية؛ إنها نظرية، ولكنها أيضًا واقع حضري.

سلطة الأب، المُستبعدة بالتالي من السلطة السياسية، يمكن أن تختفي أو تُرسخ في مكان آخر. إذا ترسخت داخل الأسرة، فإننا نعود إلى الصراع القديم بين الأسرة والدولة، مما يؤدي بالضرورة إلى تدمير أحد الخصمين. اتضح أن الأسرة في مجتمعاتنا قد استسلمت. ولنلاحظ بالمناسبة أنه إذا اختفت سلطة الأب، فلن يعود على الدولة الاهتمام بها (ص ١٤٨، جميع المتغيرات المحتملة لتكوين الدولة وعواقبها). يخلص كوجيف إلى أن تدمير سلطة الأب كارثي على السلطة السياسية. ووفقًا له، يجب إعادة إدخال سلطة الأب، وربطها بإحدى السلطات الثلاث أو بالسلطات الثلاث معًا، حتى لا تُشكل سلطة منفصلة. لذلك، يجب الاعتراف بسلطة الأب على أنها ملك للرئيس، أو السيد، أو القاضي، أو للسلطات الثلاث معًا. قد يتساءل المرء عما إذا كان فصل السلطات مقررًا أم محظورًا في النظرية السياسية. في الواقع، تميل جميع السلطات إلى أن تصبح شاملة، لتستولي على سلطات أخرى. ويبدو أن تقسيم كيان ما يُضعفه. لا يكون التقسيم منطقيًا إلا إذا كان من المحتمل أن تتعارض أجزاؤه المنفصلة. ومن هنا جاءت فكرة أنه من الأفضل عدم تقسيم السلطات السياسية. مع ذلك، فإن الحجة المؤيدة للفصل قوية جدًا. ولكن حتى عندما نريد فصل السلطات، يجب ألا نعزلها؛ بل يجب أن تكون قادرة على التفاعل. لذلك، من الضروري خلق اتحاد ديناميكي رغم انقسامها الثابت.

ثانيًا: التطبيقات الأخلاقية

تشير "الأخلاق السلطوية" إلى ما يجب فعله لاكتساب السلطة أو الحفاظ عليها. وبما أن هناك أربعة أنواع من السلطة، فهناك أربعة أنواع من "الأخلاق السلطوية". في الوقت الحاضر، نميل إلى استبعاد مفهوم السلطة من الاعتبارات الأخلاقية، وبالتالي الفرق الجوهري بين من يمارس السلطة ومن يخضع لها. ويفسر ذلك حقيقة أن أخلاقنا المسيحية أو "البرجوازية" هي في الأصل أخلاق العبيد، على النقيض من أخلاق السادة. وبالتالي، فهي تعكس سلوك الخاضعين للسلطة أكثر مما تعكس سلوك من يمارسونها. إن أخلاق سلطة القاضي هي الأقرب إلى الأخلاق "البرجوازية". في الواقع، كلما حاولنا بناء أخلاقيات حول مفهوم السلطة، فإننا نطور أخلاقيات من نوع "القاضي"، ونطبقها على جميع السلطات، دون تمييز بينها. ومع ذلك، تُزودنا دراسة الماضي بمعلومات حول أخلاقيات السلطة العليا (العصور القديمة، القرنان السادس عشر والسابع عشر في أوروبا، العصور الوسطى اليابانية، إلخ). مع ذلك، لا يرى المؤلفان أن "السلطة" جوهر الأخلاق. فرغم وجود آثار تاريخية لها، لم تُخلف لنا أخلاقيات السلطة العليا أي نظريات. باختصار، الفكرة الرئيسية هي أنه من العبث محاولة "الحكم" على سلطة من نوع معين (أي سلوك صاحب السلطة) بناءً على أخلاقيات تنتمي إلى نوع آخر من السلطة.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

....................

المصدر

Alexandre Kojève La notion de l’autorité (1942), edition Gallimard Nrf, bibliothèque des idées, Paris, 2004 .

 

إن التصوف المغربي قطعة حية من التصوف الإسلامي العربي، وقَسمةٌ بارزة من قَسماته، خاصة إذا علمنا أن نظريات الصوفية المغاربة قد أَثرت تأثيراً عميقا في الفكرة الصوفية الشرقية.

مقدمة

إن أعمق صورة للقلق والتمزق بالنسبة للوجود في العالم هو أن يَعْتَبر الإنسانُ هذا الوجود عبثيا، وأن يتصرف فيه برعونة وعبثية وكأَنه لا معنى له ولا هوية، وإنما هو مجرد وجودٍ غير مَليءٍ، فاغرٍ فاه لابتلاع الكائن، إنه وجود من أجل الموت لا غير.ولا شك أن الإنسان الذي هذه هي حالته، وهذه هي جَوّانْيّتُهُ ليس له إلا الضياع اللاواعي في سَدِيمِ الهَمِّ الدائم.

ألم تعد هناك لهذا الإنسان المتمزق اليقين سبيلٌ لِلَأمِ جراحاته، ورأبِ صدوعاته؟ أليس ثمة بعدٌ آخر يحميه من الفلسفة والعلم والفقه والتقانة التي جرَّبها بغير حِكمة ففجَّرته وأَزَّمتْه؟ ومِنْ نفسِه التي اتَّبَع هواها فأَشْقتْه وأَفقرتْه؟ لا مِرْيَةَ في أن بُعْدَ التصوف هو البلسَم الوحيد لشقاء الإنسان على الأرض، فهو بحِكمتِه وجمالياته ونورِه الرباني القادرُ على إقامةِ التوازن بين الأبعادِ السابقة، وعلى مد جسرِ التواصل بينها وبين السماء، وعلى انتشال الإنسان المُنشغلِ بها من أوهام تُريه ظاهراً من الحياة الدنيا وهو عن الحياة الأخرى غافلٌ. إن بُعْد التصوف هو بعدُ فقهِ المعرفة بشموليتها، يَلِجُ بالإنسان عوالمَ البهاء وهي في منتهى كمالها، ويَمُدُّ جذورَه في أرضِ المحبة والسعادة والسخاء، ويصعد به إلى حياة لا أسنى منها ولا أمتعَ ولا أصفى.

ومن أجل هذا كله، وكثيرٍ غيره، كانت الحاجة إلى التصوف أشد وأَدْعَى، وبخاصة في هذه الفترة التي نهتمُّ فيها أقوى ما يكون الاهتمام بالحضور القوي في الألفية الثالثة تقنيا ومعلوماتيا بأقل الخسارات وأخف العواقب التي ينذر بها هذا الحضور، ولا نهتم بالإنسان، ولا بالكيفية التي ستكون عليها حاله أثناء الحضور وبعده.

1 ــ التصوف المغربي قطعةٌ من التصوف الإسلامي

إن التصوف المغربي قطعة حية من التصوف الإسلامي العربي، وقَسمةٌ بارزة من قَسماته، خاصة إذا علمنا أن نظريات الصوفية المغاربة قد أَثرت تأثيراً عميقا في الفكرة الصوفية الشرقية. ومع ذلك لا يغيب عن بالنا أن اتحاد الشعوب في الاتجاه الصوفي لا يُعَد دليلا على أي اقتباس، لأن وقوع الحافر على الحافر شديدُ الاحتمال، لاسيما إذا اعتبرنا وحدةَ الوجدان البشري الذي هو في الحقيقة ينبوعُ الذوق الصوفي، ولهذا أَجمع الصوفيةُ العارفون على أن التصوف ليس عِلماً يُكتسب، وإنما هو نورٌ يَنقدِحُ في سريرة المؤمن.(1)

2 ـ سماته

فمنذ عرفت أرضُ المغرب التصوفَ صارت تُربتُها تنبت الأولياءَ والعارفين الجامعين بين الشريعة والحقيقة، والقائمين على أقوم طريقة، في الثغور والحواضر، في مداشر البوادي وقراها، في الصحاري والجبال، حتى ليَخَال الباحِثَ أن البقعة التي لا توجد فيها هذه الروح الصوفية هي بقعة شاذة في جغرافية المغرب الصوفية، وفي جسد هويته الإسلامية.

هكذا كان التصوف في المغرب، وهكذا ظل خلال العصور. فهو قد ابتعد عن الطوائف الضَّالة، وعن النظريات الموغلة في الشذوذ؛ والتي كانت تعصف بالمشرق حينذاك. وقد شهد أبو بكر الطرطوشي؛ الذي صنف كتابا في المحْدَثات والبدع؛ في رسالة وجهها من الإسكندرية إلى سلطان المغرب بأن أهل هذا البلد هم المشار إليهم في الحديث الشريف "لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق (..) لما هم عليه من التمسك بالسنة والجماعة وطهارتهم من البدع والإحداث في الدين". وفعلاً فإننا لا نكاد نجد في جميع ربوع المغرب إثارةَ بدعة جافية قبل القرن السادس الهجري، كما أننا لا يُمكن أن نعثر في المؤلفات المصنفة خلال القرون الأولى كالتشوف على إشارة إلى شذوذٍ عند الصوفية أو صدورِ دعاوى نابية عنهم، لأن التصوف كان إذْ ذَاك مطبوعا بالبساطة، ولم يكن الصوفية يختلفون عن بقية الناس إلا بكثرة العبادة، وتلاوة القرآن، وسردِ المأثورِ من الأدعية، فكانت الأذكار نفسها مقتبسة من الآثار الواردة أو من القرآن، من ذلك بعض الأحزاب، لاسيما أحزاب الشاذلي المكونة مطالعها من سلسلة آيات.

وعادةُ لبس الخرقة والمرقَّعةِ المنتشرة عند متصوفة المشرق لم تكن صفةً لازمة للصوفي المغربي، ولا بنداً من بنود السلوك الذي لابد من البدء به. فالصوفيون المغاربة كان فيهم الشخصُ الحسن البزّة كما كان فيهم الشخصُ الزَّرِيُّ البَزَّة، وكل منهما له رؤيتُه ومُنطلَقُه، وله قدمه الراسخةُ في الكشف و المعرفة اللدُنِّيةِ، ولا مجال لتفضيل أحدهما على الآخر انطلاقا من هيئته، فالسر في القلب وليس في الشكل. وإلى جانب هذه السمات في التصوف المغربي هناك سمة أخرى تتجلى في اتخاذ الرباطات للجهاد والتعبُّد والإقراء وتلاوةِ القرآن و تعليمِه، ويُخبِرنا ابن الزيات في تشوفه أن كثيرا من الصوفيين المغاربة كانوا إما أصحابَ حرفةٍ، و إما مُدَرِّرِينَ يُعلِّمون القرآن للصبيان. (2)

3 - تأثيره في العمق الاجتماعي

لقد أثبت التصوف في المغرب أنه أقدرُ تيارات الفعل الحضاري الإسلامي على التأثير والتأثر بالبيئة التي يَحُطُّ فيها رَحْلَه، وعلى امتصاص أكبر قدرٍ من سماتها وتوجهاتها.فهو عرفان بَاثٌّ للمعرفة، وسلوكٌ متجذِّرٌ في الوجدان، يُفَعِّلُ حركيةَ المجتمع، ويَشحَنُها بطاقاتٍ دافعةٍ إلى الأفُق الأسني.. أُفقِ التناسق والتناغم بين الشريعة والطريقة الذي لا جسرَ إلى الحقيقة سواه.

فمن أي نقطةٍ في الفضاء يُمكِنُنَا أن نرسم دائرة، وأن نَمُد عددا غيرَ محدودٍ من الأشعة تَصِلُ كل نقطةٍ على مُحيطِها بمَرْكَزِها. فالمحيط هو الشريعة التي تشمَل بمجموعها الأمة الإسلامية كلها، وبقبولِ المسلم للشريعة يُصبِحُ كالنقطة على محيط الدائرة، أما الأشعة فهي الطرُقُ من المحيط إلى المركز، ومن ثمة فهناك إلى الله طرُقٌ كثيرة بعدد أنفاس بني آدم، وفي المركز عندما ينتهي مَسَار الشعَاع نجد الحقيقةَ. وقد يَقنعُ بعضٌ بالوقوف على المُحيط، ويَسعَى بعضٌ آخرُ للوصول إلى المركز، وقد يُفَرِّطُ بعضٌ في جانبٍ أو يُغالي فيه. ولكن الأمرَ في النهاية آلَ إلى تَجَمُّع مجموعاتٍ من الأشعة - لضُعفِ الشعاع الواحد، وتَعرُّضِه للهجوم بتَأْثِيرٍ من تياراتٍ ظلامية – معًا، فظَهرتِ الطُّرُقٌ الصوفية.(3)

هكذا فَهِمَ التصوف المغربي الشريعةَ والطريقةَ والحقيقةَ، وعمل على رأْبِ صدوع الهُوية الإسلامية، دون الانحياز إلى مذهبٍ ضدًّا على مذهبٍ آخرَ من مذاهب الإسلام. فالعارف الصوفي لا يميل إلى مذهبٍ بعينه من مذاهب الظاهر، بل يُوَّفِق بينها جميعا، ويَرَى فيها طرُقا مُختلفة في المَسْلَك، مُتَّحِدَةً في الجوهر، مؤديةً إلى التَّيْسِيرِ على العِباد؛ الذي هو مُراد شرع الله تعالى.

4 - تَغَلُغُلُه في مرافق الحياة

بهذا النهج وعلى سَمْتِه سار التصوف في المغرب، فأَثر كبير تأْثيرٍ في بنية المجتمع العميقة، ووجَّه مرافقَ الحياة ولوَّنها بأَلْوَانه.بحيث انتشرت مياهه متغلغلة في طوايا التاريخ العام وطبقاته ومساربه، سواء أكانت سياسية أم اقتصادية، اجتماعية أم ثقافية، جهادية أم روحيةً، وكيَّفَتْه بصفائها في الجبال والسهول، والحواضر و السواحل. ولكن هذا المَسار الذي عُرف به التصوف المغربي عبْر الحِقب والقرون الأولى بدأَ يتدهور منذ أصبح في متناول العوام الذين لاحظ لهم من علوم الشريعة، ولا فهمَ أَسَدَّ لمقاصدها، ولذاك صارت أَلْسِنتهم تَلُوك التصوفَ، وكلامَ كِبار عارفيه في غير هدًى ولا اتزانٍ، حتى أمسى هذا الحقلُ الربانيُّ مَرتعاً لسوائم الخُرافة، وموئلاً لعُميانِ البصيرةِ المتاجرين ببضائعِ الأوهام وأَكَاسِير الشعوذَة... وحاشا أن يكون التصوف وأهلُه من هذه الطينة الشيطانية المندسَّة في أرضِ الروح المَفْلُوحَة بالأنوار القدسية .(4)

5 - استهواءُ مَعانيه مُعْظَمَ المثقفين

فالمعاني الرقيقة التي أنبتتها هذه الأرض الروحية قد قُدِّر لها أن تستهويَ كثيرا من أصناف المثقفين في مختلف العصور...ولكن كل طائفة نظرت إلى أسرار التصوف من خلال مزاجها، واللون الخاص الذي تكَيفت به روحُها في الحياة، وقد لاحظ ذلك الشيخ أحمد زروق (28 محرم 846 ه /07 يونيه 1442 م بفاس-18 صفر 899 ه /28 نونبر 1493 م بمصراته) الملقبُ بمحتسب الصوفية والعلماء في قواعده، خاصة القاعدة رقم 50 التي يقول فيها: (لكل فريق طريقٌ، فللعاميِّ تصوفٌ حَوتْهُ كتب أبي المحاسن الفاسي ومن نَحَا نَحْوَه، وللفقيه تصوفٌ رامَه ابن الحاج في مَدْخَلِهِ، وللمُحَدِّثِ تصوفٌ حامَ حوله ابن العربي المَعافري في سِرَاجِه، وللعابد تصوفٌ دار عليه الغزالي في مناهجه، وللمُتَرَيِّضِ تصوفٌ نبه عليه القشيري في رسالته، وللناسك تصوفٌ حَوَاهُ القوتُ والإحياء، وللحكيم تصوفٌ أَدخله الحاتمي في كُتبه، وللمنطقي تصوفٌ نحا إليه ابن سبعين في تآليفه، وللطبائعي تصوفٌ جاء به البُونِي في أسراره، وللأصولي تصوفٌ قام الشاذلي بتحقيقه.)(5) ولكن الشيخ زروقا أغفل تصوفَ الأديب الذي يريد أن ينظر الكون بقلبه ليستجليَ منه مظاهر الفنون والجمال، ولعل أبرز شخصية مغربية تحتكر هذا الجانب هو ابن الخطيب الذي يقول في كتابه" روضة التعريف بالحب الشريف": ( الفَطِنُ يشعر بالشيء وإِن جَهِلَ أسبابه، والصوفي يَسمَعُ من الكون جوابه)."(6)

6 ـ أُمِّيُون مثَقَّفون

في هذا الحقل الصوفي الذي أخذت معانِيه بلُبِّ معظم شرائح المجتمع المغربي نبغت طائفة غير قليلة ممن لنا أن نُطلق عليهم اليوم اسم (الأميين المثقفين)، فمن حلقات الصوفية – التي كانت تنبثق منها العلوم للناس – تخَرَّجَ عدد كبير من الأميين المثقفين أمثال: عبد السلام التواتي الذي كان يتَفجَّر عِلماَ رغم اُمِّيته ؛وهو تلميذ مولاي التهامي الوزاني؛، وسيدي عبد العزيز الدباغ الذي تَلمَذ له عالمٌ جليل هو ابن المبارك، ومحمد بن مبارك الزعري الذي كان أُعجوبةَ في دقائق التصوف ورقائقه، ومولاي المهدي بن السعيد العلوي الذي أَلَّفَ رغم أُميته كتابا سماه "نزهة الأرواح النورانية في الصلاة على الذات المحمدية "، وكانت له جولات في التوحيد الخاص وقد توفي على رأس القرن 14.(7)

خاتمة

سيظل الوعي بالتصوف، وبالحاجة إليه، هاجس الإنسان أينما كان وفي أي زمان . فهو فِقْهُ المعرفة الشاملة، والسبيلُ السالكة إلى المكان البشري، والموقفُ الديني والوجودي الذي يتخذه الإنسان من الحياة والكون والمطلق، والفاعليةُ التي تقوم بدور هام في تماسك الوجدان وعافية الهوية .

وقد أثبت التصوف المغربي أنه أقدرُ تيارات الفعل الحضاري الإسلامي على التأثير في البيئة التي يَحط فيها رَحله والتأثرِ بها، وعلى امتصاص أكبر قدر من سماتها وتوجهاتها، بوصفه عرفانا باثا للمعرفة اللدُنية، وسلوكا متجذرا في الوجدان، يُفَعِّلُ حركية المجتمع ويفْعَل فيها ويشحنها بطاقات دافعة إلى الأفق الأسنى.. أفق التناسق والتناغم بين الشريعة والطريقة الذي لا جسر إلى الحقيقة سواه .

ولذلك استهوت معاني التصوف معظَمَ شرائح المجتمع المغربي، وصارت مختلف تضاريس الأرض المغربية تنبت الأولياء العارفين بالله، الجامعين بين الشريعة والحقيقة، والقائمين على أقوم طريقة حتى ليخال الباحث أن البقعةَ التي لا توجد فيها هذه الروح الصوفية هي بقعة نشاز في جغرافية المغرب الروحية، وفي جسد هُويته الإسلامية . فعبْر الحقب والعصور ظهر صوفيةُ مغاربةٌ تميزوا بأحوالهم السَّنِية التي تكُون الخواطرُ فيها عبارةً عن خطاب قهري يرِد على ضمائرهم وقلوبهم، فيستوعبون أسراره، ويحاولون تصريفَها تنفيذا لأوامر الخطاب.

***

د. أحمد بلحاج آية وارهام

.......................

الهوامش

(1) عبد العزيز بن عبد الله: معطيات الحضارة المغربية، ط 1، دار الكتب العربية، الرباط 1963 م، 1/126، 128.

(2)عبد العزيز بن عبد الله: الفكر الصوفي والانتحالية بالمغرب، مجلة"البنية "، السنة الأولى، العدد6، جمادى الأولى 1382 ه /أكتوبر 1962 م، الرباط، ص ص: 63، 64.

(3) د.إبراهيم الدسوقي شتا: التصوف عند الفرس، سلسلة (كتابك 62)، دار المعارف، القاهرة 1978م، ص ص: 20، 21.

(4) معطيات الحضارة المغربية، مذكور، 1/131، 149.

(5) الشيخ أحمد زروق: قواعد التصوف، دار الجيل، بيروت1992 م، ص: 48.

(6) معطيات الحضارة المغربية، مشار إليه 1/156.

(7)م.س، 1/157.

المصادر والمراجع

1. عبد العزيز بن عبد الله: معطيات الحضارة المغربية، ط 1، دار الكتب العربية، الرباط 1963م.

2. عبد العزيز بن عبد الله: الفكر الصوفي والانتحالية بالمغرب، مجلة"البنية "، السنة الأولى، العدد6، جمادى الأولى 1382 ه /أكتوبر 1962 م، الرباط.

3. د.إبراهيم الدسوقي شتا: التصوف عند الفرس، سلسلة (كتابك 62)، دار المعارف، القاهرة 1978م.

4. الشيخ أحمد زروق: قواعد التصوف، دار الجيل، بيروت1992 م.

 

ما بين الفن المسرحي ونظام التفاعل الاجتماعي.. دراسة تحليلية - سوسيولوجية

" يعتقد جوفمان أن كل واحد منا يلعب أدواراً متعددة في الحياة اليومية، كل دور له سيناريو خاص وأسلوب في الأداء، ونحن نبدل هذه الأدوار بناءً على المواقف التي نواجهها."

" الحياة الاجتماعية تشبه المسرح. الناس هم الممثلون، ونحن نمثل أدوارنا أمام جمهور يتوقع منا أداءً معيناً ."

" إن فهمنا للذات هو بناء اجتماعي، نصنعه من خلال التفاعل مع الآخرين ومن خلال الأدوار التي نؤديها في المجتمع ."  في كل مرة نتفاعل فيها مع الآخرين، نحن نقدم صورة عن أنفسنا، ونسعى لجعل هذه الصورة مقبولة وملائمة للسياق الاجتماعي ."

" في نهاية المطاف، الأداء الذي نقدمه ليس فقط لتحسين صورتنا أمام الآخرين، ولكن أيضاً لتعزيز شعورنا بالهوية والذات ."

إرفنج جوفمان (تقديم الذات في الحياة اليومية عام 1956)

هذه الاقتباسات تعبر عن مفهوم " العرض الذاتي " الذي طورّه جوفمان، حيث يرى أن الأفراد في الحياة اليومية يقدمون أنفسهم كما لو كانوا على خشبة المسرح، يلعبون أدواراً تتناسب مع التوقعات الاجتماعية والثقافية المحيطة بهم.

" إن الحياة الاجتماعية مماثلة للحياة المسرحية تضم فرقاً منظمة لدعم التصور الذاتي فمثلما يعمل الفريق المسرحي على التعاون لتحقيق إقناع الجمهور الذي يشاهد العرض المسرحي الذي يقدمه الفريق. ففي كل مواقف الحياة الاجتماعية، ومنظماتها، تستطيع أن تنظر إلى الأعضاء المشاركين في هذه المواقف بأنهم يشبهون الفريق، ويهدفون إلى تحقيق أهداف مماثلة لأهدافه ففريق العاملين في مستشفى - مثلاً - يحاولون إقناع المرضى بأنهم قادرين على خدمتهم طبياً. وأن احتمالات الشفاء عالية في هذا المستشفى وهذا ينطق على مناحي أدوار والعلاقات الاجتماعية " (الكاتب).

يرى إرفنج جوفمان Erving Goffman (1922-1982)(1) الكثير من القواسم المشتركة بين العروض المسرحية وبين " الأدوار" التي نؤديها جميعاً في أفعالنا وتفاعلاتنا اليومية. يُنظر إلى التفاعل كشيء هش للغاية، وما يحافظ عليه هو الأداءات الاجتماعية والأداءات الضعيفة أو الخلل الوظيفي يُنظر إليها باعتبارها تهديداً كبيراً للتفاعل الاجتماعي، تماماً مثلما تكون تهديداً للعروض المسرحية.

ولم ينته الأمر عند هذا الحد لدى جوفمان في تشبيهاته بين المسرح والتفاعل الاجتماعي. ففي كل تفاعل اجتماعي، هناك منطقة أمامية، تقابلها خشبة المسرح في العرض المسرحي. والممثلون على المسرح وفي الحياة الاجتماعية يُنظر إليهم باعتبارهم مهتمين بالمظاهر، وارتداء الأزياء واستخدام معدات التمثيل. علاوة على ذلك، هناك منطقة خلفية، مكان يمكن للممثلين أن يلجؤوا إليه لإعداد أنفسهم للأداء. وفي عالم المسرح، تكون منطقة الكواليس التي يتخلص فيها الممثل من الأدوار التي يلعبها، ويكون على طبيعته.

يُعرف الفن المسرحي(2) في قاموس وبستر بأنه " فن التأليف المسرحي والتمثيل المسرحي "  ويشير مفهوم الفن المسرحي بحسب دائرة المعارف البريطانية لأحد الفنون الدرامية التي تقوم على تقديم العروض بشكل حي ومباشر بحيث يسبق هذه العروض تخطيط وتنظيم دقيق جداً لإيجاد شعور متماسك وهام للعمل المسرحي والدراما، حتى إن كلمة مسرح تعود في أصلها إلى اللسان اليوناني (باليونانية: theatron)، ويعتبر الفن المسرحي أحد الفنون الدرامية التي تؤثر على الجماهير بشكل كبير، وذلك لأنها تجمع ما بين التمثيل والغناء والرقص، ويستخدم الجمهور أثناء رؤيته للعمل المسرحي حواسه كالسمع والبصر وغيرها، لذلك فهي تترك انطباع وتأثير كبير على المتلقي إذ إن لكل عمل مسرحي رسالة يسعى إلى إيصالها للجمهور. وفي أول أعماله وأكثرها توثيقاً " تقديم الذات في الحياة اليومية The Presentation of Self in Everyday Life " 1956(3) يتناول جوفمان المفهوم السوسيولوجي المألوف، أي " الدور "، ويضعه في موضعه الأصلي على خشبة المسرح عن طريق إحلال تحليل السلوك الإنساني في المكان المسرحي، يتناول جوفمان الموقف المسرحي للفاعلين على خشبة المسرح ويطبق هذا العمل من التمثيل المسرحي على الحياة اليومية للمرأة والرجل العاديين اللذين يتصرفون ضمن أدوارهم في العالم الحقيقي.

ينظر جوفمان إلى الطرق التي يقدم الأفراد من خلالها أنفسهم في الحياة اليومية ونشاطاتهم الموجهة نحو الآخرين. وبشكل محدد، يركز على إدارة الانطباع، أي الطرق التي يوجه الفرد من خلالها ويضبط الانطباعات التي يشكلها الآخرون عنه. ويستخدم جوفمان مفهومين آخرين من مفاهيم الفن المسرحي وهما الواجهة والمناطق الخلفية. وتشير الواجهة Front- stage إلى " ذلك الجزء من أداء الفرد الذي يعمل بصورة منتظمة ضمن طريقة عامة وثابتة من أجل تعريف الموقف لأولئك اللذين يشاهدون الأداء ".

تتضمن الواجهة المشهد المسرحي (الأثاث والموضوعات التي يزود بها المشهد وخشبة المسرح وكل ما يستعان به في الإخراج المسرحي). و" الواجهة الشخصية " التي تشير إلى موضوعات " الأدوات المعبرة " مثل: إشارات الوظيفة أو الرتبة، والملابس، والجنس، والسن، والخصائص العرقية، والحجم، والمظهر الشكلي، وأنماط الكلام، وتعبيرات الوجه، والإيماءات الجسدية.

ويؤكد جوفمان بأن المعايير التي تجعل المرأة ملتزمة للأخذ بعين الاعتبار الأمور التي تشوش الواجهة الشخصية وتحافظ عليها (اللباس والظهور) هي أكثر تقييداً للمرأة من الرجل. وبعد كل ذلك، يقول جوفمان " بالنسبة للمرأة، أن تظهر في مناسبة عامة بثوب بال يمكن أن يؤخذ علامة على سهولة المنال والتحرر من الأخلاق ".

أسال نفسك على سبيل المثال، متى آخر مرة حملت فيها محفظة جلدية للأوراق والوثائق تحتاج لها لحمل كتبك، وربما استخدمتها كذلك لتشكل انطباعاً لدى الشخص الذي سيقابلك من أجل العمل، أو عميد الكلية، أو أيضاً أستاذك في علم الاجتماع، وربما نتذكر أيضاً في ذلك كيف أوضحت كل جملة بعناية، وكيف استخدمت جوانب أخرى من واجهتك الشخصية مثل، ملابسك، والمظهر الخارجي، وتعبيرات الوجه وإيماءات الجسد، لتقديم نفسك بأفضل صورة. ومن ثم، فإن منطقة الواجهة، تتضمن أي شخص يلاحظ من قبل الجمهور بينما يكون الفاعل على المنصة الأمامية (الواجهة) التي وجدت من أجل الأداء الناجح. إن منطقة الواجهة تمثل المكان الذي ينفذ فيه الفاعل النص الحرفي لإدارة الانطباع بجدية، وفي منطقة الواجهة يتجنب الفاعل أي شيء غير ملائم بالنسبة للنص.

إن مثل هذا السلوك يستحضر في الذهن متغيرات النمط عند بارسونز حيث يقوم الفاعل بعناية باختيارات ملائمة. إن الفاعلين لدى جوفمان لا يرتجلون عندما يكونوا على منصة الواجهة. ومن ثم، فإن ما يحصل في منطقة الواجهة هو محاولة للتلاعب بالجمهور. وتصف مقالة في الصحيفة اللندنية الاهتمام بالنظام ذي النص المكتوب في بيع السيارات والتلاعب كما يحدث في صناعة المركبات. توضح المقالة أن الباعة يتعلمون نصاً ينبغي عليهم أن يتبعوه تماماً كما أن الفاعل يتعلم دوراً في عملية الأداء. أحد أفضل النصوص التي تم اقتباسها حمل عنوان " العب دور هاريس ": (التحدث إلى الزبون) السيد هاريس على الهاتف ويريد أن يعلم ما إذا كانت السيارة قد تم بيعها، هل أقول له نعم؟

إن أداء منطقة الواجهة في المثال المبين أعلاه يمكن أن يكون بشكل أفضل إذا رن الهاتف في لحظة ممارسة الاستراتيجية (مدعم للأداء) وإذا تم إيصال النص بنبرة صوت مقنعة، (واجهة شخصية)، ومن ثم فإن الواجهة سوف تتضمن فرصة أفضل لتعريف الموقف للزبون والذي سوف يجيب بعد ذلك بسرعة، نعم.

وبالمقابل، فإن منطقة الخلفية Back Region تمثل المكان الذي يغلق ويحجب عن الجمهور حيث تمارس طرق إدارة الانطباع. الكثير من أشكال المساعدة تعطى للفاعلين في منطقة المنصة الخلفية، مثلاً، التكيف مع العادات والتلقين. كما أنها تمثل المكان الذي يكون فيه المؤدي متحرراً من القيود، وكما يوضح جوفمان: " إنه يستطيع أن ينزع واجهته، وأن يحضر نصه بصوت مرتفع، وأن ينزع شخصيته المسرحية ". إن المنصة الخلفية هي المنطقة التي لا ينخرط فيها الفاعل في عملية إدارة الانطباع، حيث يستطيع أن يكون ذاته الحقيقية.

وفي دراسة حول التفاعل الاجتماعي(4) في مكان الغسالة الكهربائية استخدمت كينين Kenen مفهوم جوفمان حول منطقة الواجهة لتحلل بعض النشاطات التي كانت تلاحظها. لقد وجدت أن الزبائن قد انخرطوا بالعمل سراً في وضع منصة الواجهة حيث حاولوا إخفاء بعض الموضوعات التي كانوا يغسلونها، وكما توضحها " الوسائد الرقيقة القديمة، والملابس التحتية المثقوبة، والأثواب المبقعة، وحتى مصمم شراشف الأسرة يستطيع أن يكشف الكثير عن عادات المرء وأذواقه للغريب، وربما تتعارض مع عملية تقديم الذات المقصودة ". بينما تبدو أماكن الغسالات الكهربائية وأماكن بيع السيارات بعيدة عن المسرح، تذكر أن الفن المسرحي لدى جوفمان قد اهتم بحياة الرجال والنساء العاديين كما يمارسون أدوارهم اليومية على منصة الحياة.

وبجذب انتباهنا إلى منطقة المنصة الخلفية، يساعدنا جوفمان في فهم كل العمل الخفي المتضمن في تحقيق تقديم ناجح للذات علانية أمام الناس. لقد أظهر لنا كيف يتدبر الأفراد في دراما الحياة اليومية ليبدو بشكل جيد عندما يقدمون أنفسهم للآخرين في البيت والمدرسة والعمل والجوار في أماكن تفاعلية أخرى قصيرة المدى.

في هذا السياق يستخدم راندال كولينز  Randall Collins(5) المفاهيم المسرحية لدى جوفمان ليحلل السياسات التنظيمية والتي تتضمن في المستويات المتدنية تقديم واجهة موحدة للمشرف، التظاهر بالخضوع لمطالب المشرف، بينما يتم إعطاء العمال فترة استراحة والتي من خلالها تتم السيطرة على سير العمل. تلك المواجهات مع السلطة تمثل المنصة الأمامية (الواجهة) والعمال لوحدهم يمثلون المنصة الخلفية، ينخرطون بمحادثة حول أشياء مثل، كيف تم استغفال الرئيس، وكيف أن عضو الفريق كشف سره، كما تم تبادل النكات والحكايات النادرة، وخلق ثقافة محادثة كلية لعالم المنصة الخلفية.

وهنا، فإن كولينز، عالم الاجتماع، يطبق بوعي أفكار جوفمان على البناء التنظيمي، لكن كيف تم استخدامها من قبل غير علماء الاجتماع؟ في مقال صحفي حول المقولات المسجلة للنشر وغير المسجلة للسياسيين (ليست للنشر)، تكتب الصحافية: إن ما نصفه بأنه مسجل يميل غالباً ليكون معارضاً تماماً للمسجل، بل إنه الجزء الذي يمثل الخداع والتلفيق، والصور التي يأمل السياسيون بتوصيلها مع تفانينا وتشجيعنا السري. وبوجه عام يتم توصيلها. إن الجزء السري غير المسجل للنشر، هو الجزء الذي يمكن أن نجد فيه الواقع وما هو صحيح وموثوق، والذي يفترض السياسيون بوجه عام أن يبقى غامضاً ومظلماً للأبد. إن هذه الصحافية تنبه القارئ إلى نقطتين هامتين ضمن الفن المسرحي: الأولى: إن ما هو مسجل للنشر بالنسبة للسياسي يمثل الواجهة، حيث تمت ممارسة حيل صغيرة ومخادعات كبيرة. الثانية: إن التسجيل الحقيقي، الواقعي يقع في المنطقة الخلفية، حيث تحدث السياسيون بصراحة ودون تحيز حول ما يفكرون به حقاً. إن هذه الصحافية تنبهنا، نحن الجمهور، إلى المحاولة التي يقوم بها السياسيون لتعريف الموقف لنا من خلال أدائهم الذي يظهر في الواجهة.

الذي يحصل عندما تكون نشاطات الواجهة ونشاطات الخلفية غير متسقة تماماً هو أن الفاعل لا يستطيع أن يؤدي بشكل جيد، والأداء يكون أقل نجاحاً، بدرجات مختلفة. وفي بعض الحالات يكون الشخص الأبله قاصراً عن الأداء، وبشكل خاص عندما يفشل الملقن بالتصرف بسرعة كافية لتزويده بالسطر الذي نسيه، أو عندما يتهشم أي جزء من عناصر الإخراج المسرحي أو ينزلق أي جزء من الزي على خشبة المسرح، مثل هذه الثغرات الثانوية يمكن تلافيها بحيث يتم استكمال الأداء، ولكن ما الذي يحصل عندما تصبح المنطقة الخلفية هي الواجهة. عندما يرى الجمهور فجأة جميع النشاط الذي تم إخفاؤه في المنطقة الخلفية حتى الآن. إن تحليل جوفمان للقدر المحتوم يلقي الضوء على هذه النقطة. في كتابه " طقوس التفاعل " يوضح بأنه في المواقف التي يكون فيها التنسيق والكتمان أموراً حيوية، فإن المدى الكلي من التعثرات الثانوية غير المتوقعة تفقد نوعيتها الاعتيادية القابلة للتصحيح وتصبح مهلكة وقاضية.

تساعدنا أفكار جوفمان المسرحية في اختبار المواقف الحياتية التي لا تحصى عندما نستخدم كل ما هو متاح لنا في الواجهة والمنطقة الخلفية لخلق أفضل انطباعات ممكنة حول أنفسنا. إن سؤاله الأساسي لنا هو " ألسنا جميعاً نتظاهر كفنانين بعد كل ذلك؟ ". ليس هناك شك بأننا نستخدم إدارة الانطباع في حياتنا اليومية عندما ننجح مثلاً في التمثيل لمقابلة من أجل العمل، وعندما نمتع (بطعام شهي أو شراب) جماعة من الغرباء في جمع اجتماعي. وعندما نقنع الشخص الذي نحب أن يكون قريننا / قرينتنا، وعندما نفعل أفضل ما لدينا لنكون "صخرة منيعة" بالنسبة لأعضاء العائلة الآخرين في جنازة قريب حميم، في كل من تلك الأمثلة نريد أن نكون الشخص الذي يعرّف الموقف للأفراد الحاضرين. إن أفكار جوفمان تظهر كيف يكون هذا ممكناً.

وهكذا ينظر جوفمان إلى الذات(6) ليس كملكية للممثل بل بالأحرى على أنها نتاج التفاعل الدرامي بين الممثل والجمهور. الذات هي تأثير درامي ناشئ... من مشهد يتم تقديمه لأن الذات هي نتاج تفاعل درامي، فهي عرضة للتشويش أثناء الأداء. يهتم التمثيل المسرحي عند جوفمان بالعمليات التي يتم من خلالها منع مثل هذه الاضطرابات أو التعامل معها. رغم أن الجزء الأكبر من نقاشه يركز على هذه الحالات الدرامية الطارئة، أشار جوفمان إلى أن معظم العروض ناجحة. والنتيجة هي أنه في الظروف العادية، يتم منح الذات المؤكدة للفاعلين، و" تبدو" كأنها تنبثق من الفاعل.

افترض جوفمان أنه عندما يتفاعل الأفراد، فإنهم يريدون تقديم شعور معين بالذات يقبله الآخرون. ومع ذلك، حتى عندما يقدمون تلك الذات، يدرك الفاعلون أن أفراد الجمهور يمكن أن يؤثروا على أدائهم. لهذا السبب، يتناغم الفاعلون مع الحاجة للهيمنة على الجمهور، وخاصة مع تلك العناصر التي قد تكون مدمرة. يأمل الفاعلون أن يكون الشعور بالذات الذي يقدمونه للجمهور قوياً بما يكفي للجمهور لتعريف الفاعلين كما يريد الفاعلون منهم. يأمل الفاعلون أيضاً أن يتسبب ذلك في أن يتصرف الجمهور طوعاً كما يريد الفاعلون منهم. وصف جوفمان هذا الاهتمام المركزي بأنه " إدارة الانطباع ". يتضمن هذا الأمر تقنيات يستخدمها الممثلون للحفاظ على انطباعات معينة في مواجهة المشكلات التي من المحتمل أن يواجهوها والطرق التي يستخدمونها للتعامل مع هذه المشكلات.

رغم أن جوفمان اقترب من الواجهة والجوانب الأخرى لنظامه كتفاعلي رمزي، فإنه ناقش طابعها البنيوي. على سبيل المثال، زعم أن الواجهات تميل إلى أن تصبح مؤسسية، وهكذا تنشأ " التمثلات الجماعية " حول ما يجب أن يحدث في جبهة معينة. في كثير من الأحيان عندما يقوم الممثلون بأدوار محددة، يجدون واجهات معينة تم إنشاؤها بالفعل لمثل هذه العروض. النتيجة، كما قال جوفمان، هي أن الواجهات تميل إلى أن تُختار لا أن تُنشأ. تنقل هذه الفكرة صورة بنيوية أكثر بكثير مما نتلقاه من معظم التفاعليين الرمزيين.

في كتابه " الوصمة " 1963 يميز جوفمان بين الناس الذين هم " عرضة للخزي " أي " الذين لديهم وصمة يخفونها، ولكنها قد تكتشف في أي لحظة "، والناس " المخزيين " الذين لديهم وصمة يستطيع الآخرين مشاهدتها أوتوماتيكياً. إن الناس من الجماعة الأولى يجب أن يسيطروا على المعلومات التي يريد الآخرين معرفتها عنهم. بينما الناس من الجماعة الثانية عليهم أن يديروا التوترات التي تنشأ عندما يتفاعل الناس (العاديين) مع الأفراد الموصومين. مما يشير إلى علاقة التدني التي تجرد الفرد من أهلية القبول الاجتماعي الكامل. كما حاول جوفمان التركيز في هذا المجال بصفة أساسية على المشاكل الناجمة عن وصم الأفراد والجماعات، وعلى آليات التكيف التي يستخدمونها لمجابهة هذه المشاكل. والوصمة، التي يُوصم بها الفرد، قد تكون جسمية (العدوى بأمراض جنسية)، أو وثائقية (صحيفة حالة جنائية)، أو قرينية (صحبة سيئة)، سواء كانت منسوبة أو مكتسبة.

إن الوصمة هي العملية التي تنسب الأخطاء والآثام الدالة على الانحطاط الخلقي إلى أشخاص في المجتمع، فتصفهم بصفات بغيضة أو سمات تجلب لهم العار أو تثير الشائعات. وتشير الوصمة إلى أكثر من مجرد الفعل الرسمي من جانب المجتمع تجاه العضو، الذي أساء التصرف أو كشف عن أي اختلاف ملحوظ عن بقية الأعضاء. وقد ذهب جورج هربرت ميد إلى أن الوصمة الاجتماعية تزداد بناءً على حجم العقوبات المفروضة على مخالفي القانون ونوعها. فأكد أن العقوبات الصارمة المرتبطة بالمتابعة والمقاضاة، مسألة تتعارض مع إعادة تكييف المنحرف. كما أن الإجراءات التي تُتخذ نحو مخالفي القانون، تؤدي إلى تدمير التفاعل بينهم وبين المجتمع، ما يخلق روح العداوة عند المنحرف. وينطوي توجه ميد هذا على أن نظام العقوبات الصارمة هو نظام فاشل تماماً، وأن فشله لا يقتصر على عجزه عن ردع الانحراف فقط، وإنما يمتد إلى تكوين فئة إجرامية.

إن تجربة الوصمة تختلف بناءً على إمكانية إخفاء السمة الموصومة. فالأشخاص الذين لا يتمتعون بالسمعة الطيبة هم الأفراد الذين لديهم وصمة عار مرئية بشكل أساسي مثل: العرق- الانتماء العرقي أو الجنس أو الإعاقة الجسدية. وعلى النقيض من ذلك، فإن الأشخاص الذين لا يتمتعون بالسمعة الطيبة هم الأفراد الذين لديهم وصمة عار يمكن إخفاؤها بشكل أساسي مثل المرض العقلي أو الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية أو وضع الأقلية الجنسية. وبالتالي، تشير هذه المصطلحات إلى الوضوح البصري للسمات الموصومة.

قد تؤثر الوصمة على سلوك أولئك الذين وصموا. غالباً ما يبدأ أولئك الذين تم تصنيفهم في قوالب نمطية في التصرف بالطرق التي يتوقعها منهم من وصمهم. لا يغير هذا سلوكهم فحسب، بل يشكل أيضاً عواطفهم ومعتقداتهم. غالباً ما يواجه أعضاء المجموعات الاجتماعية الموصومة تحيزاً يسبب الاكتئاب (أي التحيز). تضع هذه الوصمات الهوية الاجتماعية للشخص في مواقف مهددة، مثل انخفاض احترام الذات. وبسبب هذا، أصبحت نظريات الهوية محل بحث كبير. يمكن أن تسير نظريات تهديد الهوية جنبًا إلى جنب مع نظرية الوصم.

يبدأ أعضاء المجموعات التي تعاني من وصمة العار في إدراك أنهم لا يعاملون بنفس الطريقة ويدركون أنهم يتعرضون للتمييز على الأرجح. وقد أظهرت الدراسات أن " أغلب الأطفال في سن العاشرة يدركون الصور النمطية الثقافية للمجموعات المختلفة في المجتمع، والأطفال الذين ينتمون إلى مجموعات تعاني من وصمة العار يدركون الأنماط الثقافية في سن أصغر. فعلى سبيل المثال، قد يخضع بعض الأفراد لجراحة تجميلية، ومع ذلك، فإنهم لا يزالون يخاطرون بالكشف عن أنفسهم كأشخاص كانوا يعانون من وصمة العار سابقاً. يمكنهم أيضاً بذل جهود خاصة للتعويض عن وصمة العار الخاصة بهم، مثل لفت الانتباه إلى منطقة أخرى من الجسم أو إلى مهارة مثيرة للإعجاب. يمكنهم أيضاً استخدام وصمة العار الخاصة بهم كذريعة لعدم نجاحهم، ويمكنهم اعتبارها تجربة تعليمية، أو يمكنهم استخدامها لانتقاد " الطبيعيين ". ومع ذلك، يمكن أن يؤدي الاختباء إلى مزيد من العزلة والاكتئاب والقلق وعندما يخرجون في الأماكن العامة، يمكنهم بدورهم الشعور بمزيد من الخجل والخوف من إظهار الغضب أو المشاعر السلبية الأخرى.

ويمكن للأفراد الذين يعانون من وصمة العار أن يلجؤوا أيضاً إلى أشخاص آخرين يعانون من وصمة العار أو أشخاص متعاطفين للحصول على الدعم والتغلب على هذه المشكلة. يمكنهم تكوين أو الانضمام إلى مجموعات المساعدة الذاتية أو النوادي أو الجمعيات الوطنية أو مجموعات أخرى للشعور بالانتماء. قد ينتجون أيضاً مؤتمرات أو مجلات خاصة بهم لرفع معنوياتهم.

خلاصة القول، تركز نظرية الوصمة التي وضعها إرفنج جوفمان على الآثار الاجتماعية المترتبة على وصم الأفراد بالانحراف أو الوصم في المجتمع. ويتعمق جوفمان في كيفية تمييز الأفراد بالصور النمطية السلبية، مما يؤدي إلى استبعادهم وتهميشهم. كما يسلط جوفمان الضوء على عملية وصم الأفراد باعتبارهم منتهكي القواعد، وهو ما قد يؤدي إلى استيعاب الهوية المنحرفة. وتؤكد هذه النظرية على أهمية التفاعلات الرمزية في تشكيل تصورات الأفراد لأنفسهم وللآخرين، وخاصة في سياق المعايير والتوقعات الاجتماعية.

وهكذا تُعد نظرية الوصمة التي وضعها جوفمان في عام 1963 مساهمة كبيرة في علم اجتماع الانحراف. وتركز على فهم كيفية إدراك الأفراد ذوي السمات الموصومة ومعاملتهم اجتماعياً. ويستمد مفهوم جوفمان للوصمة جذوره من علم الاجتماع ويؤكد على الطبيعة التفاعلية للوصمة. وهي تختلف عن الاستخدامات النفسية والعامية الأكثر حداثة للمصطلح. وتستكشف النظرية العلاقة بين الوصمة والهوية، بناءً على التقاليد النظرية لميد وكولي. ويستمر عمل جوفمان في التأثير على علم النفس الاجتماعي وعلم اجتماع الانحراف، حيث يشكل أكثر من نصف قرن من البحث العلمي.

وفيما يتعلق بالتحليل المسرحي عند جوفمان نجد أنه يتفق مع جذوره التفاعلية الرمزية. فهو يركز على الفاعلين والفعل والتفاعل. وبالعمل في ميدان التفاعلية الرمزية التقليدية نفسه، وجد جوفمان في المسرح استعارة ممتازة لتسليط الضوء على العمليات الاجتماعية صغيرة النطاق في حياتنا الاجتماعية أي (المنمنمات(7) الاجتماعية). وقد لخص جوفمان فكرته عن الحياة الاجتماعية بوصفها عملية تمثيل حيث إن الذات لا فحوى لها غير ما هو متوقع منها في مواقف مختلفة، ونحن لدينا من الذوات بقدر ما هنالك من مناسبات ومواقف مختلفة. وكثيراً ما يصنف منظور جوفمان بالمنظور المسرحي وهو مصطلح يستخدمه بنفسه، فالأدوار أي التوقعات التي تكون لدى الآخرين عن سلوكنا في ظروف معينة هي بمنزلة نصوص مكتوبة نقوم بتمثيلها، وبالتالي فقد أهتم جوفمان بتوضيح الأساليب التي نسلكها لكي نؤدي أدوارنا، ولذا يرى جوفمان جميع الأفعال بهذا المعنى بينما يرى كثير من منظري التفاعلية الرمزية أن التفسيرات لا تناسب إلا المواقف التي وضعت فيها، وليس بمقدورنا أن نضع تعميمات عن الحياة الاجتماعية، والمجتمع بصفته محادثة ظاهرة تتغير باستمرار وبالتالي لا يمكن وضع تعميمات مجردة ووفقا لجوفمان وأتباعه من التفاعليين الرمزيين، فالتنشئة الاجتماعية هي عادةً النجاح في تنمية الطاقات لدى الأفراد الناجمة عن ردود أفعال الآخرين وإن كان معظم منظري نظرية الفعل لا يوافقون على ذلك التفسير. ومع هذا فنظرية التسمية Labelling هي النظرية التي انبثقت عن التفاعلية الرمزية، وإن كانت هي أقل اهتماماً بالطرق التي تجعل الأفراد قادرين على التأثير في تفسيرات الآخرين عن أنفسهم أكثر من أنماط التفاعل، ونظرية التسمية هي أساساً تهتم في الواقع بأن الناس في بعض الأحيان يكونوا ضحايا Victims وغالباً عاجزين عن هذه التفسيرات من الآخرين، وعند هذا الحد فإن هوياتهم الاجتماعية تكون مفروضة عليهم وحتى ضد إرادتهم، وبالتالي لماذا يحدث هذا؟ ولماذا نجد أنفسنا في مواقف اجتماعية لا نستطيع فيها أن نؤثر في تفسيرات الآخرين؟

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

.............................

- المراجع المعتمدة:

- إرفنغ غوفمان: تقديم الذات في الحياة اليومية، دار معنى للنشر والتوزيع، الرياض، ط1، 2021.

رث والاس، ألسون وولف: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع – تمدد آفاق النظرية الكلاسيكية، ترجمة: محمد عبد الكريم الحوراني، دار مجدلاوي، عمان، ط1 (العربية)، 2011-2012.

جورج ريتزر، جيفري ستيبنسكي: النظريات الحديثة في علم الاجتماع، دققه وراجعه علمياً: ذيب محمد الدوسري وآخرون، مكتبة جرير والجمعية السعودية للدراسات الاجتماعية، الرياض، ط1، 2021.

عبد العزيز الغريب: نظريات علم الاجتماع – تصنيفاتها، اتجاهاتها، وبعض نماذجها التطبيقية من النظرية الوضعية إلى ما بعد الحداثة، دار الزهراء، الرياض، ط1، 2012.

حسام الدين فياض: سوسيولوجيا العلاقات الاجتماعية، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب: الرابع، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2023.

حسام الدين فياض: تمظهرات السلوك الإنساني في المجتمع المعاصر، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب: السادس، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2024.

مركز مداد للدراسات والبحوث التربوية: مفهوم الذات في علم النفس، 4 ديسمبر 2023. https://2u.pw/ENCMNMgE

ميريه جراح: تعرف على الفن المسرحي وتاريخه، موقع فنون، 29 نوفمبر 2021. https://2u.pw/GHPDkQRz

طاهر البني: المنمنمات (فن)، الموسوعة العربية، المجلد التاسع عشر، دمشق،

 1998. https://arab-ency.com.sy/ency/details/10622/19

Saul McLeod: Self-Concept in Psychology: Definition & Examples, Simply Psychology, Updated on December 20, 2023. https://www.simplypsychology.org/self-concept.html

Kendra Cherry: What Is Self-Concept? (The Fundamental "Who Am I?" Question), Verywell Mind, Updated on July 29, 2024 https://www.verywellmind.com/what-is-self-concept-2795865

الهوامش

(1) إرفنج جوفمان Erving Goffman هو عالم اجتماع وعالم نفس اجتماعي وكاتب ولد في كندا، ويعتبره البعض " أكثر علماء الاجتماع الأمريكيين تأثيراً في القرن العشرين ". احتل في عام 2007 المرتبة السادسة في دليل التايمز للتعليم العالي بين مؤلفي الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، بعد أنتوني جيدنز وبيير بورديو وميشال فوكو، وتقدم على يورغن هابرماس.

حقق غوفمان تقدما كبيراً في دراسة التفاعل المباشر وجهاً لوجه، ووضع " النموذج المسرحي " للتفاعل الإنساني، وطور العديد من المفاهيم التي كان لها تأثير هائل بشكل خاص في مجال علم الاجتماع الجزئي للحياة اليومية. اهتمت العديد من أعماله بتنظيم السلوك اليومي، وهو مفهوم أطلق عليه اسم " ترتيب التفاعل ". ساهم أيضاً في المفهوم الاجتماعي للتأطير (تحليل الإطار)، وفي نظرية الألعاب (مفهوم التفاعل الاستراتيجي)، وفي دراسة التفاعلات واللسانيات. وقال فيما يتعلق بالنقطة الأخيرة إنه يجب النظر إلى فعل التحدث كفعل اجتماعي وليس بناءً لغوياً. استخدم غوفمان من المنظور المنهجي في الغالب مقاربات نوعية، على وجه التحديد الإثنوغرافية، واشتهرت بذلك دراسته للجوانب الاجتماعية للاضطراب النفسي، وبشكل خاص عمل المؤسسات المتكاملة. بشكل عام، تأخذ مساهماته قيمتها لكونها محاولة لإنشاء نظرية تشكل جسراً يربط بين الوكالة والبناء - لتعميم البناء الاجتماعي، والتفاعل الرمزي، وتحليل المحادثة، والدراسات الإثنوغرافية ودراسة أهمية التفاعلات الفردية. امتد تأثيره إلى ما هو أبعد من علم الاجتماع: على سبيل المثال، قدم عمله افتراضات الكثير من الأبحاث الحالية عن اللغة والتفاعل الاجتماعي في مجال التواصل.

(2) إرفنغ غوفمان: تقديم الذات في الحياة اليومية، دار معنى للنشر والتوزيع، الرياض، ط1، 2021.

(3) المسرح من الفنون الدرامية المهمة والقديمة التي تهتم بالأداء والعروض الحية على خشبة المسرح، وكلمة مسرح Theater مشتقة من الكلمة اليونانية theaomai التي تعني الرؤية، وهذا دليل على أهمية الأداء في الفنون المسرحية، ولكن هذا ليس كل شيء فالمسرح فن أدبي يهتم بالمضمون والعنصر الفكري الذي يقدمه للجمهور، ولكن لا يكتفي فن المسرح بأحد العنصرين، الأداء والفكرة بل يجب أن يجتمعا معاً ليشكلا  عملًا فنياً مهماً، ومع أن المسرح يُدرس على أنه فن أدبي إلا أنه يجب أن يولي اهتماماً كبيراً بالحركة والغناء والرقص ليترك الأثر المطلوب لدى المشاهد، و الفن المسرحي قديم جداً وكان وسيلة تعبيرية للبشر منذ آلاف السنين، وجمع بين الترفيه والتعليم ليقدم قيمة كبيرة للمجتمع.

- تاريخياً: وُجدَ المسرح منذ القدم ويمكن القول إن تاريخه يعود إلى آلاف السنين، وعلى الرغم من أن الجذور التاريخية للمسرح الذي نعرفه اليوم تعود إلى العصر اليوناني إلا أنه أقدم من ذلك، ويمكن أن يتجلى بالطقوس القبلية والدينية التي كانت موجود قبل ذلك بكثير، وعلى هذا فإن أصل المسرح يعود إلى 8500 سنة قبل الميلاد، في حين أن أول مسرح حقيقي بالمفهوم الذي نعرفه اليوم وُجدَ في أوروبا ويعود تاريخه إلى 600 سنة قبل الميلاد وهي فترة العصر الروماني المشهور بمدرجاته الواسعة التي كانت تُقام فيها المسرحيات والعروض الحية والاحتفالات.

لم يقتصر وجود المسرح على اليونانيين فحسب بل وُجدَت دلائل لوجوده عند المصريين القدماء، وحتى الإغريق كان لهم دوراً أساسياً في تشكيل مفهوم المسرح، أما من الناحية العلمية فتشير التسجيلات إلى أن المسرح بدأ بمهرجان ديني أُقيمَ لتكريم الإله ديونيسوس واتخذ حينها شكل الرقص والغناء، ومع هذا ما زال اليونانيون هم الأكثر تأثيراً في المسرح وما زالت أقنعتهم تُستخدم إلى اليوم وهي رمز للمسرح، وكانت تستخدم هذه الأقنعة لنقل المشاعر للمشاهدين التي كانت غالباً حزينة لأنهم فضلوا الدراما التراجيدية (المأساة)، وحتى الرومان استوحوا مسرحياتهم من اليونانيين ولكنهم فضلوا الكوميديا (الملهاة) على التراجيديا، ويعود عمر المسرح الروماني إلى 300 سنة قبل الميلاد، وشيّدوا حوالي 125 مسرحاً.

تراجع الفن المسرحي مع قدوم الدين المسيحي بسبب محاربته له، ولكن بعد حوالي 1000 عام استعاد المسرح مساره الصحيح وعاد إلى المجتمع، وعاد الممثلون المحترفون للعمل وفُتحت المسارح، وتشكّل المسرح بالمفهوم المعروف والمشاهَد اليوم في القرن الخامس عشر في إنجلترا، وهنا لا بد من ذكر فضل بعض الأدباء والشعراء أمثال شكسبير، الذي شكلت كتاباته المسرحية وأشعاره مادة دسمة ومهمة للأعمال المسرحية حينها وما زالت إلى اليوم، ومع هذا مرّ المسرح بانتكاسات وعقبات عدة، لحين سمح للنساء بالتمثيل على المسرح، وشكّلت الطبقة المتوسطة حينها السواد الأعظم من الجمهور والمشاهدين، وبهذه الأثناء دخلت أساليب جديدة على المسرح طوّرت منه ونوّعت من موضوعاته وأثرت بأزيائه وتفاصيله وطورتها. انظر: ميريه جراح: تعرف على الفن المسرحي وتاريخه، موقع فنون، 29 نوفمبر 2021. https://2u.pw/GHPDkQRz

(4) يُنظر إلى التفاعل الاجتماعي بأنه السلوك الارتباطي الذي يقوم بين فرد وآخر، أو مجموعة من الأفراد في مواقف اجتماعية مختلفة، أي أن التفاعل الاجتماعي في أوسع معانيه هو تأثر الشخص بأعمال وأفعال وآراء غيره وتأثيره فيهم، بمعنى أن هناك تأثيراً أو تأثراً وفعلاً في أي موقف إنساني. ومن أهم مظاهر التفاعل الاجتماعي تقديم الذات والآخرين، وإعادة التقويم المستمر، ويلاحظ أن التأثير في التفاعل الاجتماعي يتوقف على شخصية الفرد ومكانته الاجتماعية، كما يلاحظ أن الشبكة الاجتماعية للفرد تتكون من الأشخاص الذين له معهم اتصال ورابطة اجتماعية، وبينه وبينهم تفاعل اجتماعي. يعتبر التفاعل الاجتماعي مهمة الأسرة والمدرسة، كما غيرها من مؤسسات التطبيع الاجتماعي. على اعتبار أن التفاعل الاجتماعي ذلك السلوك الارتباطي الذي يقوم به فرد وآخر، أو بين مجموعة من الأفراد في مواقف اجتماعية متعددة. أي إن التفاعل الاجتماعي في أوسع معانيه هو تأثير الشخص بأعمال غيره وأفعاله وآرائه، وتأثيره فيهم، بمعنى أن هناك تأثراً، أو تأثيراً، وفعلاً، وانفعالاً في أي موقف إنساني. يشير مفهوم التفاعل بمعناه اللغوي إلى التأثير (تفاعل، يتفاعل، تفاعلاً)، أي أثر كل منهما في الآخر مثال تفاعلت المادتان الكيماويتان فنتج عن ذلك مادة جديدة. ويقال تفاعل مع الحدث أي تأثر به، أثار الحدث مشاعره فدفعه إلى سلوك ما.

أما اصطلاحياً، يُعرّف التفاعل الاجتماعي بأنه " مجموع العمليات المتبادلة بين طرفين اجتماعيين في موقف أو وسط اجتماعي معين، بحيث يكون سلوك أي منهما منبهاً أو مثيراً لسلوك الطرف الآخر ويجري هذا التفاعل عادةً عبر وسيط معين ويتم خلال ذلك تبادل رسائل معينة ترتبط بغاية أو هدف، وتتخذ عمليات التفاعل الاجتماعي أشكالاً ومظاهر مختلفة إلى علاقات اجتماعية معينة ". ونظراً لأن التفاعل الاجتماعي وسيلة اتصال بين الأفراد والجماعات فإنه بلا شك ينتج عنه مجموعة من التوقعات الاجتماعية المرتبطة بموقف معين.

لذا يمكننا القول أيضاً بأنه " عدة منبهات اجتماعية متفاعلة تقدمها البيئة الاجتماعية لأبنائها، وتؤدي هذه المنبهات إلى استثارة استجابات اجتماعية لدى المشاركين في هذا الموقف ". أو هو العملية الاجتماعية الأساسية التي تعبر عن ذاتها في الاتصال، وفي العلاقة المتبادلة بين فردين، أو أكثر، أو بين جماعات. ويعد التفاعل بين الأشخاص سلوكاً اجتماعياً. لأن الناس يتبادلون المعاني ويمارسون التأثير المتبادل على سلوك بعضهم البعض، وتوقعاتهم، وفكرهم، من خلال اللغة، والرموز، والإشارات. وهو التأثير المتبادل بين سلوك الأفراد والجماعات من خلال عملية الاتصال. التأثير المتبادل بين القوى الاجتماعية، والثقافة ذاتها هي نتاج للتفاعل الاجتماعي. انظر حسام الدين فياض: سوسيولوجيا العلاقات الاجتماعية، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب: الرابع، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2023، ص(66-67).

(5) راندال كولينز (ولد في 29 يوليو 1941) هو عالم اجتماع أمريكي كان مؤثراً في كل من التدريس والكتابة. لقد قام بالتدريس في العديد من الجامعات المرموقة في جميع أنحاء العالم وقد تُرجمت أعماله الأكاديمية إلى لغات مختلفة. كولينز هو حالياً أستاذ علم الاجتماع دوروثي سوين توماس الفخري في جامعة بنسلفانيا. وهو من كبار منظري الاجتماع المعاصرين الذين تشمل مجالات خبرتهم علم الاجتماع التاريخي الكلي للتغيير السياسي والاقتصادي، وعلم الاجتماع الجزئي، بما في ذلك التفاعل وجهاً لوجه، وعلم اجتماع المثقفين والصراع الاجتماعي.

تشمل منشورات كولينز علم اجتماع الفلسفات: نظرية عالمية للتغيير الفكري (1998)، والتي تحلل شبكة الفلاسفة والرياضيين لأكثر من ألفي عام في كل من المجتمعات الآسيوية والغربية. تتضمن أبحاثه الحالية أنماط العنف الكلية بما في ذلك الحرب المعاصرة، بالإضافة إلى حلول للعنف الذي تمارسه الشرطة. يعتبر أحد أبرز منظري الصراع غير الماركسيين في الولايات المتحدة، وشغل منصب رئيس الجمعية الأمريكية لعلم الاجتماع من عام 2010 إلى عام 2011.

(6) مفهوم الذات: مفهوم الذات في أبسط صوره هو مجموعة من المعتقدات التي يحملها الفرد عن نفسه ومن استجابات الآخرين، فهو يجسد إجابة السؤال " من أنا؟ " فإذا كنت تريد العثور على مفهومك الذاتي، فاذكر الأشياء التي تصفك كفرد ما هي صفاتك؟ ماذا تريد؟ ما هو شعورك عن نفسك؟

تصورنا لذاتنا مهم لأنه يؤثر على دوافعنا ومواقفنا وسلوكياتنا، كما أنه يؤثر أيضاً على ما نشعر به تجاه الشخص الذي نعتقد أننا نحن عليه، بما في ذلك ما إذا كنا أكفاء أو نتمتع بقيمة ذاتية. يميل مفهوم الذات إلى أن يكون أكثر مرونة عندما يكون أصغر سناً وما زلنا نمر بمرحلة اكتشاف الذات وتكوين الهوية، مع تقدمنا في العمر ومعرفة من نحن وما هو مهم بالنسبة لنا تصبح هذه التصورات الذاتية أكثر تفصيلاً وتنظيماً. ويعتقد (1959) Carl Rogers أحد مؤسسي علم النفس الإنساني أن مفهوم الذات يتكون من ثلاث مكونات مختلفة: وجهة نظرك عن نفسك (الصورة الذاتية)، مقدار القيمة التي تضعها على نفسك احترام الذات أو تقدير الذات (ما تتمنى أن تكون عليه حقاً الذات المثالية). لمزيد من القراءة والاطلاع حول " مفهوم الذات " انظر:

- المقال الثامن بعنوان: " دور التصورات الاجتماعية في بناء السلوك الإنساني " من كتاب حسام الدين فياض: تمظهرات السلوك الإنساني في المجتمع المعاصر، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب: السادس، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2024، ص(134-146).

- Saul McLeod: Self-Concept in Psychology: Definition & Examples, Simply Psychology, Updated on December 20, 2023. https://www.simplypsychology.org/self-concept.html

Kendra Cherry: What Is Self-Concept? (The Fundamental "Who Am I?" Question), Verywell Mind, Updated on July 29, 2024 https://www.verywellmind.com/what-is-self-concept-2795865

(7) يمكن تعريف المنمنمات عبارة عن رسومات صغيرة توضيحية، وتعني كلمة منمنمة هو الشيء المزخرف أو المزركش بشكل ما، وهي التصوير الدقيق للغاية ويكون فيه التركيز على تفاصيل لا يلاحظها البعض، هذه الرسومات الدقيقة تستخدم من أجل تزيين المخطوطات أو الصفحات ذات القيمة الكبيرة.

- ما هو فن المنمنماتminiature art ؟ هو أحد الفنون التقليدية في البلدان الإسلامية، وبعض البلدان الآسيوية والأوروبية، والمنمنمة هي صورة فنية صغيرة الحجم، رسمت في كتاب من أجل توضيح المضمون الأدبي أو العلمي أو الاجتماعي أو غير ذلك من الموضوعات التي حفلت بها الكتب والمخطوطات في العصور الوسطى، وتعد المنمنمات صوراً تسجيلية للحياة والبيئة والعادات والمعتقدات والطقوس والأحداث التاريخية والعمارة والزي والفنون، فضلاً عن قيمتها الفنية التي تطورت عبر التاريخ. ويشبه تصوير المنمنمات التصوير بألوان الغواش، ويمكن استعمال الألوان المائية في تصويرها، ويعد ورق (رق الغزال) المعروف باسم " برجامين " من أفضل السطوح المناسبة لرسم المنمنمات إضافة إلى العاج وبعض أنواع الألواح الخشبية والورقية الناعمة والزجاج، وهي تُرسم بخطوط ناعمة خفيفة ثم تكسوها الظلال والألوان المائية والمذهبة. طاهر البني: المنمنمات (فن)، الموسوعة العربية، المجلد التاسع عشر، دمشق، 1998، ص(749). https://arab-ency.com.sy/ency/details/10622/19

قراءة مقارنه بين الحضارة الغربية والعالم الإسلامي

يشكل الدين عاملا مهما في اعراف المجتمعات وثقافتها، وخياراتها الاجتماعية والسياسية، ويحتل مكانة في القلوب والضمائر، وفي ذات الوقت يمكن استغلاله للهيمنة والتسلط وفرض نمط من القراءة على الاخرين، ان الذي تركز علية هذه الورقة، هو العلاقة السببية المتبادلة بين الدين والحضارة، وهي قراءة علمية مقارنة للمشهد التأسيسي لكلا الحضارتين في العالم العربي والإسلامي (كمراجعة تاريخية تحليلية) واثارهما في معضلات راهنة مثل تقبل المواطنة والديمقراطية والعلمنة

أولا: تعد الحضارة الغربية أقدم زمنيا من الحضارة الإسلامية وقد بدأت بفعل ثقافي تولد من بوابة الفلسفة، وبالاستعانة بمنهجية تنظيم الفكر البشري من خلال اختراع (المنطق) لان الإشكالية المركزية فيها كانت تعدد اختلاف وجهات نظر البشر حول الظواهر الكونية والمشكلات الفكرية لاسيما مع ظهور السفسطائيين الذين لا يجابهون الا بمنهج ضابط للتفكير فكانت التعددية والبرهانية من لوازم الاختلاف الفطري في الآراء التي ليس لبعضها تمييزا على البعض الاخر

لقد بدأت حضارة الغرب من نشأة المدينة (أثينا)، والمدينة تعني تكون مجتمع له كيانه وقوانينه و تحدياته وتطلعاته بحسب ظروفه وله احتياجاته ألتي ينظمها القانون وهو مشروعها الحقوق والاستحقاقات، وتتمتع بمدار فلسفي للجهد الإنساني الفردي والاجتماعي لذلك اهتمت تلك (المدينة) المتحضرة الاوربية بإنتاج الفلسفة لبناء التصورات والقيم والبرهان، واهتمت بإنتاج لائحة الحقوق الخاصة والعامة، وصار المدار والمعيار هو (المصلحة البشرية)، وتنامى التفكير في اليات السلطة حتى وصلوا الى مفهوم العقد الاجتماعي وكان الجهد المدني للحضارة جهدا تراكميا أفرزته (المدينة الاوربية) مقابل المجتمع الرعوى، او البدوي،او الزراعي الذي تخطته التجربة الغربية فيما بعد للمجتمع المعرفي

 ولما جاءت المسيحية الى اوربا، وقام القديس بولس بتشكيل نسختها الاوربية، بقت المدينة هي مرجعية النهضة، مع منافسة الدين لها وعادة فان (المدينة) تزيح الأديان، اذ في تصورها ان الدين رؤيه ماضويه لا يتسع للحداثة، لذلك سعى الغربيون الى التعامل مع الدين في اضيق مهماته وهي ترصين الشأن الشخصي وتم الغاء أي دور له في دورة التحولات الاجتماعية واستجاب الدين المسيحي الى ثنائيه (الله \ القيصر) بعد نزاع طويل مع قوى المجابهة مع الكنيسة ورغم ان المسيحية كانت السبب في سقوط الامبراطورية الرومانية الا انها لم تهتم بالفلسفة والعلوم والقانون، ماعدا القانون الكنيسي الذي تأثر كثيرا بالقانون الاقطاعي، لكن الانصاف يقتضي الاعتراف بان المسيحية سعت الى تشكيل القيم الروحية والاخلاقية، بينما كانت حضارة المدينة وراء اكتشافات الفنون والعلوم والآداب ووراء التحولات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية واخيرا فقد رست اوربا في المفاهيم المسيطرة على التطور الاجتماعي الاوربي على قيم الفردانية والديمقراطية وحريات (المعتقد، والرأي، والتعبير،) واختارت العقلانية مقابل حاكميه النصوص الدينية في فهم الظواهر الكونية والاجتماعية لكنها لم تطهر نفسها من (الاستعمار والظلم الاجتماعي للشعوب المستضعفة والتحيز العرقي، ونهب ثروات الشعوب، وحروب الابادة المتوحشة)

ويظن باحثون ان السبب في تناقص مكانة الدين التي كانت محدودة، فلان الدين لم يؤسس حضارة الغرب ويلاحظ ان التاريخ الغربي ارتبط بتيارات من الاصلاح السياسي والديني لان الفكر الغربي فكر مرحلي اجتهادي قابل للنقد وتجاوز الظروف له فاحتاج الى موجات من حملات الاصلاح والتعديل، ولم تكن غير (المصلحة العامة المتغيرة) والتي لا ضابط لها هي المدار والمعيار

 لقد دخلت اوروبا عصر الحداثة في القرون الثلاثة من القرن (17 _19) وبها ألغت تماما اي دور مركزي للدين، حتى اجبرت الكنيسة على الاعتراف بالثنائية (الدنيوية/ والدينية) فلم تكن الكنيسة عند اذن مؤسسة موازية للدولة، فكان الدين امرا عرضيا، ومرت اوروبا بعصور اتسمت دائما في تحدي للدين، ولم تدع له الفرصة في ان يشكل حضارتها، سواء في عصور ما قبل الحداثة او عصور ما بعد الحداثة

 ثانيا : اما في جانب الحضارة الاسلامية، فان المسلمين زحفوا الى يثرب لتحويلها الى (المدينة المؤسسة للحضارة) التي تعني البدء بإقامة حضارة، فكانت التأسيسات الاولى دينية ب (وثيقة المواطنة المشتركة المسماة: وثيقة المدينة)واجراء المؤاخاة بين المهاجرين والانصار، وبناء المسجد، وتأسيس المجتمع المتجانس، وتأسيس الحكومة، والدستور، والمنهج السياسي، فكانت المدينة الدينية هي التي شكلت الحضارة، في عالم كان يخلو من منهج حضاري (بديل) او منافس بحيث لم يحدث تدافع بين منهجين حضاريين، فلم تحصل علاقة عكسية بين المدينة ذات (المجتمع المتنوع) وبين الدين، واغلب الظن ان الترتيبات الاساسية لحضارة (مدينة يثرب) لن تكن دينية محضه انما كان برنامج يثرب دعوة مدنية تعتمد على المواطنة والشورى والثقة بين عموم الناس من جهة وبين الحكومة والمحكومين من جهة اخرى ولم تتأثر (نظرية المدينة) بالنمط الاقتصادي سواء في مكة (كونها المركز التجاري) ولا في المدينة كونها بيئة زراعية وصيرفيه والمشروع الحضاري في (المدينة يثرب) لم يغلق الباب على نفسه إنما تطلع للاطلاع والإفادة من الحضارات المعاصرة له فكان نمط تطلع لحضارة (أثيوبيا : فكرة العدل) والفرس، والروم، وقد تعامل مشروع يثرب معها إيجابيا، وهكذا يسعى المشروع إلى تكوين نظام اجتماعي، وليس هناك نص صريح ينص على أن مشروع المدينة الحضاري التأسيسي، هو الذي يجب أن يتبع في تأسيس المدن الحضارية الأخرى في مرحلة تطور الحضارة الإسلامية وازدهارها (البصرة، الكوفة، دمشق، مصر)وقد تمازج الوحي مع السياق الثقافي الجديد الذي إنشاته هذه الحضارة بل شكل الوحي المرتكز والمعيار العابر للأزمنة وموجات الحداثة، ولأنه مقبول ومتقبل من كل المسلمين فقد صار عاملا أساسيا في وحدة المسلمين على اختلاف تنوعاتهم وثقافاتهم وبيئاتهم الاجتماعية

 وإذا كانت بعض المفردات الثقافية الموجودة في بيئة نشأة الحضارة الإسلامية الجديدة غير ملائمة لبرنامجه فإن الإسلام غيًر ما لا يتفق مع القيم النبيلة التي جاء بها، وأوجد نسقا جديدا، ثم احتوى حضارة الفرس والمسلك العرفان فيها، وحضارة الروم والمسلك التجريبي العقلي، وجعلهما ضمن تصوره الحضاري لذلك: فإنه لما كانت تتصف به أوروبا من اعتياد ثقافة السؤال، فكان لابد للفلسفة ان تكون عاملا من عوامل مكوناتها وصيرورتها بينما العالم الإسلامي تلقى التكوين الحضاري من نص ديني مقدس ذات مضامين مدنية، فصار يلزم للسؤال تقديم مسوغات لان الاصل التلقي، وزاد في ذلك أن موقف النخبة الدينية الإسلامية قد وقفت من الفلسفة مواقف متعددة أغلبها متشدد وسلبي، ووصفت بأنها تعارض الإيمان، فخضع السؤال والنقد لضرورة تقديم المبررات التي يجب يقدمها الناقد قبل الممارسة الفعلية

ولأن ثقافة الغرب - ثقافة بشرية - فكان التعدد والتنوع ينطلق في مستوى واحد للشرعية، فلا ميزة لرأي على أخر وعليه فالتعددية حالة أساسية، في حين حضارة الإسلام ميالة إلى ثقافة النمط، وما تجاوز النمط يحتاج الى تسبيب ومبررات ولأن الآراء لها مستوى واحد من الاعتبار فاعتمدت البرهانية كمعيار للتفاضل والترجيح، بينما في الغرب نجد تدافعا بين معطيات الحضارة المدنية والحضارة الدينية وعلى مستوى واحد في حين ان للشرع في حضارتنا هناك أعلوية للمقولات الدينية على المفاهيم والأفكار المدنية ولعل رؤى الغرب للحاضر وللمستقبل أكثر من الماضي بينما الحضارة الدينية في العالم الإسلامي يشكل التاريخ مكونا أساسيا

وما تقدم يفسر لنا صعوبة تطبيق الديمقراطية بنسختها الأوروبية في جغرافيا العالم العربي والاسلامي الذي حكمته (هيمنة بيعة الخليفة) الذي يمسك بيده كل السلطات المدنية والدينية، فصار تطبيق الديمقراطية فيه صعب صعوبة بالغة ويفسر لنا: الموقف الصارم ضد العلمنة بكل أشكالها حتى (العلمانية المؤمنة لأن الأصل في العلمانية طبيعة دنيوية، ومكون الحضارة الإسلامية مكون ديني ويفسر: صعوبة تقبل مفهوم المواطنة وأولوياتها على أممية الاعتقاد، لأن مفهوم الأمة في تطور هذه الحضارة مفهوما عقائديا. ويفسر لنا: الدور الذي تمنحه حضارتنا للتاريخ ومشكلاته وللدين واختلاف قراءاته، أكثر من الدور الذي يجب أن يمنح للتقدم والرفاه، ويفسر: لنا أن الحريات في حضارتنا مقيدة بالدين والنظام العام لكل ذلك:

فأن أي محاولة لاجراء التحولات الجذرية في حياتنا ستكون مرتبطة بالمكونات التي أسهمت في نشأة حضارتنا. وعلينا أن نجد حلولا لهذه المعضلة.

***

ا. د. عبد الأمير كاظم زاهد

 

حصل الاشاعرة على فرصة كبيرة لتشكيل الثقافة العقائدية للمسلمين منذ القرن الخامس. وانتشرت أفكارهم ورؤاهم ولا زال الازهر اشعري العقيدة بينما ظهرت القوى والتنوعات السلفية في عصر المتوكل العباسي وتبناها الحنابلة وكانت محل ومصدر للعقائد من عصر ابن تيمية الى الان وسوال الورقة ما ابرز نقاط الاختلاف بين عقائد الاشاعرة وعقائد السلفية

لقد برزت في علم الكلام الإسلامي الكثير من المسائل العقلية والتي لم يعرفها المسلمون سابقًا نتيجة لالتزامهم الصارم بالنصوص الدينية المتعلقة بالإيمانيات أو ما عُرف لاحقًا بمسائل العقيدة مثل قِدم كلام الله أو حدوثه والمسائل المتعلقة بحرية الإرادة الإنسانية وصفات الله وهل هي عين الذات أم منفصلة عنها وغيرها من المسائل

 ونتيجة للفلسفة اليونانية والأفكار الأجنبية التي ترجمت الى العربية بحيث غدا في واقعنا التاريخي شبه قانون (ان الثقافة العالمية تحدث في عالمنا الذهني انشقاقات اكثر ما تحدث محاولات للإفادة من جديدها) ونتيجة لتلك العوامل اعتنق المسلمون افكار عقلانية وتكونت في الإسلام مذاهب كلامية مثل المعتزلة والمرجئة والجهمية والاشاعرة وما اطلق عليهم اهل السنة اذ يقال ان اول من اطلق مصطلح أهل السنة على فئة اهل الحديث هم الحنابلة وذلك قبل ظهور أبو الحسن الأشعري ويراد بهم المُحدثون من رواة الحديث النبوي وجامعوه واختص جماعة آخرون بهذا اللقب مثل عبد الله بن سعيد الكلاب و أحمد بن عبد الرحمن القلانسي والحارث بن أسد المحاسبي وذلك لقيامهم بالرد على عقائد المعتزلة فصار المصطلح أوسع من رواة الحديث اذ تعدى لمن نافح المعتزلة وكتب في رد عقائدهم ليكون من اهل السنة فبعد القرن الرابع الهجري شمل هذا اللقب اصطلاحاً جديداً وهو من خالف المعتزلة

يقول أحمد أمين: سمي الأشعري وأتباعه والماتريدي وأتباعه بأهل السنة لانهم نقدوا المعتزلة وقد استعملت كلمة أهل السنة .[1]»بالمفهوم الاصطلاحي الجديد بعد ظهور الأشعري وانتشار مذهبه في الآفاق الاشاعرة ومن اشتهر بنقد الاعتزال،

 وصارت الاشعرية مدرسة كلامية في العقائد تقابل مدرسة الاعتزال لها منهجها الخاص في تناول العقائد وترتيبها وتفريعاتها وادلتها ولم يكن لأهل الحديث مدرسة فكرية عقائدية متكاملة أو مدونة يجتمعون عليها

قال تاج الدين السبكي في شرح عقيدة ابن الحاجب: «اعلم أن أهل السنة والجماعة كلهم قد اتفقوا على معتقد واحد فيما يجب ويجوز ويستحيل، وإن اختلفوا في الطرق والمبادي الموصلة لذلك، وبالجملة فهم بالاستقراء ثلاث طوائف

الأولى ومعتمد مباديهم: الأدلة السمعية أعني: الكتاب، والسنة، والإجماع ويقصد اهل الحديث

. الثانية: أهل النظر العقلي والصناعة الفكرية وهم: الأشعرية، والحنفية الماتريدية وكان شيخ الأشعرية: أبو الحسن الأشعري، وشيخ الحنفية: أبو منصور الماتريدي، وهم متفقون في المبادي العقلية في كل مطلب يتوقف السمع عليه وفي المبادي السمعية فيما يدرك العقل جوازه فقط، والعقلية والسمعية في غيرها واتفقوا في المطالب الاعتقادية إلا في مسألتي التكوين التقليد.

الثالثة: وهم أهل الوجدان والكشف الصوفية، ومباديهم مبادي أهل النظر والحديث في البداية، ثم تبنوا الكشف والإلهام في النهاية».[2 ]

واهل الحديث أصحاب الطريقة الأثرية التي تستند على الأثر، ويقوم فهمهم على النقل والأخذ بالأدلة السمعية أي: الكتاب والسنة والإجماع، فهم يُثبتون لله ما جاء في القرآن والسنة النبوية من أسماء وصفات من غير تعطيل ولا تحريف ولا تبديل ولا تأويل ولا تشبيه ولا تمثيل،[3]

واهم معتقداتهم:

* وجوب معرفة الله بأسمائه وصفاته بالسمع لا بالعقل.[4]وإلغاء اصل العقل يجعل الفكر الإسلامي فكرا تاريخيا ماضويا ولا يُتَجاوز السلفيون القرآن والحديث في باب الأسماء والصفات،[5] ويصفون الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، وبما وصفه به السابقون الأولون وبذلك اشركوا من اسموهم السابقين وهم بشر مع من لا ياتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه ويقولون ان ذلك مما ليس فيه لغز ولا أحاجي، ويعرف معناه من حيث يعرف مقصود المتكلم به، لا سيما إذا كان المتكلم أعلم الخلق بما يقول، وأفصح الخلق في بيان العلم وأفصح الخلق في البيان والتعريف والدلالة والإرشاد، وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء لا في نفسه المذكورة بأسمائه وصفاته ولا في أفعاله .[6]

وعند السلفيين تثبت أسماء الله وصفاته بخبر الآحاد.[7]وهذه مخالفة صادمة مع كل اهل الأصول والنظر اذ العقائد لا تثبت بخبر الواحد انما بخبر قطعي

* وجوب إثبات نصوص الصفات وإجرائها على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها،[8]

* الإجماع حجة في باب الأسماء والصفات.[10] والاجماع لا يتحصل فيبقى حجة ظنية

* كل ما اتصف به المخلوق من صفات كمال لا نقص فيها فالخالق أولى بها، وكل ما ينزه عنه المخلوق من صفات نقص لا كمال فيها فالخالق أولى بالتنزه عنها.[12]وهذا قياس الغائب على الشاهد

* دلالة الأثر على المؤثر حجة في باب الأسماء والصفات.[13]وهذه من الظنون الاحتمالية

* المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قطعي والحال ان القطعيات لا تتعارض.

* اما الاشاعرة فقد مثّل ظهورهم نقطة تحول في تاريخ الفكر الديني و تدعمت بنيتهم العقدية بالأساليب الكلامية كالمنطق والقياس. إلى جانب نصوص الكتاب والسنّة، واستخدم الأشاعرة الدليل العقلي في عدد من الحالات في توضيح بعض مسائل العقيدة، وعمل به الأشعري في الرد على المعتزلة فقد صاغ منهجا يقوم على أساس إثبات العقائد الدينية بالأدلة السمعية والعقلية التي تنص على قاعدة أن النقل هو الأساس وأن العقل خادم له ومعزز للنقل ووسيلة لإثباته والبرهان على صحته وجمع الاشعري ما تفرق من كلام علماء أهل السنة وأيد النقل بالعقل، وحاول أبطال اراء المعتزلة وغيرها، وتزامن ذلك مع ظهور أبو منصور الماتريدي فيما وراء النهر، وقام بعمل مماثل لعمل أبي الحسن الأشعري.

اما المعتزلة فتبنوا التسلح بالعقل ومنطق الفلسفة اليونانية لمجادلتهم جدالاً علمياً يعتمد على سلاح العقل والمنطق والبرهان، وكان من أشهر رجال المعتزلة في استخدام سلاح العقل أبو الهذيل العلاف وإبراهيم بن سيار النظام و الجاحظ وغيرهم. وكانت للمعتزلة الكثير من العقائد التي خالفت السائد في التيارات النصوصية في الإسلام وأبرزها اعتقادهم بحدوث الكلام الإلهي وإثبات الحسن والقبح العقليين والاعتقاد بخلق الإنسان لأفعاله وغيرها.

لقد كتب الاشعري عقيدته في كتابه الإبانة عن أصول الديانة وقد وافق فيها المحدثين في أغلب ما ذهبوا إليه في أمور العقيدة من الاعتماد على المنهج النقلي في البحث وأجاز أبو الحسن الأشعري البحث والاستدلال واستخدام المنطق في أصول الدين والعقيدة، وألف في ذلك كتابًا عنوانه رسالة في استحسان الخوض في علم الكلام.

ومن أبرز الشخصيات الأشعرية التي أعطت للعقل مجالاً واسعاً في فهم النص أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين الجويني الذي تحدث بشكل مفصل عن المنهج العقلي وأسسه العلمية في كتابه الشامل في أصول الدين وشهدت المدرسة الأشعرية تحولاً كبيراً في عهد الغزالي الذي أعطاها صبغة صوفية وخفف قليلاً من نزعتها المتجهة إلى العقل،

ثم حصل لها تحول مهم وهو استخدام الاستدلال الفلسفي على يد المفسر والمتكلم الفخر الرازي، ثم اضفى المتكلم والفيلسوف الشيعي نصير الدين الطوسي على علم الكلام عموما صبغة فلسفية شبه كامله صوفية وتأثر به الكثير من متكلمي الأشاعرة والمعتزلة مثل القاضي عضد الدين الإيجي وسعد الدين التفتازاني والشريف الجرجاني بحيث يمكن القول إن الفكر الأشعري بعد الطوسي ابتعد عن الخط الأصلي لهذه المدرسة وما زال الفكر الأشعري إلى يومنا ينتقل بين الفلسفة والنقل وبين التفويض والتأويل والكشف

 وشكل الماتريدي اتجاها فكريا في علم الكلام الإسلامي وقد اتخذ موقفًا وسطًا بين الأشاعرة والمعتزلة،[15] وظهر تحت مظلة أهل السنة. وقد وافق أبو منصور الماتريدي المعتزلة في كثير من المسائل ذات الاتجاه العقلي العملي مثل القول بالحسن والقبح العقليين مع اختلاف طفيف وقبح التكليف بما لا يطاق واعتبار الحكمة في الفعل الإلهي والعدل ونفي نسبة الظلم عن الله تعالى ولكنه وافق الأشاعرة في نظرية الكسب معتبرًا ان الله هو خالق الفعل الإنساني ولكنه خالفهم بالقول بحرية الإنسان بشكل تام في نظريته عن الكسب وأنه هو الذي يقوم بالفعل بمحض إرادته . لقد صارع الأشاعرة الحنابلة في مسائل في العقيدة الاشاعرة والمعتزلة والصوفية صراعا كان داميا في بعض الاحيان وحدثت عدة فتن بينهم، من أشهرها ما سماها السبكي بفتنة الحنابلة،[16] وسماها الحنابلة كابن رجب الحنبلي وابن الجوزي بفتنة ابن القشيري،

وكانت خلافات السلفية مع الأشعرية خلافات قديمة تتمحور في معظمها حول جملة من قضايا الاعتقاد، من أبرزها منهجية الاستدلال على العقائد وتقريرها، فالأشاعرة يعطون للعقل دورا مهما في الاستدلال على العقائد وهم من المذاهب الإسلامية التي اهتمت كثيرا بعلمي المنطق وعلم الكلام تأليفا وتدريسا، على عكس المدرسة السلفية التي حذرت من علم الكلام ونهت عن دراسته وتدريسه في تقرير العقائد وتدريسها.

* ففي أسماء الله وصفاته: يرى السلفيون أثبات كل ما جاء من صفات وأخبار في حق المولى في القرآن الكريم والسنة النبوية من غير تأويل ولا تفسير بغير الظاهر، فهم يثبتون لله المحبة والغضب والسخط والرضا والنداء والكلام والنزول إلى الناس في ظل من الغمام، ويثبتون الاستقرار على العرش، والوجه واليد. ويضيفون إلى ذلك عبارات مثل من غير تكييف ولا تشبيه. وهم يقصدون بالظواهر الظواهر النصوصية لا الظواهر المجازية. وقد خالفهم في ذلك الغزالي أيضاً الذي قال في كتابه إلجام العوام عن علم الكلام بأن هذه الألفاظ التي تجري في العبارات القرآنية والأحاديث النبوية لها معان ظاهرة، وهي الحسية التي نراها وهي محالة على الله، ومعان أخرى باطنة مجازية يعرفها العربي من غير تأويل.

 وقد بين أبو الحسن الأشعري في أول أمره في كتابه (الإبانة) بأنه يدين بما عليه الإمام أحمد بن حنبل وأنه يأخذ بظواهر النصوص في الآيات الموهمة للتشبيه من غير أن يقع في التشبيه في نظره، فهو يعتقد أن لله وجهاً، وليس كوجه العبيد، وأن لله يداً لا تشبه يد المخلوقات. ولكن يظهر أنه قد رجع عن هذا الرأي الذي أبداه متحمسّاً لمناقضة المعتزلة، إذ جاء في اللمع أنه قرر تأويل اليد بالقدرة كما فعل المعتزلة وغيرهم.[18]

 وفي القضاء والقدر: خالف ابن تيمية وهو احد أئمة السلفية الأشاعرة وجاهر بمخالفتهم في مسألة الجبر والاختيار واعتبرهم جبرية وقد أخذ عليهم تفريقهم بين الفعل في ذاته والكسب، فاعتبروا الفعل مخلوقاً لله واعتبروا الكسب للعبد، ويقرر ابن تيمية أن الكسب إن كان مجرد اقتران فهو لا يصلح مناطاً لتحمل المسؤولية واستحقاق العقاب والثواب، وإن كان فعلاً له تأثير وتوجيه وإيجاد وأحداث وصنع وعمل، فهو مقدور للعبد وفعل له، فإن قلت إنه (أي الكسب) لله فهو أخذ بالجبرية، وإن قلت للعبد فهو اعتزال (أي التفويض الذي تقول به المعتزلة في هذه المسألة). وأما خلاصة ما كان يراه ابن تيمية أمام نظرية الكسب التي يقول بها الاشاعرة فهو يرى أن أفعال العبد تنسب إليه لقدرة فيه وتنسب إلى الله باعتبار ان الله خلق هذه القدرة فهو سبب الأسباب.

وفي أفعال الله: يقول الاشاعرة إن الله خلق الأشياء لا لعلة ولا لباعث، لأن ذلك يقيد إرادة الله، والله سبحانه خالق كل شيء وفوق كل شيء، (لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون). وأما السلفية ابن تيمية فيقولون إن الله خلق الخلق وأمر بالمأمورات ونهى عن المنهيات لحكمة محمودة ،

اما التوسل والزيارة: فقد ظهر اختلافهما في مسائل منها التوسل وزيارة مراقد الأولياء والتشفع بهم، فقد منع السلفيون من ذلك واعتبروا الإتيان بهذه الأمور من البدعة والشرك، وجعلوها من المسائل خارقة لأصول التوحيد في العبادة .

واما الاشاعرة فيرون جواز ذلك، واستدلوا له بالأحاديث والأخبار وسيرة الصحابة والعلماء وما عليه جمهور الامة منذ عهد رسول الله ﷺ إلى اليوم.

* مصدر التلقي: مصدر التلقي عند الأشاعرة هو العقل. فقد صرح أئمتهم بتقديم المعقول خادما للمنقول، بينما قدّم السلف المنقول على المعقول وقالوا أن الوحي هو مصدر التلقي.[19]

* التوحيد: التوحيد عند الأشاعرة نفي التثنية أو التعدد، ونفي التبعيض والتركيب والتجزئة، أما التوحيد هو مايقابل الشرك عند السلف .[20]

* الإيمان: الإيمان عندهم هو التصديق، واختلفوا في النطق بالشهادتين هل كافيتان بينما الإيمان عند السلفية قول واعتقاد وعمل 21

* القرآن: فرق الأشاعرة بين لفظ القرآن ومعناه، فمعناه قديم واللفظ حادث، ثم أحدثوا ما يسمى بالكلام النفسي خلافا لما عليه السلفيون القائلين بأن القرآن كلام الله لفظا ومعنى.22]

* السببية: أنكر الأشاعرة السببية في القرآن. فكل من قال بأن النار تحرق بطبعها أو هي علة الإحراق فهو ضال عندهم، خلافا لما عليه السلفيون.[24]

* التنزية: من لوازم التنزيه عند الأشاعرة نفي أن يكون لشيء من أفعال الله علة مشتملة على حكمة، حتى أنهم أنكروا كل لام تعليل في القرآن، خلافا لما عليه السلفيون.

مما تقدم يظهر إنّ مدرسة المتكلمين تتعامل مع الأدلة النقلية بشرطين: هما ثبوتها بشكل قطعي، وعدم مصادمتها للثوابت العقلية .أمّا أهل الحديث والوهّابية، فلا يراعون هذه الشروط البتة، فهم يأخذون العقائد ولو من حديث الآحاد الظني، وكذلك عدم مبالاتهم بالثوابت العقلية، وعدم إلتفاتهم إلى اللوازم الفاسدة مهما كانت فهذه أهم الفوارق المركزية والجوهرية بين المدرستين، بل بين الوهّابية من جهة وسائر المسلمين من جهة أخرى

 1 وأخيرا فقد اهتم الاشاعرة كثيرا بعلمي المنطق وعلم الكلام تأليفا وتدريسا، على عكس المدرسة السلفية التي حذرت من علم الكلام ونهت عن دراسته وتدريسه في تقرير العقائد وتدريسها. وتبنت التعايش مع الاخر المذهبي بعيدا عن مسالك القمع، أو سعي لدى السلطة السياسة لاجتثاث من يراه ضالا مبتدعا في العقائد، ما يستوجب كفه عن نشر ارائه وإشاعة عقائده حسب من يرى ذلك ويقرره ويدافع عنه.

***

ا. د. عبد الأمير كاظم زاهد

..........................

الاحالات التوثيقية

1. العقائد الباردة: جدل السلفية والأشاعرة بقلم عبد القدوس الهاشمي.

2. السلفية الأشعرية.. فنّ الإقصاء وصناعة التطرف بقم محمد الصياد.

3. القزويني، سراج العقول في منهاج الأصول، تحقيق عبد المولى هاجل، بيروت دار الكتب العلمية،

4. طبقات الشافعية الكبرى ج7 ص 162

5. ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب ج1 ص 19 رقم 11

6. تاريخ المذاهب الإسلامية: 187. محمد أبو زهرة.

7. كتاب منهاج السنة 2/ 221

8. أهل السنة والأشاعرة والماتريدية موقع إسلام ويب.

9. ظهر الإسلام 4: 97. أحمد أمين.

10. نقاط الاختلاف بين السلفية والأشاعرة، وبينهما وبين الإمامية مركز الأبحاث العقدية.

11. لوامع الأنوار البهية للسفاريني ج1 ص73

12. العين والأثر في عقائد أهل الأثر، ج1 ص53 المؤلف: بن عبد الباقي بن إبراهيم، الناشر: دار المأمون للتراث، دمشق، الطبعة الأولى، 1987. تحقيق: عصام رواس قلعجي.

13. ابن تيمية (1995). مجموع فتاوى ابن تيمية، العقيدة، كتاب الأسماء والصفات "الجزء الأول"، الجزء الخامس. السعودية: مجمع الملك فهد. ص. 45. مؤرشف من الأصل في 2017-08-11.

14. ابن تيمية (1995). مجموع فتاوى ابن تيمية، كتاب المنطق، مسألة هل عقل الإنسان عرض وهل الروح هي النفس، فصل هل العقل جوهر أو عرض، الجزء الثاني عشر. السعودية: مجمع الملك فهد. ص. 571: 574. مؤرشف من الأصل في 2017-08

15. ما هو الفرق عند السنة بين السلفية، وبين الأشاعرة؟ عثمان الخميس. نسخة محفوظة 2023-12-04 على موقع واي باك مشين.

16. معارف ومفاهيم: علم الكلام الإسلامي بين النزعة العقلية والمرجعية النصية مجلة عقبات الأنوار، العدد السابع، 6 أكتوبر 2013.

17. موسوعة الفرق المبحث الأول: الموازنة بين الماتريدية والأشاعرة الدرر السنية. وصل لهذا المسار في 6 مايو 2016

18. الذهبي. سير أعلام النبلاء ج11. ص. 523 و524 .

19. محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني (1404هـ). الملل والنحل، ج1. بيروت: دار المعرفة. ص. 100 وما بعدها.

ثمة شواهد تحدد العلاقة التاريخية بين الدين والسياسة، وهذه العلاقة التي طالما شهدت حالات من الصراع الدائم بين التنوير والراديكالية المتمثلة في التطرف العقائدي المفرط، لكن قد تتجاوز حالة الصراع من سجالات الكتب والمناقشات وصراع الفضائيات بين الفريقين إلى الساحة الأكاديمية وهنا تصبح الظاهرة المستدامة أكثر شراسة لأنها تتعلق بمستقبل عقول صناع المستقبل أنفسهم ألا وهم الشباب، وهذا ما ألفيناه واضحا خلال فترة المد الإخواني بصفة خاصة والجموح المستعر لتيارات الإسلام السياسي منذ سقوط نظام مبارك في مصر وبن علي في تونس، فكان الخلط بين الديني والسياسي من ناحية، والخلط العجيب بين الديني والطرح المعرفي الأكاديمي من ناحية أخرى وهو المشهد الذي استرعى النظر والنقد ومن ثم تأويله.

واستعلاء التقوى الذي مارسه الكثير بل كل المنتمين لجماعات الإسلام السياسي جعلهم يتمتعون بخلفية رصينة لدى طلاب الجامعة لمعارفه ولما يقدمه لهم سواء كانت هذه المعرفة دينية أو علوما إنسانية كالتربية وعلم النفس والتاريخ والجغرافيا، أو علمية محضة كالطب والهندسة والصيدلة. والتماس المنتمين لتيارات الإسلام السياسي للمرجعية الدينية في أثناء طرحهم العلمي داخل قاعات الدراسة مكنهم من السيطرة على العقول من جهة، وإيجاد فجوة من الشراكة والتفاعل مع غير المنتمين من الطلاب لفكر هذه الجماعات والتيارات، لكن ما فكر فيه هؤلاء الأساتذة حينها وربما لايزالون يسعون بخطى وئيدة لتحقيق ذلك هو أن الجمع بين السلطتين الدينية والمعرفية يمكنهم من إحكام السيطرة على أذهان طلابهم ومن ثم تسهل عملية التوجيه والإرشاد لهم من أجل تحقيق مطامح وأطماع وأهداف جماعة بعينها.

ـ التنوير والراديكالية.. وجها لوجه:

وتلك الفكرة ظلت لعقود بعيدة تراود زعماء التيارات الدينية ذات المرجعيات الراديكالية وهم في صراعهم الطويل مع رموز التنوير منذ منتصف القرن العشرين على وجه التحديد، وبلغ الصراع مداه في تهميش جماعات الإسلام السياسي لأدوار أستاذ الجامعة المهموم بالنهضة الحقيقية وتنوير العقول وتبصير الأذهان والأبصار بإعمال العقل وضرورته، كذلك كان مبدأ هذا التوجس المزمن بعقول زعماء وأنصار الفكر الراديكالي هو انتفاء الربط بين الشرع والحقيقة أي الفلسفة وطروحات العقل، الأمر الذي دفع بهم إلى تكفير قاضي القضاة والفيلسوف الأول ابن رشد الذي يتبنى فكره معظم التنويريون، واستهدفوا في ذلك الدمج بين الديني والسياسي والعلمي واستحالة التقاء الفلسفة بالشرع. وهذا الأخير هو الفقيه القاضي الفيلسوف الأندلسي صاحب أشهر المقولات التي أرقت فكر جماعات الإسلام السياسي منذ قرون، ومؤسس التفجير العقلي الذي زلزل عروش تيارات التطرف والإرهاب، فهو القائل ” إنّ الحكمة هي صاحبة الشّريعة، والأخت الرّضيعة لها، وهما المصطحبتان بالطّبع، المتحابّتان بالجوهر”، و” اللحية لا تصنع الفيلسوف”، وأيضا قال ” لسبب في ورود الظاهر والباطن في الشرع هو اختلاف فطر الناس وتباين قرائحهم في التصديق”.

وهذا ليس بجديد، لأن تاريخنا الإسلامي القديم شهد جدلا واسعا وكبيرا بين العقل والنقل، وهذا ما دفع المتأخرون حتى وقتنا الراهن إلى الرفض المطلق لمباحث الفلسفة، كذلك الإعلان بعدم نجاح أو جدوى كافة الأيديولوجيات التي تنتمي للحداثة وأن تجلياتها الاجتماعية والاقتصادية هي محض عبث.

وليس من باب الدهشة أن يقوم أنصار تيارات الإسلام السياسي من أساتذة الجامعات العربية في مصر وتونس والجزائر الدمج بين الدين والسياسة وصولا لسدة الحكم من بوابة تطبيق الشريعة الإسلامية من وجهة نظرهم فحسب لا من باب صحيح الشرع، لكن الدهشة الحقيقية هو تسييس العلم والمعرفة والاتجاه ببوصلة الدرس الجامعي إلى تناول قضايا وأفكار تتواصل بالضرورة مع مرجعيات تلك الجماعات تماما كما حدث في مصر أيام فترة حكم جماعة الإخوان حتى سقوطهم الشعبي في الثلاثين من يونيو 2013.

وكانت حجتهم أن التغيير الحقيقي في المعرفة هو الابتعاد عن علوم ومعارف الحداثة وكل ما ينتمي إلى فكرة المدنية التي تعد رجسا يدفع بالأمم إلى الانتحار الإنساني، وهذا الدفع المستمر من جانب الأكاديميين خلق حالات من اهتزاز المعرفة الحقيقية لدى الشباب الجامعي، وجعلهم في مقام مستدام من محاكمة المعارف التي تقدم لهم تحت قبة الجامعة. وكانت المشكلة الرئيسة وربما ظلت قائمة حتى الآن في ظل وجود خلايا نائمة لأنصار تلك التيارات وبقاء وجوه جامعية مستترة غير معلنة أنهم دون استثناء متفقون على الطرح المعرفي الذي يقدمونه إلى طلابهم لأن المرجعية لديهم ثابتة دونما تغيير أو تطوير فهي تم نقلها تحت سلطة السمع والطاعة، بخلاف الأكاديميين ذات توجه التنوير، المختلفين في طرحهم والمهمومين بنقد الواقع المعرفي بصور شتى وزوايا متباينة، صبَّ هذا الاختلاف بين الفريقين لصالح أنصار تيار الإسلام السياسي لاتفاقهم في رصد الواقع، وسرد المرجعية الخاصة بهم، والتوجه إلى هدف محدد بغير لغط.

أما المرفَّهون من أصحاب قضايا التنوير ونهضة الأمم أحفاد ابن رشد فهو في شقاق واختلاف بقدر اختلاف مشاربهم الفكرية والمذهبية، لذا فحينما ينقدون مجتمعاتهم البائدة أو الراهنة فهو يتمثلون مدنا فاضلة افتراضية قد نتلمسها فقط من خلال تغريدات إلكترونية أو منشورات يتم بثها وطرحا على مواقع التواصل الاجتماعي دونما فائدة مرجوة.

هذا من منطق البدايات المتباينة بين من زعم بالتنوير سلاحا لتطوير المجتمع، ومن سعى في خفاء تارة وعلن تارة أخرى بهدف استغلال الدين وصولا إلا أغراض ومطامح سياسية، أما عن النهايات أو بالأحرى محاولة لاستشراف نهايات الفريقين ؛ التنوير والراديكالية فالمشهد يبدو واحدا بغير اختلاف.

ـ مشهد رأسي على كُنْه التنوير:

أما أنصار التنوير رافعي شعارات نهضة الأمم بإعمال العقل، فاستشراف نهاياتهم أيضا تبدو جلية؛ لأنه بات من الضروري ابتعاد هؤلاء عن التنظير المطلق دون رصد حركة المجتمعات القائمة بالفعل، والاقتراب المتواصل بغير انقطاع مع الجامعيين الشباب لمعرفة احتياجاتهم المعرفية وآفاق مطامحهم المستقبلية. كذلك يشكل بعض أنصار التنوير عبئا على الإسلام أيضا ؛ لأن بعضهم عاقد العزم على الطعن في الدين وثوابته من باب الولوج إلى متاهات الحداثة الأكثر غموضا، ونجد بعضهم أيضا من يمارس فعل التيارات الراديكالية في الهجوم على الشخصيات الوطنية التي ساهمت في نهضة الأمة العربية وهذه قاعدة تظل راسخة لدى البعض لا يمكن الفكاك من رصدها.

وعليه، فإن تاريخ الصراع بين أنصار التنوير وأنصار الراديكالية سيظل قائما ومشهودًا، ويبدو أن كتاب السجال بين المواضعتين التنوير والراديكالية المرجعية سيبقى مفتوحا بغير انتهاء سواء في تشويه الدين بقصد أو بغير قصد، وسيظل باهتا في سطوره ما لم ينتبه كلا الفريقين إلى أن الإسلام هو أقصى وآخر درجة لإعلاء العقل وهذا ما نص عليه القرآن الكريم والسنة النبوية العطرة لصاحبها صلى الله عليه وسلم.

وتبدو مشكلة تحقيق الأمن الفكري عصية بل ربما مستحيلة في بعض الأحايين ؛ لاسيما وأنه ـ الأمن الفكري ـ يعني تحقيق الطمأنينة على سلامة الفكر والاعتقاد، كذلك إحساس المجتمع بأن أفكاره الرصينة الضاربة في القدم ليست مهددة، وهو الأمر الذي بات صعبا أيضا بسبب تسارع المنصات الرقمية وتصارعها بغير رقابة أو ضوابط رسمية تحكم حركتها المضطربة.

مثل هذه الإحداثيات التي تتوافد على كوكب الأرض المشحون بالتنازع والتصارع والاحتراب كانت فرصة سانحة بحق لأولئك المتلاعبين بالعقول الذين باتوا يجيدون فعل المراوغة العقلية والعبث بأفكار الشباب العربي، وأصبح الصراع الحقيقي اليوم ليس صراع الجيل الرابع أو الخامس المهموم بالتكنولوجيا الرقمية، بل بالأدمغة من خلال منابر مباشرة وأخرى إلكترونية تسعى إلى اعتقال النص الديني وتقويضه إن كان في الاستطاعة من أجل صناعة خطاب آخر موازٍ.

وهؤلاء لا يزالوا دونما مهل أو تراخٍ يخططون لثمة سيناريوهات أشبه بالمؤامرات سعيا للوصول إلى سدة الحكم بمناطق عربية شتى، مستخدمين في ذلك أقصى أنواع التواصل المسموع والمرئي أو المقروء فهم يعلمون أن حال الثقافة ومقامها في الوطن العربي يدعو إلى البؤس والإحباط، وهذا شكل لديهم حلما واسعا في السيطرة على أدمغة الشباب المسكين الذي لا يقرأ سوى كتبه الدراسية والجامعية فقط. لذا فإن مسألة اعتقال النص واعتناق نصوص مغايرة للمألوف هي الهدف الراهن لكافة التيارات والجماعات الراديكالية المتطرفة ؛ هذا الهدف يرتكز على فكرة الثنائيات التي لا تقبل مساحات أخرى بين الإباحة والتحريم.

هذه الثنائيات الراهنة هي التي تجسد شكل العلاقة ثلاثية الأبعاد بين الأنظمة الحاكمة الرسمية والشباب وأخيرا الجماعات والطوائف التي أبغي تسميتها بالمتطرفة إن لم تكن الأشد تطرفا وشراسة، فبين حكومات تسعى لتحقيق رؤيتها الاستشرافية كجمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية ضمن أجندة التنمية 2030 والتي تستهدف الارتقاء بالشباب في شتى المجالات وصولا إلى حالة مرضية وجيدة من الأمن الفكري عن طريق إعمال العقل واتباع الوسطية والرهان على الشباب أنفسهم باعتبارهم مصدر قوة وصلابة وحيوية للدولة، نجد على الشاطئ الآخر من يريد أن يأخذ الشباب إلى زوايا أخرى مناوئة مستخدمة في ذلك النص الديني بوجه عام، والنصوص الثقافية على وجه الاختصاص من حيث تأويلها وتحريفها وفق ضوابط تعكس أيديولوجية تلك الجماعات فنجدهم مستخدمين سلاح احتلال العقل بدلا من إعماله، وبأن المرشد أو الإمام أو قائد الجماعة التكفيرية الأولى بالتفكير والتدبير والتخطيط لا أكثر لا أقل.

فضلا عن الولع بالتحريم، الأمر الذي أكاد أشاهده على كافة المنصات الرقمية المتزايدة في الانتشار والتي تنتمي لفكر الخوارج أو الطوائف الساعية إلى الحكم تحت مظلات دينية سياسية، والتحريم بات أمرا خطيرا بل هو الملمح الأخطر في هذا العصر. ورغم أن إثم التكفير أمر عظيم وقتل المخالف أمر أعظم إلا أن إطلاق التحريم بل والولع به صار المشهد الأبرز لدى أنصار وأقطاب وأمراء الفكر المتشدد، وأصبح استغلال النص الديني وفقا للتفسير الظاهري هو الحاكم في حدة التحريم.

وإذا بحثنا على عَجَلٍ عن أبرز روافد التطرف لوجدناها في شيوع ثقافة اللاتفكير، وغلو التحريم وتناسي الكراهية والندب والمباح من الأساس، حتى بات التحريم بفضل أمراء الفتنة وشيوخ جبر الخواطر شهوة لها سطوتها وسحرها سيطرت على عقول الآلاف من الشباب العربي. علاوة على أن المتربصين بالنص الديني أكاد أجزم قولا بإنهم لا يفقهون الفرق بين منطوق النص صفة وشرطا واستثناء وغاية وعددا!.

ـ التنوير.. بعيدا عن المقصد:

ولا شك أن الهاربين من النص الديني هم أنفسهم يسعون إلى اعتقاله وحبسه بعيدا عن أنفسهم أولا، وهي مغبة نكراء تعصف بطمأنينة المجتمعات العربية صاحبة التقاليد الثابتة، وإذا استقرأنا طبيعة الفلسفات الإلحادية المعاصرة لاكتشفنا أنها في مضمونها عبارة عن تيارات فلسفية ترتكز على مجموعة من المبادئ الدينية ذات الطبيعة الذهنية المحضة تتخللها أفكار وثنية شرقية وغربية. وتتناول هذه الفلسفات ـ في العادة ـ قضايا غيبية كمصير الإنسان بعد الموت، أو قضايا ذهنية حياتية كوجود الإنسان وماهية هذا الوجود، والأدوار الحياتية للإنسان كدور الخير والشر والتسامح، بالإضافة إلى الطبائع البشرية غير الثابتة كالقلق والتوتر والخوف من المجهول وهكذا.

وأغلب اليقين لا الظن في هذه الفلسفات التي انتشرت بقوة وسطوة في أوروبا منذ بزوغ نظرية النشوء والارتقاء والتي كان من بين ضحاياها ملايين الشباب في الدول الغربية اهتمت جل اهتمامها بالروحانيات، لكن للأسف الشديد لم ينتبهوا إلى عظمة الإسلام وطبيعة القرآن الكريم بوجه خاص في معالجة الجانب الروحي للإنسان، ولأنهم أرادوا بأنفسهم سوءاً طفقوا يجربون كل شئ على سبيل القلق الوجودي فكانت النتيجة انتحار الملايين وانتشار البغي والفساد وشيوع الزنا لاسيما زنا المحارم، انتهاء بالشرك والعياذ بالله. إن هؤلاء مرضى بحق لاسيما وانهم ضحايا الجهل المركب ؛ جهل العقيدة، وجهل الحياة !.

وما أشبه تلك الفلسفات بمرض السرطان الذي يدخل جسد الإنسان في خلسة غير مرئية أو مسموعة، وسرعان من تتحول الخلايا السرطانية إلى وحش كاسر فاتك يدمر الإنسان نفسه، والتشبيه هنا يتقابل في مبدأ السرية والتخدير الكاذب، فمعظم المبشرين للفلسفات الإلحادية أوهموا الشباب التائه لاسيما بعد وقائع الحرب العالمية الثانية التي دمرت أوروبا بالكامل من وجهيها الحضاري النفسي والمادي المحسوس، وأوقعوهم في شرك الهدوء النفسي والبحث عن سبب لوجودهم، وهدف يأملون إليه، ناهيك عن المزاعم التي فرضوها على أولئك الشباب قسراً وقهراً حول إعادة التوازن النفسي لهم إزاء الآثار الناجمة عن الحرب.

ـ محمد عبده.. الملكية الفكرية للتنوير:

وتعد طروحات المجدد الإمام محمد عبده المنطلق الرئيس لكل من سعى إلى تكريس مشروع نهضوي عربي، تحديدا منذ وفاته وحتى وقتنا الراهن، المشهد الذي يدفعنا إلى استدعاء كل مشاعر الحسرة دون اليقظة إلى غياب مشروع ناهض بالوطن العربي الذي لا يزال محفوفا بمخاطر التطرف والإرهاب والتيارات الراديكالية المتعصبة. وهذا الاستدعاء يفرض على الرائي أن يقفز خطوات للوراء لمراجعة مشروع النهضة الحضارية الذي بدأه الخديوي إسماعيل والذي نجح في اجتهاده الثقافي بقدر متزامن ومتوازٍ في إخفاقه الاقتصادي بنفس الدرجة والمساحة بل والمسافة الزمنية أيضا.

وفكرة أن تبدأ مصر عصرها الحديث بالمدرسة السنية لتعليم الفتيات في الوقت الذي نتباكى ونمارس طقوسا جنائزية بشأن تفشي الأمية الهجائية بين النساء لهي دليل دامغ على الهوة والفجوة بين ما هو ثقافي واجتماعي وتنويري وبين ما هو اقتصادي. كذلك كل الإحداثيات الثقافية التي تعلقت بمشروع التنوير الإسماعيلي ـ نسبة للخديوي إسماعيل ـ من تشييد الأوبرا وتكوين الفرق المسرحية وظهور الفرق الموسيقية كفيلة برصد بدايات قوية للتنوير، وما تخلله هذا المشروع الثقافي من ظاهرة الصالونات الثقافية وثورة الشيخ سيد درويش الموسيقية ومحاولة التصدي المحمود للتوفيق بين التراث الديني والحداثوية في وقتها.

لكن هذا المشروع النهضوي ظل معرضا للتأرجح تارة، وللنقد نارة أخرى لاسيما من أصحاب العقول غير المتفجرة بالإبداع أو هذه الأذهان غير المؤهلة لمواجهة تحديات الحاضر، وربما تقاعس صمود مشروع النهضة الذي يمكن تحديد قوته ومتانته وجودة مضمونه على يد الشيخ الإمام محمد عبده، يذكرنا بالهوس الكلامي والورقي الذي صاحب وزامن أساتذة العلوم الأساسية في الوطن العربي وهذا الافتراء والزيف بل والخداع الذي مارسوه بحق مجتمعاتهم وهم يؤكدون في كل محفل علمي ساخر أو مؤتمر دولي باهت بأن أبحاثهم كفيلة بالبقاء العربي العلمي لكن الحقيقة لقد سقطوا بامتهار في اختبار جائحة كورونا ومنذ هذا السقوط أعتقد أن لا رجعة لهم في الأوساط العلمية الصادقة اللهم من صدق وأخلص منهم للعلم ولأوطانهم.

ـ من صدام الحضارات إلى صدمة التنوير:

ومن الصعوبة أن نتلمس تجليات التنوير في عصرنا الحاضر لاسيما وأن هناك ثمة أزمة مع التنوير بات يشبه حالة من الصدام حتى وصل الطرح التنويري والاجتهاد الفكري وكافة محاولات التجديد في قبضة التكفير لا التفكير، ومارست السلطة الدينية الشعبوية غير الرسمية قمع بذور الاجتهاد مستخدمة في ذلك الفتاوى الجاهزة أو بصورة أخرى فلحوا في توظيف الفتوى لوأد أي مشروع تنويري عن طريق تكفير النخبة أو المجددين أنفسهم.

ومن الحسرة بل من خيبة الحاضر أن المرأة التي أنشأ من أجلها الخديوي إسماعيل مدرسة تعليمية برسالة تربوية رصينة تحولت على أيدي حفنة الراديكاليين إلى وسيلة للترفيه عن ما يعرف عنهم بالمجاهدين تحت مسمى نكاح الجهاد، وما أقبح أن نرى المرأة كائنا مساهما في بدايات النهضة العربية الحقيقية ثم تتحول بفعل سياسات دينية مغلوطة إلى قطعة لحم ساكنة من أجل لحى وعمائم وأمراء استهدفوا استغلال الدين ونصوص بعض المتهوكين والمضطربين عقائديا من أجل إشباع غرائز ليست مستدامة.

حتى الصالونات الثقافية التي تفجرت بأفكار الإمام محمد عبده وبراعات قاسم أمين تهاوت بفضل غلبة النزعة السياسية الوطنية عليها وتحولها ـ الصالونات ـ إلى ساحة معارك بين الأحزاب والتيارات والفرق السياسية المتناحرة. وتعددت أقنعة التنوير بعد ذلك من محاولات تجديد الخطاب الديني إلى الحراك الحزبي إلى ظاهرة مثقفي السلطة.

ووصل بنا مشهد تنوير الإمام المجدد محمد عبده ومن خلفه من مجددي القرن العشرين حتى صوب نهايته إلى بزوغ حصانة أهل السلف، لا المقصود بهم حماة العقيدة والدين المحفوظ بمقتضى العناية الإلهية أساسا، والجهود الدينية العظيمة والصحيحة للأوائل، لكن المقصود والمعني بهم هنا هم المدعون لامتلاك الحقيقة المطلقة الذين جاهدوا من ظهور تنظيم حسن البنا وصولا إلى تنظيم الدولة الإسلامية في تقليص سلطة الثقافة وشيوع الإحباط ومشاعر اليأس للمواطن وهو يواجه نظامه السياسي.

واليوم ونحن نرصد مسارات التنوير الذي بدأه الإمام محمد عبده مرورا بأسماء كثيرة وقوائم وطوابير طويلة ساهموا في صناعة الرصيد الثقافي العربي مثل طه حسين والأستاذ العقاد والمازني وأحمد شوقي وزكي نجيب محمود وتوفيق الحكيم وزكي نجيب محمود ونصر أبو زيد وفرج فودة والشيخ الشعراوي والشيخ محمد الغزالي وفؤاد زكريا وعابد الجابري ومحمد أركون انتهاء بالشاعر والمفكر الشاهق أدونيس، فإن ثمة علامات بارزة تربط بين الخطاب الديني ومشروع التنوير منها صراع تقليد التراث وإعادة إنتاج نصوص السلف في الوقت الذي يتبارى فيه المجددون لبيان اجتهاداتهم الفكرية والدينية والاجتماعية، هذا الصراع انتهى بإنجاب ثقافات ظلامية قوضت المشهد التنويري ذاته، وبدلا من البحث طويلا عن عوائق استمرار المشروع التنويري للعرب الذي تم تشييده على يد الخديوي إسماعيل في مصر، أصبح السؤال الأكثر دهشة هو: أين المنجز الحضاري لتيارات الإسلام السياسي ذلك الضلع الثاني في صراع التجديد والتقليد؟.

الإجابة تبدو سهلة وبسيطة ولا تحتاج بالفعل إلى إرهاق للعقل أو استدعاء متعب للذاكرة، مجموعة من التسجيلات الصوتية التي تتحدث عن الجنة والنار ومقاومة الحاكم وتكفير المجتمع وتبيين فتنة المرأة وفساد وجودها في مؤسسات الدولة، ومئات الكتب التي تتناول الجهاد والحاكمية وتكفير كل مخالف لفكر المؤلف الراديكالي ضيق الأفق، وأخيرا عشرات القنوات الفضائية الموتورة التي للم تنجح من الفكاك من أسر نكاح الجهاد وإرضاع الكبير والزواج من الفتيات الصغيرات.

والفارق كبير وجوهري بين القرآن الكريم النص السماوي المقدس الذي يحرض على تفجر العقل وإعماله وإطلاق العنان إلى التجديد في ظل ثوابت وركائز أصيلة تنفع الفرد والمجتمع على السواء، وبين نصوص تراثية جامدة لا تقبل منطق التطور ولا منطق الطير أيضا، فإذا كان القرآن الكريم يحرر العقل في دعوته ويحرر المرء من هيمنة رجل الدين، ويحرر المجتمع أيضا من سلطة النصوص الظلامية، فإن أنصار التيارات الراديكالية المتطرفة تمثل عدوا للعقل وإعماله،

والمستقرئ لتاريخ العداء الموجه من التيارات والفرق والتنظيمات العقائدية المتطرفة لكافة مشروعات النهضة الثقافية العربية، يفطن حجم الوصاية على التأويل والتفسي والتحليل التي مارسها أمراء هذه التيارات الظلامية، ويستنتج العلاقة الوثيقة بين شيوع الأمية والتنوير.

ومما عمَّق كارثة العرب الثقافية المرتبطة بالتنوير هو غياب الفقيه المجدد، فضلا عن نمطية الدعاة لاسيما الجدد الذين تاهوا طواعية بين الشكل الظاهري والتزام خطوط الموضة المعاصرة وبين مضمون الطرح الديني.

ولعل ما طرحه المفكر المغربي المتميز رشيد جرموني في مقالته المعنونة بـ ” أي نموذج تنموي لما بعد جائحة كورونا ؟ ” يونيو 2020، لهو منطق المشهد الراهن من حيث إن جائحة كورونا لم تلق بظلالها فقط على الأبعاد الاقتصادية والصحية والسياسية فحسب، بل إنها كشفت عن حقيقة المشهد التنموي بالوطن العربي وفضحت الأبعاد الحقوقية والفكرية والوضع التعليمي بمؤسساتنا التعليمية، وأن المشكلة ليست فقط في نقص الإمكانات الطبية والصحية والكوادر العلمية ـ رغم أنني في الأصل لا أعترف بوجود كوادر علمية أكاديمية عربية في مجالات شتى ـ بل إن الجائحة أبرزت النقص في مشروعات التنمية الثقافية التي ظننا أنها قائمة بالفعل وأن تلك الجائحة فرصة طيبة وعظيمة أيضا لإعادة التأمل في مشهدنا الثقافي والتنويري.

***

الدُّكْتُورُ بَليغ حَمْدِي إسْمَاعِيل/ أسْتَاذُ المَنَاهِجِ وطَرَائِق تَدْرِيسِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ/ كُلِّيَّةُ التَّرْبِيَةِ 

بين الاستلاب والتزوير

الفلسطينيون شعبٌ ذو تاريخ عريق وجذور راسخة في أرضه وتقاليده. لآلاف السنين، كانت فلسطين محوراً لأحداث تاريخية كبرى. تنتمي فلسطين إلى الهلال الخصيب الشهير في عصور البشرية القديمة، موطناً لبعض أوائل المجتمعات الزراعية في العالم.

كان يغلب على المجتمع الفلسطيني التقليدي الطابع الزراعي. تاريخياً، عاش معظم الفلسطينيين في قرى صغيرة، غالباً بين أقاربهم. وللأرض قيمة خاصة في الثقافة الفلسطينية، فقد عبّر عنها الشاعر الفلسطيني الشهير محمود درويش بقوله: "الأرض التي نحملها في دمنا". وعلى عكس بعض المجتمعات الزراعية الأخرى، كان العمل الزراعي يُمارس بشكل جماعي.

على مرّ القرون، بنى الفلسطينيون تلال وطنهم الصخرية على نطاق واسع، مُدرّجات. ولا تزال هذه الجدران الاستنادية الحجرية، المعروفة باسم "السناسيل"، تتقاطع على سفوح تلال الضفة الغربية، وقد أدرجتها اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي. كما بُنيت المنازل على مرّ السنين من الحجر بدلاً من الطوب أو الأخشاب، مستفيدةً من الموارد الأكثر وفرةً في المنطقة.

جعل مناخ فلسطين المتوسطي مثالياً لزراعة محاصيل مثل الحمضيات والزيتون. وأصبح البرتقال، الذي يُشحن من يافا، فاكهةً مشهورةً ومُقدّرةً في شمال أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر، قبل اختراع التبريد. في الماضي البعيد، اشتهرت مدينة غزة كميناء تجاري قديم.

ترتبط أشجار الزيتون ارتباطاً وثيقاً بفلسطين لدرجة أنها تكاد تكون مرادفة للمنطقة. ولعل هذه المنطقة كانت أول مكان بدأ فيه البشر زراعة هذا المحصول.

على الرغم من وجود مجال واسع لمزيد من التطور، إلا أن المجتمع الفلسطيني الحديث يتمتع بمستوى تعليمي عالٍ ويضم طبقة مهنية كبيرة. منذ النصف الثاني من القرن العشرين، أصبح من الشائع أن تعمل النساء خارج المنزل وفي مزرعة العائلة.

تعكس الثقافة الفلسطينية الحديثة التقاء العديد من الشعوب في فلسطين عبر التاريخ، بما في ذلك العرب والأرمن والكنعانيون والأوروبيون واليونانيون والعبرانيون والرومان والسامريون والأتراك والأنباط والقبائل البدوية.

البدو هم جماعات وقبائل البدو الرحل تقليدياً في فلسطين. وعلى الرغم من أنهم يعيشون أنماط حياة أكثر استقراراً اليوم، إلا أن الكثيرين منهم يحتفظون بأساليب عيش رعوية. توجد مجتمعات بدوية في جميع أنحاء الضفة الغربية، عاش الكثير منها في النقب قبل طردهم خلال قيام إسرائيل. ولا يزال عدد كبير من البدو يعيشون في جنوب إسرائيل، ويقيم عدد أقل في غزة. تشمل القبائل البدوية الفلسطينية العزازمة، والرماضين، في محافظة الخليل. والجهالين، والكعابنة، في محافظة القدس. والرشايدة في محافظتي بيت لحم وأريحا.

ونظراً لهذا التاريخ الغني، يتميز الفلسطينيون بتنوعهم في المظهر، فعلى سبيل المثال، تشترك السمات الأوروبية والأفريقية بشكل كبير. وضمن هذا التنوع، يشترك الفلسطينيون في هوية ثقافية مشتركة مع العالم العربي الأوسع.

يتحدث الفلسطينيون المعاصرون اللغة العربية، مستخدمين لهجة بلاد الشام عامية. كانت الآرامية واليونانية اللغتين الرئيسيتين في فلسطين حتى القرن السابع عندما وصلت القوات العربية الإسلامية، مما أدى إلى اعتماد اللغة العربية على نطاق واسع كلغة مشتركة، وانتشار الثقافة العربية بشكل أكبر.

فلسطين، وعلى نحو فريد، أرض مقدسة لدى ثلاثة من الديانات الرئيسية في العالم: المسيحية والإسلام واليهودية. القدس هي موطن المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة في الإسلام. بنت الدولة الأموية قبة الصخرة في القدس في القرن السابع الميلادي. في اليهودية، الخليل هي موقع قبر إبراهيم، والقدس هي موقع الهيكلين الأول والثاني القديمين. أما في المسيحية، فهي مسقط رأس السيد المسيح وموطن كنيسة القيامة، وفي بيت لحم كنيسة المهد.

الإسلام والمسيحية هما الديانتان الرئيسيتان اللتان يعتنقهما الفلسطينيون اليوم. يشمل المسيحيون في فلسطين الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية (أو الأرثوذكسية اليونانية)، والكنيسة الكاثوليكية اليونانية (أو الملكية)، والكنيسة الكاثوليكية الرومانية، والكنائس الأنجليكانية والقبطية والإثيوبية والأرمنية.

الإسلام هو أكبر ديانة في فلسطين. في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، هاجرت أعداد كبيرة من المسيحيين الفلسطينيين إلى الخارج، وأصبح الكثيرون منهم لاجئين خلال قيام إسرائيل. أدى ذلك إلى انخفاض كبير في نسبتهم من السكان، حيث أصبحت الآن في خانة الآحاد، وخاصة في غزة، على الرغم من بقاء بعض الكنائس، بما في ذلك كنيسة القديس بورفيري القديمة. تضم بيت لحم جالية مسيحية كبيرة نسبياً.

في الشتات، تتواجد جاليات مسيحية قوية بشكل خاص في الدول العربية المجاورة، والخليج، وأوروبا الغربية، وأمريكا الشمالية (وخاصة الولايات المتحدة)، وأمريكا اللاتينية (ولا سيما تشيلي وكولومبيا وهندوراس).

التراث الفلسطيني

يُشكل التراث الفلسطيني مزيجاً من المعالم التاريخية والتقاليد العريقة والإرث الثقافي الذي يمتد لآلاف السنين. يُعدّ الطعام والثقافة والتراث الفلسطيني جزءًا لا يتجزأ من هوية الفلسطينيين، ويعكس صمودهم وإبداعهم وارتباطهم العميق بأرضهم. من خلال المأكولات الشهية، والتعبيرات الفنية، والتقاليد الغنية، تواصل فلسطين الحفاظ على تراثها الثقافي الفريد والاحتفاء به.

تتأثر ثقافة فلسطين بالثقافات والأديان المتنوعة العديدة التي وُجدت في فلسطين التاريخية ودولة فلسطين. ويُعدّ التراث الثقافي واللغوي للعرب الفلسطينيين، إلى جانب اللبنانيين والسوريين والأردنيين، جزءًا لا يتجزأ من الثقافة العربية الشامية. وللفلسطينيين أيضاً لهجتهم العربية الخاصة، وهي اللهجة الفلسطينية.

تُعبّر المساهمات الثقافية في مجالات الفن والأدب والموسيقى والأزياء والمطبخ عن الهوية الفلسطينية على الرغم من الفصل الجغرافي بين الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية، والمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، والفلسطينيين في الشتات.

تتكون الثقافة الفلسطينية من الطعام والرقص والأساطير والتاريخ الشفوي والأمثال والنكات والمعتقدات الشعبية والعادات، وتشمل تقاليد الثقافة الفلسطينية (بما في ذلك التقاليد الشفوية). وقد أكّد إحياء التراث الشعبي لدى المثقفين الفلسطينيين، مثل نمر سرحان، وموسى علوش، وسليم مبيض، وغيرهم، على الجذور الثقافية ما قبل الإسلامية.

اعترفت اليونسكو بأهمية التراث الثقافي غير المادي لفلسطين، حيث أُدرجت الحكاية الفلسطينية لأول مرة في قائمتها للتراث الثقافي غير المادي عام 2008. تبع ذلك إدراج التطريز الفلسطيني في عام 2021، وإدراج فن الخط العربي، واستخدام نخيل التمر في نفس العام. وأُدرجت الدبكة الفلسطينية "الرقص الشعبي" عام 2023. كما تم إدراج فن النقش على المعادن (ذهب وفضة ونحاس) في عام 2023 أيضاً. وتم ترشيح فن النقش بالحناء، وصناعة الصابون النابلسي عام 2024.

ولا تزال تُنتج مجموعة واسعة من الحرف اليدوية، التي أنتج الفلسطينيون العديد منها منذ مئات السنين، تُنتج حتى اليوم. تشمل الحرف اليدوية الفلسطينية التطريز والنسيج، وصناعة الفخار، وصناعة الصابون، وصناعة الزجاج، وخشب الزيتون، والمنحوتات على الصدف.

الملابس التقليدية

تباينت الملابس التقليدية للنساء والرجال في فلسطين بشكل كبير بين الطبقات الاجتماعية، وتميزت الأزياء باختلاف المناطق الحضرية والريفية والبدوية. كانت الملابس التقليدية تُصنع عادةً من القطن أو الكتان. في أوائل القرن العشرين، تراجعت تدريجياً الملابس الرجالية التقليدية، مثل التونيكات والأنماط المستوحاة من الطراز العثماني لتحل محلها الملابس ذات الطراز الغربي. كما تميل النساء الحضريات المعاصرات إلى ارتداء الملابس الغربية في معظم الأحيان. الصنادل هي الأحذية التقليدية للرجال الفلسطينيين. وعادةً ما يُخلع الحذاء قبل دخول المنزل. أصبحت ملابس النساء أكثر تحفظاً في أواخر الثمانينيات، بعد اندلاع الانتفاضة الأولى، عندما بدأت المزيد من النساء بتغطية شعرهن وارتداء ملابس طويلة وفضفاضة.

تتنوع أغطية الرأس التقليدية. تُلبس الكوفية البدوية على الرأس وتُثبت بحبل. الكوفية، أو الحطّة، قطعة قماش مربعة، غالباً ما تكون بيضاء اللون، مزينة بنقش مربعات أو شبكي باللونين الأسود أو الأحمر. في أوائل القرن العشرين، أصبحت هذه الحُطّة رمزًا للقومية الفلسطينية، وبدأ الفلسطينيون غير البدو يتبنونها. واليوم، تحظى هذه الحُلة الأيقونية بشعبية واسعة بين جميع الطبقات الاجتماعية في فلسطين وخارجها. وعلى الصعيد الدولي، يرتديها أحياناً مناصرو القضية الفلسطينية، بل وتبنتها صناعة الأزياء العالمية.

التطريز

دأبت النساء الفلسطينيات على ارتداء الثوب، وهو فستان مزخرف بإتقان، للمناسبات الرسمية. غالباً ما تتميز هذه الملابس بتطريز متقاطع معقد ويستخدم أنماطاً هندسية. توارثت النساء أنماط التطريز العائلية، وكانت الفتيات يخيطن الفساتين استعداداً للزواج. كما كنّ يُضفين على الملابس والمجوهرات والإكسسوارات استعداداً للحياة الزوجية. طورت كل قرية ومنطقة أنماط تطريز وألوان وأنماط فريدة خاصة بها. فعلى سبيل المثال، تشتهر منطقة دير البلح في غزة بأنماط التطريز القمري والريشي. حتى العائلات التي عاشت لأجيال في مخيمات اللاجئين غالباً ما حافظت على تصاميم التطريز التقليدية لقراها وتوارثتها. يعود تاريخ بعض هذه التصاميم إلى آلاف السنين، وهو استمرارية لافتة في منطقة شهدت الكثير من الاضطرابات السياسية. وقد شكلت النساء أحياناً تعاونيات لإنتاج التطريز بشكل جماعي. لا يقتصر استخدام التطريز على تزيين الملابس فحسب، بل يمكن العثور على أغطية الوسائد، ومفارش المائدة، وحقائب اليد، والعديد من القطع الأخرى مزينة بتطريزات جميلة.

كثيراً ما أشاد المسافرون الأجانب إلى فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بالتنوع الغني للملابس التقليدية لدى الشعب الفلسطيني، وخاصةً لدى الفلاحين أو نساء القرى. وحتى أربعينيات القرن العشرين، كان من الممكن لمعظم النساء الفلسطينيات تحديد الوضع الاقتصادي للمرأة، سواءً كانت متزوجة أم عزباء، والمدينة أو المنطقة التي تنتمين إليها، من خلال نوع القماش والألوان والقصات وزخارف التطريز، أو عدم وجودها، المستخدمة في الثوب.

أدى تهجير الفلسطينيين عام 1948 ونزوحهم إلى خلل في أنماط اللباس والعادات التقليدية، حيث لم يعد بإمكان العديد من النساء النازحات توفير الوقت أو المال اللازمين لشراء ملابس مطرزة معقدة. بدأت أنماط جديدة بالظهور في ستينيات القرن العشرين. على سبيل المثال، "الثوب ذو الفروع الستة" الذي سُمي نسبةً إلى أشرطة التطريز الستة العريضة الممتدة من الخصر. جاءت هذه الأنماط من مخيمات اللاجئين، وخاصةً بعد عام 1967. فُقدت أنماط القرى الفردية واستُبدلت بنمط "فلسطيني" مميز.

 الشال، وهو نمط شائع في الضفة الغربية والأردن قبل الانتفاضة الأولى، ربما تطور من أحد مشاريع التطريز الخيرية العديدة في مخيمات اللاجئين. كان تصميمه أقصر وأضيق، بقصّة غربية. والكوفية، المعروفة أيضاً باسم "الحطة"، غطاء رأس تقليدي باللونين الأبيض والأسود يرتديه المزارعون الفلسطينيون. منذ الثورة العربية الكبرى في ثلاثينيات القرن الماضي، أصبحت رمزاً بارزًاً للمقاومة الفلسطينية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

الحكايات الشعبية

تبدأ القصص الشعبية الفلسطينية التقليدية بالبسملة (بسم الله الرحمن الرحيم) وبدعوة المستمعين للصلاة على النبي محمد أو مريم العذراء حسب الحالة، وتتضمن الافتتاحية التقليدية: "كان يا ما كان في قديم الزمان...". تشترك العناصر النمطية للقصص في الكثير من القواسم المشتركة مع مثيلاتها في العالم العربي، على الرغم من اختلاف نظام القافية. هناك مجموعة من الشخصيات الخارقة للطبيعة: الجن الذين يستطيعون عبور البحار السبعة في لحظة، والعمالقة، والغيلان بعيون من جمر وأسنان من نحاس.

غالباً ما تتضمن الحكايات الشعبية الفلسطينية قصصاً وحكايات عن القديس جرجس، شفيع فلسطين. على سبيل المثال، تتضمن إحدى القصص من قرية عين كارم زيارة القديس جرجس للقديس جرجس خلال فترة جفاف. في كثير من الأحيان، تُعد الحكايات الشعبية عن القديس جرجس مصدراً للصمود والأمل للفلسطينيين، مسلمين ومسيحيين.

إن الحكاية الفلسطينية شكل من أشكال الأدب الشفهي النسائي الذي يتناول قضايا اجتماعية. تُؤدى في الشتاء، حيث تروي النساء الأكبر سناً القصص للنساء الأصغر سناً والأطفال. في عام 2008، أُدرجت في قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي.

المطبخ الفلسطيني

ينعكس تاريخ فلسطين، التي خضعت لحكم إمبراطوريات عديدة، في المطبخ الفلسطيني، الذي استفاد من مساهمات وتبادلات ثقافية متنوعة. بشكل عام، تأثرت الأطباق الفلسطينية الحديثة بحكم ثلاث مجموعات إسلامية رئيسية: العرب، والعرب المتأثرون بالفرس، والأتراك. كان للبدو العرب الأوائل في سوريا وفلسطين تقاليد طهي بسيطة تعتمد بشكل أساسي على استخدام الأرز ولحم الضأن والزبادي، بالإضافة إلى التمر.

كان مطبخ الإمبراطورية العثمانية، التي ضمت فلسطين كإحدى ولاياتها بين عامي 1517 و1918، يتكون جزئياً مما أصبح آنذاك مطبخاً عربياً غنياً. بعد حرب القرم، بدأت العديد من الجاليات الأجنبية (وخاصة البوسنيين واليونانيين والفرنسيين والإيطاليين) بالاستقرار في المنطقة؛ وكانت القدس ويافا وبيت لحم الوجهات الأكثر شعبية لهذه المجموعات. ساهم مطبخ هذه المجتمعات، وخاصةً تلك الموجودة في البلقان، في طابع المطبخ الفلسطيني. ومع ذلك، وحتى خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كان الغذاء الأساسي للعديد من العائلات الفلسطينية الريفية يدور حول زيت الزيتون والزعتر والخبز، المخبوز في فرن بسيط يُسمى الطابون.

ينقسم المطبخ الفلسطيني إلى ثلاث مجموعات إقليمية: منطقة الجليل والضفة الغربية وغزة. يشترك مطبخ منطقة الجليل في الكثير من القواسم المشتركة مع المطبخ اللبناني، وذلك بفضل التواصل الواسع بين المنطقتين قبل قيام إسرائيل. يتخصص سكان الجليل في إعداد عدد من الوجبات القائمة على مزيج من البرغل والتوابل واللحوم، والمعروفة باسم الكبة لدى العرب. للكبة العديد من الاختلافات بما في ذلك تقديمها نيئة أو مقلية أو مخبوزة. والمسخن هو طبق رئيسي شائع نشأ في منطقتي جنين وطولكرم في شمال الضفة الغربية. يتكون من دجاج مشوي فوق خبز الطابون المغطى بقطع من البصل الحلو المقلي والسماق والبهارات والصنوبر، مطبوخ ومُزين بكمية وفيرة من زيت الزيتون. ومن الوجبات الأخرى الشائعة في المنطقة المقلوبة والمنسف، وهذا الأخير نشأ من السكان البدو في الأردن.

يتأثر مطبخ قطاع غزة بكل من مصر المجاورة وموقعها على ساحل البحر الأبيض المتوسط. الغذاء الرئيسي لغالبية سكان المنطقة هو السمك. تمتلك غزة صناعة صيد أسماك رئيسية وغالباً ما يتم تقديم السمك إما مشوياً أو مقلياً بعد حشوه بالكزبرة والثوم والفلفل الأحمر والكمون، ثم يتبل بمزيج من الكزبرة والفلفل الأحمر والكمون والليمون المفروم. كما يظهر التأثير المصري في الاستخدام المتكرر للفلفل الحار والثوم والسلق لنكهة العديد من وجبات غزة. من الأطباق التي تشتهر بها منطقة غزة السماقية، وهي عبارة عن سماق مطحون منقوع في الماء ممزوج بالطحينة، ثم يُضاف إلى شرائح السلق وقطع من اللحم البقري المطهو والحمص.

هناك العديد من الأطعمة الفلسطينية المعروفة في العالم العربي، مثل الكنافة النابلسية، والجبنة النابلسية، وجبنة عكاوي (جبنة عكا)، والرومانية (من يافا)، والسماقية (يخنة من غزة) والمسخن. الكنافة أصلها من نابلس، بالإضافة إلى الجبن النابلسي المُحلى المستخدم لحشوها. والبقلاوة، وهي معجنات أُدخلت في عهد السلطان العثماني سليمان القانوني، هي أيضاً جزء لا يتجزأ من المطبخ الفلسطيني.

مناقيش الزعتر هي خبز مسطح متوسطي يُزيّن بزيت الزيتون ودهن الزعتر. أما الفلافل المصنوعة من الحمص، والتي استُبدل بها الفول المدمس المستخدم في الوصفة المصرية الأصلية، وأُضيف إليها الفلفل الهندي، والتي أُدخلت بعد أن فتحت غزوات المغول طرقاً تجارية جديدة، هي من الأطباق الرئيسية المفضلة في مطبخ البحر الأبيض المتوسط.

ومن الأطباق الرئيسية التي تُؤكل في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية ورق العنب المسلوق، وهو ملفوف حول الأرز المطبوخ ولحم الضأن المفروم. المحاشي هو تشكيلة من الخضراوات المحشوة مثل الكوسا والبطاطس والملفوف، وفي غزة يضعون السلق.

يُعدّ الخبز والأرز والبرغل من الحبوب الأساسية، وغالبًا ما تُضاف إلى البقوليات والمكسرات. تقليديًا، كانت إحدى نساء العائلة تُحضّر الخبز في المنزل ليوم أو أسبوع. أما الآن، فيُشترى معظم الخبز من المخابز. ويُعدّ خبز البيتا المسطح الأكثر شيوعًا. وتشتهر القدس بحلقات الكعك المستطيلة.

يُعدّ العدس من أكثر البقوليات شيوعًا. كما أن لحم الضأن ولحم البقر والسمك شائعٌ حيثما يتوفر. حتى بين المسيحيين، نادرًا ما يُؤكل لحم الخنزير.

تُقدّم العديد من أطباق الخضار واللحوم مع الأرز، مثل المقلوبة، التي اشتق اسمها من طريقة تقديمها - مقلوبة رأسًا على عقب على طبق التقديم. ثم هناك الأطباق المحشوة - الفلفل المحشو، الكوسا المحشوة، وما إلى ذلك - وهي فئة تُسمى مجتمعةً "محشي" (أي، كما خمنتم، "محشو").

تُعدّ المقبلات، المعروفة باسم "المزة"، من الأطباق الرئيسية في التجمعات الاجتماعية، وغالبًا ما تُقدّم منفصلة عن الوجبات. الشاورما والفلافل من الوجبات السريعة الشائعة.

تُقدّم الفواكه الطازجة، مثل المشمش، والتين، والعنب، والخوخ، والأجاص، والدراق، والبرتقال، والتفاح، والكرز، والموز عادةً في نهاية الوجبات.

يُعدّ زيت الزيتون الدهن الأساسي المستخدم في طهي وتغميس الخبز، وهو يؤدي العديد من وظائف الزبدة في شمال أوروبا والولايات المتحدة. الزعتر مزيج توابل محبوب، يتكون أساسًا من الزعتر البري الذي اشتق اسمه منه، ويُضاف إليه بذور السمسم والسماق.

تتكون وجبة الإفطار التقليدية من الخبز، والجبن، واللبنة، والبيض، والزيتون، وشرائح الطماطم والخيار، وبالطبع زيت الزيتون.

للحلوى، الكنافة هي أشهى ما يكون، وهي طبق فلسطيني شهي من الجبن الحلو وعجينة الفيلو المبشورة، مغموسة في شراب السكر، ومزينة بقطع الفستق. تشتهر نابلس بجبنها المصنوع من حليب الماعز أو الغنم، والذي يُشكل أساس كنافتها الشهيرة.

تُستهلك القهوة على نطاق واسع، سواءً أكانت مُحضرة على الطريقة العربية أم بطرق أخرى معروفة عالميًا. أحيانًا يُضاف الهيل. كما يُعد الشاي مشروبًا يوميًا للكثيرين، وغالبًا ما يُضاف إليه أوراق النعناع الطازجة أو أوراق المريمية البرية.

السينما الفلسطينية

يمكن القول إن تاريخ السينما في فلسطين بدأ حينما قام مصور لوميير جان ألكسندر لوي بروميو بتصوير مشاهد قصيرة في مدينتي يافا والقدس بين 3 و25 نيسان/أبريل سنة 1897. كانت سينما "أوراكل" في القدس من أوائل قاعات العرض السينمائي في فلسطين، وقد أنشئت سنة 1908. وافتتحت سينما "ريكس" في القدس أيضاً سنة 1938 واعتبرت أول قاعة سينما بمعايير متطورة. ويُنتج العديد من الأفلام الفلسطينية بدعم أوروبي. لا تُنتج الأفلام الفلسطينية باللغة العربية فقط؛ بل يُنتج بعضها بالإنجليزية أو الفرنسية أو العبرية. أُنتج أكثر من 800 فيلم عن الفلسطينيين والصراع الإسرائيلي الفلسطيني ومواضيع أخرى ذات صلة؛ ومن الأمثلة البارزة على ذلك فيلما "اليد الإلهية" و"الجنة الآن". تتوزع الأفلام بين الروائية والتسجيلية، الطويلة والقصيرة، وتعنى بتصوير مأساة فلسطين وشعبها. الأفلام تغطي الفترة المصيرية من سنة 1911، أي منذ زمن الحكم العثماني، مروراً بعهد الانتداب البريطاني وكذلك زمن النكبة والتشريد وقيام دولة الاحتلال سنة 1948، وكل ما تعرض له الشتات الفلسطيني حتى عام 2005. أول فيلم فلسطيني روائي كان قد حققه صلاح الدين بدرخان سنة 1946 باسم "حلم ليلة"، ويؤكد ذلك الكاتب محسن البلاسي في كتابه "الخيال الحر". تم إنتاج العديد من الأفلام الوثائقية في فترة الكفاح المسلح مثل فيلم "لا للحل السلمي" و "بالروح بالدم". في فترة السبعينيات تم إنتاج أفلام "وطن الأسلاك الشائكة" (1980)، و"فلسطين، سجل شعب" (1984). وأنتجت "مؤسسة صامد للإنتاج السينمائي" أول أفلامها سنة 1976 بعنوان "المفتاح" من إخراج غالب شعث. بلغ إجمالي الأفلام التي أُنتجت في ذلك العقد قرابة 50 فيلماً وثائقياً، وفيلماً روائياً واحداً هو فيلم "عائد إلى حيفا " سنة 1982 للمخرج قاسم حَوَل عن رواية الأديب غسان كنفاني.

طوّرت السينما الفلسطينية أدواتها وموضوعاتها، وخرجت من المفاهيم المستهلكة. إذ باتت الأفلام الفلسطينية تحظى بحضور عالمي، لا سيما فيلم "عرس الجليل" لميشيل خليفي سنة 1987 الذي حاز جائزة النقاد الدولية في مهرجان "كان" عام 1987، والجائزة الذهبية في "مهرجان سان سيباستيان"، والتانيت الذهبي في "مهرجان قرطاج" سنة 1988. كذلك نذكر إيليا سليمان الذي بدأ مشواره سنة 1990، وهو صاحب ثلاثية "سجل اختفاء"، "يد إلهية"، "الزمن الباقي، سيرة الحاضر الغائب"، وقد أسس في هذه الثلاثية لنقلة نوعية في السينما العربية. كما يحضر هاني أبو أسعد بفيلمه "الجنة الآن" سنة 2005 وعدة أفلام أخرى، ورشيد مشهراوي بفيلمه "حتى إشعار آخر" سنة 1993.

المسرح

يشبه المسرح الفلسطيني المسارح العربية الأخرى، إلا أنه يختلف اختلافاً جوهرياً نظراً لتاريخ المنطقة وسكانها. نشأ بصعوبة، وكان تركيزه في البداية منصباً على الداخل، لكنه تطور منذ ذلك الحين ليصبح ممارسة ثقافية متميزة. تُشير ماري إلياس، في الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية، إلى ثلاث مراحل مختلفة. بدأ المسرح الفلسطيني في "سياق نهضة ثقافية" في بلاد الشام، وخاصة في عشرينيات القرن الماضي، بعروض مستوحاة من نصوص عربية أو مسرحيات أوروبية مترجمة. شهدت الفترة الثانية، التي شهدت "نهضة" فنية، أواخر الستينيات، وبعد حرب الأيام الستة عام 1967، شهدت رغبة واضحة، وإن كانت غير منسقة، داخل فلسطين وخارجها، في تطوير مسرح ذي هوية فلسطينية. ومن أبرز الفرق في تلك الفترة فرقة مسرح بلالين، التي بدأت عام 1970 باسم فرقة "عائلة المسرح". أما الفترة الثالثة، فقد بدأت عام 1993، بعد اتفاقية أوسلو، وشهدت تحولاً مهنياً في الضفة الغربية، على الرغم من أن التطورات في قطاع غزة كانت أكثر صعوبة. أهم الفرق المسرحية الفلسطينية: فرقة المسرح الوطني الفلسطيني، مسرح وسينماتيك القصبة، فرقة فتح المسرحية، مسرح الحكواتي الفلسطيني، مسرح البسمة، المسرح الشعبي سنابل، مسرح عشتار، مسرح الحارة، أيام المسرح، المسرح الشعبي الفلسطيني، مسرح الطنطورة، مسرح سفر، مسرح عناد، مسرح القصبة، مسرح الميدان، مسرح الرواد، مسرح السيرة، مسرح الرواة، مسرح الأحلام، مسرح نعم، وغيرها.

العمارة

تغطي العمارة الفلسطينية التقليدية فترة زمنية تاريخية واسعة، وتضمنت عدداً من الأساليب والتأثيرات المختلفة على مر العصور. كانت العمارة الحضرية في فلسطين قبل عام 1850 متطورة نسبياً. رغم انتمائها إلى السياق الجغرافي والثقافي الأوسع لبلاد الشام والعالم العربي، إلا أنها شكلت تقليداً مميزاً يختلف اختلافاً كبيراً عن تقاليد سوريا ولبنان ومصر. ومع ذلك، تشاركت المنازل الفلسطينية في المفاهيم الأساسية نفسها المتعلقة بترتيب مساحات المعيشة وأنواع الشقق الشائعة في جميع أنحاء شرق البحر الأبيض المتوسط. كان التنوع الغني والوحدة الكامنة في الثقافة المعمارية لهذه المنطقة الأوسع، الممتدة من البلقان إلى شمال إفريقيا، نتيجةً للتبادل الذي عززته قوافل طرق التجارة، وامتداد الحكم العثماني على معظم هذه المنطقة، بدءًا من أوائل القرن السادس عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى.

الحناء

يعود فن الحناء إلى آلاف السنين في الشرق الأوسط، في التقاليد المسيحية والإسلامية، كرمز للحظ السعيد والصحة والجاذبية. مع بروز الإسلام في القرن السابع، ومنع الوشم، ازدادت شعبية الحناء في العالم العربي.

تُستخدم الحناء في احتفالات مثل حفلات الزفاف، وللتجميل والزينة، والتعبير عن الذات، والبركة والرفاهية، وتكريم التقاليد القديمة، وغيرها. ليلة الحناء التي تسبق الزفاف تقليد قديم يجمع عائلتي العروس والعريس لتوطيد العلاقات والاحتفال والاهتمام بأي ترتيبات أخيرة لليوم الكبير. تتحول بقع الحناء إلى اللون البرتقالي عند إزالة المعجون، لكنها تغمق خلال الأيام الثلاثة التالية إلى لون بني محمر غامق بسبب الأكسدة.

***

الدكتور حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

(الكائن الإنساني رهن لإمكاناته على أن يحوّل الواقع، وأن يتغير عما هو عليه، فكراً وهوية أو فعلاً وممارسة، من خلال ما يخلقه من العوالم المختلفة بقواها وعلاقاتها، أو المتميزة بلغاتها ورموزها، أو الفعالة بأدواتها ووسائطها).. علي حرب، حديث النهايات – فتوحات العولمة ومآزق الهوية.

” تقع العولمة في القلب من الثقافة المعاصرة وتقع الممارسات الثقافية في القلب من العولمة. فالعولمة ليست هي المحدد الوحيد للتجربة الثقافية المعاصرة، ولا أن الثقافة بمفردها هي المفتاح المفاهيمي الذي يفك مغالق القوة الدينامية الداخلية للعولمة. ولكنه يتمثل في إثبات أن العمليات التحويلية الهائلة لعصرنا المعاصر، والتي تصفها العولمة وبالأخص منها الثقافية، لا يمكن أن تفهم على نحو صحيح حتى تُدرك من خلال المفردات المفاهيمية للثقافة وبالمثل، فإن هذه التحولات تغير نسيج التجربة الثقافية ذاته. كما أنها في الحقيقة تؤثر في إحساسنا بالهوية الحقيقية للثقافة في عالمنا المعاصر. إن العولمة والثقافة كلتيهما مفهومان يتسمان بأعلى مراتب العمومية، وهناك خلاف عميق حول معنى كل منهما. لذا حاول هذا المقال إدراك العناصر الرئيسية للعولمة الثقافية ضمن ما يمكن تسميته بالعولمة الرمزية “ (بتصرف: جون توملينسون، العولمة والثقافة، ص 10).

” إن الخوض في الثقافة يعني الخوض في الحياة بكل تفاصيلها وشعبها وما يتعلق بها. ولا يمكن الخوض خارج ذلك الجزء الذي أصبح مكوناً لوعي الإنسان، فما يقع خارج وعيه يقع خارج المعالجة (لا مفكر فيه). بهذا المعنى تكون الثقافة هي ذلك الكل الذي يخضع فيه العقل البشري. ومن هنا تظهر الثقافة على أنها هذا التراكم في الخبرات والمعارف الذي كونه الإنسان على امتداد وجوده. فالإنسان ليس معطى طبيعياً فقط، إلا إذا تحكمت بنا النظرة الداروينية إلى المخلوقات الأخرى، أي إذا رأينا فيه ذلك المخلوق (القرد عارياً أو مكتسياً بالشعر) قبل أن تعمل مجمل الظروف على تأهيله لتلقي الخبرة، وإنجاز تراكم ما يوصله إلى إنسانيته. وحتى من خلال هذه النظرة، فإن الإقرار بأن عملية تطور ما قد حصلت لهذا المخلوق، تقتضي الإقرار بأن الإنسان معطى تاريخي ثقافي، وهذا لا يكون إلا بإضافة الوعي لعملية التطور، وبالتالي نكون بهذا قد أدخلنا التعديل على حدود الطبيعة، وأمسكنا بدفة توجيهها، أو التحكم بمفاصل وجزئيات ما، في علاقتنا معها.

إذن الثقافة هي المحدد الأساسي لشخصية الإنسان ككائن، لأن الفروق الفيزيائية والبيئية موجودة بشكل ثانوي في تحديد الشخصية الإنسانية، أي إن مراكمة الخبرات والانطلاق منها في كل جديد، باعتبارها إنجازاً لهذا الجنس، تم إدراجه في سيرورة حياة الأخلاف. هذا المحدد للإنسان هو ما يقطعه عن أسلافه من المخلوقات الداروينية “ (حسن إبراهيم أحمد، الثقافة المتوترة، ص 9).

- الملخص: حاول المقال توضيح أن العولمة في الآونة الأخيرة ليست محصورة في البعد الاقتصادي وحده، بل تشمل روابط اجتماعية وثقافية ورمزية تمتد عبر الحدود، ويتجلى هذا في تدفق الأفكار والصور والرموز التي تشكل " لغة عالمية " مشتركة تؤثر في تصور الأفراد للعالم وهوياتهم المحلية. بناءً على ما سبق سعى المقال بالاعتماد على منهجية الانثروبولوجيا في تحليل مفهوم العولمة، والعولمة الثقافية، والرمزية، بالإضافة تبيان صور التمظهر الرمزي للعولمة في الثقافة العربية، والعوامل الدافعة للعولمة الرمزية، وآثارها المترتبة على الهويات الوطنية والمحلية. وفي النهاية تم استخلاص مجموعة من الإجراءات والتوصيات لحماية الثقافة الوطنية والمحلية من الاندماج الرمزي الهدام.

- المقدمة:

شهدت معظم المجتمعات الإنسانية في الآونة الأخيرة تسارعاً غير مسبوق في اتصالاتها العابرة للحدود الوطنية، حيث تتشابك الاقتصادات والثقافات ووسائط الاتصالات والإعلام، ليبرز بُعد رمزي يتمثل في نقل الرموز والصور والأيقونات عبر فضاءات رقمية وإعلامية متسارعة. تنبع أهمية هذا المقال انثروبولوجياً من خلال محاولة فهمنا للكيفية التي تعيد بها هذه الرموز تشكيل الوعي الجمعي والهوية الوطنية، لا سيما في الأنساق الثقافية الأضعف مثل الثقافة العربية.

فمن الصعوبة بمكان حصر تعريفات العولمة وتفسيراتها، إذ إنها عملياً ظاهرة مستمرة تكشف كل يوم عن وجه جديد من وجوهها المتعددة، لكننا سنقوم بسرد بعض التعريفات التي قيلت بخصوص تعريف العولمة، لكن قبل عرضنا لهذه التعريفات سنحاول توضيح كلمة العولمة من الناحية اللغوية. فالعولمة لغةً مصدر على وزن (فوعلة) مشتق من كلمة (العالَم)، كما يقال (قولبة) اشتقاقاً من كلمة (قالب)، وقيل: مشتق من العِلم، وهي تعني إزالة الحواجز والمسافات بين الشعوب بعضها بعضاً، وبين الأوطان بعضها بعضاً، وبين الثقافات بعضها بعضاً. ويقول عبد الصبور شاهين (عضو مجمع اللغة العربية)، فأما العولمة مصدراً فقد جاء توليداً من كلمة عالم ونفترض لها فعلاً هو عولم يعولم عولمة بطريقة التوليد القياسي.

وفي اللغة الإنجليزية فإن مصطلح العولمة يعود في الأصل إلى الكلمة الإنجليزية (Global) والتي تعني دولي أو كروي أو عالمي، أما المصطلح الإنجليزي (Globalization) - الذي يقابله في الفرنسية مصطلح (Mondialisation)- فيترجم إلى الكونية أو الكوكبة أو العولمة، لكن الغلبة والانتشار كانت لكلمة العولمة، وهي تعني جعل العالم عالماً واحداً، موجهاً توجيهاً واحداً في إطار حضارة واحدة. إذا فالعولمة لغةً تعني (جعل الشيء عالمياً) أو تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل العالم كله.

اصطلاحاً تُعرّف العولمة عموماً بأنها عملية تكثيف العلاقات الاجتماعية على الصعيد العالمي بطريقة تجعل الأحداث المحلية تتأثر بالأحداث البعيدة والعكس صحيح، وهي عملية جدلية بين البعدين المحلي والعالمي. أما التعريف الاقتصادي للعولمة ينطوي على دمج الاقتصادات والأسواق عبر تجارة السلع والخدمات، وتحركات رؤوس الأموال، وهجرة الأفراد، والتشبيك التقني، بما يؤدي إلى تداخل المصالح الاقتصادية بين الدول. وفي النهاية يمكننا تعريف العولمة " بأنها العملية التي تصبح من خلالها شعوب العالم متصلة ببعضها البعض في كل أوجه حياتها من خلال حركة وانتقال الأفراد ورؤوس الأموال والبضائع والسلع ووسائل الإنتاج والمعلومات والثقافات والسلوك عبر حدود الدول وإنشاء الشركات الاستثمارية وتملك العقارات في دول أخرى بحرية تامة من دون قيود أو حواجز".

وفيما يتعلق بتعريف العولمة الثقافية وفقاً لأغراثينا Britannica، هي ظاهرة تتجلى في انتشار المنتجات والأفكار والقيم الثقافية عبر الحدود، ما يؤدي إلى توحيد في التعبيرات الثقافية اليومية وانتشار أنماط نمطية من السلوك والاستهلاك .بالمقابل تدعو اليونسكو إلى سياسات ثقافية تستفيد من فرص الإبداع والتبادل الناتجة عن العولمة، مع ضرورة إحياء التنوع الثقافي المحلي والحماية من الهيمنة الأحادية. وفي النهاية يمكننا تعريف العولمة الثقافية بأنها عملية انتقال وتبادل الثقافات بين المجتمعات المختلفة، مما يؤدي إلى تأثير متبادل وتغيير في القيم والممارسات الثقافية. وتبرز أهميتها في العالم العربي، من خلال الدور الهام الذي تلعبه في تشكيل الهوية الثقافية والفردية، مما يثير تساؤلات حول تأثير الثقافة الغربية على القيم الثقافية والممارسات الوطنية.

وتشير العولمة الرمزية - التي تعتبر فرعاً من فروع العولمة الثقافية - إلى العمليات التي تنتج وتسوق الرموز والميثولوجيات من خلال وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي والإعلان والفضاءات الرقمية، لتصبح لغةً مرئية مشتركة تتجاوز الحدود وتعيد بناء الإطار المعنوي للهويات الفردية والجمعية . بمعنى أدق تعد العولمة الرمزية Symbolic Globalization مفهوماً مركزياً في دراسة التفاعلات الثقافية والاجتماعية ضمن إطار العولمة، تركز على تبادل الرموز والقيم والمعاني عبر الحدود، بدلاً من الاقتصاد أو السياسة فقط.

وتعتبر امتداداً لنظريات العولمة الثقافية، وتستكشف كيف تشكل الأنظمة الرمزية (كاللغة، الدين، الفن، الإعلام، والعلامات التجارية) وعي الأفراد والجماعات في سياق عالمي. كما يرتبط المفهوم " بالتركيب الرمزي العالمي " الذي وصفه ستِيغر Steiger بأنه " البناء والتعبير ونشر المعنى عبر الرموز والصور " على نطاق عالمي .باختصار شديد يمكننا تعريف العولمة الرمزية بأنها " إعادة تدوير وإعادة توطين الرموز العالمية في بيئات محلية من خلال الفضاء الرقمي، حيث يصبح الأفراد مشاركين في إنتاج المعنى الثقافي وليس مجرد متلقين له ". أو هي " انتقال وتبادل الرموز والمعاني الثقافية، والقيم، والهويات، عبر الحدود الوطنية، بواسطة وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، والتكنولوجيا، والسياحة، والهجرة، مما يؤدي إلى إعادة تشكيل تصورات الأفراد والجماعات عن الذات والآخر ".

إن المعلومات والأفكار والإيديولوجيات والمعارف والأديان هي رموز وعلامات إلا أنها أيضاً ثروات تم إنتاجها من قبل بعض الأفراد أو الجماعات، وهي تنتشر (بواسطة أفراد آخرين أو جماعات أخرى، وهي تستهلك من قبل جماعات ومجموعات وأثنيات وثقافات وبنهاية المطاف من قِبل مجموعة من الأفراد). لكن ما هي الخصائص النوعية للثروات الرمزية والثقافية؟ في واقع الأمر تتصف الثروات الثقافية بأنها " لا مادية " تحمل قيم معنوية ثقافية وهذا ما يمكن تقريبه مع ما يسميه الاقتصاديون " بالخدمات "، إنها أداء مشترك يقوم به شركاء اجتماعيون، حيث يقومون في هذا السياق بمبادلات استدلالية شفهية أو مكتوبة تأخذ الرموز الثقافية التي تنتشر في العالم - الخطابات الدينية، العلمية، الإيديولوجية والأدبية... إلخ - شكل التبادل الكلامي تجاه أو عبر ما توفره وسائل التواصل الاجتماعي. كما أن الثروات الثقافية تقوم بتوصيل نمط معين من الخدمات حيث تدخل نمطاً خاصاً من " الاستهلاك " حيث إن الخدمة المشار إليها في حالة الثروات الثقافية ليست في نهاية الأمر سوى إعداد الحقيقة (إنتاجاً وانتشاراً) بذلك تنطوي الثروات الثقافية على ظاهرة الإقناع وهذا ما تفعله العولمة الرمزية.

ومن صور تمظهر العولمة الرمزية في الثقافة العربية انتشار الثقافة الاستهلاكية حيث يتحول الاهتمام من المحتوى المحلي إلى العلامات التجارية العالمية، فبات شعار الشركات أكثر حضوراً في الشوارع ووسائل التواصل مقارنة بالرموز التراثية، كما يشهد المشهد الموسيقي العربي نجاحاً عالمياً لأغان تبث بالكامل باللغة العربية في المهرجانات الدولية، مما يعبر عن اندماج رمزي جديد بين الهوية المحلية والجمهور العالمي .وفي ذات السياق أظهرت دراسات " الباروميتر العربي وهي شبكة بحثية مستقلة وغير حزبية " تغيراً في القيم (التحول القيمي)، حيث بات الشباب العربي أكثر انفتاحاً على قيم التسامح والتعددية، مما يعكس تدفق الأفكار ضمن " إيديولوجيا عالمية ". ومن أهم خصائص العولمة الرمزية تعدد التدفقات الرمزية (Multiple Scapes)، حيث تنبثق العولمة الرمزية عبر تدفقات متباينة مثل: الإيثنوسكيب (تدفق البشر)، والتكنوسكيب (تدفق التكنولوجيا)، والفينانسكيب (تدفق الأموال)، والميديسكيب (تدفق وسائل الإعلام)، والإيديوسكيب (تدفق الأفكار والرموز)، التي تتحرك بشكل منفصل أحياناً وتعيد تشكيل الهويات والثقافات محلياً وعالمياً. ومن خصائصها أيضاً الانفصال عن الإقليمية (Deterritorialization)، حيث تنفصل الرموز المعولمة عن سياقاتها الجغرافية الأصلية لتنتشر عبر الحدود دون التقيّد بمناطقها التقليدية، مما يؤدي إلى إعادة توطينها في سياقات جديدة تحمل معانٍ مختلفة. والتسليع الثقافي  (Cultural Commodification) حيث تتحول العناصر الرمزية (كالتراث، والأزياء، والطقوس، وحتى الهويات) إلى سلع تستهلك في أسواق عالمية، مما يفرغها من أصولها التاريخية والاجتماعية ويجعلها خاضعة لمنطق العرض والطلب. والتهجين الرمزي (Symbolic Hybridization)، حيث ينشأ من خلاله أشكال جديدة من الثقافة عبر مزج الرموز العالمية بالوطنية والمحلية، فتنتج عناصر رمزية هجينة - كأنماط موسيقية أو فنية تجمع بين أصول متعددة - تعكس تفاعلات إبداعية لا أحادية المصدر. وأخيراً التجزؤ والمحاكاة (Fragmentation & Simulacra)، حيث يؤدي تفكيك السرديات الكبرى وتعدد التمثلات الرمزية إلى عالم مُحاكٍ (hyperreality) لا يميّز بين الأصل والنسخة، حيث تصبح الصور والرموز أكثر تأثيراً من الواقع المادي نفسه. بذلك تتحول الرموز إلى كيانات متحركة، غير مستقرة، ومعاد تشكيلها باستمرار عبر مساحة عالمية مشحونة بوسائط وسياسات اقتصادية وثقافية.

ومن أهم العوامل والأسباب التي أدت إلى انتشار العولمة الرمزية التوسع الرأسمالي العالمي، حيث أسهمت الشركات متعددة الجنسيات بإطلاق حملات إعلانية ورموز بصرية تخاطب جمهوراً عالمياً، ما يعزز التوحد الرمزي ويقلل من مساحة الهويات المحلية. كما أدت هيمنة الإعلام والتكنولوجيا إلى تسريع نشر الصور والأيقونات عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي مما يمكنها من الوصول الفوري إلى مختلف الثقافات وتحطيم حواجز الزمان والمكان .وعلى الصعيد المحلي ساهم ضعف البنية الثقافية المحلية بسبب انخفاض الوعي الثقافي وندرة الدعم الحكومي للبرامج والمبادرات الثقافية الوطنية إلى انتشار المنتج الثقافي الخارجي الرمزي على حساب الثقافة المحلية دون منافسة جدية مما أدى إلى تكريس العولمة الرمزية لأفراد المجتمع وبالأخص لدى فئة الشباب. وهذا أدى بطبيعة الحال إلى مجموعة من الآثار السلبية على الثقافات الوطنية والمحلية تمثلت في فقدان التنوع الثقافي بسبب سطوة الاندماج في الرموز العالمية على حساب تراجع اللهجات والعادات والتقاليد الوطنية مما أدى إلى تقليص التنوع الثقافي والتحول إلى نمط موحد. وبروز صراع الهويات عبر جيل جديد يعتنق قيم الرموز العالمية، وآخرون يتمسكون بالقيم التراثية، مما يولّد صراعاً بين الحفاظ على الأصالة والانفتاح على المعاصرة .ومن آثار العولمة الرمزية أنها أحدثت تحولات لا يستهان بها في البناء الأسري في المجتمعات العربية بسبب تبني القيم المستوردة العالمية، فظهرت ممارسات جديدة في العلاقات الأسرية والاجتماعية لدى أفراد المجتمع تختلف عن النموذج التقليدي لتصبح فعالية الرموز المحلية غير قادرة على المنافسة بصرياً وعاطفياً مع الرموز العالمية الجذابة في ظل ما يعرف بمفاهيم الإذابة الرمزية.

ومن أهم النظريات التي تفسر العولمة الرمزية نظرية التهجين الثقافي  (Cultural Hybridization)  تشير إلى أن التفاعل بين الثقافات في ظل العولمة لا يؤدي بالضرورة إلى هيمنة ثقافة واحدة، بل إلى إنتاج أشكال ثقافية جديدة وهجينة تجمع بين العناصر المحلية والعالمية. مثال ذلك: المزج بين الموسيقى الغربية والشرقية في الأغاني الشعبية، ويعتبر هومي كي بابا ، نيستور جارسيا كانكلينى من أهم من قالوا بها. نظرية الهيمنة الثقافية أو الاستعمار الثقافي  (Cultural Imperialism)تفترض أن العولمة الرمزية تُستخدم كوسيلة لفرض الثقافة الغربية، وخصوصاً الأمريكية، على بقية شعوب العالم، ما يؤدي إلى تآكل الهويات الثقافية الوطنية. مثال ذلك: انتشار اللغة الإنكليزية أو المنتجات الثقافية والإعلامية الأمريكية كأفلام هوليوود. ويعتبر هربرت شيللر، إدوارد سعيد من زاوية الاستشراق من أهم من يمثل هذه النظرية. بالإضافة إلى نظرية المجتمع الشبكي (The Network Society) التي تركز على دور تكنولوجيا المعلومات وشبكات الاتصال العالمية في تشكيل الفضاء الرمزي، بحيث يتم إنتاج وتبادل الرموز والمعاني بشكل لا مركزي. مثال ذلك: تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل الهويات والرموز الثقافية العابرة للحدود. ومن أبرز منظريها مانويل كاستلز. وأخيراً نظرية ما بعد الحداثة (Postmodernism) التي تصب جلّ اهتمامها في مناقشة كيف أن العولمة الرمزية مرتبطة بظاهرة " محاكاة الرموز " (simulacra)، حيث يصبح الواقع مختلطاً بالرموز والصور لدرجة أن الفرق بين الحقيقة والتمثيل يتلاشى. كما تنطلق نظرية ما بعد الحداثة من نقد الحداثة الغربية، التي روجت لفكرة " الحقيقة الموضوعية " و" التقدم الخطي ". ونظرية ما بعد الحداثة، على العكس من ذلك ، تؤكد على اللا مركزية، التعددية، والسيولة الرمزية. ويرتبط مفهوم العولمة الرمزية هنا بفكرة أن المعاني لم تعد " ثابتة "، بل أصبحت مبنية اجتماعياً، وقابلة لإعادة التشكيل باستمرار من خلال الصور والإعلام. والمفاهيم المركزية في نظرية ما بعد الحداثة لتفسير العولمة الرمزية المُحاكاة ويشير بودريار إلى أن الرموز في العصر ما بعد الحداثي لا تمثل الواقع، بل تحاكيه، وفي بعض الأحيان، تحل محل الواقع نفسه. أي إننا لم نعد نعيش في عالم من " المعاني الحقيقية "، بل في عالم من " صور المعاني " مثال ذلك صورة " الحرية " في الإعلانات أو الأفلام لم تعد مرتبطة بالحياة السياسية أو الاجتماعية، بل بسلوك استهلاكي (مثل شراء سيارة أو منتج). بالإضافة إلى مفهوم تسليع الثقافة، حيث تتحول الرموز الثقافية إلى سلع قابلة للبيع والشراء سواء أكانت أغنية، صورة، تراثاً شعبياً، أو حتى هوية فردية مثال ذلك: " الهوية البدوية " كمنتج سياحي في بعض الدول العربية (الأردن على سبيل المثال)، حيث أصبحت الهوية البدوية – التي تشمل الزي، الموسيقى، الطعام، الخيم، وحتى أنماط الكلام – تُعرض في المنتجعات السياحية والفنادق والعروض الثقافية كمحتوى جاذب للسياح. ويُقدم البدو " كنموذج رمزي " للأصالة، والبساطة، والارتباط بالأرض. لكن هذا التقديم يتم خارج سياقه التاريخي والمعيشي الحقيقي، وغالباً ما يعاد تشكيله بطريقة ترضي الذوق الغربي وتحقق الربح. ومن الأمثلة الصارخة أيضاً في هذا السياق توظيف الهوية الإفريقية في صناعة الموضة العالمية ففي السنوات الأخيرة، أصبحت الرموز والعناصر البصرية المرتبطة بالهوية الإفريقية مثل (الأقمشة التقليدية " الكانتي "، والزخارف القبلية، وتسريحات الشعر، والمجوهرات) منتشرة في عروض الأزياء العالمية، ومجموعات دور الأزياء الكبرى مثل:Dior ،Louis Vuitton ، حيث يتم تقديم هذه الرموز بوصفها " ستايل غريب " exotic style، منفصل تماماً عن جذوره الثقافية والسياسية، ويتم بيعها كموضة موسمية. وأخيراً مفهوم تفكيك السرديات الكبرى فالعولمة الرمزية في سياق ما بعد الحداثة لا تروج لسرد واحد (كالدين أو الإيديولوجيا)، بل تنتج سرديات صغيرة، عابرة، ومتناقضة أحياناً، ما يؤدي إلى أزمة في الهوية الفردية والجمعية. ومن أبرز من قال بهذه النظرية جان بودريار، وفريدريك جيمسون.

ومن أجل حماية الثقافة الوطنية أو المحلية من آثار العولمة الرمزية يجب على القائمين على المجتمع القيام بمجموعة من الإجراءات اللازمة تتمثل في وضع سياسات ثقافية داعمة تتبنى قوانين تحفز المنتوجات الثقافية المحلية وتحد من سطوة المحتوى المستورد عبر منح امتيازات وضمانات مالية. وتفعيل الرقابة الذكية وتغذية المحتوى من خلال استخدام أدوات منهج تحليل المحتوى (المضمون) لتقييم تأثير الرسائل الرمزية، مع دعم إنشاء منصات عربية رقمية تنشر محتوى مبتكراً ومستنيراً، بالإضافة إلى ما سبق يجب تطوير مناهج تعليمية تُنمي القدرات النقدية لدى الطلاب في مواجهة الرسائل الرمزية العالمية، وتعزز فهمهم لتراثهم المحلي، كما ينبغي بناء أرشيفات رقمية تحفظ المواد التراثية والصور الرمزية المحلية، لضمان إيصالها للأجيال القادمة دون تشويه .وأخيراً تأسيس منصات مشتركة بين الدول العربية لعرض الفنون والتراث، وتبادل الخبرات في مواجهة الهيمنة الرمزية الخارجية .

خلاصة القول: نجد من خلال المنهجية الانثروبولوجية – النقدية أن العولمة الرمزية ليست مجرد تبادل ثقافي، بل هي عملية معقدة تعيد تشكيل الهويات والقيم عبر تفاعلات رمزية تُنتج وتستهلك في فضاء عالمي. ورغم تحدياتها، تظل أداة لفهم كيف تبنى " العولمة " في الوعي الجمعي للإنسانية، بين التوحيد والتنوع، الهيمنة والمقاومة هذا من جهة. ومن جهة أخرى وجدنا من خلال البحث أن العولمة الرمزية شكلت أفقاً جديداً لفهم ديناميات الهويات والثقافات في وقتنا المعاصر، وأن موازنة الانفتاح العالمي مع الحفاظ على الخصوصية المحلية تتطلب سياساتٍ متكاملة واستراتيجيات تعليمية وإعلامية وابتكارية. ومن هذا المنطلق، يوصي البحث بتعزيز إطار قانوني يحفظ للمنتج الثقافي المحلي حقه في المنافسة، بالإضافة إلى إنشاء صناديق تمويل تدعم المبدعين العرب في إنتاج محتوى رمزي يعكس أصالتهم. وإطلاق مبادرات تعليمية تُدرّس تحليل الرموز الثقافية بالاعتماد على مناهج نقدية تأصيلية. كما توصي الورقة البحثية بتطوير البنى الرقمية لأرشفة وحفظ الموروث الثقافي، وتفعيل منصات مشتركة على المستوى العربي للتبادل الثقافي والتعريف بالرموز المحلية. وباتباع هذه الإجراءات، يمكن للثقافات العربية والمحلية أن تتحصن ضد الاندماج الرمزي الجارف، وتعيد بناء ثقافاتها بشكل متوازن بين الأصالة والمعاصرة.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

.......................

- المراجع المعتمدة:

-  جان نیدرفين بيترس: العولمة والثقافة المزيج الكوني، ترجمة: خالد کسروي، مراجعة: طلعت الشايب،  المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 2242، ط1، 2015.

- أرمان ماتلار: التنوع الثقافي والعولمة، ترجمة: خليل أحمد خليل، دار الفارابي ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، بيروت، ط1، 2008.

- ساسكيا ساسن: علم اجتماع العولمة، ترجمة: عبد الرازق جلبي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 2048، ط1، 2014.

- ناريان، أوما. هاردينج، ساندرا: نقض مركزية المركز: الفلسفة من أجل عالم متعدد الثقافات بعد-استعماري ونسوي، ترجمة: يمنى طريف الخولي، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط2، 2023.

- جون توملينسون: العولمة والثقافة – تجربة اجتماعية عبر الزمان والمكان، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد: 354، أغسطس 2008.

- جيرار ليلترك: العولمة الثقافية الحضارات على المحك، ترجمة: جورج كتورة، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ط1، 2004.

- مصطفى النشار: ما بعد العولمة – قراءة في مستقبل التفاعل الحضاري وموقعنا منه، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2003.

- نبيل راغب: أقنعة العولمة السبعة، دار غريب، القاهرة، ط1، 2001.

- حسن إبراهيم أحمد: الثقافة المتوترة ملامح من المشهد الثقافي العربي، مؤسسة علاء الدين للطباعة والتوزيع، دمشق، ط1، 2004.

- حسام الدين فياض: تمظهرات السلوك الإنساني في المجتمع المعاصر، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب: السادس، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2024.

- حسام الدين فياض: نظرية نقد المجتمع الاستهلاكي عند جان بودريار، نحو علم اجتماع تنويري للدراسات والأبحاث الإنسانية والسوسيولوجية، المجلد: 02، العدد: 014، ماردين، 15 يناير – كانون الثاني 2025.

- علي حرب: حديث النهايات – فتوحات العولمة ومآزق الهوية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2000.

- إبراهيم عبد ربه إبراهيم:  العولمة بين المخاطر والفوائد (سلاح ذو حدين)، مجلة آراء حول الخليج،  آب/ أغسطس، 2010.  https://araa.sa/index.php?view=article&id=816:2014-06-26-11-00-47&Itemid=172&option=com_content

- Appadurai, Arjun: " Disjuncture and Difference in the Global Cultural Economy", Theory, Culture & Society 7, no. 2 (May 1990): 295-310. https://doi.org/10.1177/026327690007002017.

- Barber, Benjamin R. Jihad vs:  McWorld: Terrorism’s Challenge to Democracy. New York: Ballantine Books, 1995.

- Castells, Manuel: The Rise of the Network Society, 2nd ed. Malden, MA: Blackwell Publishers, 2010.

- Eriksen, Thomas Hylland: Globalization: The Key Concepts, Oxford: Berg Publishers, 2007.

- Giddens, Anthony: The Consequences of Modernity, Stanford, CA: Stanford University Press, 1990.

- Kraidy, Marwan M. Hybridity: or the Cultural Logic of Globalization. Philadelphia: Temple University Press, 2005.

- Robertson, Roland:  Globalization: Social Theory and Global Culture, London: Sage Publications, 1992.

- Scholte, Jan Aart: Globalization: A Critical Introduction, 2nd ed. Basingstoke and New York: Palgrave Macmillan, 2005.

- Sakr, Naomi: New Media, Globalization, and the Arab Public Sphere.” Journal of Communication 56, no. 2 (June 2006): 265-285.

- UNESCO: Universal Declaration on Cultural Diversity, UNESCO, 20. November 2001 2. Accessed April 20, 2025. https://unesdoc.unesco.org/ark:/48223/pf0000127162.

- UNESCO: Convention on the Protection and Promotion of the Diversity of Cultural Expressions, Paris, 2005. Accessed April 20, 2025. https://unesdoc.unesco.org/ark:/48223/pf0000147299.

- Arab Barometer:  "Arab Barometer Wave V: Key Findings" , Arab Barometer, 2018. Accessed April 20, 2025. https://www.arabbarometer.org/surveys/arab-barometer-wave-v/

 

تمهيد: تدرس الأنثروبولوجيا الرمزية كيفية فهم الناس لمحيطهم، بالإضافة إلى أفعال وأقوال أعضاء مجتمعهم الآخرين. تُشكل هذه التأويلات نظامًا ثقافيًا مشتركًا للمعنى، أي مفاهيم مشتركة، بدرجات متفاوتة، بين أفراد المجتمع نفسه. أما الأنثروبولوجيا الرمزية فتدرس الرموز والعمليات، مثل الأساطير والطقوس، التي يُضفي البشر من خلالها معانٍ على هذه الرموز لمعالجة أسئلة جوهرية حول الحياة الاجتماعية البشرية. ووفقًا لكليفورد غيرتز، يحتاج البشر إلى "مصادر استنارة" رمزية لتوجيه أنفسهم فيما يتعلق بنظام المعنى الذي تُمثله أي ثقافة معينة. من ناحية أخرى، يُشير فيكتور تيرنر إلى أن الرموز تُطلق الفعل الاجتماعي، وهي "مؤثرات قابلة للتحديد تُحفز الأفراد والجماعات على الفعل". يوضح موقف جيرتز النهج التفسيري للأنثروبولوجيا الرمزية، بينما يوضح موقف تيرنر النهج الرمزي. تنظر الأنثروبولوجيا الرمزية إلى الثقافة كنظام مستقل للمعنى، يُفكّ شفرته من خلال تفسير الرموز والطقوس الرئيسية. هناك فرضيتان رئيسيتان تحكمان الأنثروبولوجيا الرمزية. الأولى هي أن "المعتقدات، مهما كانت غير مفهومة، تصبح مفهومة عند فهمها كجزء من نظام ثقافي للمعنى" . أما الفرضية الرئيسية الثانية فهي أن الأفعال تسترشد بالتفسير، مما يسمح للرمزية بالمساعدة في تفسير الأنشطة المفاهيمية والمادية. تقليديًا، ركزت الأنثروبولوجيا الرمزية على الدين وعلم الكونيات والنشاط الطقسي والعادات التعبيرية مثل الأساطير والفنون الأدائية. كما درس علماء الأنثروبولوجيا الرمزية أشكالًا أخرى من التنظيم الاجتماعي مثل القرابة والتنظيم السياسي. تُمكّن دراسة هذه الأنواع من الأشكال الاجتماعية الباحثين من دراسة دور الرموز في الحياة اليومية لجماعة من الناس. كما ذُكر سابقًا، يُمكن تقسيم الأنثروبولوجيا الرمزية إلى منهجين رئيسيين. يرتبط أحدهما بكليفورد غيرتز وجامعة شيكاغو، والآخر بفيكتور تيرنر في جامعة كورنيل. كان ديفيد شنايدر أيضًا شخصية بارزة في تطوير الأنثروبولوجيا الرمزية، إلا أنه لا ينتمي تمامًا إلى أيٍّ من المدرستين الفكريتين المذكورتين. ومن المثير للاهتمام، مع ذلك، أن تيرنر وغيرتز وشنايدر كانوا معًا في جامعة شيكاغو لفترة وجيزة في سبعينيات القرن الماضي. يكمن الاختلاف الرئيسي بين المدرستين في تأثيرات كل منهما. تأثر غيرتز بشكل كبير بعالم الاجتماع ماكس فيبر، واهتم بعمليات "الثقافة" أكثر من اهتمامه بالطرق التي تؤثر بها الرموز على العملية الاجتماعية. اهتم تيرنر، متأثرًا بإميل دوركهايم، بعمليات "المجتمع" وكيفية عمل الرموز فيه.  وانطلاقًا من جذوره الإنجليزية، اهتم تيرنر أكثر بدراسة ما إذا كانت الرموز تعمل بالفعل في العملية الاجتماعية بالطريقة التي اعتقدها علماء الأنثروبولوجيا الرمزية. أما غيرتز، فقد ركز بشكل أكبر على طرق ارتباط الرموز ببعضها البعض داخل الثقافة، وكيف "يرى الأفراد العالم ويشعرون به ويفكرون فيه". فماهي أشكال توظيف التراث الرمزي والمادي في التفكير الفلسفي؟

نقاط ردود الفعل

يمكن اعتبار الأنثروبولوجيا الرمزية، جزئيًا، رد فعل على البنيوية التي ارتكزت على اللغويات وعلم العلامات، وكان كلود ليفي شتراوس رائدها في الأنثروبولوجيا. ويمكن ملاحظة هذا الاستياء من البنيوية في مقال جيرتز (1973) "الهمجي الدماغي: حول أعمال كلود ليفي شتراوس". وقد طعن علماء الأنثروبولوجيا الرمزية، ومعظمهم أمريكيون، في تركيز ليفي شتراوس على التناقضات الثنائية التي تُعبّر عنها جوانب متعددة ومتنوعة من الثقافة، بدلًا من التركيز على معانيها المنفصلة المضمنة في الرموز. وقد قلّل البنيويون من شأن دور الفاعلين الأفراد في تحليلاتهم، بينما آمن علماء الأنثروبولوجيا الرمزية بتفسيرات "تتمحور حول الفاعل". لم تستخدم البنيوية الرموز إلا فيما يتعلق بمكانتها في "النظام" وليس كجزء لا يتجزأ من فهمه. وقد هيمن هذا الانقسام بين علماء الأنثروبولوجيا الرمزية والبنيويين على ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. كانت الأنثروبولوجيا الرمزية رد فعل على المادية والماركسية. يُعرّف الماديون الثقافة من حيث أنماط السلوك الملحوظة حيث تكون "العوامل التقنية-البيئية أساسية وسببية". أما علماء الأنثروبولوجيا الرمزية، فهم ينظرون إلى الثقافة من حيث الرموز والبنى العقلية. كان رد الفعل الأساسي ضد الماركسية هو استنادها إلى افتراضات تاريخية محددة حول الاحتياجات المادية والاقتصادية، والتي زعموا أنه لا يمكن تطبيقها بشكل صحيح على المجتمعات غير الغربية.

شخصيات بارزة

درس كليفورد غيرتز (1926-2006) في جامعة هارفارد في خمسينيات القرن الماضي. تأثر بشدة بكتابات فلاسفة مثل لانجر، ورايل، وفيتجنشتاين، وهيدجر، وريكور، بالإضافة إلى فيبر، حيث اعتمد جوانب مختلفة من تفكيرهم كعناصر أساسية في بناء أنثروبولوجيا تفسيره. في كتابه "تفسير الثقافة" (1973)، وهو تجميعٌ مؤثرٌ لمقالاته، جادل بأن تحليل الثقافة يجب ألا يكون "علمًا تجريبيًا يبحث عن قانون، بل علمًا تفسيريًا يبحث عن معنى". تُعبّر الثقافة عن نفسها من خلال الرموز الخارجية التي يستخدمها المجتمع، بدلًا من أن تكون حبيسة في عقول الناس. عرّف الثقافة بأنها "نمط من المعاني المتناقلة تاريخيًا والمتجسدة في الرموز، وهي نظام من المفاهيم الموروثة المعبر عنها بأشكال رمزية يتواصل من خلالها البشر ويخلدون ويطورون معارفهم ومواقفهم تجاه الحياة" . تستخدم المجتمعات هذه الرموز للتعبير عن "رؤيتها للعالم، وتوجهها القيمي، وأخلاقياتها، وجوانب أخرى من ثقافتها". يرى جيرتز أن الرموز "وسيلة للثقافة"، ويؤكد أنه لا ينبغي دراسة الرموز في حد ذاتها، بل لما يمكن أن تكشفه عن الثقافة. انصب اهتمام جيرتز الرئيسي على كيفية تشكيل الرموز للطرق التي يرى بها الفاعلون الاجتماعيون العالم ويشعرون به ويفكرون فيه . في جميع كتاباته، وصف غيرتز الثقافة بأنها ظاهرة اجتماعية ونظام مشترك من الرموز والمعاني بين الأشخاص.

كان فيكتور ويتر تيرنر (١٩٢٠-١٩٨٣) الشخصية الرئيسية في الفرع الآخر من الأنثروبولوجيا الرمزية. وُلد تيرنر في اسكتلندا، وتأثر في وقت مبكر بالنهج البنائي الوظيفي للأنثروبولوجيا الاجتماعية البريطانية . ومع ذلك، عند الشروع في دراسة شعب النديمبو في أفريقيا، تحول تركيز تيرنر من الاقتصاد والديموغرافيا إلى الرمزية الطقسية. كان نهج تيرنر في التعامل مع الرموز مختلفًا تمامًا عن نهج غيرتز. لم يكن تيرنر مهتمًا بالرموز كوسائل لنقل "الثقافة"، بل درسها كـ"مُشغِّلة في العملية الاجتماعية" . فالرموز "تُحفِّز الفعل الاجتماعي" وتُمارس "تأثيراتٍ واضحة وتُحفِّز الأفراد والجماعات على الفعل". ورأى تيرنر أن هذه "المُشغِّلة"، من خلال ترتيبها وسياقها، تُحدِث "تحولاتٍ اجتماعية" تربط أفراد المجتمع بأعرافه، وتُحلُّ النزاعات، وتُساعد في تغيير وضع الفاعلين .

كان ديفيد شنايدر (1918-1995) شخصية بارزة أخرى في "مدرسة شيكاغو" للأنثروبولوجيا الرمزية. لم يقطع علاقته تمامًا بالبنيوية التي اتبعها جيرتز وتيرنر، بل احتفظ بفكرة ليفي شتراوس عن الثقافة كمجموعة من العلاقات، بل عدّلها. ومثل كثيرين غيره، عرّف شنايدر الثقافة بأنها نظام من الرموز والمعاني ، لكنه جادل أيضًا بأن الانتظام في السلوك ليس بالضرورة "ثقافة"، ولا يمكن استنتاج الثقافة من نمط سلوك منتظم. اهتم شنايدر بالروابط بين الرموز الثقافية والأحداث الملحوظة، وسعى جاهدًا لتحديد الرموز والمعاني التي تحكم قواعد المجتمع . اختلف شنايدر عن جيرتز بفصله الثقافة عن الحياة اليومية. عرّف النظام الثقافي بأنه "سلسلة من الرموز"، حيث يكون الرمز "شيئًا يرمز إلى شيء آخر".

كانت ماري دوغلاس (1921-2007) عالمة أنثروبولوجيا اجتماعية بريطانية بارزة، تأثرت بدوركهايم وإيفانز-بريتشارد، ومعروفة باهتمامها بالثقافة الإنسانية والرمزية. كان من أبرز إنجازاتها البحثية تتبع كلمات ومعاني المواد القذرة التي تُعتبر غير ملائمة في سياقات ثقافية مختلفة (1966). استكشفت الاختلافات بين المقدس والنجس، موضحةً أهمية التاريخ الاجتماعي والسياقي. وتتبعت دراسة حالة مهمة المحرمات الغذائية اليهودية إلى نظام للحفاظ على الحدود الرمزية قائم على التصنيف التصنيفي للحيوانات الطاهرة وغير الطاهرة . كما قدمت دوغلاس مفهومي المجموعة والشبكة. تشير المجموعة إلى مدى وضوح موقع الفرد داخل أو خارج مجموعة اجتماعية، وتشير الشبكة إلى مدى وضوح أدوار الفرد الاجتماعية ضمن شبكات الامتيازات والمطالبات والالتزامات.

المفاهيم الرئيسية

الوصف المُكثّف مصطلح استعاره غيرتز من جيلبرت رايل لوصف وتحديد هدف الأنثروبولوجيا التفسيرية. يُجادل غيرتز بأن الأنثروبولوجيا الاجتماعية تقوم على الإثنوغرافيا، أو دراسة الثقافة. تتكون الثقافة من الرموز التي تُوجّه سلوك المجتمع. تكتسب الرموز معناها من دورها في السلوك النمطي للحياة الاجتماعية. لا يُمكن دراسة الثقافة والسلوك بشكل منفصل لأنهما متشابكان. من خلال تحليل الثقافة ككل، بالإضافة إلى أجزائها المُكوّنة، يُطوّر المرء "وصفًا مُكثّفًا" يُفصّل العمليات العقلية والتفكير لدى السكان الأصليين. أما الوصف المُكثّف، فهو تفسير لما يفكر فيه السكان الأصليون، يُقدّمه شخص غريب لا يستطيع التفكير مثل السكان الأصليين، ولكنه يسترشد بالنظرية الأنثروبولوجية. لتوضيح الوصف المُكثّف، يستخدم غيرتز مثال رايل الذي يناقش الفرق بين "اللمحة" و"الغمزة". الأولى، وهي رعشة لا إرادية - تتطلب وصفًا "دقيقًا" لحركة العين - والثانية، وهي غمزة، وهي إشارة تآمرية لصديق - والتي يجب تفسيرها من خلال وصف "كثيف". في حين أن الحركات الجسدية المتضمنة في كل منهما متطابقة، فإن لكل منهما معنى مميزًا "كما يعرف أي شخص سيئ الحظ بما يكفي لأخذ الأولى على أنها الثانية". الغمزة هي شكل خاص من أشكال التواصل يتكون من عدة خصائص: فهي متعمدة؛ لشخص معين؛ لنقل رسالة معينة؛ وفقًا لقانون اجتماعي راسخ؛ ودون علم الأعضاء الآخرين في المجموعة التي يكون الغمز والتلميح جزءًا منها. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تكون الغمزة محاكاة ساخرة لغمز شخص آخر أو محاولة لإيهام الآخرين بأن مؤامرة من نوع ما تحدث. يمكن اعتبار كل نوع من الغمز فئة ثقافية منفصلة. يُنتج الجمع بين الوميض وأنواع التلميحات التي نوقشت وتلك التي تقع بينهما "تسلسلًا هرميًا طبقيًا من الهياكل ذات المعنى" يتم فيه إنتاج وتفسير التلميحات والانفعالات. ويجادل جيرتز بأن هذا هو هدف الإثنوغرافيا: فك رموز هذا التسلسل الهرمي للفئات الثقافية. لذا، فإن الوصف المُفصّل هو وصف لشكل التواصل المُستخدم، مثل محاكاة ساخرة لتلميح شخص آخر أو تلميح تآمري.

التعويل على الهرمينوطيقا

مصطلح التأويلية طُبّق في البداية على التفسير النقدي للنصوص الدينية. أما الاستخدام الحديث للمصطلح فهو "مزيج من البحث التجريبي والفهم الذاتي اللاحق للظواهر البشرية". استخدم جيرتز التأويل في دراساته لأنظمة الرموز لمحاولة فهم الطرق التي "يفهم بها الناس ويتصرفون بها في السياقات الاجتماعية والدينية والاقتصادية". يُقدم التسلسل الهرمي المحيط بمصارعة الديوك البالية مثالاً مثيراً للاهتمام. يُعرّف جيرتز (1973) مصارعة الديوك كشكل فني يُمثل ترتيبات المكانة في المجتمع، وتعبيراً ذاتياً لاحقاً عن هوية المجتمع. استخدم تيرنر التأويلات كمنهج لفهم معاني "العروض الثقافية" مثل الرقص والدراما، إلخ.

الدراما الاجتماعية

مفهوم ابتكره فيكتور تيرنر لدراسة جدلية التحول الاجتماعي والاستمرارية. الدراما الاجتماعية هي "وحدة عفوية من العملية الاجتماعية، وحقيقة من حقائق تجربة كل فرد في كل مجتمع بشري". تحدث الدراما الاجتماعية داخل مجموعة تتشارك القيم والاهتمامات، ولها تاريخ مشترك . يمكن تقسيم هذه الدراما إلى أربعة فصول. الفصل الأول هو قطيعة في العلاقات الاجتماعية، أو خرق. الفصل الثاني هو أزمة لا يمكن التعامل معها بالاستراتيجيات العادية. الفصل الثالث هو علاج للمشكلة الأولية، أو تصحيح وإعادة تأسيس العلاقات الاجتماعية. يمكن أن يحدث الفصل الأخير بطريقتين: إعادة الاندماج، والعودة إلى الوضع الراهن، أو الاعتراف بالانقسام، وتغيير في الترتيبات الاجتماعية. في كلا القرارين هناك عروض رمزية يظهر فيها الممثلون وحدتهم في شكل طقوس. في نظرية تيرنر، الطقوس هي نوع من الحبكة ذات تسلسل محدد وهو خطي، وليس دائريًا .

المنهجيات المعتمدة

كغيرها من أشكال الأنثروبولوجيا الثقافية، تعتمد الأنثروبولوجيا الرمزية على المقارنة بين الثقافات. ومن أبرز التغييرات التي أحدثتها الأنثروبولوجيا الرمزية التحول إلى نهج أدبي بدلاً من نهج علمي. وقد استفادت الأنثروبولوجيا الرمزية، بتركيزها على أعمال غير الأنثروبولوجيا مثل بول ريكور، من الأدب من خارج نطاق الأنثروبولوجيا التقليدية. إضافةً إلى ذلك، تدرس الأنثروبولوجيا الرمزية الرموز من جوانب مختلفة من الحياة الاجتماعية، بدلاً من دراستها من جانب واحد بمعزل عن الجوانب الأخرى. وهذه محاولة لإثبات أن بعض الأفكار المحورية المعبّر عنها في الرموز تتجلى في جوانب مختلفة من الثقافة . تناقض هذا مع النهج البنيوي الذي فضّله علماء الأنثروبولوجيا الاجتماعية الأوروبيون، مثل ليفي شتراوس. يمكن أيضًا ذكر التمرد على "المؤسسة" فيما يتعلق بالنظرية الاجتماعية عند شنايدر 1995. هكذا تُركّز الأنثروبولوجيا الرمزية بشكل كبير على الثقافة ككل، بدلاً من التركيز على جوانب محددة منها، معزولة عن بعضها البعض.

الإنجازات

يمثّل الإنجاز الرئيسي للأنثروبولوجيا الرمزية في توجيه الأنثروبولوجيا نحو قضايا الثقافة والتفسير، بدلاً من تطوير النظريات الكبرى. أصبح غيرتز، من خلال إشارته إلى علماء اجتماع مثل بول  ريكور وفيتجنشتاين، أكثر علماء الأنثروبولوجيا استشهادًا بهم في التخصصات الأخرى. ساعد استخدام استشهادات مماثلة من شنايدر وتيرنر وآخرين الأنثروبولوجيا على التوجه إلى مصادر خارج حدود الأنثروبولوجيا التقليدية، مثل الفلسفة وعلم الاجتماع. مع ذلك، تمثلت مساهمة غيرتز الرئيسية في المعرفة الأنثروبولوجية في تغيير الطريقة التي ينظر بها علماء الأنثروبولوجيا الأمريكيون إلى الثقافة، محولين الاهتمام من عمليات الثقافة إلى الطريقة التي تعمل بها الرموز كوسائل للثقافة. ومن الإسهامات الأخرى تعزيز أهمية دراسة الثقافة من منظور الفاعلين الذين تسترشد بهم تلك الثقافة. ويعني هذا المنظور الشمولي أن المرء يجب أن ينظر إلى الأفراد على أنهم يحاولون تفسير المواقف من أجل التصرف. ورغم أن هذه النظرة المتمركزة حول الفاعل تُعد جوهرية في عمل غيرتز، إلا أنها لم تتطور بشكل منهجي إلى نظرية أو نموذج فعلي. فقد طور شنايدر الجوانب المنهجية للثقافة وفصل الثقافة عن الفرد أكثر مما فعل غيرتز. تمثلت مساهمة تيرنر الرئيسية في الأنثروبولوجيا في دراسة كيفية قيام الرموز "بالعمل" الاجتماعي، سواء أكانت تعمل بالطرق التي يدعيها علماء الأنثروبولوجيا الرمزية أم لا. كان هذا جانبًا من الأنثروبولوجيا الرمزية لم يتناوله جيرتز وشنايدر بتفصيل كبير. وهذا يعكس انغماس تيرنر في تقاليد الأنثروبولوجيا الاجتماعية البريطانية. لعبت دوغلاس دورًا في تطوير النظرية الثقافية للمخاطرة التي أفرزت برامج بحثية واسعة النطاق ومتعددة التخصصات. تؤكد هذه النظرية أن هياكل التنظيمات الاجتماعية تقدم للأفراد تصورات تعزز تلك الهياكل بدلًا من بدائلها. وقد استُوردت سمتان من أعمال دوغلاس وُلخِّصتا. الأولى هي وصفها للوظائف الاجتماعية لتصورات الأفراد للخطر والمخاطرة، حيث ارتبط الضرر بمخالفة قواعد المجتمع . والثانية هي وصفها للممارسات الثقافية على طول المجموعة والشبكة، والتي يمكن أن تختلف من مجتمع إلى آخر .

خاتمة نقدية

تعرضت الأنثروبولوجيا الرمزية لانتقادات لاذعة من جهات عدة، أبرزها الماركسيون. في نقدٍ مهم لآراء غيرتز حول الدين، هاجم طلال أسد (1983) الثنائية الواضحة في حجج غيرتز. وبينما يُقرّ أسد بنقاط قوة غيرتز، فإنه يُجادل بأن ضعفه يكمن في الفصل بين الرموز الخارجية والتصرفات الداخلية، وهو ما يُمثّل الفجوة بين "النظام الثقافي" و"الواقع الاجتماعي"، عند محاولة تعريف مفهوم الدين بمصطلحات عالمية. ويرى أسد أنه ينبغي على علماء الأنثروبولوجيا التركيز بدلاً من ذلك على الظروف التاريخية الحاسمة في تطور بعض الممارسات الدينية. ويرى أسد أن الابتعاد عن تعريف الدين ككل أمرٌ مهم، لأن تطور الممارسات الدينية يختلف من مجتمع إلى آخر. بالإضافة إلى ذلك، يُشير الماركسيون إلى أن الأنثروبولوجيا الرمزية، في وصفها للسلوك الاجتماعي والأنظمة الرمزية، لا تُحاول تفسير هذه الأنظمة، بل تُركز بشكل مُفرط على الرموز نفسها .

ردّ علماء الأنثروبولوجيا الرمزية على هذا الهجوم مُؤكدين أن الماركسية تعكس افتراضات غربية تاريخية مُحددة حول الاحتياجات المادية والاقتصادية. ولذلك، لا يُمكن تطبيقها بشكل صحيح على المجتمعات غير الغربية (وهناك هجوم آخر على الأنثروبولوجيا الرمزية من قِبَل علم البيئة الثقافية. فقد اعتبر علماء البيئة الثقافية علماء الأنثروبولوجيا الرمزية "مُفكّرين مُشوّشين، مُنخرطين في مُغالطات غير علمية وغير قابلة للتحقق من صحتها" . بمعنى آخر، لم يُحاول علم الأنثروبولوجيا الرمزية إجراء أبحاثه بطريقة تُمكّن الباحثين الآخرين من إعادة إنتاج نتائجهم. جادلوا بأن الظواهر العقلية والتفسير الرمزي غير قابلين للاختبار العلمي. كما هاجموا، نظرًا لاختلاف علماء الأنثروبولوجيا في تفسير الرمز نفسه بطرق مختلفة، لكونه ذاتيًا للغاية. ردّ علماء الأنثروبولوجيا الرمزية على علماء البيئة الثقافية بتأكيدهم أن علم البيئة الثقافية علميٌّ للغاية. تجاهل علماء البيئة الثقافية حقيقة أن الثقافة تهيمن على السلوك البشري، وبالتالي فقدوا إدراكهم لما أثبتته الأنثروبولوجيا سابقًا.

***

د. زهير الخويلدي – كاتب فلسفي

.................

المصادر والمراجع

Geertz, Clifford. 1973a. The Impact of the Concept of Culture on the Concept of Man. In The Interpretation of Cultures. Pp. 33-54. New York: Basic Books, Inc.

Geertz, Clifford. 1973b The Cerebral Savage: On the Work of Claude Levi-Strauss. In The Interpretation of Cultures. Pp. 345-359. New York: Basic Books, Inc.

Geertz, Clifford. 1973c The Interpretation of Cultures. New York: Basic Books, Inc.

Turner, Victor W. 1967. The Forest of Symbols: Aspects of Ndembu Ritual. Ithaca and London: Cornell University Press.

Turner, Victor W. 1974. Ritual Paradigm and Political Action: Thomas Becket at the Council of Northampton. In Dramas, Fields and Metaphors:m Symbolic Action in Human Society. Pp. 60-97. Ithaca, New York: Cornell University Press.

Turner, Victor W. 1980.Social Dramas and Stories about Them. Critical Inquiry 7:141-168.

Turner, Victor and Edith Turner. 1978. Image and Pilgrimage in Christian Culture. Lectures on the History of Religions Series. New York: Columbia University Press.

Schneider, David M. 1980. American Kinship: A Cultural Account. 2nd edition. Chicago and London: University of Chicago Press.

Schneider, David M., as told to Richard Handler. 1995. Schneider on Schneider: The Conversion of the Jews and other Anthropological Stories. Durham and London: Duke University Press.

Douglas, Mary. 1992. Risk and Blame: Essays in Cultural Theory. New York: Routledge.

تشكّلت العلاقة الوثيقة بين الدين ودولة المسلمين السّنة كردّ فعلٍ لدولة المسلمين الشيعة التي خرجت من حيّز التنظير لفكرة الإمامة إلى حيز التطبيق، بظهور دولة الأدارسة في بلاد المغرب سنة (١٧٢هـ-٧٨٨م) بالتّزامن مع حكم الخليفة العباسي هارون الرشيد لدولة الخلافة السنيّة، ثم كانت القفزة الكبرى سنة (٢٩٧هـ -٩٠٩م) بتحولها من دويلة إلى خلافة إسلامية شيعية ذات نفوذ أزال سلطة الخلافة السنية من شمال إفريقيا، ونازعها بلاد الشام والحجاز، فبدأ التنظير السني في مسألة دولة الخلافة الإسلامية من ميادين المعارك مستهدفا إيجاد دولة لا تقل في تأصيلها الديني عن دولة خصومها من الشيعة، فارتبط ازدهار تصنيف المسلمين السنة في باب الخلافة بفترات التحوّل، وسطوة الصراع السني الشيعي، فكتب الماوردي كتابه الأحكام السلطانية في أواخر الخلافة العباسية زمن خلافة القادر بالله والقائم بأمر الله العباسيين في فترة كان الشيعة أتباع الخليفة الفاطمي هم الأكثر غلبة حتَى أنَه قد خطب ودُعي للخليفة الفاطمي في عاصمة العباسيين ببغداد، وكان الماوردي مقربًا من رجال الدولة العباسية حريصا على تأسيس رؤية شرعية سنية تصمد حينها أمام الرؤية الدينية الشيعية.

ولا يختلف عن الماوردي موقف الإمام أبي حامد الغزالي (450 هـ - 505 هـ / 1058م - 1111م)، ففي لحظة تاريخيّة مماثلة من الصراع السني الشيعي لعب الإمام الغزالي دورا كبيرا في إحياء وتقوية المذهب السني متمثّلا في المقاربة بين العقيدة من المنظور الأشعري والمذهب الشافعي لمواجهة سطوة الدولة الشيعيّة، وأصبحت تلك المقاربات المادَة التعليمية السنيّة في المدارس النظاميّة التي أسَسها صديقه الوزير نظام الملك، وازدهرت تلك المدارس وأفكارها بجهود أبي حامد الغزالي في التدريس والإشراف عليها، وبعد اغتيال نظام الملك على يد جماعة الحشَاشين (إحدى جماعات الشيعة) واصل الغزالي مسيرته في عهد المقتدي بالله، والمستظهر بالله.

 وفي مواجهة الخلافة الشيعية المستندة إلى الدين، كان لزامًا أن يقدم الفقيه السني رؤية دينيّة تقوِي من مكانة الإمامة (الخلافة) السنية بما يحدث توازنا في المواجهة، ويعطى العامّة بديلا له نفس الشرعية الدينية التي تنطق بها الإمامة الشيعية، فلن يقوى على منافسة التصور الشيعي الديني إلا تصور سني ديني، يحمل الرعية بدافع من الشرع والدين على مساندة السلطان خليفة المسلمين بمنحه مكانة في المذهب السني لا تقل عن نائب الإمام الغائب في المذهب الشيعي، فيمكننا أن نقول أن الصراع السني الشيعي من أبرز مشكّلات الفكر السنِّي حول الدولة، وهو المحرّك الأبرز قديما وحديثا لتديين الدولة في تجربة المسلمين السنة، فمازالوا إلى يومنا يعيشون حالة رد الفعل للفكر والحراك الشيعي.

ورغم أن أهل الحديث وأهل التوحيد والعدل وجماعات المحكِّمة (السنة والمعتزلة والخوارج) تختلف عن الشيعة في "أنّ طريق ثبوت الإمامة هو الاختيار من الأمة" وليس بنصّ الوحي، ورغم محاولات السنة تقديم تصور سني مستقل للإمامة يختلف عن تصور الشيعة إلا أنهم تأثروا بالخطاب الشيعي، فمحاولة إزاحة أفكار التشيع عن فقه الدولة أوقع الفكر السني في تديين الدولة، فرغم اعترافهم بأن الله لم ينص على إمامة شخص أو أسرة بعينها إلا أنهم جعلوا الإمامة من الدين وحراسة له ونيابة عن صاحب الشريعة، ونزعوا منزعا مثاليا في الإمامة قريب من رؤية الشيعة للإمام الغائب.

ومن مظاهر هذا التأثر أن التصور السني للدولة الإسلامية ميّز بين الإمامة والخلافة، فعلى الرغم من استخدام الخلافة والإمارة العظمى وإمامة المسلمين الكلمات الثلاثة في معنى واحد على المستوى العملي في تاريخ المسلمين قديما، فالخليفة، والإمام، وأمير المؤمنين الألقاب الثلاثة يُدعى بها رئيس دولة الخلافة السنية، "فلم يكن هناك مانع من أن ينقش المأمون على الدراهم التي أصدرها اسم "الإمام" وكان يخاطب في الوقت ذاته "بأمير المؤمنين" ويدعى خليفة"

أمّا على مستوى التناول التنظيري فثمة اختلاف بينهم، فكلمة الإمامة في الفقه السني ليست مجرّد لفظ نقل عن الشيعة بوصفهم أسبق إلى التنظير حول الدولة الإسلامية، بل حمل لفظ الإمامة والخلافة في الفكر السني الازدواجية الموجودة في الفكر الشيعي، فميّز بعض فقهاء السنة بين منصب الخلافة ومنصب الإمام، فإذا كان الشيعة رأوا ولاة الأمور غير المعترف بهم خلفاء، واحتفظوا بلقب الأئمة لقادتهم، فإذا صارت السلطة لهم جمعوا له بين لقب الإمامة والخليفة كما حدث لعبدالله السفاح أول خليفة عباسي، ولعبيد الله المهدي أول خلفاء الدولة الفاطمية، فقد فعل الفقيه السنيُّ شيئا قريبا من هذا حين جعل الخليفة لقبًا لمن يشغل المنصب الرسمي تاريخيّا، والإمام لقبا يُطلق في التنظير الفقهي على الوظيفة الإسلاميّة المثاليّة؛ وليميّز بين واقع تاريخي للخلافة لم يرضوا عنه وصورة الإمامة الإسلامية النقيّة كما ينبغي أن تكون عليها، فالخلافة اسم للتجربة الواقعية، والإمامة اسم للتنظير الفقهي.

"فالخلافة صارت ملتصقة بالمنصب الرسمي. وانتهى بها الأمر إلى أنها أصبحت شبه علم على الخلافة التاريخية الواقعية. ولما كانت هذه الخلافة قد آل أمرها إلى أن انحرفت عن مبادئ الإسلام، بل لم يعد بينها وبين حقيقتها الأولي صلة إلا الاسم. وفي بعض العصور صارت مرادفة لمعاني الجور والطغيان. فإنه كان من الملائم أن يشار إلى الوظيفة الإسلامية الصحيحة على أنها "الإمامة." ويتحدث الفقهاء عن وجوبها، وعن شروط وواجبات الإمام." 

وبالغ فقهاء السنّة في مثاليّة الإمام على نحو قريب من دلالات العصمة الشيعية، فقال ابن خلدون "الإمامة تستدعي الكمال في الأوصاف والأحوال" وقال الأشعري يجب "أن يكون الإمام أفضل أهل زمانه في شروط الإمامة. ولا تنعقد الإمامة لأحد مع وجود من هو أفضل منه فيها. فإن عقدها قوم للمفضول كان المعقود له من الملوك دون الأئمة." فعاد الفقيه مرّة أخرى للّقب التاريخي (ملك، ومملكة) ولم يقل حتى خليفة وخلافة. والنظرة العقلية والواقع يقتضيان أنّه لا يمكن للناس أن تعرف أفضل أهل زمانها؛ لتختاره إماما لها، فيعود بنا افتراض المنظّر الإسلامي بعيد المنال إلى الوجه الثاني في قوله: "وهو أنّنا أمام ملوك لأنّهم ليسوا أفضل أهل زمانهم"، ويكون الإمام في صورته المثاليّة هو الغائب عن عالمنا. هكذا يبدو الخطاب السني شديد التأثر بالخطاب الشيعي في أفكاره حول الفرق بين الخليفة والإمام.

بداية التأسيس الديني لفكرة دولة الخلافة الإسلامية

تحوّل شكل الخلافة الإسلاميّة في العقل المسلم من شكل تاريخيّ إنسانيّ إلى فرض ديني منزّل عندما توجّه فقهاء سُنّة إلى التاريخ؛ ليستمدّوا اجتهادهم من الواقع، "فالبرهان الأوّل على الخلافة الإسلامية وهو عمدة الأدلّة عند أهل السنة، بل ربّما كان الدليل الأوحد، واعتبروا بقية المُثبِتات تابعةً له هو الإجماع، فالإمامة ثابتة بالإجماع: أي بإجماع الصحابة أولا، ثم إجماع الأمة، قبل ظهور الخلاف عند نشأة علم الكلام." فصورة الدولة الإسلامية محددة وأحكامها تفصيلية رسّخها "إجماع الأمة الثابت المستيقن طوال تاريخها"  ولمناقشة ذلك نحتاج أن نُميّز بين نوعين من الإجماع: الأوّل إجماع تام قطعي عام، ويطلق عليه معلوم من الدين بالضرورة، فلا ينكره مسلم مثل وجوب الصلاة وتحريم الزنا، ونظن أنه لا يختلف أحد حول كون الإمامة وأحكام الخلافة وتفاصيل الدولة الإسلامية لا تندرج تحت هذا النوع من الإجماع، فالخلافة موضع تنازع وخلاف منذ ظهورها كما قال الشهرستاني في الملل والنحل: "أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان".

النوع الثاني الإجماع الخاص الأصولي بأن يتّفق جميع المجتهدين على رأي واحد صريح أو ظني في مسألة فقهية، وهذا ما أنكره بعض أئمة الفقه القدامى من أمثال أحمد ابن حنبل وابن القيم وابن حزم والشوكاني، والجويني أحد أئمة المذهب الشافعي المؤسس لأصولية الإجماع، وأنكره كثير من المعاصرين لأمرين: الأوّل أنّ الإجماع لا يستقلّ بإفادة حكم شرعيّ، فلابدّ من اعتماده على دليل من القرآن الكريم أو الحديث النبوي الصحيح الصريح، الثاني استبعاد إمكانية وقوعه في مسألة فقهية، فلا يملك أحد أن يقول: "هذا إجماع الأمة عبر تاريخها".

تلك هي العبارة التي استخدمها القرضاوي في استدلاله على وجوب دولة الخلافة الإسلامية، إذ كيف يتحقق الإجماع في مسائل الخلافة، وقد شهدت خلافا وجدلا منذ بدأ الاجتهاد حولها. فأوَل تبويب مفصّل لأحكام الخلافة تحت اسم أحكام سلطانيّة لم يلق إجماعا من الأمة، بل على العكس من ذلك دار حوله كثير من التشكيك والاتهام كما ستوضح الدراسة.

سعى المنظّرون لدولة خلافة إسلامية إلى تحويلها من شكل تاريخيّ إنسانيّ إلى فرض ديني إلهي انطلاقا من سلطة الإجماع، وإننا إذ نسلّم باجتماع الصحابة على ضرورة اختيار من يخلف الرسول -صلى الله عليه وسلم- في سلطته الزمنية لكن هذا لا يعنى إجماع الصحابة على شكل ونظام للحكم، وليس دليلا على دينية تلك الصورة من الاختيار، ولا هذا الشكل من الدولة، فانحياز الصحابة إلى استمرارية وجود سلطة عليا يخضع لها المسلمون وأحلافهم من القبائل، وتتولى أمر المدينة وما حولها من البوادي والمدن كان بدافع تاريخي وعقلي واجتماعي وليس دينيا فحسب.

فكما لا يمكننا أن نُسقط الدور الديني لدولة الخلافة في الدفاع عن المسلمين وحمايتهم من القبائل المعادية في بلاد العرب ثم من الإمبراطوريات المتاخمة، فأسقطت الإمبراطورية الفارسية، وانتقصت من الإمبراطورية الرومانية؛ وبتراجع نفوذهما استعاد الناس قدرا من حريّاتهم، إلا أننا كذلك لا ينبغي أن نتجاهل السياق الاجتماعي والتاريخي الذي دفع بالمسلمين إلى اختيار استمرار السلطة الزمنية التي عرفت فيما بعد بدولة الخلافة.

فاتفاق الصحابة كان على استمرار صورة اجتماعية ونظام جديد وضع لبنته محمد -صلى الله عليه وسلم- ما زال يتشكل ولمَا يكتمل؛ فلم يكن هناك تفاصيل محدّدة للدولة اسمها نظام الخلافة وضعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- كجزء من الإسلام، وأجمع الصحابة عليه، وليس أدلَّ على ذلك من حجم المستحدثات التي شهدها عهد أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم جميعا. فأقام الصحابة دولة الراشدين بدافع من واقع اجتماعي جديد في نجد والحجاز يدعو للتأسي بممالك أطراف الجزيرة في الالتفاف حول قيادة مركزية، مع التمايز عن تلك الممالك بالقيم والمبادئ التي حملها الوحي، وبعض الوظائف الدينية مثل الإمامة في الصلاة، والتمكين لإقامة الشعائر.

فالصحابة لم يعرفوا مفردات مثل الخلافة الإسلامية، والإمامة والإجماع بمفهومه الأصولي، فهذه مفردات استحدثها المؤرخون والفقهاء، فكان أوَل ظهور لمفهوم الإجماع في القرن الثالث الهجري - التاسع الميلادي، وأول تطبيق للإجماع على مسائل الخلافة في القرن الخامس الهجري - الحادي عشر الميلادي، فالدولة الإسلامية السنية "الخلافة" رؤية لاحقة من بعض الفقهاء ومحض اجتهاد منهم لتوصيف حقبة زمنية منصرمة من الحكم، وليست رؤية منصوصا عليها بالوحي، ولا تصوّرا أجمع الصحابة على وضع أحكامه.

فكان من المسلّمات العقلية ضرورة وجود سلطة تُنظّم علاقات المجتمع الداخلية والخارجية؛ فلا يوجد مجتمع إنسانيّ يقوم على القيم والمثل العليا على نحوٍ فردي يكفل له الاستغناء عن سلطة دولة أو مملكة أو خلافة، فالواقع فيه الإنسان الذي يتحرك بدافع من تحقيق الخير العام، وإيثار المصلحة العامة على الخاصة، والإنسان الذي يتحرك بدافع من غرائزه ومصالحه الخاصة، فينتصر لنفسه وإن كان في ذلك ظلم وإضاعة لحقوق الآخرين؛ لذا الحاجة إلى نظام سياسي معروف بالدولة ضرورة عقلية للفصل بين الناس في التنازع والتخاصم، ولولا السلطة الحاكمة للشعوب لكان التظالم والفوضى، فالضرورة العقلية تقتضي وجود السلطة في مجتمع المسلمين أو غير المسلمين لحماية مصالح الناس، وتحقيق الأمن، ودفع العدوان الخارجي، وتنظيم علاقة الدولة بغيرها من الدول، وليس لها وظيفة دينية أصيلة بحيث يرتبط الدين بها وجودا وعدما! وإنّ صورتها وآليات حكمها تتفاوت وتختلف باختلاف المجتمعات والأزمنة فهي ليست مرتبطة بصيغة معينة، فالخليفة لقب تاريخي لا يختلف دوره عن رئيس كلِ دولة معاصرة على حد تعبير دار الإفتاء المصرية.

فردًّا على سؤال: هل توجد دولة بعد الخلافة العثمانية تُعدّ دولة إسلامية؟ أجابت دار الافتاء المصرية بأن "الغرض من الإمامة هو بعينه ما يقوم به رئيس الدولة حديثًا؛ من نحو سياسة الناس وتدبير شئونهم وتنفيذ الأحكام وتجهيز الجيوش وكسر شوكة المجرمين والأخذ على أيديهم، وإظهار الشعائر، وهو ما قام به أمراء الدويلات قديمًا، وبما قامت به الخلافات المتعددة الخارجة عن الخلافة الأم."

فدافع الصحابة إلى النظر في أمر من يخلف الرسول -صلى الله عليه وسلم- جاء انطلاقا من حرصهم على حماية التغيّر الاجتماعي الذي أحدثه النبي -صلى الله عليه وسلم- في بلاد العرب، فهم يدركون التحوّل الاجتماعي في مدنية الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث تكوّنت وحدة مجتمعيّة جديدة تستكمل تجاوز الوحدة القبليّة تدريجيا، فكانت الضرورة الاجتماعيّة والعقليّة تقتضي أن يقوم أحد المسلمين بمهام الرسول -صلى الله عليه وسلم- المندرجة تحت السلطة الزمنيّة والصفة البشريّة، فلا وحي بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقوم خليفته بدور ديني، لكنّها سلطة زمنية وُصفت بعد ذلك في لغة المؤرّخين بدولة الخلافة.

فالخلافة الراشدة ليست لها دلالة شرعية دينية، بل وصف تاريخي لفترة توّفر في أمرائها عدة خصائص ميّزتهم عن ملوك العرب من الغساسنة والمناذرة، وهي أنهم أقوياء وأمناء يميزون بين ملكيتهم الخاصة المحدودة والملكية العامة، والحرص على تحقيق العدل، وعدم جعل الحكم في عصبتهم بتوريث الحكم في ذويهم، فالخلافة ملك راشد على منهج النبي، حاول فيه الصحابة التزام مبادئ الإسلام في إمارتهم.

ولم يحمل إطلاق الخليفة على أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- دلالة جديدة تتجاوز الدلالة اللغوية إلى إنابة رجل في مهام خاصة حدّدتها عبارة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة "لابد لكم من رجل يلي أمركم ويصلِّى بكم ويقاتِل عدوَّكم" هذه واجبات تلك اللحظة التاريخية، فبالإضافة إلى الإمامة في الصلاة وقيادة الجيوش تأتي ولاية أمر المسلمين، فهم في بدايات التحوّل من القبيلة بزعامتها العِرقية إلى إنشاء كيان جديد أقرب إلى الممالك المعاصرة في مركزيته لكنه يخضع لتعاليم الوحي العامة.

واختيارهم لفظ الخليفة ثم أمير المؤمنين دون لقب "مَلِك"، لأنه مصطلح ارتبط في ثقافة عصرهم بالتسلط والسطوة، وليس أدل على ذلك من رواية سفينة، فملوك العرب من الغساسنة والمناذرة عُرفوا بظلمهم وشدة بأسهم، واستحواذهم على مقدّرات الرّعية؛ لذا لم تخضع العرب في نجد والحجاز لملك، وأول من جمعهم نبي.

وميّز سلمان الفارسي –رضي الله عنه- بين الخلافة والملك - إن صحّت الرواية - في كلمة واحدة هي التعفف عن المال العام أو بلغتنا المعاصرة "النزاهة المالية وعدم الفساد"، وقد عاصر سلمان نمط الملك قبل هجرته إلى المدينة وإسلامه ونمط الخلافة في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فيروى سلمان أن عمر بن الخطاب قال له: أمَلِكٌ أنا أم خليفة؟ فقال له سلمان: إن أنت جَبَيْتَ من أرض المسلمين درهما أو أقل أو أكثر، ثم وضعته في غير حقه، فأنت ملك غير خليفة، فاستعبر عمر (أي بكى)". وعن سفيان بن أبي العوجاء قال: قال عمر بن الخطاب: والله ما أدري أخليفة أنا أم ملِك؟ فإن كنتُ ملكا فهذا أمر عظيم (أي بالغ السوء والخطورة). قال قائل: يا أمير المؤمنين إنَّ بينهما فرقا. قال: ما هو؟ قال: الخليفة لا يأخذ إلا حقا، ولا يضعه إلا في حق، فأنت بحمد الله كذلك، والملك يعسف الناس فيأخذ من هذا ويعطي هذا. فسكت عمر.

وإن وصفت إحدى المرويات الخلافة بالملك، في حديث "زويت لي الأرض، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها" (إلا أن المفسّر اختار خلافة راشدة، وليس ملكا رشيدا، كمحاولة لاستثناء فترة حكم الصحابة من المسار التاريخي، متجاهلا أن المسلمين في ذلك الوقت مثل غيرهم من الأمم والشعوب حين توحدت قبائلهم بدافع قوي من أخوة دينهم بدأوا ينقلون سنن الممالك في تسيير أمور الناس جندا، ومالية، وخراجا، وغيرها.

فوصف الخلافة بالرشد مُوجّه إلى شخص الخليفة بوصفه السلطة في ثقافة ذلك العصر، وأبرز مظاهر الرشد التي ميزتهم عن ممالك عصرهم العمل على تحقيق مبدأ العدالة والتساوي في الحقوق، الابتعاد عن النمط القبلي العائلي في توسع النفوذ والسلطة باستثناء عثمان بن عفان رضي الله عنه، فمع طول حكمه وكبر سنّه استبد بعض ذويه بالنفوذ من أمثال مروان بن الحكم مما قلب الرعية عليه، وكان مقدمة لصراعات عُرفت تاريخيا بالفتنة.

والإشكالية أن الرشد تحوَّل إلى مرادف لكلمة مثالي، ثم أصبح صفة اجتماعية ملاصقة لكل من عاش الأربعين عاما الأولى من تاريخ المسلمين، وهذا يتنافى مع الطبيعة البشرية، فالتجربة الإنسانية تقول بأنه لا يوجد مجتمع مثالي، والواقع التاريخي يؤكد ذلك، فالمجتمع الأول ضمَّ جميع ألوان الطيف مثل غيره من المجتمعات، غير أن تلك الفترة من التاريخ اكتسبت رفعة مكانة في نفوس المسلمين لمنزلة أصحابها وقربهم من النبي صلى الله عليه وسلم، وهنا يتعين التمييز بين أمانة الصحابي في النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحرصه على التأسي به التي أثنت عليها المرويات الحديثية ولا نتحدث عنها، وبين ممارساتهم الحياتية، وأفعالهم الإنسانية القابلة للقصور والأخطاء والنقد والمراجعة بما في ذلك السلطة بوصفها تجربة إنسانية يجتهد فيها فيصيب ويخطئ كما عرفوا هم بأنفسهم.

فلم يكن مجتمع المسلمين الأول ملائكيا بل مجتمعا إنسانيا شهد من الجرائم ما نزل فيه الوحي مصوبا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وإخراج النبي –صلى الله عليه وسلم- العرب من العصبية القبلية إلى الأخوة في الدين تحقّق في زمنه لكنهم ظلوا حديثي عهد بعصبية قبلية جاهلية، كان لها اعتبار في قرارات النبي –صلى الله عليه وسلم- فيقول: "لولا أنَّ قومَك حديثُ عهدٍ بجاهليَّةٍ لهدَمْتُ الكعبةَ وجعَلْتُ لها بابينِ" وظهرت بعد النبي –صلى الله عليه وسلم- فكيف نتصور مثالية في حياة القبائل العربية في ظل حكم الخلفاء الراشدين؟!! وكأن الخلافة الراشدة لم تبدأ مسارها التاريخي بأكبر حركة ارتداد قبلي جماعي عن الإسلام، وامتناع قبلي جماعي عن أداء الزكاة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى أن أبا بكر -رضي الله عنه- عاش مرحلة تأسيس ثانية حتى تدين القبائل العربية بمنطق السلطة الموحدّة، وكأنه لم يُوجد أشرار استوجب شرهم أن يستحدث عمر بن الخطاب عقوبات جديدة كالحبس، وصولا لخلافة علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- في لحظة انقسام تاريخي بين مناصر له ومناصر لمعاوية وخارج على كليهما، فمجتمع الخلافة الراشدة لا يختلف عن غيره من المجتمعات الإنسانية في جمعه بين مختلف أنماط البشر، حتى مدينة النبي –صلى الله عليه وسلم- لم تكن المدينة الفاضلة كما يروق للبعض أن يصوّر.. فيقول القرآن الكريم "وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ" [سورة التوبة، الآية.١٠١]

تحوّلت الخلافة الراشدة من حلقة في مسيرة تاريخ إنساني يعتريه كل ما يعتري المجتمعات الإنسانية إلى حلمٍ يسعون للعودة إليه، ويتمنون أن يقترب تحقق وعد الله بإعادتها؛ ليتغير واقعهم، وهذا يُوضح علة الهروب المستمر لدي المسلم المعاصر من واقعه إلى تلك الفترة التاريخية حيث الصورة المتخيلة لدولة ملائكية بلا خلاف ولا ضعف ولا شائبة ظلم، إنه فردوس الخلافة المفقود..

وتوسعت الثقافة الإسلامية المعاصرة مع ازدياد تدهور مجتمعات المسلمين في بناء تصورات مثالية عن دول الخلافة الإسلامية، فلم تعد دولة الخلافة الراشدة فحسب وإنما امتدت للخلافة الإسلامية السّنية متمثلة في كل مملكة أو سلطنة امتدت عبر التاريخ من أمويين أو عباسيين أو أتراك حتى سقوط دولة العثمانيين١٩٢٤م، فظلت لدولة العثمانيين سلطة دينية في نفوس العامة رغم تدهور أحوالهم فقرا وجهلا وظلما وامتهانا في ظلها؛ وليس أدل على ذلك من واقع مصر المتخلف حضاريا -كولاية من ولايات الدولة العثمانية- وقت وصول الحملة الفرنسية إلى شواطئها. ليكتشف المصريون عمق وسعة الفجوة الحضارية بينهم وبين مستعمر غربي قادم للبحث عن الموارد الطبيعة تحت أقدامهم، وتحويلهم إلى سوق كبير..

***

أ. د. عبد الباسط سلامه هيكل

قراءات متعمقة حول فانون وكابرال وناندي

ترجمة: د. زهير الخويلدي

***

مقدمة: غالبًا ما ركزت نقاشات القرن العشرين حول إنهاء الاستعمار والاستقلال الوطني والفكر المناهض للاستعمار على دور الثقافة في الحركات الثورية. وبشكل عام، وصف الثوريون اليساريون الممارسات الثقافية بأنها بؤر خصبة للحركات التحررية، وكثيرًا ما تُعتبر الثقافة أداة قيّمة للتعبئة ضد القوى الاستعمارية. في الدراسات المناهضة للاستعمار في منتصف القرن العشرين، غالبًا ما تُعرّف الثقافة بأنها مجموعة من الممارسات التي تُغذي وتغذي سياسات الاستقلال/مكافحة الاستعمار. يتناقض هذا الفهم للثقافة مع مناهج ما بعد الاستعمار اللاحقة، حيث تُعتبر الثقافة ذات قيمة بحد ذاتها، وإن كان ذلك ربما على حساب اعتبارها غير سياسية ظاهريًا. يتتبع هذا المقال هذه الخلافات حول كيفية تعريف الثقافة في الدراسات المناهضة للاستعمار وما بعد الاستعمار. يبدأ المقال بعمل فرانز فانون وأميلكار كابرال، مُشيرًا إلى كيفية تعريف الثقافة من خلال برنامج سياسي ومادي واضح. ثم ينتقل المقال إلى عمل آشيس ناندي، الذي يُشدد في تقييمه للثقافة على أن شكل الممارسات سياسيٌّ بطبيعته، حتى وإن افتقر إلى محتوى مُعلن مُناهض للاستعمار. ويختتم المقال بالإشارة إلى أن هذا التباين في تناول الثقافة بين الفكر المُناهض للاستعمار والفكر ما بعد الاستعماري يُشير إلى توتر أعمق بين التغيير الثوري والتعبير الثقافي.

تُعيد هذه المقالة النظر في دور الثقافة في نقاشات القرن العشرين حول إنهاء الاستعمار، من حيث العلاقة بين الثقافة والاستقلال الوطني والوعي الوطني. وتبحث في هذه الصلة من خلال مقارنة الإمكانات التحررية للثقافة في كلٍّ من الدراسات المناهضة للاستعمار في حقبة الاستقلال ما بعد الحرب، وتلك التي تلتها في حقبة ما بعد الاستعمار. ومن خلال ذلك، أُحدد أوجه التشابه والاختلاف بين هذين العصرين من الفكر المناهض للاستعمار فيما يتعلق بأهمية الثقافة في النضال التحرري. وتحديدًا، أُجادل بأن الدراسات القومية المناهضة للاستعمار تميل إلى القول بأن الثقافة لا معنى لها إلا بقدر ما تُمثل استراتيجية للتحرر الوطني، وأن مُؤيديها يتحفظون من الممارسات التي لا تتسم بطابع ثوري صريح. من ناحية أخرى، ترى الدراسات المناهضة للاستعمار، الأكثر حساسيةً للثقافة، أن الممارسات الثقافية جذرية ضمنيًا بحكم وجودها؛ فالثقافة ذات معنى حتى في غياب برنامج تحرري. أجادل بأن هذا التوتر المحيط بعلاقة الثقافة بالتحرر من الاستعمار يُبرز توترًا أعمق بين الأولويات المادية الثورية والأفعال الثقافية غير المادية. بعبارة أخرى، أقترح أن إمكانيات السياسات الثقافية الجذرية تُغلق أبوابها بسبب المنحى الأكاديمي الذي يُعلي من شأن الاستقلال الوطني كاهتمام رئيسي. في المقابل، أزعم أن السياسات الثقافية للتحول التحليلي ما بعد الاستعماري/ما بعد الاستعماري تُغلق أبوابها أمام الفعل المادي الفوري. لا أحاول حل هذا التوتر، بل أسعى فقط إلى التعبير عنه. تنبع حجتي من تحليل نماذج تحرر الاستعمار لثلاثة باحثين رئيسيين: فرانز فانون، وأميلكار كابرال، وأشيس ناندي. أُبيّن أن الثقافة، لكلٍّ من هؤلاء الباحثين، تضطلع بدور أكثر إنتاجية ومركزية في النضال من أجل ما بعد الاستعمار. وهكذا، يُقدم فانون النهج الأكثر تشاؤمًا للثقافة، بينما يُقدم كابرال رؤية أكثر إنتاجية، بينما يصف ناندي تعبيرًا كاملًا عن قدرة الثقافة على تحرر الاستعمار. هذا لا يعني أن كل باحث يتفوق على سابقه بأي شكل من الأشكال، باستثناء قدرته على "الاستفادة القصوى" من الثقافة مقارنةً بإنهاء الاستعمار. في المقابل، أُسلِّط الضوء أيضًا على حقيقة أن صياغة ناندي المُثمرة لدور الثقافة تأتي على حساب الاهتمامات المادية بالثورة. وأختتم بالتكهن بما إذا كانت السياسات الثقافية غير المادية تتعارض جوهريًا مع إلحاح الثورة.

 الثقافة نتاج الأمة – فانون

إن فهم فانون للثقافة - أي كيفية تعريفه للمصطلح، وموقعه الثقافي من حيث الممارسين والممارسات، ودوره في مكافحة الاستعمار - مرتبط بفهمه للتحرر الوطني والوعي الوطني. في الواقع، يُصرّ فانون على أن ثقافة شعب ما لا يمكن أن توجد بدون دولة قومية تُقرّها، وينتقد بشكل خاص أي تركيز تحليلي على ثقافة شعب لا يُدمج أولاً السياسات الوطنية التحررية لإنهاء الاستعمار. لفهم هذا الموقف، لا بد من ملاحظة انتقادات فانون للجهود الثقافية، مثل الزنجية أو بلوز دلتا المسيسيبي، والتي تظهر قبل أو منفصلة عن برنامج صريح للتحرر الوطني. يُسلّط هذا الضوء على كيف أن أولوياته في التحرر الوطني تُحيل الثقافة والفن والطقوس والتقاليد إلى دور داعم في التحرر طالما أنها تفتقر إلى وعي وطني. هذه الحقيقة تُمكّن المرء من فهم سبب مجادلة فانون اللاذعة بأن المشاريع الثقافية التي تتجاوز النطاق الوطني (وخاصةً بين الشعوب المختلفة) "لا تُجدي نفعًا سوى مقارنة العملات بالتوابيت". وللتوضيح، لم يجد فانون الثقافة والتقاليد الماضية عديمة القيمة. فقد بدأ فصله "حول الثقافة الوطنية" بشرح كيف أن "استعادة الماضي لا تُعيد تأهيل أو تُبرر وعد الثقافة الوطنية فحسب، بل تُحدث تغييرًا جوهريًا في التوازن النفسي والعاطفي للمستعمَر". تنبع هذه الأهمية من حقيقة أن استعادة ماضي شعب ما تُواجه أحد أقوى الآثار النفسية للاستعمار: تدهوره للمستعمَر من خلال ربط الحياة التقليدية بالهمجية والوحشية. لاحظ فانون أن "الهدف النهائي للاستعمار هو إقناع السكان الأصليين بأنه سينقذهم من الظلام. وكانت النتيجة غرس فكرة في عقولهم مفادها أنه إذا غادر المستعمر، فسوف يتراجعون إلى الهمجية والانحطاط والوحشية". تؤدي هذه العملية إلى تنشئة شعب ما كطفل، بحجة أن تطور السكان الأصليين يتوقف على التخلي عن أساليب الحياة التقليدية المرتبطة بالماضي والوحشية. يمكن للمرء أن يجد هذا الوصف للاستعمار ليس فقط في أعمال فانون، ولكن أيضًا في المنشورات التي تُشيد بالذات للدفاعات الأوروبية عن الاستعمار.2 وهكذا، في بداية تحليله للثقافة، بدا فانون وكأنه يُؤيد هدف العديد من المثقفين المُستعمَرين "لتجديد الاتصال مع جوهر شعبهم الأقدم والداخلي، الأبعد عن العصور الاستعمارية". يرى فانون أن استعادة الماضي وتأكيد الثقافة عبر النخبة المُستعمَرة يُمثلان خطوةً أولى حاسمةً في بناء تقدير الشعب الضروري لأي ثورة. ومع ذلك، ورغم أن فانون بدا في البداية متعاطفًا مع الجهود الثقافية لإعادة تأهيل الماضي، إلا أنه سرعان ما انتقد هذه الجهود. وحذّر تحديدًا من "التباسات خطيرة" تنشأ عندما يسبق التحليل الثقافي النضال التحرري، ألا وهي: "تمجيد الظواهر الثقافية التي تُصبح قاريةً بدلًا من وطنية، وذات طابع عرقيٍّ مُفرط". يرى فانون أن الاحتفاء بالثقافة الأصلية النابعة من النخبة البرجوازية يُخاطر بتجانس الثقافات بشكلٍ مُفرط على أسس جغرافية وعرقية أوروبية، مُجسّدًا الثقافات على أنها أفريقية و/أو سوداء. هذا التوجه هو النتيجة الطبيعية لإدانة الاستعمار للثقافة الأصلية "القارية في نطاقها" و"التي تُشير إلى قارة أفريقيا بأكملها". لاحظ فانون أن الحركات الفنية، مثل حركة "الزنوجة"، ترد على هذه الإدانة بعبارات مماثلة، مشيرةً إلى الثقافة على أنها تنتمي إلى "ثقافة زنجية" عرقية أو ثقافة أفريقية قارية. وعلى هذا النحو، أوضح فانون، "أنه بعد التأكيد غير المشروط للثقافة الأوروبية جاء التأكيد غير المشروط للثقافة الأفريقية". بالنسبة لفانون، فإن هذا النهج للثقافة - على الرغم من معارضته المباشرة لإهانات الاستعمار الأوروبي - إلا أنه مع ذلك يمثل إشكالية ليس فقط لأنه يتخذ موقفًا غير نقدي من الثقافة الأصلية، ولكن أيضًا لأنه يتبنى الإطار القاري والعرقي للمستعمرين. جادل فانون بأن هذا النهج "منفصل عن الواقع" وعاجز سياسيًا؛ أولاً، لأنه يجمع بين النضالات ضد البيض التي لا يوجد بينها الكثير من القواسم المشتركة، وثانيًا، لأنه يتجاوز إنشاء ثقافة وطنية من خلال التركيز على الاحتفالات الرمزية بماضٍ لم يعد موجودًا. فيما يتعلق بالنقد السابق لتجانس النضالات المتباينة، استخدم فانون مثال الخلط بين إنهاء الاستعمار الأفريقي ونضالات الأمريكيين الأفارقة، حيث قال: "كانت المشاكل التي كان على ريتشارد رايت أو لانغستون هيوز أن يكونوا على أهبة الاستعداد لها مختلفة اختلافًا جوهريًا عن تلك التي واجهها ليوبولد سنغور أو جومو كينياتا". وبصراحة أكبر، زعم فانون، مع لمحة من السخرية من حركة الحقوق المدنية الأمريكية، أن "مبدأ وهدف رحلات الحرية التي يسعى من خلالها الأمريكيون السود والبيض لمكافحة التمييز العنصري لا يتشابهان كثيرًا مع النضال البطولي للشعب الأنغولي ضد ظلم الاستعمار البرتغالي". لا يستكشف فانون في كتابه "معذبو الأرض" معالم الاختلافات الجوهرية بين هذه النضالات، مع أن القراء يستشعرون في مقارنته بين رحلات الحرية واستقلال أنغولا اختلافًا في النطاق - فحرب الاستقلال "البطولية" تبدو لفانون أعظم من رحلات الحافلات لتسليط الضوء على التمييز ومكافحته. بالنسبة لفانون، لم يكن العنصر الأساسي هو الاختلافات نفسها، بل كيف صوّر دمج الحركتين تلك النضالات على أنها معادية للبيض بدلًا من أن تكون وطنية: "القاسم المشترك الوحيد بين السود من شيكاغو والنيجيريين أو التنجانيقيين هو أنهم جميعًا عرّفوا أنفسهم في علاقتهم بالبيض" - وهو إطار غير مُرضٍ في نظره لتطوير هوية شعب فريدة ووعي وطني. بدا هذا البحث عن أوجه التشابه الثقافية والسياسية لفانون مثاليًا، "منفصلًا عن الواقع"، إذ لم ير في مثل هذا المشروع حاجةً أساسيةً للضرورات السياسية والاقتصادية لإنهاء الاستعمار. وهذا هو الحال تحديدًا عندما يركز فانون على الماضي. أوضح فانون هذه الفكرة بالإشارة إلى ما اعتبره نجاح الدول العربية المعاصرة التي أدركت أن "موقعها الجغرافي وترابطها الاقتصادي الإقليمي أهم من إحياء ماضيها". وبينما بدا فانون في البداية مؤيدًا لإحياء الماضي، أوضح هنا وفي أجزاء لاحقة من النص أن تأييده مشروط بخدمة الماضي للقضية القومية. لم يكن هدف فانون العودة (المستحيلة) إلى عصر ذهبي أسطوري، بل تخليد ذكرى هذا العصر لإنتاج وعي وطني، وبالتالي ثقافة وطنية جديدة؛ أي ثقافة تعكس بوضوح السياسات الثورية. عندما لا تكون الثقافة "وطنية بالمعنى الحرفي" وتركز على الماضي فحسب، خلص فانون إلى أنها "تجد ملاذًا آمنًا في مأوى المشاعر المشتعلة، وتجد صعوبة في شق طريق مستقيم، يكون مع ذلك الطريق الوحيد الذي يُحتمل أن يمنحها الإنتاجية والتجانس والمضمون". بعبارة أخرى، أدى إعطاء الأولوية للثقافة كغاية لفانون إلى تجانس إشكالي للنضالات المتباينة وتمجيد للماضي، ولم يُسهم أي منهما في التحرر الوطني أو رفاهية الجماهير. إن اعتبار انتقادات فانون للحركات الثقافية، مثل حركة الزنوجة، باعتبارها تُشكل أطرًا عرقية وقارية مُركّزة على ماضٍ حنين، يُوضّح مبرراته لتعريف الثقافة من منظور التحرر الوطني.3 كتب فانون: "لن يُخزى الاستعمار أبدًا بعرض كنوز ثقافية مجهولة أمامه". فبدون نضال وطني، تُصبح هذه الآثار الثقافية والتأملات في الماضي بلا قيمة، وغير قادرة على إحداث التغيير الثوري اللازم لضمان الاستقلال الثقافي والكرامة. ويرى فانون أن النضال من أجل التحرر الوطني هو ما يُنتج الثقافة والكرامة الأصيلة، وليس العكس. كان هذا التسلسل، من الثورة إلى القيمة الثقافية الذاتية، واضحًا عندما نظر في أشكال فنية مختلفة - الفنون البصرية والشعر والنحت وما إلى ذلك. ركز بشكل خاص على قصيدة كيتا فوديبا "الفجر الأفريقي" كنموذج للثقافة الوطنية، وكتب أن هذا العمل هو "دعوة حقيقية لنا للتفكير في إزالة الغموض والقتال". بالنسبة لفانون، فإن "القيمة التربوية" للقصيدة لا تكمن في وجودها كقطعة أثرية ثقافية، ولكن في محتواها، الذي يعكس "المنظور الثوري" لفوديبا كوزير للشؤون الداخلية في جمهورية غينيا. ركزت القصيدة على حزن قرية على نعمان، وهي شخصية شعبية جندتها القوى الاستعمارية قسراً للقتال والموت في حرب أجنبية. بالنسبة لفانون، أظهرت القصيدة كيف يمكن للتحف الثقافية أن تؤثر على الحاضر، حيث "سيتعرف جميع "العرب القذرين" الذين قاتلوا للدفاع عن حرية فرنسا أو الحضارة البريطانية على أنفسهم في هذه القصيدة". علاوة على ذلك، التقطت القصيدة الممارسة الفرنسية المتمثلة في استخدام المحاربين القدامى الأصليين لقمع شعبهم، مما أعطى العمل أهمية معاصرة. لخص فانون تحليله بالدرس التالي: "من أجل إعطاء [التعبير الثقافي] جوهرًا، يجب عليه [الفنان] المشاركة في الفعل وتكريس نفسه جسديًا وروحيًا للنضال الوطني". بالنظر إلى هذا المثال، فليس من المستغرب أن يعرّف فانون الثقافة بأنها "وطنية في المقام الأول" ويحدد لاحقًا أن هذه الثقافة "هي عملية التفكير الجماعي لشعب لوصف وتبرير وتمجيد الإجراءات التي من خلالها توحدوا وظلوا أقوياء". والجدير بالذكر أن تعريفه لم يكن مرتبطًا بأي شكل محدد من أشكال الفن أو التعبير. بل إن ما يهم فانون هو أن تُجسّد التعبيرات الثقافية النضال من أجل الحرية الوطنية وتنعكس فيه. قدّم فانون تعريفًا دقيقًا للثقافة. فهي "ليست فولكلورًا تقتنع فيه شعبوية مجردة بأنها كشفت عن حقيقة شعبية"، وليست "كتلة متجمدة من الإيماءات النبيلة، أي أنها أقل ارتباطًا بواقع الشعب". بل هي التعبيرات الفنية والشعبية لشعب متحد، لأمة متحدة. ورغم مراوغته في أن "الثقافة بعيدة كل البعد عن أي شكل من أشكال التبسيط"، إلا أن وجهة نظره القائلة بأن الثقافة لا يمكن أن تنشأ إلا نتيجة مقاومة وطنية مسلحة كانت واضحة. انعكس هذا المسار الخطي في سعيه للتمييز بين الثقافة والتقاليد والأعراف: "إن السعي إلى التمسك بالتقاليد أو إحياء التقاليد المهملة ليس فقط ضد التاريخ، بل ضد شعبه. عندما يدعم شعب كفاحًا مسلحًا أو حتى سياسيًا ضد استعمار لا يرحم، فإن التقاليد تغير معناها" وتتحول من كونها مصدرًا "للمقاومة السلبية" إلى مصدر للركود. وبالمثل، لاحظ فانون في الصفحة نفسها أن عادات ما قبل الثورة "تدل على... النفي والتقادم والتلفيق"، وبالتالي فهي بعيدة كل البعد عن أدبيات القتال التي احتفى بها في فوديبا. بالنسبة لفانون، يجب أن تكون الثقافة مشحونة بالحماس الثوري وأن تخدم قضية العدالة السياسية والمادية - وهو ظرف لا يصبح ممكنًا إلا عندما يتحد الشعب ويشكل أمة. أوضح فانون هذا الأمر بقوله: "إن التحرر الوطني وإحياء الدولة شرطان أساسيان لوجود الثقافة". أي أنه في سياق نظام الدولة القومية والاحتلال الاستعماري، تتطلب الثقافة وعيًا وطنيًا.  نظراً لربط فانون المُلحّ بين الثقافة والدولة، فقد عبّر، كما هو متوقع، عن نظرة تشاؤمية عميقة تجاه التقاليد والعادات باعتبارها قيّمة في حد ذاتها. أصرّ فانون على أن الثقافة لا يمكن أن تكون جوهرية ومنتجة إلا عندما تُشرّعها الدولة؛ ولم يُبدِ أي احترام يُذكر للثقافة في أي سياق آخر. وزعم أنه بعد قرون من الاستغلال، "انكمشت الثقافة الوطنية بشكل جذري. لقد أصبحت جرداً للأنماط السلوكية والأزياء التقليدية والعادات المتنوعة". وبالتالي، فإن المُستعمَرين، عندما لا ينخرطون في مقاومة فعّالة، "لا يمتلكون إبداعاً حقيقياً ولا حماساً". ومجدداً، كان اللافت للنظر تأكيده على أن الإبداع والحماسة لا يُوجدان إمكانيات تحررية؛ بل إن الشعب لا يُصبح مبدعاً إلا بالنضال التحرري، وإلا ستبقى ثقافته مُقموعة وسرية. وقد أظهر هذا إعطاء الأولوية للتحرر مدى خطورة الوضع المُستعمَر بالنسبة لفانون. في ظل الحكم الاستعماري، عانى المظلومون من حرمان مادي هائل وتدهور نفسي، بالإضافة إلى "طمس ثقافي" كامل، حيث كاد الشعب أن يفقد أي تعبير عن نفسه إلا "تشبثًا يائسًا بنواة... تزداد خواءً". إن تعليقات فانون المهينة عن موسيقى البلوز في الجنوب الأمريكي، باعتبارها "شوقًا يائسًا لـ"زنجي" عجوز، يحمل خمسة كؤوس ويسكي... رثاء جاز يمزقه "زنجي" فقير بائس"، تكشف بوضوح تام عن رأيه في الثقافة المستقلة عن الوعي الوطني؛ أي أنها لا يجب اعتبارها سوى محاكاة ساخرة مُهينة للذات. مع أن فانون قد حط من قدر موسيقيي البلوز في ولاية ميسيسيبي تحديدًا، إلا أن المثال كان متسقًا مع حجته القائلة بأن التحرر الوطني ضروري لـ"نضج" الثقافة لتصبح ثقافةً تتمتع "بالمصداقية والصلاحية والديناميكية والإبداع". وللإنصاف، لم يكن فانون متشائمًا تجاه الثقافة باعتبارها مُحررة بطبيعتها إلا لأنه كان متفائلًا بقدرة المستعمَرين على إسقاط ذلك النظام وصياغة مصير جديد. في الواقع، إن تفاؤله بالتحرر هو السبيل الوحيد لفهم تشكك فانون الثقافي. بدون هذا العنصر الثوري، وبدون الفهم بأن الناس سوف يصنعون إنسانية جديدة من رماد النضال ضد الاستعمار بينما يعيدون خلق احترامهم لذاتهم كأنداد في المجتمع العالمي، فإن إطار فانون سيبدو كطريق مسدود مأساوي للمضطهدين الذين تم نزع إنسانيتهم/عدم ثقافتهم في السابق. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الغاية المؤدية إلى القومية والتحرر الوطني هي التي تحل ما قد يبدو للوهلة الأولى تناقضًا في فانون: احتفاله الواضح بالثقافة والتقاليد في الصفحات الأولى من "حول الثقافة الوطنية" واستخفافه لاحقًا بفكرة الثقافة ذاتها ما لم تكن مصحوبة بـ "الإنتاجية والتجانس والمضمون" التي توفرها الدولة. لم يتضح هذا المسار الغائي في أي مكان أكثر من عندما قدم تعريفه الأكثر صرامة للثقافة، وميز هذا التوصيف عن الثقافة الوطنية: "الثقافة هي، أولاً وقبل كل شيء، تعبير عن أمة، وتفضيلاتها، ومحرماتها، ونماذجها... الثقافة الوطنية هي مجموع كل هذه الاعتبارات، ونتاج توترات داخلية وخارجية للمجتمع...". مع أن هذا المقطع نفسه افترض وجود الأمة. وهكذا، "في السياق الاستعماري، عندما تُحرم الثقافة من دعامتي الأمة والدولة، فإنها تهلك وتموت" في دوامة من المُثل المتضاربة والمعتقدات المتناقضة. بالنسبة لفانون، ينحدر النسب من ثقافة منتشرة ومكبوتة من التقاليد والماضي إلى ثقافة نضال وطني وثقافة وطنية غنية ومنتجة. ينبثق تأكيد فانون على الثقافة الوطنية من حقيقة أنها يجب أن توجد "في السياق الاستعماري". في عالم الدول القومية الاستعماري/الإمبريالي، تتجلى قيمة الثقافة على المستوى الوطني - ومن هنا جاء تحذيره من أن السعي إلى مقارنات قارية أو عابرة للثقافات يُعدّ "طريقًا مسدودًا" دون تطوير الثقافة على المستوى الوطني أولًا. وهكذا، كان تعريف فانون للثقافة نابعًا من الواقعية السياسية والضرورة أكثر منه من نفور مسبق من التقاليد والعادات والطقوس المتجذرة. ومع ازدياد أهمية الأمة في مشروع فانون الثوري، اكتسبت الأمة أيضًا أهمية بالغة في تقييمه للثقافة - إذ أصبح الاثنان مرتبطين ارتباطًا وثيقًا في عملية خلق فيها النضال الوطني ثقافة وطنية جديدة قادرة على تحفيز الشعب وتوحيده.

الأمة نتاج الثقافة - كابرال

لم يكن فانون المفكر الوحيد الذي دمج الثقافة بشكل وثيق مع العمل الثوري، ولم يقتصر تحليله على حرب الاستقلال الجزائرية، رغم شكوكه في المقارنات بين الثقافات. فآخر أعماله، في نهاية المطاف، كان بعنوان "معذبو الأرض" وليس "معذبو الجزائر" عام ١٩٥٩. وتُكمّل خطب أميلكار كابرال في كتاب "العودة إلى المصدر" تحليل فانون. مثل فانون، ربط كابرال الثقافة ارتباطًا وثيقًا بالتحرر الوطني - وهو أمر غير مفاجئ، نظرًا لدوره كأمين عام للحزب الأفريقي لاستقلال غينيا وجزر الرأس الأخضر.في الواقع، في مقدمة العودة إلى المصدر، وُصفت أفكار كابرال المتعلقة بعودة البرجوازية المحلية إلى الثقافة المحلية (المصدر) بأسلوب فانوني خاص: "من بين الحقائق العديدة التي تركها كابرال، حقيقة أن عملية العودة إلى المصدر لا تتمتع بأي أهمية تاريخية (بل ستكون في الواقع انتهازية سياسية) ما لم تتضمن... مشاركة كاملة في النضال الجماهيري ضد الهيمنة السياسية والاقتصادية الأجنبية". كانت آراء كابرال حول الثقافة، مثل آراء فانون، متأصلة بعمق في النضال السياسي والاقتصادي لإنهاء الاستعمار؛ لم يكن هناك بالتأكيد أي تقسيم تكون فيه الثقافة وسيلة لتحقيق غاياتها الخاصة في تحليله. ومع ذلك، اختلف كابرال عن فانون بشأن دور الثقافة في إنهاء الاستعمار بطريقتين مترابطتين على الأقل. أولاً، بدأ تحليله بتقييم أكثر تفاؤلاً للحالة الاجتماعية والثقافية للمستعمَرين، مجادلاً بأن نزع الصفة الإنسانية عنهم على يد الاستعمار لا يمكن أن يكتمل، وأن الثقافة بحد ذاتها دليل على مقاومتهم. ثانياً، نقض كابرال أحياناً مقولة فانون القائلة بأن الثقافة لا تكتسب معناها إلا بالتحرر الوطني. فبالنسبة لكابرال، الثقافة نتاج التاريخ، لكنها أيضاً عنصر أساسي في هوية الشعب، وبالتالي ساهمت في تأجيج النضال من أجل الاستقلال بطرق أكثر وضوحاً مما كانت عليه في إطار فانون. مع ذلك، يجب أن نبدأ أي مقارنة بين هذين المؤلفين بالتشابه الشديد بينهما فيما يتعلق بادعاء استحالة تجاهل الثقافة. وتحديداً، عرّف كابرال الثقافة في إطار نضال ثوري من أجل إنهاء الاستعمار - وإن كان ذلك في قضيته ضد البرتغاليين لا الفرنسيين. بعبارة أخرى، وجد كل من كابرال وفانون نفسيهما منخرطين في جهود إنهاء الاستعمار في سياق الحروب الأهلية ضد الاحتلال الاستعماري في بلديهما. في محاضرته التذكارية التي ألقاها تكريمًا لإدواردو موندلين، بعنوان "التحرر الوطني والثقافة"، كان تعريف كابرال الافتتاحي للثقافة هو أن "الثقافة هي، في أي لحظة من حياة المجتمع (سواء كان مفتوحًا أم مغلقًا)، النتيجة الواعية إلى حد ما للأنشطة الاقتصادية والسياسية". وبشكل أكثر صراحة، بدأ كابرال المحاضرة بالإشارة إلى "قيمة الثقافة كعامل في مقاومة الهيمنة الأجنبية". وقد شارك كابرال وفانون تعريفًا عمليًا للثقافة كتعبير عن الشعب "يعلمنا ما كانت عليه التركيبات الديناميكية" للصراعات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تميز المجتمع. ومثل فانون، عكس تعريف كابرال للثقافة فهمه للاستعمار. وقد توازى هذا المنظور في نواحٍ عديدة مع الفهم الموضح في كتاب "معذبو الأرض". على سبيل المثال، صرّح كابرال بأن الاستعمار "لا يمكن أن يستمر إلا بالقمع الدائم والمنظم للحياة الثقافية للشعب المعني. ولا يمكنه أن يرسخ أقدامه بقوة إلا إذا دمّر فعليًا جزءًا كبيرًا من الشعب المهيمن". ولا شك أن هذه المحاولة "الدائمة والمنظمة" لـ"تدمير" الهوية الثقافية لشعب من جانب الهيمنة الإمبريالية كانت مماثلة لفهم فانون للمجتمع الاستعماري باعتباره مجتمعًا "طمسًا ثقافيًا". وبالنسبة لكل من كابرال وفانون، فقد ضمنت الأنظمة الاستعمارية سيطرتها ليس فقط من خلال الاستغلال المادي، ولكن أيضًا من خلال السيطرة الثقافية، كما يتضح من التعظيم المستمر للثقافة الأوروبية ونزع الشرعية عن التقاليد والعادات والأشكال الفنية المحلية. يرى كابرال أن "السيطرة على أمة بقوة السلاح هي، قبل كل شيء، حمل السلاح لتدمير ثقافتها أو على الأقل تحييدها وشلها". وقد دفع هذا التقييم كابرال، في بعض الأحيان، إلى أن يبدو وكأنه يشارك فانون مساره الخطي من الثقافة الشعبية إلى مقاومة الثقافة الوطنية، كما هو الحال عندما اقترح: "يجب أن تكون حركة التحرير قادرة على تحقيق تقارب تدريجي وثابت... بين مستويات الثقافة لمختلف الفئات الاجتماعية التي يمكن توظيفها في النضال، وتحويلها إلى قوة ثقافية وطنية واحدة تكون أساسًا وقاعدةً للكفاح المسلح". بعبارة أخرى، تبدو الثقافة كمجموعة مُربكة ومتناقضة من المعتقدات والتعبيرات (كما هو الحال بالنسبة لفانون)، والمعركة الثورية هي التي تكشف عن "تعقيد المشكلات الثقافية" وبالتالي تُمثل "أداةً مُحزنة لكنها فعّالة لتطوير المستوى الثقافي". هنا، كان كابرال قريبًا جدًا من فهم فانون الغائي لظهور الثقافة في خضم الثورة، بل إنه شارك فانون رأيه بأن هذا الواقع وُلِد من الضرورة، من الظروف العنيفة التي يجد المُستعمَرون أنفسهم فيها. للثقافة بالنسبة لكابرال قيمتها الخاصة، ولكن في عالم الأمم والهيمنة هذا، يُعدّ النضال الثوري ضروريًا - وهي حقيقة "مُحزنة" لكنها جوهرية. بالنظر إلى أوجه التشابه هذه بين كابرال وفانون، ما الذي يُميزهما؟ تكشف القراءة المُتأنية لأعمال كابرال أنه، وإن كان يُشارك فانون العديد من قناعاته، إلا أنه يُعقّدها أحيانًا، وبذلك، اكتسبت الثقافة دورًا أكثر مركزية في إطاره. وبعبارة أخرى، كان كابرال أكثر سخاءً وتفاؤلاً تجاه ما أسماه "الثقافة الشعبية"؛ أي الجذور الثقافية لشعب سبق التحرر الوطني أو كان مستقلاً عنه. وشارك كابرال فانون اعتقاده بأن هذه الثقافة الشعبية - سواءً كانت أشكالاً فنيةً سابقةً، أو احتفالاتٍ، أو تقاليداً وعاداتٍ، إلخ - ستُفسح المجال في نهاية المطاف لأخلاقياتٍ وطنية، بل وحتى عالمية، تُولّد "تصاعداً متواصلاً وواسع النطاق للمشاعر الإنسانية للوحدة والاحترام والتفاني غير الأناني للإنسان" على غرار "الإنسانية الجديدة" التي دعا إليها فانون في عمله. إلا أن وصف كابرال لهذا التطور جعل من الثقافة الشعبية الوقودَ المركزي لهذه العملية، بدلاً من كونها مستنقعاً مُربكاً من التقاليد والعادات التي يجب التغلب عليها من خلال الثورة الوطنية. ويبدو أن هذا الاختلاف نابعٌ بالأساس من اختلاف تشخيصات فانون وكابرال بشأن وضع المُستعمَر في النظام الاستعماري. كما هو موضح أعلاه، يرى فانون أن المستعمَرين قد نُفوا تمامًا، وأن ثقافتهم الوطنية "تذبل وتتلاشى وتندثر". وبينما كان هذا الوضع يحمل في طياته بذرة الثورة، لأن "التعبير الذي يدينه المجتمع الاستعماري هو في الأصل دليل على الهوية القومية"، إلا أن فانون يرى أن المستعمَرين بدأوا من موقف "لا ثقافة ولا حضارة ولا تاريخ طويل" على حد تعبيره في كتابه "بشرة سوداء وأقنعة بيضاء". وبينما اتفق كابرال على أن هدف الهيمنة الإمبريالية هو "نفي العمليات الثقافية [للشعب]" من خلال محاولات محو الثقافة الأصلية، وبالتالي الهوية والكرامة الأصلية، فقد اعتقد أن الجهود المبذولة لتحقيق هذا الهدف قد "فشلت فشلاً ذريعًا). يرى كابرال أن الحياة الثقافية لأي شعب - حتى لو كان مُستعمَرًا - "غير قابلة للتدمير"، وبالتالي لم يتمكن المستعمرون أبدًا من محو هوية رعاياهم تمامًا.  يُشكل هذا فرقًا جوهريًا بين تشخيصي فانون وكابرال لحالة المُستعمَرين. فبينما رأى فانون أن هذه الشعوب مُجرّدة من ثقافتها إلا في جوانبها الأصيلة، رأى كابرال استحالة هذا المحو. في الواقع، في محاضرة الدكتوراه الفخرية التي ألقاها في جامعة لينكولن بعنوان "الهوية والكرامة في سياق النضال من أجل التحرير الوطني"، انتقد كابرال مباشرةً فكرة نشوء نهضة ثقافية مُحفّزة أو مُتزامنة مع التحرر الوطني: "من المؤكد أن الهيمنة الإمبريالية تدعو إلى القمع الثقافي... لكن الشعوب لا تستطيع خلق حركة التحرير وتطويرها إلا لأنها تُحافظ على ثقافتها حية رغم القمع المُستمر والمُنظّم لحياتها الثقافية، ولأنها تُواصل المقاومة ثقافيًا حتى عندما تُدمّر مقاومتها السياسية والعسكرية". يرى كابرال أن الثقافة مصدرٌ للمقاومة والكرامة الهائلة للشعب، حتى في غياب الثورات السياسية والعسكرية. وهذا يختلف اختلافًا جذريًا عن نظرة فانون المتشائمة القائلة بأن "الأسود ليس إنسانًا" وتقييمه الشهير بأن السود يعيشون في "منطقة من اللاوجود" - وهي حالة لا يمكن التغلب عليها إلا من خلال الاعتراف المتبادل الذي يتحقق من خلال التأكيد (العنيف) على الذات. بالطبع، يُحدد فانون إمكانية الاستقلال الوطني في القمع الثقافي للشعب، لكنه يفعل ذلك مُدركًا أن هذا القهر قد أكمل تقريبًا هدفه المتمثل في الهيمنة الثقافية. بالنسبة لكابرال، كان "الطابع الراسخ للمقاومة الثقافية للجماهير" هو ما يُحفز التمرد، وليس حجة فانون القائلة بأن "الاستغلال والفقر والمجاعة المتفشية تُجبر المُستعمَرين بشكل متزايد على التمرد المُنظم والمفتوح". كان لهذا الاختلاف بين كابرال وفانون فيما يتعلق بالعلاقة بين الثقافة الشعبية وظهور حركة التحرير آثار على تحليل كابرال لتطور الثقافة الوطنية أيضًا. على الرغم من أن التطور العام من الثقافة إلى الوعي الوطني إلى الثورة/الثقافة الوطنية كان مُتشابهًا بين كابرال وفانون، إلا أن عمل كابرال أولى أهمية أكبر لطبيعة الثقافة الشعبية الراسخة. علاوة على ذلك، رادف كابرال الثقافة مع إرادة الجماهير دون التأكيد على طابعها الثوري الصريح. ويمكن رؤية فهم كابرال الفريد لكيفية ظهور الثقافة الوطنية في هذا التشبيه الزهري من "التحرر الوطني والثقافة" الذي طرح فيه علاقة أكثر جدلية بين الثقافة والتاريخ مما اقترحه فانون. فقد زعم أن الثقافة نتاج التاريخ "كما أن الزهرة نتاج النبات. ومثل التاريخ، أو لأنها تاريخ، فإن الثقافة تتخذ قوى الإنتاج ووسائل الإنتاج أساسًا ماديًا لها". أي أن الثقافة تنبثق من ظروفها الاجتماعية، سواء أكانت ثورية أم لا. وذهب كابرال إلى أبعد من ذلك: "كما هو الحال مع الزهرة في النبات، ففي الثقافة تجد القدرة (أو المسؤولية) على إنتاج وتخصيب البذرة التي تضمن استمرارية التاريخ...". وهنا، بدا وكأنه يزعم أن الأحداث التاريخية تُعاد إنتاجها وتدعمها الثقافة. وهكذا، يتسم إطار كابرال بالدورية إلى حد ما: "الكفاح المسلح ليس مجرد حقيقة ثقافية، بل هو أيضًا باني للثقافة". ومع ذلك، لا يزال هناك مسار لا يمكن إنكاره في قائمة كابرال النهائية للأهداف، بدءًا من "تطوير ثقافة شعبية وجميع القيم الثقافية الأصلية الإيجابية" إلى "تطوير ثقافة وطنية قائمة على تاريخ وإنجازات الكفاح نفسه"، وأخيرًا إلى "ثقافة عالمية من أجل... تعزيز مستمر وشامل لمشاعر الإنسانية والتضامن والاحترام والتفاني النزيه للبشر". ومع ذلك، كان هذا المسار بالنسبة لكابرال دوريًا - العودة باستمرار إلى الثقافة الشعبية ومعتقدات الجماهير من أجل التجديد حتى مع تقدم التاريخ نحو عملية إنهاء الاستعمار. بعبارة أخرى، بالنسبة لكابرال، كانت الثقافة الفنية والتقليدية للجماهير بمثابة محرك المشاركة الشعبية في الثورة، بينما كانت تدفعها تلك الانتفاضة في الوقت نفسه. تجلّت فكرة أن تعكس التحف الثقافية الثورة وتشجعها في أعمال فانون، لكن فانون يرى أن هذه العلاقة لم تنشأ إلا بعد أن دفع الفساد المادي المستعمَرين إلى الثورة؛ وأن وجود ثقافة شعبية ديناميكية ذات إمكانات تحررية قبل ثورتهم، وأن تكون سببًا ضروريًا لتلك الأحداث، هو صياغةٌ من منظور كابرال. كما أوضح تعليق ناندي على كابرال وفانون، فإن هذه الفروق الدقيقة بين تقييمي كابرال وفانون للثقافة نشأت من اختلاف مواقفهما ووجهات نظرهما حول الإمكانيات السياسية. وتشمل بعض هذه الإمكانيات والمواقف اختلاف وجهات النظر حول ثقافة المستعمِر ودورها في التغيير الاجتماعي، والتضامن بين الجماعات المستعمَرة، وقوة الثقافة في خلق إمكانيات نفسية وسياسية جديدة تهدد النظام العالمي للمستعمِر. هنا، مع ذلك، ما يستحق الملاحظة في عمل كابرال هو كيفية اختلاف تعريف الثقافة عن تعريف فانون نتيجةً لاختلاف افتراضاتهما السياسية. لم يكن لدى فانون ثقة تُذكر في الثقافة الشعبية للجماهير ما لم تكن مصحوبة بنضال وطني أو مُقادة. في الواقع، شكك فانون في وجود الثقافة (وبالتالي إنسانية المستعمَرين) خلال فترة الاستعمار حتى توحد الشعب وبدأ النضال. لم يشارك كابرال هذا التشاؤم، بل جادل بأن الجماهير "لا تكف عن مقاومة القوة الاستعمارية" حتى في غياب التمرد العنيف، وتفعل ذلك "بالحفاظ على ثقافتها وهويتها" وبالتالي "الحفاظ على الشعور بكرامتها الفردية والجماعية سليمًا، على الرغم من المخاوف والإذلال والوحشية التي غالبًا ما تتعرض لها". بالنسبة لكابرال، حيث كان الأفراد مُستعمَرين، كانت هناك مقاومة. استمدت هذه المقاومة قوتها من الممارسات الثقافية الخالدة والراسخة. وبعبارة أخرى، فإن الشعب هو ثقافته، والعكس صحيح، فالأمة تعمل على صقل الثقافة وإصلاحها بدلاً من صنعها من جديد أو إعادة صنعها من جديد.

الثقافة كأداة للتخريب - ناندي وانتقاداته

تناولت الأقسام السابقة تصورات فانون وكابرال للثقافة. رأى فانون أن الثقافة (وبالتالي، تقدير الشعب لذاته) لا تظهر إلا مع طرد الأرواح الشريرة الذي يوفره النضال من أجل التحرير الوطني. انبثق هذا الطرح من افتراض فانون أنه في الإطار الاستعماري، لا يمكن اعتبار المستعمَرين أشخاصًا كاملين. ويرجع ذلك، في رأيه، إلى أن نزع الإنسانية الذي أحدثه الاستعمار كان كاملاً. في غضون ذلك، شارك كابرال فانون في رؤية الثقافة بأنها تتطور ضمن مسار النضال ضد الاستعمار. ومع ذلك، لم يفترض أن الاستعمار قد نجح في إعادة صياغة المستعمَرين على أنهم وحوش. في الواقع، جادل كابرال بأن مثل هذه المهمات الاستعمارية تُفشل نفسها بنفسها، لأن ثقافة الشعب - تقاليده وممارساته - تُحافظ على قيمته الذاتية وكرامته حتى في مواجهة القمع الهائل. مع ذلك، اعتبر كابرال الثورة العنيفة غايةً، بل نتيجةً حتميةً، لتاريخٍ من الوحشية الاستعمارية. بالنسبة لكابرال، دعمت الثقافةُ المضطهدين وهدَّدتْهم بطريقةٍ لم يضعها فانون. مع ذلك، كانت الثورة العنيفة هي الغاية السياسية النهائية لكلا المؤلفين. من جانبه، سعى إطار ناندي إلى إعادة صياغة الافتراضات السياسية وتقديم أساليب عيش بديلة للنموذج الاستعماري. انتقد فانون بشدة، بينما قدّم قراءةً أكثر سخاءً لكابرال. فبينما نظر كلٌّ من فانون وكابرال إلى الثقافة كجزءٍ من ثورةٍ عنيفةٍ من أجل التحرير الوطني، جادل ناندي بأن الثقافة يمكن أن تُقدّم بدائلَ وأساليبَ مواجهةٍ أفضلَ للاستعمار مما يُمكن أن يُتيحه الصراع. يُقدّم كلا المفهومين نقاطًا صحيحة، ويُشيران معًا إلى أن التوتر بينهما ربما يكون أساسيًا لمقارنة جهود إنهاء الاستعمار. في كتاب "رومانسية الدولة"، قدّم ناندي ثلاثة تعريفاتٍ للثقافة. بالنسبة للأول والثاني، جادل ناندي بوجود معنيين رئيسيين للثقافة عادةً ما تستخدمهما الطبقات المتوسطة في مجتمعات العالم الثالث. الأول هو أن التحف الثقافية هي "تعبير عام ملموس ومُجمّع ومميز عن الذات الفنية للمجتمع". قد يشير هذا التعريف إلى أمثلة مثل الحفلات الموسيقية ومعارض المتاحف وغيرها من العروض العامة التي تُعبّر فيها الثقافة عن نفسها بوسيلة فنية مميزة. بالنسبة لناندي، فإن هذا النهج "فصل الثقافة أولاً عن الحياة اليومية ونظر إليها كشكل من أشكال التثقيف أو الترفيه أو كمجموعة من الأشكال التعبيرية الجادة". بعبارة أخرى، في هذا المفهوم، يجب أن يُستخلص المنتج الثقافي من التجربة اليومية في شكل فني. ثم "يعاد دمجها في الحياة اليومية على أساس مجموعة جديدة من المبررات مثل الدور الأخلاقي للفن في الأدب الفيكتوري أو التركيز على الواقعية في تصوير حياة الفلاحين في "نثر القرية" للفن السوفيتي". يكمن مفتاح هذا النهج في التمييز بين الثقافة والعادات والتقاليد التي تشكلها. وعلى حد تعبير ناندي، "تفصل هذه الحدود تلقائيًا تقريبًا الجوانب النقدية للثقافة عن أسلوب الحياة الذي يدعمها. وهي مبنية على افتراض أن... الفن نفسه ليس بطبيعته نقدًا اجتماعيًا أو شكلًا بديلًا للواقعية. يجب استخدامه على هذا النحو". يتطلب هذا التوجه من فنان واعٍ بذاته أو واعيًا سياسيًا تحويل التقاليد والعادات إلى تعليق سياسي - يجب تفسير الثقافة من خلال التحف الفنية من أجل الاضطلاع بدور اجتماعي. تعريف ناندي الأول للثقافة قريبٌ جدًا من تعريف فانون. هذا النهج القائم على "الثقافة كمورد" يجعل من المثقف الحضري فاعلًا محوريًا، أي البرجوازي، الذي تستطيع قدراته النقدية حشد الثقافة بتحويلها إلى تعبير فني واعي سياسيًا. لاحظ ناندي أن أتباع هذا النهج ينكرون التقاليد والعادات التي تُعتبر "منابع إبداعهم الخاص" بافتراض أن الثقافة بحاجة إلى تفسير سياسي - أي أنها ليست سياسية بطبيعتها. في هذا الصدد، من المفيد استحضار إشادة فانون بعمل فوديبا: "لقد أعاد تفسير جميع الصور الإيقاعية لبلاده من منظور ثوري... دعوة حقيقية لنا للتفكير في إزالة الغموض والنضال". بالنسبة لفانون، كان على فوديبا (الفنان) "تفسير" الثقافة المحيطة به إلى شيء "ثوري"؛ أي شيء مفيد. ركّز فانون على محتوى قصيدة فوديبا الصريح ومواضيعها السياسية، لا على المعايير الثقافية التي شكلت مادته الأصلية. وباستخدام لغة الجماليات، يمكن القول إن فانون كان مهتمًا بالمحتوى الثوري لفوديبا، لا بصيغته الثقافية. سيشير تحليل ناندي إلى أن قصيدة فوديبا، كما قدّمها فانون، كانت غربية في بنيتها - فالعناصر الأفريقية الفريدة (الغينية في هذه الحالة) للعمل نُقلت إلى جمل بين قوسين:(موسيقى كورا) وأخيرًا، في أحد الأيام، وصلت رسالة من نعمان إلى القرية، إلى عنوان كاديا. كانت قلقة بشأن ما يحدث لزوجها، ولذلك جاءت في الليلة نفسها، بعد ساعات من المشي المُرهق، إلى عاصمة المقاطعة، حيث قرأ عليها مترجم الرسالة. كان نعمان في شمال أفريقيا؛ أما تاي فكانت بخير، فسأل عن أخبار الحصاد، والولائم، والنهر، والرقصات، وشجرة المجلس... في الواقع، عن أخبار القرية بأكملها.(موسيقى بالافو) في تلك الليلة، كرمت عجائز القرية كاديا بالسماح لها بالدخول إلى فناء أكبرهن سنًا والاستماع إلى الحديث الذي كان يدور بينهن كل ليلة. فرح شيخ القرية بسماع خبر نعمان، فأقام وليمة كبيرة لجميع متسولي الحي.(موسيقى بالافو) بالنسبة لناندي، أغفل هذا النهج كيف يمكن للعناصر الثقافية في العمل أن تُقوّض المعايير الغربية. يُقلّص تفسير فانون موسيقى الكورا والبلافون (العناصر الغينية المميزة) إلى مجرد أفكار ثانوية - ما كان أساسيًا بالنسبة لفانون هو "المنظور الثوري" للقصيدة ومحتواها التاريخي ذي الصلة.  لقد أغفل كيف يمكن أن يكون تبني الكابراليين لهذه التقاليد عملاً تخريبيًا، بينما يُظهر في الوقت نفسه احترام الناس وكرامتهم ويحافظ عليهما، مُحتفيًا بتراثهم الثقافي الفريد في مواجهة جهود الاستيعاب المكثفة. مع أن ناندي اختار تحليل روايات ساراتشاندرا تشاتوبادياي، إلا أنه بدا وكأنه يرد على فوديبا عندما زعم أن روايات تشاتوبادياي، التي تبدو غير سياسية، "ربما كانت أقل وعيًا بالسياسة، لكنها أكثر تخريبًا... فهو لا يحاول أن يكون ناشطًا سياسيًا أو ذا أهمية اجتماعية؛ إنه يحاول فقط التعبير عن معاناة شعب محروم من صوته". بالنسبة لناندي، كان نهج فانون، الذي يرى الثقافة كمورد، غير مُرضٍ، لأنه أغفل الإمكانات المناهضة للاستعمار الكامنة في الشكل الفني، على الرغم من تكريسه الصريح للحركات السياسية المناهضة للاستعمار.  مع ذلك، لم يكن ناندي مؤيدًا للاحتفاء بالممارسات الثقافية المستقلة عن السياسة بشكل عام. وقد أدى هذا التوجه بطبيعة الحال إلى نهجه الثاني في الثقافة، "الثقافة كأسلوب حياة". ووفقًا لهذا المنظور، "تشير الثقافة إلى المبادئ المنظمة لأسلوب حياة أو تقاليد العيش الاجتماعي"، وتلتزم التزامًا وثيقًا بافتراضات الأنثروبولوجيا الغربية المتعلقة بالنسبية الثقافية. ووفقًا لهذا المفهوم، فإن الثقافات هي عادات وأنماط حياة لا أكثر - لا يمكن فهم مبادئها المنظمة وأحكامها الجمالية إلا داخليًا، ولا تتناول انتقادات أوسع أو تخريبًا للثقافات الأخرى. ويرى ناندي أن هذه النسبية "تميل إلى دعم الاعتقاد بأن الثقافات لا يمكن انتقادها إلا من الداخل"، وهو ما كان له فائدة في إضفاء الشرعية على ممارسات الثقافة، ولكنه استبعد إمكانية النقد والتخريب بين الثقافات - وهو جانب حاسم من جوانب نزعة إنهاء الاستعمار بالنسبة لناندي. في إطار استعماري، كانت القيم الثقافية المتضاربة تتصادم، وبالتالي، لا يمكن للنسبية إلا أن تُحيّد الطرق التي يمكن بها لثقافة المضطهدين أن تتحدّى الأطر الثقافية للمستعمر. وجادل ناندي بأنه ينبغي فهم الثقافات الأصلية في علاقتها بثقافات مستعمريها، وليس مجرد ظواهر معزولة عن التقاليد، لأن هذه الممارسات الثقافية تحديدًا هي التي تؤوي انتقادات الشعوب للنظام الاستعماري وتقدم بدائل لمستقبل خالٍ من الاستعمار. علاوة على ذلك، لاحظ ناندي أنه تاريخيًا، "غالبًا ما تزامن التركيز على الفئات الأصلية ومبدأ النسبية الثقافية مع محاولات تصنيف الثقافات إلى بدائية وحديثة، بسيطة ومعقدة، غير تاريخية وتاريخية، صغيرة وكبيرة، وهكذا دواليك". وبينما لا يُعد هذا عيبًا جوهريًا في النسبية، إلا أن النقطة المحورية التي طرحها ناندي كانت أن النسبية تغفل حقيقة أن التعبيرات الثقافية هي تأكيدات على القيم السياسية والضرورات الأخلاقية. إذا كان المنهج الأول للثقافة الذي وصفه قد بالغ في التركيز على المشاريع التحررية الصريحة في تصوره، فإن المنهج الثاني، في رأيه، كان غير سياسي على حساب المستعمَرين. أنتقل الآن إلى منهج ناندي الثالث للثقافة - الذي أيده. من هذا المنظور، كانت الثقافة "شكلاً من أشكال المقاومة السياسية، وهي في الوقت نفسه "اللغة" التي تُعبّر بها هذه المقاومة". أي أن تأكيد الثقافة الأصلية هو شكل من أشكال المقاومة، إذ إنه "احتجاج على الهيمنة السياسية، ووسيلة لتحدي شرعية الهيمنة، وتحدٍّ للغة الهيمنة". كيف كان هذا بالضبط حال ناندي؟ في رأيه، حول هذا النهج الحوار من المعايير الغربية للحداثة والعقلانية التي نصت ليس فقط على الممارسات المشروعة، ولكن أيضًا على الانتقادات التي يمكن اعتبارها كذلك. وكما اقترح ناندي: "ترفض الثقافة بهذا المعنى الثالث هذا الشرط والافتراض بأن الشكل المستقبلي لكل الوعي البشري قد تقرر مرة واحدة وإلى الأبد في أوروبا في القرن السابع عشر". بالمقارنة مع التحرير والإنسانية الجديدة التي قدمها فانون، قد يبدو هذا التحول في الافتراضات ضئيلاً. ومع ذلك، فقد وافق ناندي صراحةً وجهة نظر كابرال مع نهج الثقافة كمقاومة، وكتب أن كابرال ينتمي إلى "مجموعة من المفكرين والناشطين ذوي الحساسية السياسية [الذين] شكلوا هذا المعنى للثقافة". في الواقع بالنسبة لناندي، كما هو الحال بالنسبة لكابرال، لم يكن هذا التحول في الافتراضات الثقافية والنفسية إنجازًا بسيطًا من جانب الثقافات غير الغربية. في موضع آخر، في كتاب "العدو الحميم"، زعم ناندي أن "العنف المطلق" للاستعمار يكمن في "خلقه ثقافةً تُغري المحكومين باستمرار بمواجهة حكامهم ضمن الحدود النفسية التي يفرضها هؤلاء". وبعبارةٍ عامية، هيأ الاستعمار رعاياه لكراهية اللاعبين (المستعمرين) وليس اللعبة (الذكورة المفرطة، العنف المنظم، الحكم المناهض للديمقراطية، التفكير الثنائي، العقلانية النيوتنية، إلخ). رأى ناندي أن قدرة الاستعمار على تحديد معالم المقاومة ليست مشكلة سياسية فحسب، بل هي مشكلة نفسية أيضًا، إذ يتم من خلالها تنشئة الأفراد أيديولوجيًا ليس فقط لقبول الهيمنة، بل أيضًا لمواجهتها بطرق محدودة يحددها مضطهديهم. كان هذا مصدر قلق رئيسي لناندي، وكذلك، من وجهة نظره، لكل من يسعى لإعادة تشكيل العالم. وكما أوضح ناندي، فإن الفهم النفسي والثقافي للاستعمار يجب أن يأخذ في الاعتبار "الآثار الثقافية والنفسية طويلة المدى للعنف والفقر والظلم - وهي آثار تستمر" حتى بعد زوال الجهاز الاستعماري الرسمي: وتعني المعاناة طويلة الأمد عمومًا أيضًا إرساء مبررات قوية للمعاناة في أذهان كل من الظالمين والمظلومين. جميع أساليب التكيف الاجتماعي المفيدة، والمعارضة الإبداعية، وأساليب البقاء، ومفاهيم المستقبل التي تنتقل من جيل إلى جيل، تتأثر بشدة بالطريقة التي عاشت بها مجموعات كبيرة من البشر وماتت بها، وكيف أُجبرت على العيش وأُجبرت على الموت. هذا يعني أن المضطهدين لا يستطيعون ببساطة إنكار ندوبهم. فالبشر يتكيفون مع ظروفهم القمعية، ويتأثرون بها حتمًا إلى حد ما. بهذا المعنى، قد يبدو ناندي متفقًا مع فانون؛ ففي الواقع، وجد فانون أن الاستعمار يُشكل المستعمَرين بشكل شبه كلي. ومع ذلك، فإن رأي ناندي القائل بأن أشكال المقاومة نفسها تُعرّف بالاستعمار دفعه إلى رفض العنف والثورة، مما وضعه في خلاف ليس فقط مع فانون، بل أيضًا مع كابرال. باختصار، قاده الإطار النفسي لناندي إلى التشكيك في الاستعمار ليس كمشكلة سياسية أو اقتصادية فحسب، بل كمشكلة نفسية وثقافية أيضًا. وكما لاحظ في خاتمته في "سيكولوجية الاستعمار"، فإن "الاستعمار هو في المقام الأول مسألة وعي، ويجب دحره في نهاية المطاف في عقول البشر". كان من وجهة نظره، أن تُكلل هذه "الهزيمة النهائية" بالانتصار في معركة الثقافة، التي تُحدد كيفية تصور البشر لعالمهم، وبالتالي كيفية تصورهم للحلول والبدائل. وبهذا المعنى، لم تكن رؤية ناندي، القائلة بأن الثقافات الأصلية قادرة على دفع أفكار المرء نحو أنماط مقاومة تتجاوز تلك القائمة على النماذج الاستعمارية، استسلامًا سلبيًا للهيمنة السياسية والاقتصادية للغرب. بل بالأحرى، كانت جهدًا لإنهاء الاستعمار في إطار تقدير تلك القوى. وبهذا المعنى، يمكن القول إن ناندي بعيد كل البعد عن كل من فانون وكابرال. ونتيجة لإعادة تعريف مؤهلات الفكر والنقد، سلّط نهج ناندي، القائم على اعتبار الثقافة مقاومة، الضوء على سياسات بديلة محددة ومفاهيم طوباوية تُجسّدها الثقافات الأصلية. في الواقع، استهدفت الأنظمة الاستعمارية الثقافات المُستعمَرة (والأصوات المُخربة داخل الدول المُستعمَرة) بالقمع تحديدًا لأنها قدّمت مثل هذه البدائل، مُهدّدةً بذلك التسلسل الهرمي المفروض للسلطة الاستعمارية. في مقال "نحو يوتوبيا العالم الثالث"، سرد ناندي صراحةً بعضًا من هذه البدائل، مُشيرًا إلى كيفية تحدّيها للأنماط السائدة في الفكر والثقافة الغربيين. ورغم أن المرء قد يتردد في افتراض ناندي المُوحّد بأن "جميع الحضارات تشترك في بعض القيم الأساسية" وخلطه بين الممارسات الأفريقية والآسيوية، إلا أن هدفه كان تحديد البدائل المُمكنة للنماذج الثقافية الغربية - إذ كان موقعها الجغرافي والاجتماعي والثقافي الدقيق (وما زال) ثانويًا في تحليله. عرض ناندي ست طرق قدّمت بها ثقافات العالم الثالث بدائل للفكر السياسي الغربي وأطره. تضمنت الطرق الأربع الأولى رفضًا للثنائيات الديكارتية، ولا سيما ثنائيات المضطهد/المضطهد، والجنسانية الذكورية/الأنثوية، والبلوغ/الطفولة، والعمل/اللعب. أما المثالان الأخيران من اليوتوبيا البديلة للعالم الثالث، فقد تضمنا رفضًا للمفاهيم الخطية والتقدمية للتاريخ والفردية النيوتنية أو الذرّية. تستحق كل هذه البدائل السياسية مقالاتها وكتبها الخاصة. ومع ذلك، ولأغراض هذه المقالة، فإن ما هو حاسم هو أن ناندي كان محددًا بشأن بعض البدائل السياسية المتاحة لجهود إنهاء الاستعمار، وأن مفهومه لأدوار الثقافة كان حاسمًا في تصورها. بالنسبة لناندي، لم تكن الثقافة نتاجًا للتحرر الوطني، بل كانت أيضًا أكثر من مجرد مصدر للتحرر الوطني. بل اعتبر الثقافة تعبيرًا عن الوعي. وهكذا، فقد وضع حدودًا لما قد يتخيله الأفراد، وفتح بالتالي مساراتٍ يمكن من خلالها لتلك الشعوب تأييد الظلم، أو الأهم من ذلك، مقاومته. في القسم الختامي، أوجز كيفية مقارنة التداعيات السياسية لعمل ناندي بتلك التي طرحها فانون، وبدرجة أقل كابرال.

 الخاتمة - الثورة في مواجهة الثقافة

لقد درستُ عن كثب أعمال فانون وكابرال وناندي، لأُظهر كيف فهم هؤلاء المؤلفون دور الثقافة في إنهاء الاستعمار. ومع وضوح أوجه الاختلاف والتشابه بين أعمال فانون وكابرال وناندي، أعود إلى نقد ناندي لفانون: يبدو الدور التطهيري الذي يمنحه فرانز فانون للعنف في رؤيته لمجتمع ما بعد الاستعمار غريبًا جدًا على العديد من الأفارقة والآسيويين، ويرجع ذلك أساسًا إلى عدم حساسيته لهذه المقاومة الثقافية [لفكرة وجود حدود واضحة بين المستعمِر والمستعمَر، والمعتدي والضحية]. يُقرّ فانون بتدجين الظالم. لكنه يدعو إلى طرد الأرواح الشريرة، حيث يتعين مواجهة الشبح الخارجي بالعنف، لأنه يحمل عبء الشبح الداخلي. يرى فانون أن العنف الخارجي هو الوسيلة الوحيدة للانفصال المؤلم عن جزء من الذات. لو كان فانون أكثر ثقة بثقافته، لأحس أن رؤيته تربط الضحية بثقافة القمع بشكل أعمق مما يمكن أن يفعله أي تعاون. إن القبول الثقافي لتقنية القمع الرئيسية في عصرنا، العنف المنظم، لا بد أن يزيد من تنشئة الضحايا على القيم الأساسية لمضطهديه. فبمجرد أن يُمنح العنف شرعية جوهرية، فإنه يحوّل الصراع بين رؤيتين للمجتمع البشري إلى صراع على السلطة والموارد بين مجموعتين تتشاركان في إطار القيم نفسه. ربما لو عاش فانون لفترة أطول، لاعترف بأن أسلوبه في طرد الأرواح الشريرة يكمن في إجابة جزئية على سؤالين حيويين حول السعي نحو التحرر في عصرنا، ألا وهما: لماذا لا تنتهي ديكتاتوريات البروليتاريا، ولماذا تلتهم الثورات أبناءها دائمًا. يرى ناندي أن معالجة فانون للثقافة دفعته إلى مواجهة المستعمر وفق شروطه الخاصة المتمثلة في ١) العنف المنظم، و٢) التشيؤ الذي ينقسم فيه العالم بدقة إلى ثنائية المستعمر والمستعمر، والمتميز والمضطهد، والمذنب المسيطر على الأرض، والضعيف الذي يرثها. يرى فانون أن الثقافة المنتجة والقيّمة لا يمكن أن توجد بمعزل عن التحرر الوطني. قبل اللحظة الثورية، كان تقييم فانون للحالة النفسية، وبالتالي الثقافية، للمستعمر تقييمًا عقيمًا؛ فالجماهير، على حد تعبيره في كتابه "نحو الثورة الأفريقية": "مُتَثَاقِفَة" و"مُفَكَّكَة" في آن واحد". لا تُقدِّم الثقافات القديمة أو التقليدية سوى القليل من حيث المستقبل السياسي، على الرغم من أن المبالغة في تقديرها قد تدفع الجماهير إلى الثورة، وبالتالي تُهيئ الظروف لظهور ثقافة وطنية منتجة. وهكذا، لم يستطع فانون - كما رأى ناندي - أن تقاليد الشعوب ثورية بحد ذاتها، وقادرة على تقديم رؤى عالمية بديلة لرؤى مستعمريها. ومن هنا جاء تقييم ناندي بأن فانون يفتقر إلى "الثقة" بالثقافة. وعلاوة على ذلك، يرى ناندي أن هذا الافتقار للثقة يعني أن أسلوب فانون في إنهاء الاستعمار محكوم عليه بإعادة خلق نظام العنف المنظم ذاته الذي سعى فانون إلى قلبه. ففي سعيه إلى محاربة المستعمرين باعتبارهم أندادًا لهم في ساحة العنف المنظم (ناهيك عن تبني الدولة القومية)، منح فانون الهيمنة "شرعية جوهرية"، وبالتالي ضمن أن تعكس المجتمعات المبنية على هذه النضالات العنف الذي أوصلها إلى هناك. ولهذا السبب استنتج ناندي أن "ديكتاتوريات البروليتاريا لا تنتهي أبدًا وأن الثورات تلتهم دائمًا أطفالها" لأنه في جوهره، كانت الثورة المطهرة التي دعا إليها فانون تمثل "إغراء مساواة الظالم بالعنف لاستعادة احترام الذات كمنافس داخل نفس النظام" وهكذا، نشأ انقسام سياسي حاد بين فانون، أحد أشهر دعاة الثورة في القرن العشرين، وناندي. إلا أن جوهر نقد ناندي يكمن في أن هذا الانقسام متأصل في الثقافة، وأن فانون لم يرَ الإمكانيات البديلة الكامنة في أساليب الحياة غير الاستعمارية. ولهذا السبب، أعرب عن أسفه لأن فانون "يُحوّل الصراع بين رؤيتين للمجتمع البشري إلى صراع على السلطة والموارد بين مجموعتين تتشاركان في إطار القيم نفسه". كان ناندي يهدف إلى خوض معركة بين الرؤى، صراعًا حول كيفية رؤية المجموعات للعالم وتنظيم المجتمعات في علاقاتها ببعضها البعض. وحذر ناندي من أنه بدون مراعاة البدائل الثقافية، سيُحكم على المُستعمَرين بنفس صراعات السلطة والهيمنة التي ناضلوا للتغلب عليها رغم نضالهم التحرري المزعوم.

كابرال، وإن كان أكثر سخاءً تجاه الإمكانيات التي تتيحها التقاليد الثقافية للجماهير، إلا أنه لم يتبع ناندي في هذه الاستنتاجات. عرّف كابرال، مثل فانون، مشروع التحرير الوطني بأنه مشروع حرب وثورة. ومع ذلك، تُظهر قراءة متأنية لكابرال أن ثقته الكبيرة بدور الثقافة والتقاليد تُهيئ في عمله مساحات لما يُمكن تسميته بسياسة أقرب إلى ناندي. خذ، على سبيل المثال، زعم كابرال أن "أفريقيا استطاعت أن تحظى بالاحترام لثقافتها" ليس رغم الاستعمار بل "بفضله"، وهو زعم بعيد كل البعد عن وصف فانون لكيفية النظر إلى الثقافات ما قبل الاستعمارية والاستعمارية في أفريقيا. إلا أن نبرة كابرال الأكثر صلةً كانت تجاه الكفاح الثوري المسلح، والتي وصفها بأنها "محزنة"، وعند حديثه عن نفسه، لاحظ: "لست من أشد المدافعين عن الكفاح المسلح. أنا شخصيًا واعي تمامًا للتضحيات التي يتطلبها". مع ذلك، ربما تبدو هذه الالتباسات باهتة مقارنةً بوصفه للهدف النهائي المتمثل في إنهاء الاستعمار، والذي لم يكن، بالنسبة له، إنسانًا جديدًا وثقافة جديدة فانونية، بل "تعبيرًا عن ثقافتنا... خميرة تُشير قبل كل شيء إلى ثقافة الشعب الذي حرر نفسه". أي احتفاءً بالثقافة التي كانت لدى الشعب بالفعل، تلك التي حملت مفاتيح مقاومته الحقيقية، بل و"إطاره التاريخي العام" البديل الذي أثبت أنه التحرير الحقيقي بمجرد انقشع دخان المدفع. هذا لا يعني أن كابرال انحاز إلى ناندي، ولا حتى أنه فرّق بين رأيي ناندي وفانون - فقد انحاز بشكل وثيق إلى رؤية فانون للثقافة رغم اختلافاتهما. بل إن ما كشفه هذا التحليل هو احتمال أن الثورة (وما تتطلبه من عنف وفكر ثنائي) تزداد تعقيدًا مع تزايد دور الثقافة المحوري في أطر إنهاء الاستعمار. كيف كان الثوريان اللذان تناولهما هذا المقال ليتفاعلا مع ناندي لو كانا على قيد الحياة اليوم؟ لا حاجة بنا لمشاطرة ناندي افتراضه بأن فانون كان سيغير أساليبه لو "عاش أطول". والأدهى من ذلك، أن أميلكار كابرال قُتل في النضال الذي ميّز حياته، ليصبح واحدًا من شهداء حروب الحرية الأفريقية. ومع ذلك، إذا كانت أعمالهما مؤشرًا، فإن إحدى الإجابات المباشرة على هذا السؤال هي إبراز أهمية السياق. لم يجد آشيس ناندي نفسه قط في ساحة حرب، ولم يواجه صدمة مرضى فانون ولا جروح رفاق كابرال. عاش فانون وكابرال في ظروف اضطرا فيها إلى اتخاذ خيارات، وكان ذلك غالبًا ما يتطلب الانحياز إلى أحد الجانبين. في مثل هذه الظروف، لا تُعدّ الحاجة إلى العدالة والاستجابة ملحة فحسب، بل ضرورية أيضًا. ربما لم يكن ناندي مُدركًا بما يكفي لقوة تلك الرغبة رغم تكوينه الفرويدي؛ أي الرغبة في إنهاء الاحتلال الاستعماري ووضع حدّ لقرون من الاستغلال والبؤس. في الواقع، افتتح ناندي كتاب "نحو يوتوبيا العالم الثالث" باعترافه بأن "نظرياته في الخلاص لا تُخلّص". ولكن ردًا على هذا الهدوء، يكاد المرء يسمع فانون وكابرال يصرخان: ماذا لو احتاج الناس إلى الإنقاذ؟ والأهم من ذلك، ماذا لو كُلّفنا بإنقاذهم؟ لم يُعالج ناندي هذه الأسئلة بشكل مُرضٍ حتى لو قبلنا تحليله للثقافة. قد يُختتم المرء بالتساؤل عن مدى تعرُّض الفهم الأكاديمي لأنظمة الهيمنة للخطر بسبب الحاجة المُلحة المُتصوَّرة للتحرر والعدالة، أو العكس. يطرح فانون وكابرال وناندي أسئلةً لا تزال ذات صلة بمهمة إنهاء الاستعمار في القرن الحادي والعشرين. هل يُمكن أن تُعمينا الحاجة إلى التحرر والتحرير وإنهاء الاستعمار عن فهمٍ أكثر دقةً لثقافاتنا وكيف يُشكِّلنا المجتمع؟ أم، على العكس من ذلك، هل ستُجمِّدنا الفهمات المُفرطة في الدقة/التجريد للعالم في مساراتنا وتمنعنا من محاولة تغيير العالم، وتدفعنا بدلاً من ذلك إلى التحليل الثقافي والنهضة على حساب الثورة؟ هذه أسئلةٌ مفتوحة. أين إذن يترك هذا التآلف بين فانون/كابرال/ناندي القراء؟ من ناحية، يُذكِّر فانون وكابرال الباحثين بأن الاحتفاء الثقافي لا يكفي لضمان توفير المواد والبنية التحتية الفعلية للبشر في الوقت الحاضر. يجب فهم فانون وكابرال من خلال احترام حقيقة أن آرائهما قد تشكلت بفعل الإلحاح الملحّ الذي رآه كل منهما للتغيير المادي. في الوقت نفسه، حذّر ناندي، شأنه شأن العديد من مفكري ما بعد الاستعمار في المنعطف النصي/الثقافي لثمانينيات القرن الماضي، من القيود الثقافية والنفسية لتبني مثل هذه الرؤية. بل إنه وجد في غضب فانون الثوري شرعنة ضمنية للعنف والتفكير الثنائي. مع ذلك، ربما أخفق ناندي في إدراك كيف أن مواقف فانون وكابرال مُلزمة بسياقها التاريخي. علاوة على ذلك، لم تُقدّم رؤية ناندي سوى القليل من العدالة المادية للمستعمَرين. هناك إذًا توتر بين السياسة الثورية والسياسة الثقافية، حيث يسعى كلٌّ منهما بطريقته الخاصة إلى عكس ظلم الاستعمار وآثاره. في السياق الحالي، حيث يبدو أن الكفاح المسلح العالمي لم يعد يلوح في الأفق، ولكن الآثار المهددة للحياة للاستعمار والرأسمالية لا تزال تُحدّد السياسة المعاصرة، يُترك للباحثين مهمة كشف تداعيات هذا التوتر الدائم بين السياسة الثورية والسياسة الثقافية. ولا يمكننا أن نبدأ في بناء سياسة ثورية متجددة ترفض ليس فقط حكم الدول الاستعمارية، بل أيضاً الأيديولوجيات والأساليب التي تحكم بها، إلا من خلال تقدير هذا الاحتكاك وإدراكه." لكن انى للثقافة ان تساهم في نقل الشعوب من الثورات الى الاستقرار؟

***

كاتب فلسفي

 

كيف يكون عيسى حيا جسدا في السماء؟ وما حكم المسلم الذي لا يؤمن بعودته؟

كثيرةٌ في تاريخ ثقافتنا العربية الإسلامية الإجابات الجاهزة التي تُحاصر، وتُعطّل العقل، وتمنحه بكثرة تداولها إحساسًا كاذبًا بالإنجاز المعرفي؛ فالإجابات الجاهزة التقليدية تسْكينيه تُعطي شعورا بالأمان لمجتمع قلقٍ مما حوله، فكلّ محاولة بحثية لتفكيك تلك الأجوبة المسكّنة، وإعادة النظر فيها يُهدد وجود المستكينين أنفسهم، ممّا يدفعهم إلى استخدام العنف، والتعامل مع الباحث المتسائل كعدو.. في الوقت الذي تُبنى فيه المعرفة على حرية السؤال الذي لا يعرف خطوطا حمراء.

ومن تلك الأسئلة المكبوتة ما يتصل بإعادة النظر في أجوبة عقائدية ارتدت ثوب المقدس، وهي أبعد ما تكون عنه، وإدخالها في بنية المقدّس يضرّ بالتجربة الإيمانية، فلا بديل لبناء إيمان قادر على الصمود عن إعادة النظر في تلك الأجوبة، دون أن تُتّهم كلّ محاولة للتفكير بأنّها تشكيك، ودون النظر إلى كل محاولة لنقد الفكر الديني بأنّها نقض وهدم للدين، فالتفكير سؤال متواصل دائم، فإذا توقف السؤال تجمّد الفكر، وحين يُحاصر السؤال يُقتل التجديد قبل أن يبدأ.

في أربعينيات القرن الماضي كانت الأجواء الثقافية والدينية أقل توترا، وأكثر استجابة لإعادة النظر في الإجابات المعلّبة المعدّة سلفا، ففي ١١ مايو سنة ١٩٤٢م وصل إلى مشيخة الأزهر سؤال من حضرة عبد الكريم خان بالقيادة العامة لجيوش الشرق الأوسط، جاء فيه: "هل عيسى حي أم ميّت في نظر القرآن الكريم والسنة؟ وما حُكم المسلم الذي يُنكر أنّه حي؟ وما حكم من لا يؤمن به إذا فرض أنه عاد إلى الدنيا مرة أخرى؟"

ولم تكن تلك المرة الأولى التي يُطرح فيها مثل هذا السؤال، فقبل ذلك بأربعين عاما، وصل إلي الشيخ محمد عبده سؤال من دولة تونس، جاء فيه "ما حالة سيدنا عيسى الآن؟ وأين جسمه من رُوحه؟ وما قولكم في آية "إني متوفيك ورافعك"؟ وإن كان حيّا يُرزق كما كان في الدنيا فمما يأتيه الغذاء الذي يحتاج إليه كل جسم حيواني، كما هي سنة الله في خلقه؟"

كانت إجابة الشيخ محمود شلتوت، والشيخ مصطفي المراغي، والشيخ عبد المتعال الصعيدي، ومن قبلهم الشيخ محمد عبده، ورشيد رضا على خلاف الإجابات المتداولة الشائعة في الثقافة الإسلامية، التي تُؤكد أن عيسى، عليه السلام، حي روحا وجسدا في السماء، وأنه سيعود مرة أخرى، دون أن يستوقف أصحابَ الإجابات الجاهزة المتداولة تناقضُ تلك الإجابات مع قول الله تعالي "وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ" [الأنبياء:٣٤]، بل حوّلوا إجاباتهم إلى مقدّس، فهي من ثوابت الدين التي حددها الإجماع، والنصوص القرآنية، والأخبار النبوية.

وهذا ما رفضه الإصلاحيون من شيوخ الأزهر، فلا إجماع عندهم سوى في الأحكام الشرعية العملية مثل صلاة النبي، أما الغيبيات من أشراط الساعة، وأمور الآخرة لا تثبت بإجماع؛ لأنّ المجمعين لا يعلمون الغيب، فكلامهم يعتمد على أخبار مسندة إلى النبي، صلي الله عليه وسلم، وهي، كسائر الأخبار، ينبغي أن نُخضعها متنا/ نصـّا، وسَنَدا/رواة للتدقيق والسؤال حول مدى صحة هذه الإخبار؟ هل هي قطعية الثبوت أم ظنية/احتمالية؟ وهل دلالتها على المعنى المتداول دلالة قطعية أم أنّ دلالتها ظنية/ احتمالية؟

إذا توقّفنا أمام سَنَد الإجماع الفزّاعة الأكثر استدعاء في الخطاب الديني التقليدي لإخراس العقل، فسنجد أنّ الشيوع والتداول لا يصنع إجماعا، ولا يُفيد ثبوتا، "فحياة عيسى عليه السلام جسدا وعودته ثانية" مختلف عليها قديما كما أشار إلى ذلك ابن حزم في كتابه "مراتب الإجماع"، والقاضي عياض في شرح مسلم، والسعد في شرح المقاصد، وعبارته في ذلك واضحة جلية في أنّ المسألة ظنية في ورودها ودلالتها! كذلك مختلف عليها حديثا كما أشار إلى ذلك شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت.

فميّز الشيخ محمد عبده في تفسيره بين طريقتين: "إحداهما: وهي المشهورة أنّه رفع بجسمه حيا، وأنه سينزل في آخر الزمان، فيحكم بين الناس بشريعتنا، ثم يتوفاه الله تعالى ... والطريقة الثانية أن الآية على ظاهرها، وأن التّوفي على معناه الظاهر المتبادر منه، وهو الإماتة العادية، وأن الرّفع يكون بعده، وهو رفع الروح". ثم يذكر "أن لأهل هذه الطريقة في أحاديث رفع عيسى ونزوله آخر الزمن تخريجين: أحدهما أنها آحاد تتعلق بأمر اعتقادي، والأمور الاعتقادية لا يُؤخذ فيها إلا بالقطعي، وليس في الباب حديث متواتر. وثانيهما: تأويل النزول" بنحو ما سبق نقله عن شرح السعد في كتابه المقاصد من كون المسألة ظنية في ورودها ودلالتها"!

ولم يختلف رأي شيخ الأزهر الشيخ مصطفى المراغي عن رأي إستاذه الإمام محمد عبده، فكان ردّه على السؤال الذي وصل الأزهر أنه "ليس في القرآن الكريم نصّ صريح قاطع على أن عيسى عليه السلام رفع بجسمه وروحه، وعلى أنّه حي الآن بجسمه وروحه. وقول الله سبحانه: "إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا" الظاهر منه أنه توفاه وأماته ثم رفعه، والظاهر من الرفع بعد الوفاة أنه رُفع درجات عند الله كما قال في إدريس عليه السلام: "ورفعناه مكانا عليا" وهذا الظاهر ذهب إليه بعض علماء المسلمين، فهو عند هؤلاء توفّاه الله وفاةً عاديةً، ثم رفع درجاته عنده، فهو حيّ حياة روحية كحياة الشهداء وحياة غيره من الأنبياء. لكنّ جمهور العلماء على أنّه رفعه بجسمه وروحه، فهو حي الآن بجسمه وروحه، وفسّروا الآية بهذا بناء على أحاديث وردتْ كان لها عندهم المقامُ الذي يسوغ تفسير القرآن بها" ثم قال فضيلته: "لكن هذه الأحاديث لم تبلغ درجة الأحاديث المتواترة التي تُوجب على المسلم عقيدة، والعقيدة لا تجب إلا بنصّ من القرآن أو بحديث متواتر"، ثم قال: وعلى ذلك فلا يجب على المسلم أن يعتقد أن عيسى، عليه السلام، حي بجسمه وروحه، والذي يخالف في ذلك لا يُعدّ كافرا في نظر الشريعة الإسلامية".

كذلك جاءت إجابة رشيد رضا في تفسير المنار، فبعد أن عرض لآيات وآراء المفسرين، لخّص كلامه "بأنه ليس في القرآن نص صريح في أن عيسى رُفع برُوحه وجسده إلى السماء، حيًّا حياة دنيوية بهما بحيث يحتاج بحسب سنن الله تعالى إلى غذاء، فيتوجه سؤال السائل عن غذائه، وليس فيه نص صريح بأنه ينزل من السماء". ثم تكلّم عن الأحاديث، وقال: إنّ هذه المسألة من المسائل الخلافية حتى بين المنقول عنهم رفع المسيح بروحه وجسده إلى السماء".

وبالعودة إلى القرآن الكريم فسنجد الآيات تتحدث صراحة عن وفاة عيسى عليه السلام، بقوله تعالى: "إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا" [آل عمران:٥٥]، وعلى لسان عيسى: "فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ" [المائدة:١١٧]، فالفعل "توفّي" في الآيتين لم يخرج عن معناه في القرآن الكريم،(1 ) الذي يتفق مع المدلول اللغوي للفعل "تَوفّي" وهو "أمات"، ذاك المعنى الذي يتبادر إلى الذهن عند سماع كلمة "توفي" من الإماتة العادية للجسد التي يعرفها الناس.. "ولا سبيل إلى القول بأنّ الوفاة هنا مرادٌ بها وفاة عيسى بعد نزوله من السماء بناء على زعْم مَن يرى أنه حيّ في السماء، وأنّه سينزل منها آخر الزمان؛ لأنّ الآية ظاهرةٌ في تحديد علاقته بقومه هو.. وليس بالقوم الذين يكونون آخر الزمان، وهم قوم محمد باتفاق لا قوم عيسى".

إذا كانت آيتا آل عمران، والمائدة صريحتين في موت عيسى، عليه السلام، فمن أين أتى القول بأنه حيّ جسدا لم يمت؟

أتى من ظاهر آية: "وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ، وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا" [النساء:١٥٨،١٥٧] فتبدأ إشكالية الاعتقاد بحياة عيسى جسدا عندما تُفسّر الآية بالأثر/ الخبر/ المرويّة، التي تحكي عن رفعه جسدا ونزوله بعد الدجال، وتلك الأخبار ضعّفها الشيخ محمود شلتوت لكونها:

"أولا: روايات مضطربة مختلفة في ألفاظها ومعانيها اختلافًا لا مجال معه للجمْع بينها؛ وقد نصّ على ذلك علماء الحديث. وهي فوق ذلك من رواية وهب بن عتبة، وكعب الأحبار، وهما من أهل الكتاب الذين اعتنقوا الإسلام، وقد عرفت درجتهما في الحديث عند علماء الجرح والتعديل.

وثانيا: كونها تعتمد على حديث مروي عن أبي هريرة اقتصر فيه على الإخبار بنزول عيسى؛ وإذا صحّ هذا الحديث فهو حديث آحاد. وقد أجمع العلماء على أن أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة، ولا يصحّ الاعتماد عليها في شأن المغيبات.

وثالثا: كونها تعتمد على ما جاء في حديث المعراج من أن محمداً، صلى الله عليه وسلم، حينما صعد إلى السماء، وأخذ يستفتحها واحدة بعد واحدة، فتفتح له، ويدخل، رأى عيسى، عليه السلام، هو وابن خالته يحي في السماء الثانية. ويكفينا في تَوْهِين هذا المستند ما قرره كثير من شرّاح الحديث في شأن المعراج، وفي شأن اجتماع محمد –صلى الله عليه وسلم– بالأنبياء، وأنه كان اجتماعا روحيا لا جسمانيا" [يُنظر فتح الباري وزاد المعاد وغيرهما].

ومن الطّريف أنّهم يستدلون على أن معنى الرّفع في الآية هو رفع عيسى بجسده إلى السماء بحديث المعراج بينما تَرى فريقا منهم يستدلّ على أن اجتماع محمد بعيسى في المعراج كان اجتماعا جسديا بقوله تعالى: "بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ" [النّساء:١٥٨]، وهكذا يتخذون الآية دليلا على ما يفهمونه من الحديث حين يكونون في تفسير الحديث، ويتخذون الحديث دليلا على ما يفهمونه من الآية حين يكونون في تفسير الآية! "إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ" [آل عمران:٥٥].

ويظلّ السؤال، إذا كان التفسير بالمأثور غير دقيق، فكيف يُمكننا أن نفهم آية سورة النساء "بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ"؟

يُمكننا أن نفهم آية سورة النساء بشكل جيد إذا وضعناها بجوار آية سورة آل عمران "إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ"، فالله أخبر بموت عيسى/ توفّيه أولا، ثم رفع مكانته ثانيا، فالرفع ليس للجسد، لأن الوفاة وقعت، وإنما رفع مكانة مثل إدريس في قوله "ورفعناه مكانا عليا"، ورفع ذكرٍ مثل محمد صلى في قوله "ورفعنا لك ذكرك" فبمثل هذه المعاني جاءت كلمة "رفع" في القرآن الكريم.

وقد فسّر الألوسي قوله تعالى: "إِنِّي مُتَوَفِّيكَ" بوجوهٍ منها، وهو أظهرها "إنّي مُستوفي أجلك ومميتك حتْف أنفك لا أسلط عليك من يقتلك؛ وهو كناية عن عصمته من الأعداء، وما هم بصدده من الفتك به عليه السلام؛ لأنه يلزم من استيفاء الله أجله، وموته حتف أنفه ذلك "وظاهر أن الرفع الذي يكون بعد التوفية هو رفع المكانة لا رفع الجسد خصوصا، وقد جاء بجانبه قوله: "ومطهرك من الذين كفروا" مما يدل على أن الأمر أمر تشريف وتكريم. وقد جاء الرفع في القرآن كثيرا بهذا المعنى: "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ". "نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ". "وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ". "وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا". "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ" إلخ... وإذن فالتعبير بقوله: "وَرَافِعُكَ إِلَيّ" وقوله: "بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ" كالتعبير في قولهم: "لحَق فلان بالرفيق الأعلى" وفي "إن الله معنا" وفي "عند مليك مقتدر" وكلها لا يفهم منها سوى معنى الرعاية والحفظ والدخول في الكنف المقدس. فمن أين أتوا بأنه رفع إلى السماء؟! من كلمة (إليه)؟! اللهم إن هذا لظلم للتعبير القرآني الواضح، في محاولة لإخضاع الآية لقصص وروايات لم يقم على الظنّ بها، فضلا عن اليقين برهان، ولا شبه برهان!

فمكرُ الكافرين بعيسى هو تآمرهم على اغتياله، ومكْرُ الله هو حفظه وعصمته له، فالله في قوله: "إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا". يبشّر عيسى بإنجائه من مكرهم، وأنّه سيستوفي أجله، وسيموت من غير قتل ولا صلب، ثم يرفعه الله إليه، وهذا هو ما يفهمه القارئ للآيات متى خلا ذهنه من تلك الروايات التي لا ينبغي أن تحكم في القرآن، ويُؤكد ذلك الشيخ محمود شلتوت بقوله: "ولست أدري كيف يكون إنقاذ عيسى بطريق انتزاعه من بينهم ورفعه بجسده إلى السماء مكرا؟ وكيف يُوصف بأنّه خير من مكرهم مع أنه شيء ليس في استطاعتهم أن يقاوموه، فهو شيء ليس في قدرة البشر! ألا إنه لا يتحقق مكر في مقابلة مكر إلا إذا كان جارياً على أسلوبه غير خارج عن مقتضى العادة فيه. وقد جاء مثل هذا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ".

وبمثل هذا الرأي قال الشيخ عبد المتعال الصعيدي ردّا على المختلفين مع الشيخ محمود شلتوت الذين يتمسّكون بقوله تعالى: "بل رفعه الله إليه" بعد قوله "وما قتلوه يقينا" فظنوا: أن الرفع بعد نفي القتل هو رفع الجسم حتما، وإلا لما تحققت المنافاة بين ما قبل "بل"، وما بعدها، فيردّ عليهم بأن "المنافاة متحققة؛ لأن الغرض من الرفع رفع المكانة، والدرجة بالحيلولة بينهم وبين الإيقاع به كما كانوا يريدون. والمعنى: إنّ الله عصمه منهم، فلم يُمكّنهم من قتله، بل أحبط مكرهم، وأنقذه، وتوفاه لأجله، فرفع بذلك مكانته، والآية بهذا تتّفق تماما مع ظاهر قوله تعالى: "إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا"، وهذا احتمال قوي في الآية يمنع الزعم بأنها نصّ أو ظاهر في رفعه بجسمه حيا".

ويقول الإمام الرازي في تفسيره "ومُطهِّرك": مخرجك من بينهم ومُفرّق بينك وبينهم. وكما عظّم شأنه بلفظ الرفع إليه أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهير، وكلّ ذلك يدلّ على المبالغة في إعلاء شأنه وتعظيم منزلته. ويختار في معنى قوله تعالى: "وجاعل الذين اتّبعوك فوق الذين كفروا"، القول الثاني: المراد من هذه "الفوقية" الفوقية بالحُجّة والبرهان". ثم يقول: واعلم أنّ هذه الآية تدل على أنّ رفعه في قوله "ورافُعك إِلَيّ" هو رفع الدرجة والمنقبة لا بالمكان والجهة، كما أن الفوقيّة في هذه الآية ليست بالمكان بل بالدرجة والرفعة"، فلذا لم نفكر فيها، وحسبنا الآن أن نُمثّل لهذا النوع بما قال أحدهم: "ولك أنْ تضم إلى ما ذكرناه قوله تعالى عنه عليه السلام "وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقرَّبين".

ففي قوله: "ومن المقرّبين" إشارةً إلى رفعه إلى محل الملائكة المقربين". والذي يُنكر على الشيخ شلتوت يُريد السماء طبعا، وهو لَيٌّ للكتاب غريب، فقد وردت كلمة "المقربين" في غير موضع من القرآن الكريم: "وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ". [سورة الواقعة:١١،١٠] "عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ". [المطففين:٢٨] "فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ". [الواقعة:٨٩،٨٨] إذن فليس عيسى وحده هو الذي يعيش بجسمه في السماء، بل معه أفواج من عباد الله يعيشون فيها، ويزداد عددهم يوما بعد يوم. وهكذا فليكن المنطق!

ويردّ على من يقول: بأن "وجيها في الدنيا والآخرة" فيها إشارة إلى رفع جسده إلى السماء؛ لأن الوجيه بمعنى ذي الجاه، ولا أدلّ على كونه ذا جاه في الدنيا من رفعه إلى السماء"، بأن هذا كلام لا يصح أن يُقال، فإنّ وجاهة عيسى في الدنيا هي الرسالة المؤيّدة بالمعجزات البينات، وأن يعلمه الله الكتاب، والحكمة، والتوراة، والإنجيل، وليس كونه رسولا إلى السماء التي يرغمون هذه الآية أن تدل على إفادتها أو الإشارة إليها، وكيف يكون وجيهًا في الدنيا مَن غادر الأرض وترك أهلها الذين يحسّون وجاهته؟! وهكذا ينتزع القوم من كل عبارة إشارة أو تلميحا؛ ليؤيّدوا ما زعموا أنه عقيدة يكفر منكرها"!

لم تنته اشتباكات الفكر الديني عند هذا الحدّ، فشهدت مجلة الرسالة في أعداد مايو ١٩٤٣ معركة فكرية بين الطّرح الإصلاحي العقلاني والتقليدي الإخباري حول آيتي "وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا". [النساء: ١٥٩] "وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ". [الزخرف: ٦١]

فقد ادّعت مدرسة الخبر أنّ الآيتين نصّان قاطعان على عودة المسيح الحيّ جسدا من السماء إلى الأرض، وهذا ما أكّدت المدرسة الإصلاحية عدم صحّته، فالآيتان مختلف في تأويلهما، تعددت آراء المفسرين قديما حول المراد منهما، لكن كعادة المدرسة الخبرية الحرفية تختار رأيا، وتُنكر وجود ما عداه، وبالتكرار والترديد يُصبح الرأي الذي اختارته دينا، تحكم بالكفر على مخالفه، "فالآية الأولى للمفسرين فيها آراء مختلفة، أشهرها رأيان:

الرأي الأول: أن الضميرين في "به" و"موته" لعيسى. والمعنى: ما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل أن يموت عيسى. قالوا: أخبرت هذه الآية أن أهل الكتاب سيؤمنون بعيسى قبل موته، وهم لم يؤمنوا به إلى الآن على الوجه الذي طُلب منهم، فلا بد أن يكون عيسى إلى الآن حيّاً، ولابد أن يتحقق هذا الإيمان به قبل موته، وذلك إنما يكون عند نزوله آخر الزمان.

الرأي الثاني: أن الضمير في "به" لعيسى، وفي "موته" للكتابيّ. والمعنى: أنه ما من أحدٍ من أهل الكتاب إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى، والإخبار بإيمان أهل الكتاب على هذا الوجه لا يتوقف على حياة عيسى الآن، ولا على نزوله في المستقبل، لأنّ المراد أنّهم يؤمنون عند معاينتهم الموت بأنّه نبي الله وابن أمَتِهِ.

وقد ساق هذين الرأيين ابن جرير الطبري في تفسيره، وذكَر الآثار التي تدلّ على كلّ منهما، مرجّحا الرأي الأول مما حكاه أهل المأثور، وهو ما تستدعيه المدرسة الإخبارية التقليدية عند الاستدلال بالآية، وكأن هذا الرأي، بترجيح ابن جرير، دليل قاطع على ما يزعمون من نزول عيسى، متجاهلين الرأي الثاني الذي رجّحه النووي والزمخشري والرازي وابن حجر في فتح الباري، بقوله: "ورجّح جماعة هذا المذهب، يريد الثاني، بقراءة أبي بن كعب: "إلا ليؤمنن به قبل موتهم" أي أهل الكتاب. قال النووي: معنى الآية على هذا: ليس من أهل الكتاب أحد يحضره الموت إلا آمن عند المعاينة قبل خروج روحه بعيسى، وأنه عبد الله وابن أمته، ولكن لا ينفعه هذا الإيمان في تلك الحالة كما قال تعالى: "وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ".[النساء:١٨] ثم قال: وهذا المذهب، أظهر لأنّ الأول يخص الكتابيّ الذي يدرك نزول عيسى، وظاهر القرآن عمومه في كلّ كتابيّ في زمن نزول عيسى وقبله".

وهذا ما استدلّ به الشيخ محمود شلتوت على ما يلي:

"١- أن هذه الآية ليست نصا في معنى واحد حتى تكون دليلا قاطعا فيه.

٢- أن ما تمسّك به ابن جرير في ترجيحه للرأي الأول غير مُسلّم له، فقد بناه على أن المراد بالإيمان في الآية هو الإيمان المعتبر الذي ينفع صاحبه، وتترتب عليه الأحكام، مع أنه إيمان، كما قرره العلماء، ومنهم ابن جرير نفسه، لا يُعتدّ به، ولا يُقام له وزن، ولا تترتب عليه أحكام؛ لأنه إيمان جاء في غير وقته.

٣- أن من ينظر فيما تمسّك به أصحاب المذهب الثاني: من العموم الواضح في قوله: "وإن من أهل الكتاب" ومن قراءة أُبَيّ "إلا ليؤمنن به قبل موتهم"، ومن أن إيمان المعاينة لا ينفع صاحبه عند الجميع، لا يسعه إلا أن يخالف ابن جرير فيما ذهب إليه، وأن يقول مع النووي عن المذهب الثاني: "وهذا المذهب أظهر".

والنتيجة الحتمية لهذا كله أن الآية ليست ظاهرة فيما يقتضي نزول عيسى فضلا عن أن تكون قاطعة فيه!

أما الآية الثانية "وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ" فللمفسرين فيها آراء مختلفة، منها: أن الضمير في قوله تعالى: "وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ للسَّاعَةِ" راجع إلى محمد، صلى الله عليه وسلم، أو إلى القرآن، وهذا ما استبعده الشيخ شلتوت مرجحا أن الضمير راجع إلى عيسى، كما يراه كثير من المفسرين؛ وذلك لأن الحديث في الآيات السابقة كان عن عيسى، لكن يختلف معهم في أدّعاء أن للآية تأويل واحد وهو نزول عيسى قبل الساعة/ يوم القيامة كعلامة من علاماتها، فالواقع أن في الآية، كما جاء في تفسير أبي السعود ثلاثة أقوال:  الأول: أنه بنزوله آخر الزمان علامة من علامات الساعة. الثاني: أنه بحدوثه من غير أب دليل على إمكان الساعة. الثالث: أنه بإحيائه الموتى دليل على إمكان البعث والنشور.

فالآية ذات دلالات احتمالية، وليست نصا قطعي الدلالة، وأن الرأي الأول المتداول في ثقافتنا يُرجح شيخ الأزهر محمود شلتوت بأنه ليس الرأي الراجح، فيرى أن القول الثاني الأرجح، وهو "أن عيسى بحدوثه من غير أب دليل على إمكان الساعة" معتمدا في هذا الترجيح على ما يأتي:

١- إن الكلام مسوق لأهل مكة الذين يُنكرون البعث، ويعجبون من حديثه، وقد عني القرآن الكريم في كثير من آياته وسوره بالردّ عليهم واقتلاع الشكّ من قلوبهم. وطريقته في ذلك أن يلفت أنظارهم إلى الأشياء التي يشاهدونها فعلا أو يؤمنون بها "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ".[الحج:٥] "فَانظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ". [الروم:٥٠] وقد عرضت سورة الزخرف التي وردت فيها هذه الآية إلى هذا المعنى في أولها "وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ" [الزخرف:١١]

وهذه هي الطريقة المستقيمة المنتجة في الاستدلال المقتلعة للشكّ، أما أن يلفت أنظارهم إلى أشياء يخبرهم هو بها كنزول عيسى، وهي أيضا في موضع الشكّ عندهم، ويطلب منهم أن يقتلعوا بهذه الأشياء ما في قلوبهم من شكّ، فذلك طريق غير مستقيم؛ لأنه استدلال على شىء في موضع الإنكار بشيء، هو كذلك، في موضع الإنكار!

٢- ومما يؤيد هذا قول الله تعالى تفريعا على أن عيسى علم للساعة: "فلا تمترنّ بها" فإنّه يدلّ على أنّ الكلام مع قوم يشكّون في نفس الساعة، والعلامة إنّما تكون لمن آمن بها، وصدق أنها آنية لا ريب فيها؛ أما الذي يُنكر وقوعها، أو يشكّ فيها، فهو ليس بحاجة إلى أن يتحدث معه عن علامتها، بل لا يصح أن يتحدث في ذلك معه، وإنما هو بحاجة إلى دليل يحمله على الإيمان بها أولا؛ ليُمكن أن يقال له بعد ذلك: هذا الذي آمنت به علامته كذا.

٣- ثم إنه من الأصول المقررة في فهم أساليب اللغة العربية أن الحكم إذا أسند في اللفظ إلى الذات، ولم تصح إرادتها معنى، قدر في الكلام ما كان أقرب إلى الذات وأشد اتصالا بها. فإذا طبقنا هذه القاعدة على قوله تعالى: "وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ للسَّاعَةِ" وعلمنا أن ذات عيسى من حيث هي لا يصح أن تكون مرادة هنا، وإنه لا بد من تقدير في الكلام، ثم وازنّا بين النزول، والخلق من غير أب، وإحياء الموتى، فلا شك أننا نجد الخلق من غير أب أقرب هذه الثلاثة إلى الذات، لأنه راجع إلى إنشائه وتكوينه لا إلى شيء عارض له، وحينئذ يتعين الحمل عليه ويكون معنى الآية الكريمة: "لا تشكوا في الساعة، فإن الذي قدر على خلق عيسى من غير أب قادر عليها".

وبهذا يتبين:

أولا: أن الإخبار بنزول عيسى لا يصلح دليلا على الساعة يقتلع به ما في نفوس المنكرين لها من شكّ، ويصحّ أن يقال عقبه "فلا تمترن بها".

وثانيا: أن جعل عيسى بنزوله آخر الزمان علامة من علامات الساعة لا يستقيم هنا؛ لأن الحديث مع قوم منكرين للساعة فهم بحاجة إلى دليل عليها، لا مع قوم مؤمنين بها حتى تذكر لهم علاماتها.

وثالثا: أن أقرب ما تحمل عليه الآية هو المعنى الثاني الذي بيناه.

ولا شكّ أنّ القارئ المنصف بعد هذا العرض لا يخامره شكّ في أنه ليس في القرآن الكريم ما يفيد بظاهره غلبة ظن بنزول عيسى أو رفعه فضلا عما يفيد القطع الذي يكون العقيدة، ويكفر منكره كما يزعمون".

فالخلاصة، أن العلماء قديما وحديثا قرروا أن مسألة حياة عيسى وعودته مسألة خلافية في الإسلام، وأن الآيات المتصلة به ظاهرة في موته عليه السلام موتا عاديا، وأن الأحاديث الواردة فيها أحاديث آحاد لا تُثبت عقيدة، وهي مع هذا تحتمل التأويل، وأنّه لا تكفير لمسلم بإنكار رفع المسيح جسدا أو نزوله آخر الزمان؛ لإنه لم يثبت بدليل قطعي، فلا يخرج المنكر عن إسلامه وإيمانه، فالقرآن الكريم وإن كان كلّه قطعي في وروده، إلا أنّه، في إفادته للمعني، نوعان: قطعي لا يحتمل التأويل، وغير قطعي يحتمل معنيين فأكثر، وأن هذين النوعين قد وُجدا في العلميات والعمليات، وأن النوع الثاني لا يصلح أن يُتخذ دليلا على عقيدة يحكم على منكرها بأنّه قد كفر.

هذه المعالجة لتلك القضية، وإعادة النظر في المتداول حولها، وعدم التسليم للإجابات الجاهزة يُمثّل نموذجا للأصوات الإصلاحية التي قدّمت طرحا عقلانيا، وحوار علميا راقيا في شجاعة وجرأة، لم تُغازل مشاعر العامة، ولم تُميّع الأفكار استرضاء لمخالفين وتخوفا من غاضبين، تحرّوا التقوى المعرفية في بحث القضية، منطلقين من إنجازات المدرسة العقلانية القديمة، فهدموا فكرة المخلّص المنتظر، تلك الفكرة التي تنال من أيّ مشروع إصلاحي، فالإصلاحيون يرون الخلاص ليس في انتظار مجدد أو مخلّص وإنما في وعي جماعي نقدي يقوم على الجمع بين الإيمان كتجربة روحية فردية وإعمال العقل النقدي في دراسة الفكر الديني.

***

أ.د. عبد الباسط سلامه هيكل

..................

(1) "قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ" [السجدة:١١]، إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ" [النساء:٩٧]، "لَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ" [الأنفال:٥٠]، "تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا" [الأنعام:٦١]، "وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى" [الحج:٥]، "حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ" [النساء:١٥]، "تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ" [يوسف:١٠١].

(لا يتم عمل شيء عظيم بدون شغف).. رالف والدو ايمرسون

تستمد المقالة الفلسفية منطقها الداخلي وأهميتها، ليس من مرسوم تعسفي تفرضه الوصاية، بل من المنهجية الخاصة بها فعندما نقوم بالتحليل، والاستدلال، والنقد. يجب ان ندرك ان هذه الطريقة تخضع لضرورة داخلية وليست لسلطة خارجية. ومن ثم، فمن غير المجدي أن نأمل في إتقان تقنيات كتابة المقالة الفلسفية إذا لم نفهم سبب وجودها، والذي هو منقوش في طريقة التفكير الفلسفية، ذلك ان المقالة الفلسفية مرآة عاكسة للمتطلبات النظرية والتأملية لفعل التفلسف، الذي يهدف إلى تقديم الأفكار وتحليلها بأقصى قدر من الدقة والكمال عندما نواجه المشكلات الفلسفية. إن الاهتمام بغرس المنهجية الصحيحة للكتابة الفلسفية يتجاوز الطموح النفعي إلى حد كبير لأنها تستهدف تحويل التأمل التلقائي إلى تفكير فلسفي منظم. من خلال ممارسة تمارين الفلسفة.

ومن السذاجة حقا ان يعتقد الأستاذ او التلميذ أنه لا يوجد، لأي تمرين فلسفي- حتى داخل ما يسمى المقالة الجدلية- سوى طريقة واحدة فقط، والتطبيق الأعمى والميكانيكي لها من شأنه أن يضمن النجاح المعصوم من الخطأ، مما يُعفي الطالب من أي جهدٍ للابتكار والتكيّف عندما يجد نفسه أمام تمرينٍ فلسفي مكرر مباشر ومتوقع. هذا السلوك العنيف يتنافى مع التفكير الفلسفي الحر انه فعل خاطئ ولا مرغوب فيه، لأنه يُعيق الذكاء ويقتل الابداع.

ولكن هل كتابة مقالة فلسفية من طرف التلميذ تمرين قابل للتنفيذ؟ ولماذا تفشل العديد من المقالات الفلسفية في الحصول على التميز؟ هل يمكن للطالب بناء مقالة فلسفية "ناجحة" "مثالية" أو "كاملة"؟ هل يمكن ان توجد مربعات فارغة يمكن ان تملئ بالإجابة الصحيحة؟ هل قمنا إذن بزراعة، على مدى أجيال، نوعًا من الكتابة مستحيلًا، وإذا كان هذا النوع يتجاوز قدرات التلاميذ فلتكن لنا الشجاعة لإعلانه كنوع عتيق عفا عليه الزمن؟ ولماذا نقارن المقالة الفلسفية بتمارين مدرسية أخرى، مختلفة جذريًا، عن الفلسفة؟ وإذا كانت المقالة الفلسفية ليست ما نلمسه في الواقع. فما هي إذن؟

من المؤكد أن التدريس الفلسفي اليوم يتعرض، أكثر من غيره، لصعوبات خاصة، مما قد يسبب الإحباط أو الشعور باللاجدوى لدى من ينوي دراسته والطلاب يعرفون ذلك، على أية حال، فإنهم قد مروا بالفعل بهذه التجربة الكئيبة منذ السنة الثانية من التعليم الثانوي (درجات منخفضة، تقدم ضئيل، وانطباع بأن الاساتذة قساة للغاية في بعض الأحيان). النتيجة: خيبة الأمل، والتعب، وعدم الفهم.

يجب التأكيد على أن المقالة الفلسفية تمرين ممكن، وبالتالي يمكن تحقيقه؛ لأنها عبارة عن تمرين مدرسي، فيجب أن تكون قابلة للتحقيق. لو كان الأمر بخلاف ذلك، فلن يكون تمرينًا على الإطلاق. سنوضح كيف، ولماذا، وبأي تكلفة يمكننا أن نكتب مقالة فلسفية. إنها في الواقع تمرين فلسفي بامتياز. لا يوجد مكان أفضل لممارسة أفكارك حول موضوع محدد، وتحليل وإنتاج المفاهيم من خلال التعبير عنها أفضل من كتابة مقالة فلسفية.

يجب علينا تجاوز هذا العوائق وأكبر عائق يكمن في أذهاننا: فنحن نستحضر، بطريقة خيالية، النموذج، والفكرة، والمثل الأعلى للمقالة الفلسفية، من أجل محاولة جعل العمل المنتج يتوافق معها بأي ثمن. بدل البحث عن نماذج مبتكرة للكتابة الفلسفية ممكنة التحقق، تستجيب للأسئلة والاهتمامات الوجودية، وفي نفس الوقت تحترم القناعات والقيم الشخصية نماذج تحررنا من قيود العرف وتوسع خيالنا. فالفلسفة منذ نشأتها، قدمت نفسها كنشاط عقلي يتطلب منا تعليق آرائنا المباشرة، وأن نبقي أنفسنا بعيدًا عن المناقشات العفوية. وإذا كانت المقالة مجرد تمرين مدرسي، فيجب أن تتوافق مع القدرات الحقيقية للطلاب.

لقد فرضت الفلسفة نفسها عبر التاريخ كطريقة للانحراف عن الملموس، عن المعيش، عن التجربة الذاتية الساذجة، من أجل تزويدنا بالوسائل والمنهجية الصحيحة لتأسيس أفكارنا، وصياغة أسئلة واضحة، وتطوير التفكير النقدي، واستكشاف التصورات المشتركة المختلفة الممكنة للأفكار، في اتصال مع المعرفة الموسعة والثرية.

إن تعلم الفلسفة يتطلب صبراً أعظم كلما بدأ الشخص الأصغر سناً في القيام بذلك، أي في سن الحماس. وهذا ما أشار اليه أفلاطون بالفعل في كتابه الجمهورية: "أعتقد أنك لاحظت أن المراهقين الذين تذوقوا الجدلية ذات يوم يسيئون استخدامها ويجعلونها لعبة، وأنهم يستخدمونها فقط للتناقض، وأنهم مثل أولئك الذين شاركوا في تأسيسهم، يخلطون بين الآخرين بدورهم، وأنهم مثل الكلاب الصغيرة، يستمتعون بالشد والجذب بالمنطق لكل من يقترب منهم"، في حين أنه سيكون من المناسب أكثر تقليد "العقول المعتدلة والثابتة، وأنه على عكس ما يتم اليوم، يجب ألا نسمح لأول وافد يحمل أي تصرف إليها بالاقتراب منها"

ومن الضروري إذن أن نمتلك في الفلسفة مناهج لا يمكن الخلط بينها وبين التقنيات البراجماتية البسيطة ، كما هو الحال في تعلم العلوم النظرية أو التطبيقية، ولكن تلك المناهج يجب أن تسمح لنا بالتفكير بشكل أفضل، والتعقل بشكل أفضل، والتأمل بشكل أفضل في الأسئلة التي تطرحها الحياة نفسها. إن تعلم الفلسفة لا يعني تعلم كيفية استخدام أداة لزيادة سلطتنا على الأشياء أو الرجال، بل اكتساب فن تطوير تصرفات العقل للحكم والتفكير بشكل عام.

في أي سياقات نواجه مشاكل المنهجية الفلسفية؟ بمعنى آخر ما هي الطرق الرئيسية للفلسفة وما هي الصعوبات؟

كل نهج فلسفي يجد أمامه تاريخاً، ماضياً. لا يمكننا أن نتظاهر بأننا بدأنا بالفلسفة، بمفردنا وللمرة الأولى. إن التفلسف هو أن تضع نفسك أولاً في حضرة فلسفة سابقة. ولكن الأمر لا يتعلق بالانحناء أمام التقاليد، أو القيام بعمل تذكاري؛ إن الفلسفات العظيمة هي شيء أعظم بكثير من مجرد روائع لا مثيل لها والتي ينبغي أن تثير التبجيل ويجب زيارتها مثل المتحف. وعلى النقيض من التأريخ البارد، ينبغي لتاريخ الفلسفة أن يخدم إعادة اكتشاف الأفكار الحية أثناء العمل، ومواجهة الفلسفات أثناء العمل، والتي من خلالها نستطيع أن نقدم لفكرنا الدعم والإطار اللازمين لوضعه على طريقه. ولهذا السبب فإن ممارسة الفلسفة لا تنفصل في المقام الأول عن الإلمام بالنصوص التي يجب على المرء أن يتعلم قراءتها وتفسيرها والتعليق عليها. ومن خلال هذه الممارسة، يمكننا أن نأمل في إعادة بناء عمل فكر الآخرين بدقة، متجنبين الصور النمطية الأكاديمية التي تبسط الأعمال، ومتجاوزين عقبة الكلمات وخداع البصر بالصيغ الجاهزة، في حين نعيد وضع الفلسفات في مسارات وسياقات وأنظمة متماسكة، تحررها من كل وزن تاريخي وتمنحها إمكانية الوصول إلى مرتبة الفكر الحي والمعاصر.

تاريخ الفلسفة يصبح بهذا الشكل وسيلة لممارسة الذات في صياغة المشاكل وحلها. هذا هو هدف المقالة التي تسمح للفيلسوف المتدرب، من خلال الأسئلة الذكية والجديدة، بمواجهة أساليب التفكير، والفرضيات، والاختيارات، مصحوبة بمقدماتها ونتائجها. وبالتالي فإن المقالة تشكل، بهذا المعنى، نوعاً من التمرين المسبق لأي نشاط فلسفي ناضج، ودورة تدريبية كاملة النطاق للتفكير الفلسفي. فالمقالة الفلسفية فرصة مميزة للفكر المبتدئ ليضع نفسه تحت الاختبار، وليضع نفسه في خطر من خلال المخاطرة، واتخاذ الخيارات، وصياغة الاستنتاجات، حتى لو كانت مؤقتة أو افتراضية. ومن ثم يمكننا أن نفهم لماذا يتم إثراء الأطروحة من خلال تطبيق فرضياتها ومنطقها على ثقافة فلسفية تاريخية، والتي لا تعمل كفكر جاهز، ولكن كمادة خام للفكر الحي والمنظم. ونحن نفهم أيضًا لماذا يجب علينا أن نتجنب الاختباء وراء ملخصات عقيمة التي من شأنها أن تلعب دور الحل المؤقت أو الزينة، من أجل عرض المعرفة أو إقناع القارئ بتكلفة منخفضة.

وهكذا فإن تعلم الفلسفة، التي تهدف من حيث المبدأ إلى الاستقلال الفكري، لا يمكن أن يتم دون إتقان تقنيات القراءة، وتفسير النصوص، والمعالجة المنهجية للأسئلة الكلاسيكية. ومن خلال التكيف مع هذه التمارين وإجبار نفسه عليها، يغلق العقل نفسه بشكل أصيل، ويؤدب نفسه بشكل منهجي لإشباع ما يحفزه، وهي الرغبة في التفكير.

بالتأكيد، إذا كان كل طالب للفلسفة يواجه نفس الضرورات الفكرية، فلا يمكن التقليل من أهمية مواقف التعلم والتدريب الفردية، لأن مسارات الوصول ومعايير النجاح ليست هي نفسها بالنسبة للجميع.

ولكن مهما كانت نماذج المقالات المقدمة للاستئناس، فإن فعالية العمل ستعتمد دائمًا على درجة الالتزام الشخصي، وقدرة الطالب على المبادرة، ورغبته في القراءة والكتابة، والتي وحدها ستسمح لجميع التوجيهات التالية بأن تؤتي ثمارها.

المقالة الفلسفية من التصميم الى التحرير

01- لكتابة مقال فلسفي أصيل ومتميز، عليك أن تتصرف "كما لو" كنت مؤلفًا. لذا يجب أن يكون لديك الإرادة (الحسنة) للكتابة لأنه "لا يتم عمل شيء عظيم بدون شغف"

02- لا توجد طريقة ميكانيكية جاهزة للكتابة عليك أن ترتكب الأخطاء لتتعلم. ذلك ان تعلم كيفية كتابة مقالة فلسفية ليس بعيدًا جدًا عن التعلم البدني في مجال الرياضة، حيث لا يكتفي الجسم أبدًا بإعادة إنتاج القواعد العامة. لا يمكنك تعلم السباحة في الهواء باستخدام دليل: بل يجب عليك "النزول إلى الماء".

03- من الضروري إتقان اللغة إنها حقيقة بديهية: إن إحدى العقبات الرئيسية التي تعترض المقالة الفلسفية هي الصعوبات التي تواجهها من حيث اللغة. كيف يمكن لأحد أن يدعي القدرة على الوصول إلى الفكر الفلسفي، إذا كان لا يتقن المبادئ الأساسية للغة؟ وغالبًا ما يمر طلاب الفلسفة بهذه التجربة المؤلمة: فهم يعرفون، أو بالأحرى يعتقدون أنهم يعرفون، لكنهم لا يستطيعون كتابة مايعرفون.

04- يجب قراءة الموضوع وفهمه، وهو مكتوب ويفترض أنه ذو معنى (من المفترض أن يكون له معنى).

05- اعرف كيف تأخذ وقتك، وتقضي وقتك، دون أن تثقل نفسك بالكتابة المتسرعة والجمل والصيغ التي تسجن التفكير.

06- أقنع نفسك أن الموضوع مفهوم. إنه مبدأ لا يمكن تصور العمل النظري بدونه على الإطلاق. ومن المرجح أن يخضع الموضوع لعمل الذكاء، لأنه مطروح. وبما أن الطاعة واجبة له، فيجب أن نتذكر ألا "ننظر إليه بازدراء (كثيرا)". لذلك: لا افتراض، ولا غرور في غير محله، ولا تحيز (حول سهولته، أو وضوحه، أو عدم قابليته للفهم.

07- كن حذراً في ذاكرتك، لأنه لا يُطلب منك تلاوة كل ما تعرفه عن الموضوع؛ إن أية ذاكرة ملحة للغاية قد تسبب الإزعاج وتعطيل قراءة الموضوع، لأننا نعرض أنفسنا لممارسة سياسة الدرج الذي يجب ملؤه. للتعامل بشكل جيد مع موضوع ما، يجب علينا أن نتخذ الموقف الصحيح، والذي هو موقف الانفتاح الكامل: لذلك يجب علينا الحذر من متطلبات الذاكرة (التي يجب أن تنتظر).

دراسة صياغة الموضوع بعناية. يجب أن لا نكتفي بفهم العبارة "حرفيًا"، بل أن نفهم "روحها": أن نرى ما تحتويه العبارة من استفزاز أو سخرية أو تناقض، أن نستوعب ما تعنيه، أن ننتقل من الصريح إلى الضمني.

08- يمكننا دائمًا أن نبدأ العمل، في مرحلة البحث التمهيدي، بتحديد مفاهيمي مثلا في موضوع "هل العمل يحررنا؟" :علينا أن نقول لأنفسنا أن هناك عمل وحرية. فيما يتعلق بمفهوم العمل، فإننا نميز بين العمل اليدوي، والعمل الفكري، والعمل الفني، وأشكال العمل المأجورة، والعمل "الأسود" أو السري، والعمل الذي يتألف من إعطاء العمل (هل هو عمل حقيقي؟)، والعمل الفائض (ماركس)، وما إلى ذلك. ولذلك فإن المعاني المختلفة لمصطلح "العمل" ليست متكافئة.

09- المثال ضروري لإعطاء "الجسد"، "شيء محسوس" للمفهوم، لأن الفلسفة لا يمكن أن تكتفي بالتعامل مع التجريدات فقط. في الواقع، يجعل المثال من الممكن تقديم شروط الإخراج والتمثيل وعمل الفكرة المجردة، وبالتالي خطة التجربة الحقيقية أو الممكنة. ومن الجدير أن نفكر، على وجه الخصوص، في الاستفادة من الأمثلة الفلسفية الشهيرة: قطعة الشمع (ديكارت)، والإدراك البعيد للبرج المربع والشمس (من أفلاطون إلى سبينوزا)، وحلقة جيجيس (أفلاطون)، و7 + 5 = 12 (كانط)، وتجربة العار (سارتر).

10- يجب أن يأتي المفهوم، بالضرورة، بكل عقلانية، لتسمية عملية التفكير المعنية وكشف أسبابها. إن المثال موجود لإثارة الحاجة إلى المفهوم. بما أنه لا يمكن اختزال الأطروحة إلى مجموعة من الأمثلة دون مفاهيم، فمن الضروري تجنب الإفراط في الأمثلة.

11- لا توجد فلسفة دون التساؤل؛ سواء كان الانبهار في المقال مصطنعًا أو طبيعيًا أو أصيلًا، فلا يهم.

12- إن السؤال، وهو شكل من أشكال الاستجواب، يشكل اللحظة التي يعود فيها الفكر إلى نفسه، ليستولي على الموضوع ويحوله إلى موضوع للفكر. إن هذا النهج ضروري حتى لو كان بيان الموضوع يتضمن بالفعل صيغة استفهام مفروضة علينا. إن التساؤل هو إذن علامة على الفكر وبما أنه من الحكمة أن نلتزم بالأسئلة الأولية والضرورية، فلنشير إلى بعض النماذج التي تشكل كلاسيكيات عظيمة:

- سؤال التعريف: ما هو...؟ كيف يتم تعريف...؟ ما هو المعنى الذي ينبغي أن نعطيه لهذا المصطلح؟ ما هي طبيعة الشيء؟

- سؤال التمييز: كيف نميز هذا عن ذاك؟ كيف يتم التمييز؟ ما الفرق بين X و Y؟ هل هو اختلاف في النوع أم اختلاف في الدرجة؟

-سؤال شروط الإمكانية أو مسألة الأساس: في أي شروط يكون هذا ممكنا؟ ما هي الشروط التي تجعل مثل هذا الشيء ممكنا (الجوهر، الوجود، المعرفة، الخ)؟ إلى أي مدى يمكننا...؟ ما السبب الذي يجعلني...؟ ما هو أساس...؟ هل يمكن أن يكون هذا مبنيا على العقل؟

- سؤال الآثار: ما هي النتائج (المادية، النظرية، العملية) المترتبة على ذلك؟ ما الذي يمكن أن يكون هذا السبب أو الأصل؟

13- ينبغي إدراج هذه الأسئلة التي توجه العمل البحثي عندما يحين الوقت (نهاية المقدمة، ونهاية كل جزء على وجه الخصوص)، فإن سؤالين أو ثلاثة أسئلة جيدة الصياغة وحكيمة، تطرح على وجه التحديد المشكلة الفلسفية، تكون كافية إلى حد كبير.

14- من الضروري، بالتالي، أن نطرح على التوالي، سواء في المقدمة أو في التطوير، الأسئلة التي ستكون جوهر الاستفهام في مختلف لحظات العمل، حسب ترتيب العرض؛ فأظهر إذن من أين يأتي السؤال المطروح (أصله، مكانه الطبيعي)، ولماذا يُطرح الآن (في هذه المرحلة من التفكير)، وليس لاحقًا، وليس قبل ذلك، ولماذا صيغ بهذه الطريقة وليس بطريقة أخرى.

15- من المهم ضمان تقسيم العمل، وتوزيع الأدوار، بين "مؤلف" الأطروحة والمؤلفين (الفلاسفة هنا) الذين يجب أن تعتمد عليهم الأطروحة في نهاية المطاف. وهذا يعني أن لا أفلاطون، ولا ديكارت، ولا كانط كتبوا المقالة.

16- يجب ألا نسيء استخدام حق الاقتباس: من الأفضل أن نكون مختصرين، لا أن نكثر، وذلك باختيار المقتطفات جيدًا، وبإعداد مدخل المراجع في الحجج، وبإظهار ضرورتها أو جدواها على سبيل المثال.

17- من الضروري الاهتمام بتنظيم الخطاب التوضيحي لأطروحات المؤلفين، لتوضيح سبب قول المؤلف ذلك وبأي مصطلحات، وما هي القضايا والافتراضات التي يقوم عليها موقفه النظري. باختصار، من الضروري دائمًا الشرح والتبرير

18- استراتيجيا. لا يوجد داعي للتسرع في إحضار المؤلفين مبكرًا، خاصة أنه يتعين علينا أولاً رؤية تفكير الطالب أثناء العمل، وخاصة في العمل التحضيري (تحليل المفاهيم، عرض الأمثلة، بيانات المشكلة، طرح الأسئلة).

19- ما المراجع؟ لا يمكن تصور أطروحة بدون مراجع؛ ولكن ما هي المراجع التي يمكننا الاستعانة بها؟ إذا كانت الفلسفة تتغذى بشكل جيد على كل ما ليس نفسها، فإنها تستطيع، مثل النحلة الباحثة عن الطعام، أن تبحث عن جوهرها في كل مكان تقريبًا. وسوف نميز بعد ذلك بين:

1 / المراجع غير الفلسفية

وهذه كلها مراجع تنتمي إلى مجال ثقافي غير الفلسفة، وتزعم أنها تنتج شيئاً آخر غير الفلسفة. الفن، أي النصوص التي كتبها الكتاب والرسامون والمعماريون والموسيقيون وغيرهم، أو النصوص عن الأدب والرسم والعمارة والموسيقى وغيرها. ؛ لا يجوز استخدامها بتجاهل، ولكن يجب "التعرف" على المرجع. يمكننا أن نشير إلى المؤلفين الكلاسيكيين: بلزاك، فلوبير، بيتهوفن، برنانوس، فاغنر، سيزان، بريشت، فان جوخ أو كانتور، على سبيل المثال؛ لكن يجب عليك تجنب المطربين، والكوميديين، والمؤلفين غير المعروفين -

الرياضيات (من إقليدس إلى بورباكي، على سبيل المثال)، والفيزياء (كتابات جاليليو، ونيوتن، وأينشتاين)، والكيمياء، وعلم الفلك، وعلم الأحياء (داروين، وروستاند، ومونو)...

- العلوم الإنسانية: التاريخ (بروديل، ل. فيفر)، علم الاجتماع (دوركهايم، ديلثي، فيبر، ماوس)، علم النفس (بياجيه)، اللغويات (سوسير)، التحليل النفسي (فرويد، لاكان)، علم الأعراق (مالينوفسكي، ليفي شتراوس)، الاقتصاد (كينيز)، وغيرها. قد تكون هذه الإشارات فلسفية في روحها، لكننا نأخذها على محمل الجد.

2/ المراجع نصف أدبية ونصف فلسفية

هؤلاء هم المؤلفون الذين يصعب تصنيفهم، والذين "يتأرجحون" بين أسلوب وجود مقبول تمامًا في عمل (فني، علاوة على ذلك، في أغلب الأحيان) وفكر، وإن لم يكن من نوع النظام تمامًا، إلا أنه يقدم تشابهات قوية مع الفلسفة بالمعنى الدقيق للكلمة: ديدرو، مونتين، بروست، دوستويفسكي، تولستوي،

3/ المراجع الفلسفية

هؤلاء هم بالطبع الفلاسفة المعترف بهم والمثبتون، سواء كانوا "منهجيين" (سبينوزا، هيجل، أرسطو) أو لم يكونوا كذلك (نيتشه، كيركيجارد، باسكال).

كيف تحصل على كل هذه المراجع؟

23- يجب علينا أن نتجنب فخ ترانيم المؤلفين، وأن نقاوم إغراء الاستعراض، أو الموكب، على غرار: "قال فلان هذا" (ثلاثة أسطر)، "قال فلان ذلك" (ثلاثة أسطر)، "ولكن آخر أضاف ذلك" (ثلاثة أسطر أخرى)، إلخ. إن المقال لا يكون أبدًا عبارة عن تراكم أو ربط للآراء أو وجهات النظر أو الأحكام التي يدافع عنها المؤلفون، سواء كانوا من أهل السلطة في الموضوع أم لا.

وهكذا لا يكون إلا أمثلة وإشارات فلسفية وأعمال أخرى متسلسلة أفقيا. ومن المهم، لذلك، أن نتجنب هذا الفسيفساء المربك وغير المترابط الذي نقرأه في كثير من الأحيان في الواجبات المنزلية: إن الأطروحة ليست كتالوجًا لأطروحات المؤلفين؛ يجب أن تكون أي إشارة إلى سؤال أو مشكلة، وأن تلعب دورًا في الحجة والإثبات.

20- لا تضاعف المراجع؛ من الأفضل العمل في العمق، في الفهم، بدلاً من التوسع أو التراكم، ويجب أن نرى هذا في عمل الكتابة؛ خصص فقرة أو فقرتين جيدتي البناء لنقطة عقائدية لمؤلف ما، مع الحرص على ملاحظة المفردات، ووجهة النظر، والحجج، والأمثلة، والمنطق، والغرض (القضايا) التي فهم بها المؤلف المشكلة الفلسفية.

21- مؤلف المقالة يجب ان يتبنى مبدأ المساواة في الحقوق بين الفلاسفة، فيما يتعلق بقيمتهم، أي كفاءتهم في الإجابة على الأسئلة التي تثيرها المشكلة الفلسفية. إن ممارسة الأطروحة تدافع بالتالي عن فكرة ديمقراطية الأفكار، ومساواة حقوق الأفكار، بشرط أن تكون هذه الأفكار أفكاراً حقيقية وأن تكون فلسفية حقاً.

22- لإنشاء خطة ما، لا بد من إيجاد هيكل عام لها، يمكن مقارنته بالهيكل العظمي للكائن الحي. يتضمن هذا بالضرورة إطارًا (العمود الفقري)، وترتيبًا وظيفيًا وموجهًا للأطراف والأعضاء، وكلها مترابطة بإحكام بواسطة المفاصل.

وفي الممارسة العملية، إذا اتبعنا هذا الاستعارة التشريحية، فإن وضع خطة يتألف في المقام الأول من تحديد الأجزاء الرئيسية، وعناصرها (فقراتها)، وترابطاتها. وبهذه الطريقة سوف نكون قادرين على إعطاء شكل منظم لجميع التحليلات والبراهين والاستدلالات اللازمة لمعالجة الموضوع. وعلى وجه الخصوص، يتعلق الأمر بتصنيف العناصر التي تم الحصول عليها بالفعل حسب الترتيب المنطقي

23- إن خطة المقال ليست إذن سوى التنظيم التدريجي والعقلاني للفقرات. يتضمن هذا التعلم، والذي يتعلق بتكوين الفقرات: عليك أن تتعلم كيفية كتابة الفقرات. الفقرة هي مجموعة من الأسطر التي لا توجد فيها حاجة لكسر سطر (فقرة) لأنه لا توجد حاجة لذلك. إذا انقطعنا كل ثلاثة أسطر، فإننا نخاطر بفقدان خيط الحجة؛ والأسوأ من ذلك، إذا تخطيت سطرًا معتقدًا أنك تقوم بإنشاء اتصال منطقي واضح، فهذه علامة على أن العمل غير مترابط وغير خاضع للسيطرة بشكل جيد. الخطاب الفلسفي هو إطار، لذلك يجب علينا أن نتعلم كيفية نسجه. ما هو عيار الفقرة؟ ما بين عشرين إلى ثلاثين سطرًا تقريبًا (إذا حسبنا ما بين عشرة إلى ثلاثة عشر كلمة في السطر في المتوسط).

24- يجب الحرص عند الكتابة على إعطاء الخطة حركة تقدمية تبرز أهمية البحث واهتمامه. هنا يمكننا مقارنة تطوير المقال بالإخراج الأدبي للدراما. في الواقع، يفترض النشاط الفلسفي تسليط الضوء على الارتباط بين الأفكار، والذي يجب تفسيره والسعي إلى حله. ولهذا السبب فإن خطة المقال يجب أن تمر، مثل المأساة، بلحظات حرجة، لكي تصل إلى خاتمتها (فعل الفكر). ويجب أن يشكل كلاً واحدًا، له مدى معين، وبداية ووسط ونهاية.

25- هدف المقدمة إدخال شخص مجهول إلى مكان ما، وضمان تعريفه بأشخاص لا يعرفهم ولا يعرفونه، وهذايوضح بوضوح ضرورة ووظيفة الإدخال: الانتقال من الخارج إلى الداخل، من المجهول إلى المعروف وكما يشير أصل الكلمة ("الدخول إلى")، فإن المقدمة تهدف إلى تقديم بيان الموضوع في الأطروحة، ولكن أيضًا إلى تعريف عقل القارئ بعالم المشكلة الفلسفية.

من حيث المبدأ، فإن المقدمة لها أهمية استراتيجية، أولاً لأنها تبدأ إن العمل الذي يظهر اتجاهاته الرئيسية، إذن لأنه يحدد مزاج القارئ المصحح. ومن المهم أن نعرف، في الواقع، أن كل مصحح يهتم بجودة هذا التحضير، وأن المقدمة الجيدة يمكن أن توفر الكثير من المتاعب، لأنها تشير إلى مستوى فهم المشكلة ومع ذلك، فإن صعوبة المقدمة تأتي من موقعها. لأنه بالفعل فلسفة، بينما لم يبدأ شيء بعد حقًا. ولكن الخطاب الفلسفي لابد أن يبدأ في مكان ما، وهذا المكان هو المقدمة. غالبا ما يرتبك الطالب بسبب هذه الصعوبة التي أحيانًا يصل الأمر إلى العجز - وفي الواقع، سيكون من الأسهل عليه أن يبدأ مباشرة من بداية الجزء الأول.

26- يجب أن تتمتع المقدمة بأسلوب مميز، وأن تكون مثيرة فكريًا (يجب أن تثير شهية القارئ)، ورائعة وحاسمة، وحاسمة في تحديد "سبب" الموضوع. كما قال باسكال: "آخر شيء نجده عند إنجاز عمل ما هو معرفة ما الذي يجب أن نضعه أولاً" ومن حيث الصياغة الدقيقة للمقدمة، فهناك مدرستان فكريتان: واحدة ترى أن كتابة المقدمة يجب أن تتضمن فقرة واحدة فقط حيث من الممكن قراءة المقدمة دفعة واحدة. أما الاتجاه الثاني فيفضل البعد المنهجي ويسعى إلى الحد من الفجوات والانحرافات التي نلاحظها عادة، من خلال برنامج صارم، وذلك من خلال النصح بكتابة فقرة لكل لحظة.على أية حال، تتضمن المقدمة ثلاث لحظات: تقديم الموضوع نفسه، مما يعني أننا نحدد مجال الاستجواب الدقيق الذي يندرج فيه الموضوع. يمكن تسليط الضوء على هذه اللحظة إما من خلال عرض دقيق للموقف، أو من خلال مثال جيد للغاية، أو حتى من خلال ملاحظة متناقضة وحاسمة. يتعلق إذن بإظهار التوتر الذي يسكنها، وبعدها الاستفهامي، وحتى تناقضها الداخلي أو تناقضها الظاهري. يجب أن نظهر أن الأمر ليس بديهيًا، وأنه ليس واضحًا بأي حال من الأحوال وأنه يتطلب بعض التوضيح. بحيث أنه يطرح مشكلة.

27- - صياغة السؤال: "يكمل" (بمعنى"إنهاء" و"إكمال" الأزمة من خلال تحديد الأسئلة الرئيسية التي يجب طرحها سؤالان أو ثلاثة أسئلة كافية و يجب علينا أن نتجنب التأكيدات المبنية على مفاهيم عامة زائفة وعادية مثل: "لقد كان الرجال دائمًا..."؛ "لقد تساءلنا دائمًا وفي كل مكان عن هذا الأمر." و عبارة "إن المشكلة التي يتعين علينا التعامل معها هي واحدة من أهم المشاكل وأكثرها إثارة للاهتمام في الفلسفة."

28- - يجب أن يكون حجم المقدمة كافياً ومتناسباً مع وظيفتها: فالمساحة ضرورية، على أية حال، للنجاح في طرح مشكلة فلسفية. وسوف نحارب بالتالي ضد "مقدمة المؤخرة"، حيث لا يتم الإعلان عن أي شيء، و"مقدمة النهر" التي تقول كل شيء بالفعل وحيث يحرق الطالب خراطيشه بالفعل.

29- من أجل محاولة حل المشكلة ، وخاصة إذا لم يكتسب الشخص تقنية خاصة به بعد، يمكنه أن يعتبر أن التحليل يتألف من ثلاثة أجزاء، يتكون كل منها من ثلاث فقرات أو أجزاء فرعية. في أفضل الأحوال، لدينا 9 فقرات. ومن اجل التقدم في التحليل ، يجب أن يظهر صاحب المقالة مدى قدرته على البناء شيئًا فشيئًا، وكيف يولد نفسه، وكيف ينتج أهدافه للتحرك نحو استجابة معينة؛ هذه المهام هي جزء من فن الحجة، الذي يتألف في المقام الأول من طرح فرضيات تسمح له باقتراح إجابات على أسئلة معينة، وتوضيح أسبابها، والدفاع عنها بالأدلة والتفسير والتبرير، ثم معارضتها بحجج أخرى لها في حد ذاتها أسباب أخرى. إن لحم الحجة يحيط بهيكل الأطروحة ويجب أن يعطيها الحركة والمظهر الجميل.

30- إذا كانت الخطة، كما قلنا، هي الشكل الخاص الذي يفرضه الموضوع والمشكلة. ولكن اتجاه الكل واضح تماما: ننتقل من التحليلي إلى التركيبي، ومن الابتدائي إلى المركب، ومن البسيط إلى المعقد، ومن المظهر إلى الجوهر، مما يسمح بتنويع التفسيرات. لا يجب أن تكون المقالة

"أحادية": تخدم أطروحة واحدة، أو برهاناً واحداً. يجب أن يكون هناك تدرج، وشكل من أشكال الارتقاء، ولكن أيضًا "التعددية" إن جوهر المشكلة هو أن المشكلة الفلسفية يجب أن تخضع لتنوع معين في وجهات النظر". وبالتالي فإن الجزء الأول يمكن أن يخصص بشكل أساسي لشرح مصطلحات الموضوع، والأسباب التي تجعل الموضوع ينشأ وينشأ بهذه الطريقة. هناك يجب أن نجد أمثلة ومحتوى تحليل المفهوم، ولكن فقط ما يثبت أنه لا غنى عنه لفهم المشكلة بشكل جيد؛ في الواقع، يجب علينا أن نختار ما هو مناسب لخطاب اللحظة. وهنا مرة أخرى، من الضروري تحديد الاحتياجات، والسؤال الذي يجب طرحه هو هذا: ما الذي نحتاجه لجعل المشكلة والموضوع أكثر وضوحًا ؟

ولذلك فمن المستحسن أن نحتفظ بالفلاسفة "في أكمامنا"، ونحتفظ بهم إلى وقت لاحق، أي للجزء الثاني والثالث. بالتأكيد فإن دعم المؤلفين في بداية المقالة ليس ممنوعا، بل قد يؤدي إلى نجاحات واضحة إذا تم العمل بشكل جيد وكاف.

31- أما القسمان الثاني والثالث فهما أكثر ملاءمة لعرض الحجج والمواجهة (المناقشة النقدية) للأفكار ونقاط العقيدة. ولكن هذا لا يمكن أن يأتي بالمجان: فالمراجع الفلسفية تتوافق مع مشكلة محددة وتجيب على أسئلة دقيقة. ومن الضروري إذن إعداد الأرض مسبقًا، وتقديم المراجع بطريقة ما (كما تم تقديم المشكلة الفلسفية سابقًا في المقدمة)، وإدخالها بلطف: لا ينبغي أن تسقط من السماء، ولا تأتي عشوائيًا. يجب أن تستند الأطروحات المقدمة إلى حجج دقيقة وتثير تفكيرًا مدعومًا بالاقتراض من نصوص محددة من قبل المؤلفين.

32- الخطة يجب إنشاؤها بدقة وعناية؛ وتتعلق هذه التحولات على وجه الخصوص بالانتقال من الجزء الأول إلى الجزء الثاني، ومن الجزء الثاني إلى الثالث. يمكننا المضي قدمًا على النحو التالي: سيتم تخصيص الفقرة الأخيرة من كل جزء لعرض حالة المشكلة الفلسفية، والفقرة الأولى من الجزء التالي إلى استئناف وإعادة تعريف المشكلة الفلسفية والأسئلة المقابلة لها، من أجل الحفاظ على الاستمرارية في الحجة. لذلك، كما نرى، يجب علينا أن نعرف دائمًا أين نحن في العمل المؤثر المتمثل في التأمل، وأن نظهر للقارئ أننا واعون، وأننا نعرف ما نفعله. وكل هذا للحفاظ على الموضوع التقدمي.

33- في الخاتمة سوف نقدم تلخيصًا، وميزانًا عموميًا (وليس ملخصًا) للمسار الذي تم اتخاذه، وتذكيرًا بـ "المعرفة" المكتسبة من خلال البحث: ما الذي تعلمناه منذ بداية التعليم فيما يتعلق بالمشكلة الفلسفية؟

34 - ثم نقدم إجابة صريحة على الأسئلة المطروحة في المقدمة (خاصة إذا لم يطرح الموضوع سؤالا كما في مفهوم الموضوع) أو على السؤال الذي يطرحه الموضوع نفسه. دعونا نكرر، لا يوجد شيء ضمني في الفلسفة، والأطروحة ليست لعبة تخمين أو تلميحات: يجب على المؤلف أن يلعب "الأوراق على الطاولة"، ويقول الأشياء بطريقة حازمة ودقيقة، ولا يبقيها صامتة، أو يغرقها في خطاب متردد؛

35 - وأخيرا، يمكننا أن نحاول التوصل إلى شكل من أشكال "الافتتاح النهائي" الذي يمكنه تقييم المشكلة (المشكلات) المطروحة، وتناول مسألة وجهتها (وجهتها) (الأخلاقية، أو الدينية، أو الميتافيزيقية، على سبيل المثال)، أو حتى التشكيك في صياغة الموضوع. كل شيء جائز، بشرط إظهار الذكاء والوضوح: ولكن ينبغي تجنب، قدر الإمكان، إنهاء المقال باقتباس، لنفس السبب الذي جعل من غير المرغوب فيه البدء بالمقدمة بهذه الطريقة (خاصة وأن هذا الاقتباس من المرجح جدًا أن يكون غير مستخدم وبدون تفسير في الخاتمة، ولسبب وجيه: نحن نقترب من نهاية المهمة). سوف نقوم بحظر عبارة "ولكن هذه مشكلة أخرى"، فهي مجرد وسيلة للتهرب من المسؤولية: لماذا نتحدث عنها إذا كانت مشكلة أخرى؟ لذلك سوف نتجنب تقديم حجج جديدة، أو مراجع جديدة، أو أفكار جديدة، ونكرس أنفسنا ببساطة لتقييم كل ما ورد في هذه الدراسة.

36- تحتاج الخاتمة إلى بنية حقيقية ومحتوى معين، تمامًا كما تحتاج المقدمة إلى ذلك. من المشروع أن نعتقد أنه من المستحسن كتابة المقدمة والخاتمة في نفس الوقت، في نهاية العمل، قبل التدقيق اللغوي مباشرة، حيث يجب أن تتوافقان، بالمعنى القوي للكلمة، مع بعضهما البعض: الرد على بعضهما البعض.

37- - قبل تسليم نسختك، لا تنسى إعادة قراءتها بعناية، مع الانتباه إلى بناء الجملة، والتهجئة، والتأكد من الالتزام بالقواعد والرموز (عناوين الأعمال المسطرة على سبيل المثال)، مع الانتباه إلى وضوح الكتابة، وترقيم الصفحات في المهمة.

38- - سنمنع إضافة الحواشي أو الملاحظات في الهامش. تتم الإشارة إلى الأعمال داخل النص، بين قوسين، مع الدقة اللازمة (المؤلف، العنوان، الجزء، الفصل، وحتى، إذا أمكن، الطبعة والصفحة، حتى يتمكن المصحح من التحقق من المرجع أو الاقتباس). - سنمنع إضافة الحواشي أو الملاحظات في الهامش. تتم الإشارة إلى الأعمال داخل النص، بين قوسين، مع الدقة اللازمة (المؤلف، العنوان، الجزء، الفصل، وحتى، إذا أمكن، الطبعة والصفحة، حتى يتمكن المصحح من التحقق من المرجع أو الاقتباس).

39- - لا يتم إعطاء أرقام أو عناوين أو عناوين فرعية للأجزاء والفقرات؛ لا نقوم بتسطير بداية الفقرات (الجمل الأولى).

40- - يتم فصل كل فقرة بمسافة سطر واحد، وكل جزء بمسافة سطرين أو ثلاثة أسطر. يمنع استخدام النجوم والنجوم والرسومات والخطوط الملونة وما إلى ذلك. نصيحة في هذه النقطة: ابقَ رصينًا وتجنب التزيين الطفولي.

***

عمرون علي – تخصص فلسفة

تمهيد: يتكون الفكر السياسي في نسخته الحديثة والمعاصرة من جملة من الفرضيات والمقدمات والتي يترتب عنها وفق المنهجية الفرضية الاستنتاجية مجموعة من الاستتباعات والقواعد ويمكن ذكر حالة الطبيعة والوضع الاصلي والحالة المدينة والعقد الاجتماعي وكذلك البديل الرأسمالي والبديل الاشتراكي ومحاولة تدارك الأخطاء الناتجة عن البديلين سواء في نسخة العدالة التوزيعية او الليبارتارية. فما هو النموذج السياسي الأكثر نجاعة في زمن التحولات والأزمات المالية والبيئية والطبية التي تعصف بالدول؟.

نظرية العقد الاجتماعي

عندما تُبرم اتفاقيةً ذات أهمية، فإنك عادةً ما توافق على شروطٍ مُحددة: تُوقّع عقدًا. هذا لمصلحتك، ولمصلح الطرف الآخر: فتوقعات الجميع واضحة، وكذلك عواقب عدم الوفاء بها. العقود شائعة، وقد جادل بعض المفكرين المؤثرين في العصر الفلسفي "الحديث" بأن المجتمع بأسره يُنشأ ويُنظّم بموجب عقد. اثنان من أبرز "مُنظّري العقد الاجتماعي" هما توماس هوبز (1588-1679) وجون لوك (1632-1704 .[نشرح في هذه المداخلة أصول هذا التقليد، ولماذا يُنير مفهوم العقد التفكير في بنية المجتمع والحكومة.

حالة الطبيعة والعقد الأول

لمعرفة سبب سعينا إلى عقد، تخيّل لو لم يكن هناك عقد، ولا اتفاق، على ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع: لا قواعد، ولا قوانين، ولا سلطات. هذا ما يُسمى "حالة الطبيعة". كيف ستكون الحياة في حالة الطبيعة؟ يعتقد معظم الناس أنها ستكون سيئة للغاية: ففي النهاية، لن يكون هناك مسؤولون لمعاقبة أي شخص أساء إلينا، مما يؤدي إلى عدم وجود رادع للسلوك السيئ: يبدو أن كل رجل وامرأة وطفل سيتحمل مسؤوليته بنفسه. وصف هوبز الحياة في حالة الطبيعة بأنها "منعزلة، فقيرة، بغيضة، وحشية، وقصيرة". يصفها لوك بأنها حيث يمكن للجميع أن يكونوا قضاة ومحلفين في نزاعاتهم الخاصة، مما يعني أنهم يستطيعون أن يقرروا شخصيًا متى ظُلِموا وكيف يعاقبون الجاني؛ من الواضح أن هذا قد يخرج عن السيطرة.

تاريخيًا، ربما لم نكن في حالة طبيعية قط، لكن منظري العقد يستخدمون هذه الفكرة لشرح سبب استحسان قواعد المجتمع، أي العقد. فهو يسمح لنا بالعيش بسلام مع ضمان أنه لا يمكن لأحد أن يؤذينا ببساطة أو يأخذ ممتلكاتنا دون عواقب. يجادل منظرو العقود بأن معظم الناس سيدخلون بحرية في عقود لتأمين هذه المنافع. مع ذلك، للعقد بعض التكاليف: فلكي يحصل الجميع على مزايا مجتمع منظم، يوافقون على التخلي عن بعض المنافع التي كانوا يتمتعون بها في حالة الطبيعة. يقول هوبز إنه يجب علينا التخلي عن "حق الطبيعة" أو القدرة على الحكم بأنفسنا على ما يُعتبر "حفاظًا على وجودنا". هذا يعني أنه بإمكاننا قتل شخص ما والادعاء بأنه ساهم في "حفظ وجودنا"، سواء صدقنا أم لا. ويجادل لوك بأنه يجب علينا التخلي عن حقنا في أن نكون قاضيًا ومحلفًا في نزاعاتنا. لنفترض، من أجل منفعة متبادلة، أن الناس تعاقدوا لتكوين مجتمع ما. ما هي تفاصيل هذا العقد؟

اتفاقية تشكيل الحكومة

يحتاج المجتمع حديث التكوين إلى آلية لاتخاذ القرارات: من سيضع القواعد وينفذها؟ لا بد من إرساء هذه السلطة إذا أُريد للمجتمع الجديد أن يعمل معًا بسلام. يجادل هوبز بأن سلطة اتخاذ القرار الوحيدة يجب أن تكون حاكمًا جبارًا، يُطلق عليه اسم "التنين"، يحكم بالقوة حتى يخشى المواطنون أي شيء يقوله الحاكم. وكما يُذكّر هوبز قراءه بنذير شؤم: "والعهود أو العقود، بدون سيف، ليست سوى كلمات، ولا قوة لها على الإطلاق لحماية الإنسان". يعني العقد أن تُطيع الحاكم وقوانينه وإلا ستُعاني من عواقب وخيمة، كالسجن أو حتى الموت. يعكس اقتراح لوك لإنشاء الحكومة نهجًا أكثر ديمقراطية بمعنى حكم الأغلبية: "... كل إنسان، بموافقته مع الآخرين على تشكيل هيئة سياسية واحدة تحت حكومة واحدة، يُلزم نفسه... بالخضوع لقرار الأغلبية." ووفقًا للوك، فإن الوظيفة الأساسية للحكومة هي إقرار القوانين من خلال تصويت الأغلبية فيما يتعلق بحماية الحقوق، وخاصة حق الفرد في الملكية: "الغاية العظمى والرئيسية من خضوع الناس للحكومة هي الحفاظ على ممتلكاتهم." تتطلب الحكومة خضوعنا لسلطة شخص آخر. أما خضوعك لحكم شخص آخر، فيتطلب تضحية: فنحن نتخلى عن حق سن القوانين، وتطبيقها، ومعاقبة من يخالفها. وننقل هذه الحقوق إلى فرد أو جماعة تقوم بها نيابةً عنا. تُشكل هذه الأنشطة الأساسية الثلاثة - وضع القوانين، وتطبيقها، ومعاقبة من يخالفها - أساس فروع الحكومة الثلاثة الشائعة في العديد من البلدان.

تعريف الرأسمالية والاشتراكية

هل ينبغي أن يكون مجتمعنا رأسماليًا، أم اشتراكيًا، أم شيئًا بينهما؟ للحكم في هذا النقاش، يجب أن نفهم تعريفي "الرأسمالية" و"الاشتراكية".

التعريفات الأكاديمية

يكمن الفرق الجوهري بين الرأسمالية والاشتراكية في ملكية السلع الرأسمالية والتحكم فيها، أي الأصول (عادةً الآلات والمباني، مثل جزازات العشب وأجهزة الكمبيوتر والمصانع) التي تزيد من إنتاجية العمل، أو توفير السلع والخدمات. وبالتالي، فإن التعريفات الأكاديمية لـ "الرأسمالية" و"الاشتراكية" كنظم اقتصادية هي كما يلي:

الرأسمالية: نظام تكون فيه معظم أو جميع السلع الرأسمالية مملوكة ومسيطر عليها بشكل خاص: مملوكة ومسيطر عليها من قبل أفراد معينين، وليس من قبل المجتمع أو الحكومة.

الاشتراكية: نظام تكون فيه معظم أو جميع السلع الرأسمالية مملوكة ومسيطر عليها اجتماعيًا: مشتركة في مجتمع ويسيطر عليها ذلك المجتمع، وربما من قبل الحكومة.

لاحظ أن هذه التعريفات تتعلق بالسلع الرأسمالية، أو "الملكية الخاصة"؛ يمكن أن تكون السلع الاستهلاكية أو الممتلكات الشخصية، مثل القبعات العالية والبوريتو، مملوكة ملكية خاصة في معظم أشكال الاشتراكية. على النقيض من ذلك، في بعض أشكال الشيوعية والفوضوية، لا يمتلك أي شخص أي سلع ملكية خاصة؛ بل يستخدمها أو يمتلكها فقط. لاحظ أيضًا أن كلا التعريفين متوافقان من حيث المبدأ مع وجود حكومة في المجتمع أو عدم وجودها. لذلك تتميز الأنظمة الرأسمالية الواقعية دائمًا بخصائص أخرى:

انتشار العمل المأجور: يعمل معظم الناس مقابل أجر أو راتب محدد (بدلاً من حصة من أرباح الشركة)؛

انتشار الملكية الغائبة: لا يعمل معظم مالكي معظم السلع الرأسمالية باستخدامها (على سبيل المثال، لا يعمل معظم مالكي أسهم تويوتا في تصميم أو تجميع سيارات تويوتا)؛

دخل الملكية الخاصة: من الممكن كسب المال بمجرد التملك الخاص للعقارات، وليس بالعمل. (قد يقوم بعض الناس "بعمل" في إدارة محافظهم الاستثمارية الخاصة، ولكن حتى من ورث مثل هذه المحفظة ولم يفكر فيها مرتين سيظل قادرًا على تحصيل دخل منها). في المقابل، تتضمن الأنظمة الاشتراكية عملاً مأجورًا قليلًا أو معدومًا، أو ملكية غائبة، أو دخلًا من الملكية الخاصة. بدلًا من العمل المأجور ودخل الملكية الخاصة، قد يعمل الناس مقابل حصة من أرباح شركاتهم، أو قد يحصلون ببساطة على حصة من أرباح ثروة المجتمع، أو قد لا يكون هناك مال على الإطلاق ويأخذ الناس ببساطة ما يحتاجونه.

الأسواق الحرة واللوائح التنظيمية

من الشائع وصف اقتصادات السوق الحرة بأنها أكثر رأسمالية، والاقتصادات الأكثر تنظيمًا بأنها أكثر اشتراكية. ومع ذلك، من الممكن وجود نظام شديد التنظيم، ومع ذلك يكون رأس المال بأكمله مملوكًا للقطاع الخاص: فهناك عمل مأجور، وملكية غائبة، ودخل من الملكية الخاصة، ولكن هناك أيضًا العديد من القوانين التي تحكم العمل، وضرائب مرتفعة. وبالمثل، من الممكن وجود نظام اشتراكي غير منظم في معظمه. وبالمثل، فإن الاشتراكية ليست مرادفة لـ "دولة الرفاهية"، لأن المصطلح الأخير يشير إلى نظام قوانين يهدف إلى إفادة الفقراء والطبقة المتوسطة، ولا يذكر شيئًا محددًا عن من يملك معظم رأس المال. أما النظام الذي يكون فيه رأس المال بأكمله مملوكًا للقطاع الخاص ولكن مع وجود ضريبة دخل عالية، تُستخدم لشراء الخدمات للفقراء، فيمكن اعتباره "رأسماليًا". في الواقع، يمكن القول إن الاشتراكية الأناركية لا تحتوي على أي "لوائح" ولا دولة رفاهية على الإطلاق. لذلك، مع أن اعتبار اللوائح وبرامج الرعاية الاجتماعية اشتراكية ليس مُضلِّلاً عمومًا، إلا أن هذا ليس جزءًا من التعريفات الأكاديمية لـ"الرأسمالية" و"الاشتراكية".

تعريفات خاطئة

حتى الآن، تناولنا التعريفات الأكاديمية لـ"الرأسمالية" و"الاشتراكية". لكن هاتين الكلمتين تُستخدمان أيضًا بطرق أخرى. فلننظر إذن في تعريفين خاطئين:

الرأسمالية: نظام شرير لا يعمل إلا لصالح الأغنياء؛ ينتشر فيه الفقر المدقع وعدم المساواة على نطاق واسع؛ الجميع تقريبًا مستهلكون وجشعون، ولا يسعون إلا إلى جمع المزيد من الثروة؛ العمال مستعبدون لرؤسائهم؛ ولا أحد يحمي البيئة من التدهور.

الاشتراكية: نظام شرير يكون فيه المجتمع ديكتاتوريًا شموليًا؛ الجميع كسالى لأنهم يعلمون أنهم سيحصلون على أشياء مجانية؛ الاقتصاد في حالة من الفوضى، مع انتشار الهدر والفساد في كل مكان؛ الجميع مضطرون لمشاركة فرشاة أسنانهم؛ ويتم استبدال الدين التقليدي والعائلات بعبادة الدولة والحياة في مجتمعات الهيبيز.

هذه التعريفات "خاطئة" لعدم حيادها الكافي؛ إذ يكاد لا أحد يُقر صراحةً أيًا من النظامين الموصوفين، لذا يُعدّ استخدام هذه التعريفات مضيعة للوقت. من الممكن أن تؤدي الرأسمالية (التعريف الأكاديمي) حتمًا إلى الرأسمالية (التعريف الخاطئ)، أو العكس بالنسبة للاشتراكية. لكن هذا سؤال مفتوح وتجريبي - وهذا لا يعني أنه يجب تعريف "الرأسمالية" أو "الاشتراكية" بهذه الطريقة.

أمثلة من الحياة الواقعية؟

جميع المجتمعات الكبيرة كانت لديها اقتصادات مختلطة: بعضها رأسمالي وبعضها اشتراكي. ونتيجةً لذلك، يصعب النظر إلى المجتمعات الواقعية والقول إن فيها جانبًا جيدًا أو سيئًا بسبب الرأسمالية أو الاشتراكية. فنحن لا نعرف دائمًا أي جانب ننسب إليه الفضل أو نلومه. على سبيل المثال، جادل البعض بأن السبب الرئيسي للركود الكبير في الولايات المتحدة كان عدم كفاية التنظيم؛ بينما قال آخرون إنه كان التدخل الحكومي المفرط في سوق الإسكان. وبالمثل، قد يُلقي الناس باللوم على الرأسمالية أو الاشتراكية في بعض الأضرار، عندما يكون النظام المعني رأسماليًا بشكل عام، لكن الضرر ناتج عن جانب اشتراكي، أو العكس. على سبيل المثال، إذا جادل اشتراكي بأن الرأسمالية سيئة لأن نظام العدالة الجنائية غير عادل أو غير فعال، فيمكن لمؤيد الرأسمالية أن يرد بأن نظام العدالة الجنائية خاضع لسيطرة اجتماعية. من ناحية أخرى، إذا جادل مؤيد للرأسمالية بأن الاشتراكية سيئة لأن العديد من المسؤولين في الأنظمة الاشتراكية استخدموا ممتلكاتهم الخاصة لإثراء أنفسهم، فيمكن للاشتراكي أن يرد بأن ذلك لم يحدث إلا لأن النظام لم يكن اشتراكيًا بما فيه الكفاية. عندما تكون المصطلحات المهمة موضع خلاف حول تعريفاتها، فمن الأفضل تحديد التعريفات التي نشير إليها صراحةً. بما أن السمة الأساسية لهذا النقاش هي مسألة ما إذا كان ينبغي أن يكون الناس قادرين على امتلاك رأس المال الخاص أم لا، فيجب أن نبدأ بالتعريفات الأكاديمية. من الإنصاف لكلا الجانبين استخدام تعريفات حيادية وواسعة الانتشار إلى أقصى حد، ثم محاولة الإجابة على السؤال الأخلاقي والاجتماعي المتعلق بأي الترتيبات أفضل.

حجج لصالح الرأسمالية والاشتراكية

لنفترض أن لديّ عصا سحرية تُمكّنني من إنتاج 500 دونات في الساعة. أقول لك: "لنعقد صفقة. استخدم هذه العصا لإنتاج الدونات، ثم بِعها مقابل 500 دولار، وأعطني العائد. سأعطيك 10 دولارات مقابل كل ساعة تقضيها في هذا العمل. سأقضي هذا الوقت في لعب ألعاب الفيديو." يبدو نشاطي - لعب ألعاب الفيديو - سهلاً للغاية. وظيفتك تتطلب جهدًا أكبر بكثير. وقد أحصل في النهاية على أكثر من 10 دولارات مقابل كل ساعة عمل. كيف يكون هذا عادلاً؟

في القصة، تُشبه العصا السحرية السلع الرأسمالية: الأصول (عادةً الآلات والمباني، مثل الروبوتات وماكينات الخياطة وأجهزة الكمبيوتر والمصانع) التي تزيد من إنتاجية العمل، أو توفير السلع والخدمات. تشير التعريفات المعيارية لـ "الرأسمالية" و"الاشتراكية" إلى أن الأنظمة الرأسمالية، بشكل عام، تسمح للناس بامتلاك السلع الرأسمالية والتحكم فيها بشكل خاص، بينما لا تسمح الأنظمة الاشتراكية بذلك.

تميل الأنظمة الرأسمالية إلى احتواء العمل المأجور على نطاق واسع، والملكية الغائبة، ودخل الملكية؛ بينما لا تشمل الأنظمة الاشتراكية ذلك عمومًا. تُعدّ السلع الرأسمالية ذات أهمية أخلاقية. فكما هو الحال مع العصا السحرية، تُمكّن ملكية السلع الرأسمالية المرء من جني أموال طائلة دون عمل. في المقابل، يضطر الآخرون إلى العمل لكسب لقمة العيش. قد يكون هذا ظالمًا أو ضارًا.

يستعرض هذا المقال ويشرح الحجج الرئيسية في هذا النقاش.

الرأسمالية

تميل حجج الرأسمالية إلى القول بأنه من المفيد للمجتمع وجود حوافز لإنتاج وامتلاك واستخدام السلع الرأسمالية كالعصا السحرية، أو أنه من الخطأ منع الناس بالقوة من ذلك. فيما يلي أربع حجج للرأسمالية، مُلخصة بإيجاز:

(١) المنافسة: "عندما يتنافس الأفراد على الأرباح، فإن ذلك يعود بالنفع على المستهلك".

النقد: قد تُشجع المنافسة أيضًا على السلوك الأناني والاستغلالي. وقد توجد المنافسة أيضًا في بعض الأنظمة الاشتراكية.

(2) الحرية: "منع الناس من امتلاك رأس المال يُقيد حريتهم. وقد يُشكل الاستيلاء على دخلهم على شكل ضرائب سرقة".

النقد: ربما يُقيد امتلاك الملكية، في حد ذاته، الحرية، بمنع الآخرين من استخدامها. إذا أعلنتُ أنني أملك شيئًا ما، فقد أُعلن بذلك أنني سأجبرك على عدم استخدامه. وربما تتطلب "الحرية" القدرة على السعي وراء أهداف المرء الخاصة، والتي تتطلب بدورها قدرًا من الثروة. علاوة على ذلك، إذا كان على الناس الاختيار بين العمل والجوع، فقد لا يكون اختيارهم للعمل "حرًا" حقًا على أي حال. ويمكن القول إن التوزيع العام للثروة هو نتيجة "يانصيب طبيعي" تعسفي أخلاقيًا، والذي قد لا يمنح في الواقع حقوق ملكية صارمة على ممتلكات المرء. لم أختر مكان ولادتي، ولا ثروة والديّ، ولا مواهبي الطبيعية، التي تسمح لي باكتساب الثروة. لذا ربما لا يكون انتهاكًا لحقوقي أن آخذ بعضًا من تلك الممتلكات مني.

(3) الخيرات العامة: "عندما يجب مشاركة الأشياء، بما في ذلك رأس المال، مع الآخرين، فلا يوجد أحد لديه دافع قوي لإنتاجها. في المقابل، يزداد المجتمع فقرًا ويزداد العمل صعوبةً لعدم كفاءة الإنتاج.

النقد: قد يكون الناس مدفوعين لإنتاج رأس المال لأسباب إيثارية، أو قد يُجبرون على ذلك في بعض الأنظمة الاشتراكية. بعض الأنظمة التي يُفترض أنها اشتراكية تسمح بإنتاج مربح للسلع الرأسمالية.

(4) مأساة الموارد المشتركة: "عندما يكون رأس المال أو الموارد الطبيعية أو البيئة خاضعةً لسيطرة عامة، لا أحد لديه دافع قوي لحمايتها."

النقد: كما في السابق، قد يكون الناس مدفوعين بالإيثار. مع ذلك، قد تُصنف بعض الأنظمة ذات السيطرة الخاصة الجزئية على رأس المال على أنها اشتراكية.

الاشتراكية

تميل حجج الاشتراكية إلى القول بأنه من الظلم أو الضرر وجود نظام مثل قصة العصا السحرية، نظامٌ يعتمد على العمل المأجور ودخل الملكية على نطاق واسع. إليكم أربع حجج للاشتراكية، مُلخصة:

(1) العدالة: "من الظلم كسب المال بمجرد امتلاك رأس المال، وهو أمرٌ لا يُمكن تحقيقه إلا في النظام الرأسمالي".

النقد: ربما لا يكون للعدالة أهمية أخلاقية تُضاهي أهمية الموافقة، والحرية، وحقوق الملكية، أو النتائج الإيجابية. وربما يوافق العمال المأجورون على العمل، ويتمتع أصحاب رؤوس الأموال بحقوق ملكية على رؤوس أموالهم.

(2) عدم المساواة: "عندما يتمكن الناس من امتلاك رأس المال بشكل خاص، يُمكنهم استخدامه لزيادة ثروتهم مقارنةً بالفقراء، ويُترك العمال المأجورون أكثر فأكثر فقرًا مقارنةً بالأغنياء، مما يُفاقم عدم المساواة القائم بالفعل بين أصحاب رؤوس الأموال والعمال المأجورين".

النقد: هذا ادعاء تجريبي قابل للنقاش. ولعلّ القدرة على امتلاك رأس المال الخاص تُشجّع الناس على الاستثمار في بناء السلع الرأسمالية، مما يُخفّض أسعار السلع والخدمات. علاوة على ذلك، ربما تُسيطر المصالح الخاصة الثرية على الاحتكارات التي تُمنح عادةً من خلال السيطرة الاجتماعية على رأس المال، مما يُلحق الضرر بالفقراء من خلال سنّ قوانين رجعية.

(3) العمل: "يُعزل العمال المأجورون عن عملهم، ويُستغَلّون، ويُحرمون من الحرية لأنهم مُلزمون بإطاعة أوامر رؤسائهم".

الانتقادات: إذا كان هذا الاغتراب والاستغلال ضارّين بالعمال، فلماذا يُوافقون على العمل؟ إذا كان الجواب "لأنهم سيُعانون من مشقة شديدة إن لم يفعلوا"، فإن هذا، بالمعنى الدقيق للكلمة، نقدٌ للسماح بالفقر، وليس نقدًا للسماح بالعمل المأجور.

(4) الأنانية: "عندما يتمكن الناس من امتلاك رأس المال بشكل خاص، فإنهم يسعون بأنانية إلى الربح فوق كل اعتبار، مما يؤدي إلى مزيد من عدم المساواة، والتدهور البيئي، والصناعات غير المنتجة، وعدم الاستقرار الاقتصادي، والاستعمار، والقتل الجماعي، والعبودية".

النقد: هذه أيضًا ادعاءات تجريبية قابلة للنقاش. ربما عندما يُمنح الناس السيطرة على رأس المال المملوك اجتماعيًا، فإنهم ينتزعون منه ثروات شخصية بأنانية. ربما عندما تكون البيئة خاضعة لسيطرة اجتماعية، يكون لدى كل فرد دافع فردي للإفراط في الحصاد والتلويث.

قد يكون تدخل الدولة في الاقتصاد سببًا رئيسيًا لوجود الصناعات غير المنتجة، والتلوث، وعدم الاستقرار الاقتصادي.

وأخيرًا، بعض أسوأ مرتكبي الشرور التاريخية هي الحكومات، وليست الشركات الخاصة.

نظرية العدالة كانصاف لجون راولز

بعض الناس مليارديرات، بينما يموت آخرون لأنهم فقراء للغاية ولا يستطيعون تحمل تكاليف الطعام أو الدواء. في العديد من البلدان، يُحرم الناس من حقوق حرية التعبير، والمشاركة في الحياة السياسية، أو السعي وراء مهنة، بسبب جنسهم أو دينهم أو عرقهم أو عوامل أخرى، بينما يتمتع مواطنوهم بهذه الحقوق. في العديد من المجتمعات، فإن أفضل ما يتنبأ بدخلك المستقبلي، أو ما إذا كنت ستلتحق بالجامعة، هو دخل والديك. يبدو للكثيرين أن هذه الحقائق غير عادلة. ويختلف آخرون: حتى لو كانت هذه الحقائق مؤسفة، فهي ليست قضايا عدالة. يجب أن توضح نظرية العدالة الناجحة سبب كون الظلم الواضح غير عادل، وأن تساعدنا في حل النزاعات الحالية. كان جون راولز (1921-2002) فيلسوفًا من جامعة هارفارد، اشتهر بكتابه "نظرية العدالة" (1971)، الذي حاول تعريف المجتمع العادل. تشير كل مناقشة أكاديمية معاصرة تقريبًا حول العدالة إلى "نظرية العدالة". تستعرض هذه المقالة موضوعاتها الرئيسية.

"الوضع الأصلي" و"ستار الجهالة":

كثيرًا ما يختلف العقلاء حول كيفية العيش، لكننا بحاجة إلى هيكلة المجتمع بطريقة يقبلها العقلاء فيه. يمكن للمواطنين أن يحاولوا الاتفاق جماعيًا على قواعد أساسية. لسنا بحاجة إلى تحديد كل تفصيلة: قد نهتم فقط بالقواعد المتعلقة بالمؤسسات السياسية والاجتماعية الرئيسية، مثل النظام القانوني والاقتصاد، التي تُشكل "البنية الأساسية" للمجتمع. كما يُعدّ الاتفاق الجماعي على البنية الأساسية للمجتمع مثالًا مثاليًا جذابًا. لكن بعض الناس أقوى من غيرهم: قد يكون بعضهم أكثر ثراءً، أو جزءًا من أغلبية اجتماعية. إذا استطاع الناس الهيمنة على المفاوضات بناءً على صفات، كما يصفها راولز، تعسفية أخلاقيًا، فهذا خطأ. لا يكتسب الناس هذه المزايا، بل يحصلون عليها بالصدفة. إن استغلال أي شخص لهذه المزايا غير المستحقة لمصلحته الخاصة أمرٌ غير عادل، ومصدرٌ للعديد من المظالم. هذا يُلهم ادعاء رولز المحوري بأن علينا أن نتصور العدالة "كإنصاف". ولتحديد الإنصاف، يُطور رولز مفهومين مهمين: الوضع الأصلي وحجاب الجهل. الوضع الأصلي هو وضع افتراضي: يسأل رولز عن القواعد والمؤسسات الاجتماعية التي سيوافق عليها الناس، ليس في نقاش فعلي، بل في ظل ظروف عادلة، حيث لا أحد يعلم ما إذا كانوا محظوظين. يتحقق الإنصاف من خلال حجاب الجهل، وهو أسلوب مُتخيل حيث يمتلك الأشخاص الذين يختارون البنية الأساسية للمجتمع ("المُتداولون") سمات أخلاقية تعسفية مخفية عنهم: بما أنهم لا يعرفون هذه السمات، فلا يمكن أن يكون أي قرار يتخذونه متحيزًا لصالحهم. مع ذلك، فإن المُتداولين ليسوا جاهلين بكل شيء. إنهم يعلمون أنهم مهتمون بمصلحتهم الذاتية، أي أنهم يريدون أكبر قدر ممكن مما يُسميه رولز الخيرات الأولية (الأشياء التي نريدها، بغض النظر عن شكل حياتنا المثالية). كما أنهم مدفوعون بشعورٍ ضئيلٍ بالعدالة: فهم يلتزمون بالقواعد التي تبدو عادلة، حتى لو التزم بها الآخرون. كما أنهم على درايةٍ بالحقائق الأساسية عن العلم والطبيعة البشرية.

مبادئ رولز للعدالة

يعتقد رولز أن المجتمع العادل سيتوافق مع القواعد التي يتفق عليها الجميع في الوضع الأصلي. ولأنهم يتداولون وراء ستار الجهل، فإن الناس لا يعرفون ظروفهم الشخصية، أو حتى نظرتهم للحياة الكريمة. وهذا يؤثر على أنواع النتائج التي سيؤيدونها: على سبيل المثال، سيكون من غير المنطقي أن يوافق المتداولون على مجتمع يتمتع فيه المسيحيون فقط بحقوق الملكية، لأنه إذا رُفع الستار، وتبين أنهم ليسوا مسيحيين، فسيؤثر ذلك سلبًا على آفاق حياتهم. وبالمثل، يُفترض أن المتداولين لن يختاروا مجتمعًا به ممارسات عنصرية أو جنسية أو غيرها من الممارسات التمييزية الجائرة، لأنهم قد يقعون، وراء الستار، في الجانب الخطأ من هذه السياسات. هذا يُفضي إلى مبدأ رولز الأول في العدالة: لجميع الناس الحق في المطالبة بنفس القدر من الحرية الذي يتمتع به الآخرون. كما يزعم راولز أيضًا أنه نظرًا لجهلهم الذي يتضمن جهلًا بالاحتمالات، فإن المداولين سيكونون حذرين للغاية، وسيطبقون ما يسميه مبدأ "التعظيم": سيهدفون إلى ضمان أن يكون أسوأ وضع ممكن قد ينتهي بهم الأمر فيه هو الأفضل قدر الإمكان من حيث السلع الأساسية. إذا تخيلنا أنفسنا مداولين، فقد ننجذب إلى فكرة المساواة التامة في السلع الأساسية. هذا يضمن، على الأقل، ألا يكون أحد أفضل حالًا منك لأسباب تعسفية. ومع ذلك، قد يكون بعض التفاوت مفيدًا: فإمكانية كسب المزيد قد تحفز الناس على العمل بجد أكبر، مما يؤدي إلى نمو الاقتصاد، وبالتالي زيادة إجمالي الثروة المتاحة. هذا ليس تأييدًا كاملًا للرأسمالية، كما يوضح مبدأ راولز الثاني، الذي يتناول التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية. يتكون المبدأ الثاني من شقين:

أولًا، لن يتسامح الأشخاص في الوضع الأصلي مع التفاوتات إلا إذا لم تُخصص لهم الوظائف ذات الأجور الأعلى بشكل غير عادل. هذا يُعطينا مثالًا للمساواة العادلة في الفرص: لا يُسمح بأوجه عدم المساواة إلا إذا نشأت من خلال وظائف يتمتع فيها الأشخاص ذوو المواهب المتساوية بفرص متساوية في الحصول عليها. يتطلب هذا، على سبيل المثال، أن يحصل الشباب على فرص تعليمية متساوية تقريبًا؛ وإلا، فقد يُعيق الفرد الموهوب بسبب نقص المعرفة الأساسية، سواءً بمواهبه الخاصة أو بالعالم.

ثانيًا، بما أن منطقهم يحكمه مبدأ "التعظيم"، فإن المداولين لن يتسامحوا إلا مع أوجه عدم المساواة التي تُفيد الفئات الأكثر تضررًا: وبما أنهم، على حد علمهم، قد يكونون الأكثر تضررًا، فإن هذا يُعظم جودة أسوأ نتيجة ممكنة لهم. وهذا ما يُسمى بمبدأ الاختلاف.

هذه المبادئ مُرتبة، وهو ما يُخبرنا بما يجب فعله في حال تعارضها: الحرية المتساوية هي الأهم، ثم تكافؤ الفرص، وأخيرًا مبدأ الاختلاف. لذا، لا تخضع الحريات ولا الفرص لمبدأ الاختلاف.

العدالة التوزيعية: كيف ينبغي تخصيص الموارد؟

بينما نكتب هذا، تبلغ ثروة جيف بيزوس، الرئيس التنفيذي لشركة أمازون، 188 مليار دولار. أي ما يزيد بنحو مليار دولار عن اليوم السابق. وهذا المليار دولار هو مبلغ أكبر مما كنت ستحصل عليه لو كنت تكسب 1000 دولار يوميًا، كل يوم، منذ وفاة المسيح. في الوقت نفسه، يعيش مئات الملايين من الناس حول العالم في فقر مدقع. وبالنسبة للكثيرين، فإن الفقر المدقع لا يفصلهم سوى فاتورة مستشفى أو حصاد فاشل. هذا مثال على توزيع الثروة والموارد الاقتصادية. هناك سلع أخرى ذات صلة هنا أيضًا، مثل التعليم والرعاية الصحية والإسكان. توزيع هذه السلع مهم لأنه يساهم في رفاهيتنا. ومع ذلك، فإن هذه السلع القيّمة نادرة: كيف ينبغي توزيع السلع التي تساهم في الرفاهية؟ هذا هو سؤال العدالة التوزيعية.

المساواة

أحد المقترحات هو أن يحصل الجميع على السلع التي تؤدي إلى قدر متساوٍ تقريبًا من الرفاهية. وهذا ما يُسمى بالمساواة. قد تبدو المساواة عادلة: فالناس متساوون أخلاقيًا، لذا يجب أن يتمتعوا بقدر متساوٍ من الرفاهية. ان المساواة لا تعني دائمًا امتلاك نفس السلع تمامًا: يجب أن نأخذ في الاعتبار بعض الحقائق المتعلقة بالأشخاص: على سبيل المثال، قد يحتاج الأشخاص ذوو الإعاقات الجسدية إلى مزيد من المال لتحقيق نفس مستوى الرفاهية، مثلاً لدفع ثمن كرسي متحرك أو مرافق رعاية المسنين. لكن الاعتقاد بأن المساواة التوزيعية في حد ذاتها قيّمة له بعض الآثار غير البديهية. هذا يعني أنه من الأفضل أحيانًا جعل الناس أسوأ حالًا دون تحسين حال أي شخص: على سبيل المثال، إذا دمرت عاصفة منازل في منطقة غنية من المدينة، مما جعل الأغنياء أقرب إلى مستوى رفاهية الفقراء، يبدو أن المساواة تشير إلى أن هذا أمر جيد لأنه يجعل الأمور أكثر مساواة. لتجنب مثل هذه التداعيات، يجادل كثيرون بأن التفاوتات قد تكون مبررة أحيانًا. على سبيل المثال، بدأت النقاشات المعاصرة حول العدالة التوزيعية فعليًا مع نشر نظرية راولز في العدالة. اقترح راولز أن التفاوتات تكون مبررة إذا - وفقط إذا - أفادت الفئات الأقل ثراءً في المجتمع. لا تزال هذه وجهة نظر مساواتية، حيث يُنظر إلى التوزيع المتساوي على أنه الأساس، ويجب تبرير أي انحراف عنه.

على عكس راولز، رفض آخرون فكرة أن المساواة التوزيعية هي الأساس الأخلاقي تمامًا. نستعرض هنا بعض المبادئ المؤثرة التي دافع عنها الفلاسفة ردًا على مبدأ المساواة وتقديره للمساواة في العدالة التوزيعية.

الأولوية

ينص أحد بدائل مبدأ المساواة على أنه كلما قلّت السلع القيّمة التي يمتلكها الفرد، زادت أهمية السلع الإضافية: على سبيل المثال، ألف دولار إضافية تُهمّ شخصًا فقيرًا أكثر من ملياردير. لذا، إذا كان بإمكاني تقديم منفعة واحدة لشخص ذي مستوى رفاهية منخفض أو لشخص ذي مستوى رفاهية مرتفع، فمن المنطقي منحها للشخص ذي مستوى الرفاهية الأقل. تُسمى هذه النظرة بالأولوية. لا تُعنى الأولوية بعدم المساواة في حد ذاتها: بل تعني أن إعادة التوزيع يجب أن تصبّ غالبًا في صالح الأقل ثراءً. يُعطي أصحاب الأولوية أولويةً مُرجّحة، وليست مُطلقة، للأقل ثراءً. ومع ذلك، هذا يعني أنه إذا استطعنا إفادة الأغنياء بشكل كبير بتكلفة زهيدة على الفقراء، فإن هذه المنفعة قد تفوق أسبابنا لإفادة الفقراء. ولكن في معظم الحالات الواقعية، يُساعد أصحاب الأولوية الأقل ثراءً أولًا. ومع ذلك، يعتقد الكثيرون أنه من المهم للغاية ألا يعيش الناس في فقر، وهو ادعاء يختلف عن إعطاء أولوية مرجحة لاحتياجاتهم. وهذا يقودنا إلى الاقتراح الثالث: الكفاية.

الكفاية

هذا الاقتراح الثالث هو أن على كل فرد أن يحقق حدًا أدنى أو حدًا أدنى من بعض السلع القيّمة، مثل الدخل أو التعليم أو الرعاية الصحية. يجب أن يكون لدى كل فرد ما يكفي على الأقل للوصول إلى هذا الحد. وهذا ما يُسمى بمذهب الكفاية. تعتمد معقولية هذا المذهب على كيفية تطويره: ما الذي يُعد "امتلاكًا كافيًا"؟ الإجابات الشائعة هي أن الناس يجب أن يكونوا قادرين على تلبية احتياجاتهم الأساسية أو أن يكونوا راضين بما لديهم.  تثير هذه الإجابات تساؤلاتٍ خاصة، مثل غموض معنى "الكفاية". لذلك يدافع البعض عن مبدأ الكفاية على أساس أننا نهتم بعدم المساواة لأن بعض الناس في وضعٍ سيء للغاية: فعندما نجد حالاتٍ من عدم المساواة المُقلقة، مثل التشرد في مجتمعٍ غني، فإن ما يُثير الاعتراض ليس فارق الثروة، بل كون المشردين في وضعٍ سيءٍ للغاية. من الاعتراضات المهمة على مبدأ الكفاية أنه يُفضّل رفع مستوى معيشة الناس فوق الحد الأدنى على أي منفعةٍ أخرى مُمكنة للآخرين: على سبيل المثال، منفعةٌ لشخصٍ واحدٍ تحت الحد الأدنى مباشرةً تُفضّل دائمًا على منفعة ألف شخصٍ فوق هذا الحد مباشرةً. يُعارض الكثيرون هذا الرأي. وجهة نظر أخيرة حول العدالة التوزيعية هي أنه يجب التركيز على كيفية حدوث التوزيعات، وليس على التوزيع نفسه. وهذا ما تنادي به الليبرالية. يقدم روبرت نوزيك مثال ويلت تشامبرلين الشهير. يجعلنا نوزيك نتخيل أناسًا يعطون ويلت دولارًا واحدًا من أموالهم الخاصة مجانًا لمشاهدته يلعب كرة السلة. في هذه الحالة، يحق لويلت الحصول على هذا المال شرعيًا، وبالتالي سيكون من الظلم أن تأخذ الحكومة جزءًا من أمواله، تحت التهديد بالقوة، لإعادة توزيعها. يجادل نوزيك، إذًا، بأنه إذا حُرمت حقوق الناس في اكتساب ونقل السلع - مستبعدين، على سبيل المثال، اكتساب أو نقل السلع باستخدام القوة أو السرقة أو الخداع - فلا يمكننا الاعتراض على مثل هذه التوزيعات باعتبارها غير عادلة، مهما كانت النتيجة النهائية. تعرضت الليبرالية لانتقادات شديدة. ومن المشكوك فيه ما إذا كان التوزيع الحالي للدخل والتعليم والرعاية الصحية، على سبيل المثال، ناتجًا عن أنواع المعاملات الطوعية التي يتطلبها الليبرتاريون.

حجة روبرت نوزيك "ويلت تشامبرلين" لدعم الليبارتارية

بعض الناس أغنياء، والبعض الآخر فقراء. هل هذا أمرٌ سيء؟ يجادل كثيرون بأنه من الظلم أن يكون المجتمع يعاني من تفاوتٍ عميق، وأن على الحكومة التدخل لتوزيع الثروة من فاحشي الثراء على الجميع. يخالف الفيلسوف روبرت نوزيك (1938-2002) هذا الرأي. فرغم أن إعادة توزيع الثروة قد تبدو منطقية، إلا أن نوزيك يعتقد أن قصة نجم كرة السلة ويلت تشامبرلين (1936-1999) تُظهر لماذا لا ينبغي للحكومة أن تأخذ من الأغنياء لمساعدة الآخرين. تشرح هذه المقالة حجة نوزيك التي يستخدمها لدعم "الليبرالية"، وهي وجهة نظره القائلة بأن دور الحكومة ليس إعادة توزيع الثروة، بل تعزيز الحرية.

قصة ويلت تشامبرلين

تخيل أن تشامبرلين وقّع عقدًا مع فريقه لكرة السلة. يمنح العقد تشامبرلين ٢٥ سنتًا عن كل تذكرة مباعة للمباريات التي يشارك فيها. خلال موسم كرة السلة، يحضر مليون شخص لمشاهدة تشامبرلين. في نهاية الموسم، يصبح أغنى بمقدار ٢٥٠ ألف دولار عن ذي قبل. لا يبدو أن أحدًا يرتكب أي خطأ بدفعه لمشاهدة تشامبرلين. يحق للناس إنفاق أموالهم كما يحلو لهم. لا أحد يتضرر من هذا. لذا، إذا سمحت الحكومة للناس بإنفاق أموالهم بحرية، فلن يكون هناك ما يمنع أي شخص من تحقيق أقصى ثراء ممكن بناءً على موهبته أو اجتهاده أو حظه أو أي شيء آخر.

لا حدود للتفاوت

يجادل نوزيك بأنه بما أن أشخاصًا مثل تشامبرلين يمكنهم الثراء دون حدوث أي مكروه، فلا ينبغي أن يكون هناك حد لمدى تفاوت المجتمع. لا ينبغي للحكومة أن تتدخل لأخذ المال من أي شخص طالما أنه مُنح له بحرية من شخص امتلكه عن حق في المقام الأول. لذا، طالما لم يسرق أحد المال لإعطائه لتشامبرلين، فلا ينبغي للحكومة أن تأخذ أموال تشامبرلين.

منع التفاوت يُخنق الحرية

يجادل نوزيك بأن ضمان المساواة في الثروة يتطلب انتهاكًا غير مبرر للحرية. أي قدر من التفاوت نعتبره "مفرطًا" هو مستوى يمكن الوصول إليه بشيء مثل مثال تشامبرلين. لمنع المجتمع من الوصول إلى هذا التفاوت، يتعين على الحكومة منع المعاملات الحرة، أو إلغاؤها فورًا. سيتعين عليها إما أن تجعل توقيع تشامبرلين على صفقته أمرًا غير قانوني، أو أن تأخذ المال بمجرد كسبه. يعتقد نوزيك أن هذا التنظيم الصارم، أو الاستعادة المستمرة، سيكون ظالمًا. سيتعين على الحكومة أن تمنع الناس من القيام بأشياء مقبولة تمامًا، مثل دفع مبالغ إضافية لمراقبة تشامبرلين، وإلا سيتعين عليها مصادرة أمواله بمجرد كسبها. لكن من الخطأ تقييد الحرية بهذه الطريقة، أو مصادرة دخل تشامبرلين بهذه الطريقة. انه لا ينبغي للحكومة أن تحاول إعادة توزيع الثروة. وهذا صحيح حتى لو كان الوضع الناتج غير متكافئ للغاية، مثل تشامبرلين ثري في مجتمع فقير.

الليبارتارية

حجة نوزيك حول ويلت تشامبرلين هي إحدى الحجج التي يستخدمها للدفاع عن وجهة نظره القائلة بأن أفضل أنواع الحكومات هي تلك التي لا تتدخل في الحرية. دور الحكومة هو تعزيز حرية الجميع، وليس إعادة توزيع الثروة أو تعزيز المساواة الاقتصادية. لذلك، يُعرف نوزيك بأنه "ليبرالي". أحيانًا تُستخدم كلمة "ليبرالي" بمعنى آخر. لكن في الفلسفة السياسية، تشير إلى من يعتقدون أن على الحكومة تعزيز الحرية.يجادل بعض الليبرتاريين بأننا نحتاج إلى المساواة الاقتصادية للحفاظ على الحرية. لكن نوزيك يختلف معهم. تهدف حجة ويلت تشامبرلين التي يقدمها إلى إظهار أن تحقيق المساواة الاقتصادية من شأنه أن يتدخل في الحرية. تتناقض الليبرتارية مع الرأي الذي دافع عنه الفيلسوف جون راولز. يعتقد راولز أن الحكومة أكثر من مجرد مدافع عن الحرية. إنها أيضًا مشروع تعاوني. وبالتالي، يجب أن نوزع منافع هذا التعاون بشكل عادل، وهذا يشمل الدخل الذي يجنيه الناس في المجتمع. يرى رولز أن هذا يتطلب توزيعًا أقرب إلى المساواة، بدلًا من ترك الأغنياء يزدادون ثراءً.

الاعتراضات

وُجّهت اعتراضات عديدة على حجة نوزيك. أحد هذه الاعتراضات هو أن نوزيك مخطئ في ادعائه بأنه طالما تصرف الجميع بحرية، فلا حرج في النتيجة. ربما تؤدي بعض الخيارات الحرة إلى نتائج غير مقبولة. على سبيل المثال، عندما يصبح ويلت تشامبرلين أغنى بكثير من أي شخص آخر، يصبح قويًا ومؤثرًا. يمكنه شراء جميع الشقق وفرض إيجارات علينا للسكن فيها، مما يزيده ثراءً ويزيدنا فقرًا. يمكنه استثمار الأموال في مشاريع مربحة، واستخدام العائدات لتوسيع استثماراته. يمكنه نقل هذه الأموال إلى أبنائه الذين يفعلون الشيء نفسه. قد تكون النتيجة انقسامات طبقية عميقة تستمر قرونًا.لذا، يجادل البعض بأنه لمنعه من امتلاك سلطة مفرطة، يجب على الحكومة إعادة توزيع ثروته الزائدة. وإلا، فلن يكون الناس أحرارًا. سيُسيطر على حياتهم رجال أعمال مثل تشامبرلين وذريته.هناك اعتراض آخر يتمثل في أن نوزيك مُخطئ في ادعائه بأن التصرفات الحرة ستُفسد أي توزيع مُفضل للموارد. ربما يكون صحيحًا أننا لا نستطيع جميعًا الحصول على ثروة متساوية بعد خمس دقائق من انتهاء موسم كرة السلة إلا إذا استخدمت الحكومة يدًا غليظة لإعادة توزيع الأموال. ولكن ربما يكون من الأنسب ضمان تساوي الثروة على مدى فترة زمنية أطول. على سبيل المثال، ربما ينبغي على الحكومة ضمان حصولنا جميعًا على ثروة متساوية تقريبًا طوال حياتنا، بدلًا من تساويها في جميع الأوقات، بما في ذلك بعد موسم كرة السلة مباشرةً. يُمكن للحكومة فرض ضريبة إضافية بسيطة على ويلت تشامبرلين كل عام. ثم يُمكنها إنفاق هذه الأموال على أمور تُفيد الأقل ثراءً، مثل إعانات البطالة. بمرور الوقت، ستعود أموال تشامبرلين الإضافية من كرة السلة إلى الآخرين، مما يضمن المساواة طوال حياة الجميع، بدلًا من أن تُدفع مباشرةً بعد موسم كرة السلة. أثارت حجة ويلت تشامبرلين جدلاً واسعاً حول أنواع العلاقات القائمة (أو التي ينبغي أن تكون قائمة) بين الحكومة والحرية والموارد.ولأن هذا المثال يُبرز بفعالية مواضيع رئيسية، مثل كيفية تعارض الحرية مع التوزيعات المحددة، فقد ظلّ مثالاً خالداً في الفلسفة السياسية.

الخاتمة

يُرجّح أن العيش في ظل عقد أفضل من العيش في حالة الطبيعة. مع ذلك، تبقى بعض التساؤلات.

أولاً، عادةً ما نوافق صراحةً على العقود، لكننا لم نفعل شيئًا كهذا للمجتمع. إذا قيل إننا نوافق ضمنيًا، أي أننا وافقنا ضمنيًا، يُجيب لوك: "تكمن الصعوبة فيما يجب اعتباره موافقة ضمنية، وإلى أي مدى يُنظر إلى أي شخص على أنه قد وافق، وبالتالي خضع لأي حكومة، حيث لم يُبدِ أي تعبير عن ذلك على الإطلاق." لم نوافق صراحةً على أي عقد اجتماعي. هل يوافق المواطنون بمجرد التمتع بمزايا الأشياء التي لا تُتاح إلا بالعيش في المجتمع؟ على سبيل المثال، تُعدّ القدرة على القيادة على الطرق العامة ميزة. لكن هذا لا يتحقق إلا بوجود طرق ممولة حكوميًا. ما لم يرفض شخص ما القيادة على الطرق العامة، بقبوله هذه الميزة، فهل يُعتبر "موافقًا" ضمنيًا؟

يُعد مفهوم لوك للموافقة الضمنية إشكاليًا لأنه يفترض موافقةً مبنيةً على تلقينا منافع. ومع ذلك، تُعد الموافقة الصريحة مهمةً لأن هذا النوع من الموافقة هو علامةٌ على الدخول طواعيةً في عقد. غالبًا ما تكون الموافقة الصريحة بالغة الأهمية - لنأخذ الموافقة في العلاقات الجنسية - ولكن لا يتم الحصول عليها، أو حتى السعي إليها، للمشاركة في المجتمع والحصول على منافع منه.

وهناك مشكلةٌ ثانيةٌ أعمق في مفهوم العقد الاجتماعي، وهي من استُبعد ومن استُبعد. من لم يُسمح له بتوقيع العقد أو المساعدة في صياغته؟ في العديد من المجتمعات، تم استبعاد النساء وغير الأوروبيين عمدًا، وبالتأكيد لن يوافق العديد من الأفراد والمجموعات على الكثير من سياسات وممارسات الحكومات، سواءً في الماضي أو الحاضر.

يمكننا الآن أن نرى كيف يُمكن لنظرية راولز أن تُقيّم القضايا التي طُرحت سابقًا. على الأقل في مجتمعات محددة، يبدو أن كلاً منهما ينتهك مبادئ العدالة الأساسية، وبالتالي يُدان بالظلم. لذا، حتى لو رفضنا في نهاية المطاف نهج راولز، فإنه على الأقل يبدو أنه يقدم إجابات صحيحة بديهيًا في عدة قضايا مهمة، ولأسباب معقولة. من الصعب استخلاص استنتاجات عامة مبررة حول ماهية الرأسمالية أو الاشتراكية الصرفة عمليًا. لكن دراسة مزايا وعيوب كل نظام تُعطينا بعض التوجيهات حول ما إذا كان ينبغي لنا توجيه المجتمع في أيٍّ من الاتجاهين. بغض النظر عن وجهة النظر التي نؤيدها بشأن العدالة التوزيعية، فإن عالمنا الحالي لا يرقى إلى مستوى هذا المثل. عالمنا عالمٌ يسوده عدم المساواة وعدم الكفاية، ولكنه أيضًا عالمٌ يسوده الهدر والإسراف. ورغم اختلاف هذه النظريات، فإنها تتفق جميعها على أن التوزيعات الحالية بعيدة كل البعد عن العدالة، وبالتالي فإن تناول هذه القضايا بوعي وحكمة من شأنه أن يُسهم في تقريبنا من العدالة. فأين الحكمة في التبرير القانوني للنظام السياسي الاقتصادي الذي يعيد انتاج التفاوت بين الأفراد والجهات والدول والشعوب ويعيد تصدير الظلم الحضاري والأزمات الى الأمم المهزومة؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

..........................

المراجع

Beitz, Charles (1979) ‘Bounded Morality: Justice and the State in World Politics’ International Organization, 33: 405–424.

Carole Pateman, The Sexual Contract (Stanford University Press, 1988)

Charles W. Mills, The Racial Contract (Cornell University Press, 1997)

Daniels, Norman (2007), Just Health: Meeting Health Needs Fairly Cambridge University Press

Gauthier, David (1986) Morals by Agreement Oxford University Press

Gilbert, Margaret (2006) ‘Reconsidering Actual Contract Theory’ in A Theory of Political Obligation: Membership, Commitment, and the Bonds of Society. Oxford University Press. 215-238

Glover, Jonathan (1990) Utilitarianism and its Critics Macmillan Publishing

Harsanyi, John (1975) ‘Can the Maximin Principle Serve as a Basis for Morality? A Critique of John Rawls’ Theory’ America Political Science Review 69(2): 594-606

Kant, Immanuel (1793) ‘On the common saying: this may be true in theory but it does not apply in practice’ in Kant’s Political Writings (1970), edited by Hans Reiss, translated by H. B. Nisbet. Cambridge University Press (61-93)

Hume, David (1738) A Treatise of Human Nature

John Locke, Second Treatise of Government (1690), ed. C.B. Macpherson (Hackett, 1980)

Jean-Jacques Rousseau, The Social Contract (1762) (Penguin Books, 1968)

Jean-Jacques Rousseau, Discourse on the Origin of Inequality (1754) (Indianapolis: Hackett, 1992)

Mills, Charles (2009) ‘Rawls on Race/Race in Rawls’ The Southern Journal of Philosophy (2009): 161-184

Moller Okin, Susan (1989) Justice, Gender and the Family New York: Basic Books

Narveson, Jan (2001) The Libertarian Idea Broadview Press

Nozick, Robert (1974) Anarchy, State and Utopia Wiley-Blackwell

Nussbaum, Martha, (2006), Frontiers of Justice: Disability, Nationality, Species Membership, Cambridge: Harvard University Press.

Rawls, John (2002) The Cambridge Companion to Rawls edited by Samuel Freeman. Cambridge: Cambridge University Press

Rawls, John (2005) Political Liberalism: Expanded Edition Columbia University Press

Rawls, John (1971) A Theory of Justice  Cambridge, MA: Harvard University Press

Rawls, John (1999a) The Law of Peoples Cambridge, MA: Harvard University Press

Rawls, John (1999b) A Theory of Justice: Revised Edition Cambridge, MA: Harvard University Press

Rawls, John (2001) Justice as Fairness: A Restatement Erin Kelly ed. Cambridge, MA: Harvard University Press

Rowlands, Mark (1997) ‘Contractarianism and Animal Rights’ Journal of Applied Philosophy 14 (3):235–247

Shelby, Tommie (2013) ‘Racial Realities and Corrective Justice: A Reply to Charles Mills’ Critical Philosophy of Race 1(2): 145-162.

Sen, Amartya, (1980), ‘Equality of What?’ in Tanner Lectures on Human Values, S. MacMurrin (ed.), Cambridge: Cambridge University Press.

Sandel, Michael (1998) Liberalism and the Limits of Justice Cambridge: Cambridge University Press

Sen, Amartya (1992) Inequality Re-examined Cambridge, MA: Harvard University Press

Taylor, Charles (1985). ‘The nature and scope of distributive justice’ in Philosophy and the Human Sciences: Philosophical Papers 2 Cambridge: Cambridge University Press: 289-317

Wenar, Leif, (2017) ‘John Rawls’, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Spring 2017 Edition), Edward N. Zalta (ed.)

Thomas Hobbes Leviathan (1651), ed. Michael Oakeshott (Simon and Schuster, 1962)

الفتنة الكبرى هو مصطلح شائع يكثر استعماله في الثقافة العربية للتعبير عن حدث جلل أصاب المسلمين، وأدى إلى انقسام كبير وخلاف عظيم في الأمة الإسلامية. مازالت آثاره موجودة في الفكر العربي. تاريخياً أطلق مصطلح الفتنة الكبرى على حادثة قتل ثالث الخلفاء الراشدين، أمير المؤمنين عثمان بن عفان (رض)، واعتُبرت هي الفتنة الكبرى الأولى، والفتنة الكبرى الثانية هي اغتيال أمير المؤمنين الإمام علي (رض)، رابع الخلفاء الراشدين. وقد شَمَل بعض الكُتاب والمثقفون أحداث سقيفة بني ساعدة ضمن مفهوم الفتنة الكبرى. وعلى الرغم من أن هذه الأحداث وقعت قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة إلّا إن تأثيرها في العقل والفكر العربي ما زال قائماً وبقوة، بحيث أن معظم الكتّاب والمؤرخون والمثقفون ممن يدرسون ويحلّلون أحداث التأريخ الإسلامي، يعتبرونها نقطة تحول كبيرة في المجتمع الإسلامي، وذات تأثير مباشر وعظيم على انقسام وشقاق الأمة الإسلامية، وبالتالي تراجع وتخلّف الأمة الإسلامية. وأتساءل هنا: هل من المنطق والمعقول أو هل من المقبول أن يبقى تأثير تلك الأحداث على المجتمع العربي والإسلامي على الرغم من مرور هذه القرون الطوال؟ ولماذا تبقى تلك الأحداث متجذّرة في عقولنا وثقافتنا. لماذا لم تتحول إلى تاريخ قديم يُنظر له على أنه تراث عربي أو إسلامي قديم ونفخر به؟

الواقع، إن معظم المثقفين العرب الكبار مثل طه حسين وهشام جعيط وغيرهم، يعتبرون الفتنة الكبرى حدث مفصلي في التاريخ الإسلامي ويبنون عليه آرائهم واستنتاجاتهم. كذلك آمن الكثير من أفراد الشعوب العربية بهذا المبدأ، واعتُبرت الفتنة الكبرى حقيقة مسّلم بها ولا يمكن تجاهلها. فما هي قصة الفتنة الكبرى. وهل هي فعلاً من الأهمية بحيث أدت إلى شقاق وتخلّف المسلمين؟

وأشير هنا إلى مصطلح الفتنة الكبرى، وأتساءل كيف ظهرت هذه التسمية في ثقافتنا ومتى كان ذلك؟

الملاحظ، أن كلمة الفتنة لم تستعمل من قبل مؤرخي العصور السابقة للتعبير عن تلك الاحداث.  ذلك أن كُتُب التاريخ الإسلامي التي ظهرت في زمن الحضارة الإسلامية، ابتداء من الطبري في القرن الثالث الهجري، مروراً بابن الأثير وابن خلدون في القرن السابع الهجري وانتهاء بالسيوطي في القرن التاسع الهجري، لم تَستَعمل كلمة الفتنة في وصف هذه الأحداث. فالعناوين التي استعملت لوصف تلك الأحداث مثلاً: "في مقتل عثمان بن عفان" أو "ذكر مقتل على ابن طالب" وبدون رتوش أو تزويق.  بينما استُعمل المصطلح وبكثرة في كتب التاريخ والمؤلفات الثقافية المنشورة في تاريخنا الحديث والمعاصر، والتي تتحدث عن هذه الأحداث، مثل كتاب "الفتنة" لهشام جعيط، وكتاب "الفتنة الكبرى (عثمان)" وكتاب "الفتنة الكبرى (على وبنوه)" لطه حسين، وكِتاب "المؤرخون العرب والفتنة الكبرى" للدكتور عدنان محمد ملحم، وغيرها من الكتب التي صدرت حديثاً، وجميعها تستعمل عنوان الفتنة الكبرى. فهل هي صدفة أم مُسبَبة؟

يبدو لي، والله أعلم، أن أول من استعمل هذا المصطلح هو الدكتور طه حسين في كتابه المعنون " الفتنة الكبرى" بجزئيه الأول والثاني. فالجزء الأول يتحدث عن مقتل عثمان (رض)، والجزء الثاني يتحدث عن مقتل الإمام على (رض)، ومنه شاع استعمال المصطلح.

هذا الاختلاف بين المؤرخين في العصور السابقة والمؤلفين في العصر الحديث يشير إلى أن الإحداث المقصودة والموصوفة بالفتنة، لا ترقى إلى أن تكون فتنة كبرى عصفت بالمجتمع الإسلامي. ولو كانت كذلك لما تردد المؤرخون السابقون في وصفها بالفتنة. يصف الدكتور محمد سهيل طقوش، أستاذ التاريخ الإسلامي، تداعيات فتنة قتل الخليفة عثمان بن عفان (رض) في كتابه "تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والانجازات السياسية"، واقتبس منه ما يلي: "وهكذا وقع حادث كبير وخطير في تاريخ الإسلام، قاتم ومأساوي لفصل مثير في تاريخ الخلافة الراشدة التي أضحت امام منعطف خطير سيترتب عليه عواقب وخيمة على الأمة الإسلامية، من واقع الانشقاقات والانقسامات المستجدة، لأن الهدوء سوف لن يدوم طويلا بعد عثمان". إن هذه الصورة السوداوية القاتمة التي يصفها الدكتور طقوش هي التي ترسخت في عقولنا وأفكارنا وأصبحت سبباً مباشراً لتفسير بعض سلوكيات المجتمع العربي والإسلامي، وطباعه وسلبياته، واستُخدمت للتنكيل بالأمة الإسلامية. يُعلِمنا التاريخ، أن ظاهرة الانشقاقات والانقسامات كانت ستحدث بسبب مقتل الخليفة أو بأي سبب آخر، فهي ظاهرة متكررة في التاريخ. فقد انقسم اليهود إلى طوائف متعددة ولأسباب مختلفة، وانشقت المسيحية إلى مذاهب متعددة ومختلفة ولأسباب مختلفة. لم توصف هذه الانقسامات بالفتنة ولم ينتج عنها عواقب وخيمة أو مدمرة في تلك المجتمعات. وهكذا، فإن الانقسامات في المجتمعات البشرية تحدث بسب ذكاء الانسان وتطوّر الأفكار واختلافها عند البشر. إن هذه الاختلافات والانقسامات تمثل عامل مهم لتطور البشرية وتقدم المجتمعات. فلماذا نُصر على وصف حوادث قتل الخلفاء الراشدين بالفتنة، وإنها ذات نتائج مأساوية ومدمرة قاتمة في مجتمعنا الإسلامي؟ هل فعلاً نتج عن هذه الفتنة عواقب وخيمة على الامة الإسلامية بحيث فقدت كيانها ووجودها وهويتها؟ ماذا كان حال المجتمع بعد الانتهاء من تلك الأحداث، هل كان لها تبعات وخيمة لسنين طويلة على عموم الأمة الإسلامية؟ تلك أسئلة تستحق التفكّر فيها. والاجابة عليها تتبين من خلال استعراض تاريخ هذه الاحداث للوصول إلى ما نبغي فهمه.

طبعاً الدخول في تفاصيل سرديات الأحداث من المصادر المتعددة سيدخلنا في متاهات نحن في غنى عنها، لا يتسع المجال لذكرها وتُبعدنا عن الهدف المقصود. سأذكر وباختصار ما هو معروف ومتفق عليه في المصادر التاريخية المعتمدة عند اهل العلم والمعرفة.

فيما يخص أحداث سقيفة بني ساعدة، يمكن اعتبارها مناظرة انتخابية ديمقراطية بين مرشحين من مجتمع المدينة المنورة للخلافة لإدارة شؤون المسلمين. فبعد وفاة الرسول (ص) مباشرة، اجتمع نفر من الأنصار لتنصيب سعد ابن عبادة، رئيس الخزرج، خليفة للرسول (ص) ظناً منهم أنهم أحق الناس في مجتمع المدينة بالخلافة، كونهم أصحاب المدينة وآخوا المهاجرين. ثم وصل أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة ابن الجراح إلى السقيفة وناقشوا الأنصار في احقيتهم للخلافة. وبين خطاب وخطاب وحديث ونقاش، اتفق الجميع على مبايعة ابي بكر للخلافة بكل هدوء وانسجام، ولا صياح ولا عراك. لا يعرف بدقة كم من الوقت استغرق الاجتماع، لكنه بالتأكيد لم يطول أكثر من بضع سويعات. بعدها تمت المبايعة من كل مسلمي المدينة، وانتهى الأمر. بهذا السرد التاريخي، يمكن اعتبار ما حدث في السقيفة من أروع ما يمكن أن يقال عن التحضّر والديمقراطية، بحسب مفاهيم القرن العشرين والحادي والعشرين، لمجتمع جاهل ليس له حضارة ولا دولة ولا نظام حكم، حيث وقع الحدث في بداية القرن السابع ميلادي (توفي الرسول (ص) عام 632م). وكل ما يقال من صراع على السلطة، أو صياح وعياط أو قتال بين الأطراف هو غير صحيح ولا أساس له من الصحة في المصادر التاريخية المعروفة والمعتمدة.

وبالنسبة لفتنة قتل ثالث الخلفاء الراشدين، عثمان بن عفان (رض)، تشير المصادر التاريخية المعروفة والمعتمدة من قبل أصحاب العلم والمعرفة، وما ذُكر من تفاصيل للأحداث اليومية التي وقعت خلالها، فإنه يمكن توصيف أحداث الفتنة التي وقعت، بأنها احتجاجات واعتراضات من شعب غاضب ومستاء من الحاكم (الخليفة)، كونه انحرف عن مسيرة نظام حكم الخلافة. فهو، كما رأى المحتجون على حكم الخليفة، لم يحكم بالعدل أو المساواة بين افراد رعيته كما تأمر به الأحكام الإسلامية. لذلك، سارت مجموعة من افراد المجتمع الإسلامي من كبرى مدن الخلافة، من مصر والبصرة والكوفة، إلى مركز الخلافة في المدينة المنورة، وعرضوا شكاواهم واعتراضاتهم على الخليفة. طلبوا منه أن يُصلح احكامه ويرجع إلى العدل والمساواة بين الرعية أو أن ينزع الخلافة. لكن الخليفة لم يقبل بهذا الاتهام وأنكره ورفضه بشدة. فهو ما زال يعتقد أنه يمارس صلاحياته في الخلافة حسب ما تقتضيه مصلحة الرعية ولم يَحِد عنها. وإن صلاحياته كخليفة تعطيه الحق بالتصرف بما يراه في صالح الرعية، وهو يعمل لخير الرعية ولم يبتعد عن هذا المنهج. ولم يقبل أن يتنازل عن الخلافة وقال "لا أنزع لباساً ألبسني الله".

ومما لم يكن مقبولاً من تصرّفات الخليفة عثمان (رض) وأوامره، من وجهة نظر المعترضين، محاباته لأهله وأقاربه وتفضيلهم على باقي الرعية. وإساءة التصرف بأموال بيت مال المسلمين. فقد زاد في عطائه للناس من بيت مال المسلمين مائة بالمئة وبدون موجب، وبيت المال هو للمسلمين وليس للخليفة الحق بالتصرف به كما يشاء (كما يقول طه حسين في كتابه الفتنة الكبرى)، ومَنَحها لغير المستحقين، وهم من أقاربه، كما اعتقد الناس. ويبدو ان هذه الزيادة في العطاء قد اعتبرها المحتجون انحرافاً في سياسة الخليفة، فكانت بذرة للخلاف. وقد رفض الخليفة عثمان (رض) تلك التهم وقال إنه كان يصرف من ماله الخاص (ومعروف انه كان ثري)، وانه يتصرف ببيت المال بما فيه مصلحة وخير الرعية بالعدل والمساواة.

ومما يذكر أيضاً، أنه جعل أقاربه ولاة على الأمصار. ولم يكونوا هؤلاء أكفّاء في إدارة المنصب، ولا يتمتعون بالنزاهة وحُسن الخُلق. ومن القصص المذكورة في هذا المجال، قصة ولاية عبد الله بن سعد ابن ابي سرح لمصر بعد تنحية عمرو ابن العاص، وشكاوى اهل مصر من عبد الله بن ابي سرح وما تلاها من تهمة مروان ابن الحكم. وعزل ابي موسى الاشعري من ولاية البصرة وتولية عبد الله ابن عامر. وفي الكوفة، عَزَل الخليفة واليها الصحابي الجليل سعد ابن ابي وقاص وولى بدلاً عنه الوليد بن عقبة ابن ابي معيط، وهو أخيه لأمه، وكان قليل الخبرة ويتعاطى الخمر، فنقم اهل الكوفة.

ودار حوار مباشر وغير مباشر بين الثوار والخليفة، لم يستطع فيه أيّ من الطرفين اقناع الآخر. ويبدو أن جمهور الثائرين لم تكن لهم نية مبيته لقتل الخليفة أو إحداث الفتنة، إنما كان الهدف هو إرجاع حكم العدل والمساواة والحصول على حقوقهم، بدليل أن الحصار والأحداث توالت لمدة تزيد على الشهرين. وقد رفض الخليفة استعمال القوة ضد المنتفضين (المسلمين) من الرعية حقناً للدماء. وكما هو متوقع في مثل هذه الأحداث، فقد حصلت فوضى وخرجت الأمور عن السيطرة، وأدت إلى مقتل الخليفة (رحمه الله). وانتهت أحداث الفتنة.

ما هي النتائج التي ظهرت بعد مقتل الخليفة؟ لم يقتل أيّ شخص آخر غير الخليفة. لم تحدث حرب أهلية. ولم يحدث خلاف أو انشقاق بين الناس. ساد جو المدينة، هدوء مشوب بالحذر والخوف من الفوضى وتأزم الأمور. عاد الناس لدورهم وبقي الحال على ما هو لبضعة أيام.  بعدها بدأت حملة توّلية الخلافة للإمام على (رض). وبدأت الفتنة الكبرى الثانية.

بعد أيام قليلة من مقتل الخليفة عثمان (رض) بويع على ابن ابي طالب (رض) بالخلافة. وتمت المبايعة علانية في المسجد من قبل مسلمي المدينة. عمَل الخليفة الجديد، بعد تولّيه المنصب، على إعادة ترتيب أوضاع المدينة بعد الأحداث التي عصفت بها. لكن الذي حصل أن عدد من كبار الشخصيات الإسلامية رفضوا البيعة وانشقوا عن الخلافة، وهم معاوية ابن ابي سفيان والسيدة عائشة أم المؤمنين وطلحة بن عبيد الله والزبير ابن العوام. نتج عن نقض البيعة معركة الجمل ثم معركة صفين، راح ضحيتها آلاف المسلمين الأبرياء وكبار الصحابة. كذلك ظهرت فرقة الخوارج وحدثت معركة النهروان. وانتهت الأحداث بمقتل الإمام على (رض) على يد الخارجي عبد الرحمن ابن ملجم.

بالتأكيد ومما لا شك فيه أن هذه الأحداث كانت مأساوية محزنة وقاسية على المسلمين، ومثلت فترة عصيبة مؤلمة في ذاكرة الأمة. ويمكن اعتبار هذه الأحداث التي حدثت في فترة خلافة على ابن طالب (رض)، واستمرت على مدى خمس سنوات، بأنها فتنة كبيرة عصفت بالأمة الإسلامية الفتيّة. لكنها لا تعتبر امتداد لحادثة مقتل الخليفة عثمان (رض)، كما يروّج لها البعض. فأحداثها لم تحصل بسبب موت الخليفة السابق وإنما بسبب نقض بيعة الخليفة الجديد. فقد أتخذ المنتفضون مقتل الخليفة السابق كعذر لنقض البيعة، فنشأت المعارك بين الأطراف المتناحرة. وأضيف أيضاً أنّ هذه الأحداث كانت مرحلية بمعنى انها انتهت بوفاة الخليفة، الإمام على (رض)، وبداية مرحلة جديدة وخلافة جديدة ونشؤ الدولة الأموية. ولو إن تأثيراتها المأساوية المدمرة استمرت لعقود من الزمن، كما يدعي البعض، لَمَا استقرت الدولة الأموية، ولَمَا توحد المسلمون فيها، ولَمَا انتشرت رقعة الدولة الإسلامية ووصلت إلى اقصى ما وصلت إليه الجيوش الإسلامية، ولَمَا بدأت بذور الحضارة الثقافية تبزغ وتتطوّر لتصل إلى أعلى المراتب في سلّم الحضارات البشرية. إن هذا التقدم والتحضّر ما كان ليحدث لو إن الأمة كانت منكسرة أو منشقة أو محبطة. إن ما حصل من أحداث كانت مرحلية آنية، حدثت في فترة معينة من التاريخ وانتهت وأصبحت تاريخاً مضى وانتهى.

إن المجتمعات تتغير بمرور الزمن، وهذه نتيجة حتمية وحقيقية، فكيف بمجتمعنا العربي بعد مروم أكثر من ألف واربعمائة عام. فمن المؤكد سينشأ مجتمع جديد مختلف تماماً وبالكامل عمّا كان عليه سابقاً. فقد تغيّر المجتمع العربي جذرياً بعد مرور تلك القرون العديدة من الزمن. تحضّر المجتمع العربي المعاصر بما لا يشبه المجتمع العربي في القرن السابع بتاتاً. تغيّرت المدن وتغيّرت العمارة والسكن. تغيّر الملبس والمأكل، وتطورت العلوم والمعرفة. وتطورت أفكار الناس وعقائدهم وثقافاتهم، ونشأت مفاهيم جديدة، وأصبحوا مجتمعات مختلفة تماماً عن سابقاتها. وبعد توالي الدول والمجتمعات المختلفة على حكم المجتمع العربي على مدى قرون عديدة، كالأمويون والعباسيون والسلاجقة والمغول والصفويون والعثمانيون. وأخيراً، وخلال فترة القرن والنصف الماضي (منذ منتصف القرن التاسع عشر)، انفتح العرب على الدول الأوربية والحضارة الغربية، فدخلت علينا أفكاراً وعلوم وثقافات جديدة، وطبائع وسلوك مغايرة لما تربيّنا عليه، وأحدثت تغيّرات واضحة في طبيعة مجتمعنا. فكيف يمكن أن نقبل أن ما يحدث لنا الآن هي رواسب الفتنة الكبرى؟ ألا يستدعي هذا المنطق مراجعة أفكارنا؟

***

د. صائب المختار

 

ترتبط أهمية هذا الموضوع بالقدر الذى تحتل فيه اللغة مكانًا بارزًا في حياة الإنسان ومظاهر نشاطاته المختلفة... فاللغة هي المادة الأساسية لوجودنا ولنظامنا الاجتماعي، وأي تقدم في دراستها لابد أن يحدث صدى بالغ الأثر في ميادين متعددة، والعلوم المختلفة تتأثر تأثرًا مباشرًا بهذا التقدم. كما أن كل مستعمل للغة، كل رجل، كل امرأة، كل طفل أهل لأن يتلقى دروس علم المعنى. فالمعلومات الجديدة التي تتعلق بالكلمات التي يستعملونها سوف تؤدي إلى تحسين مناهج تفكيرهم وطرائق تعبيرهم عن أنفسهم، وسوف تمكنهم كذلك من التجارب مع المضمون الاجتماعي والسياسي للكلام. كما أنها لابد أن تنمي قدرتهم على القراء والاستمتاع في وعي وتركيز، وتجعلهم أكثر تسامحًا في مواقف النزاع الذي يدور حول الألفاظ في أساسه. وإذا استطاعت هذه المعلومات الجديدة أن تزيد في قوة إحساسهم بالاستعمال الفني للأسلوب وفي درجة تأثرهم بهذا الاستعمال. أصبحت حينئذ عاملاً إنسانيًا مهمًا، في وقت تعاني فيه "الإنسانية" تأخرًا عنيفًا. وأهم من هذا كله سوف توسع هذه المعلومات في أفق تفكيرهم ونظرتهم إلى الحياة، إنها تؤكد- بقطع النظر اختلاف اللغات وتعددها- التراث المشترك للحضارة الإنسانية، كما تؤكد التشابه الأساسي في العقل الإنساني، أي التشابه في خواصه الثابتة الدائمة، وهذا قدر أساسي متين من الاتفاق العام الذي يمكن – بل يجب- أن نبني من حوله وحدة أوسع وأشمل.

واللغة هي أكثر ملكات النوع الإنساني إنسانية على وجه الخصوص، فالإنسان في سعيه لفهم اللغة ومعرفتها فإنه طوال تاريخه الفكري، كان يسعى تمامًا للوصول لمعرفة ذاته، وللعمل بالوصية التي تقابل الزائر لمعبد أبوللو Apollo في دلفي Delphi مركز العالم اليوناني القديم، حيث يوجد منبع الحضارة الأوربية وهي: "اعرف نفسك". ولذلك فنحن عندما ندرس "تحليل اللغة وسياق الحال عند فيرث" فنحن ندرس الإنسان، فاللغة تعتبر سمة من السمات الأساسية التي يختص بها الإنسان ويتميز عن سائر الكائنات، فكما أن الإنسان قادر على المشي، وعلى الأكل، كذلك فهو قادر على التحدث.." والإنسان تمييزًا له عن النبات والحيوان هو الكائن الحي القادر على الحديث".

ومن ثم فإن دراسة اللغة هي المدخل المهم لدراسة عمل الإنسان وتفكيره، لأن الإنسان دائمًا يصنف ويرتب الوقائع التي يلاحظها في شكل ألفاظ، فنحن نستطيع أن نعرف مدى تطور تفكير الجنس البشري وتعقده بدراسة مدى تطور اللغة. ولهذا كانت أهمية اللغة والحوار.

إن الجدل حول الحوار بين "الأنا والآخر" هو جدل قديم جداً، يعود جذوره إلى بداية الخلق مع وجود آدم وحواء. ومع تطور الوعي لدى الإنسان، أدرك أنه مُقدّر له أن يواجه الشقاء على هذه الأرض. في واقعنا المعاصر، يتجلى مفهوم الآخر بأشكال متعددة، حيث يفسره كل فرد وفقاً لموقعه ومنطلق تفكيره. هذا الأمر أدى إلى نشوء صراع بين الأنا و"الآخر"، إذ إن فهم حقيقة الذات من خلال "الأنا" يتطلب الوعي بـ"الآخر". وإذا غاب هذا الآخر أو انعدم، يصبح من الصعب الحديث عن إدراك حقيقي للذات أو الأنا بشكل عام.

نناقش فى هذا الفصل مفهوم الحوار ومقوماته .. والحوار يشكل لبنة أساسية في التفلسف، كما أشار هيدجر، فالتفلسف هو الدخول في محادثة مع الفلاسفة، مما يعني أن الحوار ليس مجرد وسيلة للتواصل، بل هو جوهر العملية الفلسفية نفسها.(1)

بل ان الحوار هو جوهر التفلسف، حيث يخلق مساحات لتبادل الأفكار، ويمنحنا فرصة لفهم أنفسنا والعالم بشكل أعمق. من خلال الحوار، يمكن للفلسفة أن تزدهر وتستمر كعملية حية ومستمرة تسهم في تشكيل الفكر الإنساني.

أولا: تعريف الحوار

الحوار لغة هــو عمليــة تبــادل لوجهــات النظــر قائمــة علــى االانفتاح والاحترام بيــن أشــخاص ومجموعــات مــن أصــول وتراثــات إثنيــة، ثقافيــة، دينيــة، ولغويــة مختلفــة فــي إطــار مــن التفهــم والاحترام المتبادلــن.(2)

أما من الناحية الاصطلاحية فالحوار في معناه العام هو نوع من الحديث بين شخصين أو فريقين، يتمّ فيه تبادل الكلام بينهما بطريقة متكافئة فلا يستأثر به أحدهما دون الآخر، ويغلب عليه الهدوء والبعد عن الخصومة والتعصّب. (3)

بوجه عام: توجد عدة معانٍ لمصطلح "الحوار"، ومن أبرزها

التعريف الأول: الحوار هو محادثة حية بين شخصين أو أكثر، حيث يتم التعرف على الحوار من خلال التواصل الشفهي بين اثنين أو أكثر من المحاورين .

التعريف الثانى: يشير المعنى الثاني لمصطلح "الحوار" إلى الحوار كنوع أدبي أو أداة أدبية. تعد المحاورات الأفلاطونية من أشهر أشكال استخدام الشكل الحواري كنوع أدبي. كتب أفلاطون محاوراته كجزء من تقليد تاريخي للتواصل الشفهي في عصره، حيث كان يهدف إلى التفاعل مع أفكار الآخرين في سياق مناقشات فلسفية حية. وتمثل المحاورات الأفلاطونية الانتقال من التواصل الشفهي إلى التواصل الكتابي، حيث كانت المناظرات الفلسفية تُنقل عبر الحوارات المكتوبة.لم يكن أفلاطون هو الوحيد في استخدام الحوار كأداة أدبية. العديد من المفكرين والفلاسفة استخدموا هذا الشكل الكتابي لإيصال أفكارهم بطرق أدبية مبتكرة، مثل أرسطو، وكبار المفكرين في العصور اللاحقة.

التعريف الثالث: الحوار هو أساس استخدام اللغة: يُنظر إلى الحوار هنا باعتباره الشرط الشامل لاستخدام اللغة بشكل عام، سواء كانت شفهية أو كتابية. ومن هذا المنظور، تُعتبر اللغة، في جوهرها، تواصلًا ذاتيًا ومشتركًا بين الأفراد، وليست مجرد نظام رمزي رسمي أو أداة للتعبير عن الأفكار بشكل آلي.

يتضمن هذا التعريف العناصر التالية:

1- اللغة عملية حوارية: بدلاً من النظر إلى اللغة على أنها مجرد نظام رمزي للتواصل، يُفهم أنها حوار دائم بين المتحدث والمستمع، حيث تتداخل الكلمات والمعاني وتتفاعل باستمرار. هذا النوع من التفاعل يُعطي للغة طابعًا ديناميكيًا يعكس مشاركة نشطة بين الأفراد، وليس مجرد نقل سلبي للمعلومات.

2- اللغة ليست مجرد وسيلة تعبير: من هذا المنظور، يمكن اعتبار اللغة أداة تشاركية، حيث لا يقوم الفرد فقط بنقل المعلومات أو التعبير عن أفكاره، بل يتفاعل مع الآخر، سواء كان ذلك في محادثة شفهية أو كتابة. بمعنى آخر، اللغة تتطور من خلال التفاعل المستمر والمشترك بين الأشخاص، ويعزز هذا التفاعل قدرة الأفراد على فهم الآخر والتفاعل معه في سياقات متنوعة.

3- اللغة وسيلة حية للفهم المشترك: على الرغم من أن اللغة قد تحتوي على قواعد وأشكال ثابتة، إلا أنها في جوهرها تعتمد على الاشتراك والتفاعل. كلما تفاعل الأفراد مع بعضهم، أصبحت اللغة أكثر حيوية ومرونة. هذا يفسر لماذا الحوار لا يقتصر على تبادل الكلمات فقط، بل يمتد ليشمل تفسير المعاني وإعادة تشكيل الأفكار من خلال الفهم المتبادل بين الأطراف.

التعريف الرابع: الحوار شرط أساسى للكائن البشري والوعي الذاتي: هذا التعريف يتجاوز الظواهر اللغوية أو الأدبية ليعرض الحوار باعتباره شرطًا أساسيًا للوجود البشري ذاته. من خلال هذا المنظور، يُعتبر الحوار ليس مجرد تفاعل لغوي أو اجتماعي، بل شرطًا وجوديًا لبنية الإنسان وهويته." أنا أعى نفسى وأصبح نفسى فقط عندما أكشف عن نفسى لآخر، من خلال آخر، وبمساعدة شخص آخر". فتحديد أهم الأفعال التى تشكل الوعى الذاتى يتم من خلال العلاقة تجاه وعى آخر ( تجاه أنت .. الانا والأنت).. ان كينونة الانسان ذاتها( سواء الخارجية أم الداخلية)هى أعمق شراكة. أن تكون وسيلة للتواصل، هو أن تكون لآخر، ومن خلال الآخر.

يتضمن هذا التعريف العناصر التالية:

1- الوعي الذاتي من خلال الآخر: في هذا السياق، الوعي الذاتي لا يتشكل في عزلة، بل يُكتسب من خلال العلاقة بالآخر. الإنسان لايعرف نفسه إلا عندما يتفاعل مع الآخر. هذه العلاقة الحوارية مع الآخر هي ما يُمكّن الفرد من إدراك ذاته بشكل حقيقي. يُمكن فهم هذا على أنه نموذج فلسفي يظهر في العديد من الفلسفات الحديثة مثل الفلسفة الوجودية، حيث يركز الفلاسفة مثل هيجل وسارتر على أن الآخر ليس مجرد شخص خارجي، بل جزء من تطورالوعي الذاتي للفرد..

2- الكينونة الإنسانية كعملية تواصل: الوجود البشري لا يُفهم بمعزل عن التفاعل مع الآخرين. الإنسان يتشكل من خلال علاقاته، سواء كانت شخصية أو مجتمعية. هذه العلاقات هي التي تُمكّن الفرد من الإدراك الحقيقي لوجوده. يتضح أن الإنسان لا يكون إلا من خلال الآخر، أي أن وجوده يعتمد على هذه العلاقة التواصلية التي تُحاكي الحوار المستمر.

3- الآخر كشرط للوجود: يوضح هذا التعريف أن الآخر ليس مجرد مرآة يُنعكس فيها الفرد، بل هو شرط ضروري لوجود الإنسان ذاته. فالفرد لا يكتمل ويصبح نفسه إلا من خلال التفاعل مع الآخر، سواء كان هذا الآخر إنسانًا آخر أومجتمعًا أو حتى ثقافة. هذا يعكس فكرة التعايش المشترك في العالم، حيث يُعتبر الفرد موجودًا فقط عندما يتواصل مع الآخرين.(4)

وهكذا يمكن القول:

1- ان الحوار، في معناه الأعمق، يتجاوز كونه مجرد تبادل للكلمات أو الأفكار؛ فهو عملية جوهرية للتواصل مع الآخر، قائمة على التفاعل الإنساني العميق والمشاركة الحقيقية. التواصل لا يهدف إلى التفوق أو الهيمنة، بل إلى الفهم المتبادل.

1- لذلك فالحوار يتطلب الاهتمام العميق بالآخر، حيث يصبح الآخر شريكًا حقيقيًا في الكشف عن المعنى.

2- الحوار ليس فقط عن الآخر؛ فهو أيضًا رحلة إلى الذات. العودة إلى الذات تتحقق فقط من خلال التفاعل مع الآخر، حيث يُمكننا رؤية أنفسنا في ضوء جديد. الذات تجد اكتمالها في الآخر الشخصي، ليس كامتداد أو مرآة، ولكن ككيان مستقل يشكل وجودنا في علاقة ديناميكية معه.

3- الحوار هو تجربة غير قابلة للانتهاء، لأنه يعكس التفاعل المستمر والمتجدد بين الذات والآخر.(5)

ثانيا: أنواع الحوار

1- حوار الصدام والنزاع الشخصي: يقوم على المواجهة المستندة إلى العنف والتهجّم والصدام، وهو لا يقوم على تقويض الحجج وإبطال الأدلة بل على إثارة الانفعالات والأحاسيس.

2- الحوار التناظري أو المناظرة: ينبني على التعاون القائم على النقاش الهادئ واحترام المتناظرين للقواعد المحددة، فالغرض منه هو دفع الاعتراضات التي يوردها أحد الطرفين على دعوى الطرف الآخر باعتماد أدلة معقولة ومقبولة ومقنعة.

3- الحوار الاقناعي والحوار الاعتراضي: من أهم أنماط الحوار الحجاجي التدليلي، ينبني على اختلاف في الرأي بين متحاورين لكل منهما دعوى يبتغي التدليل عليها تهدف إقناع الآخرين بها ، ويتخذ الإقناع نوعين من الدليل: الداخلي والخارجي .

4- حوار البحث والتقصي: حوار يقوم على التساؤل عن مقدمات قضايا صحيحة وثابتة ومتحققة تستخدم للاقناع تبعا لأدوار البحث والاستعلام، ويعتمد هذا النوع من الحوار للزيادة في اكتساب المعرفة.

5- الحوار التفاوضي: يهدف أساسا إلى تحقيق منفعة أو مصلحة شخصية وفقا لطريقة متفق عليها، ويسمّى أيضا حوار الفائدة القائمة على تصادم المنفعة.

6- الحوار الاستخباري أو الاستعلامي: غايته الحصول على بعض الأخبار والمعلومات، فالغرض منه إعلامي وتبليغي واستكشافي.

7- الحوار التربوي: يخص مجال التربية والتعليم، ويهدف إلى ضبط وتنظيم العلاقات داخل المؤسسات التعليمية والتربوية(6).

8- الحوار الدينى: في ظل التوترات بين الحضارات وتحديات العولمة، أصبح موضوع الحوار بين الأديان ذا أهمية كبيرة لتحقيق التعايش السلمي بين الثقافات والتقاليد المختلفة. من هذا المنطلق، يمكن استعراض القضايا المرتبطة بالحوار الديني والتساؤل حول طبيعة الأديان ودورها في العالم:

1- هل يمكن أن تظل الأديان جزراً معزولة؟

في عالم مترابط حيث تتلاقى الثقافات والمعتقدات بشكل غير مسبوق، من الصعب أن تظل الأديان معزولة أو بعيدة عن التأثير المتبادل. العزلة تعيق الفهم المتبادل وتعمق سوء الفهم، بينما الحوار يفتح المجال لتجاوز الاختلافات وإيجاد نقاط الالتقاء.

2- ادعاءات الأديان كمصدر وحيد للحقيقة اللاهوتية:

إذا كانت الأديان تدّعي احتكار الحقيقة اللاهوتية، فإن ذلك قد يؤدي إلى صدام بين المعتقدات المختلفة. ومع ذلك، يمكن النظر إلى هذه الادعاءات من منظور ديناميكي، باعتبارها جزءًا من التفاعل الإنساني مع الأسئلة الكبرى حول الله والعالم. وقد تكون هذه الادعاءات مدفوعة بالرغبة في التأكيد على هوية معينة، لكنها تحتاج إلى إعادة التفكير في ضوء التعددية الدينية.

3- الحقيقة اللاهوتية كتفاعل بين وجهات النظر المختلفة:

من منظور أكثر انفتاحًا، يمكن اعتبار الحقيقة اللاهوتية ليست حكراً على دين بعينه، بل هي نتيجة للبحث المشترك والجهد المستمر لفهم ما وراء المظاهر الدنيوية. التفاعل بين الأديان يثري فهمنا لله والعالم، ويساعد في الإجابة عن الأسئلة الوجودية التي تشغل الإنسان.

4- دور الحوار بين الأديان:

الحوار ليس وسيلة للتفاهم فقط، بل أداة لتحقيق السلام وتعزيز الإنسانية المشتركة. الحوار يتيح للأديان فرصة لتبادل الرؤى، واكتشاف القيم المشتركة، وبناء جسور التواصل. في هذا السياق، يمكن للحوار أن:

- يقلل من التوترات الناتجة عن سوء الفهم.

- يفتح المجال للتعاون في مواجهة تحديات مشتركة مثل الفقر، البيئة، والعدالة الاجتماعية.

- يساعد في إعادة تفسير النصوص الدينية لتتوافق مع العصر الحالي.

الخلاصة: الحوار بين الأديان ضرورة ملحة في عصر العولمة والتعددية. بدلاً من أن تكون الأديان جزراً معزولة أو متنافسة، يمكنها أن تتبنى مقاربة تعاونية تسعى نحو فهم مشترك للحقيقة اللاهوتية والعمل على تعزيز القيم الإنسانية المشتركة.(7) بالفعل، نحن بحاجة إلى الانخراط في الحوار بين الأديان بروح الاحترام المتبادل.(8)

ثالثا: الفرق بين الحوار والمحادثة

هل الحوار يشمل كل أشكال المحادثة؟ أم أنه يشير إلى نوع معين من التواصل العميق بين الأطراف، حيث يتم تناول موضوعات ذات أهمية وفهم مشترك؟.

حدد نيكولين (Nikulin, 2010) أربعة مكونات أساسية تجعل المحادثة ترتقي إلى مستوى الحوار:

1- وجود شخصية أخرى: الحوار يعتمد على وجود شريك آخر في التفاعل، أي أن الحوار لا يمكن أن يحدث في عزلة.

2- الصوت (Voice): يشير إلى التعبير عن هوية وأفكار كل طرف، بحيث يكون لكل مشارك صوت فريد يُثري الحوار.

3- عدم القدرة على الإنهاء (Unfinalizability): الحوار بطبيعته لا ينتهي بشكل كامل، بل يظل مفتوحًا أمام رؤى جديدة وتفسيرات مختلفة.

4- الخلاف المستمر (Continuous Disagreement): وجود اختلافات وتباين في الآراء هو أساس الحوار الحقيقي، حيث يدفع الأطراف نحو تفكير أعمق وتحليل أكثر.(9)

يتميز الحوار عن المناقشة بتنوع المشاركين، وتوزيع السلطة بشكل متساوٍ، بالإضافة إلى خضوع جميع المعلومات للتحقق.(10)

رابعا: الحوار والجدل

الجدل لغة هو مصــدر جــادل، وهــو المناقشــة علــى ســبيل المخاصمــة، ومقابلــة الحجــة بالحجــة. وأصــل المعنــى اللغــوي للجدل يدل على الشدة والقوة .(11) الجــدل اصطلاحا هــو حــوار كلامــي، يتفهــم فيــه كل طــرف مــن الفريقــن المتحاوريــن وجهــة نظــر الطرف الاخر، ويعــرض فيــه كل طــرف منهمــا أدلتــه الــي رجحــت لديــه، واستمســاكه بوجهــة نظــره.(12)

ومن هنا نتبين الفرق بين الحوار والجدل، إذ إنهما يلتقيان في كونهما حديثا أو مراجعة للكلام بين طرفين، ويفترقان في أن الجدال فيه لدد في الخصومة، وشدة في الكلام، مع التمسك بالرأي والتعصّب له. وأمّا الحوار فهو مراجعة للكلام بدون خصومة، بل الغالب عليه الهدوء والبعد عن التعصب. فالحوار أعمّ من الجدل، إذ كلّ جدل حوار لكن ليس كلّ حوار جدلا.(13)

الحوار (المكتوب أحيانًا) هو محادثة متبادلة بين كيانين أو أكثر. الأصول الاشتقاقية للكلمة (لوغوس، كلمة، كلام) هي مفاهيم مثل المعنى المتدفق ولا تنقل بالضرورة الطريقة التي جاء بها الناس لاستخدام الكلمة، مما يؤدي إلى افتراض أن الحوار يكون بالضرورة بين طرفين فقط. الحوار كشكل من أشكال الاتصال له دلالة لفظية. بينما يمكن أن يكون التواصل تبادلًا للأفكار والمعلومات عن طريق الإشارات والسلوكيات غير اللفظية، كما يشير أصل الكلمة، فإن الحوار يعني استخدام اللغة. يتميز الحوار عن طرق الاتصال الأخرى مثل المناقشات والمناقشات.(14)

بينما تعتبر المناظرات تصادمية، تؤكد الحوارات على الاستماع والفهم. طور مارتن بوبر فلسفته حول الطبيعة الحوارية للوجود البشري وطور آثارها في مجموعة واسعة من الموضوعات بما في ذلك الوعي الديني، والحداثة، ومفهوم الشر، والأخلاق، والتعليم، والروحانية، والتفسير الكتابي. لأن الحوار بالنسبة للإنسان هو الشكل الأساسي للتواصل والتفاعل، فقد استخدمت نصوص عديدة من العصور القديمة بنية الحوار كشكل أدبي. استخدمت النصوص الدينية مثل الكتاب المقدس، والسوترا البوذية، والنصوص الكونفوشيوسية والأدب المعاصر شكل الحوار. في الفلسفة، غالبًا ما يكون استخدام أفلاطون للحوار في كتاباته هو الأكثر شهرة.(15)

ولتوضيح ذلك يجب أن نشير الى الطبيعة الانفصالية للتفكير الفلسفى، فمقابل الدعوات الايديولوجية التى تقوم على اغفال التناقضات وخلق الوفاق، فان الفلسفة، كما نعلم، استراتيجية تسعى الى الكشف عن الاختلاف فيما وراء الائتلاف، وعن التعدد فيما وراء الوحدة . الايديولوجية تجمع وتوحد، أما الفلسفة فهى تشتت وتفرق. انها استراتيجية لتكريس الانفصال، وسعى وراء احداث الفجوات، فى مايبدو متصلا، وخلق الفراغ فى مايبدو ممتلئا، وزرع الشك فى مايبدو بديهيا، وتوليد البرادوكس فى ما يعمل دوكسا.لكن هل نستنتج من ذلك أن منهج الفلاسفة ومنطق خطابهم لايتوخيان خلق المفاهيم بقدر مايستهدفان اذكاء روح النقد وخلق سوء التفاهم أوابرازه على الأقل؟.(16)

ان مايجب التأكيد عليه هنا هو النقاط التى يتعثر عندها الحوار ويحار عندها الفكر غالبا ماتكون هى بالضبط نقاط الالتقاء: اى النقاط التى تسوى جهل الجاهلين بمعرفة العارفين .فكأنا المسافة بين المتحاورين تزداد قربا كلما ازداد بعدهم، لاعن بعضهم البعض، بل عن ذواتهم. كل متحاور يزداد قربا من الآخر كلما ازداد بعدا عن نفسه. ذلك أن النقاط التى يتبلور عندها التعثر و"يتوقف"الحوار، أو على الأقل يتأزم، لاتفرق بين المتحاورين، وانما بين الفكر وبداهاته، بين الفكر ومسبقاته، أو لنقل بين الفكر وبين نفسه وهو يسعى للانفصال عنها.فكأن الالتقاء بين أطراف الحوار لايتم الا عند نقاط افتراق، وكأن الاتصال بينها لايتم الا عند نقاط انفصال: نقاط التأزم والتأزيم التى يتحرر عندها الفكر من يقينياته ويتخفف من "حقائقه". انها النقاط التى يبدو عندها أطراف الحوار "فى الهم سواء"، وليس أى هم بل الهم الفكرى " الذى تتحول فيه الأشياء التى تبدو معروفة الى أشياء تكون أهلا للمسائلة" على حد تعبير هيدجر.؟.(17) وعلى ذلك فان الفلسفة لاتعمل على التفرقة بين المتحاورين، وانما تقرب فى فيما بينهم بأن تجعل كلا منهم يبتعد عن نفسه، ويخرج عن عزلته . انها اذن توحد لاتفرق، تضع الوحدة مكان العزلة.

والحوار القائم على الجدل قد يؤدى الى أزمة فى التواصل مع الآخر.. والأزمة هي أحد المصطلحات التي تتميز في الاستخدام الشائع بحدود دلالية غير واضحة، حيث تحمل معاني متعددة ومتداخلة حسب السياق الذي تُستخدم فيه. ومع ذلك، يمكن النظر إلى الأزمة بوصفها لحظة فاصلة تعكس حالة من التوتر أو التعقيد تتطلب معالجة فورية وإعادة تقييم للوضع الراهن. الأزمة بطبيعتها تنطوي على احتمالية تطور حالة من عدم الاستقرار أو الخطر، سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات. وتتنوع أبعادها بين الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والدولية، وقد تكون مرتبطة أيضًا بالجوانب الشخصية والعاطفية.(18)

الأزمة التي تتجلى في التواصل والتفاوض والحوار مع الآخر تعد من أبرز التحديات الإنسانية، وقد تناولها كل من مارتن بوبر، إيمانويل ليفيناس، وجوزيف تيشنر في إطار "فلسفة الحوار . (Philosophy of Dialogue) هذه الفلسفة تركز على العلاقة بين الذات والآخر وتكشف عن التوترات المرتبطة بلقاء الآخر. الأزمة التي نواجهها غالبًا في الحياة تتمثل في أزمة لقاء الآخر، حيث تفرض الاختلافات بين الأفراد تحديات جوهرية في التواصل والتفاهم. هذا اللقاء مع إنسان آخر، بخصائصه الفريدة مثل مظهره الجسدي، تكوينه العقلي، لغته، وسلوكه، يكشف عن انفصال أساسي يجعلنا ندرك أن "الشخص الآخر ليس أنا". رغم أن التفاهم والقبول والتسامح تعد من القيم الإيجابية التي تُعتبر أساسية في بناء مجتمع متماسك، فإن تحقيقها يصبح أمرًا صعبًا في ظل انعدام الثقة والانكماش أمام الآخر. بل قد تبدو هذه القيم في بعض الأحيان مستحيلة التحقق نتيجة لتفاقم التحيزات والصراعات(19).

خلاصة القول: لا شك أن الحوار والديالكتيك يتسمان بطبيعة متأصلة تقوم على التوترات والصراعات بين قوى متعارضة، كما يعكسان التناقضات والأزمات التي تعيشها الأطراف المشاركة فيهما. إن هذه التوترات ليست عوائق، بل هي عنصر جوهري في الحوار، حيث تمثل العلاقات الدرامية بين الناس لحظة أساسية وفعالة تفتقر إلى العمق والفعالية. الحوار الذي يغفل التوترات والتناقضات التي يمر بها المشاركون قد ينزلق إلى حالة شكلية هامدة، القوة الحقيقية للحوار تكمن في مواجهة تلك التوترات، حيث تصبح جزءًا لا يتجزأ من عملية الفهم المتبادل. التناقضات الدراماتيكية في المساحات الحوارية ليست مجرد عائق يجب تجاوزه، بل يمكن أن تكون مصدرًا للنمو والتطوير. هذه التوترات تدفع المشاركين إلى التفكير العميق، إعادة تقييم مواقفهم، والوصول إلى رؤى جديدة لم تكن متوقعة.(20)

تقوم فكرة وجود خلافات غير قابلة للتسوية بين المشاركين في الحوار على تصور متشائم يتسم بهيمنة الاغتراب والعزلة والتشرذم في العلاقات الإنسانية. فعلى الرغم من أن الحوار يُنظر إليه في الأصل كأداة لبناء الجسور والتفاهم بين الأطراف المختلفة، إلا أنه قد يؤدي أحيانًا، في ظل ظروف معينة، إلى إضفاء الشرعية على الانقسامات وتعميق حالة الانفصال بين الأفراد أو الجماعات.(21)

خامسا: شروط نجاح الحوار

1- الاستعداد للبقاء في الحوار:

ينبغي أن يكون لدى الأطراف رغبة صادقة في استمرار الحوار، بدلاً من السعي لفرض الآراء أو تحقيق التفوق الشخصي.

2- رفض الإقصاء:

لا يمكن للحوار أن ينجح إذا كان أحد الأطراف مصممًا على رفض الآخر أو التقليل من شأنه لتحقيق أغراض شخصية مثل إثبات التفوق أو نيل الشرف.

3- التبادلية والمعاملة بالمثل:

الإحسان في الحوار ليس مجرد شعور عابر أو موقف أحادي الجانب، بل هو شرط جوهري يقوم على التبادلية والمعاملة بالمثل. وحتى قبل أن يتضح الحوار بشكل كامل، يتضمن الإحسان قبول الآخر كشريك في الحوار، وهذا القبول الضمني هو أساس التبادلية. كما يعبر الإحسان عن الرغبة في الانفتاح والتفاعل مع الآخر، بحيث يصبح الحوار مساحة مشتركة تُبنى فيها العلاقات القائمة على الاعتراف المتبادل. ولا يمكن للإحسان أن يتحقق إلا إذا كان الآخر مستعدًا بالمثل للانفتاح والاعتراف بنا كشركاء في الحوار . وهكذا فان الإحسان في الحوار يشمل الاعتراف المتبادل، حيث يتم احترام وجود الآخر وقيمته كشخص مستقل له رؤيته الخاصة.(22)

يتطلب الحوار الحقيقي وجود حسن النية بين جميع الأطراف المشاركة. حسن النية هنا يعني أن يكون كل شريك في الحوار مستعدًا للانخراط في التبادل الفكري والاعتراف بالآخر كوجود مستقل يستحق الاستماع والتقدير. الإحسان جوهر حسن النية، فهو يعني أن يكون لدى الأطراف استعداد داخلي للإنصات، وفهم وجهة نظر الآخر، والتفاعل معه بصدق واحترام. كما يتطلب الحوار الناجح أن يكون هناك تفاعل متبادل بين المشاركين، حيث يتم الاعتراف بالآخر كشريك كامل في العملية الحوارية، وليس مجرد متلقٍ أو معارض.(23)

ويقوم الحوار على الاعتراف اذ يمكن اعتباره تجربة إنسانية تقوم على المعاملة بالمثل، حيث يكون كل طرف مستعدًا ليس فقط لتقديم رأيه، بل أيضًا للانفتاح على ما يحمله الآخر من أفكار وتجارب. بهذا الشكل، يتحول الحوار إلى مساحة مشتركة تسودها الثقة والاحترام، مما يتيح الفرصة للوصول إلى نتائج بناءة تعكس التفاهم الحقيقي بين الأطراف

سادسا: قواعد الحوار

ولكلّ تبادل حواري أركان تتمثل في المتكلّم والمخاطب وموضوع التخاطب، وهي تتفاعل فيما بينها لتحقيق غرض أو أغراض معينة ظاهرة أو باطنة. فنجاح الحوار يتطلّب الالتزام بقواعد مضبوطة ومحدّدة، منها ما يرتبط بالتنظيم الخارجي للحوار ومنها ما يرتبط بالتنظيم الداخلي، ويمكن إجمال هذه القواعد والمقومات فيما يلي: -

1- المجلس: قد يتخذ المجلس حكما بين المتحاورين، لذا ينصح بتجنّب المجالس التي تعيق الجريان الطبيعي للحوار، كما ينصح بتجنب المجالس التي يسودها الخوف والترهيب والإكراه ولا تستهدف تمييز الحق عن الباطل، وقد استرذل بعض الدارسين جريان الحوار في مجالس خاصة أو عامة (أو في بعضها على الأقل) لكو نها لا تساعد على أن يجري المتحاورون حوارهما على عرف واحد. ولهذا يجب تحديد من تجلس إليه، إذ الناس فئات وطبائع.

2- وجوب أن يكون الكلام لداع يدعو إليه، إما في جلب مصلحة أو درء مفسدة، لهذا يطلب أن تكون أطراف الحوار على دراية بموضوع الحوار والقصد منه، هذا إضافة إلى أن بناء الخطاب يجب أن يستجيب لعنصرين أساسيين: أن يتوجّه المتكلّم إلى المخاطب بكلام، القصد منه إبلاغ الخطاب بطريقة معينة وإعلام المخاطب بأن الخطاب تمّ بتلك الطريقة، وأن يمكّن المخاطب من التعرّف على مقصود المتكلّم، وأنه كان قاصدا ذلك.

3- أن يلزم الحضور والمتحاورين التواضع واحترام بعضهم البعض، وتجنّب الكذب والشبهة والعناد .

4- على العارض التدليل على دعواه ويطلب من المعروض عليه السماح بذلك (24) .

وتتعلق هذه القواعد بمجموعة من الضوابط المهمة للحوار كما يلى:

1- أن يكـون الحـوار متكافئـا، أي تتوافـر فيـه رشوط المسـاواة، وفرصـة المسـاهمة العادلـة بـالاراء الموضوعيـة خـلال إطـار زمـي معقـول.

2- الاستماع بهدف الفهم، وعدم المقاطعة

3- البـدء بنقـاط الاتفاق وليـس نقـاط االختـاف، وذلـك لتأسـيس قاعـدة فهـم مشـتركة ينطلـق منهـا الحوار

4- الانفتاح تجـاه جميـع وجهـات النظر، وعدم الشـعور بالتفوق العنرصي أو الاستعلاء الحضـاري، أو روح الهيمنة الثقافية من قبل اى طرف . وجعـل الهـدف من الحـوار هو إقامـة قيم التسـامح وإذكاء روح التعـارف الثقافي والعلمي

5- المرونة في الحوار، وعدم التشنج، وينبغي مقابلة الفكرة بفكرة، وقبول الاختلاف.

6- حسن الكلام: التعبري بلغة بسيطة غري ملتبسة ولا غامضة .

7- الموضوعية في الحوار: قبول الرأي الاخر، والاعتراف للطرف الاخر.(25)

سابعا: أهمية الحوار

تُعد فكرة الحوار مركزية في الهيرمينوطيقا الفلسفية لدى هانز جورج جادمر، حيث يرى أن الحوار يتجاوز كونه مجرد محادثة بين طرفين حول موضوع مشترك. بل هو عملية تأسيسية ديناميكية تساهم في تشكيل المعاني والأشياء ووجهات النظر والتفاهم المشترك..يرى جادمر أن الحوار ليس مجرد أداة للفهم، بل هو الظاهرة التي تُنتج الفهم ذاته. من خلال الحوار تتكشف الحقائق، وتتغير وجهات النظر، وتتشكل معانٍ جديدة. فهو ليس فقط وسيلة للتواصل، بل إطار للتجربة الإنسانية المشتركة. يوضح جادمر أن اللغة هي وسيط أساسي لكل تجربة مفهومة. الحوار يحدث داخل اللغة، ومن خلاله يتجلى العالم. بالتالي، فإن اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي البيئة التي تتشكل فيها الحقائق والمعاني.(26)

والحوار أداة أساسية لاكتساب المعرفة، خاصة في مجالات التفسير، ويبرز دوره بشكل خاص في العلوم الإنسانية والاجتماعية.(27) ويقترح كارل بوبر الحوار العقلانى بدل التغيير الدموى، وهو يتمثل فى مشروع أمل وحياة يمكنه أن يحقق التغيير، لكن بشرط احترام الاختلاف بين البشر وعدم المساس بقدسية الحياة البشرية.(28)

ذلك أن التواصل بين الأفراد والشعوب يتأسس على حقيقة علمية قائمة على منهج علمى، هذا المنهج يرفض فكرة الحقائق المطلقة، ويرى العلم فى قابليته على التغير والتفنيد، ومنه يصبح الفكر البشرى أيضا فكرا نسبيا ولايمكن للانسان أن يدعى امتلاك حقائق مطلقة، تحرضه على اقصاء الآخر، وبهذا يصبح فكره مفتوحا.(29)

لقد كان ولا يزال الحوار الأسلوب الأمثل لكلّ خطاب فلسفي ينشد الحقيقة، بل هو ما يشكّل ماهية الفلسفة، إنّه الشّرط الأنطولوجيي لكلّ ممارسة فلسفية، ونظرا لقيمة هذا المفهوم وتأسيسه للعديد من المفاهيم مثل الاختلاف والتّسامح، واستبعاده كلّ أشكال التسلّط والاستبداد والإكراه المادّي والمعنوي، إضافة إلى امتداداته داخل حقول معرفية متباينة، فإنه شكل موضوع مقاربات متعددة، تتفاوت بشأنه الخلفيات النظرية والفلسفية المؤطّرة لأبعاده ومستلزماته الفلسفية (المقاربة الفلسفية، المقاربة المنطقية والمقاربة التّداولية). وإذا كانت الفلسفات التقليدية تعاملت مع الحوار بشكل طوباوي( مثالي)، حيث يتظاهر فيه العارض بإشراك غيره في طلب المعرفة وإنشائها وتشقيقها ويسمّي (طه عبد الرحمن) هذا الشّكل من الحوار بالحوار الشّبيهي (عند أفلاطون، مالبرانش، هيوم، باركلي وليبنتز)، إذ الحوار عندهم "عقيدة" قبل أن يكون ممارسة وسلوكا وقيمته لا تكمن في تحقّقه وانطباقه في الواقع، بل تكمن في مرجعية مجرّدة من المثل والأخلاقيات التيّ تضبطه وتؤسّسه، فلا سبيل إذن لقياس نجاعة الحوار بحدود تصريفه في الممارسة، وبالعوائق التيّ تعترض تطبيقه، بل بما يكون به منظومة مبادئ مجرّدة متعالية عن الواقع. ولاشكّ أنّ الاعتقاد في الحوار بهذا المنزع الأخلاقي، وبهذه المعيارية المجردة يغيب أبعادا جوهرية ومستلزمات عديدة، تفيد أنّ الحوار ليس منظومة مبادئ وقيم ننشد التّطابق معها خلال ممارسته، فمن يراهن في تجربته الحوارية على تأمين هذا التّطابق السّابق لمجريات الحوار لن يكون منتجا لفعّالية حوارية حقيقية، منفتحة على احتمالات غير محسوبة، وعلى قبول الاختلاف، بل يكون مشاركا في حوار منغلق لا يقصد سوى إعادة إنتاج حقائقه الجاهزة. إن الحوار تفاعل وانفتاح تصغي فيه الأطراف إلى بعضها البعض، ولا مجال فيه لأيّ شكل من أشكال الاحتواء والسّيطرة، إنّه تعرّف متواصل على الذّات وعلى الآخر في تفاعلهما، ففي الحوار لا تقصد الذّات الحلول في ذات أخرى وتذويب وعيها في وعي الآخر، كما لا تنزع فيه إلى طمس الاختلاف، فانتهاء تجربة حوارية ما إلى التوافق، لا يقوم دليلا على رفض الاختلاف، لأنّ التّوافق لا يرادف أحادية الرّأي، بل هو نتاج علاقة حو ارية يشترك المتحاورون على نحو تفاعلي في نسجها. (30)

يختلف التفاعل بين الذوات باختلاف الأشخاص والموضوع والظروف المحيطة به، كما يتفرع تفاعل ما إلى تفاعلات فرعية متعددة، ومن بين التفاعلات الحوارية الأخرى: التفاوض والمحادثة والمباحثة والمقابلة والمناقشة والمطارحة والمدارسة والتفاكر وتبادل الرأي وتجاذب أطراف الحديث، ورغم نقاط التقاطع بين هذه المفاهيم إلا أن بعضها يتوفّر على خصوصيات محدّدة، فبالنسبة للمجادلة والمناظرة والمحاججة تتم عادة بين طرفين كل لحسابه الشخصي، أما بالنسبة لهذه التفاعلات الحوارية(المحادثة، التفاوض...الخ) ففي أغلبها يتكلم الشخص باسم الآخرين، فهو يمثّل نفسه وينوب في ذات الوقت عن غيره، فهامش المناورة هنا أضيق، كما أن منها تفاعلات تتم بطرق غير مباشرة، كما هو الحال في المفاوضات والحوار الدبلوماسي، حيث يتوسّط طرف ثالث أو أطراف محايدة. يبدو إذن أنه من الصّعب تحديد نمط حواري خالص نتّخذه نموذجا للأنماط الحوارية الأخرى نتيجة وجود خصوصيات تخصّ مسلكا حواريا دون آخر، لذلك يمكن أن تتداخل في لحظة من لحظات التخاطب عدة تفاعلات حوارية فيما بينها وتتشاكل بحيث يصعب معه تحديد الطريقة المعتمدة (31)

والخلاصة: ان أهمية الحوار هى:

1- االتفاعل مع الأفكار: الحوار يسمح بالتفاعل مع الأفكار المختلفة، سواء كانت تلك التي صاغها فلاسفة الماضي أو التي يعبر عنها الفلاسفة المعاصرون. هذا التفاعل يولد رؤى جديدة ويحفز الإبداع الفكري.

2- اختبار الحجج: من خلال الحوار، يمكن للمرء أن يختبر مدى قوة أفكاره وحججه. فالتفاعل مع الآخرين يكشف نقاط القوة والضعف في الفكرة المطروحة، مما يؤدي إلى تحسينها أو تعديلها.

3- توسيع الأفق الفكري: الحوار مع الآخرين يفتح المجال لفهم وجهات نظر مختلفة. هذا لا يعني بالضرورة القبول بها، ولكنه يمنحنا فرصة لتوسيع منظورنا الخاص.

4- إحياء الفكر: كما قال هيدجر، الحوار مع الفلاسفة هو وسيلة لإحياء أفكارهم. قراءة أفلاطون أو ديكارت، على سبيل المثال، ليست مجرد استرجاع لأفكار قديمة، بل هي استدعاء لهذه الأفكار إلى سياقنا الحالي وإعادة تفسيرها بما يناسب العصر.

5- العمل المشترك:كل موقف فلسفي يمكن أن يُفهم على أنه جانب من جوانب الحوار. المواقف الفلسفية ليست انعزالاً بل هي مشاركة في حديث طويل ومستمر حول أسئلة أساسية تهم الإنسانية.

ثامنا: سمات الحوار الفلسفي:

1- حركة فكرية ممتعة للقارئ:

الحوار الفلسفي ليس مجرد نقاش جاف أو تحليلي، بل هو تجربة فكرية تشد انتباه القارئ وتدعوه للمشاركة في استكشاف الأفكار بعمق.

2- التحايل على الرقابة:

بفضل البنية الأدبية للحوار، يتمكن المؤلف من التعبير عن وجهات نظر غير تقليدية أو مثيرة للجدل عبر شخصيات متعددة. والمسافة بين المؤلف والشخصيات الأدبية تُتيح للمؤلف مناقشة قضايا شائكة بحرية أكبر.

3- المرونة في اتخاذ المواقف:

يساعد الحوار الفلسفي المؤلفين على تبني وجهات نظر مختلفة أو متعارضة حول القضايا المطروحة دون التورط في التناقض، مما يثري النقاش ويوسع نطاق الفهم.

4- توسيع الفهم الفلسفي:

بدل الوقوع في الخطأ أو الشك عند تناول القضايا الفلسفية، يسمح الحوار بالتوسع في استيعاب الأفكار المتنوعة وفهم تعقيداتها، ما يؤدي إلى تعزيز الإدراك الفلسفي.(32)

هذه السمات تجعل الحوار الفلسفي أكثر من مجرد وسيلة تعبير عن الأفكار؛ إنه أداة للتأمل، والنقاش البناء، والتواصل الفكري، كما أنه وسيلة لتجاوز القيود السياسية والاجتماعية التي قد تعيق حرية الفكر

وللحوار أهداف متعددة، فقد يكون وسيلة للتدريس، أو لاختيار وجهة نظر بين رؤيتين متعارضتين، أو لمعالجة قضية معينة بالتعاون مع الآخرين، أو لتبادل الآراء، أو إقناع الآخرين، أو الوصول إلى قرار مشترك. وبالتالي، يمكن للحوار أن يتخذ أشكالًا متعددة مثل التعليم، أو النقاش العام، أو المناقشة الرسمية، أو استكشاف الأفكار في المحادثة. أما الحوار الفلسفي، على وجه الخصوص، فيتميز بهدفه الأساسي: الوصول إلى رؤية مشتركة بين المتحاورين. وهذا يعني أن وظيفته تتسم بطابع معرفي يهدف إلى تحقيق الفهم المتبادل والتعمق في المفاهيم المشتركة.(33)

وهكذا يمكن تحديدأهداف الحوار وأبعاده المختلفة كما يلى:

أولا: الأهداف العامة للحوار:

1- التعليم: يُستخدم كوسيلة لتوضيح الأفكار ونقل المعرفة

2- الاختيار بين وجهتي نظر متعارضتين: أداة لتحديد الخيار الأنسب من بين مواقف متعارضة

3- التعاون: يُسهم في معالجة وجهة نظر معينة بالتعاون بين الأطراف.

4- تبادل الآراء: وسيلة لتوسيع الأفق من خلال مشاركة الأفكار والمواقف المختلفة.

5- الإقناع: يستهدف التأثير على الآخر وتغيير وجهة نظره.

6- التوصل إلى قرار: يستخدم كأداة للتفاهم وحسم القضايا.

ثانيا:تنوع أدوار الحوار:

يمكن أن يتخذ الحوار صوراً مختلفة مثل:

1- التعليم.

2- المناقشة العادية أو الرسمية.

3- استكشاف المحادثة والتعبير الحر.

ثالثا:الفرق بين الحوار العام والحوار الفلسفي:

1- الحوار العام: يهدف إلى تحقيق التفاهم، التوافق، أو حل النزاعات.

2- الحوار الفلسفي: غايته الأساسية الوصول إلى رؤية مشتركة بين المتحاورين. و يُركز على الوظيفة المعرفية، أي فهم وتوضيح الحقيقة أو الفكرة بعمق.

الخلاصة: الحوار الفلسفي يتجاوز الوظائف الاجتماعية العامة ليصبح وسيلة معرفية تبحث عن الحقيقة، وتشكل أداة رئيسية للوصول إلى فهم مشترك قائم على التفكير العقلاني والتحليل النقدي.

تاسعا: الحوار فى الفلسفة

الكتابات الفلسفية الأولى في العالم الغربي تجسدت في صيغ شعرية وأمثال حكيمة أو أقوال مأثورة، لكنها لم تستطع أن تؤسس للفلسفة كفرع منظم ومستقل. هذه المهمة قام بها الحوار الفلسفي، الذي أصبح النوع الأدبي الذي يُميز الفلسفة كحقل معرفي. الشعر الفلسفي ظهر عند فلاسفة مثل بارمنيدس وأمبيدوقليس. الحكم والأقوال المأثورة وُجدت عند هيراقليطس وديموقريطس.أما أفلاطون كان أول من وضع نموذجًا مثاليًا للحوار الفلسفي في صيغة أدبية مميزة، محولًا الحوار إلى أداة تعليمية ومعرفية، تجمع بين الجدل والتأمل..واستمر الحوار الفلسفى عبر العصور، ففى العصور القديمة: ظهر الحوار عند فلاسفة مثل شيشرون كوسيلة لنقل الأفكار الفلسفية.وفى العصور الوسطى: استخدمه مفكرون مثل بوثيوس وأنسيلم وأوغسطين لنقاش القضايا اللاهوتية والفلسفية.وفى عصر النهضة أوائل العصر الحديث: تألق الحوار في كتابات مفكرين مثل جاليليو وجيوردانو برونو، حيث ساعد على نشر الأفكار العلمية والفلسفية في وجه السلطات التقليدية. في الفلسفة الحديثة، أعاد فلاسفة مثل ليبنتز، باركلى، فولتير، ديدرو وهيوم استخدام الحوار كأداة للتعبير عن القضايا الفلسفية، وهكذا يتضح أن الحوار الفلسفي، منذ أفلاطون وحتى الفلاسفة الحديثين، يعكس ديناميكية الفكر الفلسفي. إنه وسيلة للتفاعل الفكري، وطرح الأسئلة، وتقديم الرؤى، مما جعله أداة مركزية في تطور الفلسفة عبر الزمن.(34) ويمكن بيان ذلك كما يلى:

1- الحوار فى الفلسفة اليونانية:

الحوار في بداياته كان متداخلاً بشكل وثيق مع جميع أشكال الخطاب العام الأخرى. فقد شكل أحد أنماط البلاغة والخطابة التي كانت تُستخدم في مختلف منتديات المجتمع اليوناني، مثل المحاكم، والتجمعات السياسية، والمسرح. برزت بدايات الحوار كنوع أدبي مميز في أعمال هيرودوت (Herodotos) وثيوسيديدس (Thucydides) في الروايات التي كتبها هؤلاء المؤلفون، ظهرت الحوارات الفلسفية كمناظرات بين شخصيات، سواء كانت حقيقية أو خيالية، مما أضفى على النصوص طابعًا جدليًا وفلسفيًا يُظهر تعدد وجهات النظر.(35)

هيرودوت، المعروف بـ"أبي التاريخ"، قدّم في رواياته مشاهد حوارية تسلط الضوء على التفاعلات الثقافية والسياسية بين الشعوب المختلفة، مما جعلها أداة لإبراز التنوع الفكري والتقاليد المتنوعة. أما ثيوسيديدس، فتميز بتقديم مناظرات فلسفية وسياسية عميقة في كتابه عن الحرب البيلوبونيسية، حيث صاغ نقاشات بين القادة والمفكرين تعكس صراعات القوة والقيم الأخلاقية والسياسية.

تُظهر هذه الحوارات المبكرة كيف أن التعبير الجدلي ساهم في استكشاف الأفكار المختلفة بعمق، مما وضع الأساس لاستخدام الحوار لاحقًا كأداة فلسفية وأدبية، لا سيما في أعمال أفلاطون التي طورت هذا الأسلوب ليصبح جوهرًا للفكر الفلسفي.

ومن أبرز الحوارات اليونانية الحوار السقراطى، وسقراط شخصية غامضة في تاريخ الفلسفة، حيث لم يترك وراءه أي كتابات توثق أفكاره بشكل مباشر. كل ما نعرفه عن حياته وأعماله وصل إلينا من خلال روايات معاصريه، وخاصة تلميذه أفلاطون. وصف أفلاطون سقراط بأنه المعلم النهائي، الذي لم يعتمد على التلقين، بل ركز على إثارة التفكير النقدي من خلال الحوار. كما قدمه كـخالق للحجة والبلاغة الحديثة، حيث استطاع من خلال منهجه السقراطي أن يمزج بين التفكير الفلسفي والجدل المنطقي لإرشاد تلاميذه إلى اكتشاف الحقيقة بأنفسهم.(36)

والحوار السقراطي (Socratic Dialogue) هو أداة أساسية تُستخدم لمساعدة الأفراد، خصوصًا المرضى، في استكشاف حياتهم بشكل أعمق، وتحدي الأفكار غير القابلة للتكيف، ومعالجة العقبات التي تواجههم، وتطوير مهارات التفكير النقديcritical thinking . يستمد هذا الأسلوب جذوره من أعمال الفيلسوف اليوناني سقراط، ويُعرف اليوم باسم "المنهج السقراطي" في التدريس. يتميز هذا المنهج بالاعتماد على التساؤل الموجه الذي يحفز التفكير والتحليل العميق، مما يساعد على فتح آفاق جديدة لفهم الذات والواقع، وتعزيز الوعي النقدي لدى الأفراد.(37)

عاش الفيلسوف اليوناني سقراط ملتزماً بمبدأ أساسي مفاده أن الطريق إلى الحقيقة يمر عبر طرح الأسئلة. كان سقراط، في محاوراته مع تلاميذه وأتباعه، يسعى إلى استكشاف أصول آرائهم وأفكارهم من خلال سلسلة من الأسئلة الدقيقة والموجهة، بهدف الكشف عن تناقضاتها وتسليط الضوء على أوجه القصور في منطقهم. هذه الطريقة الحوارية المميزة أصبحت تُعرف لاحقاً باسم المنهج السقراطي، وهي تُمثل أسلوباً نقدياً ومنهجياً يسعى للوصول إلى الحقيقة عن طريق الحوار والتحليل العميق للأفكار، مع التركيز على أهمية التفكير الذاتي والنقدي.(38)

كان سقراط يعتقد أن دور المعلم في التعليم لا يتمثل في إخبار الطلاب بما هي "الحقيقة"، بل في مساعدتهم على اكتشافها بأنفسهم من خلال عملية تعاونية لطرح الأسئلة. اعتمد سقراط على منهجه في الحوار عبر طرح سلسلة من الأسئلة المصممة لكشف التناقضات المنطقية في مواقف الطلاب أو في الأدلة التي يستندون إليها لدعم أفكارهم. هذا النهج السقراطي يهدف إلى مساعدة الطالب على اكتشاف الحقيقة بنفسه، بدلاً من أن يتلقاها بشكل مباشر من المعلم. كان سقراط يرى أيضًا أن هذه الطريقة تتيح للطلاب تعلم مهارة التفكير النقدي، وهي مهارة أساسية يمكن أن يستخدموها طوال حياتهم. ميزة أخرى بارزة لهذه الطريقة هي أن المعرفة المكتشفة ذاتيًا تكون أكثر قيمة للطلاب، حيث إنهم يميلون إلى تقديرها وفهمها بعمق أكبر مقارنة بالمعرفة التي تُلقَّن لهم. وبهذا، يصبح التعليم تجربة تفاعلية وشخصية تمكّن الطلاب من تحقيق النمو الفكري والاستقلالية.(39)

وهكذا يتطلب العلاج باستخدام المنهج السقراطي من المعالج أن يكون نشيطًا للغاية في طرح الأسئلة الصعبة على المريض عند التعرف على أفكار غير قابلة للتكيف، أو معالجة النقاط العالقة، أو تحديد الأخطاء المنطقية في تفكير المريض. ومع ذلك، فإن المهارة الأساسية التي يجب أن يتقنها المعالج هي مساعدة المريض على اكتشاف الأسباب الكامنة وراء تلك الأفكار غير القابلة للتكيف وأماكن الأخطاء المنطقية من خلال سلسلة من الأسئلة المدروسة بعناية. تُستخدم هذه الأسئلة لتعليم المرضى كيفية تطبيق الاستجواب السقراطي بأنفسهم، بحيث يتعلمون تحليل أفكارهم بشكل مستقل. وبعبارة أخرى، يهدف المعالج إلى تدريب المريض ليصبح "المعالج المعرفي" الخاص به، مما يعزز استقلاليته في التعامل مع تحدياته العقلية والعاطفية. هذا النهج لا يساعد فقط في علاج المشكلات الحالية، بل يزوّد المريض بأدوات معرفية طويلة الأمد لتحليل تفكيره وتطويره بشكل مستمر.(40)

الخلاصة: الحوار السقراطي هو شكل منظم من الحوار يعتمد على المشاركة النشطة لجميع الأطراف. يتميز هذا النوع من الحوار بإنشاء مساحة حرة ومفتوحة، حيث يُشجع المشاركون على المساهمة بشكل فعّال مع الالتزام بالانضباط الفكري والاستماع النشط لبعضهم البعض. يهدف هذا النوع من الحوار إلى توفير بيئة آمنة تتيح للمشاركين التحقيق بعمق في جوهر آرائهم الخاصة، كما تمنحهم الفرصة لفهم وجهات نظر الآخرين حول الموضوع قيد النقاش. بهذه الطريقة، يعزز الحوار السقراطي التفكير النقدي، ويشجع على البحث المشترك عن الحقيقة، بدلاً من فرضها بشكل أحادي.(41) وأصبح هذا الأسلوب سقراطى حجر الزاوية في الفلسفة الجدلية وأسهم في وضع أسس الحوار النقدي والتحليل العقلاني للأفكار.(42)

ظهر الحوار بأشكاله المختلفة (السياسية والفلسفية والدرامية) تاريخيًا في العصور القديمة عند اليونان، حيث ارتبط ارتباطًا وثيقًا بسياق دولة المدينة (Polis) كمجتمع من المواطنين المشاركين. تُعد حوارات أفلاطون أول روايات حوارية مكتوبة في تاريخ البشرية، وقد تشكلت في هذا السياق الثقافي والسياسي المميز لدولة المدينة القديمة.(43)

وبوجه عام: اتخذت الحوارات في العصور القديمة شكل المحادثات الفلسفية التي كانت تمثل تفاعلات حية بين المفكرين وأتباعهم أو بين المفكرين أنفسهم. وكانت تستخدم هذه الحوارات كوسيلة لاستكشاف الأفكار الفلسفية والنظريات الاجتماعية والأخلاقية. ومن أمثلة تلك الحوارات:

1- حوارات أفلاطون (Plato): تعتبر الحوارات الأفلاطونية من أشهر وأهم الأعمال التي شكلت الفكر الفلسفي الغربي. تتراوح الحوارات بين النقاشات حول العدالة، المعرفة، الفضيلة، المجتمع، الحب وغيرها. أشهر حواراته هي "الجمهورية"، "الفيدو"، "المناظرة" وغيرها.

2- أرسطو (Aristotle): في حين أن أرسطو لم يكتب حوارات بالمعنى التقليدي، فإن العديد من أعماله تُظهر مناقشات فلسفية حول الموضوعات المتعلقة بالمنطق، الأخلاق، والفيزياء. أبرز أعماله تشمل "الأخلاق النيقوماخية" و"السياسة".

3- شيشرون (Ciceron): كان شيشرون أحد أبرز الفلاسفة الرومانيين، وكتب العديد من الحوارات الفلسفية، مثل "الأحلام"و "حول الواجبات". كان عمله يدمج بين الفلسفة اليونانية والتقاليد الرومانية.

4- سينيكا (Seneca): سينيكا كان من أبرز فلاسفة الرواقيين الذين استخدموا الحوارات كوسيلة لشرح مفاهيم مثل الحكمة، الفضيلة، والتأمل في الموت. كانت حواراته تُعرض الأفكار الأخلاقية السلبية وتعليمات حياة الراحة الداخلية.

5- الأوبنشاد الهندي (Indian Upanishads): تعد الأوبنشاد مجموعة من النصوص الهندية القديمة التي تناولت الأسئلة العميقة المتعلقة بالطبيعة البشرية، الوجود، والروحانية. العديد من الأوبنشادات تتخذ شكل الحوارات بين المعلم والتلميذ مثل "بريهاندارانيا"، "تاتيا"، و"شفيتاشفيتارا".

6- مختارات كونفوشيوس (Confucius): في فلسفة كونفوشيوس، توجد العديد من الحوارات التي تتناول الأخلاق، العدالة، وحكم الدولة. أهم كتب "مختارات كونفوشيوس" هي عبارة عن مجموعة من محادثاته مع تلاميذه حول الفضائل الاجتماعية.

7- منسيوس (Mencius): منسيوس، أحد المفكرين المهمين في الفلسفة الصينية، استخدم الحوارات في أعماله مثل "منجزي" لشرح معتقداته حول الإنسانية والطبيعة الأخلاقية للإنسان.(44)

ومن أهم خصائص الحوار في الثقافة الهليلينية:

أولا: النزعة المناهضة للدوجمائية:

الحوار كان أداة لتفكيك المفاهيم الراسخة التي تؤدي إلى القمع الاجتماعي أو الجمود الفكري.ويتمثل في تحدي الأعراف والنظم السائدة، مما يُبرز رغبة في التحرر من التقاليد الجامدة.

ثانيا: الارتباط بالحياة الاجتماعية:

لعب دوراً محورياً في المحاكم، التجمعات السياسية، المسرح، النقد، وفنون الأداء المختلفة.وكان وسيلة للحفاظ على التبادل الشفهي ذي الأهمية البالغة في مجتمع يعلي من قيمة النقاش والتفاعل.

ثالثا: الارتباط بالديمقراطية:

ازدهر الحوار في الفترات التي كانت فيها الديمقراطية هي القوة المهيمنة على النظام السياسي.ويعكس الحوار مجتمعات تتمتع بقدر كبير من الحرية الفكرية والسياسية.

رابعا: متعدد الجوانب:

البحث عن الحقيقة: جعل الحوار وسيلة للوصول إلى جوهر الأفكار والمفاهيم، النقد الساخر: القدرة على السخرية من الأعراف الراسخة ومناقضتها بذكاء. وقبول الحدود الاجتماعية: رغم نزعة التحدي، ظل الحوار محكوماً بإطار العقوبات العرفية والدينية التيتحدد طبيعة الحرية الفردية.(45)

الخلاصة: الحوار الهيليني يمثل مزيجاً مدهشاً من الفكر الإبداعي، والجرأة في الطرح، والالتزام بالقيم الاجتماعية، مما جعله فناً أدبياً وفكرياً يعكس روح الحضارة الهيلينية في أوج ازدهارها.

2- الحوار فى المرحلة الحديثة والمعاصرة:

التقليد الأوروبي في الحوار، الذي بدأ مع الكتابات ذات الطبيعة اللاهوتية في العصور الوسطى واستمر بعد عصر النهضة، أخذ منحى مختلفًا عن التقليد اليوناني للحوار. في حين ركز الحوار اليوناني على المحادثة الجدلية المفتوحة والتفاعل الحر بين المحاورين بهدف البحث عن الحقيقة، فإن الحوار في التقليد الأوروبي تحول إلى شكل أكثر تنظيمًا ومنهجية. اتسم هذا التقليد بتقسيم الخطبة إلى "أجزاء من الكلام" مثل:

1- المقدمة (introduction) لتقديم الموضوع وجذب انتباه المستمعين.

2- السرد (narrative) لتوضيح الوقائع أو السياق.

3- البيان أو العبارة(statement) لعرض الفكرة أو الفرضية المركزية.

4- البراهين (proofs) لتقديم الأدلة والحجج لدعم الفرضية.

5- الخاتمة (epilogue) لتلخيص النقاط الأساسية وإقناع المستمع.

هذا التحول يعكس الطابع الخطابي والهيكلي الذي سيطر على الفكر الأوروبي خلال تلك الفترات، حيث كان الهدف من الحوار غالبًا هو الإقناع أو التعليم بدلًا من البحث الحر عن الحقيقة كما في التقليد اليوناني.(46)

شهدت الفلسفة الأكاديمية الغربية، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، تحولًا ملحوظًا في توجهاتها الفكرية، حيث تزايد الميل إلى رفض الديالكتيك الذي كان يرمز إلى تقاليد الفكر الجدلي المتأصلة في الفلسفة الهيجلية والماركسية.(47)

وهكذا حدثت تحولات فى الفلسفة الأكاديمية منها:

1- تراجع الديالكتيك

- مع ظهور تيارات فكرية جديدة، بدأت الفلسفة الجدلية تفقد شعبيتها تدريجيًا في الأوساط الأكاديمية الغربية.

- تم النظر إلى الديالكتيك باعتباره نهجًا غامضًا وغير علمي في معالجة المشكلات الفلسفية، خاصة في ظل التركيز المتزايد على التحليل الدقيق والمنهجي.

2- ظهور الاتجاهات الجديدة:

أ- الكانطية الجديدة

- أعادت الكانطية الجديدة تفسير فلسفة إيمانويل كانط بطريقة تتماشى مع روح العلم الحديث.

 - ركزت على النظرية المعرفية والأسس العلمية للفكر، متجنبةً التأملات الميتافيزيقية الجدلية.

ب- فلسفة الحياة

- مع فلاسفة مثل فريدريك نيتشه وهنري برغسون، ظهرت فلسفة تركز على الحياة كظاهرة حيوية وتدفق ديناميكي بدلًا من التفكير الجدلي القائم على العقل والمفاهيم الثابتة.

- دعت إلى فهم العالم من خلال التجربة الحية والمباشرة بدلًا من المجردات الجدلية.

ج- الوضعية:

- أصبحت الوضعية، بقيادة أوجيست كونت في البداية ومن ثم تيار الوضعية المنطقية، القوة السائدة في الفلسفة الأكاديمية.

 - ركزت الوضعية على العلم والتجربة كوسائل وحيدة للمعرفة، رافضةً ما اعتبرته مضاربات لا يمكن اختبارها علميًا، مثل الديالكتيك.

3- نقد الديالكتيك:

قوبل الديالكتيك بانتقادات على عدة جبهات:

- من الكانطيين، الذين رأوه غير متماسك معرفيًا.

- من الوضعيين، الذين اعتبروه بعيدًا عن المنهجية العلمية.

- من أنصار فلسفة الحياة، الذين وجدوا أنه يتجاهل التجربة الحية ويركز بشكل مفرط على مفاهيم مجردة.

اهتم العديد من الفلاسفة في العصر الحديث والمعاصر بفكرة الحوار والتعليم، حيث قدموا رؤى عميقة في هذا المجال. من بين هؤلاء الفلاسفة: مارتن بوبر Martin Buber، ميخائيل باختين، ليف فيجوتسكي Lev Vygotsky، حنه أرندت Hannah Arendt، إيمانويل ليفيناس Emmanuel Levinas، موريس ميرلو بونتي Maurice Merleau- Ponty,، سيمون ويل Simone Weil، مايكل أوكشوت Michael Oakeshott، ويورغن هابرماس Jürgen Habermas. لقد ساهم هؤلاء المفكرون في صياغة وجهات نظر اجتماعية وسياسية حول الحوار والتعليم، ضمن إطار التقليد الأوروبي للفلسفة الحوارية. وقد ركزت أعمالهم على أهمية التفاعل الإنساني، دور الحوار في تعزيز الفهم المتبادل، وأثر التعليم في تشكيل المجتمع الديمقراطي والمتحضر.(48)

يشير مفهوم "الحوار" إلى أشكال مختلفة من التواصل الإنساني التي ترتبط بالعلاقة بين الفرد والآخر، كما يتضح في مقاربات الفلاسفة الثلاثة: مارتن بوبر، وإيمانويل ليفيناس، وجوزيف تيشنر. والفلاسفة الثلاثة، يقدمون رؤى ومناهج مختلفة في معالجة التحديات التي يواجهها البشر عند لقاء الآخر وجهًا لوجه.(49)

1- الحوار عند مارتن بوبر (1878 – 1965)

تستند فلسفة الحوار بشكل رئيسي إلى أفكار الفيلسوف مارتن بوبر، الذي اشتهر بكتابه الكلاسيكي "أنا وأنت" الذي صدر عام 1923. بالنسبة لبوبر، فإن الحقيقة الأساسية للوجود البشري، والتي غالبًا ما تُغفل من قبل العقلانية العلمية والفكر الفلسفي المجرد، تكمن في "الإنسان مع الإنسان". يحدث هذا الحوار في "المجال بين". وقد اختار الفيلسوف الوجودي مارتن بوبر الحوار كوسيلة للتعامل مع الكوارث التي شهدتها أوروبا والعالم في تلك الحقبة.

يشتهر مارتن بوبر بمفهوم الوجود الحواري الذي قدمه في كتابه "أنا وأنت" (1923)، حيث يعرض علاقة "أنا- أنت" باعتبارها علاقة متبادلة وحقيقية بين كائنين. هذه العلاقة ليست مجرد تفاعل أو تبادل عابر، بل هي لقاء أصيل وملموس يعبّر عن وجود حقيقي ومباشر بين الأفراد. استخدم مارتن بوبر في كتابه "أنا وأنت" مجموعة من الأمثلة اليومية لتوضيح مفهوم علاقة "Ich- Du" أو "أنا وأنت"، وهي علاقة حوارية تتسم بالوجود المتبادل والتفاعل الأصيل بين الأفراد. هذه الأمثلة تنطوي على أنواع مختلفة من التفاعلات الإنسانية التي تظهر فيها اللقاء والحوار والتبادل. بعض الأمثلة التي استخدمها بوبر تشمل:

1- الحبيبان: العلاقة بين شخصين في حالة حب، حيث يعبّر كل منهما عن وجود الآخر ويشترك في تجربة مشتركة من التواصل والتفاهم.

2- المراقب والقطة: علاقة المراقب مع القطة، حيث يتفاعل الشخص مع الكائن الآخر (القطة) ويشعر بوجوده ككائن حي مستقل.

3- المؤلف والشجرة: العلاقة بين المؤلف والشجرة التي قد تمثل تفاعلًا شخصيًا أو وجودًا حقيقيًا يتم إدراكه من خلال التأمل أو الارتباط بالعالم الطبيعي

شخصان غريبان في القطار: حتى في التفاعلات العابرة بين شخصين غريبين في مكان عام (مثل القطار)، يمكن أن يتم إدراك هذا اللقاء كوجود حقيقي وحوار حتى لو كان مؤقتًا أو غير مستمر.

في جميع هذه الأمثلة، تبرز فكرة أن العلاقة بين "أنا" و"أنت" هي لقاء حقيقي يتجاوز التواصل العابر، ويتم فيها التبادل المتبادل للفهم والتجربة الحياتية.(50)

2- الحوار عند أرندت (1906- 1975)

قدمت حنة أرندت (Hannah Arendt) مفهومًا عميقًا للحوار يعتمد على ثلاثة محاور رئيسية:

1- الفعل (Action): اعتبرت أرندت الفعل مرتبطًا بالقدرة البشرية على المبادرة وخلق أشياء جديدة، وهو ما يتحقق من خلال الحوار. الفعل دائمًا علني، ويحدث في الفضاء العام حيث يلتقي الأفراد ويتفاعلون.

2- الكلام: (Speech) يمثل الكلام وسيلة البشر الأساسية للتعبير عن أنفسهم وتوضيح هويتهم للآخرين. من خلال الحوار والكلام، يتم بناء العلاقات الاجتماعية والسياسية التي تشكل جوهر الحياة العامة.

3- التفكير الداخلي: (Inner Thinking) يشير إلى التأمل الذاتي والحوار الداخلي الذي يُمكّن الفرد من تقييم أفكاره وأفعاله قبل عرضها في المجال العام.(51)

تناولت حنه أرندت في كتاباتها القضايا المتعلقة بسياسة التعليم في ظل التحديات المعاصرة، مثل الخصخصة، التسويق، والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، خاصة في البلدان التي تتأثر بالعولمة. ورأت أرندت أن هذه التحولات تشكل تهديدًا خطيرًا يجب مواجهته. أكدت أرندت أهمية أن تحافظ المدارس والجامعات على جانبها المزدوج، حيث تنتمي إلى المجال الخاص من حيث رعاية الأطفال وتربيتهم، وإلى المجال العام باعتبارها أدوات لتأهيلهم للمشاركة في الحياة العامة.ورأت أرندت أن الأطفال ينتمون بطبيعتهم إلى المجال الخاص للعائلة، ولكن مهمة التعليم هي إعدادهم وإكسابهم المهارات والمعارف ليصبحوا أدوات فاعلة في المجال العام، أي أن يتحولوا إلى أفراد قادرين على المساهمة في المجتمع بشكل إيجابي.و أشارت إلى أن الاتجاه نحو خصخصة التعليم وربطه بالربح الاقتصادي قد يؤدي إلى تراجع دوره كمساحة تجمع بين التربية الفردية والمسؤولية المجتمعية، مما يجعل من الضروري حماية جوهر التعليم كوسيلة لخلق توازن بين الأهداف الشخصية والمصلحة العامة.(52)

تؤكد حنة أرندت في رؤيتها للتعليم أهمية دوره في تنمية المجتمع البشري وتحقيق الاستمرارية الثقافية فى ضؤ النقاط التالية:

1- دور الأجيال الجديدة في الابتكار والتغيير:

تعتقد أرندت أن كل جيل يجلب معه ابتكارات وتغيرات تساهم في دفع المجتمع البشري إلى الأمام. فكلجيل يساهم بشكل فريد في تجديد الحياة الثقافية والاجتماعية.

2- أهمية التعليم في الحفاظ على الاستمرارية:

مع هذا التغيير، تبرز أهمية التعليم في كل جيل. إذ يساعد التعليم في تشكيل الوعي الثقافي وتقديرالماضي، مما يضمن التماسك المجتمعي على مر العصور. من دون هذا التقدير للماضي، قد يكون منالصعب الحفاظ على الهوية الثقافية.

3- التعليم كجسر بين الخاص والعام:

تعتبر أرندت أن التعليم هو جسر يربط بين المجال الخاص (الأسرة والخصوصية الفردية) والمجال العام (المجتمع والمشاركة العامة). من خلال هذا الجسر، يتمكن الأفراد من التنقل بين احتياجاتهم الشخصية والمسؤولية المجتمعية.

4- التوازن بين التفكير الداخلي والحوار العام:

من الضروري للتعليم أن يحقق التوازن بين التفكير الداخلي الذي يساعد على تطوير الأفراد على الصعيد الشخصي، والحوار العام الذي يسمح لهم بالمشاركة الفعالة في الحياة المجتمعية والسياسية.(53)

وتؤكد أرندت ضرورة أن يتم تعليم الطلاب القدرة على التفكير الناقد والاستعداد للمشاركة في الساحة العامة. وهي تعتبر هذه العملية جزءًا أساسيًا من تكوين الإنسان المواطن في المجتمع الديمقراطي. في نظرها، لا يقتصر التعليم على اكتساب المعرفة بل يجب أن يمتد ليشمل تطوير مهارات التفكير الذاتي والقدرة على التعبير عن الرأي والمشاركة في القرارات المجتمعية. وترى أن التفكير الناقد هو أداة أساسية لتحليل المعرفة والأفكار السائدة. يشمل ذلك القدرة على التشكيك في المعتقدات السائدة أو المواقف المقبولة من قبل الآخرين، بما في ذلك نقد السلطة، والسياقات الاجتماعية والسياسية. ولكن، التفكير الناقد لا يتوقف عند مجرد التساؤل أو التشكيك، بل يتطلب أيضًا صياغة مقترحات جديدة يمكنها تحدي الوضع القائم أو تقديم حلول جديدة. وترى أنه يمكن الكشف عن الذات في الساحة العامة، فالتفاعل في المجال العام يتطلب أن يكون الأفراد مستعدين للكشف عن أنفسهم، والإفصاح عن أفكارهم وآرائهم بحرية ودون خوف من الرقابة أو التجريح. وتكون القدرة على المشاركة الفعالة في النقاشات المجتمعية، وهو ما يعزز من الفضاء العام كمساحة للتبادل الفكري والاجتماعي.(54)

والمشاركة في المجال العام لا تعني مجرد التواجد فيه، بل تتطلب أن يكون الفرد قادرًا على تقديم رأيه والدفاع عنه. هذا يتضمن المشاركة في النقاشات السياسية والاجتماعية والفلسفية، مما يعزز الشعور بالمسؤولية المشتركة ويعمق الفهم الجماعي.(55)

تناولت أرندت مفهوم الحوار في عدة أعمال لها، مثل "الوضع البشرى" و"أيخمان في القدس". وهي طورت مفاهيم ترتبط بتفاعل الأفراد داخل الفضاء العام وكيفية تأطير هذه التفاعلات لتصبح وسيلة للمشاركة الفعالة في المجتمع. ترى أن الفعل والقول هما الوسيلتان الرئيسيتان اللتان يمكن من خلالهما أن يتفاعل الأفراد مع بعضهم البعض كأعضاء في المجتمع. الفضاء الذي يحدث فيه هذا التفاعل هو الفضاء العام، الذي يسمح للأفراد بالكشف عن آرائهم وأفكارهم والعمل الجماعي. يتيح هذا الفضاء التنسيق بين الأفراد الذين قد يتشاركون نفس الفكر أو يختلفون فيه، مما يؤدي إلى إقامة علاقات بين الأفراد وتشكيل المجتمع بناء على ذلك.وطورت أرندت مفهوم التفكير الداخلي الشخصي، وهو عملية تفكير موجهة نحو الذات تمكن الأفراد من التفاعل بفعالية في الحوار عبر المجال العام. هذا التفكير الداخلي، الذي يتضمن التأمل والنقد الذاتي، يسمح للأفراد بتكوين آرائهم الخاصة ويعزز قدرتهم على مقابلة الآخرين في الفضاء العام والنقاش معهم.(56)

و استخدمت أرندت أدولف أيخمان كمثال على غياب التفكير الداخلي كأداة لفهم الشر ، ففى كتابها "أيخمان في القدس"، جادلت بأن غياب الحوار الداخلي وعدم القدرة على التفكير النقدي يمكن أن يؤدي بالأفراد إلى ارتكاب أعمال غير أخلاقية، حتى لو لم تكن لديهم نوايا شريرة. وفقًا لها، فإن الشر لا ينبع بالضرورة من الأشخاص ذوي النوايا الخبيثة، بل من الأشخاص الذين لا يستطيعون التفكير في تصرفاتهم. وقد أطلقت على هذا الظاهرة اسم "تفاهة الشر" ("the banality of evil")، مشيرة إلى أن الشر يمكن أن يكون سمة من سمات الروتين واللامبالاة في التعامل مع القضايا الأخلاقية.(57)

الخلاصة: وفقًا لأرندت، إن تعليم الطلاب ليس فقط اكتساب المهارات الأكاديمية أو المعلوماتية، بل يشمل تعزيز القدرة على التفكير النقدي والاستعداد للكشف عن الذات في الساحة العامة. هذا يعزز مشاركة فعالة في المجتمع ويخلق أجيالًا قادرة على مواجهة التحديات وتحقيق التغيير. وترى أرندت أن الحوار هو عملية أساسية لتفاعل الأفراد مع بعضهم البعض في المجتمع، وأن التفكير الداخلي الشخصي هو الأساس الذي يمكن أن يتيح القدرة على المشاركة الفعالة في الحوار والنقاشات العامة. كما أن غياب هذا الحوار الداخلي يؤدي إلى اللامبالاة والشر، وهو ما حذرته في مفهوم "تفاهة الشر" الذي يعكس كيف يمكن أن يؤدي عدم القدرة على التفكير إلى ارتكاب الأعمال الشريرة دون وعي.

3- الحوار عند ايمانويل ليفيناس(1906- 1995)

خصّص ليڤيناس حيّزاً واسعاً من فلسفته للكتابة بشكل متميّز عن أخلاقيات التّعامل مع الآخر، وحرص في ذلك على غرس فكرة التسامح ونبذ فلسفة العنف والقتل. مستهجناً حرُوب البشر التي تأتي على الأخضر واليابس. مُطالباً من خلال ما كتبه وألقاه من محاضرات وما عقده من مؤتمرات، بإعادة الاعتبار في تعاملنا مع الآخر، وفي مسؤوليتنا تجاهه، وفي الحق بالاعتراف به، وفي احترامه كآخر مختلف عني، والإصغاء إليه والحوار معه؛ فمن غير الأخلاق إقصاء الغير أو تهميشه أو إدماجه في سياج الذاتية.(58)

يعد إيمانويل ليفيناس أحد أبرز المفكرين الذين أعادوا صياغة القيم الأساسية التي تقوم عليها الحداثة الأوروبية. بينما ركزت الثورة الفرنسية على ثلاثية "الحرية، والمساواة، والأخوة"، قام ليفيناس بقلب هذا الترتيب من خلال وضع "الأخوة" في المقدمة، معتبرًا إياها الشرط الأساسي لإنسانيتنا المشتركة والأساس الذي يمكن أن تنبني عليه الحرية والمساواة. يرى ليفيناس أن الأخوة ليست مجرد قيمة اجتماعية، بل هي العمود الفقري للوجود الإنساني. بدون أخوة، تصبح الحرية والمساواة مجرد شعارات. من خلال إعطائه الأولوية للأخوة، يقدم ليفيناس نفسه كمفكر يعمل على تقويض الفكر الحديث السائد من الداخل، ليعيد النظر في الأسس التي تقوم عليها القيم الغربية.، إذ إن العلاقات الإنسانية الحقيقية تبدأ بالاعتراف بالآخر كأخ، وهو ما يشكل أساس الكينونة الأخلاقية. هذا الانقلاب الفكري لا يسعى فقط إلى النقد، بل إلى إثراء الفكر الحديث وتوسيعه ليشمل بُعدًا أخلاقيًا أعمق.(59)

يدافع ليڤيناس عن مفهوم الآخر الذي أسس عليه فلسفته الأخلاقية، ويبرز القيمة الأخلاقية للمسؤولية التي تتحملها الذات تجاه الآخرين. تعتبر المسؤولية بمثابة اختيار، حيث إن واجبي عند لقائي بالآخر هو عدم الهروب أو التملص من مسؤوليتي تجاهه، مما يجعلني مديناً له.(60)

يطالب ليفيناس بحوار نقدي ويقظ يتناول العلاقات البشرية والمجتمعية من منظور أخلاقي وميتافيزيقى .هذا الحوار يتطلب إعادة النظر في كيفية تعاملنا مع الآخر، ليس كموضوع أو كفرد منعزل، بل ككائن يحمل في ذاته معنى أخلاقيًا يستحق الاحترام والاهتمام.وهكذا فان ليفيناس هو بحق مفكر المستقبل، حيث يضع تصورًا جديدًا للعلاقات الإنسانية مبنيًا على التضامن، والتفاعل الأخلاقي، والاعتراف المتبادل. في عالم يواجه تحديات كبيرة تتعلق بالعدالة والحرية، تظل رؤيته إعادة صياغة الجوانب الأخلاقية لعلاقاتنا بالآخر والبحث عن معانٍ أعمق لإنسانيتنا المشتركة نقطة انطلاق لمستقبل أفضل.(61)

تحمل مسؤولية الذات أمام الغير دلالات المحبة والسلام، هي مناداة للاعنف في وجه الحروب التي تفتك وتسفك دماء البشر وتحصد الأرواح وتنشئ المدافن. السلام ليس نهاية للحرب أو ختاماً للاقتتال، أو انصياع الخاسر للمنتصر."على السلام أن يكون سلامي أنا، بعلاقة تنطلق من الذات نحو الآخر، بالرغبة والطيبة حيث الأنا تقوم وتستمر من دون أنانية."(62)" أنْ تتكلم هو- في الوقت ذاته - أن تتعرف على الآخر وأن تعرفه بذاتك... هذا التعاطي الذي يتطلبه الكلام هو بالتحديد العمل من دون عنف".(63)

4- الحوار عند هابرماس(1929-)

اعتمد يورجن هابرماس Jürgen Habermas، الفيلسوف والمفكر الألمانى، بشكل كبير على الدراسات اللغوية الحديثة لتطوير نظرية الفعل التواصلي، حيث أولى اهتمامًا خاصًا لأعمال اللغويين مثل "جون أوستن" (1911- 1960) و"جون سيرل" (1932-). ويشير هابرماس إلى ذلك بقوله: "أنا مدين لكل الاتجاهات التداولية والتحليلية في النظرية اللغوية... إن هدف الفهم المتبادل متجذر في الاتصال اللغوي". واقترح مفهومي "الفعل التواصلي" و"الإجماع من خلال النقاش والجدل".

يدعو هابرماس إلى تعزيز ثقافة الحوار والتعايش والتواصل بين جميع الفئات والطوائف، في زمن تزايدت فيه الطائفية والطبقية وتباينت الأيديولوجيات. يسعى إلى تقديم فكر جديد يؤمن بالكونية والعالمية، ويجعل من الحوار سلوكًا اجتماعيًا يوميًا ونمط حياة وطريقة للتفكير.. ويعرّف الفعل التواصلي بأنه إنشاء تفاعلات اجتماعية بين اثنين أو أكثر من الفاعلين الاجتماعيين بهدف التفاهم المتبادل والاتفاق. ووفقا له، فإنه ينطوي على دعوة إلى العمل باستخدام اللغة اليومية، مثل القول أو الكتابة. أبسط الأفعال قد تكون إيماءات ذات معنى، مثل المصافحة أو تحية شخص ما.(95)

وهكذا فان الحوار الأصيل يستند إلى الأعمال الفلسفية العميقة لهابرماس، حيث تعكس وجهة نظره حول العقلانية التواصلية . أسهمت أعمال هابرماس في تطوير مفاهيم التنوع والترابط ونظرية الحوار الحقيقي. يُعتبر الحوار أداة أساسية في التعلم التنظيمي، إذ تُستخدم المحادثات كوسيلة لتبادل الأفكار و"تطوير تفاهمات مشتركة". إن تبادل الأفكار وزيادة الفهم المتبادل بين الأطراف المعنية يعزز التعاون، وهو تفاعل اجتماعي بالغ الأهمية. لذا، يُعتبر الحوار الحقيقي أداة قيمة من منظور القيادة الاجتماعية/العلاقاتية، حيث يتيح للقادة والتابعين تبادل الأفكار وخلق تفاهمات مشتركة لتعزيز التعلم على المستويين الفردي والتنظيمي.(96)

حدد هابرماس ثلاثة أنواع من الفعل التواصلي، وهي: نقل المعلومات، بناء العلاقات مع الآخرين، وتمكين الأفراد من التعبير عن أنفسهم. وبعبارة أكثر دقة، فإن الفعل التواصلي يتميز بأنه معرفي وتفاعلي ومعبر، مما يشير إلى إمكانية حدوثه بين فرد أو مجموعة.(97)

التواصل الفردي عند هابرماس هو العنصر الأكثر أهمية في بنية المجتمع. من المستحيل فهم المجتمع دون فهم التواصل الفردي أولاً. ولذلك يحلل هابرماس النمو المجتمعي، وكذلك الصراع المجتمعي، في المجتمع الحديث، معتمدا على الفعل التواصلي. ووفقا له، تحدث الأزمات عندما يفشل المجتمع الحديث في تلبية الرغبات الفردية وعندما تؤثر المؤسسات الاجتماعية على الأفراد. ويجادل بأن الناس ينخرطون من أجل الاستجابة للأزمة، وهو ما يشير إليه بـ "الفعل التواصلي" "communicative action.".(98)

وفقًا لهابرماس، ينبغي أن تكون العقلانية حوارية أو "تواصلية"، حيث يقوم المشاركون بتقديم الحجج والردود عليها. عندما يؤكد أن العقلانية التواصلية هي القوة التي تساهم في الوصول إلى إجماع من خلال الخطاب الجدلي، فإنه يوضح مبرراته للعقل التواصلي. ويشير إلى أن القوة الوحيدة التي يمكن أن تؤدي إلى استنتاجات توافقية هي الحجة الأكثر إقناعًا، وأنه في نهاية العملية التداولية، تكون جميع الأطراف المعنية مقتنعة بالقرارات التي تم التوصل إليها وتعتبرها عقلانية.(99)

التواصل الفعّال يشكل جوهر هذا النهج في الديمقراطية السياسية. وفقًا لهابرماس، يُعتبر "المجال العام" "public sphere"مكانًا للحوار حيث يشارك المواطنون ويتفاعلون من خلال النقاش والخطاب. يدافع هابرماس عن نموذج إجرائي للديمقراطية يرتكز على العناصر الخطابية في المجال العام، مؤكدًا أنه لتعزيز المشاركة العامة وتوسيع أو تعميق الديمقراطية، يجب فهم السياسة كحوار عام يستند إلى إضفاء الشرعية على الإجراءات والعقل. في رؤية هابرماس، تشكل المداولات الديمقراطية العقل التواصلي. ويشير إلى أنه بينما يقوم العمل الاستراتيجي بتنسيق التفاعل الاجتماعي من خلال التأثير أو القوة الخارجية، فإن العقل التواصلي يحقق ذلك من خلال "الموافقة"، التي تتطلب التوصل إلى اتفاق يمكن تبريره فقط بناءً على المصالح العامة للأطراف المعنية من خلال التواصل الجدلي.(100)

نموذج هابرماس للكلام يعتمد على نظرية الحوار الأصلي من خلال تحديد مفاهيم العقلانية. وفيما يلي الشروط الأربعة للكلام وفقًا لهابرماس كما هو موضح في الجدول التالي(101):

نموذج هبرماس للتواصل العقلانى1283 table

5- الحوار عند ميخائيل باختين(1895- 1975)

وبعد كسوف طويل في تاريخ الفكر الإنساني، وُلد الحوار من جديد في القرن العشرين على يد ميخائيل باختين (Mikhail Bakhtin)، الفيلسوف والمنظِّر الأدبي الروسي، الذي أعاد صياغة مفهوم الحوار وجعل منه أداة مركزية لفهم النصوص والظواهر الثقافية والاجتماعية. طور باختين نظرية حوارية متعددة الأوجه تقوم على مجموعة من المفاهيم الأساسية، منها: الحوار (Dialogue)، المونولوج (Monologue)، التعددية الصوتية (Polyphony)، المنطوقات (Utterances)، الصوت (Voice)، تنوع الملفوظات Heterology وأنواع الكلام ..الخ. ألهمت كتابات ميخائيل باختين العديد من العلماء والممارسين لتطوير وتطبيق أساليب حوارية متعددة في مجالات متنوعة، أبرزها: علم أصول التدريس (Pedagogy)، علم النفس (Psychology)، العلاج النفسي (Psychotherapy) والدراسات الثقافية .(Cultural Studies)(102)

يعتبر ميخائيل باختين أحد أبرز المفكرين الروس في القرن العشرين، وارتبط اسمه ارتباطًا وثيقًا بمفهومي الحوار والحوارية. يرى باختين أن الحوار ليس مجرد وسيلة للتواصل، بل هو النموذج الأساسي للغة والتفاعل البشري. في الحوار، يكون تسلسل الكلام استطراديًا، حيث تستجيب الأصوات أو الموضوعات لما قيل من قبل وتترقب ما سيقال لاحقًا. بالنسبة لباختين، الحوارية تعني أن اللغة ليست ثابتة أو مغلقة، بل هي دائمًا في حالة تفاعل مستمر بين الأطراف المتحدثة. كل كلمة أو تعبير يتأثر بما سبق من سياق، ويهيئ الطريق لما سيأتي.(103)

ومن ناحية أخرى لايقتصر الحوار عند ميخائيل باختين فقط على التواصل الخارجي بين الأشخاص، بل يمتد إلى التفاعل الداخلي داخل الذات. وهناك ثلاثة عوامل رئيسية تُحدد بنية الكلام وفقًا لباختين:

1- المحتوى والمعنى: يتضمن الموضوع الذي يتحدث عنه الفرد، والمفهوم الذاتي الذي يُبنى حول هذا الموضوع. هذا العامل يحمل بُعدًا موضوعيًا (الموضوع الذي يتم تناوله) وبُعدًا ذاتيًا (الطريقة التي يفهم بها المتكلم الموضوع ويصوغه).

2- التعبير والقيمة العاطفية: لا يمكن للكلام أن يكون محايدًا، فهو دائمًا يحمل علاقة عاطفية وقيمية تجاه المحتوى. هذه العلاقة ليست مجرد انعكاس فردي، بل تتأثر بالخطابات السابقة والسياقات الاجتماعية المحيطة.

3- الحوارية في الجوهر: يرى باختين أن كل خطاب حواري بطبيعته، حيث يتضمن مواجهة بين أصوات مختلفة. هذه الأصوات يمكن أن تكون أصواتًا خارجية أو أصواتًا داخلية تتفاعل في ذهن المتكلم.(104)

فالحوار حركة ديناميكية بين الأصوات، فهو لا ينحصر في كونه تبادلًا للكلام بين شخصين، بل هو ديناميكية مستمرة بين: الماضي (ما قيل سابقًا)، الحاضر (ما يُقال الآن)، والمستقبل) ما يُتوقع قوله أو الرد عليه).ويؤكد باختين البعد الاجتماعي للكلام، فالكلام لا ينشأ في فراغ؛ فهو دائمًا نتاج اجتماعي. كل كلمة تُقال تتأثر بما قاله الآخرون من قبل، وهي بدورها تؤثر على ما سيُقال لاحقًا. هذه الطبيعة الاجتماعية تُبرز كيف أن اللغة هي حوار مستمر بين الأفراد والثقافات.(105)

والحوار ليس مجرد وسيلة لتبادل الأفكار أو الرسائل بين الأشخاص، بل هو عملية أعمق تتخلل وجود الذات وعلاقتها بالآخرين والعالم المحيط. وليس مجرد مبادرة فردية، على العكس، وجود الذات ذاته مشروط بالحوار مع الآخر. الذات موجودة دائمًا في حالة حوار مستمر مع "كلمة الآخر"، سواء أدركت ذلك أم لا. هذا الحوار لا يقتصر على التواصل اللفظي، بل يمتد ليشمل كل أشكال التفاعل مع العالم والآخرين. كلمة الآخر ليست مجرد كلام منطوق، بل تشمل: الأفكار والمعتقدات التي تتفاعل معها الذات , التقاليد الثقافية والاجتماعية التي تؤثر عليها والردود المحتملة من الآخرين، سواء كانت حاضرة أم غائبة.(106)

لذلك ينفي باختين فكرة أن الحوار ينشأ عن قرار إرادي من الذات (الأنا) لاحترام الآخر أو الإنصات إليه. الحوار، في نظره، يُفرض على الذات كحالة وجودية لا يمكن تجنبها، هو حالة دائمة من الانفتاح، حيث لا يمكن للذات أن تغلق نفسها تمامًا أمام الآخر. كل محاولات الانغلاق أو تجاهل الآخر تؤدي إلى ظهور التناقضات، مما يجعل الإغلاق غير قابل للتحقق. عندما تحاول الذات أن تكون غير مبالية تجاه الآخر، فإنها تفشل في تحقيق ذلك فعليًا. اللامبالاة تبدو ظاهريًا كرفض للتواصل، لكنها في جوهرها اعتراف ضمني بوجود الآخر وتأثيره. محاولات الإغلاق أو اللامبالاة تتحول إلى حالة كوميدية تراجيدية، لأنها تتناقض مع الطبيعة الحقيقية للوجود الحواري. التراجيديا تظهر في فشل الذات في تحقيق عزلتها، بينما الكوميديا تتجلى في عبثية هذا الفشل.(107)

الخلاصة: الحوار عند باختين ليس خيارًا، بل هو حالة وجودية تفرضها طبيعة الذات وعلاقتها بالعالم. استحالة الإغلاق أو اللامبالاة تعكس الطابع الأساسي للحوار، حيث يكون الانفتاح على الآخر والتفاعل معه أمرًا حتميًا. محاولات تجنب الحوار تؤدي إلى مفارقات عبثية تبرز الطبيعة الكوميدية التراجيدية لهذه المحاولات.

ان فهم الطبيعة الحوارية للوعى يمكن من اظهار مرايا المعرفة والنزعة العلمية. حيث يرى مايكل باختين "أن الحقيقة لا تُعتبر شيئًا ثابتًا أو ثابتًا داخل عقل فردي، بل هي نتاج تفاعل جماعي بين الأفراد الذين يبحثون عن الحقيقة معًا. بناءً على هذا المنظور، يصبح الحوار هو الوسيلة التي يتم من خلالها اكتشاف الحقيقة، وليس مجرد تبادل المعلومات.".. وهكذا يؤكد باختين على أن الحوار يتيح تعدد الأصوات وتعدد الرؤى. الحقيقة لا تأتي من وجهة نظر فردية واحدة، بل من خلال تفاعل هذه الأصوات المختلفة.(108)

***

ا. د. ابراهيم طلبه سلكها

.....................

الهوامش

1- Oleksandr Kulyk: On the Possibility to Teach Doing Philosophy, ASIANetwork Exchange A Journal for Asian Studies in the Liberal Arts, December 2018,p- 10

2- هيفاء أحمد السامرائي: الحوار العربي الاوروبي، دراسات / وزارة الثقافة والاعلام، العراق، 1982، ص 25.

3- يحيى بن محمد حسن بن أحمد زمزمي: الحوار آدابه وضوابطه في ضوء الكتاب والسنة، دار المعالي، الأردن، الطبعة الثانية.2002.ص.2

4- Manolis Dafermos: Relating dialogue and dialectics: a philosophical

perspective, Dialogic Pedagogy: An International Online Journal http://dpj.pitt.edu DOI: 10.5195/dpj.2018.189 | Vol. 6 (2018),pp3- 4

5- Bradley S. Warfield: Dialogue as the Conditio Humana: a Critical Accountof Dmitri Nikulin’s Theory of the Dialogical, CambridgeUniversity Press.2019,p- 5

6- سرير أحمد بن يوسف: اشكالية الحوار فى الفكر الغربى المعاصر(الفلسفة الفرنسية والفلسفة الالمانية)، رسالة دكتوراة، اشراف د.عبداللوى عبدالله، قسم الفلسفة، كلية العلوم الاجتماعية، جامعة وهران2، 2017/2018، ص ص 24 – 25

7- Mirosław Patalon: The Philosophical Basis of Inter- religious Dialogue, Cambridge Scholars Publishing, Mirosław Patalon,2009,p- 1

8- Ibid,p- 5

9- Manolis Dafermos: Relating dialogue and dialectics: a philosophical

perspective, Dialogic Pedagogy: An International Online Journal http://dpj.pitt.edu DOI: 10.5195/dpj.2018.189 | Vol. 6 (2018),p- 3

10- Jorja Wright: Authentic Dialogue: The Communication of Collaborative Leadership. Advances in Social Sciences Research,2017,p- 114

11- مها فتحة: مهارات التواصل وأساليب الاقناع، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، 2016، ص 31.

12- عبد الرحمن الميداني: ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، دارالقلم، بريوت، ط2، 1981، ص 281.

13- يحيى بن محمد حسن بن أحمد زمزمي: مرجع سابق، ص 22

14- د. زهير الخويلدى: الحوار الفلسفى والتفكير الايجابى، ديوان العرب، منبر حر للثقافة والفكر والادب، شبكة المعلومات الدولية "النت"، 18مايو 2022

15- المرجع نفسه

16- عبدالسلام بنعبد العالى: الفلسفة أداة للحوار، دار توبقال، الدار البضاء، المغرب، ط1، 2011، ص8

17- المرجع نفسه، ص ص 8- 9

18- Marta Gibinska: Crisis: Meeting the Other and the Philosophy of Dialogue, https://shs.hal.science/halshs- 02145012v1, Preprint submitted on 31 May 2019,p- 1

19- Ibid,pp- 1- 2

20- Manolis Dafermos: Op- cit,p- 17

21- Ibid,p- 16

22- Bradley S. Warfield: Dialogue as the Conditio Humana: a Critical Accountof Dmitri Nikulin’s Theory of the Dialogical, CambridgeUniversity Press.2019,pp- 1- 4

23- Ibid,p- 1

24- حسان الباهي:الحوار ومنهجية التفكير النقدي، أفريقيا الشرق، المغرب، الطبعة الاولى 2004، ص46

25- عماد أبوصالح: فن الحوار، وزارة الشئون السياسية والبرلمانية، ص 27

26- Hans- Herbert Kögler: A Critique of Dialogue in Philosophical Hermeneutics, Cambridge: The MIT Press,1999,p- 47

27- Ibid,p- 58

28- د.كريمة مقاوسى واخرون: فلسفة الحوار والسلم عند كارل بوبر، مجلة السراج فى التربية وقضايا المجتمع، العدد الرابع ديسمبر 2017م، ص 242

29- المرجع نفسه، ص 254

30- حسان الباهي:الحوار ومنهجية التفكير النقدي، أفريقيا الشرق، المغرب، الطبعة الاولى 2004.ص.22.

31- الموضع نفسه

32- HILARY PUTNAM: PHILOSOPHY AS DIALOGUE, Edited by MARIO DE CAROandDAVID MACARTHUR, Copyright © 2022 by the President and Fellows of Harvard College, Printed in the United States of America, First printing,p- 1

33- Karel L. van der Leeuw: PHILOSOPHICAL DIALOGUE AND THE SEARCH FOR TRUTH, New York, Columbia Univ. Pr., 1997,p- 2

34- HILARY PUTNAM: Op- cit, p- 1

35- Morrison, Karl F. The Mimetic Tradition of Reform in the West. New Jersey: University of Princeton, 1982,p- 55

36- Morris B Kaplan, The Socratic Dialogues, February 3, 2009,p- 1

37- Loc- Cit

38- - Loc- Cit

39- Ibid,p- 2

40- Loc- Cit

41- EllieSweetnam: What is a Socratic Dialogue? , England and Wales, 23/04/2024 ,p- 1

42- Morrison, Karl F. The Mimetic Tradition of Reform in the West. New Jersey: University of Princeton, 1982,p- 57

43- Manolis Dafermos: Op- Cit, p- 3

44- Karel L. van der Leeuw: PHILOSOPHICAL DIALOGUE AND THE SEARCH FOR TRUTH, New York, Columbia Univ. Pr., 1997,p- 2

45- Morrison, Karl F. Op- Cit,pp- 59- 60

46- Ibid,,p- 58

47- Manolis Dafermos: Op- Cit ,p- 6

48- Alexandre Guilherme, W. John Morgan: Philosophy, Dialogue, and Education Nine Modern European Philosophers, Published September 5, 2019 by Routledge,p- 1

49- Marta Gibinska Crisis: Meeting the Other and the Philosophy of Dialogue, https://shs.hal.science/halshs- 02145012v1, Preprint submitted on 31 May 2019,p- 3

50- Loc- Cit

51- W. John Morgan: Hannah Arendt: On Public Education and Public Dialogue , Wales, United Kingdom. [email protected],p- 10

52- Ibid,11

53- Ibid,p- 12

54- Loc- Cit

55- - Loc- Cit

56- 54- Loc- Cit

57- 54- Loc- Cit

58- محمد بكاى: أخلاقيات التعامل مع الآخر، تأملات فى فلسفة الغيرية عند ايمانويل ليفيناس، مجلة التفاهم، ص 280

59- Roger Burggraeve: The Awakening to the Other: A Provocative Dialogue with Emmanuel Levinas, Peeters, 2008,p- 5

60- Emmanuel Levinas, Humanisme de l'autre homme, Paris, Le Livre de Poche, Biblio- Essais 1994, p. 53.

61- Roger Burggraeve: Op- cit,p- 5

62- Emmanuel Levinas, Totalite et infini, (Essai sur l’exteriorite) Ed: Livre de Poche, 1971 ,P- 342

63- Emmanuel Levinas, Difficile liberte, Paris, Le Livre de Poche, Biblio- essais, 1990, p.21

95- Jorja Wright: Authentic Dialogue: The Communication of Collaborative Leadership. Advances in Social Sciences Research,2017,p- 208

96- Jorja Wright: Authentic Dialogue: The Communication of Collaborative Leadership. Advances in Social Sciences Research,2017,p- 209

97- Aborisade Olatomiwa Olasunkanmi,“ Jürgen Habermas Theory Of Communicative Action And The Quest For Peace Building In Africa”, Journal of Philosophy and Ethics, Volume 4, Issue 1, 2022,p- 2

98- Loc- Cit

99- Loc- Cit

100- Loc- Cit

101- Loc- Cit

102- Manolis Dafermos: Relating dialogue and dialectics: a philosophical perspective, Dialogic Pedagogy: An International Online Journal | http://dpj.pitt.edu DOI: 10.5195/dpj.2018.189 | Vol. 6 (2018),p- 3

103- Aies Vaupotic:Philosophy of Mikhail Bakhtin:The concept of dialogism and mystical thought ,prenovo spletne strain V letu 2022 jeomogocila Iavna agencija za kniigo Rs.p- 1

104- Loc- Cit

105- Ibid.p- 3

106- Augusto Ponzio: Otherness, Intercorporeity and Dialogism inBakhtin’s Vision of the Text, Language and Semiotic Studies, The University of Bari Aldo Moro, Italy, Autumn 2016,p- 1

107- Loc- Cit

108- Loc- Cit

لا مِرَاءَ في أنَّ ظاهرة العنف في مختلف أشكاله ليست جديدة، إنَّمَا هي قديمة قِدَم الاجتماع البشريّ ذاته. إذ قلَّما نجد حقبة تاريخيَّة أو بيئة ثقافيَّة برأت فيها علاقة البشر بعضهم ببعض من عنف قَلَّ أو كثر، صغر أو كبر. فهو يكاد أنْ يكون فاعلاً في كُلِّ عصر وماثلاً في كُلِّ أمر. وعلى الرَّغْمِ من كون العنف شأنًا بشريًّا عامًّا و"قابلًة قانونيًّة" يلجأ جميعهم إلى الاستعانة بخدماتها من أجل بلوغ مآربهم وحلِّ تناقضاتهم الطَّبقيَّة والقوميَّة والإيديولوجيَّة المستشرية، إلاَّ أنًّه بات يُشَكِّل اليوم تحدِّيًا أو سِمًة بارزة تُمَيِّز، على نحو خاصٍّ، المجتمعات العربيَّة-الإسلاميَّة الَّتِي استحالت مرتعًا وافرًا للفوضى والاضطراب، ومنبتًا خصبًا للقتل والإرهاب. فالمواجهة الشَّاملة والدَّامية بين مختلف مُكَوِّنات هذه المجتمعات تجتاح جميع أرجائها بدءًا من افغانستان وباكستان مرورًا بالصومال ومالي واليمن والعراق وفلسطين وانتهاءً بسوريا ولبنان والسودان. وهي، في المناسَبة، أقسى ضراوًة وأشَدُّ مضاضًة من المواجهة فيما بينهم وبين أعدائهم الخارجيين، ولا يوفر مرتكبوها أخًا في الدِّين أو نظيرًا في الخلق سواء أكان ذكرًا أم أنثى، صغيرًا أم كبيرًا، مذنبًا أم بريئًا. بَيْدَ أنَّ ذلك لا يعني البتَّة صدق مزاعم القائلين بأنَّ الدُّوَل الأوروبيَّة هي واحة وارفة الظِّلَال حضاريَّة خضراء وَسْط صحارى همجيَّة جدباء، وحدائق غنَّاء مسالمة تسودها الأُلفة والوئام وَسْط ادغال تَعُمُّها شريعة الغاب والخصام. صحيح أنَّ المجتمعات الأوروبيَّة توصَّلت، وبعد حربين عالميتين داميتين في النُّصف الأوَّلِ من القرن المنصرم، إلى صيغة ضمنت لها الرَّخاء وإقامة ضرب من السَّلام الدَّاخلي بينها، غير أنَّ ذلك ما كان له أنْ يتحقَّق إلاَّ عَبْر الغزوات الأوروبيَّة الاستعماريَّة المتلاحقة للأُمَمِ المستضعَفة ونهب ثرواتها وخيراتها. إذ إنَّ تَخَلُّفَ الأخيرة هو الوجه الخفي لتقدُّم دُوَل المركز الرَّأسماليّ الَّتِي وما أنْ تستشعر منافسًا مُحْتَمَلاً أو خطرًا داهمًا يهدِّد هيمنتها الأحاديَّة المُطْلَقَة وتفوُّقها السِّياسيّ والاقتصاديّ والعسكريّ والتكنولوجيّ حَتَّى تعاجله بسلسلة من الإجراءات الشَّرسة المتتالية بدءًا من فرض العقوبات والحصار مرورًا بإثارة الفوضى والنَّعرات وافتعال الثَّورات المُلَوَّنة والانقلابات وصولاً إلى شَنِّ الحروب الخارجيَّة بالأصالة أو بالوكالة. لكن وبالرغم من كل هذه الإجراءات والآليَّات الخسيسة، فإنَّ الدُّوَل الأخيرة فشلت فشلاً ذريعًا في إبعاد شبح الحرب عن قارتها على ما تجلَّى ذلك في الحرب على يوغوسلافيا في تسعينيات القرن العشرين، ويتجلَّى حاليًا في الحرب الطَّاحنة الَّتِي تدور رحاها في أوكرانيا بين روسيا ودُوَل النَّاتو مجتمعة. وإنْ دَلَّ ذلك على شيء، إنَّمَا يَدُلُّ على أنَّ "العنف احتمال كامن في صميم الحاضرات الغربيَّة ينفجر عندما تتاح له الفرص المناسِبة والقنوات الملائمة،،، وأنَّ حروب الدَّاخل لم تعد تنفصل عن الحروب المعلنة من الخارج، وما من نزاع إلاَّ ويتغذَّى أو يصبُّ في دائرة أكبر وأوسع، حسبما عبَّر الفيلسوف علي حرب"(1).
وعلى وقع المخاطر الوجوديَّة المترتبة على هذا الانفجار غير المسبوق لكل ضروب العدوانيَّة والإرهاب في عصرٍ تترابط فيه المصائر والمصالح والأزمات، وتتَّسع فيه الهُوَّة بين التَّقدُّم المذهل في وعيه العلميّ-التقنيّ والنَّقص الحادِّ في جهاز مناعة وعيه الأخلاقيّ، تبدو الحاجة ماسَّة إلى مساءلة الأطروحات النَّظريَّة والمعياريَّة الَّتِي تنهض عليها إيديولوجيا العنف ويتصرَّف بوحيٍ منها غربان الخراب والنَّافخون في أبواق الفتن والإرهاب من أهل الأصوليَّات المتناحرة اللاهوتيَّة منها والنَّاسوتيَّة على حدٍّ سواء. ولئن كان صحيحًا أنَّ هؤلاء ليسوا كُلَّاً متجانسًا وأنَّهم على نزاع وتضادٍّ، فإنَّهم يستوون ويتماثلون في مسائل عدَّة، بخاصَّة، في مقاربتهم لإشكاليَّة العلاقة بين العنف والأخلاق، وفي أطروحاتهم الَّتِي يبرِّرون بها ممارساتهم العنفيَّة. ويمكن إختصار أطروحاتهم هذه بثلاث أساسيَّة: الأولى هي أنَّ العنف وسيلة محايدة أخلاقيًّا، وأنَّ لا تعارض جوهريًّا بين بعض الحالات العنفيَّة والخير؛ الثَّانية هي إدراج العنف في خانة الفضائل الأخلاقيَّة باعتباره رمزًا للبطولة والشَّهامة والكرامة، ما يعني، في المقابل، مماهاة اللاعنف بالفضائح الأخلاقيَّة بوصفه عنوانًا للجبن والذِّلَّة والخنوع أو نَعْتَه، في أحسن الأحوال، بالأوهام وأضغاث الأحلام؛ الثَّالثة هي استحالة تجاوز العنف من غير عنف مساوٍ أو أكبر في القُوَّة ومضادٍّ في الاتِّجاه.
فلننظر الآن في أمر هذه الأطروحات الثَّلاث مبتدئين بالأُولى. يُقال عادةً إنًّ العنف هو وسيلة أو أداة لغاية ما يفتح الأبواب و يُعَبِّد الطرقات، لكنَّه لا يُحَدِّد المُثُلَ والاتِّجاهات، وإنَّ العنف شيء ووجهة استخدامه شيء آخر تمامًا. فهو بمنزلة سلاح ذي حدَّين يمكن استخدامه تارًة من أجْلِ الخير وإحقاق الحقِّ، وتارًة أُخرى من أجْلِ الشَّرِّ والطُّغيان، أيْ إنَّ العنف يمكن أنْ يكون حصانًا أبيضًا يمتطيه الرُّوح المطلق أو أنْ يكون آلًة جهنميَّة ومكيدة شيطانيَّة. بعبارة أُخرى، العنف ليس خيرًا أو شرًّا بذاته، إنَّمَا يصير كذلك بغيره وبحسب نِسَبه واعتباراته الآتية: ا- الدَّوافع الكامنة وراءه والغاية المُتَوَخَّاة منه؛ ب- نتائجه المعنويَّة والماديَّة وتداعياته القريبة والبعيدة؛ ج- الجهة الفاعلة والجهة المفعول بها؛ د- الظُّروف التَّاريخيَّة والخيارات المتاحة واقعيًّا. وإلى مثل هذه الاعتبارات لجأ في حينه، على سبيل المثال لا الحصر، ليون تروتسكي (1879-1940) في مقالته الشَّهيرة الموسومة ب"أخلاقهم وأخلاقنا" المنشورة عام 1938، لدحض وجهة نظرٍ شائعة آنذاك في الأوساط الثَّقافيَّة والإعلاميَّة الغربيَّة مفادها أنَّ لا فرق جوهريًا بين سياسة البطش والتَّنكيل السَّتالينيَّة وممارسات تروتسكي نَفْسه القمعيَّة إبَّان الحرب الأهليَّة الرُّوسيَّة (1923-1917)، وأنَّ أعمال الرَّجُلَين الدَّمويَّة لم تكن البتَّة تدبيرًا مؤقَّتًا وخيارًا اضطراريًّا أملته ضرورات تاريخيَّة خانقة، بقدر ما كانت موقفًا مبدئيًّا وخيارًا إراديًّا واعيًا، ما يعني، بالتَّالي، أنَّ التَّروتسكيَّة هي نزعة عدوانيَّة لاأخلاقيَّة تمامًا كمثيلتها السَّتالينية. وفي معرض مرافعته الدِّفاعيَّة ضد هذه الدَّعوى يزعم ليون تروتسكي أنَّه وبالرَّغْمِ من التَّشابه الخارجيّ والصُّوْريّ بين الممارستين، إلاَّ أنَّه لا يصح مماهاتهما أخلاقيًّا بحكم الإختلاف الأصليّ في حقيقة دوافع كُلٍّ منهما ومقاصده، لأن من شأن ذلك معاملة جميع الحالات العنفيَّة بالتَّساوي، ما يُفضي، لا محالة، إلى طمس الفرق القيميّ، مثلاً، بين عنف ملَّاك العبيد الهادف إلى استغلال العبد ومصادرة حقوقه وعنف العبد المكافح من أجل حُرِّيته. وبما أنَّ العنف كوسيلة، على ما يرى ليون تروتسكي، يمكن أنْ يُستخدم لأغراض مختلفة ومتعارضة، فإنَّه من غير المعقول أو المقبول أنْ يُقَيَّم أخلاقيًّا بذاته بمعزل عن الغاية الَّتِي يرومها. فالرَّصاصة يمكن أنْ تقتل كلبًا مسعورًا لإنقاذ طفل من براثن خطر مُحْدِق ويمكن أنْ تقتل إنسانًا على سبيل النَّهب والسَّلب. ولَمَّا كان الفعل في كلتا الحالتين واحدًا، لكن المراد منه مختلف اختلافًا لا لَبْسَ فيه كان لا بدَّ من التَّمييز بين ضربين من العنف: "عنفنا" و "عنفهم"؛ عنف ثوريّ عادل مُبَرَّر أخلاقيًّا؛ وعنف رجعيّ جائر منافٍ للأخلاق(2).
بالطَّبع، لا اعتراض على القول إنَّ فعل العنف تُسَيِّره مقولة الغاية والوسيلة، وإنَّ العنف هو وسيلة مطلوبة لغيرها لا لذاتها. لكن العنف هو تلك الوسيلة الَّتِي تمتاز عن غيرها من الوسائل في كونها تنطوي في ذاتها مسبقًا على غايتها وتُحَدِّدها قبْليًّا. فالرَّصاصة (الأسلحة على أنواعها عمومًا) لم تُخْتَرَع لغرض المُدَافَعة ودرء الأخطار المفاجئة والمحتملة فقط، وإنَّمَا للقتل والطُّغيان والمُزَاحَمة والعدوان أيضًا. وبهذا المعنى يتعذَّر اعتبارها شأنًا بريئًا من النَّاحية الأخلاقيَّة. وهنا ثَمَّة حقائق مُرَّة متشابكة ثلاث لا بدَّ من الإشارة إليها: الأُولى وتتعلَّق باستحالة الفصل بين العنف وأدواته. فكل واحد منهما مربوط بالآخر ويتضاعف به. فالعنف لا يُرْمَى مع أدواته، ولا تُمْحَى ندوب جراحه، على ما يتجلَّى ذلك على الصَّعيدين المعنويّ والماديّ. فعلى الصَّعيد المعنويّ لا يكف أهل العنف عن التَّباهي بأسلحتهم، ونظم القصائد الشِّعريَّة فيها، وتزيين جدران منازلهم بها، وإقامة النُّصُب التِّذكاريَّة لها باعتبارها رمزًا لبطولات مجيدة وذكرى خالدة، وبشارًة لانتصارات جديدة قادمة. وتتجلَّى هذه المضاعفة المتبادلة بين العنف وأدواته، على الصَّعيد الماديّ، في تبدُّل الأدوار والأمكنة بين السِّلاح والحرب. وإذا كان البشر يصنعون الأسلحة في ما مضى من أجل الحرب، فإنَّهم اليوم يفتعلون الحروب من أجْلِ الاتجَار بالأسلحة بقدر ما يَدِرَّهُ هذا الاتجَار من ارباح فلكيَّة على الدُّوَلِ المعتمِدة في جزء كبير من اقتصادها ومدخولها القوميّ على الصِّناعات العسكريَّة. وهذه هي إحدى آليات نمط الإنتاج الرَّأسماليّ الَّذِي لا يُنْتِج سلعًة إلاَّ ويخلق مستهلكها وأسواقها وفضاءات استخدامها. والحقيقة الثَّانية تتمثل في استحالة الفصل بين العنف وأهدافه. إذ مهما تباينت أهداف العنف وتباعدت عنه، فإنَّها غالبًا ما تنتهي إليه وتعود إلى الارتماء في أحضانه. وكما أنَّ الغاية المولودة بالعنف لا يمكنها أنْ توجد بشكلٍ مستقلٍّ عنه، فكذلك يفقد العنف معناه بمعزل عن الغاية الَّتِي يرتبط بها. ومن يُحَقِّق مآربه ويشق طريقه إلى المستقبل بالعنف، فإنّه، لا محالة، يجر أثقاله ويزرُ أوزاره على مرِّ الزَّمان حَتَّى وإنْ تيسَّر له نيل مراده وتصفية جميع أنداده. أمَّا الحقيقة الثَّالثة والأخطر فتتمثَّل في تجاوز أدوات العنف لغاياته، واختلال العلاقة المعهودة بينهما. من المعلوم، طبقًا للنظرة السَّائدة إلى العلاقة بين الغاية والوسيلة، أنَّ الأُولى أثمن من الثَّانية، وأنَّ كل واحدة منهما مختلفة ومستقلَّة عن الأُخرى، وليس للوسيلة أنْ تعلو الغاية المطلوبة وتتخطَّاها. أمَّا في حالة العنف، بصفته وسيلًة، فإنَّه لا يُسهم في بلوغ الغاية فحسب، وإنَّمَا يواكبها على الدَّوام ويحرسها باهتمام حَتَّى يمسي جزءًا عضويًّا لا يتجزَّأ منها أيضًا. والأنكى من ذلك، أنَّ الغايات نفسها باتت اليوم محفوفًة بخطر أنْ تتجاوزها الوسائل والأدوات إلى ما ليس في الحسبان وما لا تُحْمَد عقباه. والحال أنَّ أدوات العنف قد تطوَّرت اليوم تقنيًّا إلى مستوى لم يعد معقولاً معه القول بوجود غايات سياسيَّة أو اقتصاديَّة أو إيديولوجيَّة تتناسب مع قدراتها التَّدميريَّة وتُبَرِّر استخدامها حاليًا في حلِّ التَّناقضات وفضِّ النِّزاعات بين مختلف الجماعات البشريَّة(3). إذ شَتَّان ما بين مفاعيل أدوات عنف الأقدمين ومفاعيل أدوات عنف المعاصرين، ما بين متوحِّش الزَّمن الغابر المُسَلَّح بِعَصا خشبيَّة ورماح معدنيَّة ومجانيق حجريَّة ومتوحِّش الزَّمن المعاصر المُدَجَّج بهراوات مختلفة أنواعها (كيميائيَّة وجرثوميَّة) و"مجانيق" فرط صوتيَّة ونوويَّة لا تُبْقي ولا تَذَرُ كفيلة بتحويل العنف من "قابلة قانونيَّة مُولِّدة للتَّاريخ" إلى "حفَّار قبر التَّاريخ". فالمرء لا يحتاج إلى حدس خارق وذكاء فائق ليرى بِأمِّ عينه كيف ينعقد القران القاتل بين أخطر ما في الحداثة وأردأ ما في التَّوحُّش والبربريَّة، بين جبروت العصر الرَّقميّ-النَّوويّ وأخلاق العصر الحجريّ وأكلة لحوم البشر cannibalism. ولئن كان صحيحًا أنَّ الأسباب العامَّة للعنف وغاياته بقيت إجمالاً على ما هي عليه، أقَلَّه على امتداد التَّاريخ المكتوب، فإنَّ ثَمَّة تَغَيُّرًا جذريًّا قد طرأ بالفعل، في عالمنا المعاصر، على أدوات العنف ومفاعيلها الكارثيَّة. وإذا كانت نتائج الحروب والغزوات في الأزمنة القديمة والوسيطة والحديثة مفتوحة على احتمال من ثلاثة: إمَّا النَّصر أو الهزيمة أو التَّعادل على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، فإنَّها اليوم (الزَّمن المعاصر) لم تعد تملك هذا "التَّرَف" في تَنَوُّع الاحتمالات. ذلك أنَّ النَّتيجة الوحيدة المُحَتَّمة النَّاجمة عن أيِّ نزاع تُسْتَخَدَم فيه أسلحة الدَّمار الشَّامل هي الهزيمة السَّاحقة والمتبادلة لطرفيِّ الصِّراع معطوفًا عليها تقويض صرح الحياة الكوكبيَّة بِرُمَّتِهِ، وتدمير الموضوع والذَّات، الوسائل والغايات معًا. ولا غرابة في ذلك، فلكم تمرَّدت أدوات الإنسان وأشياؤه عليه وأبت الإذعان له، لا سِيَّمَا، وأنَّه غالبًا ما يخشع لأصنامه ويقع ضحية نتاجاته وأوهامه.
إضافة إلى ما تَقَدَّم، يبدو لي أنَّ مسألة إمكان تسويغ العنف وتبريره أخلاقيًّا وما إذا كان ممكنًا للعنف أنْ يكون خيرًا وسبيلاً مشروعًا إلى الخير ترتبط عضويًّا بمسألة أُخرى، كانت وما تزال، من أشَدِّ المسائل تعقيدًا وأكثرها التباسًا لفلسفة الأخلاق، ألا وهي مشكلة التَّحديد اليقينيّ لهُوِيَّة الشَّخص أو الجماعة الَّتِي تملك الحقَّ الحصريّ للتَّكلُّم بِاسْمِ الأخلاق، وإصدار الأحكام المُبْرَمة غير القابلة للنَّقض في تقرير ما هو خير وما هو شَرٌّ، ومن هُمْ الأخيار ومن هُمْ الأشرار.
لقد سبق لسقراط أنْ أشار إلى أنَّ تمثيل الحقيقة الأخلاقيَّة والنُّطق بِاسْمِها يمكن أنْ يُنَاط شأنهما، طبعًا، بمعلِّمي الفضيلة الَّذِينَ استوفوا جميع الخصال الحميدة والشُّروط المطلوبة لاكتمال شخصيتهم الأخلاقيَّة. لكن المشكلة، في رأي سقراط ذاته، تكمن في أنَّه لا وجود لمُعَلِّمي الفضيلة على النَّحو الَّذِي يوجد فيه أساتذة رياضيات وأساتذة موسيقى وفنون… وما شابه، وأنَّه ليس في مقدور هؤلاء المُعَلِّمين، على افتراض وجودهم، ضمان توريث محاسنهم الأخلاقيَّة ونقلها إلى الآخرين وتأصيلها فيهم بدليل ظهور أبناء فاسدين من صُلْبِ آباء صالحين. هذا فضلاً عن أنَّ من أخصِّ سِمَات الإنسان الفاضل هو الاستنكاف عن الادِّعاء بالنَّقاوة والقدسيَّة الأخلاقيَّة حَتَّى وإنْ لم يجنح إلى اعتبار نَفْسِهِ شخصًا آثمًا. إنَّ مجرد اِدِّعاء الإنسان بأنَّه مثالٌ للكمال والمعصوميَّة الأخلاقيَّة لَهُوَ خير دليل على أنَّه ليس ما يدَّعيه. ذلك أنَّ "أشَدَّ النَّاس حماقًة، حسب عبارة الفيلسوف أبو حامد الغزالي، أقواهم اعتقادًا في فضل نفسه، وأثبت النَّاس عقلاً أشدُّهم اتِّهامًا لنفسه"(4). وفي سياق مُتَّصل، أنِّي لأعجب من اِدِّعاءات الوصاية الحصريَّة على الأخلاق الحميدة والمعرفة الأخلاقيَّة الصَّحيحة الَّتِي ينتحلها لأنفسهم منظرو التَّيارات الأصوليَّة الإسلاميَّة وأمثالهم من أهل المِلَلِ والنِّحَلِ الأُخرى. فكل طائفة منهم تنتحل لنفسها صفة الممثل الشَّرعيّ الوحيد لله ووكيله الحصريّ المُعتَمَد على الأرض مستندًة في ذلك إلى ادِّعاءات ثلاثة رئيسة مُعَرَّضَةٌ كلها لانتقادات قوية. الادِّعاء الأوَّل هو ادِّعاء الشُّموليَّة الَّذِي بموجبه تنظر كل فرقة إلى عقيدتها الدِّينيَّة باعتبارها محيطة علمًا بِكُلِّ الشُّؤون الدُّنيويَّة والأخرويَّة، وبالكُلِّيَّات والجزئيَّات، وبالنَّظريات والعمليَّات، وبالمعاملات والعبادات. وما على المرء سوى أنْ يُحْسِنَ تأويل النَّصِّ المقدَّس وتدبُّره على الوجه الصَّحيح حَتَّى يتيسَّر له استجلاء الحقائق الكثيفة والمقاصد الخفيَّة والمعاني اللَّطيفة والخبر اليقين عن كل ما مضى وفات وكل ما هو حاضر وكل ما هو آت؛ الادِّعاء الثَّاني هو ادِّعاء مطلقيَّة الأوامر والنَّواهي الإلهيَّة والقواعد والأحكام والمعارف الدِّينيَّة على اعتبار أنَّها عابرة للتَّاريخ والظُّروف الاجتماعيَّة والفروق الثَّقافيَّة، وصالحة، بالتَّالي، لكل مكان وزمان، ولكل مجتمع وعصر وإنسان؛ الادِّعاء الثَّالث هو القول بأنَّ الدِّين هو أصل الأخلاق الحميدة وفصلها، وله الأسبقيَّة المنطقيَّة والإبستيمولوجيَّة عليها. وينطوي هذا الادِّعاء على معانٍ وأفكار عدة متَّصلة، من أهمها: ا- مماهاة الخير بما يأمر اللهُ به، والشَّرِّ بما ينهى اللهُ عنه. لذا ينبغي الأخذ بالوصايا الإلهيَّة لا لكونها حسنة وصحيحة بذاتها، بل لأنَّها إلهيَّة. فأصلها الإلهيّ بالذَّات هو الضَّمانة الأكيدة لخيريتها ومصداقيتها وصحَّتها؛ ب- المعرفة الأخلاقيَّة الصَّادقة والحقَّة مُمْتَنَعَة من دون معرفة دينيًّة، ما يعني أنَّ معرفتنا لما يأمرنا به الله ولما ينهانا عنه هي الأساس الثَّابت والموضوعيّ والموثوق الَّذِي تنهض عليه معرفتنا لما هو حسن أو قبيح، ولما هو واجب أو غير واجب، صحيح أو غير صحيح من الوجهة الأخلاقيَّة. وطبقًا لهذا التَّصَوُّر، يبدو الإنسان، ومهما بلغ من العلم والفهم، عاجزًا بذاته عجزًا مبدئيًّا عن تبيان البَلِيَّة من العَطِيَّة، والنَّقمة من النِّعمة، والمحنة من المنحة، والخيط الأبيض من الخيط الأسْوَد في المسائل الأخلاقيَّة، وعن معرفة النِّظام الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسِّياسيّ الأصلح له أيضًا. لذا، ترى كل فرقة منهم أنَّ تعويض هذا العجز المعرفيّ المزعوم ليس ممكنًا إلاَّ بالعودة إلى كتابها المُنْزَل، وإلى تأويلات وفتاوى أولئك الَّذِينَ اصطفاهم الله لتجديد دينه وتمثيل إرادته وتجسيد رسالته، وخصَّهم بكل الخوارزميَّات والبرمجيَّات اللازمة الَّتِي تفضُّ مكنون السِّرِّ المكتوم والكنز المختوم، وتحسب بِدِقَّةٍ لامتناهية مستوى الكفر والإيمان، الخير والشَّرِّ، الصَّحِّ والخطأ في اعتقادات البشر ونِيَّاتهم وأفعالهم؛ ج- الإيمان وحسن الخُلُق صنوان متحابان بالطَّبع والغريزة، والكفر وسوء الخُلُق متلازمان بالضَّرورة. وإنْ كنت لا أرُوم في هذا المقام تفصيل الكلام على ما بين الدِّين والأخلاق من إتِّصال وانفصال، إلاَّ أنَّني سأتوقَّف لِمَامًا على بعض ما يعتري هذه المزاعم والاِدِّعاءات من عيوب ويشوبها من مغالطات وتثيره من إشكالات. فلو أخذنا الاِدِّعاء الأوَّل لوجدناه مستحيلاً من النَّاحيتين الواقعيَّة والمنطقيَّة. فالنُّصوص المتناهية لا تستوعب الوقائع غير المتناهية، على ما يقول وبحقٍّ الفيلسوف أبو حامد الغزالي(5). فلا يُعقل وجود كتاب مقدَّس أو غير مقدَّس يحتوي على حَلٍّ جاهز لِكُلِّ إشكال، وجوابٍ صحيح عن كل سؤال يمكن أنْ يُطرح حول ما نريد معرفته، وحول ما نحن ملزمون بإتيانه من أفعال وخيارات، على نحو ملموس، في هذا الوضع والزَّمان أو ذاك. وذلك لأنَّه لا حَدَّ ولا حَصْرَ لعالم الظَّواهر الكونيَّة، ولتنوُّع الأوضاع واختلاف الشُّروط والظُّروف الحياتيَّة الَّتِي يمكن أنْ يجد البشر أنْفُسَهم فيها وتستدعي منهم اتِّخاذ قرارٍ أو موقفٍ أخلاقيٍّ مُحَدَّد. فالحياة بالمستجدات حُبْلَى وبالمفاجآت ملأى، ما يجعلها عصيَّة على الحدِّ والتَّقييد بنظام نهائيّ جامد وبمجموعة ثابتة من القواعد والأحكام. أمَّا الادِّعاء الثَّاني القائل بمطلقيَّة الأوامر والنَّواهي الإلهيَّة، والقواعد والأحكام الدِّينيَّة، فإنَّه يواجه، بدوره، صعوبات جمَّة. نَعَّم، المبادئ الأخلاقيَّة المطلقة موجودة، لكنها موجودة فقط كوهم في الأذهان لا كواقعة في الأعيان. كما أنَّه لا وجود لداء مطلق ولا لدواء مطلق، فكذلك لا وجود لقاعدة أو مبدأ أخلاقيّ مطلق. فالشَّرط الضَّروريّ لحسبان إلزام ما إلزامًا مطلقًا هو استحالة تعارضه عند التَّطبيق مع أيِّ اعتبار آخر من نوعه، واستحالة نشؤ وضع حياتيّ يبطله أو يعلِّق العمل به. فلا شيء يضمن عدم تضارب المبادئ والقواعد والأحكام الأخلاقيَّة في ما بينها ولا عدم تعارضها مع الواقع المُعَاش. ففي كثير من الحالات والأحيان قد يجد البشر أنْفُسَهُم أمام معضلة الاختيار بين قاعدتين أخلاقيَّتين في وضع حرج لا يسمح سوى بتطبيق واحدة منهما واستبعاد الأُخرى. فالعمل بموجب قاعدة أخلاقيَّة على حساب قاعدة أخلاقيَّة أُخرى يثبت أنَّ لا واحدة منهما مطلقة. وبالانتقال إلى الادِّعاء الثَّالث، فإنَّه يغامر في جعل الأوامر والنَّواهي الإلهيَّة شأنًا تعسُّفيًّا، وجعل الأخلاق، بالتَّالي، أمرًا عشوائيًّا. وإذا كان حُسْن أو قبح شيء من الأشياء وفعل من الأفعال، كما لاحظ الفيلسوف عادل ضاهر، منوط حصريًّا بمدى موافقته وامتثاله أو عدم موافقته لأمر إلهيّ، فإنَّ موقفًا كهذا يُحَتِّم على أصحابه التَّسليم بوجوب ارتكاب الكبائر والفحشاء إذا ما أمرنا اللهُ بها لا لشيء إلاَّ لأنَّ الله وفقط لأنَّ الله يأمر بها. والحقُّ أنَّه ليس في وسع هؤلاء تَجَنُّب هذه النَّتيجة الخارقة بدعوى أنَّ الله لا يأمر ولا يمكن أنْ يأمر بالفحشاء، لأنَّ مُؤدَّى اعتراضهم هو خلاف مقالتهم(6). أمَّا فساد مقولة تأسيس الأخلاق على الدِّين وجعله معيارًا وحيدًا لها وقوَّامًا عليها، فينكشف، في أوضح صوره، إذا ما عَلِمْنا أنَّ الكلام على معرفة وجود الله وصفاته، وعلى وجوب طاعتنا له إنَّمَا يفترض مسبقًا امتلاك الإنسان لمعرفة أخلاقيَّة. إذ إنَّه ولكي نعرف أنَّ كائنًا ما هو الله وأننا ملزمون بعدم معصيته، فإنَّه لا يكفي أنْ نعرف أنَّه كائن كُلَّيّ المعرفة وكُلِّيّ الجمال وكُلِّيّ القدرة فقط، بَلْ ينبغي أنْ نعرف بالإضافة إلى ذلك أنَّ الكائن المعنيّ هو أيضًا كُلِّيُّ الخير والعدل والرَّحمة لطيف بعباده لا يفعل ولا يأمر إلاَّ بما هو أصلح لهم في الدُّنيا والآخرة. غير أنَّ معرفتنا للأوامر والنَّواهي الإلهيَّة، على ما يرى الفيلسوف عادل ضاهر، لا تشكل وحدها شرطًا كافيًا لمعرفتنا أنَّنا ملزمون أخلاقيًّا بإتيان أو عدم إتيان أفعال من نوع معيَّن، بل إنَّ ما يشكل شرطًا كافيًا هنا للمعرفة الأخيرة هو أنْ نعرف أنَّ هذه الأوامر والنَّواهي صادرة، بالضَّرورة، عن إرادة طيِّبة وخيِّرة على نحو مطلق تفرض ماهيَّة صاحبها عدم فعل أو تشريع أيِّ شيء يخالف الاعتبارات الأخلاقيَّة الصَّحيحة(7). وهذا يعني أنَّ جزءًا جوهريًّا من جهاز المعرفة الدِّينيَّة المفهوميّ متجذِّر في المعرفة الأخلاقيَّة ومُسْتَمَدٌّ من قاموسها. إذ إنَّه ومن دون امتلاك الإنسان لمعرفة أخلاقيَّة ولمعيار يسمح له بالتَّمييز بين الخير والشَّرِّ، فلن يكون في وسعه معرفة أنَّ بعض الأوامر والنَّواهي هي أوامر الله ونواهيه وصادرة عنه بالذَّات. فالتَّمييز بين وحي حقيقيّ ووحي مُتَوَهَّم أو مزيَّف، بين كتاب مقدَّس أصيل وآخر مُحَرَّف، بين إلهام إلهيّ وغواية شيطانيَّة ليس بمستغنٍ البتَّة عن سند عقليّ ومعيار أخلاقيّ ومعطيات أُخرى من النَّوع الواقعيّ والتَّاريخيّ. علاوة على ذلك، فإن القول بحاجة العقل إلى النَّقل لتمييز الخير من الشَّرِّ، والمعروف من المُنْكَرِ يثير فورًا تساؤلات عدة: لماذا يمكن للعقول الَّتِي وَهَبَنا الله إياها أنْ تكون قادرة، وبصورة مستقلَّة عن الدِّين والكتب المقدَّسة، على اكتشاف قوانين الطَّبيعة ومعرفة الحقائق العلميَّة الرِّياضيَّة والهندسيَّة، ولا تكون مُؤَهَّلة لمعرفة الحقائق الاجتماعيَّة والمبادئ الأخلاقيَّة، علمًا أنَّ المعارف من النَّوع الأوَّل لا تَقِلُّ تعقيدًا ولا تَقِلُّ أهَمِّيًّة بالنِّسبة إلى حياة البشر عن المعرفة الأخيرة، هذا إنْ لم نَقُل إنَّها أصعب منالاً منها؟!!! وهل يُعقل أنْ يهب اللهُ الإنسان عقلاً وأنْ يدعوه إلى إعماله في تَدَبُّرِ آياته والتَّفَكُّر في خَلْقِ السَّماوات والأرض، وفي التَّمييز بين الحقِّ والباطل، ثُمَّ يقوم، في الوقت عينه، بتجريده من هذه الصَّلاحية وتعطيل الخاصِّيَّة الَّتِي خلقه لأجْلِها؟!!! وفي ما يخص القول بوجود اقتران ضروريّ بين الإيمان ومكارم الأخلاق، من جهة، وبين انعدام الإيمان وسوء الخُلُق، من جهة أُخرى، فيمكن تبيان بطلانه بأدلة تاريخيَّة ومنطقيَّة. فالوقائع التَّاريخيَّة تثبت بما لا يترك مجالاً للشَّكِّ وجود حضارات وشعوب وثنيَّة ولادينيَّة أسهمت في إغناء التَّجربة الأخلاقيَّة للإنسانيَّة، وتبلورت في فضاءاتها الثَّقافيَّة القاعدة الذَّهبيَّة للأخلاق والكثير من الفضائل الرَّئيسة كالحكمة والاعتدال والشَّهامة والصَّفح والعفَّة والصِّدق. كُلُّ هذا يُعَدُّ إرثًا إنسانيًّا عامًّا لا يُقَدَّر بثمن، وما زال يحتفظ بقيمته إلى اليوم. وإذا ما انتقلنا من الحضارات إلى الأفراد، فإنَّ الحياة زخرت ولم تزل تزخر بوجود قامات علميَّة وفلسفيَّة وأدبيَّة وسياسيَّة تُعَدُّ ملحدة وفقًا لفيصل التَّفرقة بين الإيمان والكفر والزَّندقة المعتمَد عند أتباع الدِّيانات التَّوحيديَّة، لكن إلحادها لم ينهاها البتَّة لا عن تبنِّي أسمى القيم الأخلاقيَّة الرَّفيعة ولا عن قضاء بعضها العمر في الكفاح ضِدَّ جميع أشكال الفساد والاستغلال والاضطهاد والتَّمييز العرقيّ والدِّينيّ. وفي المقابل، يضع التَّاريخ، الماضيّ منه والمعاصر، أمامنا حقائق مُرَّة عن ممارسات مخزية لجماعات ورجالات دين من أتباع مختلف الأديان التَّوحيديَّة- هُمْ من أهل الغربة عن الحقِّ حَتَّى وإنْ تتوَّجوا بتيجان الحقِّ من غير استحقاق، بَلْ هُمْ عدماء الدِّين والأخلاق، ولا هَمَّ لهم سوى المتاجرة بالدِّين وإلقاء الإحَن وإذكاء نار الفتن وإشاعة أفانين العداوات بين النَّاس طمعًا بكسب الفوائد وأخذ الإتاوات، لا حبًّا لله ولا شغفًا بالصَّلوات والتِّلاوات. ومن النَّاحية المنطقيَّة، لا علاقة تصوُّريَّة أو ضروريَّة بالمعنى المنطقيّ بين انعدام الإيمان الدِّينيّ وسوء الخُلُق، لأنَّه لا يمكن تعريف الملحد على أنَّه شخص ذميم الخُلُق أو على أنَّه شخص عظيم الخُلُق. فقد يحدث أحيانًا أنْ يفقد الإنسان إيمانه الدِّينيّ أو يرتدَّ عنه لسبب أو لآخر من دون أنْ يتخلَّى، بالضَّرورة، عن القواعد الأخلاقيَّة لهذا الدِّين، لاعتقاده أنَّها صحيحة ومعقولة بحدِّ ذاتها(8). وقد سبق للشَّيخ الأكبر محيي الدِّين ابن العربي أنْ عَبَّرَ عن الطَّابع الجائز للعلاقة بين الإيمان ومكارم الأخلاق خير تعبير بقوله: "لو كان الإيمان يعطي بذاته مكارم الأخلاق، لم يُقل للمؤمن: افعل كذا وافعل كذا. وقد توجد المكارم ولا إيمان. للمكارم آثار ترجع على صاحبها في أيِّ دار كان"(9). فالدِّين مرتبط بالأخلاق وما الأخلاق مرتبطة به. ولو استنفد الدِّين حقيقتها ما كانت هي، ولو فقدها ما كان هو. قصارى القول، إنَّ من يجعل الأخلاق الحميدة والمعرفة الأخلاقيَّة وقفًا على أُمَّةٍ أو مِلَّةٍ بعينها كَمَنْ يجعل العلم واكتشاف الحقيقة وقفًا على واحدٍ من النُّظَّارِ أو على واحدةٍ من الأُمَمِ أو المِلَلِ بعينها. وما هذا وذاك سوى أباطيل يدحضها تاريخ الفتوحات العلميَّة والفلسفات الأخلاقيَّة. وكما أنَّ عالَم الحقيقة والمعرفة العلميَّة هو مشاع مشترَك مفتوح لجميع البشر، فكذلك هي حال الخير والمعرفة الأخلاقيَّة. بالطَّبع، ليس في مستطاع أحد أنْ ينكر الحقيقة القائلة بأنَّ المصادر الأوَّليَّة لأهَمِّ المعايير الإنسانيَّة العامَّة في الفضاء الثَّقافيّ للأديان الإبراهيميَّة هي التَّوراة والإنجيل والقرآن الكريم، وأنَّها مصاغة هناك بِاسْمِ الله وصادرة عنه. وقد يبدو، للوهلة الأُولى، أنَّ الاعتراف بهذه الحقيقة يُكَذِّب الفكرة القائلة باستقلاليَّة الأخلاق عن الدِّين، ويدحض معها أوَّليَّة المعرفة الأخلاقيَّة على المعرفة الدِّينيَّة. لكن لو أمعن واحدنا النَّظر مَلِيًّا فيها لوجدها حُجًّة إضافيَّة تَصُبُّ في مصلحة استقلاليَّة الأخلاق. إذ إنَّ رَدَّ المعايير الأخلاقيَّة إلى الله يمكن أنْ يُفْهَم على أنَّه اعتراف بأنَّ النَّاس جميعًا سواسية أمام الله وأمام الأخلاق، وأنَّ لا حقَّ استثنائيّ ولا وكالة حصريَّة لأحد منهم تمنحه صفة النَّاطق الرَّسميّ الدَّائم بِاسْمهما. فكُلُّ نَفْسٍ رهينة بما كسبت، وبما تتَّخذه من معايير تحدِّد مستوى سُمُوِّها الأخلاقيّ.
لا شَكَّ في أنَّ المنافحة الأخلاقيَّة عن العنف كان بإمكانها أنْ تكون نظيفة لا غبار عليها، وكان لا مُشَاحَّة في اعتبار العنف نَفْسِهِ استراتيجيًّة سلوكيَّة بنَّاءة فيما لو كان في الإمكان عمومًا تقسيم النَّاس إلى أخيار وأشرار بالمطلق، وكان العنف في الوقت نَفْسِهِ، هو الخيار الوحيد المتاح تاريخيًّا والأجدى عمليًّا لكبح جماح الشَّرِّ واستئصاله. فلو سار كُلٌّ من الخير والشَّرِّ على قدميه وعُرِفَت بِدِقَّةٍ إحداثيات مسار كل واحد منهما وموقعه لوجب عندئذٍ على الأبرار المباشرة فورًا في تطهير البلاد والعباد من الشَّرِّ والأشرار مثلما تُنَظَّف الحقول من النَّباتات الضَّارة ومثلما تُكَنَّس الشَّوارع من القُمامة والنُّفايات. لكن هيهات أنْ يكون الأمر بهذه البساطة. فالخير والشَّرُّ ليسا منفصلين وموزَّعين فرديًّا بحيث يكون الواحد أو البعض إمَّا صالحًا بالمطلق أو طالحًا بالمطلق. فالإرادة الطَّيِّبة المُطْلَقَة، على ما أوضَحَ كانط، لا يمكن أنْ تكون بأيِّ حالٍ من الأحوال إرادةً فعليًّة لأيِّ فرد واقعيّ كائنًا من كان ومهما علا شأوه الأخلاقيّ. ولئن كان بالمستطاع أنْ نتصوَّر إنسانًا يسعى إلى الكمال، لكن لا يمكن أنْ نتصور إنسانًا كاملاً. أمَّا الإرادة الشّريرة المطلقة فمن المحال أيضًا تَصَوُّر وجودها، لأنَّها تنفي ذاتها بذاتها. ثُمَّ إنَّ القول بوجود إرادة طيِّبة وإرادة شريرة على نحو مطلق وغير مشروط لا يعني الاعتراف بمشروعيَّة أكذوبة الاصطفاء الأخلاقيّ لجماعة من البشر فحسب، إنَّمَا يُشَكِّل بحدِّ ذاته مدعاةً إضافيَّة للعنف. ولعلَّ ما نشهده اليوم من جرائم حرب موصوفة وفتاوى دينيَّة تُشَرِّع القتل وتَحُثُّ عليه، ومن تصنيفات صارمة تُقَسِّم البشر قسمًة ثنويَّة نهائيَّة إلى معسكرين لا ثالث لهما: محور الخير ومحور الشَّرِّ، دول معتدلة ودول مارقة، حضارات رُوحانيَّة وحضارات ماديَّة، دار السَّلام ودار الكفر، حاكميَّة إلهيَّة وجاهليَّة بشريَّة ليس إلاَّ ترجمة حرفيَّة لوهم الاصطفاء بالذَّات. فمن هو المعتوه مِنَّا الَّذِي يجرؤ بعد كل هذه الدِّماء والأشلاء على القول إنَّه بلا خطيئة وليس من ذوي الاحتياجات الأخلاقيَّة الخاصَّة؟!!!! فالإرادة الطَّيِّبة أو الشَّريرة ليست من الخواصِّ الحصريَّة لأمَّة أو دين أو ثقافة أو عرق أو جنس بعينه من دون غيره. فليست غريبًة عن كُلِّ واحد مِنَّا كل خصال البشر الحميدة منها والخبيثة على حدٍّ سواء.
وما يبعث على الحيرة والاستغراب هو أنَّه وعلى الرَّغْمِ من تَعَذُّر تزويد العنف بمنظومة دفاعيَّة أخلاقيَّة متماسكة منطقيًّا، إلاَّ أنَّ كرنفالات سلخ جلود البشر وحرقهم أحياء على الملأ تقام على الدَّوام تحت تغطية أخلاقيَّة كثيفة وتعبئة قيميَّة شاملة. والحقُّ، على ما يرى فيلسوف الأخلاق المعاصر غوسينوف ع.ع "أنَّ ثَمَّة تلازمًا بين الدِّيماغوجيا الأخلاقيَّة والعنف لا انفكاك فيه لأحدهما من الآخر. فالدِّيماغوجيا الأخلاقيَّة تؤدِّي، حتمًا، إلى العنف، والأخير يفترض، بدوره، الدِّيماغوجيا الأخلاقيَّة بصفتها شرطه الضَّروريّ"(10). وكلَّمَا كان مقدار العنف أكثر همجيَّة وفداحة كانت المرافعة الأخلاقيَّة عنه أشَدَّ عهرًا ووقاحة. وكما أنَّ دخول الأماكن الموبوءة والملوَّثة يتطلَّب ارتداء كمامات معقَّمة وأقنعة واقية من المواد المُشِعَّة والسَّامَّة، فكذلك يأبى البشر الغوص في وحول العنف النَّتنة ومستنقعاته الآسنة من دون جُبَّة إكليريكيَّة أو عباءة أخلاقيَّة ناصعة البياض أو حَتَّى الاثنين معًا. وهذه المعادلة تنطبق على عنف الأفراد وبدرجة أكبر على عنف الدُّول والجماعات. ولا يقال ذلك على سبيل الاستعارة والمجاز، بَلْ على سبيل الحقيقة، لا سِيَّمَا، وأنَّ معظم الصِّراعات المسلحة على المسرح الكونيّ تُدَار حَتَّى يومنا هذا بِاسْمِ الله والقيم الأخلاقيَّة مشفوعًة مذابحها بصيحات التَّهليل والتَّكبير. وتلك هي مأساة أهل العنف من أصحاب المشاريع الصَّهيونيَّة، والدَّاعشيَّة الإسلاميَّة، والإنجيليَّة البروتستانتيَّة والمطامح الإمبرياليَّة والَّتِي تَنِمُّ عن انفصاماتهم الشِّيزوفرونيَّة المُرَكَّبة على غير مستوى وصعيد: فَهُمْ يستمرئون الحديث عن الأمر بالمعروف والنَّهي عن الفحشاء والمُنْكَر في الوقت الَّذِي يلهجون فيه بضلالات الفساد وينتشون بالممارسات السَّاديَّة وشهوة الاستبداد، وهُمْ لا يألون جهدًا في الادِّعاء بأنَّهم لا يحاربون إلاَّ من فرط عشقهم للسلام، ولا يدمِّرون إلاَّ من شدَّةِ ولعهم بالبناء، ولا يصادرون الأرزاق ويدقُّون الأعناق إلاَّ من أجل العطاء وخير البشريَّة جمعاء... وغير ذلك من المفارقات الخارقة الَّتِي تقلب الذَّيل رأسًا، والسُّقوط في الهاوية اعتلاءً للقِمَّة، والتَّوحُّش تحضُّرًا، والتَّخلُّف تطوُّرًا. والأدهى أنَّهم جميعًا بحمد الله يُسَبِّحون، وعليه يتوكَّلون، ومن آياته الحُجَّةَ يتَّخذون على ما يقولون وما يفعلون. والله، بلا أدنى ريب، منهم براء. ألم يزعم الرَّئيس الأمريكيّ السَّابق بوش-الابن أنَّ الله أوحى إليه بغزو العراق وكلَّفه نشر قيم الحُرِّيَّة والدِّيمقراطيَّة!!! وألم يضع الحرب ضِدَّ الإرهاب في إطار المعركة الفاصلة بين الخير والشَّرِّ في صورتهما الخالصة الَّتِي، حسب زعمه، لا يقف فيها الله نَفْسُهُ على الحياد، والَّتِي لا إمكان لأيٍّ كان أنْ ينأى بِنَفْسِهِ بعيدًا منها على قاعدة أنَّ مَنْ ليس معنا فهو حتمًا ضِدُّنا. ولا مِرَاءَ في أنَّ ما تقوم به الأصوليَّات المتناحرة، منفردة أم مجتمعة، من محاكمات ميدانيَّة وتصنيفات يقينيَّة ليس إلاَّ دراما أو صورة استباقيَّة مخادعة عن يوم الدِّين زيَّنت للبعض أنَّهم آلهة قبل أنْ يستحقوا حَتَّى أنْ يكونوا أشباه بشر. والحقُّ أنَّهم ليسوا سوى وحوش مفترسة من ذوي القرون النَّاطحة والنَّواجذ القاطعة والمخالب الجارحة. ولئن كانت أسماء الأصوليَّات متباينة، فإنَّها متشابهة في ممارساتها وفي منطقها وبديهياتها. فلا فرق جوهريًّا بين فتاوى كبار حاخامات الكيان الصَّهيونيّ المتطرِّفين المحرِّضة على إبادة الفلسطينيين عن بكرة أبيهم وفتوى المتحدِّث بِاسْمِ تنظيم الدَّولة الإسلاميَّة المدعو أبو محمد العدنانيّ الَّذِي يحكم ويقطع بوجوب استباحة دماء الأعداء من دون استثناء واعدًا "المجاهدين" بعظيم الثَّواب والإكرام على مجازرهم، بخاصَّة، في الشَّهر الحرام قائلاً: "لقد وصَلَنَا أنَّ بعضكم لا يستطيع العمل لعجزه عن الوصول إلى أهداف عسكريَّة، ويتحرَّج من استهداف ما يُسَمَّى بالمدنيين، فيعرض عنه لِشَكِّه بالجواز والمشروعيَّة، فأعلم أنَّه في عقر دار المحاربين لا عصمة للدِّماء، ولا وجود لما يُسَمَّى بالأبرياء... استهدافكم لما يُسَمَّى بالمدنيين أحبُّ إلينا وأنجع، لكونه أنكى بهم وأوجع، فهُبُّوا في كُلِّ مكان، عسى أنْ تنالوا الأجر العظيم في هذا الشَّهر الكريم..."(11). صحيح أنَّ الأديان التَّوحيديَّة تدعو إلى وجوب فصل الصَّالح من الطَّالح، الطَّيِّب من الخبيث، الاخيار من الأشرار، والقمح من الزؤان، غير أنَّ ذلك كله إنَّمَا يحدث يوم تزلزل الأرض زلزالها وتُخرج أثقالها بأمر ربِّها ويصدر النَّاس أشتاتًا أشتاتًا لتنال كُلُّ نفس جزاءها على ما عملت وما كسبت. والأهَمُّ من ذلك، أنَّ إنجاز هذه المهمة يقع بالتَّمام والكمال على عاتق الله وحده ولا أحد آخر غيره.
لكن الأسئلة الَّتِي تتبادر إلى الذِّهن فورًا في هذا السِّياق هي: إذا لم يكن العنف شَرًّا بذاته وكان شأنًا محايدًا من النَّاحية الأخلاقيَّة، على ما تزعمه الأطروحة الأُولَى للمرافعين عن العنف والمزاولين له والمدمنين عليه، فما الحاجة عندئذٍ إلى تنظيف سِجِلَّه العدليّ والبحث عن أعذار ومبررات له؟ وما قيمة الدَّعوة إلى نبذه واجتنابه؟ وهل يحتاج الحسن والجميل أصلاً إلى مساحيق تجميليَّة وعمليات تقويميَّة؟ وما تأثير اللجوء إلى الأخلاق والدِّين في العنف ذاته؟ وهل يسهم ذلك في كبح جماح العنف وتحجيمه؟
إنَّ أوَّلَ ما ينبغي تأكيده هو عجز أطروحات الجمع والتَّوفيق بين العنف والأخلاق عن اجتياز امتحان الجدارة في مادتيّ الأخلاقيَّات والمنطقيَّات على حدٍّ سواء. ولا أظنني أبتعد من جادة الصَّواب إنْ قلت إنَّ التَّهافت المنطقيّ والتَّناقض في الفكر والإرادة، والازدواجيَّة في المعايير والرِّياء والافتراء هي الأثمان الَّتِي يدفعها، بالضَّرورة، منظرو التَّبرير الأخلاقيّ للعنف ومؤيدوه. إذ إنَّه من المستحيل منطقيًّا أنْ نستنبط من القضية الكُلِّيَّة الموجبة: "إنَّ جميع البشر إخوة أو نظراء في الخلق وحياة كل فرد منهم مقدَّسة" حكمًا يجيز أو يبيح قتل إنسان ما تمامًا مثلما يستحيل منطقيًّا أن نخلص من القضية الكُلِّيَّة الموجبة: "كلُّ إنسانٍ فانٍ" إلى إستنتاج مفاده أنَّ هناك إنسانًا غير فان. أما التَّناقض في إرادة مُنَظِّري العنف فيتجلَّى بأوضح صوره وأوقحها في ما يُسَمَّى بسياسة الكيل بمكيالين أو المعايير المزدوجة الَّتِي يَتِمُّ بموجبها، وعلى نحو اصطفائيّ وتعسُّفيّ، تبرئة أو إدانة عنف من دون آخر وفقًا لمعادلة: أنْ نقتلهم هو أمر جائز ويستحق الثَّناء والتَّقدير، أمَّا أنْ يقتلونا فذلك هو الشَّرُّ المستطير. وهذا ما يُفَسِّر لنا جانبًا من العلاقة الملتبسة والمضطربة بالإرهاب الدَّوليّ والتَّخَبُّط الفاضح في تعريفه وتحديد الجهات والحالات الَّتِي تندرج تحته. فالإرهاب يُحارَب ويُدَان في مكان ويُدْعَم ويُسْكَت عنه في غير بلد وزمان. فالعالم الغربيّ بزعامة الولايات المتحدة الأمريكيَّة الَّذِي اتَّخذ من شعارات الحُرِّيَّة والدِّيمقراطيَّة وحقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب برنامجًا سياسيًّا وإيديولوجيًّا متكاملاً لفرض وصايته الإمبرياليَّة يُعيب علينا استبدادنا وإرهابنا مع أنَّه لطالما تعاوَنَ وما يزال يتعاون مع الأنظمة الدِّيكتاتوريَّة ويمعن في دعم المنظمات الإرهابيَّة واستنساخها. وهو ذاته يرى، مثلاً، في مقاومة محتل أو أسر جندي إسرائيليّ إرهابًا وجريمًة لا تُغتفر، أمَّا إبادة شعب بأكمله فمسألة لا تستوجب حَتَّى مجرد الإدانة أو النَّظر. والتَّشكيك في الرِّواية الصَّهيونيَّة للهولوكوست هو معاداة للسَّاميَّة والإنسانيَّة بينما تدنيس مقدَّسات الآخرين والإساءة إلى رموزهم الدِّينيَّة والتَّعدِّي السَّافر على حقوقهم وكراماتهم هي مظهر من مظاهر حُرِّيَّة التَّعبير والاعتقاد الدِّيمقراطيَّة. ومن الأمثِلة القريبة على ذلك هو الرِّسالة الموسومة ب"مبادىء التَّضامن. بيان"- المنشورة على الموقع الإلكترونيّ لمركز أبحاث "الأوامر المعياريَّة" التَّابع لجامعة غوته في فرانكفورت بتاريخ 13 نوفمبر 2023- والموقَّعة من قِبَلِ ثُلَّةٍ من المفكرين والأكاديميَّين المعروفين من أمثال الفيلسوف الألمانيّ يورغن هابرماس، ونيكول ديتلهوف رئيسة قسم العلاقات الدَّوْليَّة ونظريات النِّظام العالميّ، وراينر فورست أستاذ النَّظريَّة السِّياسيَّة والفلسفة، وكلاوس غونتر أستاذ النَّظريَّة القانونيَّة والقانون الجنائيّ وقانون الإجراءات الجنائيَّة.
وخشية التَّخلُّف عن الرَّكْبِ والشُّعور بالذَّنْبِ، ولتحاشي "تأنيب الضَّمير" وغضب الرَّبِ سارع هؤلاء إلى تجديد البيعة والولاء وتقديم واجب المواساة والعزاء بالمصاب الأليم لإسرائيل عسى أنْ "يلهمها الله" الصَّبْرَ والسُّلْوَانَ، ويغفر لهم ولأبائهم النَّازيَّين والإمبرياليَّين ما تقدَّم وتأخَّر من خطايا وجرائم ارتكبوها ضِدَّ الإنسانيَّة جمعاء.
إنَّ أوَّلَ ما يلاحظه القارئ في هذه الرِّسالة الملتوية النَّسج والمتهافتة النَّهج هو انحيازها المسبق وتأييدها المطلق للكيان الإسرائيليّ-الصَّهيونيّ الغاصب ودفاعها المستميت عنه. وإلى جانب ما يعلنه مؤلفو هذه الرِّسالة عن إدانتهم "المجزرة الَّتِي ارتكبتها حماس ضِدّ إسرائيل المصحوبة بِالنِّيَّة الصَّريحة على إبادة الحياة اليهوديَّة بشكل عام"(12)، وما يبوحون به من حرص أحاديّ فائق على وجود إسرائيل، ومن محاباة رخيصة لها ولليهود عمومًا؛ فقد انطوى موقفهم على جملة كثيفة من الآراء المنكوسة والأحكام المعكوسة والايحاءات المُضْمَرَة الخبيثة، أهَمُّها:
أ- اجتزاء عملية طوفان الأقصى من سياقها التَّاريخيّ والتَّشديد على أعراض الدَّاء لا على الاحتلال الَّذِي هو أصل العلَّة والبلاء متناسين أنَّ هذه الحرب بدأها الصَّهاينة وبرعاية مباشرة من الدُّوَلِ الكولونياليَّة منذ ما يزيد على الخمسة وسبعين عامًا. إذ فاتهم أنَّ الحرب والعدوان إنَّمَا يبدؤهما الطَّرف الَّذِي يعمل، عن سابق إصرار وتصميم، على خلق أسبابهما وتهيئة مقدماتهما، ويسدُّ، في الوقت عينه، جميع الطُّرق المؤدية إلى السَّلام العادل، لا ذاك الطَّرف الَّذِي يناضل من أجل استعادة حقوقه المسلوبة وأراضيه المغتصَبة المنهوبة؛
ب- عمدت الرِّسالة إلى القفز بخفة بهلوانيَّة مدهشة فوق الوقائع التَّاريخيَّة وقلب الحقائق رأسًا على عقب بحيث استحال السَّببُ نتيجًة، والجلَّادُ ضحيًة، والوحش الإسرائيليّ-الصَّهيونيّ حملاً وديعًا، وعدوانه المتواصل والممنهج "ردًّا دفاعيًّا مُبَرَّرًا من حيث المبدأ..."(13)؛
ج- تعمَّد هابرماس وأتباعه المُقَلِّدين طمس روح المسألة وجذور المشكلة، وحرف الصِّراع عن موضعه وحقيقته بإضفاء طابع دينيّ عليه ليبدو كأنَّه عدوانٌ حماسويٌّ (إسلاميّ ضمنيًّا) ضد اليهود عامًّة؛
د- التَّلاعب بالمفاهيم والتَّعريفات على ما يتجلَّى ذلك في مماهاة السَّاميَّة باليهوديَّة والصَّهيونيَّة-الإسرائيليَّة وكأنَّ دلالة هذه المفاهيم والألفاظ واحدة، علمًا أنَّها ليست متطابقة أو متكافئة لا من حيث المضمون ولا من حيث الماصدق. وليس هذا التَّلاعب بالمفاهيم والتَّعريفات سوى تشويش أو تعمية إيديولوجيَّة يُراد منها تأبيد وجود إسرائيل وتحصينها تحصينًا شاملاً ضد المساءلة والمحاسبة. ولا يخفى، في المناسَبة، كم وافق هذا الخلط المخادع- وما يزال- يوافق هوى محاكم التَّفتيش الصَّهيونيَّة في سعيها الدؤوب إلى ملاحقة ومحاكمة كل من يجرؤ على نقد الممارسات الإسرائيليَّة وإيديولوجيَّتها العنصريَّة المتطرفة، وعلى الدِّفاع عن حقِّ الفلسطينيين في الوجود وإقامة دولتهم الحُرَّة المستقلة بِتُهَمٍ أربع جاهزة، وهي: الإرهاب، ومعاداة السَّاميَّة، والعداء لليهود، والتَّحريض على الكراهية؛
ه- ثَمَّة آفة قاتلة مُرَكَّبة تسري في أوصال الرِّسالة كلها. وتتمثل هذه الآفة في ازدواجيَّة المعايير (سياسة الكيل بمكيالين)، والافتقار إلى التَّماسك المنطقيّ، وإلى أبسط مقومات تسويغ الأحكام الَّتِي تطْلِقَها لكأنها تأمرنا أمرًا عسكريًّا بوجوب التَّسليم والالتزام بها من دون الإشارة إلى أسُسِها والإبانة عن أسبابها. ومن نافلة القول إنَّه ليس يُعَوَّل على كُلِّ ما لا يُعَلَّل. ففي هذه الرِّسالة لم يشرح لنا هابرماس وصحبه، مثلاً، لماذا أفعال إسرائيل مغفورة ومقبولة، وأفعال خصمائها مدانة ومرذولة؟ ولماذا لا ينبغي أنْ تكون مبادئ التَّضامن معها تحديدًا موضع جدال؟ علمًا أنَّ الأساس الَّذِي ينهض عليه وجودها ويسوِّغه يثير ألف سؤال وسؤال ومحطُّ خلاف وسجال حَتَّى في بعض الأوساط اليهوديَّة. ولم يفسِّروا لنا كذلك كيف ولماذا "تنحرف، حسب زعمهم، معايير الحُكْمِ تمامًا عن الصِّراط المستقيم وتَضِلُّ عن الطَّريق القويم عندما تُعْزَى نِيَّات الإبادة الجماعيَّة إلى التَّصرُّفات الإسرائيليَّة(14). إنَّ السُّؤال الَّذِي يقفز ههنا إلى الذِّهن فورًا هو: هل هناك معايير حكم ومبادئ عقليَّة وأخلاقيَّة خاصَّة بتقييم نِيَّات وأفعال اليهود والإسرائيليين تميِّزهم من العالَمين وتُفَضِّلهم عليهم؟ الإجابة عن هذا السُّؤال هي طبعًا بالنَّفي، لأنَّ الكلام على معايير ومبادئ أخلاقيَّة أساسيَّة هو كلام على ما يتجاوز الفروق العِرْقيَّة والجنسيَّة والدِّينيَّة والثَّقافيَّة بين البشر، ويدخلنا في صميم ما هو إنسانيّ عام وذو أهَمِّيَّة عامَّة بالنِّسبة إليهم. فالمبادئ الأخلاقيَّة مُلْزِمة للجميع وموجَّهة بالتَّساوي إلى كل شخصٍ فعليّ وممكن من غير استثناء. إضافة إلى ذلك، وإذ يُسْقِط هؤلاء قَبْليًّا عن إسرائيل تهمة الإبادة الجماعيَّة نِيًّة وفعلاً، جملًة وتفصيلا، فإنَّهم لا يمنحونها، زورًا وبهتانًا، صكَّ براءة وغفران عمَّا تَقَدَّم وما تأخَّر من مسلسل مجازرها الهيستيريَّة فحسب، بَلْ يرتكبون أيضًا أغلوطة تحويل علاقة ممكنة واقعيًّا وجائزة منطقيًّا إلى علاقة مُمْتَنَعة عمليًّا ونظريًّا بحيث يبدو ربط التَّصرُّفات الإسرائيليَّة بدافع الإبادة الجماعيَّة ليس محالاً من النَّاحية الواقعيَّة فحسب، بل مُمْتَنَعٌ منطقيًّا أيضًا. لكن وكما هو معلوم، فإنَّ إثبات ارتكاب أو عدم ارتكاب إبادة هو أمرٌ تقرِّره، في المقام الأوَّل، الوقائع والأحداث لا مزاعم هذا المفكر أو ذاك ولا حَتَّى قوانين المنطق. وإذا كان ممكنًا لبعض البشر ارتكاب المجازر فلا شيء يبرِّر استبعاد احتمال توافر النِّيَّة الجرميَّة الإباديَّة خلف التَّصرُّفات الإسرائيليَّة اللَّهم إلاَّ إنْ أدرَجَت الثُّلَّةُ الهابرماسيَّة الإسرائيليَّين في عداد أولياء الله الصَّالحين والمعصومين، الأمر الَّذِي يعني أنَّ حمل نِيَّة الإبادة الجماعيَّة على أفعالهم يُشَكِّل تناقضًا بالتَّعريف. وما هذا وذاك إلاَّ وَهْمٌ وهراء. لكن وبالعودة إلى الواقع، فإنَّ الأدِلَّة تشير إلى العكس تمامًا ممَّا تدَّعيه هذه الثُّلَّة. فلا تَمُرُّ دقيقة إلاَّ وتمطرنا وسائل الإعلام بوابل كثيف وشلَّال غزير ممَّا لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على بال وخيال بشر من مشاهد حية لمآسٍ قَلَّ نظيرها في تاريخ البشريَّة. إنَّ أفعالاً من مثل التَّهجير القسريّ والحصار المزمن لشعب يعيش واقعيًّا تحت الاحتلال وفي معسكرات اعتقال، ومن مثل الإعدامات الميدانيَّة والقتل والجرح لعشرات الألوف من نسائه وأطفاله ورجاله، والتَّدمير الكُلِّيّ لمستشفياته ومدارسه ودور عبادته ومنازله، والتَّجويع والحرمان التَّام من الماء والغذاء والكهرباء والدَّواء - هي أفعالٌ تُشَكِّلُ، منفردة ومجتمعة، أمثلة نموذجيَّة للإبادة الجماعيَّة المكتملة العناصر والمواصفات. وبالاتِّفاق مع هذا يمكن القول إنَّه ولما كانت طبيعة الأفعال الإسرائيليَّة ضِدَّ الفلسطينيين وغيرهم من الشُّعوب لا تختلف جوهريًّا عن الأفعال النَّازيَّة ضِدَّ اليهود كان من غير الجائز أنْ نطلق عليهما حكمين متضادين أخلاقيًّا. فمن الإجحاف والعبث بمكان أنْ ندين الثَّانية ونقبِّحها وألا ندين الأُولى ونجرِّمها، وبالعكس. فالمسألة الأساسيَّة هنا هي أنَّ أفعالاً كهذه، بحكم طبيعتها، لا يمكن أنْ تكون حسنة وواجبة أخلاقيًّا. فاختلاف هُوِيَّة فاعلها والآمر بها وآليات تنفيذها لا يُغَيِّر شيئًا من طبيعتها، أيْ كونها أفعالاً من نوع معيَّن لا من نوع آخر. فالسرقة سرقة أيًّا يكن السَّارق والمسروق، والقتل قتل أيًّا يكن القاتل والمقتول، وكذلك، على المقلب الآخر، العِشْقُ عِشْقٌ أيًّا يكن العاشق والمعشوق. وطبقًا لهذه الرُّؤية يمكن القول إنَّه إذا كان اليهود هُمْ أحد ضحايا المحرقة النَّازيَّة، فإنَّ الفلسطينيين هُمْ ضحايا هولوكوست مركَّب ومضاعَف ومزدوج: الفاشيّ-الألمانيّ؛ والصَّهيونيّ-الإسرائيليّ. وَمَثَلُ الَّذِي يبرئ إسرائيل من دمِّ الفلسطينيين ومن تُهْمَةِ التَّطهير العُرْقيّ والإبادة الجماعيَّة في حقهم كَمَثَلِ الَّذِي يبرئ النَّازيَّة من المذابح الَّتِي ارتكبتها ضد الإنسانيَّة، لأنَّ الصَّهيونيَّة والنَّازيَّة صنوان ووجهان لعملة لاأخلاقيَّة واحدة. وفي الحقيقة، ما هُمَا إلاَّ صورتان في مرآة واحدة، وصورة في مرآتين. وكل واحدة منهما تتمرأى في الأُخرى. إذ إنَّ لوثة جنون العظَمة والتَّفَوُّق لدى الطَّرفين هي نفسها، وأفعالهما واحدة، وجوهرهما واحد، والادِّعاء بنقاء الأصل واصطفاء العُرْقِ واحد وإنْ اختلف اسْمُ الفاعل واسْمُ الضَّحية ومسرح الجريمة وزمانها. وكما أنَّ التَّطهُّر من نجاسةٍ لا يكون بنجاسةٍ من نوعها، والاغتسال من جنابة لا يصح بجنابة أقذر منها، فكذلك لا شرعيَّة للتبرؤ من الإثم النَّازيّ بمباركة انتقام دمويّ مَرَضيّ صهيونيّ-إسرائيليّ آخر أفظع منه وأشنع، بخاصَّةٍ، أنَّه يثأر لنفسه من شعب لا يَمُتُّ بأيِّ صلة نسب إلى الرَّايخ الثَّالث لا من قريب ولا من بعيد. وبلغت ازدواجيَّة المعايير على يد هابرماس ذروة اللامعقوليَّة عندما أخذ يجاهر ويُلحُّ- متذرِّعًا ب"الرُّوح الدِّيمقراطيَّة لجمهوريَّة ألمانيا الاتِّحاديَّة الموجَّهة نحو الالتزام باحترام الكرامة الإنسانيَّة- على وجوب إيلاء وجود إسرائيل والحياة اليهوديَّة حمايًة خاصَّة في ضوء الجرائم الجماعيَّة إبَّان الحقبة النَّازيَّة"(15) في حين أنَّه لم ينبس ببنت شفة عن حقِّ الفلسطينيين في الوجود وإقامة دولتهم الحُرَّة المستقلة. ولنا هنا أنْ نسأل هابرماس ونتساءل بدورنا أيُّ رُوح ديمقراطيَّة لجمهوريَّة ألمانيا الاتِّحاديَّة هي هذه الَّتِي تمالئ وتناصر كيانًا عنصريًّا لاديمقراطيًّا غاصبًا يضع إرادته فوق إرادة الشَّرعيَّة الدَّوْليَّة ضاربًا بعرض الحائط قراراتها ومواثيقها، ويضطهد الفلسطينيين ويُذِلُّ كرامتهم الإنسانيَّة؟!!! وأيُّ رُوح ديمقراطيَّة لجمهوريَّةٍ هي أعجز وأوهن من أنْ تحيد قِيْد أنملة عن ما ترسمه لها الاستراتيجيات الأمريكيَّة ولوبيات الضَّغط الصَّهيونيَّة على المستويات السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة كافة؟!!! ثُمَّ ماذا يبقى من معاني الدِّيمقراطيَّة لجمهوريَّة ألمانيا الاتِّحاديَّة إذا كانت "ثقافتها السِّياسيَّة تَعِدُّ الحياة اليهوديَّة وحقَّ إسرائيل في الوجود عنصرين مركزيَّين يستحقان حمايًة خاصَّة"(16)، وتستنفد استغراقيًّا حقيقة الرُّوح الدِّيمقراطيَّة والكرامة الإنسانيَّة في هذين العنصرين؟!!! فالكلام على عناصر مركزيَّة تستحق حمايًة خاصَّة في هذا السِّياق يفترض، بالضَّرورة، وجود عناصر ثانويَّة وهامشيَّة هي أقَلَّ أهمِّيًّة واستحقاقًا وجدارة بمزيَّة الحماية من غيرها. ولا شكَّ في أنَّ ثقافًة سياسيَّة كهذه تخالف وتقوِّض، على نحوٍ صارخ، جملة من أُسُسِ النِّظام الدِّيمقراطيّ، أوَّلها مبدأ ضرورة حياد الدَّولة الدِّيمقراطيَّة إزاء مختلف الأعراق والدِّيانات؛ ثانيها مبدأ المساواة في الحقوق؛ ثالثها عدم جواز قوننة الدَّولة الدِّيمقراطيَّة لأيِّ مادةٍ تقود، عمليًّا، إلى ترجيح حقِّ جماعة معيَّنة، أكانت عِرْقيًّة أم دينيًّة أم سياسيًّة، في الوجود والحياة على الحقِّ نفسه لسائر الجماعات. بالطَّبع، إنَّ حقَّ اليهود في الحياة وليس فقط في الحياة، بل في الحياة الحُرَّة الآمنة والكريمة هو حقُّ لا يمارى فيه ما دام هذا الحقُّ لا يتعارض مع إعطاء حقٍّ مماثل لكل من عداهم. بَيْدَ أنَّ مغالاة هابرماس في التَّشديد على وجوب إيلاء وجود إسرائيل والحياة اليهوديَّة عنايًة خاصَّة لا تَنِمُّ عن مَيلٍ معادٍ للرُّوح الدِّيمقراطيَّة فحسب، وإنَّمَا تتناقض أيضًا مع قوله الصَّائب: "إنَّ الحقوق الأساسيَّة في الحُرِّيَّة والسَّلامة الجسديَّة وكذلك في الحماية من التَّشهير العنصريّ هي حقوق غير قابلة للتَّجزئة وتنطبق على الجميع بالتَّساوي"(17). ويعني القول الأخير أنَّ الحقوق الأساسيَّة المذكورة ليست امتيازًا وشأنًا خاصًّا باليهود أكثر منها شأنًا خاصًّا بالبوذيين أو المسلمين أو المسيحيَّين أو الوثنيين أو غيرهم. إنَّها بهذا تصبح شأنًا وحقًّا إنسانيًّا عامًّا، ومن ثُمَّ، لا يُعْقَل أنْ تكون من امتيازات أيِّ دين من الأديان أو أُمَّة من الأُمَمِ أو طبقة من الطبقات. بعبارة أُخرى، لا مهرب لهابرماس من مواجهة مأزق منطقيّ حاد يُلْزِمَهُ باختيار واحد من بديلين متعارضين كلاهما غير مرغوب فيه، حَتَّى من وجهة نظره. البديل الأوَّل هو التَّمسُّك بالحماية (المعاملة، الرِّعاية، العناية) الخاصَّة لإسرائيل واليهود وعندئذ لا يعود ثَمَّةَ معنىً أو قيمةٌ للكلام على حقوق أساسيَّة متساوية لجميع البشر لا امتياز حصريًّا فيها لأُمَّةٍ أو لِمِلَّةٍ على غيرها. والبديل الثَّاني هو التَّمسُّك بمنطق المبادئ الأخلاقيَّة والدِّيمقراطيَّة فيبطل عندئذ مبرِّر المطالبة بامتياز حقِّ الحماية الخاصَّة. إضافة إلى ذلك، ينطوي موقف هابرماس على أغلوطة لا تخفى على عاقل. وتكمن الأغلوطة في هذا الموقف في أنَّه يعطي عامِلَ الانتماء إلى عِرْقٍ ودِينٍ معيَّنين أهمِّيًّة في تحديد كيفيَّة تعاملنا مع البشر إنسانيًّا وأخلاقيًّا، أيْ يمنح أهمِّيًّة لما لا أهمِّيَّة له على الإطلاق بالنِّسبة إلى المسألة الأخيرة. فلا علاقة ضروريَّة بين اختلاف السِّمَاتِ الجسمانيَّة كلون البشرة ولون العيون وشكلها ونوع الشَّعر، والتَّمييز في المعاملة الأخلاقيَّة. زد على ذلك، لا دليل على الرَّبط بين السِّمَاتِ العِرْقيَّة أو الجسمانيَّة والخصال الأخلاقيَّة، ولا هذه الأخيرة مشتقة من الأولى. كما أنَّ اختلاف المعتقدات الدِّينيَّة أو الفلسفيَّة أو العلميَّة، بدوره، لا يُعقل أنْ يُشَكِّلَ أساسًا لأيِّ اختلاف في المعاملة الأخلاقيَّة. وعلى المستوى الشَّخصيّ لا أعرف استدلالاً علميًّا يمكن لِحَدِّهِ الأوسط ومحمولات مقدِّماته أنْ يدعما دعمًا كافيًا الاستنتاج أو الحكم القائل بوجوب منح اليهود وإسرائيل أو غيرهما حمايًة خاصًّة استثنائيَّة مُطْلَقَة. وعليه، أرى أنَّه ليس في جعبة هابرماس الإيديولوجيَّة الرَّثَّة ما "يُسَوِّقُ" به إعطاء وجود إسرائيل والحياة اليهوديَّة مزايا تفضيليَّة سوى اجترار وتكرار مقيت لأُسطورة شعب الله المختار التَّوراتيَّة. وإذا كانت المحرقة الَّتِي تَعَرَّضَ لها اليهود إبَّان الحقبة النَّازيَّة هي المسوِّغ الرَّئيس لوجوب إيلائهم حماية خاصَّة، فأليس من باب أوْلَى أنْ يَنْعَمَّ الفلسطينيون بمثل هذا الامتياز في ضوء المجازر الَّتِي ترتكبها إسرائيل وأعوانها المتصهينين في حقِّهم؟!!! وماذا عن الأقوام والشُّعوب الأُخرى الَّتِي تعرَّضت عبر التَّاريخ للإبادة والمجازر الجماعيَّة؟ ألا تستحق معاملة خاصَّة مماثِلة لتلك الَّتِي لإسرائيل واليهود، يا تُرَى؟!!! لا شَكَّ في أنَّ هذه الأسئلة وغيرها تضع هابرماس وكل من يدور في فلكه أمام خيارين أحلاهما مُرٌّ: إمَّا أنْ ينفوا حقائق تاريخيَّة معروفة للقاصي والدَّاني وهذا منتهى الجهل والتَّجاهل أو أنَّ شعارات الحُرِّيَّة والدِّيمقراطيَّة والكرامة الإنسانيَّة الَّتِي يتبجَّحون بها ليست إلاَّ قناعًا جاذبًا وتَغَنِّيًا كاذبًا تتوارى خلفهما إرادة القُوَّةِ ونوازع العنصريَّة والإرهاب. والحال أنَّ رائد الفكر التَّواصليّ والدِّيمقراطيَّة التَّداوليَّة وأخلاقيَّات الخطاب لم يُحْسِن برسالته التَّضامنيَّة مع إسرائيل سوى انتهاك ما يُنَظِّر له ويدعو إليه. ولا أظنني أُجانب الصَّواب إنْ قلت إنَّ ثَمَّةَ قاسمًا مشتركًا وجوهريًّا يجمع بين بيان هابرماس وتصريح وزير الدِّفاع الإسرائيليّ يوآف غالانت الَّذِي عَدَّ الفلسطينيين حيوانات متوحِّشة في هيئة بشريَّة. صحيح أنَّ هذه العبارة الأخيرة غابت عن بيان هابرماس إلاَّ أنًّ معناها حضر فيه بِقُوَّةٍ من خلال إصراره الوقح على نفي نِيَّة الإبادة الجماعيَّة عن إسرائيل بغْيَة تأكيد تمدُّنها وسويَّتها مقابل همجيَّة الفلسطينيين وتوحُّشهم، ومن خلال اللُّغة الَّتِي يتحدَّث بها عن عملية طوفان الأقصى والنُّعوت الَّتِي يطلقها على منفِّذيها. فهو ينحى باللائمة عليهم ويصفهم بأردأ النُّعوت من مثل "الوحشيَّة الفائقة" extreme atrocity و"مجزرة حماس" Hamas massacre، في حين أنَّه يعفي إسرائيل كُلِّيًّا من المسؤوليَّة مكتفيًا بوصف ممارساتها الإجراميَّة ب"أفعال إسرائيل" Israel's actions أو "ردة فعل إسرائيل" Israel's response من دون أدنى إشارة إلى طبيعة هذه الأفعال ونوعها ومشروعيَّتها. ولا يحتاج واحدنا إلى كبير عناء ليدرك مدى افتقار ازدواجيَّة المعايير إلى المصداقيَّة وتعارضها مع المبادئ والقواعد الأخلاقيَّة الأساسيَّة من مثل القاعدة الذَّهبيَّة للأخلاق في صيغتَيها السَّالبة والموجبة (ما لا تحبه في الآخر لا تفعله أنت نفسك) و(عامِل الآخرين بما تحب أنْ يعاملوك به)، ومبدأ قابلية الكوننة (ينبغي معاملة جميع الحالات المتماثلة في السِّمات الأساسيَّة بالتَّساوي، وأنَّ أيَّ اختلاف في المعاملة ينبغي أنْ يعكس اختلافًا نوعيًّا ملحوظًا بين الحالات الَّتِي تُعَامَل على نحوٍ مختلف). فازدواجيَّة المعايير تُشَكِّل تناقضًا في الإرادة وتهافتًا في الفكر. وهذا التَّناقض يَنِمُّ، كما نبَّهَنا كانط، عن انتهاك فاضح للواجب الأخلاقيّ ولكُلِّيَّة قانونه. بعبارة أُخرى، تقتضي المبدئيَّة والمصداقيَّة اتِّساق الإرادة وإلاَّ فإنَّ المسافة الفاصلة بين ازدواجيَّة المعايير والعدميَّة الأخلاقيَّة قصيرة جِدًّا. وينبغي لمن يدَّعي محاربة الإرهاب والاستبداد والعنصريَّة ألا يكون منطقه ومسلماته وممارساته هي عين ما يستبعده وينفيه. وفي ضوء كل ما سبق عبثًا يحاول المرء العثور على "مبادئ التَّضامن" في هذه الرِّسالة الملئ بركام هائل من التَّضامن اللامبدئيّ غير المُبَرَّر بأيِّ وجه حقٍّ.
وبالانتقال إلى مسألة الاستنجاد بالأوامر والنَّواهي الإلهيَّة لتبرير العنف وحسم الخلافات بين البشر حول ما هو خير وما هو شَرٌّ لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ هذا الاستنجاد إنْ لم يكن هو بالذَّات واحدًا من العوامل المؤججة لها، لن تكون له نتيجة سوى نقلها إلى مستويات أُخرى تجعلها أعسر على الحَلِّ عمليًّا ونظريًّا. ذلك أنَّ إصرار كل جماعة أصوليَّة دينيَّة على أنَّ دينها هو الدِّين الحقُّ وكتابها هو الكتاب الصَّحيح غير ذي عِوَجٍ أو تحريف، وأنَّها شعب الله المختار وطفله المُدَلَّل والفرقة الوحيدة النَّاجية، باعتبار أنَّ لله حزبًا واحدًا لا يتعدَّد وأحزاب كثيرة أُخرى كلها للشَّيطان والطَّاغوت، وأنَّ هناك حقًّا واحدًا لا يتعدَّد والطَّريق إليه واحد أيضًا، وما عداه فهو الضَّلال(18)، سيؤدِّي، لا محالة، إلى إثارة خلافات ومجادلات عقيمة بيندينيَّة وضمندينيَّة وميتادينيَّة يستغلق فيها الفهم وتستعصي إبستيمولوجيًّا على الحسم. فكل فئة منهم تطحن الهواء وتقاتل ظلالها وظلال خصومها، لأنَّها تجاوزت حدود الخبرة الممكنة والتَّاريخ والعقل إلى حيث لا وجود لشيء يمكن لِمزاعمها القطعيَّة أنْ تمسك به وأنْ تستمر معه. وقد أدرك أبو العلاء المعرِّي بحدسه الفلسفيّ النَّفَّاذ هذه الحقيقة وعَبَّرَ عن تداعياتها الفتنويَّة على العلاقة بين أهل الشَّرائع بأُسلوبه الأخَّاذ: في اللاذقيَّة ضجَّةٌ ما بين أحمد والمسيح، هذا بناقوسٍ يدقُّ وذا بمئذنةٍ يصيح، كُلٌّ يُعَظِّم دِينَهُ يا ليتَ شِعري ما الصَّحيح. وحين أشار إلى تشَوُّشِ الأفهام النَّاجم عن التَّضارب الحاصل بين فتاوى أهل الشَّريعة الواحدة بقوله: أجاز الشَّافعيُّ فعالَ شيءٍ وقال أبو حنيفة لا يجوزُ، فَضَلَّ الشِّيبُ والشُّبَّانُ مِنَّا وما اهتدت الفتاةُ ولا العجوزُ. والحال أنَّه من المحال أنْ ينتهوا إلى غير هذا المآل ما دام كل طرف يُمَجِّد دينه ولسان حاله يقول إنَّ إنكار ديني أو العدول عن مذهبي ولو في قِيْد شبر هو كفر، ومباينته ولو في شيء نزر هو ضلال وخُسْر. وما نشاهده على المستوى الضُّمندينيّ هو غلبة الخلاف والشِّقاق بين أخوة الدِّين لا الاتِّفاق. فهؤلاء أيضًا يحقُّ عليهم قوله تعالى في الآية 14 من سورة الحشر: "تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى". وليست قلوب المشاركين في المِلَّة الواحدة متآلفة ولا آراؤهم متطابقة. فأتباع الدِّين الواحد، سواء أكانوا يهودًا أم مسيحيين أم مسلمين، ليسوا على اتِّفاق في كيفية تأويل نصوص دينهم اللاهوتيَّة منها والعمليَّة، ولا هُمْ رُحَمَاء بينهم ولا هُمْ رُحَمَاء على غيرهم. والحقُّ أنَّهم أشِدَّاء على بعضهم كما على غيرهم، ولا أحد من الخلائق في مأمن من شرِّهم. فالنَّفي الضُّمنديني المتبادل لا بدَّ وأنْ يُتَرْجَم، عاجلاً أو آجلاً، إلى نفي بيندينيّ مماثل. وفي ضوء ذلك كله نترك لك أيها القارئ الكريم أنْ تتخَيَّل نوع العلاقة بين أتباع الدِّيانات فيما لو بادر كل منهم إلى اقحام تعاليمه الدِّينيَّة في الفضاء العام وإقامة دولته ونظامه السِّياسيّ-الحقوقيّ بذريعة مفادها أنَّ من لم يَحْكُمْ بِمَا أنزل اللهُ فأولئك هُمُ الكافرون والظَّالمون والفاسقون، وأنَّ ما لا يَتِمُّ التَّكليف الإلهيّ أو الواجب الدِّينيّ إلاَّ به فهو واجب، وشَرَعَ، في الوقت عينه، في إحياء الأحقاد والثَّأرات القديمة وتفعيل "المادة" المتعلَّقة بوجوب قتل الكُفَّار والمشركين والمرتدِّين أينما وجدوا. وهنا تتولَّى السُّيوف والسِّنان حسم ما عجز عنه البرهان واللِّسان، فيسارع كُلُّ طرف إلى تطبيق فتوى "يستتاب وإلاَّ يُقتل" واِتِّهام من يخالفه الرَّأي والمعتقَد بالضَّلال والكفر والفساد والانحلال وغيرها من النُّعوت الَّتِي من شأنها تسفيه الخصم وأبلسته وإقصاؤه من دائرة الَّذِينَ يستحقون العيش والاحترام، وإلى تحويل الخلافات العقيديَّة إلى خطوط تماس مستقيمة لتبادل القصف والرِّمايات إلى أنْ يقضي الله أمرًا كان مفعولاً. وغنيٌّ عن البيان ما لهذا الميل الأصوليّ الأحاديّ والاستعلائيّ المغلق، سواء اتَّخَذَ صورة لاهوتيَّة أم ناسوتيَّة، من نتائج وخيمة عانت منها البشريَّة طويلاً، ماضيًا وحاضرًا، وستعاني منها مستقبلاً ما بقي هذا الميل قائمًا.
أخلص من ذلك كُلِّهِ إلى القول إنَّ التَّبرير الأخلاقيّ للعنف، لا سِيَّمَا، إذا ما اقترن بعناوين ومسوغات دينيَّة، لا يُخَفِّف من وطأته ولا يُلَطِّف شراسته كما يُعتقد عادةً، بَلْ على العكس من ذلك تمامًا. فمن شأن تبرير كهذا أنْ يُضفي على العنف طابعًا وجوديًّا شاملاً لا رجعة عنه ولا مُهَادَنة فيه ابدًا لا البارحة ولا اليوم ولا غدًا، ويخلق مناخًا مشبعًا بالكراهية والعدوانيَّة يغدو فيه الاستنكاف عن العنف مهانًة وذُلاًّ وعارًا وجبنًا وتواطوءًا شيطانيًّا مع الشَّرِّ لا يُغتفر. وهذه المماهاة بين نبذ العنف والخطيئة والخنوع تحيلنا إلى مساءلة الأطروحة الثَّانية لدعاة الجمع والتَّوفيق بين العنف والأخلاق.
بادئ بدء تجدر الإشارة إلى أنَّ مثال اللاعنف قلَّما حَظِيَ بتأييد أو قبول واسع في أوساط السَّاسة والمفكرين والنَّاس العاديين باعتبار أنَّه ليس أكثر من حلم جميل أو وَهْم نبيل، لكنه مستحيل. وغالبًا ما تَمَّ ازدراء مؤيديه، وإدراج الدَّعوة إليه في دائرة الشُّبْهة والاتِّهام باعتبارها تنظيرًا ونظيرًا للعجز والاستسلام والتَّحلُّل من واجب مقارعة الشَّرِّ الاجتماعيّ. وبالفعل، لو صحَّ هذا القصد لَفَقَدَ الخيار اللاعنفيّ قيمته ومعناه. غير أنَّه، وفي حالة الظُّلم أو القهر الاجتماعيّ، ثَمَّة إمكان على وجه الإجمال، لاستجابات عِدَّة منها طبعًا الخضوع والذِّلَّة والانهزام أو العنف المضادُّ ومقاومة الشَّرِّ الاجتماعيّ بالوسائل العنفيَّة ذاتها على قاعدة العين بالعين والسِّن بالسِّن و"المعاملة بالمثل" و"لا يفلُّ الحديد إلاَّ الحديد". بَيْدَ أنَّه لو اقتصرت الخيارات المتاحة واقعيًّا على هذين البديلين فقط لكان العنف المضادُّ، من دون أدنى شَكٍّ، هو الموقف الأقل سوءًا والأهْوَن شرًّا. وإلى هذا المعنى ذهب شيخ الطَّريقة اللاعنفيَّة ونصيرها المبدئيّ المهاتما غاندي بقوله: "لو خُيِّرت بين اثنين لا ثالث لهما: العنف أو الجبن، لاخترت العنف غير متردد، فلا محل للجبن في موقفنا..."(19). لكن هذين الخيارين لا يستنفدان جميع ردود الفعل الممكنة على الظُّلم الاجتماعيّ. إذ ثَمَّة بديل ثالث ممكن إلى جانب البديلين الأولَين ألا وهو النِّضال اللاعنفيّ الَّذِي يتطلَّب، في اعتقادي، قدرًا عظيمًا من الشَّجاعة والقُوَّةِ الرُّوحيَّة والسُّمُوِّ قَلَّ أنْ نجد نظيرًا له في الثَّورات العنفيَّة. ومن الشَّواهد على ذلك يمكن أنْ نذكر تجارب لاعنفيَّة ملهمة لقادة تاريخيين افذاذ أمثال المهاتما غاندي ومارتن لوثركينغ ونيلسون مانديلا وغيرهم ممن أناروا للبشريَّة معالم دروب آمنة ولائقة لحل تناقضاتها واجتراح مخارج لمآزقها من غير عنف أو بأقَلِّ قدر منه. وفي معرض التَّأكيد أنَّ العفو واللاعنف أقرب إلى الشَّهامة وأليَق بالمروءة الإنسانيَّة من الثَّأر يحضرني قول للفيلسوف أبي حامد الغزالي يتساءل فيه كيف يُستقبح العفو والإنعام ويُستحسن طول الانتقام... علمًا أنَّ العادة قاضية والعقول مشيرة إلى أنَّ التَّجاوز والصَّفح أحسن من العقوبة والانتقام، وثناء النَّاس على العافي أكثر من ثنائهم على المنتقم، واستحسانهم العفو أشَدُّ…(20)؟!!! وفي ضوء ما سبق أتساءل بدوري: هل يُعقل، حقًّا، أنْ يكون العنف هو الخيار الأكثر استحسانًا وتفضيلاً على أيِّ خيار آخر؟ وهل يصلح العنف أنْ يكون السِّلاح الأمضى والأنسب لاجتثاث أو تفادي عنف آخر أعظم على ما تزعمه أطروحة أهل العنف الثَّالثة؟
يبدو لي أنَّ العنف بصفته شَرًّا لا يمكن أن يكون خيارًا أخلاقيَّا وموضوعًا للاختيار الأخلاقيّ، بقدر ما أنَّ الشَّرَّ، وظيفيًّا، هو ما يريد الإنسان تَجَنُّبَه، أي ما لا يرغب أو لا يريد اختياره. ومن يقول عكس ذلك فهو كمن يقول، مثلاً، إنَّ اختيار أمر ما هو عين اجتنابه وعدم اختياره أو إنّ فعل شيء هو بمكانة عدم فعله. ولا شكَّ في أنَّ قولاً كهذا يوقع أصحابه في فخِّ اللَّغو الفارغ والمغالطات المنطقيَّة بقدر ما يمعنون في إثبات الاختيار في معرض نفيه وإثبات اجتنابه. إضافة إلى ذلك، فإذا ما فهمنا بالاختيار القرار الطَّوعيّ والواعيّ المسؤول للإنسان، وإنَّ مفردة "الاختيار" مشتقة لُغَويًّا من كلمة "خير" وتَمُتُّ إليها بِصِلَةِ نسب وطيدة، فسرعان ما سيتضح لنا، عندئذٍ، أنَّ الكلام على"اختيار العنف"، بما هو أكثر أشكال الشَّرّ تطرفًا والَّذِي لا يمكنه أنْ يكون أكثر صلاحًا وتفضيلاً على ما عداه، ليس إلاَّ لغطًا لَغْويًّا خارقًا وفذلكًة سوفسطائيَّة غير جائزة. والشَّيء نَفْسه ينطبق، أيضًا، على مقولة "اختيار أهْوَن الشَّرَّين وأخفِّ الضَّررين" الَّتِي كثيرًا ما يُستعان بها كصيغة مُنْقِذَة لإضفاء مسحة أخلاقيَّة على بعض الأفعال العنفيَّة كالقتل دفاعًا عن النَّفْسِ أو الموت في ساحات الجهاد. ذلك أنَّ هذه القاعدة، بدورها، أعجز عن أنْ تمنح العنف تأشيرة دخول إلى مملكة القيم الإنسانيَّة العامَّة، فما بالك بحقِّ اللجوء الأخلاقيّ إليها والإقامة الدَّائمة فيها!!! والأصل في ذلك يعود إلى كون المقولة المذكورة مُبَرَّرة فقط بقدر ما أنَّها لا تتكلَّم على اختيار الشَّرِّ بالمطلق، إنَّمَا على إتيان الشَّرِّ الأقَلِّ سوءًا في ظِلِّ ظروف خانقة وبدائل محدودة جِدًّا أو معدومة. فليس في هذه القاعدة أساس كاف يُسَوِّغ تحويلها (كما يحلو للبعض أنْ يفعل) إلى تعويذة سحريَّة تقلب الشَّرَّين الأكبر والأصغر أو أحدهما إلى خير. وهذه أغلوطة شنيعة يرتكبها القائلون بأنَّ الخير هو أهْوَنُ الشَّرَّين أو إنَّ الأقَلَّ شَرًّا هو "خير" من الأكثر شَرًّا و"أحسن" و"أصلح" و"أفضل" منه. فإذا قلنا، مثلاً، إنَّ المرض أ أشَدُّ خطورة على حياة الإنسان من المرض ب، فإنَّ ذلك لا يعني البتَّة أنَّ ب صار صحَّة وعافيًة بالمقارنة مع أ. ولو أخذنا قوله تعالى في الآية 191 من سورة البقرة "والفِتْنَةُ أشَدُّ مِنَ القَتْلِ"، وكذلك الآية 217 من السُّورة ذاتها "والفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ"، فإنَّه لا يمكن أنْ يعني أنَّ القتل خير من الفتنة وأنَّه صار مرغوبًا ومطلوبًا ومأمورًا به. فالآيتان تدلان على أنَّ الأمرين سيئان، وأنَّ الفتنة فاقت القتل في تلك الصِّفة، أيْ إنَّ الاختلاف بين المشبَّه والمشبَّه به هو اختلاف في درجة القبح والسُّوء لا في القبح ذاته. وأيًا تكن قواعد الصَّرف اللُّغَويّ والتَّحويل المنطقيّ واستراتيجيات التَّفسير والتَّأويل، فالسيئ لا ينقلب بقدرة قادر وسحر ساحر إلى جَيِّد حَتَّى عند مقارنته مع الأكثر سوءًا. فالشَّرُّ شرٌّ، والضَّرر ضرر سواء قَلَّ أو كثر، ظهر أو استتر. وتجدر الإشارة إلى أنَّ مقولة "الخير هو أهْوَن الشَّرَّين" تُلْزِم أصحابها بارتكاب أغلوطة أُخرى من نوعها تقتضي بتعريف الشَّرِّ على أنَّه أهْوَن الخيرين. ومن الواضح، أيضًا، أنَّه لا مهرب ولا مَفَرَّ من ارتكاب أغلوطة الاشتراك equivocation fallacy وتربيع الحدود المنطقيَّة وتبديل المفهوم لكل من يستدل من "الأهْوَن والأخف ضررًا والأقل شَرًّا" على أنَّه خير. فهو بذلك يستعمل، على نحو تعسُّفي، "الأقَلَّ شَرًّا" بمعنى "خير"، وكأنَّ دلالة هذه المفاهيم المختلفة واحدة ومترادفة. وهذا الأمر يشكل مخالفة صارخة لأحد أبرز قوانين التَّفكير المنطقيّ وعنيت به قانون الهُوِيَّة law of identity الَّذِي ينصُّ على عدم جواز تبديل أحد المفاهيم (الأفكار، الموضوعات) في سياق الاستدلال الواحد بغيره. فلا يصح تقديم المفاهيم المتطابقة (المتماثلة، المتماهية) على أنَّها متباينة، ولا يجوز، في المقابل، تقديم المفاهيم المختلفة معانيها على أنَّها متماثلة ومترادفة. إضافة إلى كُلِّ ما سبق، ينبغي القول إنَّه وفي حالة العنف والعنف المضادِّ، فإنَّ الأهْوَنَ أو الأقَلَّ لا يحصل بأيِّ وجه من الوجوه. فلكي نطفئ عنفًا بعنف مضادٍّ، فإنَّ الثَّاني ينبغي أنْ يفوق الأوَّل ويزيده، أيًّا تكن وحدة القياس المعتَمَدة. وبذلك فإنَّ شرَّ العنف لا يتناقص، بَلْ يتضاعف على الأقَلِّ، بمقدار كمِّيَّة الشُّرور والنَّوائب الكامنة في العنف المضادِّ فيكون المجموع العام: "شرَّين بعد شرٍّ واحد"(21)، حسبما عبَّر المهاتما غاندي. وإذا جاز لي التَّعبير عن العلاقة الكمِّيَّة بين العنف والعنف المضادِّ بلغة علم الحساب لقلت جازمًا إنَّ العلاقة بين النِّصَابين ليست علاقة طرح أو قسمة، إنَّمَا هي علاقة جمع وضرب. وبالفعل، فإنَّ الميل إلى استئصال شأفة العنف بمثله أدَّى عبر التَّاريخ إلى مضاعفة أعباء الوجود وزيادة أثقاله مضيفًا إلى المصائب القديمة مصائب أُخرى جديدة. ومن يعتقد أنَّ تجاوز العنف متعذِّر من دون عنف مضادٍّ له في الاتِّجاه يساويه أو يكبره قوَّةً فهو كَمَثَلِ من يعتقد أنَّ بالإمكان إطفاء حريق بواسطة إشعال حريق آخر إلى جانبه أو التَّطهُّر من نجاسةٍ بنجاسة من نوعها أو أوسخ منها، فيزداد بذلك نجاسًة على نجاسة وقبحًا على قبح. ولا مِرَاءَ في أنَّ اعتقادًا فاسدًا كهذا ليس هذيانًا فحسب، إنَّمَا هو أيضًا أسوأ الفتاوى والأباطيل الإيديولوجيَّة الشَّائعة والكامنة وراء موجات سباق التَّسلُّح المتلاحقة الَّتِي تضمن، حتمًا، إقامة سلام دائم وأبديّ بين البشر، لكن على مقبرتهم الجماعيَّة الكبرى فقط.
وعلى وقع تحدِّيات التَّاريخ المعاصر ومنزلقاته الخطرة يمكن القول إنَّ الطَّريق الملكيّ للوصول إلى عالمٍ خالٍ من جنون العنف هو التَّخلِّي عن استراتيجية العنف ذاتها وإطراحها من التَّداول العمليّ ومن فضاءات التَّرويج الإيديولوجيّ والتَّبرير القيميّ. فالعنف المعاصر، بأدواته الفائقة ومفاعيله التَّدميريَّة الشَّاملة لم يعد يترك مجالاً للقول بوجود حالات يُعتبر فيها العنف خيرًا أو موقفًا لائقًا من المنظار الأخلاقيّ. فليس هناك عنف شنيع وعنف بديع، عنف مقدَّس وعنف غير مقدَّس، بَلْ إنَّ كل عنف، بدرجة أو بأُخرى، مدنَّس. فالعنف لا يكون في شيءٍ إلاَّ شانه، ولا يُنْزَع من شيءٍ إلاَّ زانه. بَيْدَ أنَّ مثل هذا الاستنتاج العام ينبغي ألاَّ يُفْهَم منه وكأنَّ الأخلاق انفصلت عن الواقع وانعزلت في بروج عاجية عن عالم العنف بكل تعقيداته وملابساته، وتحوَّلت إلى شاهد زور أو مراقب مصاب بعمى الألوان لا مبالٍ تجاه الفروقات في موجباته و أشكاله وتداعياته، بَلْ المقصود منه فقط هو ألا ينقلب تدخُّلها فيه دفاعًا عنه وإبراءً له. لا خلاف، بالطَّبع، على أنَّه، وفي التَّجربة الواقعيَّة للحياة الأخلاقيَّة، لا يجوز الاقتصار على وجهة النَّظر الَّتِي تضع تعارضًا مطلقًا بين الخير والشَّرِّ طبقًا لقانون الثَّالث المرفوع: "إما...أو..." أو طبقًا للمعادلة الإنجيليَّة: "... نَعَّم نَعَّم أو لا لا وما زاد على ذلك فهو من الشَّرير "(22)، لكن، وفي الوقت عينه، لا يجوز الاستغراق عميقًا في هذه التَّجربة بحيث يصير التَّضادُّ المبدئيّ بين "النَّعَّم" الأخلاقيَّة و "اللا" الأخلاقيَّة منسيًّا بالكامل ومُهْمَلاً بالكُلِّيَّة. فالقول باستحالة التَّأسيس الأخلاقيّ للعنف لا يستبعد التَّحليل المُفَصَّل لمختلف مظاهره وحيثيَّاته في سياقاتها الواقعيَّة الملموسة، إنَّمَا يرسم فقط الأُطر العامَّة لمثل هكذا تحليل ويحدِّد غرضه الأساسيّ. فالتَّجربة المعاشة تضعنا في أحيان كثيرة أمام حالات وأفعال عنفيَّة يمكن أنْ نأسف لها أو أنْ نرأف بصاحبها أو حَتَّى تَصْعُب إدانتها، من دون أنْ يعني ذلك أنَّها جديرة بالمديح والثَّناء. ذلك أنَّه وعند النَّظر في الحالات العنفيَّة من المهم جدًا أنْ لا نفقد البوصلة الأخلاقيَّة درءًا لانحراف التَّقييم وخروجه عن سكَّة الوجهة العامَّة للتَّنافر الأصليّ بين الأخلاق والعنف بحد ذاتهما.
لا شكَّ في أنَّ العنف يمكن تعليله وتفسيره في حالات معيَّنة ملموسة انطلاقًا من مصالح سياسيَّة ومنافع اقتصاديَّة وغايات سوسيولوجيَّة وميول طبيعيَّة أنثربولوجيَّة وغيرها من الدَّوافع الواقعيَّة المتعدِّدة المُوَلِّدة له، ولكن لا يمكن تأسيسه وتبريره بواسطة حجج أخلاقيَّة كما لو أنَّه فعلٌ عقلانيّ ولائقٌ ومسؤولٌ للشَّخصيَّة الإنسانيَّة. فالفرق كبير والهُوَّة شاسعة ما بين التَّفسير وكُلٍّ من التَّبرير والتَّبجيل والتَّقدير. إذ إنَّ التَّباين بين المقاربة الظَّرفيَّة-البراجماتيَّة والمقاربة الأخلاقيَّة للعنف يعكس، بوضوح، العلاقة العامَّة بين الضَّرورة والأخلاق. فمن الممكن للضَّرورة أنْ تتطابق مع الأخلاق أو أنْ تتعارض معها أو أنْ تكون محايدة تمامًا بالنِّسبة إليها. ولو كان الأمر بخلاف ذلك لما كان للأخلاق، عندئذٍ، حُكْمها الخاص واستقلاليتها النِّسبيَّة. صحيح أنَّه ليس بمقدور الأخلاق بعد أنْ تعدم العنف من العالم أو أنْ تفعل الكثير حيال ضرورة العنف الَّتِي تضرب جذورها، على ما يبدو، في بيولوجيا الأفراد وسيكولوجيتهم وسوسيولوجيا عيشهم المشترَك، لكنها قادرة، حتمًا، على إدانة العنف، وأنْ تقول لِكُلِّ من تُخَوّله نَفْسُهُ ممارسته والتَّنظير له بأنْ لا يطمئن لِوَهْمِ الاعتقاد وكأنَّ موقفه مستساغٌ أخلاقيًّا. فالأخلاق تصادر الحقَّ في مثل هذا التَّفكير وتُبَشِّر أصحابه ببئس المصير. ففي صراعنا مع الوحش ينبغي ألاَّ نصير وحوشًا. فلا يغرَّنك التَّحديق طويلاً في هاوية العنف فتنفذ فيك وتسقطك فيها(23).
***
د. علي صغير / كاتب وباحث لبنانيّ
..........................
المراجع والهوامش:
1. علي حرب: التَّأويل والحقيقة (قراءات تأويليَّة في الثَّقافة العربيَّة). بيروت، دار التَّنوير، الطَّبعة الأُولى، 1985. ص ص 182، 185.
2. تروتسكي ل.د: أخلاقهم وأخلاقنا. مقال منشور في كتاب من سلسلة الفكر الأخلاقيّ تصدرها دائرة الأخلاق في معهد الفلسفة التَّابع لأكاديميَّة العلوم الرُّوسيَّة (الكتاب السَّنويّ لعام 1991)، موسكو. دار الجمهوريَّة، 1992، ص 212-244. باللُّغة الرُّوسيَّة. أنظر أيضًا إلى المقالات الآتية الَّتِي نُشرت كمناقشة وردّ على مقالة تروتسكي المذكورة أعلاه: أ- سارتر جان بول: إشكالية الغاية والوسيلة في السِّياسة (دفاتر في الأخلاق). منشورة بالرُّوسيَّة في: الفكر الأخلاقيّ (الكتاب السَّنويّ لعام 1991) ص 251-263؛ ب- ديوي جون: الغايات والوسائل. المصدر السَّابق. ص 245-250؛ ج- لوثر مارتن كينغ: حجي إلى اللاعنف. المصدر السابق. ص 162-181؛ د- غوسينوف ع.ع: الفكر الأخلاقيّ عند تروتسكي. المصدر السَّابق. ص 264-285. أنظر أيضًا للمؤلِّف نَفْسه غوسينوف ع.ع: الأخلاق والعنف. مجلة قضايا الفلسفة، 1990، العدد الخامس. ص 127-136. كذلك مقالته الموسومة ب أخلاق اللاعنف. مجلة قضايا الفلسفة، 1992. العدد الثَّالث. ص 72-82.
3. حنة أرندت: في العنف. ترجمة إبراهيم العريس. دار السَّاقي. بيروت. طبعة أُولى. 1992. ص 5.
4. أبو حامد الغزالي: جواهر القرآن. تحقيق الدكتور الشَّيخ محمد رشيد رضا القباني. دار إحياء العُلوم. بيروت. الطَّبعة الثَّالثة. 1990. ص 11.
5. أبو حامد الغزالي: المنقذ من الضَّلال والموصل إلى ذي العزَّة والجلال. اللَّجنة اللُّبنانيَّة لترجمة الرَّوائع. بيروت. الطَّبعة الثَّانية. 1969. ص 30.
6. أنظر: د. عادل ضاهر: الأُسُس الفلسفيَّة للعلمانيَّة. دار السَّاقي. بيروت. الطَّبعة الثَّانية. 1998. ص 210. (بتصرَّف).
7. أنظر: المرجع السابق. ص 203.
8. أنظر: د. عادل ضاهر: الأخلاق والعقل (نقد الفلسفة الغربيَّة). دار الشُّروق. عمَّان. الطَّبعة الأُولى. 1990. ص 285. ( بتصرَّف).
9. محيي الدِّين ابن العربي: كتاب العبادلة. الجزء الأُوَّل. الموقع الإلكترونيّ للمكتبة الأكبريَّة بإشراف الدكتور محمد علي حاج يوسف.
10. غوسينوف ع.ع: الدِّيماغوجيا الأخلاقيَّة كشكل من أشكال تبرير العنف. مجلة قضايا الفلسفة. 1995. العدد 5. ص 5. (باللُّغة الرُّوسيَّة).
11. نقلاً عن مقال الصِّحافيّ الأستاذ رضوان مرتضى منشور في جريدة الأخبار بتاريخ 11-06-2016.
12. https://www.normativeorder-solidaritat/
13. المصدر نفسه.
14. المصدر نفسه.
15. المصدر نفسه.
16. المصدر نفسه.
17. المصدر نفسه.
18. سَيِّد قطب: معالم في الطَّريق. دار الشُّروق. بيروت/القاهرة. الطَّبعة السَّادسة، 1979. ص 136-137.
19. ستيبانيانتس م.ت: المهاتما غاندي رسول اللاعنف. مجلة عصر العولمة. 2009. العدد الأوَّل. ص 155-162. (باللُّغة الرُّوسيَّة). وأنظر أيضًا لويس فيشر: غاندي الثَّائر القدِّيس. دار المدى للثَّقافة والنَّشر. 2012. ص 111.
20. أبو حامد الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد. تحقيق د. إبراهيم آكاه جوبوقجي و د. حسين آتاي. أنقرة. 1962. ص 187.
21. لويس فيشر: غاندي الثَّائر القدِّيس. ص 73.
22. الكتاب المقدَّس. العهد الجديد. إنجيل متَّى. الفصل الخامس.
23. أنظر فريدريش نيتشه: ما وراء الخير والشَّرِّ (تباشير فلسفة للمستقبل). ترجمة جيزيلا فالور حجَّار. مراجعة موسى وهبه. دار الفارابي/بيروت - ANEP/الجزائر. الطَّبعة الأُولى. 2003. ص 118.(بتصرَّف).

 

البُعد (Dimension) معنى قد يدل على الخط المستقيم او على البعدين (طول وعرض)، او الفضاء الثلاثي الأبعاد (طول، عرض، ارتفاع)، وفي اللغة العربية توزع معاني البعد بين المادي (المسافة) والمجازي (الجوانب غير الملموسة). او المفاهيم مثل البعد الروحي، الاجتماعي، النفسي، الوجودي …الخ
وفلسفة الأبعاد تتنوع فلربما تعلقت بالابعاد الخاصة بالأسس الميتافيزيقية، والمعرفية، والرياضية، والوجودية، سواء كان ذلك في الفضاء الفيزيائي، أو الإدراك البشري، أو حتى في الفلسفة الدينية والصوفية.
فمثلا تعتمد الرياضيات والفيزياء على مفهوم الأبعاد لفهم الفضاء والهندسة، اما الابعاد المعرفية فتنحو نحو إدراك الإنسان للأبعاد فيما إذا كانت الأبعاد مجرد تصورات ذهنية أم أنها كينونات مستقلة عن وعينا.
وفي علم المستقبليات والذي يقابله عالم الغيب (سواء غيب التاريخ ام غيب المستقبل) في القران يُنظر إلى الأبعاد بوصفها الاطار المفاهيمي لفهم الزمن والتغيرات المستقبلية، مثل الحديث عن “البعد الرابع” باعتباره الزمن، اما ما يخص فلسفة الدين والمعرفة الصوفية فترتبط مفهوم الأبعاد أحيانًا بالرؤى الروحية، مثل الابعاد الغير مادية للوجود، والعالم الغيبي، والعوالم الروحية، وأبعاد المعرفة الإلهية.
وقد نجد في القران نوافذ وجودية عديدة، يمكن وصفها بالابعاد، منها الابعاد التالية:
١- الزماني ٢- الغيبي ٣- المستقبلي ٤- الميتافيزيقي ٥- النفسي الباطني ٦- البعد المعرفي ٧- المادي ٨- العقلي ٩- المكاني ١٠- الروحي ١١- الاجتماعي ١٢- الوجودي ١٣- الانساني ١٤-الاعجازي.
واتصور ان مفهوم البعد يمثل جزءا من هوية الشيء، بمعنى ان يكون البعد الانساني الخاص بي او العلمي او بعدا الجسد والروح او بُعدي الذي يرتبط بالعالم الاخر او بُعدي الاجتماعي والنفسي والوجودي، الخ، كل هذه الابعاد اننا هي جزء من ماهيتي وهويتي، وقد يقال ان هذه ليست الا صفات للانسان او الموجود، ولعل ذلك يصح، لكن مفهوم البعد يعني الوجود الاخر المتميز لشيء ما.
حتى انه يمكنك ان تعد الموبايل بمثابة البعد الوجودي الالكتروني، وقد اصبح الجانب الإلكتروني اليوم، هو البعد الاهم، لانشغال الشعوب قاطبة به، ولفترات زمنية طويلة بالقياس الى معايشة العالم الواقعي، مما ولد فصلا وانعزالا عن ممارسة الواقع وامراض تتعلق بالنسيان والامراض البدنية والنفسية. وهذا البعد اصبح اشبه بالشخصية المعنوية، فوجودي في الفيس مثلا، اصبح واقعا يعتمد عليه، وهو بعد الكتروني يظهرني اكثر من وجودي الحقيقي للناس.
وساستعرض بشكل عجول بعض الابعاد الخاصة بالقران وهو الكتاب الخلاق الذي يقل بالتدريج الاهتمام به مع تطور العالم واتضاح افاقه، و الذي يتوجب قراءته بمخيلات خارقة متعددة وليس بالية الرتابة وعدم الاهتمام.
واعود للحديث عن الابعاد المختلفة فالبعد الزماني في القران، يتصف بالنسبية، فقد قال تعالى ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ (الحج: 47)، لكن لفظة الخلود تدل على بعد زماني مختلف، بمعنى انتقال الفرد من البعد النسبي في حياتنا المحدودة الى بعد اخر في حياة لا تنتهي، وهذا الامر لم نشهده بعد.
وقد يشترك البعد الزماني مع ابعاد اخرى مثل المكاني او الاعجازي او الغيبي، كما في تداخل حادثة الاسراء ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ (الإسراء: 1)
ومن الابعاد القرانية يبرز الغيب، فالقران يورد الغيب بقوله تعالى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ (البقرة: 3) وايضا “الروح” كبُعد غير محسوس قال سبحانه وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (الإسراء: 85)، وعن المستقبل وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ (الأنعام: 59) وتتداخل الابعاد هنا عند سؤال البعد المحسوس عن البعد غير المحسوس.
ان هيدكر يعد البعد الوجودي هو البعد الأساسي في حياة الإنسان في كتاب والزمان، فهو يرى أن الإنسان يعيش في حالة من الزمانية التي سيكون الماضي والحاضر والمستقبل جزء من وجوده وهذا البعد يتجاوز الزمن الفيزيائي إلى الزمن الوجودي، وقد لا يختلف هذا عن مفهوم البعد الوجودي عند سارتر وكيركيجارد، فهذا البعد يتعلق بأسئلة الوجود، الحرية، المسؤولية، والموت، والفلاسفة الوجوديون مثل سارتر وكيركغور يركزون على هذا البعد، اذ يعتبرون أن الإنسان يخلق معنى وجوده من خلال اختياراته وتجاربه.
وما يهمنا هنا هو ليس البعد الزماني، بل تداخل البعد الزماني مثلا بالبعد الوجودي وغيره في القران، وقد نوهنا ان الابعاد القرانية مفتوحة المصدر، فهي تتداخل وتتنوع وتتشابك، بوصفها منظومة متينة البناء، يقود بعضها لاكمال المشهد المعرفي والفكري والميتافيزيقي والتاريخي مع بعضها البعض، ولهذا فان بعض الابعاد قد تشمل مفاهيم مثل الروح، الخلود، أو الاتحاد مع الكون. او الخلق او المجتمع او التاريخ …الخ.
ولابد من الاعتراف بان مساحات حقيقة هذه الابعاد لم تكتمل لدينا نحن البشر البسطاء، ولهذا لايمكننا انتاج المعنى او العلم او المعرفة الافضل لكشف اسرار تلك العوالم او الابعاد. لانها ليست تجريبية ولاننا لم نرسمها وفق التنظير العلمي المبني على التجريد والبرهان.
ولا شك ان القرآن اورد عوالما متعددة تتجاوز عالمنا المادي، مثل عالم الملائكة، الجن، السماوات السبع، الروح، البرزخ، الجنة، النار، العرش، والكرسي. ويمكن وصف هذه العوالم بأنها "أبعاد" غير مرئية أو غير ملموسة للاخرين.
ان علم المستقبليات وايضا أينشتاين في الفيزياء او النظرية النسبية كبُعد رابع يكمّل الأبعاد الثلاثة للمكان، يستخدمان مصطلح “البُعد الرابع” كمفهوم رمزي للإشارة إلى الزمن بوصفه عنصرًا أساسيًا في تحليل التغيرات المستقبلية. لكن في المستقبليات، يتم استعارة هذا المفهوم لاستخدام الزمن كإطار لفهم التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتكنولوجية، في عوالمنا الواقعية وايضا استخدام نماذج الاستشراف، والتنبؤ السيناريوي، والتخطيط الاستراتيجي لفهم كيف يمكن أن تتطور الظواهر بمرور الوقت.
ولعل البعد المستقبلي في القران يحتاج الى وقفة اخرى بمقال اخر، فالقران تحدث عن النافذة المستقبلية، بل انه اعطى تصورا عن ابعد انواع الفهم المستقبلي بعد نهاية العالم وانهيار المنظومة الدنيوية، ليرسم بعد العالم الذي لا ينتهي، ويفصل بطبيعته وحياته الواقعية. مع هذا نجد القران يتحدث عن سيناريوهات واشارات مستقبلية مهمة مثل:
١-انتصار الروم على الفرس كما في {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (سورة الروم: 1-4). ٢- وفتح مكة (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ) (سورة الفتح: 27). ٣- وانتشار الاسلام (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ}** (سورة التوبة: 33). ٤-وعلامات الساعة (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَينَهُم يَومَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) (سورة المؤمنون: 101). ٥-وخروج ياجوج وماجوج وظهور عيسى.
ان العوالم في القران ليست الا الابعاد المختلفة، وهي ارخبيل معرفي غيب ولا يمكن توصيفها بدقة إلا بما عرفناه من النصوص الدينية التي عرفناها، لاننا لم نملك الادوات التي تجعلنا نخوض تلك التجربة، لكننا يتوجب علينا التنظير لتلك الابعاد وفق تجميع النصوص ومقارنتها وتحليلها، خذ مثلا عالم الملائكة وهم (عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (الأنبياء: 26-27). او عالم الجن وهم مخلوقات من نار، وهي غير مرئية لنا، ولكنها تعيش في عالم موازٍ لعالمنا {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} (الرحمن: 15).
وهذا البعد لم تناقشه الفلسفة لانها تعده من الاساطير في حين انه ينتمي الى الواقع واحيانا الى (الواقع المعزز الشخصي) لبعض البشر الذين يصابون بمرض الجن، فتتداخل العوالم لدى الفرد المصاب ليعيش في عالمين، وهو اقرب الى مشاكل المرض النفسي منه الى اللعبة والتسلية، ومثال ذلك ايضا التوحد وانفصام الشخصية، بل يمكنني اضافة تجربة الاحلام ايضا الى تلك المنظومة.
ان السماوات السبع والأرضين السبع هي عوالم وابعاد فيزيائية، وقد قال جل وعلى (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}** (الطلاق: 12). ولكن العملية ايضا تنتمي الى البعد الميتافيزيقي الغيبي. حتى ان النص هنا يتداخل مع البعد المعرفي والوجودي، وهذا يشمل منظومة خلق الروح، ذلك البعد الذي اشار له رب العالمين بانه يحتاج الى منظومة علمية خارقة (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (الإسراء: 85).
والروح هي بعد يرتفع عن المادة و يتعلق بالحياة والوجود.
ومثله مثل البرزخ، وقد قال الله سبحانه {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}وايضا الجنة والنار**
والعرش والكرسي و عالم الذر وهو البعد الوجودي الاول لاجتماع الناس مع خالقهم، وهو المعروف بعالم الذر، يقول الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ}** (الأعراف: 172).
ويمكننا ادراج الملاحظات الاتية:
١- الابعاد في القران تتوزع على بعد نسبي واخر مطلق، فدائرة الله وصفاته هي بعد لا يتناهى.
٢- البعد الأنطولوجي، وهو اهم الابعاد، يتوزع ايضا على محورين، الاول هو الأنطولوجيا النسبية، والاخرى الأنطولوجيا الخالدة وهي تمثل العالم الاخر.
٣- الابعاد المتعددة في القران تتركز حول الله والانسان، بين البعد المطلق والنسبي.
٤- تتداخل الابعاد فيما بينها، في عالمها الارضي وتتفاعل، ويحملها الانسان معه الى عالمه الاخر. فهي حصيلة وجوده وكينونته وماهيته التي لن تتغير، فكل نفس بما كسبت رهين.
***
ا. د. رحيم محمد الساعدي

الصفحة 1 من 7

في المثقف اليوم