دراسات وبحوث

دراسات وبحوث

رسم خريطة المشهد الذي تعيشه الأقليات في العالم العربي ليس سهلاً، وتحليل الوضع المعاصر الذي تواجهه هذه الأقليات أمر بالغ التعقيد، والنماذج أو الأساليب المتاحة لإدارة التنوع تحتاج مناهج مختلفة بما في ذلك الفكر الإسلامي التقليدي والحديث، والتعددية الثقافية الليبرالية، والتوافقية. ورغم أن لكل منها حدوده، فإننا نتبنى النموذج الذي يجمع بين نقاط القوة في كل منها، فهو لا يقدم الحماية القوية للأقليات فحسب، بل ويضمن أيضاً دمجها في بناء هوية وطنية متداخلة ومتقاطعة في الدول العربية. وعلى أساس التسامح والاعتراف، يسعى هذا النموذج إلى تقديم عملية قابلة للتطبيق من التكيف وإدارة الاختلاف، وهو الأمر الذي سيكون مطلوباً بشدة من أجل تيسير نظام أكثر ديمقراطية وتعددية في العالم العربي.

إن قضية الأقليات العرقية والدينية والمذهبية واللغوية بشكل عام تتسم بدرجة عالية من الحساسية، وينظر لها رغم أهميتها على أنها مسألة خطيرة، لذلك فإن مقاربة هذا الموضوع الشائك يحتاج الكثير من الدقة والروية والموضوعية والانضباط المنهجي، خاصة في ظل المرحلة الحالية التي تشهد عولمة اقتصادية وتوحش الرأسمالية الصناعية التي حولت أربعة أخماس سكان الكون إلى مستهلكين يلهثون خلف توفير مقومات الحياة التي حددت أنماطها ديكتاتورية الأسواق العالمية، بذريعة تحقيق الديمقراطية في المجتمعات الناشئة، وتحت شعارات حقوق الإنسان بشكل عام، وحقوق الأقليات بشكل خاص.

إن العناصر المتشابكة والتعقيدات التاريخية في مسألة الأقليات تشكل واحدة من أهم الصعوبات أمام أي باحث يتناول هذا الموضوع بالدراسة والتحليل، ويضعه أمام تحديات وخيارات دقيقة، فإما أن تكون مع الليبرالية الجديدة في الدفاع عن حقوق الإنسان بشكل عام، وحقوق الأقليات بشكل خاص، من خلال تبني براغماتية منفعية مقترنة مع دوغمائية لا تريد أن ترى إلا جانب واحد من الموضوع، وإما أن تكون في مواجهة التحديات، وأن تكون ضد إعادة ترتيب المجتمعات البشرية بما يتوافق مع المفاهيم الجديدة التي ينتجها الاقتصاد العابر للقارات، وبذلك قد تجد نفسك متهماً بتجاهل حقوق الأقليات والتفريط بها، أو التوجس منها في الحد الأدنى.

مشكلة الأقليات بعد الحرب العالمية الأولى

حتى إنشاء الدول القومية العربية في القرن العشرين، كانت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عبارة عن امتداد إسلامي حيث كان جميع المسلمين جزءًا من الأمة الإسلامية ويعيشون في نوع من الدولة الواحدة القائمة على الشريعة ويقودها خليفة. مع تفكك الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى وإنشاء القوى الاستعمارية في ذلك الوقت، بريطانيا وفرنسا، دولًا قومية جديدة، برزت قضية الأقليات في العالم العربي إلى السطح. لم تكن الدول العربية التي تأسست بضربة قلم ـ بما يتماشى مع المصالح البريطانية والفرنسية ـ كيانات سياسية متجانسة، بل ضمت أنواعاً مختلفة من الأقليات.  لقد أدى انبعاث روح القومية العربية في الدول القومية الجديدة، إلى ظهور احتكاكات بين الأقليات والأغلبية السنية، تحول إلى صراع يؤججه المستعمر الغربي لتحقيق مصالحه. كان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في أغلب الوقت، منقسمين بين حكام متخاصمين، على الرغم من أن المنطقة كانت مفتوحة أمام حركة الناس والبضائع.

مع إنشاء الدول الجديدة بعد الحرب العالمية الأولى كان من المتوقع أن تكون هذه الدول حديثة، ذات هوية مدنية وطنية منفصلة للدولة بأكملها، وأن تطور سياسة سياسية اجتماعية اقتصادية تضمن المساواة المعقولة لجميع المواطنين، والنمو الاقتصادي، والازدهار. هذا هو الأساس لإدارة كل دولة في العالم، والطريقة لمنع الصراعات التي تقوض الوحدة. هنا فشلت جميع الدول العربية.

بعد إنشاء الدول العربية مباشرة، وحتى قبل أن تحصل على الاستقلال الكامل، تنافست رؤيتان فيما بينهما فيما يتعلق ببناء الدولة وهوية مواطنيها: الرؤية الإسلامية والرؤية العلمانية الوطنية. بالنظر إلى مبادئهما الأساسية، كانت كلتا الرؤيتين بعيدتين عن أن تكونا مواتيتين للوحدة الوطنية وظهور دولة ديمقراطية متساوية. في كلتا الحالتين، كان تحقيق الرؤية يعني استبعاد مجموعات الأقليات المختلفة من النظام السياسي للأغلبية.

تقوم الرؤية الإسلامية على الدين الإسلامي الذي يحدد حكمها وبنيتها الاجتماعية. ووفقاً للرؤية القومية العربية العلمانية، فإن الدولة سوف تقوم على الجنسية العربية ـ أي أولئك الذين لغتهم الأولى هي العربية والذين يعتبرون الثقافة العربية ثقافتهم الخاصة. وبالنسبة للقوميين العرب العلمانيين، فإن أي شخص يلبي هذه المعايير يعتبر مقبولاً، وسوف يكون مواطناً يتمتع بكامل الحقوق بغض النظر عن الأصول العرقية أو الدينية.  وقد وضعت هذه الأيديولوجية المسيحيين، الذين كانوا منتشرين في مختلف أنحاء الدول العربية والذين اعتبروا أنفسهم في الغالب عرباً، ضمن مجتمع الأغلبية.  وفي الوقت نفسه، لم تترك هذه الرؤية الوطنية أي مجال للأقليات القومية أو الدينية للمطالبة بحقوقها كمجتمع منفصل، وهو ما يتعارض مع القومية.

من الناحية العملية، نشأ موقف حيث عملت قوتان معاً بجرعات مختلفة. ففي المرحلة الأولى، بعد تأسيسها، بذلت الدول العربية الجديدة جهداً لمعالجة مشكلة الهوية. وكانت الدساتير الأولى التي صيغت في مصر وسوريا والعراق في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، تحت تأثير بريطانيا وفرنسا، ليبرالية نسبياً ومنحت المساواة للمواطنين بغض النظر عن دينهم ـ على الورق على الأقل. ولكن كل هذه الدساتير أكدت أن كل دولة جزء من الوطن العربي وتعمل على وحدته، وأن الإسلام هو دين الدولة والشريعة الإسلامية مصدر التشريع. وقد أتاحت هذه الدساتير تعيين رؤساء وزراء من غير المسلمين السنة.

بدأت الروح الليبرالية نسبياً في التغير في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين مع فشل الرؤيتين في حل المشاكل الداخلية والخارجية للدول العربية. فلم تكن الاقتصادات تتطور؛ وكان الفساد مستشرياً. وفشلت الأنظمة العربية في منع قيام دولة إسرائيل. وقد شهدت هذه الفترة انتشار الفكر الديني والقومي في جميع دول الشرق الأوسط. وكانت النتيجة أن شهدت مصر وسوريا والعراق وليبيا والسودان انقلابات عسكرية زعمت أنها تعالج مشاكل المجتمع العربي. ووعدت الأنظمة العسكرية شعوبها بالتحديث والإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والتعليم الشامل. ولكن في غضون فترة قصيرة، تبين عجز هذه الأنظمة في الوفاء بوعودها، وبدلاً من ذلك تحولت تلك الدول إلى دكتاتوريات.

الدولة الديمقراطية

إن أحد ركائز الدولة الديمقراطية هو مبدأ المساواة الذي يعني في صيغته الموضوعية الحق في الاختلاف. يجب معاملة الناس على قدم المساواة، ولكن هل هذا يعني أنه من الضروري أحياناً معاملتهم بشكل مختلف لأن لديهم متطلبات مختلفة؟ إن ضمان مصالح الفئات المختلفة غير الممثلة، مثل مصالح الأقليات التي تتمتع بالحق في التعبير عن هويتها السردية الخاصة - المتعلقة باللغة، والثقافة، والدين، والتمثيل السياسي - حتى لو كانت تختلف عن رواية الأغلبية، تضمنه حقوق المواطنة في الدولة الديمقراطية التعددية التي تحترم التنوع بين مواطنيها. وهذا لا يعني فقط الحقوق السلبية، التي تستلزم درء التدخل من جانب السلطة العامة، بل وأيضاً الحاجة إلى فتح الباب أمام الإجراءات الإيجابية من جانب الدولة، استناداً إلى التمييز الإيجابي بين المجتمعات. وعلى هذا النحو، يترجم مبدأ المساواة الديمقراطية الشكلية (الأغلبية) إلى ديمقراطية جوهرية (دستورية). ومع ذلك، في السعي إلى تحقيق هذه الأهداف، قد يؤدي هذا المبدأ أيضاً إلى تغذية التوترات بين حكم الأغلبية وسيادة الدولة وحرية الأقلية في البقاء مختلفة. وهذا أمر أكثر وضوحاً عندما تتسم السياقات الاجتماعية بانقسامات واضحة للغاية.

تخضع الديمقراطية لمبدأها الأكثر فهماً على نطاق واسع، وهو حكم الأغلبية، والذي من خلاله تؤكد السلطة العامة على القوانين التشريعية متجنبة بذلك تفتيت المجتمعات المتميزة وإقطاع سيادة الدولة. ولكن عندما يقال إن هذه السيادة تعكس إرادة الشعب، فإن "الشعب" في الواقع يتم التعبير عنه من خلال الأغلبية، والتي غالباً ما تميل إلى استيعاب الهويات المختلفة، وبالتالي يقال إن هذه الديمقراطية لا توفر المساواة الحقيقية (الجوهرية) للأقليات، تستمر بعض المنظمات الدولية في الإصرار على انتهاك سيادة الدول القائمة وسلامة أراضيها، وبينما لا تزال أصداء النهج الاستيعابي قائمة، يُنظر إلى احترام حقوق الأقليات باعتباره أحد أعظم التحديات التي تواجه الديمقراطيات المعاصرة.

 بهذا المعنى، يجب تنفيذ مبدأ المساواة بطريقة تستوعب مطالب الأقليات وتحظر التمييز غير المعقول. وإذا كان الأمر كذلك، فإن مبدأ عدم التمييز لابد أن يغير طابعه من كونه مرتبطاً بشكل أساسي بمبدأ المساواة الشكلية إلى مبدأ عدم التمييز الذي يعكس أيضاً نهج المساواة الموضوعية. فضلاً عن ذلك، فإن مثل هذا النهج لابد أن يتطور في ضوء قضيتين مهمتين أخريين: حقوق الإنسان الفردية وطبيعة متطلبات الأقليات. فمن ناحية، فإن مبدأ المساواة يعني حقوق الإنسان الفردية، التي لابد من الاعتراف بها وضمانها على أي مستوى من مستويات المشاركة الديمقراطية ومن أي شكل من أشكال الاستبداد، بما في ذلك أشكال القمع التي تحدث داخل الأقلية. ومن ناحية أخرى، فإن طبيعة مطالب المجتمعات الفرعية واستجابات الدولة تختلف بشكل كبير من منطقة إلى أخرى إلى الحد الذي يجعل نفس السياسة، التي تبدو جذابة في سياق جيوسياسي، يمكن اعتبارها بشكل منهجي غير مواتية أو غير معقولة في أجزاء أخرى من العالم.

وتشكل مسائل حقوق الأقليات في العالم العربي أمثلة توضيحية على ذلك. لقد أدت هذه الأسئلة في الواقع إلى ظهور مجموعة كبيرة ومتنامية من الأدبيات، والتي ألهمت التحليلات المقارنة لقوانين الجنسية والأقليات العرقية والشعوب الأصلية فضلاً عن دراسات السياسات المثالية التي تحكم التنوعات في العالم العربي. ومع ذلك، هناك قيد شامل واحد. غالباً ما يبدو هذا الأدب غربياً أو عربياً عرقياً. وبالتالي، يتم المبالغة في بعض جوانب قضايا الأقليات ويتم التهرب من بعض الجوانب الأخرى أو تشويهها.

ثلاثة نماذج للمجتمعات البشرية

يشهد العالم خلال العقود الأخيرة عولمة اقتصادية- تؤسس لعولمة ثقافية واجتماعية- تعتمد على مبدأ توحيد الاقتصاديات الوطنية ودمجها في الاقتصاد العالمي الذي تسيطر عليه الشركات العملاقة، المتعددة الجنسيات- عابرة للقارات- التي تسعى خلف تكديس الثروات من خلال اعتماد سياسات اقتصادية تفترس الأضعف، وأهمها الشركات الأمريكية المنفلتة من عقالها.

وتستخدم هذه الاقتصاديات الثورة الإعلامية والتقنية والتقدم الهائل الذي حصل في قطاع الاتصالات وثورة المعلومات، وتوظفها من أجل تحقيق أهداف الاحتكارات الكبرى في تفكيك وتفتيت البنى الوطنية الاقتصادية منها والسياسية والاجتماعية والثقافية، وتمزيق روابط الدولة الوطنية، وتقويض ركائز الهوية القومية، من خلال أساليب متعددة، لعل أهمها هو محاولة إحياء الهويات ما قبل الوطنية بهدف جعلها بديلاً عن علاقات المواطنة التي هي أساس قيام الدولة الحديثة التي حلت قضية الأقليات حلاً ديمقراطياً.

ويمكن تصنيف المجتمعات البشرية  إلى ثلاثة نماذج من حيث التنوع الديني والمذهبي والقومي والعرقي واللغوي والثقافي.

 أولاً: هي المجتمعات التي تحتوي فسيفساء ومجموعات وكيانات غير قابلة للاندماج مع بعضها البعض. وثانياً: المجتمعات التي تضم مجموعات نقية من حيث العرق أو القومية أو الدين، وهي مجتمعات صافية لا وجود للأقليات فيها. ثالثاً: بين هذين الحدين تقع المنطقة التي تضم المجتمعات القائمة على التنوع والتعدد العرقي والديني والمذهبي وهي مجتمعات قابلة للاندماج فيما بين مكوناتها.

إن الدول العربية ـ باستثناء لبنان ـ يقع ضمن التصنيف الثالث، فالمجتمعات العربية تتسم بالتنوع الديني والمذهبي والعرقي والقومي واللغوي والثقافي، ورغم هذا التنوع والتعدد إلا أنها مجتمعات قابلة في ذات الوقت للانصهار والاندماج فيما بينها، تظل الحالة اللبنانية عربياً تحتاج إلى البحث عن حلول ومخرجات علمانية ديمقراطية جذرية، كي لا يظل الوضع في لبنان كالقنبلة الموقوتة تنتظر إشعال فتيلها.

لقد قطعت المجتمعات العربية خطوات مهمة في طريق الاندماج الاجتماعي والوطني لبناء دولة المواطنة الحديثة، وهذه المجتمعات كانت قد صدت كافة محاولات الاستعمار المباشر في تقسيمها إلى دويلات متناحرة، وظلت مع مرور الوقت عصية على التفتيت وحافظت على وحدتها الوطنية.

إن قيام الفكر القومي التقليدي ـ وكذلك القوميين ـ الجدد بتجاهل موضوع الأقليات، من خلال الهروب إلى الأمام وعجزه عن ملامسة ملامح الإشكالية، واتهام الخارج بأنه من يسبب الاضطرابات والأزمات الداخلية في بعض الدول العربية، متناسياً أن وجود الأقليات في هذه الدول أقدم من مرحلة الاستعمار، ويغيب عن هذه الأنظمة أن عدم وجود رؤية موضوعية للتعامل مع الأقليات ومع خصوصياتها هو ما يجعل من هذا الموضوع مشكلة، وأن المقاربات غير الديمقراطية هو ما يجعل من مسألة الأقليات أزمة داخلية، وهو ما يوفر عوامل انفجارها، ويمهد الطريق للتدخلات الخارجية.

نحن أمام قضية تعود جذورها التاريخية إلى مرحلة ما قبل الفتوحات الإسلامية، إن ظهور الإسلام وانتشاره انطلاقاً من شبه الجزيرة العربية لم يلغ الديانات والمذاهب التوحيدية الأخرى، بل جعل أتباع هذه الديانات في ذمة المسلمين، ذلك لأن الدين الإسلامي هو دين يقوم على التوحيد والوحدة والتعدد. إلا أن الانشقاق الذي حصل بين صفوف المسلمين على أثر معركة “صفين” أو ما يعرف بالفتنة الكبرى في العام 37 هجرية، كان من نتيجة هذه الحرب ظهور مذاهب إسلامية جديدة تعمقت الاختلافات فيما بينها مع الوقت حتى وصلت لقضايا العقيدة ذاتها.

ثم دخل الإسلام أمم وأقوام شتى، تعرّب بعضها واحتفظ بعضها الآخر بهويته الاثنية أو اللغوية الثقافية، وضمت الدولة ثم الإمبراطورية الإسلامية مللاً وديانات ومذاهب وقوميات وأعراق مختلفة ومتعددة، دخلت جميعها في النسيج الاجتماعي والسياسي والثقافي العربي الإسلامي بشكل كلي أو جزئي، واستمرت حالة التعايش بين هذه المكونات عقوداً طويلة، ومع قيام دولة الخلافة العثمانية ظهرت الدولة المركزية العسكرية وبدأت قضية الأقليات بالظهور وأخذ بعض أركان دولة الخلافة في تسييس هذا الموضوع الذي تعمق أكثر مع انهيار الخلافة العثمانية وظهور النظام الرأسمالي الذي ابتدع نظام حماية الأقليات، وجاء الاستعمار الكولونيالي لتنتشر سياسة  فرق تسد.

معزوفة حقوق الأقليات

إن مرحلة الاستعمار في العالم العربي شهدت تأثر المنطقة ببعض إنجازات الثورة البرجوازية الديمقراطية الأوروبية، ومنها قضايا حقوق الإنسان التي تم سنها في الدساتير الأوروبية، وتعامل الاستعمار مع الأقليات بصورة تظهره على أنه حامي مصالحهم ووجودهم، وفي بعض الدول حاول المستعمر دمجهم قومياً عبر تشريعات، لكن الأكثرية الإسلامية رفضت وتصدت لهذه المحاولات بسبب رفضها أساساً الاستعمار على أراضيها وبالتالي رفضها لأي سياسات يحاول فرضها عليهم، ثم إن الأكثرية المسلمة رفضت أيضاً محاولات الاستعمار في تغريب المسيحيين المشرقيين، هذا الأمر خلق نوعاً من التصادم  بين المجتمعات العربية المسلمة التقليدية، وبين الأفكار الغربية الديمقراطية، وهو ما أدى إلى تعقيد مسألة القوميات، ووضع العراقيل أمام الحلول الديمقراطية لاندماج هذه الأقليات بمجتمعاتها، وهكذا ظلت الدول العربية بعد حصولها على الاستقلال السياسي دولاً تضم مجتمعات تعاني من أزمات معلقة مربكة وملفات مفتوحة لا تتوفر ظروف معالجتها وإغلاقها، وأهمها قضية الأقليات.

 وهكذا وجدت هذه المجتمعات أنها غير قادرة على العودة إلى نظام الذمة القديم في عهد الدولة الإسلامية، ولا هي قادرة على القيام بثورة ديمقراطية تؤسس لمعالجة جذرية سلمية وعصرية وديمقراطية لقضية الأقليات، وهذا واحد من أهم الأسباب التي جعلت من هذه الإشكالية في العالم العربي أزمة طائفية طاحنة تلخص أزمة الأمة، وتحتوي فتيلاً قد يشتعل في أية لحظة ويحرق اليابس وما بقي من الأخضر في عموم المنطقة.

لكن ما الذي جعل من موضوع الأقليات في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يتضخم ويتخذ هذا القدر من الحدة القابلة للتفجر؟

بظننا أن الحقبة التي تم فيها اكتشاف البترول شكلت بداية ما أسميه سلسلة من الانتكاسات تعرضت لها عموم المنطقة، حيث أعقبتها استهدافات متتالية لم تتوقف لغاية الآن من قبل القوى الاستعمارية العظمى، هدفها السيطرة على ثروات المنطقة ونهبها وكذلك السيطرة على عقد المواصلات والمعابر المائية التي تضمن للدول الغربية استمرار تدفق النفط، ووصول بضائعها إلى الأسواق المستهدفة.

فظهرت شعارات “حماية الأقليات” و"حقوق الأقليات" وهي شعارات تعني أن هذه الأقليات مهددة من “الأكثرية”، ويصار إلى الإشارة للأقليات بالاسم الواضح من حيث العرق والدين والمذهب واللغة والثقافة والتاريخ، ويشار إلى أنه في المقابل توجد أكثرية كتلة واحدة كبيرة ومتجانسة تهدد الأقليات الصغيرة والضعيفة.

لكن في واقع الأمر ليس هناك أكثرية واحدة في العالم العربي، ولا يوجد أقليات ثابتة من حيث التنوع السياسي والاجتماعي والثقافي، ولا يمكن تصوير الأمر على أنه لدينا أقلية تواجه أكثرية ثابتة.

إن الواقع في المنطقة يشير إلى وجود أكثريات وأقليات متنوعة بتنوع المعايير والمقاييس التي يعتمدها طرف من الأطراف للتمييز فيما بين هذا التنوع. فإذا كان معيار التمييز إثني قومي كانت الأكثرية عربية والأقليات أمازيغية، وكردية، وأرمينية، وآشورية، وسريانية، وتركمانية، وشركسية، وشيشانية. وإذا كان المعيار دينياً فإن الأكثرية مسلمة، والأقليات مسيحية، وايزيدية، والصابئة، المندانيون، واليهود. أما إن كان المعيار مذهبياً فالأكثرية سنية، والأقليات درزية، وعلوية، وشيعية، واسماعيلية.

يوجد في الوطن العربي تعدد وتنوع، واختلاف وتعارض، في الوطن العربي جماعات قومية ولغوية ودينية وثقافية ومذهبية وعرقية واثنية وطوائف وطرق صوفية وغير ذلك. لكن المهم والأهم الإيمان بأنه لا وجود لتعدد وتنوع من غير وحدة، ولا وجود لاختلاف وتعارض من غير تماثل وتشابه. وهذه الرؤية تجاهلها المستشرقون وتجاهلها الغرب ويتم تجاهلها من قبل المستغربين الجدد الذين شرعوا في التقوقع داخل مجتمعاتهم، وقاموا بهدم الجسور التي تربطهم مع الشرائح الاجتماعية الأخرى” الأكثرية” بدلاً من تعزيز وتقوية قنوات التواصل، وبدأوا بالتحريض ضد ما يعتبرونه الأكثرية لإثارة الفتنة بين مكونات هذه المجتمعات بهدف تمزيق أواصر ترابطها كخطوة نحو المطالبة بالانفصال. بل أن بعضاً من مكونات الأقلية في الوطن العربي ذهب لإقامة اتصالات مع الكيان الصهيوني عدو الأمة العربية، بذرائع واهية. وتم رفع العلم الإسرائيلي في عدة مناسبات تخص تلك "الأقليات" سواء في البلدان العربية، أم في بعض الدول الأوروبية.

إن حقوق الإنسان بظننا لا تستقيم دون احترام قيم الوحدة والتماثل، ولا يمكن أن تكون مفاهيم حقوق الإنسان قضايا انتقائية على الطريقة الأمريكية، لأن البشر مختلفون منذ الأزل وسوف يظلون كذلك، لكن تجمعهم الإنسانية، فمن يقول إن الأمازيغ في دول الشمال الإفريقي ليسوا فقط مختلفين عن العرب، بل مختلفين حتى فيما بينهم أيضاً؟

ومن يقول إن العرب مختلفون فقط عن الأكراد على سبيل المثال، بل هم أنفسهم مختلفون كعرب فيما بينهم؟

وكذلك حال المسيحي، والدرزي، والآشوري، والتركماني، والأرمني، والشيعي، والعلوي، جميعهم مختلفون عن الآخرين لكنهم أيضاً مختلفون فيما بينهم بنواح عديدة.

كل هذه الاختلافات بين ما يسمى الأكثرية والأقلية، وبين مكوناتهما هي اختلافات طبيعية وموضوعية وإنسانية، لكنها تفترض المساواة أخلاقياً، وسياسياً، وقانونياً. فلولا هذه الاختلافات لما كانت هناك حاجة إلى المساواة، فالاختلاف يستدعي ويتطلب مساواة سياسية واجتماعية وحقوقية أمام سلطة القانون في دولة منية حديثة، دولة المواطنة التي ترعى جميع مكوناتها دون تمييز.

اختلاف يعزز الاتحاد

إن المساواة البشرية في الحقوق والواجبات في هذه المجتمعات لا تعني بأي حال إلغاء الفروق بين مكونات المجتمع، لأن إلغاء الفروق يؤدي إلى العدم والقفز في الهواء. فالمساواة الوطنية أمام القانون هو مفهوم قائم على مبدأ تساوي الجميع انطلاقاً من مبدأ المواطنة. والعلاقة بين المساواة والاختلاف هي نفسها العلاقة بين الذات والوجود، ومن هنا فإن قضايا حقوق الإنسان برمتها يمكن مقاربتها ضمن سياق هذه المفاهيم الديمقراطية، وما حقوق الأقليات سوى غصن من الأغصان.

إن الاختلاف بين المكونات المجتمعية في الوطن العربي كما بقية العالم هو واقع موضوعي، والعبرة تكمن في إدراك الأقليات لاختلافهم بشكل علمي وحضاري وديمقراطي ضمن إطار دولة المواطنة، باعتبارهم مواطنين على ذات الدرجة من المساواة في الحقوق والواجبات مع الأكثرية، وليس باعتبارهم أقلية عرقية أو دينية، ودون إذكاء الروح القومية والعصبية لديها، والنظر إلى الاختلاف لتعزيز الاتحاد مع بقية المكونات. وإدراك الجماعات الأخرى لهذا الاختلاف واحترامه، والعمل سوياً من أجل تعزيز التلاحم الوطني الداخلي فيما بينهم.

إن حرمان الأقليات من حقوقها من قبل الأكثرية من شأنه أن يؤدي إلى عزلة هذه الجماعات عن المجتمع، ويولد لديها وضدها نعرات قومية ودينية، وقد تبدأ هذه الأقلية في بناء الأسوار كي تحمي نفسها وتحاول أن تحفظ حقوقها ومصالحها، لكنها سوف تجد نفسها سجينة داخل هذه الأسوار، وهكذا تنشأ الحواجز الاجتماعية فيما بين الجماعات المكونة للمجتمعات، وتنغلق هذه الجماعات على نفسها، حينها لا يمكن أن ترى هذه الجماعات سوى مصالحها الخاصة، ولا ترى في مصالح الآخرين سوى أنها عقبات وإشكاليات يتوجب إزالتها، وهكذا تنمو مصالح ومفاهيم جديدة يصبح مع الوقت من الصعب إدماجها في المجتمعات.

 وهنا تبدأ الإيديولوجيات المنغلقة بالظهور، وتجد من يعمل على نشرها وترويجها، وتجد العديد من الناس ممن لديه الاستعداد للقبول بها على أنها حقائق ومسلمات. متغافلين عن البديهيات التي تؤكد أن العلاقات الاجتماعية دوماً تحتوي في طياتها آليات معقدة وعناصر متعددة ومركبة، تتضمن قابليات التماثل للاندماج والوحدة، وكذلك عوامل التنافر والإقصاء. ولذلك فإن مسألة الأقليات ليست مرتبطة بكيانات منغلقة ومنعزلة، ولا بهويات ثابتة، ولا بمكونات حجرية، بل إنها ترتبط بنمط وشكل العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية ومستوى تطور هذه العلاقات، وكذلك بمستوى الوعي الاجتماعي والحياة المدنية في هذا المجتمع أو ذاك.

التعددية الثقافية اللبرالية

تظهر مسألة الأقليات في العالم العربي كأنها وميض الجمر تحت الرماد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مع ملاحظة أهمية إيجابية الخطوات التي قطعتها المملكة المغربية بمقتربة هذا الملف خلال العقدين الماضيين

وشهدت السنوات الأخيرة تزايداً ملحوظاً في الحديث عن قضية الأقليات في المنطقة العربية، ورغم استقرار المجتمعات العربية عموماً، إلا أن استمرار الغرب المستعمر في العزف على وتر الأقليات يعود إلى فشل الأنظمة السياسية في المنطقة في إجراء مقاربات موضوعية وديمقراطية لهذه الإشكالية التاريخية، وبالتالي عجز هذه الحكومات عن تقديم حلول جذرية لهذه القضية بدلاً من المحاولات المستمرة لاحتوائها، وتجاهل الأسباب الموضوعية الكامنة خلفها.

وهناك أسباب أخرى متعلقة بظهور خطاب قومي متطرف ومتشدد لدى بعض قادة الأقليات يدعو إلى الانفصال عن الدولة الأم، ويتبنى العنف في مواجهة الدولة، ويحرض على عدم الاستقرار السياسي، الأمر الذي يولد خطابات متطرفة من الجانب الآخر، وهو ما يدخل هذه المجتمعات في دائرة الفوضى والفشل.

إن الاكتفاء بالمقاربات الأمنية فقط لمعالجة قضية الأقليات، دون الالتفات إلى خلفيات ومسببات الاحتقان الاجتماعي لدى الأقليات، سوف يؤدي إلى تراجع هذه القضية ثم إلى ظهورها مرة أخرى بشكل أزمة أشد خطراً مما كانت عليه.

إن الأقليات في هذه المنطقة جزء مهم ومكون رئيسي من هذه المجتمعات التي يفترض أن تستمد قوتها من تعددها الديني والعرقي واللغوي والثقافي، ويجب أن يكون هذا التنوع  سبباً لإثراء الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإغناء لقيم المواطنة والتسامح والانفتاح، بدلاً من الانغلاق والتعصب والشعور بالدونية أو التعالي.

يحتاج الفكر القومي إلى التحرر من هاجس وعقدة المؤامرة، كي يتمكن من تأكيد الطابع الإنساني للأكثرية. وتحتاج الأقليات إلى التحرر من عقدة الاضطهاد كي تتمكن من بناء الدولة الحديثة مع الأكثرية، باعتبار الجميع مواطنين متساوين أمام القانون في الحقوق والواجبات، حيث تصان كرامة الجميع وحقوقهم الأساسية في دساتير لمجتمعات متمدنة لا فضل فيها لأحد على أحد.

إن التفاعل بين التقاليد المحلية للتعايش والخطابات العالمية للتعددية الثقافية لابد وأن يعمل على نحو ثنائي: فلا ينبغي لنا أن ندرس فقط كيف يتم استخدام الخطابات العالمية أو الطعن فيها داخل العالم العربي، بل وأيضاً كيف تعمل الأصوات العربية على تشكيل الخطابات العالمية. ومع ذلك فإن التجربة تشير إلى أنه ليس من السهل تحديد الأصوات العربية داخل مخطط غربي مُصاغ مسبقاً للتعددية الثقافية الليبرالية. فذا كان للتعددية الثقافية أن تكون ذات صلة، فلابد من إعادة صياغة علاقتها بالليبرالية لتوضيح أن الليبرالية لها الأولوية، وأن تأمين البنية الأساسية للديمقراطية الليبرالية يأتي قبل السعي إلى ديمقراطية ليبرالية متعددة الثقافات على وجه التحديد. وهذا أمر ضروري لكل من العالم العربي والغرب. وإذا لم تتمكن التعددية الثقافية في العالم العربي من ترسيخ جذورها حتى يتوفر الحد الأدنى من الديمقراطية الليبرالية، فمن الصحيح أيضاً أن التعددية الثقافية في الغرب تواجه ردود فعل عنيفة عندما يُنظَر إليها على أنها تبتعد عن المبادئ الليبرالية الأساسية.

***

الدكتور حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

أعطينا تجربة الشاعر في المقال السابق النصيب الأوفى من حيث الدلالة الفنية، وقاربناها بتجربة الصوفي من حيث الدلالة الذوقيّة، وفي هذا المقال سوف نراجع خلال هذه العناصر ما كنا توقفنا عنده لنكمل خصائص التجربة الصوفية في ملامحها العامة.

(1) استدراك في استهلال:

في المقال السابق تحت هذا العنوان تحدثتُ عن الطبيعة الفنية لدى الشاعر المطبوع كونها تقترب من التجربة الصوفية عند الصوفي الكبير، تأخذ عنها وتتوحد بها حتى لا يكاد أحد أن يُفرّق بينهما، يظهر هذا في العلاقة بين الحب والموت، وهو ممّا لا شك فيه ولا خلاف عليه.

إنّما الأمرُ هنا لا يتوقّف عند حدّ العلاقة بين الحب والموت وكفى، بل يتعدّاه إلى ما بعده، وهو بقاء القصائد الشامخة في الوجدان الراقي، الصافي النقي، لتشرح العلاقة بين الحبّ والموت، وتجلو الصلة القويّة بين الحبّ الحسّي والحبّ الروحي، إذ كان الأول مقدّمة للثاني. ولا يفهم من الثاني (الحب الإلهي) إلا ما يستقر عليه الفهم حقيقةً من الحب الأولىّ، (الحبّ الحسيّ)، فلم تبدع رابعة العدوية في ميدان الحبّ الإلهي إلا بعد تجربة ممضّة مع الحبّ الحسيّ، ولم تكن الصبابة التي يعانيها المحبُّون في الأودية الحسية إلا مذاقاً إنسانياً صادقاً من ظلال التجربة الروحيّة، هذا ما ذكرته بنصه وحرفه في المقال السابق.

ثم ذهبت استطرد في الحديث عن العلاقة الظاهرة بين الحب الحسي والحب الروحي موضحاً أنّ المحبين في عوالم المحسوس هم أنفسهم المحبُّون في عالم المعقول، أو في عالم الروح. وأنّ معاناة التجربة في ميدان المحبّة الحسيّة هى نفسها معاناة التجربة في ميدان المحبّة الروحيّة، وأنّ القادرين على تذوق الحبّ الحسّي هم أنفسهم القادرون على تذوق الحبّ الإلهي من وراء الأشباح والظلال.

فارقُ التجربة الشعوريّة عندي هو التوجُّه، ولكن نهايات التجربة في الحبّ الحسّي تكون في الغالب بدايات التجربة في الحبّ الروحي الخالص، وربما يختلط الأول بالثاني وليس من ريب، وتكون التجربة واحدة، وتزول الفوارق الشعوريّة بين التوجُّهات وتذوب، فلا يعرف المُحب في أي واد من الأودية يتوجّه فيُسلم لها قياده؛ لأنه لا يلمس فارقاً باطناً في أصل المحبّة ولا يكاد يقف عليه.

وضربتُ المثال في المقال السابق بشعراء بني عُذرة كجميل بثينة، وقيس لبنى، وغيرهما من شعراء التبتُّل والعفّة، إذ كانوا أكثر الناس دلالة على هذا النوع بالحبّ إلى الموت؛ لوجود علاقة رُوحيّة صافية بين الحبّ في الأودية الحسيّة والحبّ في الأودية الروحيّة. وذكرت على سبيل الجزم واليقين أنّ صبابة العشّاق لوعة مُخامرة هى نفسها تكاد تكون الصبابة التي يعيشها أصحاب الأذواق والمواجيد.

وقلتُ إنّ الحُبّ الإلهي أصلُه في الإنسان محبّة جزئية محدودة بوقوف الهوى على المُحبّ - أي اقتصار المُحب على من يحب - تفاصيلها نزوع الوجدان إلى الأصل، وكلما اقتربنا من الأصل زالت الفوارق وذابت الحواجز والمحاجيب، وحلّت من ثمّ الوحدَة محلّ التعدُّد والكثرة، فليس يبقى إلّا الواحد على الدوام.

(إنّ الغرام هو الحياة، فمُت به صَبّاً، فحقّك أن تموت وتعذرا)

هكذا كان ابن الفارض يقول. ومنه يتبين كما يتبين من زملائه شعراء الصوفية أمثال ابن عربي والحلاج أو من شعراء الصوفية الفرس أمثال جلال الدين الرومي وفريد الدين العطار وعبد الرحمن جامي ومحمود شبستري أن الحب في أتمّ معانيه هو: الإفصاح عن أقوى النزعات الروحيّة في الإنسان، واتجاه هذه النزاعات نحو الأصل الذي صدرت عنه، نحو الله تعالى.

هذا ظل ثابت في وجدان العشاق من ظلال التجربة الصوفية لا يمكن تغافله أو صرف نظر الدارس عنه بحال، لأنه يمثل في الروح الإنساني أشجان أتراحها وأفراحها، أوجاعها ومكامن غبطتها.

وعليه، فلا يوجد صوفي واحد له رأي أو مذهب أو أثر من آثار الكتابة والتدوين ولا تكون له تجربة روحيّة ينطلق منها ويعتمد عليها ويتذوق آثارها فيما يرى أو يقول؛ فلئن فاتته التجربة فلم يستطيع خوضها وركوب متاعبها؛ فلا يخلو من شرط التعاطف معها على أقل تقدير.

ولأجل هذا تجئ التجربة الصوفية دائماً أسبق لدى الأولياء والعارفين من الفكرة الفلسفيّة. وما الفكرة الفلسفية في ظلال التجربة الحيّة المعاشة إلا بمثابة شرح العقل النظري لتجارب العمل والإنشاء في إطارها. ولولا وجود التجربة الصوفيّة معتمد الأولياء والعارفين ما صَحَّتْ على الإطلاق أذواقهم ولا مشاربهم ولا أحوالهم، وما صَحَّ لهم حال ولا سرُّ ولا معرفة ولا علم ولا نظر، بل ولا مذهب ولا نظرية ولا رؤية ولا استقام لهم طريق؛ إذْ التجربة الصوفية مناط الثورة الروحيّة في الإسلام ومستندها الفاعل بغير شك، وأساس الثمرة المرتقبة من وراء المذاهب والآراء.

(2) التجربة الصوفية كثورة روحيّة:

الحقيقة بعد كتابة المقال السابق وبعد الفراغ من مراجعته، وقع نظري على كتاب (التصوف: الثورة الروحيّة في الإسلام) للدكتور أبي العلا عفيفي، وهو كتاب من الأهمية بمكان بحيث لا يمكن لباحث في التصوف الإسلامي أن يستغني عنه، كتاب مهم مكتوب بوعي مع حب، وتجربة حقيقية لا زيف فيها، وهو مصقول بخبرة واعية مع تراث الصوفيّة، يكفي فقط أن تقرأ فيه هذه العبارة:" ولنتذكر دائمًا أننا ونحن نكتب عن الصوفية وأحوالهم الغريبة وأطوارهم العجيبة، إنما نرقب الركب وهم يسيرون في طريقهم إلى غايتهم، ونحاول أن نقف - كلما أمكننا الوقوف - على البواعث التي تدفعهم إلى سفرهم، وأن نتعرّف الشعاب والدروب التي يسلكونها، والزاد الذي يتزودون به، واللغة التي يصفون بها الطريق، والغاية التي يصلون إليها. كل ذلك من غير ادِّعاء من جانبنا أننا نسير في ركبهم أو أننا نعرف دخائل أسرارهم أو نُترجِم عن حقيقة أحوالهم، فإنّ المترجم عن أحوال الصوفية هو الذي يُعاني ما يعانون، ويجرّب ما يجربون من الأحوال والأذواق".

أقول؛ يكفى فقط أن تقرأ هذه العبارة الخلابة لترى مقدار التعاطف مع الصوفية، ومقدار الأدب الجم الذي تمتع به الكاتب وهو يحدثنا حديث الوجد (منهجاً) عن الكتابة في الصوفية جليّاً، ويصف معاناتهم الروحية ومنازلاتهم الشعوريّة في غير ادّعاء من جانبه بالوقوف على حقيقة تجاربهم أو معرفة دخائل أسرارهم، لا بل فقط ما هو إلا باحث عن حقيقة أحوالهم يرقب الركب وهم يسيرون في طريقهم إلى غايتهم ليس إلا، فكما كتب "الكلاباذي" قديماً كتابه "التعرف لمذهب أهل التصوف"، لا لشيء إلا ليتعرّف فقط مُجرد تعرف على أحوال القوم وعلومهم، كذلك يأتي الدكتور عفيفي رحمه الله، ليتابع نهج أسلافه من كبار العارفين، ليقول إنه يرقب الركب، ولا يتعدى، ولا يدعي أنه يترجم عن الحال؛ فإنّ المترجم عن أحوال الصوفية هو ذلك الذي يعاني مثل ما يعانون من الأحوال، ويجرب مثل ما يجربون من الأذواق.

تواضع تصحبه معرفة. وحدها هذه العبارة تترجم عن عقل كبير وذوق بصير وطوايا نظيفة، عبارة لا يقولها إلا الدكتور عفيفي طيّب الله ثراه أو مَنْ في طبقته.

لم تكن هي المرة الأولى التي أتوقف فيها أمام كتاب الدكتور أبي العلا عفيفي، رحمه الله رحمة واسعة، (التصوف الثورة الروحية في الإسلام)، بل طالعته عدة مرات بما لا أدري حصره، ونقدتُه كثيراً كما استفدتُ منه كثيراً. واعتبرته منذ سنوات طويلة المرجع الأصيل للدراسات الصوفية الأكاديمية الخالصة، ولم أعتبر سواه من كتب الأدعياء والمتطفلين، لأن هذه الكتب على تعددها تنقصها الذائقة كما ينقصها عنصر الكمال الذي سبقت الإشارة إليه في تناول علوم الصوفية، والتحقق من تجاربهم، وتذوق لغتهم وإشاراتها، ثم التعاطف المشبوب مع معاناتهم الروحيّة.

كتب ينقصها الإخلاص، كما ينقصها الفهم والتخريج، ويزيدها فقدان إعمال المنهج نقصاً على نقص مع ظلمة في الوعي وعقم في البصيرة. كتب تخبط في كثير ممّا تتناوله بالبحث والدراسة خبط عشواء، فهي - من ثم - ليست حقيقة بالوقوف عندها لمجرد شهرة أصحابها أو حتى لدعواهم في هذا الفن بالاختصاص.

كان أول ما طالعته من كتابات الدكتور عفيفي، رحمه الله، تعليقاته على فصوص الحكم لابن عربي، ثم قرأت كل ما كتب حرفيّاً، ومع إعجابي بكتاباته منهجاً ورؤية، لم أكن معجباً بنزعته الأكاديمية الحادة، ولا بتطبيق مناهج المستشرقين تطبيقاً حرفياً على تراثنا الصوفي الإسلامي. ولكنني في المجمل أقدّره وأعرف قدره، وحين أجد رأياً فيما يكتب بعيداً عن الصواب لا أتردد في نقده، غيرةً على مكانته وعرفاناً بمناقبه.

كنتُ قد أهديت له كتابي (التجربة الصوفية) وهو من الكتب التي أعتز بها أيما إعزاز، صدر في العام ٢٠٠٢م، وحين كنت طالباً في مرحلة الماجستير والدكتوراه كنت أحب أن أسمع كثيراً من أستاذي الدكتور عاطف العراقي عليه رحمة الله، الحكايات المشوقة عنه، وكنت دائماً ما أذكّره به فيحكي لي عنه، ويقول كلما رأيتك تذكرت الدكتور عفيفي، ويستطرد في حديثه عنه ويقول: كان في أيّامه الأخيرة يفتقدونه فيبحثون عنه، وبعد عناء من البحث يَجدونه جالساً في استغراق في مقام سيدنا الحسين بالقاهرة.

كان الدكتور عاطف العراقي عقلانيّاً لا يؤمن بجذبات الحق للصوفيّة، وكلما يذكر هذه الحكاية ينفجر ضاحكاً ويشير إليّ ويقول: مصيرك تصبح مثله؟! وكنت أبادله الضحك لكنه الضحك الذي ينتهي في النفس بلوعة أسيانة عندي. سبحان الله! أكاديمي درس المنطق والفلسفة، وأخلص في دراسة التصوف فيجذبه الحق إلى رحاب الأصفياء. وأي جذبة روحية تلك عامرة بفيض اللقاء لا يتمناها مخلص؟!

يرى الدكتور عفيفي - طيب الله ثراه - إنّ المحور الذي يدور حوله بحث الباحثين في الحياة الصوفية هو "التجربة الصوفية" التي أطلق عليها الصوفيّة أنفسهم اسم "الحال"، ووصفُوها بأنها المنزلة الروحية التي يتَّصل فيها العبد بربه، أو يتَّصل فيها المتناهي باللامتناهي، كما وصفوها بأنها المنزلة الروحية التي يحصل لهم فيها الإشراق، ويفيض عليهم فيها العلم الذوقي.

وليست هذه الحال من أحوال العقل الواعي، وإلا كانت خاضعة لحكم العقل وقوانينه، وإنما هي حالة من حالات الوجود الباطن المتحفز للإعلان عن نفسه في كل ضروب النشاط الروحي.

بعبارة أخرى، هي حال من أحوال "الإرادة"، والإرادة هنا بمعنى مُطلَق النزوع لا بمعنى الاختيار. واتصال الإرادة المتناهية بالإرادة اللامتناهية، وانمحاؤها فيها هو ما عبَّر عنه الصوفية تعبيرًا دقيقًا باسم الفناء في الله.

(3) القلب لا العقل:

القلب أو المعرفة القلبية لا العقلية رمز من رموز الحقيقة المجهولة المغيبة التي لا يكاد أحد يعرف شيئًا عن كنهها. في التجربة الصوفية تتحدَّد الإرادة الإنسانيّة مع العاطفة في الرغبة الملحَّة التي تدفع بالنفس دفعًا إلى تجاوز عالم الحس والعقل إلى عالم تتصل فيه عن طريق الحب إلى محبوبها الأول الذي تدركه النفس بالذوق كما يقول الصوفية، أو تدركه في النفس حاسة مُتعالية كونية Cosmic Transcendental Sense كما يُسميها علماء النفس الحديثون.

أمّا أن هذه الحاسة "كونية"؛ فلأنها تدرك الوجود في كليته وإطلاقه ولا يَحجبها عن هذا الإدراك الصفات المشخصة للأشياء، وهي الصفات التي ترجع من جهة إلى عمل الحواس الظاهرة، ومن جهة أخرى إلى الأساليب العقلية لإدراكه.

وأمّا أنها متعالية وفوق الطبيعة؛ فلأنها تتجاوَز بطريقة لا يُعرفُ كنهُها حدودَ العالم الطبيعي وقيوده إلى عالَم تنمحي فيه صفات الذاتية الفردية مثل "الأنا" واﻟ "نِّي" واﻟ "ي" (ياء المتكلم) وهي ما يجعل الإنسان ذلك الكائن المتناهِي المحدود.

ولم يهتد علم النفس القديم ولا الحديث، كما لم يهتد الصوفية أنفسهم إلى معرفة كنهِ هذه الحاسة الغريبة، ولا إلى موضعها من الحياة الروحية، وإن وصفها الجميع - أو بالأحرى وصفوا مظاهرها ووظائفها - بصفات متقاربة، فهي تعقل نوعًا ما من التعقل، ومع ذلك ليست هي العقل الذي نعرفه، وهي تنزع نحو موضوعها وتتعشقه إلى درجة الفناء فيه؛ أي إن فيها عنصرَي (الإرادة والوجدان) كما قلنا، ولكنها مع ذلك ليست الإرادة التي نعرفها، ولا هي واحدة من العواطف التي لنا عهد بها.

فهي حاسة عاقلة مريدة وجدانيّة مختلفة تمام الاختلاف عن الحواس والقوى العقلية الأخرى التي ندرك عملها في حياتنا الشاعرة، وهي وإن كانت موجودة في كل إنسان بالقوة، فإنها لا توجد في كل إنسان بالفعل، ولم يحدثنا عن وجودها سوى ذلك الصنف من الناس الذين بلغت فيهم الحياة الروحية أوج كمالها.

وتلعب العاطفة دورًا له خطورته في "التجربة الصوفية"، وإلى عنصر العاطفة فيها ترجع مظاهر الشمول والاستغراق والفناء، وما إلى ذلك من الصفات التي تتمثل في وحدة الطالب والمطلوب، أو المحب والمحبوب. فالتصوف كالفن لا وجود له بدون العاطفة الجامحة. وإذا حصرنا النشاط الروحي في الإنسان في اتجاهين كما يقولون: اتجاه نحو حب الحقيقة، واتجاه نحو معرفتها، كان التصوف هو الميدان الوحيد الذي يلتقي فيه الاتجاهان على أتم وجه؛ لأنه يمثل تعطش الروح إلى الاتصال بالله، وفي هذا الاتصال يجتمع الحب والمعرفة في تجربة واحدة.

وقد أطلق الصوفية على هذه الحاسة المتعالية اسم "القلب"، والسر، وعين البصيرة"، وما إلى ذلك من الأسماء التي لا تعدو أن تكون رموزًا لحقيقة واحدة نَفترض وجودها ولا ندري من كُنهِها شيئًا. فلنُسمِّها إذن باسمٍ واحد هو القلب (إذ لا عبرة بالأسماء)، ولنحاول أن نعرف كل ما يمكن أن نعرفه عنها وعن صفاتها وخصائصها من أقوال الصوفية أنفسهم.

(4) الإرادة لا العقل:

إذا كان القلب - لا العقل - هو أداة المعرفة الصوفية، فإن الإرادة لا العقل كذلك هى مناط التحقق بالاتصال الإلهي، ولا يمكن للعقل أن يبلغ ما تبلغه الإرادة في طريق العرفان. لقد ساء بعض الباحثين ألا يجعلوا للعقل قيمة في المعرفة الصوفية فتقرر لديهم وهم وجوده فاعلاً في التجربة وهو ليس له دور ولا غاية فيها على الإطلاق. إنمّا الدور والغاية للإرادة لا للعقل. ربما جاء دور العقل في مرحلة لاحقة تكون بعد انتهاء التجربة نفسها من حيث قدرته الشارحة لما تبقى في ذاكرة العارف منها، لكن وجوده الفعلي أثناء التجربة مستحيل.

وقد اعتبر صوفيةُ المسلمين الإرادة - لا العقل - جوهر الإلهيّة، كما اعتبرُوا الإرادة - لا العقل - جوهر الإنسان.

فالإرادة عندهم نقطة الابتداء من جهة، ونقطة الانتهاء من جهة أخرى؛ إذ بالإرادة وحدها يُثبتون وجودهم، وعن طريق الإرادة وحدها يتصلون بمطلوبهم أو يصلون إلى مطلوبهم وهو الله.

فالصوفي لا يقول كما قال ديكارت: «أنا أفكر، وإذن فأنا موجود» بل يقول: «أنا أريد، وإذن فأنا موجود» ولكن إرادته - في نظره - ليست على الحقيقة الإرادة الإنسانية المتناهية، بل الإرادة الإلهية المُطلَقة؛ لأنه فانٍ في الله، متحققٌ (في حاله) بوحدته الذاتية معه، يرى كل ما يجري في نفسه وفي الكون الذي حوله مظهرًا من مظاهر الإرادة الإلهية؛ لأنه لا فاعل في الحقيقة إلا الله، ولا مريد في الحقيقة إلا هو.

بل إن "المعرفة" التي أطلق عليها متصوفة المسلمين اسم "الذوق" ليست هي الأخرى عملًا من أعمال العقل الواعي ولا مظهرًا من مظاهره، بل هي مظهر من مظاهر الإرادة والوجدان، مظهر من مظاهر الاتصال الروحي الذي هو أشبه بالاتصال البدني؛ ولهذا لا تخضع المعرفة الذوقية لمقولات العقل ولغته ومنطقه، بل لها لغتها الخاصة ومنطقها.

والصوفية لا يتردَّدون في القول بأن العقل ومقولاته حُجب كثيفة تحول بين الإنسان وعالم الحقيقة، وأنه لا بد لمن ينشد المعرفة الذوقية الخالصة من أن يتجرَّد عن العقل وأساليبه وحيله ويتحقق بمقام الإرادة الصرفة.

يقول الشيخ محيي الدين بن عربي في كتابه "فصوص الحكم" في شرح هذه المسألة:

(فمن أراد العثور على هذه الحكمة، فلينزل عن حكم عقله إلى شهوته، ويكن حيوانًا مطلقًا حتى يكشف ما تكشفه كل دابة ما عدا الثقلين؛ فحينئذٍ يعلم أنه قد تحقق بحيوانيته، وعلامته علامتان: الواحدة هذا الكشف، والعلامة الثانية الخرس بحيث إنه لو أراد النُّطق بما رآه لم يقدر).

وليس المراد بالتحقُّق بالحيوانية سوى التحقق بالإرادة؛ إذ الإرادة (بمعنى مطلَق النزوع) هي أهم صفات الحيوان؛ فابن عربي لا يُعارض القدماء في اعتبار "النطق" فصلًا منوعًا للإنسان يُميِّزه عما عداه من أنواع الحيوان المشتركة معه في الجنس، ولكنه يأبى أن يعتبر العلم الذَّوقي وليد تلك القوة الخاصّة (قوة النطق) في الإنسان، بل على العكس من ذلك يعتبر قوة الإرادة - التي يرمز لها بالحيوانيّة - مصدر ذلك العلم وأداته.

ثم إنه ليشير بعد ذلك إلى علامتين هامتين من العلامات الأربع التي عدّها ويليم جيمس مميزات للتجربة الصوفية: أعني حالة القابلية الصرفة Absolute Passivity وحالة الخرس Ineffability، والحالة الأولى هي التي يسميها ابن عربي حالة الكشف؛ لأن الكشف حالة قابلية محضة لا أثر للفعل فيها.

على أنه لا يَقصد بالقابلية المحضة أو الانفعال الصرف ركودًا أو تعطيلًا في النشاط الروحي عند الصوفي، وإنما يُريد انعدام الفاعلية من جانب العقل.

أمّا الناحية الأخرى، وهي ناحية الإرادة، فالنشاط الروحي فيها - في التجربة الصوفية - أقوى وأعنف ما يكون؛ إذ الصوفي في معاناته لتجربته في حالةٍ تعمل فيها النفس بجمعيتها لا بجزء منها.

ومن هنا؛ جاء ذلك الاستغراق الروحي، وذلك الشمول الغامر الذي أطلق عليه الصوفية اسم الفناء والجذب والوجد.

ويجب ألا يتّسرَّب إلى الذهن بحالٍ أن ابن عربي يقصد بعبارته السابقة أن الحيوان لخضوعه في حياته للإرادة دون العقل، يشارك الإنسان في قدرته على الإدراك الذوقي والعلم بحقائق الأشياء علمًا مباشرًا، وإنما يريد أن يؤكد انعدام الفاعلية العقلية في التجربة الصوفية، ذلك الانعدام الذي نشاهده أكثر ما نشاهده في الحيوان؛ لذلك اتخذ الحيوان مثالًا، وتكلم عن مقام التحقُّق بالحيوانية.

(5) الحب:

ويعتبر الحب جوهر الحياة الروحية وسبب وجودها الأسمى. وبما أن "التجربة الصوفية" عملًا من أعمال الإرادة والوجدان لا العقل ظهرت في أخصّ وأعلى مظهر من مظاهر الإرادة والوجدان، وهو "الحب"، لا الحب المادي الذي يَهدف إلى إشباع شهوة أو حاسّة، بل الحب بأعمق وأتم معانيه: أعني الإفصاح عن أقوى النزعات الروحيّة في الإنسان، واتجاه هذه النزاعات نحو الأصل الذي صدرت عنه.

ولهذا اصطنع الصوفية على اختلاف مِلَلهم وأجناسهم وأوطانهم لغة الحب للتعبير عن أحوالهم وأذواقهم التي لا يستطيع العقل إدراكها، ولا اللغة التعبير عنها، وأبدعوا في اصطناع هذه اللغة أيما إبداع، فزخرت لغة التصوف بكنوز من الشعر الخالد في الحب الإلهي، ولشعراء الفرس من الصوفية أمثال؛ جلال الدين الرومي وفريد الدين العطار وعبد الرحمن جامي ومحمود شبستري، وبعض شعراء الصوفية العرب أمثال ابن الفارض وابن عربي، في رياض الحب الإلهي أناشيد تهتز لسماعها قلوب العاشقين ممن يُدرِكون إشاراتهم ومراميهم.

كان هذا رصد الدكتور عفيفي طيب الله ثراه لمعالم التجربة الصوفية ولبيان عناصرها الفاعلة فيها وهو رصد لو تأملته لوجدت أكثره صواباً وأقربه دلالة على تجارب العارفين الحقيقية، فما من تجربة لوليّ من أولياء الله تخلو من الحب لتنزع في طريقها إلى غيره، فالحب الإلهي أصل هذا الوجود الإنساني، وهو ثروته الحقيقية. ومن طريق الحب تولدت في الصوفي أبدع ألوان اللغة الرمزية، فشفافية العبارة دالة على تجربة معاشة تحقيقاً وهي التمهيد لرمزية الإشارة. ولولا وجود مثل هذه الشفافية في اللغة ما ظهرت لغة الباطن رمزية وإشاريّة، مبدعة فيهم على الأصالة.

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم

4- خزين القيم التربوية الفاضلة:

تُعتبر القيم أهم أداة تربوية في التربية التقليدية والحديثة، يمكنني الحديث عنها بشكل تفصيلي؛ كونها المعايير التي بها يوزن خُلُق الفرد، وبها يُرسم سلوكه، وتُحدّد هويته الأخلاقية في العائلة، والمجتمع العام.

تُعرّف القيم بأنها "مصطلح ينطوي تحته كل الأهداف ومعايير الحكم التي تؤدي بالفرد إلى السلوكيات الإيجابية في المواقف المختلفة التي تفاعل فيها مع المجتمع في ضوء معايير ارتضتها الجماعة لتنشئة أبنائها، وتُعد القيم التربوية إيجابية كلما أدّت إلى المزيد من النمو السوي لسلوك الفرد، وكلما اكتسبت من خلالها مزيدا من القدرة على التمييز بين المواقف المختلفة؛ في حين تعتبر سلبية كلما تسببت في إعاقة النمو في الاتجاه الصحيح"[1]. وتُعرف القيم أيضا بأنها" مجموعة معايير واتجاهات ومثل عليا تتوافق مع عقيدة الفرد التي يؤمن بها عن قناعة بما لا يتعارض مع السلوك الاجتماعي بحيث تصبح تلك المعايير خلقا للفرد تتضح في سلوكه ونشاطه وتجاربه وخبراته الظاهري منها والضمني، كما تتضح في التزام الفرد بتلك القيم خلال تصرفاته تجاه الإنسان من جهة، ورب الناس من جهة أخرى"[2].

والقيم أطر مرجعية لسلوكيات أفراد المجتمع تكمن أهميتها في كونها تمنح الحياة معنى، وتجعل الإنسان يسعى لهدف معين مهم يحقق قيمة له، أو للمجتمع. وللقيم أهمية في تفكير الإنسان، حيث تضع معايير تساعده على التفكير فيما ينبغي أن يفعله والأساليب والوسائل التي يختارها في حل مشكلاته وتعينه على تفسير السلوك العقلي، وتكمن وظائف القيم في دورها الفعال في حياة الطفل كونها معايير يميز بها الطفل بين الخير والشر، والصواب والخطأ، والحسن والقبح. وتلعب القيم دور التنبؤ بسلوك صاحبها، حيث أن سلوك الفرد يظهر بما يحمله من قيم، وتعمل القيم على إيجاد التوافق النفسي والاجتماعي للأفراد[3].

وظائف القيم الفردية هي تهيئة الخيارات المعينة للفرد، وتحديد السلوكيات الصادرة منه، وتلعب دورا مهما في تشكيل شخصيته، وتحقق له الإحساس بالأمن، وتتيح له فرصة التعبير عن نفسه، وتعمل القيم على إصلاحه نفسيا وخلقيا، وتوجّهه صوب فعل الخير وتجسيده، وتربط القيم بين أجزاء ثقافة المجتمع ببعضها وتعمل على تماسكها وتناسقها، وتحفظ للمجتمع تماسكه داخل أهدافه وتمسّكه بمبادئه الثابتة، بالنتيجة تعمل القيم على إعطاء نمط في شخصية الفرد، وتجعله قادرا على التكيف الإيجابي مع متطلبات وظروف المجتمع الذي يعيش فيه[4].

للقيم دور مهم ومؤثر في سنوات تنشئة الطفل الأولى ومن المهم أن يكتسبها من الأسرة والروضة والمدرسة، ليتشكل لديه الإطار القيمي، ويكون مرجعيته لتمييز الخطأ من الصواب، والحرام من الحلال، ومن ثم يستطيع التكيف في المجتمع، وتكمن أهميتها في إيجاد حالة التوازن والتكامل في سلوكه وقدرته على مقاومة القيم المنحرفة، وإحداث حالة توازن بين مصلحته الخاصة والمصلحة العامة. وتسهم القيم في بناء شخصية الطفل وتحديد غاياتها وأهدافها ووسائل تحقيق هذه الغايات، وتساعده في حل المشكلات، واتخاذ القرارات. ويكتسب الطفل أيضا قيمه من المجتمع المحيط من خلال التفاعل الاجتماعي، والمجتمع المحيط يعلمه كيفية إشباع حاجاته المختلفة من خلال مواءمة سلوكه مع القيم السائدة[5].

القيم تجعل الفرد يتحمل مسؤولية الالتزام تجاه نفسه، وتقوية إرادته، والسيطرة عليها في كل الأحوال الخاصة الذاتية، والعامة الاجتماعية، أولا كونه كائنا إنسانيا يسعى لتحقيق ذاته بشكل كامل يمكّنه من الالتزام تجاه الناس باعتبار تلك القيم، والقيم تجعله يقوّم الميل في سلوكه، وتعلّمه تفهّم الآخرين، والتعاطف معهم، ومن ثم التسامح معهم، والانفتاح على الفضاء الاجتماعي، والتخلص من ضيق فضائه، والانسجام مع الطبيعة، وإنصاف الناس من نفسه، وأن لا يثق بالمظاهر ما لم يبحث عن حقائق أكثر عمقا[6].

فالقيم إذن معايير تحدد سلوك الفرد وخلقه؛ وهي بمثابة البوصلة التي توجّهه تجاه سلوك معين؛ حيث إذا أراد فعل شيء معين فإن ما يحدد موقفه منه هو خزين القيم التي تلقاها عن عائلته، ومربيه، ومحيطه؛ والقيم من أهم عوامل تكوين الشخصية، حيث إن شخصية الفرد يحددها طابع القيم التي تلقاها منذ بواكير حياته حتى نضجه الجسدي والعقلي الكامل.

وتتصف القيم بشموليتها لكل جزئيات الحياة الأخلاقية، والدينية، والاجتماعية والسياسية، والاقتصادية؛ وتتمثل القيم بالمحبة، والصدق، وبر الوالدين، وبر المعلم، والأمانة، وأدب التخاطب، واحترام الآخرين، وتحمل المسؤولية، والشجاعة، والإخلاص في العمل، والعدل والإنصاف، والحفاظ على البيئة، والتعاطف والتسامح، والرحمة، والعطاء، والصلاح، والإيثار، والتضامن، ومراعاة القانون الاجتماعي العام، وتقديم العون للآخرين إن استدعى الأمر.

هذه القيم رافدها الأول الدين، والثاني المجتمع؛ ولكل مجتمع قيمه الخاصة. ما يمكن الجزم به في مجتمعاتنا أن القيم المذكورة تكاد تكون مشتركة فيما بينها، وهي التي تحدد هوية الفرد العائلية؛ ف "إن العلاقة مع الأب ومع الأم بشكل خاص هي علاقة كاملة تترك في الطفل بصمة لكل نزعاته الشخصية، إنها مرحلة غذاء، أمن، حنان، دفء، وتعلم سلوك"[7].

وتعتمد مجتمعاتنا العربية في تربية الأبناء على قيم تربوية مُستقاة من الدين أولا، والمحيط الاجتماعي ثانيا. ويعتبر الدين أهم منابع القيم لأنه من المشرع الأعلى أوردها في القرآن الكريم، ووردت في السنة النبوية. القيم الدينية تتمثل بتقوية الارتباط بالله، والتحلي بالأخلاق التي أوصى بها القرآن الكريم، التي منها بر الوالدين، واحترام الكبار، والعطف على الصغار، وملازمة الخلق الرفيع، وطاعة قوانين الدولة في المجتمع العام، والتحلي بالفضائل الدينية، والتضامن والعطاء فيما بين أفراد المجتمع.

والدين منجم القيم والأخلاق الإنسانية. ديدن التعليم الديني في بلداننا هو الشروع أولا بمعرفة الخالق وأمور الدين ومبادئه، والطفل يحفظها عن ظهر قلب دون فهم، وعلى تدرج المراحل العمرية تتكرر، وتتطور المعارف الدينية، ويحفظها وتكون الموجه لسلوكه وخلقه. وتربية الطفل وتعليمه القيم الدينية تبدأ منذ بواكير بلوغ الطفل السن المدرسي.

المعرفة بحقيقة الكون وأسراره وجمالياته، ومعرفة خالق الكون، ولماذا خلقنا؛ هي من أولويات تربية الطفل الدينية لتنمية وعيه الديني، ومن ثم تعليمه طقوس العبادات، وهذه حقيقة أكّدتها الكتب المقدسة.

لقراءة القرآن الكريم وتفهّم معاني ألفاظه أهمية قصوى لوعي الكون وما يحويه، والواقع وما يحتويه؛ وعي بمعرفة الله وخَلقه، (أَوَلَمۡ يَتَفَكَّرُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۗ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَآ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَأَجَلࣲ مُّسَمࣰّى)[8] ، والقراءة العامل الأساس في هذا الفهم والتفكير والوعي؛ فالقرآن كتاب تثقيفي توعوي قبل أن يكون تبشيريا وعظيا بدليل الآية الأولى منه﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾[9] .

يطرح الفيلسوف كانط رأيه في تلقين الطفل القيم الدينية دون الإشارة إلى أي دين من الأديان؛ حيث يؤكد على أولوية تعليم الطفل كيفية معرفة نفسه، والغايات والأهداف الأولى من الخلق، وما يتعلق بالإنسان حتى تُصقل معرفته، ويجب أن يطّلع على مظاهر الطبيعة وجمالياتها، ومعرفة واسعة عن بنية الكون، وكيفية ترتيبه الترتيب المنظم الرائع عندها يمكن أن يُكشف له فكرة الكائن المشرع والخالق الأكبر، مع العلم أن الطفل لا يمكن منعه من سماع اسم الله من على المساجد والصوامع والكنائس، ومن رؤية الناس حين يؤدون الطقوس التعبدية له، لكنه -كانط - يؤكد على إن معرفة الله مبكرا تسبب الرعب والخوف الذي يزرعه الوعّاظ في نفس الطفل من قدرة الله عليه والعقاب الإلهي، والخوف طبع بشري عام يتجلى أولا عند حدوث الظواهر الكونية، والطبيعية من زلازل وصواعق وكسوف وخسوف، وغيرها. وأن تكون عبادة الله عبادة فرح وتقوى، وأداؤها يكون بمزاج مرتاح، لا عبادة كئيبة ومرعبة وخجولة وحزينة. وأن نعلم الطفل احترام الذات والكرامة الشخصية، واحترام الناس وأراءهم وحفظ حقوقهم، وأن يتعلم الطفل الاشمئزاز لكل ما هو منفّر وعبثي في الحياة العامة، ويؤكد كانط على أن الديانة هي (أخلاق مطبقة على معرفة الله)، فيقرن الديانة بالأخلاق، وأن الطقوس والعبادات ماهي إلاّ استعدادات للأعمال الصالحة التي تخدم الناس، وليست هي الأعمال نفسها، وأن الرذائل التي يمنعها القانون البشري إنما هي بالأساس من المشرّع الأعلى الذي هو الله وليس الإنسان. معرفة الأخلاق أولا، ثم معرفة الله، لأن معرفة الله أولا، ومن ثم تعليم الأخلاق تبث في نفس المتعلم الخوف والرهبة. الله هو الحاكم وصاحب الحكم لكنه أقام في داخلنا مكانا للحكم هو الضمير، فمعرفة الضمير وتنقيته من كل ما يشين إلى الطبيعة وحياة الناس ويكدرها. ينبغي أن يتعلم الطفل الخوف من الضمير الداخلي إذا ارتكب خطأ قبل أن يخاف الله، هي الطريق الأسلم والصحيح لتبجيل الله وإكرامه لأنه تصرّف وفق إرادته، وتعليم الطفل إجلال الله ووقاره فهو رب الحياة ورب العالم أجمع[10]وإن" الديانة التي تجعل الناس قاتمين هي ديانة باطلة لأنه ينبغي أن نخدم الله بفرح القلب وليس بالإكراه".[11]

لنأخذ نماذج من قيمنا التربوية التي يتلقاها أبناؤنا وأثرها في الحياة الخاصة والعامة؛ -مثلا- قيمة المحبة هي أقوى رصيد يتلقاه الطفل في مقتبل حياته، وهي أسُّ التربية المتينة، حيث تعبّئ الطفل بالقوة، واللطف، والرقة، والشفافية؛ وتجعله مشفقا، بارا، حنونا، متحكما بذاته، قوي النفس، محبا للعطاء، والعمل من أجل راحته وراحة المجتمع.

أهم صورة للمحبة في المحيط العائلي هو حب الأبوين له، ويأخذ الحب صورا وأشكالا متعددة لا تقتصر على الكلام والاحتضان بل على الاهتمام وتشجيع الطفل حينما يؤدي عملا ما فيه تفتّح لقابلياته، ومواهبه الذهنية. التربية عملية القصد منها السعي نحو التحسّن لا الكمال. حب الأم والأب والمعلم والأسرة والأصحاب هو أهم الأمور عند الطفل. [12] تنمية المحبة والإحسان في نفس الطفل تجاه المجتمع الخارجي، وتلقينه عادة إلقاء السلام على من يلتقيه من أفراد المجتمع، والتزام أدب المجالس، والحديث حينما يكون في مكان عام، أو في مجلس مختصر.

يصنّف علماء التربية الحب الذي يغدقه الأبوين على الطفل إلى نوعين: الحب المشروط والحب غير المشروط؛ فالحب المشروط هو الذي يمنحه الأبوان للطفل حينما يقوم بسلوك معين كأن يقوم بأداء واجباته المدرسية، أو صحبة أخيه الأصغر منه، وغيرها لكن بشرط أن لا ينعكس سلبا على الطفل حينما يشعر أن أبويه يحبانه فقط لأجل سلوك إيجابي يأتي به الطفل، فالحب ليس صفقة فيها طرف رابح وخاسر بل هو عطاء بلا حدود، والحب غير المشروط هو الحب العفوي الذي يغدقه الأبوان بفطرتهما عليه بدون القيام بأي سلوك، وهو الذي يشعر الطفل بالأمان والسعادة وراحة النفس[13].

والمحبة ينبغي أن تكون ممزوجة بالحزم، وتعليم الطفل الخضوع، والطاعة الإيجابية؛ وإلزامه كل ما يُملى عليه من قواعد أخلاقية معينة كون ملكة الاقتداء بالآخر قوية عنده، وتعليم الطفل ضبط حريته، ومن ثم تعليمه كيفية استخدامها بصورة صحيحة فيما بعد حينما يختلط في جو المدرسة والمجتمع العام، ويعرف حدود حريته وممارستها بطريقة لا تضر بالآخرين[14]-على سبيل المثال- حينما نطلب من الطفل أن لا يرفع صوته، أو يصدر حركة غير لائقة بوجود الضيوف، أو يزعج أمه أو أباه حينما يكونان مشغولين بعمل "فالنفس البشرية كالغاز يتمدد على الدوام ما لم يكفه ضغط خارجي، وهدف التربية من هذه الناحية أن تجعل الضغط الخارجي هو العادات والأفكار والميول العاطفية في عقل الطفل نفسه، لا الضرب واللكم والعقاب"[15]. استخدام الحنان والحب مع صرامة وحزم، فالحب يدفع المربي لأن يستخدم أسلوب الصرامة غير المؤلمة ليستقيم الطفل[16] .

قيمة النظام والحفاظ على القانون يتعلمها الطفل بشكل أولي عبر اهتمامه بشؤونه الشخصية -مثلا الاهتمام بالنظام الغذائي المتوازن، والنشاط البدني اليومي اللذين ينعكس أثرهما الإيجابي الصحيح والسليم على نمو جسمه، وتعليمه منذ الصغر مهارات الاهتمام بتنظيم الوقت وعدم الإفراط به بما لا طائل منه؛ فقيمة النظام، وحفظ القانون، والحرص على الوقت توفّر له الثقة العالية بالنفس والاستقلالية، وحب النظام في محيط العائلة وخارجها.

قيمة الصدق حينما نعلّمها للطفل منذ بواكير وعيه، وتجنب الكذب يولد عنده الشعور العالي بالثقة، وتُرسم حدوده مع الآخر، والطفل بطبعه خائف وخجول، والأبوان يحميانه من أي خطر خارجي في سنيّه الأولى، فالخوف والخجل أحيانا يحثان الطفل على الكذب. "يحط الطفل كرامته إلى ما دون كرامة الإنسان من خلال الكذب، لأن الكذب يفترض مسبقا القدرة على التفكير، وعلى التواصل مع أفكار الآخرين. الكذب يجعل من الإنسان موضوع ازدراء عام، وهو وسيلة لسرقة الاحترام والثقة في نفسه التي يجب أن يتمتع بها كل إنسان"[17].

تفعيل قيمة التعاون بين أفراد الأسرة بإشراك الأطفال في أعمال المنزل التي لا تشكل ضررا على صحتهم الجسدية ولو من قبيل الاهتمام بترتيب شؤونهم الشخصية، وأغلب الأحيان يبدع الأطفال في التعاون ويفعلون المزيد. لا ينبغي أن يفعل المربي للطفل ما يستطيع الطفل هو أن يفعله بنفسه، مثلا ارتداء ملابسه، حمل حقيبته المدرسية بدلا عنه، ومساعدته على احتذاء حذاءه. وتسري قيمة التعاون والتضامن إلى المجتمع الخارجي، وتتجسد في مشاريع الخير، وكلها تعبّئ الطفل للاندماج في المجتمع.

يرى طبيب النفس الفرنسي Serge Tisseron  تعليم الأطفال منذ الصغر تقنيات التعرف على مشاعر الآخرين، وأيضا تعليمهم حسن النظر إلى مشاعرهم من خلال التعاطف الذاتي؛ فالتعاطف الكامل مع الذات أولا، ومع الآخرين ثانيا يستثير مناطق عدة في الدماغ، حتى اذا بلغ الطفل عمر 8-12؛ فإنه من اللازم أن يكون قد وصل تربويا إلى مرحلة الاعتراف بتعدد وجهات النظر، واقتنع بضرورتها؛ وهذا الأمر سيفتح الطريق أمامه لاحترام مبدأ المعاملة بالمثل، ولكن -حسب قوله- أن أغلب الأطفال يتوقفون في منتصف المحطات التربوية، ولا يصلون إلى نهاية الطريق المؤدي إلى التعاطف الناضج الكامل مع ذواتهم ومجتمعاتهم[18]. على المربي أن يفكر فيما يتعلمه الطفل من التجارب، هل يتعلم مهارات حل المشكلات والاهتمام الاجتماعي أم يتعلم أن من حق الأقوى أن تكون له السلطة ويعامل الآخرين بعدم الاحترام؟ [19]، ويعتقد عالم النفس ألفريد أدلر "أن الصحة العقلية بما فيها تقدير الذات مرتبطة بصورة مباشرة بحجم الاهتمام الاجتماعي لدى الفرد، والاهتمام الاجتماعي معناه الاهتمام الحقيقي لدينا بالآخرين واحترام الاختلاف"[20]؛ فينوجد التآلف والتآزر داخل العائلة، ومع البيئة المحيطة.

الاحترام أيضا قيمة يتعلمها الطفل في العائلة، ومن ثم احترام الآخرين وحفظ حقوقهم الحياتية، من خلال التطبيق، كأن يُعلم عدم الاعتداء على الطفل الآخر دون مبرر، أو يضربه، أو يهزأ به؛ لأن تصرفه هذا ضد حقوق الإنسان. ينبغي على كل من يتولى تربية الطفل أن يعامله بكامل الاحترام والكرامة لأن كل البشر بحاجة للاحترام وشعور الكرامة، حتى يشعرون بالانتماء والأهمية[21]، ويكنّون الاحترام لمن يشاركهم الحياة الخاصة والعامة، ولا يضر بعضهم بعضا.

ولكي نجسد قيمة العطاء عند الطفل يجب أن نعلّمها إياه نظريا وعمليا، كأن يقتسم شيئا من الحلوى مع صديقه، ويمكن أن يعده الأهل بقطعة أخرى لو أعطى قطعته. ويمكن أن تُستنهض صفة الإحسان للآخرين عند الطفل عبر استعطافه ليكتشف معنى واجبه ليبادر إلى مساعدة الآخرين، وفكرة وجوب الإحسان يجب أن تكون هي المتعمقة في فكر الطفل لا الشعور الذي يعتريه حينما يُحسن للآخر، فحينما نفعل الخير للفقراء إنما هو واجبنا تجاههم وهو واجب إلزامي، وهو من أجل الله. يمكننا أن نسمح للطفل بأن يتملّك أشياءه الخاصة، وفي نفس الوقت نعلّمه كيفية العطاء مع الآخرين أقرانه إذا أحبوا أن يشاركوه لا أن يعارض، أو يشاكس ففي مثل هذا السلوك يعلمه التعاطف والتعاطي مع الآخرين، وفن الحوار الهادف معهم.

يفسّر لنا علم الاجتماع عملية العطاء الاجتماعي في إحدى نظرياته؛ (نظرية التبادل الاجتماعي Social Exchange Theory)؛ روادها هم؛ كيلي، وثيبوت، وجورج هومانز، وبيتر. فحوى هذه النظرية هو" إن الحياة الاجتماعية عملية تفاعلية تبادلية بين طرفين؛ كل طرف يأخذ ويعطي، وليس فقط يأخذ أو يعطي، وهذا الأخذ والعطاء يؤدي إلى ديمومة العلاقة التفاعلية واستمرارها وتعمقها، وأما المبادئ الأساسية التي تستند عليها هذه النظرية فهي أن الحياة الاجتماعية هي عملية أخذ وعطاء، وتبادل بين شخصين، أو فئتين، أو جماعتيْن، أو مجتمعيْن، وتتعمّق العلاقات وتستمر اذا كانت ثمة موازنة بين الأخذ والعطاء؛ أي بين الحقوق والواجبات المتعلقة بالفرد، أو الجماعة، وتتوتر العلاقات، أو تنقطع اذا اختل مبدأ التوازن بين الأخذ والعطاء بين الشخصين المتفاعلين"[22].

قيمة الجمال أيضا ينبغي للطفل أن يستلهمها من المربي أولا-مثلا- تربية الطفل على الاهتمام بالفن كتعليمه الرسم، والموسيقى، والنقش على الخشب أو المعادن، أو الخياطة، أو التطريز، أو غيرها. وتعليمه السكون، والهدوء، والتأمل في الأشياء واكتشاف مواطن الجمال فيها كالنظر في لوحة فنية، أو منظر طبيعي، أو ما شاكل ذلك، والتعبير عنها شفاهيا أو تحريريا. كذلك كيفية التعامل مع الطبيعة ومفرداتها والحفاظ عليها، وتوطيد العلاقة معها ليكون صديقا لها، لا يلحق الأذى بها، محبا لجمالها، والتزام النظام والنظافة فيها، وهي ملك المجتمع بعامته.

وأدت تعقيدات وتغييرات عصرنا الراهن بالمجتمع إلى عدم التمييز بين القيم الموجودة في داخله عن القيم الوافدة من خارجه، وهذا ما يؤدي إلى عدم وضوح الرؤية، والخلط بين ما هو أصيل وما هو دخيل. وأحسن وسيلة هي الانتقال بالقيم المجتمعية الأصيلة من مستوى التنظير إلى مستوى العمل في كافة المجالات. وحينما يسير الناس وفق القيم المعتبرة عندهم فإن الصراع ينتفي فيما بينهم، ويتحقق التوازن النفسي للفرد، وبدوره يحقق التوازن المجتمعي، وفقدانه بعد فقد القيم والعمل بها فإنه يؤدي به إلى التوتر والقلق[23].

وتمثل القيم ممهدات لتعليم الطفل كيفية الانخراط والتـأقلم والتفاعل مع العالم الاجتماعي الخارجي حتى يلج المحيط -الاجتماعي بنمط عائلته، ولكل عائلة نمطها الخاص من السلوكيات والعادات والأخلاق والطباع. المحبة، والصحبة الحسنة، والاصغاء والتقليد، وتطبيعه على النمط الاجتماعي من طفولته وحتى شبابه وفق المعايير الاجتماعية العامة. وكلها تشكل السيناريو الأسري الممثل للطفل حينما يخرج إلى ميدان الحياة الاجتماعية المتمثل بالمدرسة، والمؤسسات الأخرى، وتمثل خزينه النفسي، والعاطفي، والعلائقي، والمعرفي، والمهاري، ووسائطه الدفاعية التي سيخوض بها معركة الحياة، وكلما كانت مقومات الصحة النفسية متوفرة كانت فرص التفاعل والانفتاح والاغتناء والعطاء المتبادل ومرونة التكيف أكبر تكون الحياة مشروعا مفتوحا. أما إذا كان هذا السيناريو مثقلا بالاضطرابات، والعقد النفسية، والمعوقات تنحسر تبعا له إمكانات الانفتاح والتأقلم والاغتناء ويجعل الحياة مشروعا متعثرا، متأخرا، وأحيانا فاشلا[24].

بعد تمام نضج الطفل الجسدي والعقلي، تتبلور القيم المذكورة في نفسه حينما تُغرس منذ صغره بشكل صحيح؛ فتكون بصمته الخاصة التي تميزه في المجتمع العام، والعيش وفق ظروفه ومتغيراته، وتمكّنه من النمو والتطور بشكل متين ومتوازن.

(يتبع)

***

إنتزال الجبوري – باحثة عراقية 

.................................

[1] الصغير، أحمد حسين. القيم التربوية المتضمنة في بعض الحكايات الشعبية. (دراسة تحليلية). رسالة ماجستير غير منشورة- كلية التربية، جامعة أسيوط، 1991م، ص9.(نقلا عن شريف، د. عبد القادر. التربية الاجتماعية والدينية في رياض الأطفال. بدون مكان النشر: بدون طبعة، بدون تاريخ،

[2]دياب، فوزية. القيم والعادات الاجتماعية. القاهرة: دار الكتاب العربي، 1996، ص52-53.

[3] أنظر: شريف، د. عبد القادر. التربية الاجتماعية والدينية في رياض الأطفال. بدون مكان النشر: بدون طبعة، بدون تاريخ، ص147-158)

[4] أنظر: طهطاوي، سيد أحمد. القيم التربوية في القصص القرآني. القاهرة: دار الفكر العربي، 1996، ص45-46.

[5] أنظر: عبد العزيز، إيناس أحمد. القيم التربوية المتضمنة في قصص الأطفال الأجنبية بالحلقة الأولى من التعليم الأساسي بالمدارس التجريبية لغات. رسالة ماجستير، كلية التربية- جامعة حلوان، 2000، ص64-65.

[6] باينس، جون. أسس التعامل والأخلاق للقرن الحادي والعشرين. ترجمة: أحمد رمو، ص376.

[7]  الدريع، د. فوزية. القُبلة. منشورات الجمل، ط1، 2006، ص64-65.

[8] الروم- 8.

[9]  العلق-1.

[10] أنظر: كانط. مصدر متقدم، ص106-111.

[11]  نفس المصدر والصفحة.

[12]  أنظر: نيلسن، جان. مصدر متقدم، ص197.

[13] أنظر: سيد حامد. مصدر متقدم، ص29-30.

[14] نفس المصدر، ص40-42.

[15] رسل، برتراند. مصدرمتقدم، ص105.

[16]  أنظر: نيلسن، جان. مصدر متقدم، ص155.

[17] كانط، مصدر متقدم، ص99-100.

[18] أنظر: الجبوري، إنتزال. (العطاء أس العلاقة مع الآخر والأنا). نقلا عن موقع نقلا عن موقع ذاعة مونتكارلو. صحيفة المثقف(23/6/2021).

[19] نيلسن، جان. مصدر متقدم، ص201.

[20] نيلسن، جان. مصدر متقدم، ص201.

[21] نفس المصدر، ص117.

[22] صغير، عطاف مناع. نظريات علم الاجتماع العام. موقع:New- educ.com.

[23] أنظر: كشيك، منى. القيم الغائبة في الإعلام. مصر: دار فرحة للنشر والتوزيع، 2003، ص 84.

[24]أنظر: حجازي. مصدر متقدم، ص215.

 

"كل ما في المرأة لغز، ولغزها كلمة واحدة هي "الأمومة".. نيتشه

ويقول المثل الفرنسي: "تفضل المرأة أن تكون جميلة أكثر من أن تكون ذكية لأنها تعلم أن الرجل يرى بعينيه أكثر مما يفكر بعقله"  

***

تشكّل الأدبيّات التاريخيّة والاجتماعيّة الّتي كتبت عن وضعيّة المرأة تراثاً إنسانيّاً لا تستنفد أهمّيّته، ولا ينضب معين غزارته. وفي خضمّ هذه الأدبيّات يلاحظ المتتبّع تجانس الأفكار والتصوّرات الخاصّة بوضعيّة المرأة، ولا سيّما ما يتعلّق بالوضعيّة التاريخيّة منها، حيث تتكرّر الأفكار في صلب الأبحاث والدراسات النسويّة الجارية، ويشعر المتابع لقضيّة المرأة أنّه لا يحتاج إلى المزيد من الأفكار كلّما توغّل في قراءة ما كتب وما يكتب عنها، حيث تبدو الأفكار والتصوّرات وكأنّها تكرار لما سبق للمرء أن تناوله بالقراءة وتداوله بالتفكير.

لقد شكّلت قضيّة المرأة نقطة تقاطع ميادين علميّة ومعرفيّة مختلفة في مجال العلوم الإنسانيّة ولاسيّما في مجال علم الاجتماع والأنثروبولوجيا. وقد أسهمت الأنثروبولوجيا الثقافيّة في رصد هذه القضيّة، وفي تحليل معطياتها، ودراسة أحوالها، على هدي مناهج علميّة رصينة ومتكاملة (1). وقد قدّر للأبحاث الأنثروبولوجيّة أن تسجّل حضورها المميّز في مباحث المرأة، وأن يكون لها قصب السبق أحياناً في التصدّي لبعض المسائل الجوهريّة الّتي تلامس حياة المرأة، وترسم لها مصيرها في غمرات النهوض الاجتماعيّ الّذي شهدته الإنسانيّة، ولا سيّما في القرنين التاسع عشر والعشرين. وممّا لا شكّ فيه أنّ الخلاصات الّتي توصّلت إليها الأعمال الأنثروبولوجيّة تشكّل اليوم ركناً أساسيّاً ومركزيّاً في اجتماعيّات المرأة وأدبيّاتها. ومع ذلك كلّه يتوجّب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أنّ معطيات البحث الأنثروبولوجيّ قد شكّلت منطلقاً أيديولوجيّاً لأنصار تحرّر المرأة حيناً وأعداء تحرّرها حيناً آخر. وهذا يعني أنّ الأنثروبولوجيا لم تستطع في أفضل حالاتها أن تنفصل كلّيّاً عن السياق الأيديولوجيّ الّذي ألهب في كثير من الأحيان الاتّجاهات العلميّة في مجال الفلسفة وعلم الاجتماع.

تتجسّد قضيّة المرأة المركزيّة في وضعيّة الاختلاف والتجانس بين المرأة والرجل وما يترتّب على هذا التباين والتجانس من إشكاليّات الموقع الاجتماعيّ لكلّ جنس في سياق نظرة كلّ من الجنسين إلى الجنس الآخر. وممّا لا شكّ فيه أنّ المسألة المركزيّة الّتي طرحت وما زالت تطرح نفسها بإلحاح هي: هل تعود وضعيّة القهر الّتي تحيق بالمرأة إلى الظروف التاريخيّة الاجتماعيّة؟ أم أنّها وضعيّة تعود إلى شروط وجودها البيولوجيّة الّتي رسمتها لها الطبيعة؟

وفي معرض التحدّي الّذي يفرضه هذا التساؤل يحاول الأنثروبولوجيّون أن يقدّموا إجابات متباينة متنافرة وأغلبهم يميل إلى الاعتقاد بأنّ دونيّة المرأة مسألة تفرضها شروط حياتها البيولوجيّة والوظيفيّة، ومن هؤلاء يمكن الإشارة إلى آراء كلّ من سـيزار لومبروزو(Cesar Lombroso)2 وكيليمو فيريرو (Guglielmo Ferrero) 3 اللّذين يدينان كلّ محاولة لتفسير دونيّة المرأة كنتاج لشروط وجودها التاريخيّـة الثقافيّة.

هذا ويعدّ كتاب لامبروزمو وهو بعنـوان "المرأة المنحرفة والمرأة الطبيعيّة"(4) من أشهر الكتب الّتي تناولت قضيّة المرأة ذيوعاً وصيتاً وشهرة، حيث تناول فيه وضـع المرأة الطبيعيّة وسماتها وعيوبها وخصائصها الفيزيائيّة والنفسـيّة والأخلاقيّة وقدراتها العقليّـة ثـمّ ميولهـا وواجباتهـا.

 لقد ظهر كتاب لامبروزو "المرأة المجرمة" (The Female Offender)5 في عام 1893، وذلك بعد ثلاثين عاماً من تحقيق الوحدة الإيطاليّة. ويمثّل هذا الكتاب نقطـة البدايـة لما سيطلق عليه في النصف الثـاني مـن القـرن التاسع عشر المسألة النسائيّة. لقد كان الكتاب في واقع الأمر خلاصة اكثر من عشـرين عامـاً من المجـادلات والطروحـات والأبحاث والمساجلات الّتي تناولت مصير المرأة ودورها المعاصر في إطار الحياة الاجتماعيّة. ولقد صنّف هذا الكتاب على أنه الحلقـة النهائيّـة الّتـي أقفلت النقاش حول مسألة المرأة، وذلـك لأنّه انطلـق مـن المنـاهج العلميّة الّتي اعتمدها كتاب محاطون بهالـة مـن النفـوذ والخـطورة والأهمّيّة.

لقد عمل كتاب لامبروزو عـلى إسكات الاحتجاجات النسائيّة، وطالب بضرورة إصدار التشريعات المعادية لها. ومع أنّ هذا الكتاب كان يدفع الجدل، ويفتح سجلّاً جديداً لمناقشـات حاميـة امتدّت حـتّى القرن اللاحق، إلّا أنّه قد شكّل منطلقاً فكريّاً للأيديولوجيّات المعادية للمرأة وهي الأيديولوجيّات الّتي تجسّدت فـي المرحلة اللاحقة من بداية القرن العشرين، وذلك في صـورة النازيّـة والفاشيّة.

يقرّر لامـبروزو في كتابه هذا شرعيّة اضطهـاد المرأة، ويصدر حكمه العلميّ عليها، وحكمه هذا، كما يعتقد، يقوم على أسس علميّة تجريبيّة لا تدحض، وهو أنّ المرأة إنسان لم يكتمل نموّه بعد. ولم تكن رؤية لامبروزو هذه جديدة في الساحة الأنثروبولوجيّة ، فنظريّته هذه، على الرغم من الصدى الّذي تركته، كـانت صـدى لنظريّة الأنثروبولوجيّ والفيلسوف المعروف جـيوسيب سـيرجيGiuseppe Sergi) )6.

لقد واجهت هذه الأنثروبولوجيّة المعادية للنساء تحدّيات نقديّة على أيدي مفكّرين من مشارب متنوّعة، ومن هؤلاء يمكن الإشارة إلى الانتقادات الّتي نهض بها الوضعيّيّون الاشـتراكيّون. ومع ذلك يمكن القول بأنّ غالبيّة الأنثروبولوجيّين الإيطاليّين يتّفقون جـميعهم تقريبـاً مع لامبروزو وسيرجي في موقفهم المتشدّد من المرأة، فالمرأة كما يؤكّد هؤلاء المفكّرون أقرب إلى الطبيعة من الرجل، وأنّ دونيّة المرأة تعود إلى أسباب طبيعيّة بالدرجة الأولى وهي قلّما تعود إلى شروط اجتماعيّة ثقافيّة.

ويصعب على الباحث أن يسـتعرض مخـتلف الطروحـات العلميّة حول المرأة، والّتي بدأت تنطلق بغزارة منـذ عـام 1870 حـتّى العقـد الأوّل من القرن العشرين. وسجّلت هذه الطروحات المختلفة حضورها في صفحـات الدوريّـات والمجلّات العلميّة الصادرة في تلك المرحلة.

ومن فيض النظريّات الّتي نهضت في هذه المرحلة يمكن الإشارة إلى الجهود الفكريّة لكلّ من جيوسيب سيرجي Guissepp Sergie وباولو مانتكازا (Peolo Mantegazza) (7) وهمـا مـن كبـار الاختصاصيين في مجال الأنثروبولوجيا الثقافيّة في القرن العشرين.

يجتهد سيرجي في نفي الخاصّة العبقريّة عند المرأة، فالمرأة لا يمكنها أن تصل إلى مستوى العبقريّة فالعبقريّة خاصّة ذكوريّة، وينطلق لتأكيد رأيه هذا من المنظور التطوّريّ، أو من نظريّة الاصطفاء الطبيعيّ الّـتي غالباً ما يركن إليها في محاولة تأكيد دونيّـة المرأة. لقد وجدت المرأة نفسها في سياق تطوّرها التاريخيّ، وتحت إكراهات تكيّفها مع وظائفها الطبيعيّة المعروفة، محرومة من تطوّر الإمكانيّات النفسيّة والعقليّة الأخرى غير الضروريّة لأداء وظائفها الطبيعيّة، ومثل هذه الإمكانيّات كانت ضروريّة جدّاً من أجل الوصول بالمرأة إلى منتهى النضـج النفسيّ والعقليّ وذلك في صيرورات النضال من أجل الوجود. ومع ذلك فالمرأة، كما يعتقد سيرجي، تشكّل ينبـوع العبقريّـة وحاملاً لها، أي بوصفها أداة لتحويلها وراثيّاً، أي أنّها حامل لسمة العبقريّة ومورّثة لها، لكن لا يمكن لهذه العبقريّة أن تنهض وتتفجّر إلّا فـي الرجـل . وبعبارة أخرى المرأة كما تبدو له ناقلة للعبقريّة، لكنّ هذه العبقريّة لا تعطي ثمارها في المرأة ولا تزدهر فيها، فالعبقريّة جوهر الرجل، وبعد من أبعاده الإنسانيّة.

 ومن هذا المبدأ ينطلق سيرجي للاعتقاد بأنّ المرأة العبقريّـة ليسـت امرأة طبيعيّة، فالعبقريّة ليست من خصائص النساء، وليست وظيفة من وظائف المرأة. والخلاصة الّتي يريد أن يصـل إليها سـيرجي هـي أنّ الظـروف الاجتماعيّـة لـم تقلّل أبداً من أهمّيّة الخصــائص العقليّة للمرأة، فدونيّة المرأة ذات طابع بيولوجـيّ أو طبيعيّ تفرضها طبيعة المرأة وخصائصها البيولوجيّة.

 لقد خـصّص، بـاولو مانتوكـازا (Paolo Mantegazza)، وهـو طبيـب ورحالة وأنتروبولوجي معروف، عدداً من مقالاته وكتاباته لدراسة مسألة المرأة. ويعدّ كتابـه علـم نفس المرأة (Psychologie de la femme) من أكثر أعماله أهمّيّة وهـو الكتـاب الّـذي ظهر في العام نفسه الّذي ظهر فيه كتاب المرأة المنحرفة. وفي هذا الكتاب يتناول باولو الجوانب السـيكولوجيّة للمرأة وفقاً للمنطق الوضعيّ، ويشمل ذلك جوانبهـا الفيزيائيّـة والعقليّة.

 ويتميّز باولو بأنّه أقل ميلاً إلى التشدّد في موقفه من المرأة، وذلك بالقياس إلى مفكّري عصره. وما يتميّز به عن غيره أنه كان يستبعد الحتميّة البيولوجيّة الّتي يؤكدها كلّ مـن سـيرجي ولامـبروزو فـي إدانتهم للمرأة. فدونيّـة المرأة كمـا يعتقــد مانتوكازا نتاج لحركة التاريخ والمعايير الاجتماعيّة ومرهونة بشروط وجودها الاجتماعيّ والثقافيّ والإنسانيّ على حدّ سواء، ولا سيّما طابع ومضمون السلطة الذكوريّة الأبويّة السائدة.

 وعلى الرغم من ذلك كلّه، فإنه باولو يعود ليقع في مطبّ الرؤيـة الضيّقـة الّتي تقـوده إلى دائـرة التطوّريّـة، وإلى أحكامها حـول السـمات الأنثويّة السلبيّة، وذلك حين يذهب إلى التأكيد على أهمّيّة الأسباب الطبيعيّة في تعزيز مبدأ دونيّة المرأة.

ويتجسّد موقف باولو حين يتناول مكان المرأة في عالم المعرفة العلميّة، حيث يبرز المكان الثانويّ الّذي حقّقته المرأة في هذا الميدان، وهو بالتالي يبرّر هذا القصور على نحو طبيعيّ يرى أنّ ما تهدره الطبيعة في جانب تقتصده في جانب آخر، فإنجاب المرأة للرجال عمل كبير وشاقّ وخلّاق، وهذا ما يضعف من إمكانيّة المرأة في مجال النبوغ والعبقريّة والإبداع.

ومن هذا المنطلق يعتقد بأنّه يجب على المرأة أن تكـتفي بـدور هامشـيّ وثانويّ فـي مجـال الحياة الثقافيّة، ولها بالمقابل أن تزدهـي بوظائفهـا البيولوجيّـة، وأن تنادي بإعادة الاعتبار الاجتماعيّ لهذه الوظائف الإنسانيّة الخطرة. ومن هذا المنطلق يعلن باولو: أنّـه يجـب عـلى المرأة أن تبقـى فـي المنزل، ويجب إقناعها بالتنازل عن أيّ طموح عقليّ وأن تتخـلّى عـن الرغبة في استطلاع آفاق بعيدة.

 وعلى خلاف ذلك يتمايز مانتوكازو عن كلّ من لامبروزو وسيرجي رافضاً الفكرة الّتي تقول إن تطوّر المرأة توقّف في مرحلة دنيا من مراحل التطوّر وذلك بالنسبة للرجل، وأن هذه المرحلـة هـي أقرب إلى الأسلاف البدائيّين. وعـلى خـلاف ذلـك، فهو يدرك جانباً آخر لا يقلّ أهمّيّة وهو: إسراف الرجال في اسـتخدام السلطة. " فالرجل لا يكتفي أن يأخذ المكان الأوّل تحت الشمس، بل يريـد أن يبرهن أنّ المرأة تأخذ مكاناً وسطاً بينه وبين القرود. وهذا ما يعطيه الحقّ في استبعادها.

 ويعمل مانتوكازا فـي مرحلـة لاحقـة على تطـوير أفكـاره حـول المرأة، ويتجلّى هذا فـي كتابـه الأخير حـول مسألة المرأة وذلك عام 1906. يبدأ مانتوكازا بالاعتراف أنّ هناك مشاعر قوميّة تعين إعطاء رؤية موضوعيّة حول المرأة. فالمسألة ذات طابع اجتماعيّ ويضاف إلى ذلك أنّها ليست مسألة علميّة، بل مسألة ترتبط بالعواطف والانفعالات والحياة الثقافيّة في المجتمع، ومن هنا تتصلّب قضيّة المرأة، وتبدو عصيّة على الحلّ.

ويتعرّض مانتوكازا، في مسار آخر من نظريّته، لمسألة الاختلاف بين الجنسين وهو في سياق يعتقد بأنّه يمكن لكلّ جنس أن يطوّر طاقاته وإمكانيّاته بعيداً عن تصوّرات تقسيم هذه الطاقـات طبقيّاً إلى طاقات عليا ودنيـا. فالمسألة لا تعني ولا يمكن أن تعني اعترافاً بالمرأة كآخر، ومـع ذلـك فإنّهـا الفرصة للخروج وبطريقة متوازنة وراشدة من المعضلة الّتـي يعانيها الأنتروبولوجيّون كلّما قاربوا السمات الخاصّة بالمرأة.

 والمسألة الّتي تطرح نفسها هنا وبإلحاح هي: ما المكـان الّذي تحتلّه مسألة اختلاف المرأة عن الرجل في إطار الاستراتيجيّة المعرفيّـة والعقائديّة الخاصّـة بـالعلوم الإنسانيّة فـي النصـف الثـاني مـن القرن التاسع عشر؟ وهنا لا بدّ لنا ومن جديد من العودة إلى الأنثروبولوجيا اللامبروزيّة الّتي انطلقنا منها.

يمثّل عصر الوضعيّة (Positivisme) مرحلة من مراحل الدرب الطويل الّذي طرقتـه العلوم الإنسانيّة في البحث عن وعي نقديّ يتّصف بالشموليّة ويستحوذ على خاصّيّته العلميّة والموضوعيّة. لقد عـرفت الفـروع الأنثروبولوجيّة فـي القـرن التاسـع عشـر تناقضات صارخة، وترتّب عليها أن تعالج حشداً من الموضوعات والقضايا أبرزها موضوعات: المجتمعات البدائيّة، والجريمة والجنون والمرأة والأطفال، وهي موضوعات بالغة التنـافر، إذ لا يوجد مـا يربط بين هذه الموضوعات على نحو منطقيّ والرابط الوحيد بيـن هـذه الموضوعات هـو أنّها موضوعـات مباينـة للمعـايير الطبيعيّـة للوجود.

لقد شكّلت مسألة تفسير الاختلاف بين المرأة والرجـل النقطـة العقديّة للأنثروبولوجيا التطوّريّة. ومـن الصعـب جـدّاً إيجاد التفسير المناسب لهذه المسألة. لقد ترتّب على الأنثروبولوجيّة التطوّريّة أن تواجه هذا التحدّي المعرفيّ، وأن تعمل على تطريق منهج جديد يمكن من تفسير هذا الاختلاف وتصنيـفه في الوقت نفسه. وقد أملت هذه الإشكاليّة وقوع الأنثروبولوجيّة التطوّريّة في فخّ التصنيف، وذلك لعدم القدرة على التفسير. ويتمثّل هذا المنهج في إجراء سلسلة من المقارنات بين الثنائيّات المعروفة مثل التقابل ن بيـن ثنائيّـات: المجهول والمعلوم، الطبيعيّ واللاطبيعيّ، الاستثنائيّ والعاديّ.

فالمتوحّش، كما يرى لامبروزو، كائن توقّف تطوّره في درجة دنيا مـن سلّم التطوّر، ولا يمكن لنا أن ننكر وجـود طاقـات عقليّة كافية تمكّنه من الوصول إلى الحضارة نظريّاً، فهو من وجهة نظر واقعيّة يسير على درب الحضارة ببطء شديد إلى درجة يبدو فيها وكأنّه لا يتحرّك أبداً. ويسـتطيع المتوحّـش أن يتسـلّق سـلّم الحضـارة عندما يحظى بعناية قوّة تدفعه تدريجيّاً وبصعوبة إلى هـذا المستوى الحضاريّ.

 ولكنّ المرأة ليس لها هـذه الإمكانيّة، طبعاً إمكانيّة التطوّر بدفع خارجيّ، فعمليّـات التطـوّر لـم تعدها إلّا لأداء هدف واحد هو: الحفاظ على النوع. وهذا يعني أنّ دونيّة المرأة قائمة في بنيتها البيولوجيّة، فهي كائن وظيفيّ وخاصّة فيما يتعلّق بواجباتها البيولوجيّة والإنجابيّة. ومن هنا يأتي الحـكم عليهـا بـدون رجعة: إنّ اختلاف المرأة الطبيعيّ عن الرجل يقودها إلى مواقع دونيّتها. وذلك لا يعني، كما رأينا سابقاً، أنّ الفكر الأنتروبولوجـيّ لا يعتقد بإمكانيّة تحسين شروط المرأة. فحالهـا كحـال المجـرم أو المتوحّـش كلاهمـا يحتاج إلى القيادة والتوجيه، وإلى الحماية والرعايـة الإنسانيّة الدافئة الّتي تبدو ضروريّة لتخفيف عناء عبوديّتهـا وشدّته.

 إنّ حماسة العلماء للحكم على المرأة بالخضوع لهيمنة الرجل لم يؤدّ إلى بناء وعي نظريّ كامل خاصّ. بالاختلاف بين المرأة والرجـل، إذ ليس من الفطنة أن يضع المرء نفسه في دائرة علميّة وضعيّة.

فالنسـاء يوجدن فـي داخل المجتمع، وهنّ يعشن إلى جوار الرجال. وهنا لا يمكن الفصل بين وجود المرأة والرجل أو بين قدريهمـا أو سـيرة حياتهمـا، وذلـك منـذ الولادة حتّى الموت. ومن ثم فإن أيّ تحسين في شروط حياة المرأة لا يخلّ بالتوازن الراسخ، بل يؤدّي إلى فتح ثغرة في علاقـات السـلطة القائمـة قد تهدّد موقع الرجل. وذلك عندما تسيطر على شـروط وجودهـا. ومن هنا نجد بأنّ الرجال يستخدمون الوسائل كلها من أجل المحافظة على امتيازاتهم.

ومن أجل المحافظة يستخدم الرجال الحجـج العلميّـة الأكـثر صلابـة ومقاومة للدحض وأبرزها هذه الّتي تقول: بأنّ دونيّة المرأة لا تعود إلى شـروط تاريخيّـة، ولكنّهـا مسجّلة في بنيتها البيولوجيّة وهي دونيّة لم تفرض من قبل الرجل، بـل أمّلتها الطبيعة. فالطبيعة محكومة بقانونيّاتها وهـي القانونيّـات الّتي تكتشف عن طريق العلوم الحديثة. فالطبيعـة الّتـي وهبـت المرأة دورها في أن تكون أنثى الرجل وأمّ الرجل، وهي في الوقت ذاته تشير إلى خـطورة أن تكون مكافئة للرجـل فـي إدارة الاقتصاد والسياسة والتشريع.

لقد شهدت أوروبا فيما بعد مرحلة تحقيق الوحدة القوميّة موجـة إعادة النظر في البيئة التشريعيّة، ومن ثم فإن حركة التصنيع الّتي شملت البلاد والسيطرة على المدارس الّتي تحرّرت من رقبة الكنيسة كانت في أصل عمليّـات تمـدين المجتمع، وكـانت النسـاء عنصراً فاعلاً في إطار هذه الحركة.

 وظهرت حركة واسعة لإعادة النظر تشريعيّاً فـي مشـكلة الحـقوق المدنيّة والسياسيّة للمرأة. وخلال هـذه المرحلـة ظهـرت تشـريعات حكوميّة إصلاحيّة عملت على تحسين شروط حيـاة المرأة فـي الطبقـات الوسطى. وظهرت أيضاً مجـادلات برلمانيّـة واسـعة حـول مسألة دور المرأة وواجباتهـا فـي العائلـة والمجـتمع وحـول مسألة الطـلاق والاقـتراع العـامّ. ومـن خـلال النضال المحــامين والقــانونين والسياسيّين وبالطبع رجال العلم استطاعت المرأة أن تحقّق إنجازات إنسانيّة كبرى ومع ذلك فإنّ طموح المرأة ما زال يشهد اندفاعاته وانطلاقاته نحو آفاق بعيدة المدى.

 لقد بدأت الصناعة بامتصـاص أعداد كبـيرة مـن العـاملات المحكوم عليهنّ كأطفالهنّ بأجور وضيعة وشروط عمل لاإنسـانيّة. واستطاعت المرأة في الوقت نفسه أن تصل إلى التعليم العالي، وإلى ممارسة مهن اجتماعيّة راقية كشكل جديد لعمل المرأة الّتي تنتمي إلى البرجوازيّـة الصغـيرة والوسـطى. وكـان للمرأة ذات الانتمــاء البرجوازيّ المتوسّط أن تمتلك قدرها، وأن تتحرّك لبناء حركات نسائيّة منظّمة وفعّالة.

 وبدأت الحركات النسائيّة هذه تظهر في نهاية عام 1870 ، وتـأتي هذه الحركات استجابة لعدم الرضا ولعدم كفاءة المعايير الحكوميّـة المتّخذة لصالح المرأة. وتجسـيداً لـذلك ظهـرت المهـن المكتبيّـة والجامعيّة الخاصّة بالمرأة بين عامي 1873و 1874. ولقد اسـتطاعت النقابيّة الأولى الإيطاليّة آنا ماريّا موزوني Anna Maria Mozzoni أن تنظّم مجموعة كبيرة من التواقيع الّتي تنادي بحقّ المرأة في التصويت، وتلاحقت المحاولات الّتي نـاضلت من أجل المرأة.

ومنذ عام 1883 حتّى نهاية القرن كانت المناقشات تدور حـول حـقّ المرأة في الطلاق والتصويت. وكان يرافق ذلك مناقشات حامية حـول القوانين الخاصّة بعمل المرأة والأطفال. وخاصّة هذه الّتـي تتعلّـق بعمل المرأة البروليتـاريّ، والّتـي شـكّلت إحدى النقـاط الحاميـة للسياسة الاشتراكيّة كما تعلن آنّا كوليسيوف (Anna Kulisiaff). وبدأت فيما بعد ذلك تنمو الاتّجاهات النسائيّة المتطرّفة. وفي هذا السياق يلاحظ أنّ نضال المرأة كانت يشـتدّ كلّمـا اتّجـهت السياسـات القائمة نحو المحافظة وهي ظاهرة عملـت جـوانب الحيـاة السياسـيّة الإيطاليّة حتّى نهاية القرن.

لقد استطاعت المقـولات الأنثروبولوجيّة، أن تتصـدّر عـدداً مـن الدوريّات العلميّة. وتمكّن الأنثروبولوجيّون من إعطاء مؤلّفاتهم مدّاً جماهيريّاً واسعاً وخاصّة هؤلاء الّذين لهم مكانة السيادة والسـلطة. وبالإضافة إلى ذلك استطاعوا أن يطرحوا ويرسـموا، تحـت غطاء الإضاءة العلميّة، صورة للمرأة لم تكن إلّا انعكاساً لصـورة نسـائيّة كانت سائدة سابقاً وخاصّة في ذهنيّة الرجل. لقد كرّست سـمات الضعـف، والهشاشـة، والسـلبيّة والعاطفيّـة الانفعاليّة، في صورة المرأة الّتي رسمها العلم مـن خـلال الآداب الراقية والآداب الشعبيّة كسمات أنثويّة. وذلك ليس كـلّ شـيء، ففـي القوّة الّتي تمتدّ في مساحة الخمسة عشـرة سـنة الأولى مـن القـرن العشرين، استطاعت هذه الخصائص الأنثروبولوجيّة المزعومة أن تضـع المرأة فـي سـجن قدرهـا الأكثر مأساويّة ودراميّة، وأن تحكم عليها بوصفهنّ ملائكة المنـازل، أو القاصرات إلى الأبد اللّواتي يترتّب عليهنّ أن ينجبن من أجل الوطن.

لقد لعبت الأنثروبولوجيا الثقافيّة التطوّريّة - ولا سيّما الإيطاليّة - دوراً معادياً للمرأة واستطاعت أن تجسّد مقولات الهيمنة الأبويّة الذكوريّة الّتي عرفتها المجتمعات الإنسانيّة عبر تاريخها الطويل، وكان قدر هذه الأنثروبولوجيّة أن تسقط في وحول العراك الأيديولوجيّ الدائر حول مسألة المرأة ودورها الإنسانيّ في الحياة الاجتماعيّة، وهي في تورّطها هذا غلب عليها الميل إلى تفسير دونيّة المرأة بسيرورة تطوّريّة، وأن تبرّر هذه الدونيّة الّتي تأخذ دوائر مغلقة. ومن هنا لعبت هذه الأنثروبولوجيا دوراً كابحاً لانطلاقة المرأة اجتماعيّاً وسياسيّاً. ومع ذلك فإنّها لعبت بالمقابل دوراً إيجابيّاً تمثّل في طرح مسألة المرأة وإيقاظ الوعي النسويّ؛ ومن ثمّ إنهاض المواقف المناصرة لوضعيّة التكافؤ الإنسانيّ بين المرأة والرجل.

ويبقى مع ذلك كلّه القول بأنّ استعراض أدبيّات هذه الأنثروبولوجيّة التطوّريّة يمثّل وقفة حيويّة مع حالة من العطاءات الفكريّة والتراثيّة الّتي تأخذ طابع الأهمّيّة والخصوصيّة في مستوياتها العلميّة والفكريّة. فالوقفة مع هذا التراث الأنثروبولوجيّ يضعنا في صورة تطوّر جانب من جوانب المعرفة الإنسانيّة وحقل من حقولها، ولا سيّما فيما يخصّ المرأة هذا من جهة، وهي من جهة ثانية تتيح لأنصار الحرّيّة النسويّة والمساواة أن يكونوا في صورة هذه الطروحات الّتي تدفع إلى حالة من التأمّل الفكريّ واستنهاض الطاقة في مسألة بالغة الأهمّيّة والخطورة. ولا بدّ لنا من الإشارة في هذا السياق أنّ المقالة الحاليّة تركّز على الوضعيّة الأوروبّيّة ممثّلة بالفكر الأنثروبولوجيّ الإيطاليّ بالدرجة الأولى، وقد لا ينسحب ذلك بصورة كلّيّة على مجمل العطاءات الأنثروبولوجيّة الّتي تجلّت في مناطق عديدة من العالم، وفي مراحل تاريخيّة مختلفة.

وأخيرا نقول في مجال الرد على العدوانية الأنثروبولوجية ضد المرأة: إن المرأة سر الوجود في أعظم تدفقاته الجمالية، وفن العطاء في أروع تجلياته الروحية، هي الحنان الذي تدفق في الكون روحا كونية فأصّل في أعماقنا جوهرنا الإنساني المضمخ بالمعاني السامية للوجود في أرقى دلالاته الإعجازية. إنها معجزة إلهية ارتسمت في صورة الأم والزوجة والأخت والابنة والحفيدة، إنها الوطن الذي فيه انبثقنا ومنه ترجلنا إلى الوجود، وهل هناك أعظم من المرأة لتي تعبق بكل معاني العطاء والسمو والنقاء، أليست هي هدية الله للإنسان والأرض والإنسانية. نعم هي عبق الوجود المتدفق بأريج الحياة المضمخ بسمو المعاني وعبق الدلالات، نعم هي هبة الله للإنسان والإنسانية، وآية من آيات خلقه العظيم في الكون.

***

ا. د. علي أسعد وطفة – كلية التربية – جامعة الكويت

......................

هوامش المقالة:

1- تتناول الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) الظواهر الاجتماعية الإنسانية وفق مناهج محددة قوامها البحث الشمولي المتكامل في طبيعة الظاهرة وتناول الظاهرة المدروسة على نحو كلي عياني . وتتمثل أبرز خصائص البحث الأنثروبولوجي في تفاعل الباحث مع المجتمع الذي يدرسه بصورة كلية حيث يتوجب على الباحث أن يعيش في أحضان المجتمع الذي يريد دراسته وأن يتقن عادات وتقاليد هذا المجتمع ومن ثم يبدأ بدراسة خصائصه الاجتماعية والدينية والسياسية وغير ذلك ليقدم صورة شمولية متكاملة للمجتمع الذي يدرسه .

2- سيزار لامبروزو (Cesare Lombroso): عالم إيطالي يُعتبر أحد أبرز مؤسسي علم الجريمة الحديث. وُلد في 6 نوفمبر 1835 في فيرونا بإيطاليا وتوفي في 19 أكتوبر 1909 في تورينو. كان لامبروزو طبيبًا، أستاذًا في الطب الشرعي، وعالم أنثروبولوجيا، وقد أثرت أعماله بشكل كبير على دراسة الجريمة وعلم الإجرام في القرن التاسع عشر.

3- جوجليلمو فيريرو (Guglielmo Ferrero) (1871-1942) هو مفكر إيطالي وعالم اجتماع ومؤرخ شهير، اشتهر بأعماله في مجال علم الاجتماع التاريخي ودراساته حول الإمبراطوريات القديمة، وخاصة روما. كان أيضًا شريكًا ومساهمًا في بعض الأعمال العلمية مع سيزار لامبروزو، وخاصة تلك المتعلقة بعلم الجريمة.

4- آثرنا أن نترجم عنوان الكتاب على مبدأ التورية لما فيه من تحامل على المرأة وللأمانة العلمية نورد عنوان الكتاب كما ترجم إلى الفرنسية وفقا لامبروزمو هو بعنـوانLa femme criminelle la prostitée la naturelle . لقي هذا الكتاب نجاحـاُ كبـيرا فـي إيطاليا والبلـدان الأخرى ، حيث أعيدت طباعته عندما كان لومبروزو على قيـد في عام 1903 ، وطبع بعد وفاته أربع مـرات (1911 ،1915، ،1923 ،1927، وقد اكمل الكتاب ونقح من قبل ابنته غينا Gina ، وأعيدت طباعة الكتاب عند دار النشر التي طبعته عام 1893 . وقد ترجم ذلك الكتاب إلى الالمانية عام 1894 وإلى الإنكليزية عام 1895 وترجـم في الولايات المتحدة الأمريكية في نفس العام ، وإلى الفرنسية عـام 1896 .

5- Cesare Lombroso and Guglielmo Ferrero, The Female Offender, Trnalate: William Ferrero, D. Appleton and Com-pany, new York , 1895.

6- جيوسيب سيرجي:(Giuseppe Sergi) (1841–1936) عالم أنثروبولوجيا وعالم اجتماع إيطاليًا بارزًا، اشتُهر بأبحاثه حول الأعراق البشرية وتاريخ الحضارات. يُعتبر أحد المفكرين المؤثرين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حيث ركز على دراسة أصل الأعراق والعوامل الثقافية والاجتماعية المؤثرة على تطورها.

7- Paolo Mantegazza (1831–1910): كان طبيبًا، أنثروبولوجيًا، وكاتبًا إيطاليًا بارزًا، يُعتبر من الشخصيات الرائدة في العلوم الطبية والاجتماعية في القرن التاسع عشر. عُرف بأبحاثه المتعددة في مجالات الطب، الأنثروبولوجيا، وعلم النفس، بالإضافة إلى أعماله الأدبية التي دمجت بين العلم والثقافة.

(محاولة لفهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل)

تمهيد: في حقيقة الأمر، إن الحياة الإنسانية عبارة عن سلسلة يترابط فيها الماضي بالحاضر وصولاً إلى المستقبل، وهذه السلسلة متشابكة ومعقدة تدور فيها الكثير من الأحداث والظواهر الاجتماعية والتاريخية ومرتبطة بوقائع ماضية وأحداث تاريخية، وليست منفصلة أي أن الحاضر مرتبط الماضي. لذا " يعد البحث التاريخي بحثاً ناقداً ... وقد تتعلق مشكلة البحث التاريخي بتاريخ أمة أو تطور الدراسة الجامعية أو تاريخ منظمة تربوية أو تاريخ أحد العظماء في مجال السياسة أو العلوم أو الأدب وما إلى ذلك ".

 إن علماء الاجتماع يميلون إلى استخدام المنهج التاريخي لأنهم يريدون الوصول من خلال ذلك إلى المبادئ والقوانين العامة عن طريق البحث في أحداث التاريخ الماضية، إذ إن دراسة الظاهرة الاجتماعية من منظور تاريخي يكشف لنا عن مسار تلك الظاهرة ويعرفنا على القوانين التي تحكمها. كما أن التاريخ هو المنافس الوحيد لعلم الاجتماع في دراسة الظواهر الاجتماعية الكلية المتحركة.

أولاً- تعريف المنهج التاريخي: يرتكز المنهج التاريخي على دراسة أحداث الماضية دراسة دقيقة بالرجوع إلى السجلات التاريخية، إلا أن المنهج التاريخي ليس عملية البحث عن السجلات والوثائق القديمة بل يعد أيضاً إجراء لإثبات أصالة هذه الوثائق، أي إنه يقوم على تتبع ظاهرة تاريخية، من خلال أحداث أثبتها المؤرخون أو ذكرها أفراد، أو تناقلتها روايات، على أن يُخضع الباحث، ما حصل عليه من بيانات وأدلة تاريخية، للتحليل النقدي، للتعرف على أصالتها وصدقها، وعلى العموم تهدف البحوث التاريخية إلى تفسير الأحداث والكشف عن العوامل التي أدت إليها، وأبعادها المستقبلية، ليس فقط من أجل فهم الماضي، بل وللتخطيط المستقبلي أيضاً. كما يقوم المنهج التاريخي بدراسة الحوادث والوقائع الماضية وتحليل المشكلات الإنسانية ومحاولة فهمها لكي نفهم الحاضر على ضوء أحداث الماضي ونتمكن من التنبؤ بالمستقبل، لأن الماضي يتضمن الحاضر والحاضر يتضمن المستقبل.

لذا يعد المنهج التاريخي من أهم المناهج البحثية، التي يعتمدها الباحث الاجتماعي في جمع الحقائق والمعلومات وتصنيفها وتنظيرها وربطها بموضوع الدراسة الذي يريد بحثه والتخصص به، ويمكن اعتباره أول منهج للدراسة في علم الاجتماع فقد استخدمها جميع رواد علم الاجتماع الأوائل في دراساتهم الاجتماعية. وقد كان من أقطاب هذا المنهج العلامة ابن خلدون يؤمن بالمنهج التاريخي العلمي القائم على الملاحظة والوصف والتحليل والنقد ومحاولة التفسير أي تفسير الظواهر الاجتماعية من خلال تاريخ المجتمع عن طريق ربط الماضي بالحاضر والتركيز على ملاحظة وتحليل الظواهر مباشرة ثم متابعة وتعقب هذه الظواهر في مراحل تاريخية من حياة المجتمع.

وتتسم البحوث ذات المنهج التاريخي بمحاولتها تحليل الظواهر الاجتماعية في إطار المجتمع الذي نشأت فيه، بمعنى عدم فصل الظاهرة عن سياقها التاريخي. كما ويستمد المنهج التاريخي من دراسة التاريخ، حيث يعمل الباحث التاريخي على دراسة الماضي وفهمه وربطه بالحاضر ومن ثم التنبؤ ووضع خطة للمستقبل. ويمكن أن نعرف منهج البحث التاريخي بأنه: مجموعة من الأساليب والخطوات التي يتبعها الباحث التاريخي للوصول إلى الحقيقة التاريخية، وإعادة بناء الماضي بكل وقائعه وأحداثه في حدود الزمان والمكان التي وقعت فيه تلك الأحداث.

كما يمكننا القول: إنه منهج من مناهج البحث الاجتماعي يقوم على عرض وكتابة المعلومات من خلال المشاهد والتسلسلات التاريخية، ويربطها بالحاضر ليتنبأ بالمستقبل، وهو من مناهج البحث الاجتماعي الأساسية.

والباحث الذي يستخدم المنهج التاريخي في كتابة مضمون البحث العلمي يقوم بعملية تنبؤية بنتائج البحث العلمي، وذلك وفقاً لما بين يدي الباحث من معلومات تم جلبها باستخدام المنهج التاريخي من الوقائع، التي حدثت بالفعل في الماضي.

وطبيعة المنهج التاريخي في كتابة مضمون البحث الاجتماعي تأتي من خلال حصر الشواهد والأحداث التاريخية، وإدخالها في عملية تحليل ومناقشة للمعلومات، وكذلك عملية ربط المعلومات التاريخية بالمعطيات الحالية، وبهذا يمكن للباحث فهم طبيعة المستقبل.

ثانياً- منطلقات توظيف المنهج التاريخي: إن الباحثين الاجتماعيين الذين يقومون بالدراسات والبحوث ذات المنهج التاريخي ينطلقون من أربع منطلقات رئيسية، وهي كالآتي:

1- دراسة الظاهرة الاجتماعية من خلال ارتباطها بسياقها التاريخي.

2- دراسة الظاهرة الاجتماعية في الحاضر هو انعكاس لوضع الظاهرة في الماضي.

3- إن التفسير الحقيقي للعوامل المؤثرة في الظاهرة المدروسة لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال الدراسة التحليلية لتاريخ المجتمع الذي نشأت فيه هذه الظاهرة. ولن ننجح في فهمنا لهذه الظاهرة الاجتماعية إذا تجاوزنا السياق التاريخي لها.

4- إن تاريخ أي مجتمع هو المنطلق الحقيقي الذي يستمد منه الباحث كل الظواهر الاجتماعية التي يجب عليه دراستها وليس أي شيء آخر، لذلك فإن البحث التاريخي هو البحث الذي يوظّف التاريخ إما من أجل معرفة علمية لأحداث الماضي أو لمصلحة البحث العلمي لواقع الظواهر المعاصرة، وذلك أن حاضر الظاهرة لا ينفصل عن ماضيها بل هو امتداد لها، التي تساعد على فهم الحاضر وربطه بالماضي والتنبؤ بالمستقبل، ولكل نظام اجتماعي تاريخه الخاص، كما يتفق العديد من العلماء على كون التاريخ ليس مجرد سرد لأحداث الماضي بل إنه أداة للتفسير وخصوصاً إذا أخذ جانب المقارنة وقد أشار دوركايم إلى أن التاريخ المقارن هو أداة مهمة في يد علماء الاجتماع تساعدهم على التحليل والشرح.

ثالثاً- الفوائد العلمية للمنهج التاريخي: تنحصر في الفوائد التالية:

1- اعتبار التاريخ الميدان الواسع الذي يحتوي على كل مجرب.

2- الاستفادة من تجارب الماضي المثبتة.

3- اعتبار الزمن الحاضر نقطة انطلاق للبحث في الموضوع الحاضر أو السابق.

4- تحري الصدق والنزاهة والتأكد من صحة ما يسجله الباحث من أحداث وأفكار ومواقف الابتعاد عن التحيز.

5- الاعتماد على المصادر في كتابة التاريخ والابتعاد قدر الإمكان عن التتبع الهامشي.

6- التركيز على النقد البناء في تناول القضايا والأفكار.

7- يعتبر التفسير التاريخي محور المنهج التاريخي في ربط العلاقات بين المتغيرات المستهدفة بالبحث.

 تعتبر البحوث التاريخية نوعاً من البحوث الكيفية، حيث يعتمد البحث التاريخي في حالات كثيرة على دراسة الوثائق وتحليلها وجمع الحقائق منها ثم تفسيرها من أجل فهم الماضي ومحاولة فهم الحاضر وتوظيفها في المستقبل. ومع هذا كله لا يمكن الاستغناء عن المنهج التاريخي، ذلك أن هناك ظواهر لا يمكن تتبعها ودراستها إلا وفق المنهج التاريخي، كالثورات والحروب مثلاً، لذلك فإن هذا المنهج ضروري ومفيد في تتبع مسار الظواهر الاجتماعية المختلفة، ومعرفة أسلوب تطورها وتغيرها وتقدمها.

رابعاً- أساليب المنهج التاريخي: يتبع المنهج التاريخي في عملية معالجة معلوماته أسلوبين رئيسيين، باعتبارها الأنسب في عملية استقطاب الباحث للمعلومات ضمن المنهج التاريخي، وهذين الأسلوبين هما:

1- الأسلوب الاستقرائي في المنهج التاريخي: يحتاج الباحث أحياناً في المنهج التاريخي لإتمام مضمون البحث العلمي أن يقوم بعملية جمع المعلومات، ومن ثم ربط المعلومات بالمشكلة التي يأخذها في مضمون البحث العلمي، وكذلك كتابة الفروض، وبعد ذلك استقراء هذه المعلومات وادخالها في عملية المناقشة وصولاً إلى استخراج النتائج الخاصة بمضمون البحث العلمي كاملاً.

2- الأسلوب الاستنباطي في المنهج التاريخي: يقوم الباحث في هذا الأسلوب بعملية عرض رأيه وفكره ودمجه مع المعلومات التي اقتبسها من المراجع. ليصل الباحث إلى قالب استنباطي يشمل رأيه والمعلومات التي حصل عليها من خلال المراجع. وكذلك يعتمد أسلوب الاستنباط في المنهج التاريخي على تحكيم العقل والاستدلال بالشواهد والثوابت والحقائق ليصل للنتائج الصحيحة.

وبهذين الأسلوبين في المنهج التاريخي يمكن للباحث تدعيم مضمون البحث العلمي. حيث إن المعلومات التي يجمعها المنهج التاريخي تكون بحاجة لعمليات أخرى لتصبح صالحة في الدخول إلى مضمون البحث العلمي.

خامساً- أهم مصادر المنهج التاريخي، تنحصر تلك المصادر بما يلي:

1- السجلات والوثائق.

2- الرسائل الشخصية، المذكرات، التراجم.

3- تقارير شهود العيان على الحدث.

4- " أقوال رجال كبار في السن ".

5- تقارير صحفية.

6- الدراسات والكتابات التاريخية والأثرية.

7- الأساطير والروايات الشعبية.

8- الحفريات.

سادساً- خطوات المنهج التاريخي: يتم استخدام المنهج التاريخي وفقاً للخطوات التالية:

1- أول ما يبدأ به الباحث ضمن إجراءات المنهج التاريخي هو عملية اختيار مشكلة البحث العلمي، حيث تفرض هذه المشكلة على الباحث ما إذا كان استخدام المنهج التاريخي هو المناسب أم لا، وتكون هذه المشكلة بحاجة لكتابة المعلومات والبيانات من الحوادث التاريخية، وينبني على تحديد المشكلة في المنهج التاريخي تحديد المصادر والمراجع التي سيتبعها الباحث في عملية جمع المعلومات، أي إن توافر المصادر والوثائق المتعلقة بمشكلة البحث أمر له أهمية كبيرة في البحوث التاريخية.

2- بعد أن يقوم الباحث بعملية تحديد المشكلة سيقوم الباحث بعملية جمع المعلومات من المصادر التاريخية (الأولية والثانوية)، ولا بد في المنهج التاريخي من التأكد من صحة مضمون كل مرجع من المراجع التي سيتم اقتباس المعلومات منها.

3- يضع الباحث الفرضيات، وهذه الفرضيات تتم عملية اشتقاقها في المنهج التاريخي بالنظر إلى مشكلة البحث العلمي، ومن ثم ربطها بالمعطيات الحالية.

4- وضع المعلومات في سياق مضمون البحث العلمي يكون غير كافياً في المنهج التاريخي. بل يجب أن يقوم الباحث بعملية المناقشة والتفسير لهذه المعلومات.

5- لا بد من أن يقوم الباحث بعملية تحليل ونقد للمعلومات التي قام بجمعها من خلال المنهج التاريخي، وهذا النقد يشمل رأي الباحث وإثباتاته المنطقية.

6- لا بد من عملية توثيق كافة المراجع والاقتباسات التي تم اقتباس المعلومات منها، ووضع هذه المعلومات في مضمون البحث العلمي.

7- وأخيراً، يقوم الباحث بناءً على ما سبق باستخلاص النتائج الخاصة بمضمون البحث العلمي، وهذه النتائج تكون عبارة عن تنبؤات، بالإضافة إلى كتابة تقرير البحث.

خلاصة القول تنحصر تلك الخطوات، بما يلي:

أ- تحديد الظاهرة أو النسق المراد دراسته.

ب- تحديد المفاهيم والفروض أو التساؤلات.

ج- تحديد نوع الدراسة: من حيث كونها استطلاعية أو تحليلية أو تفسيرية.

د- تحديد وحدة التحليل التاريخي وتشمل:

1) وحدة بشرية: المجتمع البشري الذي سيتم تغطيته بالدراسة تاريخياً.

2) المجال المكاني: الموقع الجغرافي.

3) المجال الزماني: الفترة الزمنية التي ستتم تغطيتها.

ه- تحديد مصادر جمع البيانات، والتي تنقسم إلى نوعين:

- مصادر أولية: وتشمل الآثار والمخطوطات (التي يتم التأكد من صحتها من حيث الشكل والمضمون) وعند قيام الباحث بتحليلها بنفسه إلى جانب الأشخاص الذين عاصروا الفترة التاريخية.

- مصادر ثانوية: الكتب والرسائل العلمية التي تتناول الفترة التاريخية موضوع الدراسة.

و- تصنيف الحقائق التاريخية وتنسيق المعلومات والربط بين النتائج ثم تفسير مدلولاتها. بمعنى اختبار الفروض أو الإجابة على التساؤلات.

ز- كتابة تقرير البحث.

سابعاً- أمثلة على استخدام المنهج التاريخي: نستعرض في هذه الفقرة بعض الأمثلة حول استخدامات المنهج التاريخي في مجال البحث العلمي، وكيفية توظيفه، من خلال ما يلي:

1- مضمون البحث العلمي التربوي: يمكن للباحث أن يقوم باستخدام المنهج التاريخي في هذا المضمون. من خلال دراسة القيم التربوية في الفترات الزمنية والتي تتطلب العودة للماضي وربطها بالحاضر.

2- مضمون البحث العلمي عن الطبيعة: تتأثر الظواهر الطبيعية بعامل الزمن. وكذلك الباحث يمكنه الحصول على معلومات حول ظاهرة طبيعية معينة في فترات زمنية مختلفة تبين عوامل التأثر والاختلاف.

3- مضمون البحث العلمي الاجتماعي: الدراسات الاجتماعية غالباً ما تهتم بالعلاقات بين الناس، وباستخدام الباحث المنهج التاريخي يمكن معرفة طبيعة هذه العلاقات وفقاً لأثر الحوادث التاريخية، على سبيل المثال معرفة سبب الهجرة في بلد معين اندلعت فيه عدة حروب.

4- مضمون البحث العلمي الاقتصادي: أغلب المحددات الاقتصادية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتاريخ، على سبيل المثال معرفة كيف تمكنت دولة ماليزيا من الصعود من دولة فقيرة ومعدومة المقومات الاقتصادية إلى دولة ذات استثمارات ضخمة في القارة الآسيوية.

- عناوين مقترحة في توظيف المنهج التاريخي: 

1- دراسة تطور مراسم وعادات الزواج في مدينة دمشق ما بين عام 1950/ 2000

2- التطور الاجتماعي والاقتصادي لمدنية حلب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر

3- أسباب تأخر سن الزواج في المجتمع السوري ما بين عام 1980/ 2010

4- دراسة النظام الأسري في مدينة حلب ما بين عام 1960/ 2021

5- التاريخ الاجتماعي لمدنية القدس في القرن التاسع عشر

6- أسباب قيام الثورة الفرنسية الاجتماعية السياسية في عام 1789

7- آثار الثورة الصناعية على البنية الاجتماعية في المجتمع الإنكليزي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

................................

- المراجع المعتمدة:

1.  حسام الدين فياض: تقنيات كتابة البحوث الاجتماعية " منهجية إعداد وتصميم خطة البحث من الألف إلى الياء "، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب: الخامس، الجزء: الأول، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2023.

2.  فاطمة عوض صابر وميرفت علي خفاجة: أسس ومبادئ البحث العلمي، مكتبة ومطبعة الإشعاع الفنية، الإسكندرية، ط1، 2002.

3.  مادلين غراويتر: مناهج العلوم الاجتماعية، ترجمة: سام عمار، مراجعة: فاطمة الجيوشي، المركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف والنشر، دمشق، 1993.

4.  مجموعة مؤلفين: منهجية البحث العلمي وتقنياته في العلوم الاجتماعية، تحرير: عياش عائشة ورائجة زكية، المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، برلين، ألمانيا، 2019.

5.  محمد الصاوي محمد مبارك: البحث العلمي – أسس وطريقة كتابته، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، ط1، 1992.

6.  مروان عبد المجيد إبراهيم: أسس البحث العلمي لإعداد الرسائل الجامعية، مؤسسة الوراق، عمان، ط1، 2000.

7.  منذر الضامن: أساسيات البحث العلمي، دار المسيرة للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2007.

8.  ميادة القاسم: مناهج البحث الاجتماعي وتطبيقاتها في علم الاجتماع، المجلة العربية للنشر العلمي، الأردن، مجلة علمية محكمة دولية، العدد: 31، 2021.

 

ترجمة: د. زهير الخويلدي

***

"من القرن الثامن إلى القرن العاشر، كان العرب مستودعًا للتراث الفلسفي والعلمي لليونان. فقد ترجمت أعمال أرسطو وأفلاطون ومفسريهم، بطليموس وأرخميدس وديوفانتوس وأبقراط وجالينوس إلى العربية. وعلى هذا الأساس الكلاسيكي تم بناء الفلسفة والعلوم العربية (علم الفلك والطب والرياضيات). منذ القرن الثاني عشر فصاعدًا، تمت إعادة ترجمة النصوص العربية - الأعمال الأصلية وكذلك ترجمات المواد الكلاسيكية - إلى اللاتينية والعبرية والقشتالية، وهي العملية التي جرت بشكل رئيسي في إسبانيا. وبهذه الطريقة اكتشفت أوروبا أعمال الفلاسفة والعلماء في العالم العربي الإسلامي وأعادت اكتشاف بعض مصادرهم الكلاسيكية. من بين المزاعم العديدة التي تنسب إلى الحضارة العربية الإسلامية، ليس أقلها ضمان نقل المعرفة القديمة، إذا جاز التعبير، دون انقطاع. كيف جمع العرب هذا التراث من العصور القديمة القديمة والمتأخرة، وكيف فهموه، وكيف نقلوه، هذا ما سيحاول هذا المقال المتواضع توضيحه. عندما استولى عرب شبه الجزيرة، تحت قيادة الإسلام، من بيزنطة على المقاطعات الغنية في سوريا وفلسطين ومصر (الاستيلاء على دمشق: 635؛ الاستيلاء على الإسكندرية: 642)، مع وضع نهاية للإمبراطورية الفارسية الساسانيين ( الاستيلاء على قطسيفون: ٦٣٧)، لم يكن أمام الغزاة سوى تفوقهم العسكري فقط لغتهم ودينهم: اللغة العربية الغنية بتقاليد شعرية طويلة والتي أصبحت مقدسة للتو بالوحي القرآني، والإسلام الذي يتجاوز الوحي السابق ويلغيه. إن هاتين القوتين، إحداهما تقليدية والأخرى مبتكرة، هما اللتان تعملان معًا على حماية العرب من الاندماج في شعوب متفوقة من حيث العدد وأكثر تقدمًا فكريًا. ولكن إذا ظلوا مرتبطين دون قيد أو شرط بلغتهم ودينهم، فإن الغزاة يضعون أنفسهم في مدرسة المهزومين، في كل شيء آخر. ومن هذه، لديهم كل شيء ليتعلموه: التقنيات المعمارية والزخرفية، ووسائل الراحة في الحياة، وإدارة المقاطعات، والعلوم، أي الطب والرياضيات وعلم الفلك وعلم النبات، ولكن أيضًا الفلسفة. ومرة أخرى "انتصرت اليونان المفتوحة على فاتحها الشرس"، بحسب كلمات هوراس الجميلة عن الرومان، المنتصرين على اليونانيين بالسلاح ولكنهم خاضعين لحضارتهم. ومع ذلك، على عكس الرومان، فإن العرب لا يتنازلون عن دراسة لغة المهزومين. وإذا انفتحوا على المعرفة الدنيوية لليونانيين، فإن ذلك يكون من خلال الترجمات العربية، وستكون اللغة العربية، لعدة قرون، التعبير المتميز عن المعرفة، وتلعب في الشرق الدور الذي كانت تلعبه اللاتينية في الشرق. الغرب. ولذلك كان المترجمون هم الذين عرفوا العرب بالعلم والفلسفة. ومن غير العدل أن ننساها عندما نتحدث عن النمو الفكري المذهل الذي شهده العالم العربي الإسلامي في عصره الذهبي في القرن العاشر. ومع ذلك، وعلى الرغم من أهمية دور هؤلاء المترجمين، إلا أنه لم يكن ممكنًا لولا التقليد الطويل لمؤلفي ومترجمي اللغة السريانية. في وقت الفتح العربي، استمرت المعرفة القديمة في الزراعة في المقاطعات البيزنطية في مصر وسوريا. إن مدارس الرها، وقيصرية، وأنطاكية (التي تأسست في القرن الثالث)، والشرق الأقصى من مدرسة نصيبين (التي تأسست في القرن الرابع)، وخاصة الإسكندرية، ضمنت الآن استمرارية الفلسفة والعلوم اليونانية. بعيدًا، في الشرق، واصلت ميرو، في مملكة باكتريا اليونانية، التي أسسها الإسكندر، وحتى أبعد من ذلك، جونديسابور، نقل العلوم الهيلينية والحفاظ عليها، والطب على وجه الخصوص. في هذه المراكز الجديدة للهيلينية، ما ساد هو دراسة أعمال أرسطو (العمل المنطقي على وجه الخصوص)، ولكن أيضًا أعمال أفلاطون وجالينوس وبطليموس. ونقرأ أيضًا الفلاسفة والمعلقين المتأخرين: نيقولا الدمشقي (القرن الأول)، والإسكندر الأفروديسياس (القرن الثاني والثالث)، وأفلوطين، وبورفيري (القرن الثالث)، ويامبليخوس (القرن الثالث والرابع)، وثامسطيوس (القرن الرابع)، وبروكلس (القرن الرابع). القرن الخامس)، جون فيلوبون (القرن السادس). تم خلط الأعمال الأصلية مع الأبوكريفا، والتي رأى أرسطو أنه يُنسب إليها الفضل (على سبيل المثال كتاب Liber de Causis). ما احتفظنا به من العصر الكلاسيكي والعصر الهلنستي، كان، باستثناء الملحمة والشعر والمسرح والتاريخ، الفلسفة والعلم في الأساس. تم التدريس باللغة اليونانية، على الأقل حتى القرن الخامس. شيئًا فشيئًا، في هذه المدارس المسيحية، ولكنها انفصلت عن العقيدة البيزنطية بمذاهبها المونوفيزية أو النسطورية؛ السريانية حلت محل اليونانية. منذ القرن السادس، تمت ترجمة معظم المعرفة القديمة إلى السريانية. وهكذا فإن التراث القديم الذي جمعه العرب بعد الفتح سيكون هو نفسه الذي حافظ عليه أسلافهم الناطقون بالسريانية والمتحدثون بالمسيحية لعدة قرون. لقد بدأت حركة الترجمة من السريانية إلى العربية في القرن الثامن، ولكن بشكل خاص في القرن التاسع، تحت قيادة الخليفة العباسي الثامن، المأمون، وصلت هذه الحركة إلى ذروتها. أسس المأمون بيت الحكمة (بيت الحكمة) في بغداد، حيث عمل المترجمون والأطباء وعلماء الرياضيات والفلك والفلاسفة من المراكز الهلنستية الرئيسية على إنتاج نسخ عربية من الموسوعة اليونانية السريانية.

من المناسب أن نقول بضع كلمات عن هؤلاء المترجمين وأساليبهم وعملهم. أقدم هذه الآثار المعروفة لنا كانت من مدينة حران في شمال بلاد ما بين النهرين. أصبحت هذه المدينة، التي تم فتحها عام 640، في القرن التاسع مركزًا نشطًا للغاية للترجمة من اليونانية والسريانية إلى العربية. وأبرز مترجمي هذه المدرسة هو أسقف حران ثابت بن قرة. وكان هذا تلميذ يوحنا الدمشقي يجيد اللغات اليونانية والسريانية والعربية. ونحن مدينون له بالنسخة العربية من التحليل الأول. ولكنه قبل كل شيء هو مترجم علماء الرياضيات اليونانيين: نيقوماشيوس الجراسي، أبولونيوس، أرخميدس... ومن عناصر إقليدس، يقوم بمراجعة ترجمة الحجاج (مترجم بطليموس). في الوقت نفسه، في بغداد، ترجم أستات الميتافيزيقا مباشرة من اليونانية، والتي ستغذي نسختها العربية جميع الفلاسفة العرب (الفلاسفة)، من الكندي (القرن التاسع) إلى ابن رشد (القرن الثاني عشر). يحيى بن البطريق يترجم دي كايلو، و الأرصاد الجوية، و دي جينيريشن أنيماليوم، و دي بارتيبوس أنيماليوم. ويعتبر قسطا بن لوقا من أفضل المترجمين والعلماء في هذا العصر. كان يعرف اليونانية والسريانية وكذلك العربية، وقد نقل العديد من أعمال ديوفانتوس وأوتوليكوس وأرسطرخوس وهيرون إلى العربية. نحن مدينون له بالنسخة العربية من كتاب بلاسيتا الفلسفي لبلوتارخ الزائف، والذي يتمتع بأهمية كبيرة لتاريخ الفلسفة اليونانية. لكن أشهر هؤلاء المترجمين جميعاً هو بلا شك حنين بن إسحاق شماس الكنيسة النسطورية. وبعد دراسة الطب في جونديسابور، جاء ليستقر في بغداد، حيث أسس مدرسة للمترجمين مستقلة عن بيت الحكمة. قام بترجمة عدد كبير من الأعمال اليونانية بمفرده أو مع تلاميذه (بما في ذلك ابنه إسحاق بن حنين): أطروحات لأرسطو (بما في ذلك الفئات ودي أنيما)، وكتاب الفكر للإسكندر الأفروديسياس، وكتاب الأحلام. أرتيميدوروس الأفسسي. لكننا مدينون قبل كل شيء لهذا الطبيب اللغوي بالنسخة العربية من أعمال جالينوس وكتاب أبقراط.

لقد قدمت طريقة عمل حنين وتلاميذه أفضل الضمانات للدقة اللغوية. وأوضح حنين نفسه أنه قبل القيام بالترجمة، قام بوضع نص نقدي من المخطوطات اليونانية المختلفة المتاحة له. وكان يقوم أحيانًا بتنقيح هذه الترجمة إذا كان محظوظًا بالحصول على مخطوطات جديدة. ولكن إذا كان حنين، مثل قليلين آخرين، قادرًا على الترجمة مباشرة من اليونانية إلى العربية، فإن معظم الترجمات تمت من السريانية. غالبًا ما كان حنين نفسه يترجم من اليونانية إلى السريانية قبل أن يعطي النسخة العربية. لقد كان بالنسبة للمترجمين، ومعظمهم من المسيحيين، وسيلة لخدمة المعرفة المسيحية باللغة السريانية بقدر ما كان يفعله السادة المسلمون. لكن هذه الطريقة غير المباشرة لا تضر، ولو بشكل طفيف، بأمانة الترجمة. في الواقع، تتميز هذه الترجمات بالحرفية لدرجة أنه من الممكن اليوم قراءة النص اليوناني الأصلي ضمنيًا. وهذا ليس أقل اهتماماتهم: فالناشر الحديث للنص اليوناني يمكنه، بل ويجب عليه الآن، أن يأخذ في الاعتبار هذه النسخ العربية القديمة، والتي تتمتع أيضًا بميزة الشهادة على تقليد المخطوطات الأقدم من ذلك الذي نعرفه عن أقدم مخطوطاتنا اليونانية. أخيرًا، نقلت إلينا هذه الترجمات العربية أعمالًا فُقد أصلها اليوناني: هذه هي حالة ميكانيكا هيرون، وكتب الحساب لديوفانتس، وإعادة صياغة لثيميستيوس، والعديد من أطروحات الإسكندر وجالينوس. لكن أول المستفيدين من هذا العمل الهائل كانوا العرب أنفسهم. وكان هؤلاء المترجمون هم الذين عرّفوا العالم العربي والإسلامي بالفلسفة والعلوم والتكنولوجيا. يعتمد علماء الفلك بقدر ما يعتمد علماء الرياضيات، والفلاسفة بقدر ما يعتمد الأطباء على عمل المترجمين. وبفضلهم، منذ القرن العاشر، أصبحت النصوص الأرسطية بأكملها معروفة لدى أفلاطون (الجمهورية، طيماوس، فيدون، الندوة: الترجمات مفقودة الآن)، بطليموس، ديوسقوريدس، إقليدس وديوفانتوس، أبقراط وجالينوس. العرب. ليس من المؤكد أنه يقلل من فضل العرب في التذكير بأنه لولا "المعجزة اليونانية" لما كان هناك ما يسمى أحيانا "المعجزة العربية". لقد كان فضلهم عظيمًا في جمع المعرفة القديمة، وفي بعض الأحيان إنقاذها من الحطام، ولكن لم يكن أقل فضلًا هو إثراءها بعبقريتهم، وإثرائها بتأملاتهم وخبراتهم، قبل نقلها أخيرًا إلى أوروبا المسيحية في الأعمال. ابن سينا (ابن سينا)، ابن رشد (ابن رشد)، البتاني (ألباتينيوس)... كل هذه المعرفة اليونانية العربية، في الواقع، ستنتقل إلى أوروبا عندما بدأ الناس منذ القرن الثاني عشر في ترجمة اللغة العربية إلى العبرية واللاتينية. وفي الشرق تمت الترجمات الأولى. أديلارد باث (القرن الثاني عشر)، بعد أن تعرف على الثقافة اليونانية العربية في صقلية، سلك الطريق إلى الشرق (أنطاكية، طرسوس، القدس). بالعودة إلى الغرب، أصبح معروفًا من خلال الترجمة اللاتينية لكتاب العناصر لإقليدس وعمل الخوارزمي (القرن التاسع) على الجداول الفلكية (زيد السندهند). ولكن حدث هذا النقل بشكل رئيسي في إسبانيا. بعد استعادتها عام 1085، استمرت مدينة طليطلة، كما كانت تحت الاحتلال العربي، في لعب دورها كنقطة اتصال بين الحضارتين. وهناك، تحت قيادة رئيس أساقفتها ريموند (1126-1151)، تم القيام بأعمال ترجمة طويلة ومثمرة جمعت بين العرب والعبرانيين واللاتينيين، وتمكن الغرب بفضلها من التعرف على مفكري الإسلام. ، ولكن أيضًا تلك الخاصة باليونان. ولا يسعنا في هذه النظرة البسيطة إلا أن نذكر بعض الروابط الأساسية في سلسلة هذا النقل. روبرت التشستري، جيرارد كريمونا بعد فترة وجيزة (القرن 13م)، ترجم إلى اللاتينية الكتاب الشهير للخوارزمي بعنوان المختصر في حساب الجبر والمقابلة: أساسي العمل الذي أدخل الغرب، في نسخته اللاتينية، إلى كلمة جديدة وعلم جديد: الجبر (الجبر: التخفيض). ومترجم آخر هو جون الإشبيلية، ترجمه نفس المؤلف، كتاب حساب العدد الهندي (كتاب حساب العدد الهندي) تحت العنوان اللاتيني: Liber Alghoarismi de practica arismetrice (sic). ومع هذا الكتاب، تم إدخال ما يسمى بالأرقام العربية إلى أوروبا، وظهرت كلمة جديدة تسمى ثروة معينة: الخوارزمية (الخوارزمي > الخوارزمي > الخوارزمية). ترجم جيرارد كريمونا إلى اللاتينية، خلال القرن الثاني عشر، حوالي سبعة وثمانين عملاً: لأرسطو، وثيميستيوس، وأرخميدس، وأبولونيوس، وبطليموس، ولكن أيضًا لابن سينا (الميتافيزيقيا). وفي القرن الثالث عشر، كان الملك ألفونس العاشر الحكيم هو من حرك هذه الحركة الفكرية وعززها. قام ميشيل سكوت، الذي تعرف على الثقافة العربية في صقلية وإسبانيا، بترجمة كتاب علم الفلك الليبرالي للبطروجي (ألبتراجيوس) وجميع شروح ابن رشد تقريبًا إلى اللاتينية. في ترجمته العربية اللاتينية، ستقرأ أوروبا المتعلمة التعليق العظيم البارع على الميتافيزيقا، الذي ألهم فكر وتعاليم القديس توما، وكذلك المدرسة اللاتينية بأكملها. هذا المثال الأخير يسلط الضوء على الدور البارز لإسبانيا في نقل المعرفة. فمن ناحية، أدخلت أوروبا في العصور الوسطى إلى العديد من أعمال العصور اليونانية والهلنستية القديمة. ومن ناحية أخرى، فهو ينقل في الوقت نفسه أساسيات الفكر والعلم الفلسفي الشرقي. نحن نفهم بالفكر والعلم الشرقيين بالمعنى الواسع مجمل التأملات الفلسفية والعلمية التي يكون إطارها الجغرافي والروحي العالم وحضارة الإسلام، كوسيلة للتعبير عن اللغة العربية، كممثلين للفلاسفة وعلماء الرياضيات والعلماء. علماء الفلك، وعلماء النبات، والأطباء، من جميع الأديان - المسلمين واليهود والمسيحيين - ومن جميع المجموعات العرقية الموجودة في "مسكن الإسلام" الشاسع: الهنود، والفرس، والأتراك، العرب، شمال أفريقيا، المصريون، الأندلسيون. إن ما تتلقاه أوروبا من العالم الإسلامي ليس إقليدس فقط، بل الخوارزمي أيضًا. إنه أبقراط وجالينوس، ولكن أيضًا القانون لابن سينا وجامعة ابن رشد. إنه بطليموس، ولكن أيضًا علماء الفلك «المشرقون»، البتاني (الباتينيوس)، والبطروجي (البتراجيوس)، وابن الزرقالة (أزاركيل)، والفرغاني (الفراجانوس). وهذا ما يفسر لماذا تتألق في سمائنا إلى الأبد، إلى جانب الأسماء اليونانية أنتاريس وأوريون وبولوكس، والأسماء العربية الديبراني والبطروجي والطائر." بقلم أوبرت مارتن

تتناول هذه المقالة عناصر مؤتمرين للمؤلف، أحدهما منشور: كيف نقل إلينا العرب التراث القديم (جامعة لييج، الكلية المفتوحة، فبراير 1984)؛ والآخر غير منشور: إسبانيا ونقل المعرفة القديمة والشرقية (Europalia 85. España. بروكسل). وهو مستوحى أيضًا من مقال للمؤلف نفسه: ميتافيزيقيا أرسطو في العالم العربي (Clavis philosophorum antiquorum. Publications du C.N.RS.، المقرر نشره عام 1989).

***

.......................

Bibliographie

A. BADA WI, La transmission de la philosophie grecque au monde arabe, Paris, 1968 (Études de philosophie médiévale, 56).

Encyclopédie de l’Islam. Nouvelle édition. Leyde-Paris, en cours de publication (articles Aflatun, Aristutalis, Batlamiyus, al-Battani, Bayt al­hikma, al-Bitrudji, Bukrat, Buruklus, Djalinus, falasifa, falsafa, Hunayn ibn Ishaq ; Ibn Rushd, Ibn Sina, al-Khuwarizmi).

A. JOURDAIN, Recherches critiques sur l’âge et l’origine des traductions latines d’Aristote et sur les commentaires grecs et arabes, employés par les docteurs scolastiques , nouvelle édition revue et augmentée par Ch. JOURDAIN, Paris, 1843.

Kh. GEORR, Les Catégories d’Aristote dans leurs versions syro-arabes, Beyrouth, 1948.

L. LECLERC, Histoire de la médecine arabe. Exposé complet des traductions du grec. Les sciences en Orient, leur transmission à l’Occident par les traductions latines, 2 vol. , Paris, 1876.

I. MADKOUR, L’Organon d’Aristote dans le monde arabe. Ses traductions, son étude et ses applications, Paris, 1934, 2e éd., 1969 (Études musulmanes, 10).

A. MIELI, La science arabe, Leyde, 1938.

A. MULLER, Die griechischen Philosophen in der arabischen Uberlieferung, Halle, 1873.

De Lacy O’LEARY, How Greek Science passed to the Arabs, London, 1949.

F.E. PETERS, Aristoteles arabus. The Oriental Translations and Commentaries on the Aristotelian Corpus, Leiden, 1968.

M. STEINSCHNEIDER, Die arabischen Ubersetzungen aus dem Griechischen, Leipzig, 1897. Réimpression, 1960. R. W ALZER, Greek into Arabie. Essays on Islamie Philosophy, Oxford, 1962.

R. W ALZER, L’éveil de la philosophie islamique, dans Revue des Études islamiques, XXXVIII (1970), 7-42 et 207-242.

Reference

Aubert Martin, « Les arabes, transmetteurs du savoir antique  », Civilisations, 38-1 | 1989, 15-25.

كاتب فلسفي

 

مرّ العالم الإسلاميّ منذ حالة الإفاقة في القرن التّاسع عشر الميلاديّ بمرحلتين: الأولى تتمثل في انقسام العالم إلى كتلتين، تمثلتا لاحقا في دول التّحالف والمحور، وكان ما يتشبثون به يتمثل في أمرين: الخلافة العثمانيّة ووحدة محاربة الاستعمار، ومن جهة أخرى هناك من يرى أنّ الخلافة العثمانيّة قادت الأمّة إلى الجهل والتّخلّف، ولا يمكن مقارعة الاستعمار إلّا بمحاربة الجهل، وهنا استخدم بعض المصلحين مصطلح السّلفيّة في المعنى الإحيائيّ القيميّ، أي الشّيء الذي كان سببا في إحياء السّلف، فلن يصلح آخر هذه الأمّة إلّا بما صلح به أولها، وليس بمعنى الجمود، أو إحياء الصّراع الأول بين الصّفاتيين والمعتزلة، فنجد مصطلح السّلفيّة حاضرا في أدبيات محمّد عبده (ت: 1905)، ومحمّد رشيد رضا (ت: 1935م)، في المقابل نتيجة تهميش الأقليات، والبعد عن الجامع بالمعنى الدّينيّ، كان اتّجاه آخر في الإحياء بالمعنى القوميّ الأكبر، دون تهميش للأقليّات، أو استخدام الدّين في تبرير الاستبداد وإقصاء الآخر، فظهرت حركات اليسار، وكان فيها رجال دين تبنّوها كفكر، ولاحقا كمنهج تحت مظلّة الاشتراكيّة في الإسلام.

في مقابل القوميّة والّتي قادت روحها مصر منذ أيام الملكيّة كمنهج دعوة إلى منهج سياسيّ واقتصاديّ في عهد جمال عبدالنّاصر (ت: 1970م)، قابله تشكل خطاب دينيّ تحت مظلّة السّلفيّة، لقي دعما من المال بسبب انتعاش المنطقة بالنّفط، وتمثل هذا في المملكة العربيّة السّعوديّة، فمنذ ضعف حضور إخوان بريدة في عهد الملك عبدالعزيز (ت: 1953م)، وبداية استقطاب الإخوان المسلمين، خصوصا نتيجة الاضطهاد في مصر؛ بدأ تشكل سلفيّة جديدة، مازجت بين معتقد السّلفيّة وأصولها التّقليديّة، وبين حركيّة الإخوان، المتمثلة ظاهريّا في الدّعوة وأسلمة الدّولة، ومستقبليّا -عند العديد منهم- قيام الخلافة الإسلاميّة، أو قيام حكومات إسلاميّة، وتحقّق الثّاني يكون بتحقّق الأول عند الفريق الأغلب، وهنا ظهرت التّيارات الصّحويّة والسّروريّة والقطبيّة وغيرها، يجمعها هذا التّمازج، بيد أنّ فريقا آخر يرى تحقّق الأسلمة لا يكون إلّا بتحقّق الحاكميّة، وقيام حكومة إسلاميّة لا يكون إلّا بقيام أنظمة حاكمة إسلاميّة، وبدأ فكرا في حاكميّة المودوديّ (ت: 1979م) وسيّد قطب (ت: 1966م)، وظهر كأول منهج حركيّ واضح عند مصطفى شكريّ (ت: 1978م) وعبدالسّلام فرج (ت: 1982م) مثلا، من خلال نشوء جماعات جهاديّة متطرّفة ومكفرة، مستخدمة أدبيات ابن تيميّة (ت: 728هـ/ 1328م) وبعض السّلف، وحاكميّة المودودي وسيّد قطب، وحركيّة الإخوان في محاولة تغيير الأنظمة ذاتها.

هنا نشطت الأحزاب الإسلاميّة النّاتجة عن حركة الإخوان المسلمين، تحت مظلّة العمل الاجتماعيّ، وأسلمة الدّولة، والانفتاح على الوسائل العلمانيّة، وتبني العديد من الخطابات اليساريّة، ولكن تحت مظلّة عالميّة وشموليّة الإسلام، وليس تحت مظلّة القوميّة، كما تمدّد من الاتّجاه السّنيّ إلى الاتّجاه الشّيعيّ في حزب الدّعوة، والحركة الشّيرازيّة مثلا، ونشط الحراك الإخوانيّ الصّحويّ والحركيّ الإسلاميّ، وأصبح أكثر تمدّدا، وسيطر على الخطاب في الجامعات والكليّات، وكانت له منابره من خلال «الكاسيت»، والمنشورات والمجلّات الإسلاميّة، ولقي دعما سياسيّا في مواجهة الحركات اليساريّة، وغربيّا في مواجهة الاتّحاد السّوفييتيّ لاحقا.

هذا التّزاوج السّياسيّ بالحركات الإسلاميّة حدث له ثلاثة تشكلات في منطقة الخليج وما جاوره أثرت فيه، تشكل الجماعة السّلفيّة المحتسبة والّتي قادت إلى حركة الحرم 1979م، والخوف من تمدّد الجماعات المحاولة لإسقاط أدبيات روائيّة تأريخيّة كالمهدويّة، وتشكل نجاح الثّورة الإسلاميّة في إيران 1979م، والخوف من تمدّد تصدير الثّورة، ثمّ التّشكل المتمثل في تشجيع الشّباب للمشاركة في الحرب ضدّ الرّوس، باسم الحرب ضدّ الشّيوعيّة الملحدة، ممّا جعل المناخ أكثر تمدّدا للحركات الإسلاميّة، الصّحويّة الإخوانيّة السّنيّة كبديل عن جموديّة السّلفيّة المحتسبة، ومواجهة للتّمدّد الشّيعيّ الحركيّ، ولتأثيرها في الخطاب الجمعيّ ضد الرّوس والحركات اليساريّة والقوميّة، وفي الاتّجاه الشّيعيّ في تثوير المجتمعات، وتمدّد نظريّة ولاية الفقيه.

بيد أنّ حرب الخليج 1990م، واستعانة المملكة ودول الخليج بالأمريكان، وقيام قواعد أمريكيّة في المنطقة؛ تحول الصّراع مع الخارج: روسيا وإيران وإسرائيل، أي الشّيوعيّة والشّيعة واليهود، إلى بدايات الصّراع مع الحكومات الخليجيّة، وعلى رأسها المملكة العربيّة السّعوديّة، خاصّة وأنّ التّمدّد الصّحويّ الإخوانيّ أصبح أكثر تأثيرا لدى الشّباب والقاعدة الأفقيّة في المجتمع من الخطابات الدّينيّة الرّسميّة، فأصبحت هذه الحكومات أمام تحدّ جديد تمثل في ذات الحركات اليساريّة، ولكن تحت اللّباس الدّينيّ الإسلاميّ، لهذا في هذه المرحلة ولد التّيار الجاميّ والّذي يوجب طاعة وليّ الأمر، وعدم جواز الخروج عليه ما لم يظهر كفرا بواحا، كما لا يجوز النّصحية لولي الأمر في العلن، لما فيه من فتنة بين النّاس، وحرمة تشكل الأحزاب السّياسيّة والدّينيّة، ولقي هذا التّيار دعما سياسيّا، وأصبح يتمدّد شيئا فشيئا، مما ظهر له تحولان: التّحول المدخليّ والّذي بالغ في الجرح والتّعديل، من بينها تجريح الرّموز الصّحويّة والإخوانيّة وكل المذاهب الإسلاميّة بما فيها الأشاعرة والماتريديّة والمتصوّفة إلى حدّ تكفير بعضهم، وتحوّل الحداديّة -أي نسبة إلى محمود أحمد الحدّاد- وهذه توسعت من تكفير وتفسيق المعاصرين، إلى تكفير وتفسيق الأموات، حتّى داخل التّيار السّلفيّ ذاته، ولها حضور في وسائل التّواصل المعاصرة مثل: يوتيوب - تيك توك - انستجرام - تلجرام وغيرها، ممّا يحدثون تأثيرا على الشّباب وصغار السّنّ، من خلال خطابات محمّد شمس الدّين، وعبدالكريم الكثيريّ، وعبدالله الخليفيّ وغيرهم، وهؤلاء بين أنفسهم تناقضات، بيد الجامع بينهم مشترك السّلفيّة الجاميّة، وتوسع التّبديع والتّكفير المدخليّ والحدّاديّ، والاشتغال بالشّخوص وتجريحهم.

هذه التّجاذبات جميعا، منذ بداية ضرورة إرجاع الخلافة وأسلمة الدّولة عند الإخوان المسلمين، وتوسيع دائرة السّلفيّة ومحاربة البدع والفرق الضّالة وعدم موالاة الكفّار، ونواقض الإسلام العشرة عند السّلفيّة المعاصرة (الوهابيّة) بشكل عام، ومحاربة الأمريكان ومن يواليهم من الحكّام كما عند بعض الصّحويين والسّروريين، ثمّ التّوسع في محاربة المختلف وتبديعه، وقد يؤدّي إلى تشريكه وجواز دمه وماله كالمتوسلة من المتصوّفة والشّيعة والحركات الباطنيّة، كما عند المدخليّة والحداديّة؛ جميع هذه التّجاذبات أعطت إرثا عمليّا عند الحركات الجهاديّة، ابتداء من جماعة التّكفير والهجرة بشكل مبكر، إلى تكوّن القاعدة ثم داعش وتفرعاتها.

من حيث البنية التّبديعيّة والتّكفيرية قد يجد القارئ من الخارج شيئا من التّناقض، فالسّلفيون الصّفاتيون بدأوا بتبديع من يخرج عن نظريّة الصّفات من المعتزلة والأشاعرة والماتريديّة، إلى تكفير المستغيثة والمتوسلة من المتصوفة والشّيعة والحركات الباطنيّة، مع تكفير الاتّجاهات العلمانيّة واليساريّة، بيد أنّهم وقعوا في جدل بين تكفير الأعيان، وفي الاقتصار على التّكفير بالعموم، وبين تكفير وتبديع العامّة، وبين اقتصار ذلك على الخاصّة، بما في ذلك تبديع وتفسيق رموز الحركات الجهاديّة كما عند الجاميّة لخروجهم على ولاة الأمر، وإن وقعوا في تناقض في تبرير ذلك اضطروا إلى وجود مخرج لتكفير بعضهم تكفيرا بواحا، توسع فيه الصّحويون المسعريون مثلا ككتابهم «الأدلّة الشّرعيّة في تكفير الدّولة السّعوديّة»، وضيّقه بعضهم على بعض الاتّجاهات المذهبيّة والمعاصرة كالنّصيريّة والقوميّة اليساريّة والعلمانيّة، كما أنّ توسع المدخليّة والحدّاديّة في التّبديع والتّكفير أعطى مناخا خصبا للحركات الجهاديّة المتطرّفة، كذلك ضبابيّة مفهوم الخلافة والأسلمة واستدعاء حوادث تأريخيّة كالحرق والذّبح للأسرى، والرّجم وقطع اليد لبعض العصاة، والجزية لأهل الكتاب، والسّبيّ وقتل رجالهم لمن كان خارج أهل الكتاب، أو محكوم عليه بالشّرك، هذه مفردات ضبابيّة وتأريخيّة لقت ميولا ورواجا عند هذه الحركات المتطرّفة.

سنجد اليوم دول المنطقة تعيش في اضطراب آخر، وفي محاولة متفرقة ما بين من كان مغضوبا عليهم من الاتّجاهات الثّقافيّة، ومحاولة خلق أجواء ثقافيّة تحرّريّة، وبين من يحاول خلق تيارات دينيّة تتقبل الآخر المختلف، وتحاول تعميق الأبعاد الإنسانيّة والوطنيّة، بيد أنّ هذه الحالة قد تنقلنا من اتّجاه إلى اتّجاه آخر كما رأينا سلفا، وهي وإن كانت حالة صحيّة في العديد من جوانبها، إلّا أننا بحاجة اليوم إلى تفكيك بنية الخطاب الدّينيّ ذاته، بما فيه ذلك الخطاب الدّينيّ الرّسميّ؛ لأنّه بذاته يحوي مفردات تأريخيّة مبطنة غير ممنهجة تؤدّي إلى الاتّجاه نحو هذه الحركات المتطرّفة، كما أنّ التّطرّف العلمانيّ الشّموليّ يخلق فراغا لفئة كبيرة تميل إلى التّدين، وتجد ما يسدّ رمقها في خطابات هذه الاتّجاهات، وفي المقابل نجد الرّؤية التّقريبيّة والإصلاحيّة الحاليّة في رموز الجامعات والمجامع الإسلاميّة الكبرى، ومن جميع المذاهب الإسلاميّة، ما زالت تحاول تلميع المشترك، دون تقديم منهج نقديّ يفصلنا تماما عن تكرار مثل هذه الاتّجاهات الماضويّة والتّكفيريّة، أو يحدّ من توسعها، فكل المذاهب الإسلاميّة بلا استثناء لها سلفيّاتها قد تشترك بوجه أو بآخر مع مغذيّات الحركات المتطرّفة الحاليّة، ولا يقتصر فحسب عند السّلفيّة الصّفاتيّة.

***

بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

 

منهجية أو منهجيات 

يبدو انه لا يمكن لأية أمة أو ثقافة أن تعيش بلا ماض وتاريخ.. حيث أن التاريخ والتراث، يشكل بالنسبة إلى جميع الثقافات، المخزون الرمزي والعقدي والنظام الفكري لتلك الثقافات.. لهذا لا يمكن أن نتصور أن هناك ثقافة بلا تاريخ وتراث.. ولكن تختلف الثقافات والمدارس الفكرية، في الموقف من الماضي والتاريخ والتراث.. فثمة ثقافات ومناهج فكرية، تمارس عملية القطيعة الإبستمولوجية مع تاريخها وتراثها، وتعتبر نفسها وليدة الحاضر بكل جوانبه وحقوله.. 

ولكننا نرى أن تحديد العلاقة بين حاضر الأمة الثقافي، بتراثها الثقافي والحضاري، مسألة أساسية في عملية فقه الحاضر.. 

فلا يوجد على مستوى التاريخ قطيعة، لأننا نحمل مسؤولية الماضي، لأن الماضي الموصول بالحاضر، والإثنين معا، لهما صلة بالمستقبل.. فلا فصل في التاريخ، هناك وصل استمراري لحركة التاريخ.. أي ثمة حتمية وجبرية يفرضها الوجود، جبرية السنن والقوانين، جبرية النتيجة المتصلة بالمقدمات، والنهايات الموصولة بالبدايات.. فلا يمكن إذا أن نقابل بين الحاضر والماضي، ونجعل تحقيق أحدهما على حساب الآخر.. ويشير إلى هذه المسألة الكاتب المصري (زكي نجيب محمود) بقوله: ليس الماضي جثة ميتة موضوعة، في تابوت، وعلينا نحن أبناء الحاضر أن نحافظ على هذا التابوت في المتحف.. بل هو أقرب إلى الرافعة، التي نزحزح بها الأثقال الراسخة، لتتحرك، ولهذا فنحن إذ نصنع ماضينا، من بين المادة الخامة القريرة التي خلفها لنا الآباء.. فإننا لا نحسن هذا الصنع، إلا إذا اخترنا الروافع التي تثبت الحياة في الحاضر، وفي الإعداد للمستقبل على حد سواء.. وإلا انقلب تاريخ الماضي بين أيدينا صخورا جوامد، تعرقل التيار دون الانسياب الدافق إلى الهدف.. 

ف(عدم تحديد بوصلة نظرية) واضحة وسليمة في علاقة الحاضر بالماضي، يجعل الإنسان (الفرد والمجتمع)، يعيش الازدواجية في كل نواحي وحقول حياته.. 

لأن التراث يعتبر ذاكرة الأمة، فكلما كانت هذه الذاكرة حافظة، وقادرة، على الاستفادة من تجارب الماضي، وتوظيف ذاكرة الأمس لخدمة الراهن والمستقبل.. دون التوهم لحظة واحدة إننا نقف عند التراث فقط.. لأن التاريخ حركة سائرة دوما إلى الأمام، والأحداث، وإن بدت متشابهة في بعض ظواهرها وعناصرها، إلا أن شروطا جديدة ومختلفة تتولد باستمرار وبالتالي فإن الظواهر الجديدة تملي معالجات جديدة.. فالتراث ليس إجابة جاهزة عن أسئلة الراهن، إنه مجرد وعاء وذاكرة، وبمقدار استيعاب مضمون هذا الوعاء وجوهرة، تتوافر القدرة الكافية لمواجهة أعباء الحاضر والمستقبل.. وبهذا لا يصبح التراث كما يزعم البعض معيقا أو كابحا عن التقدم والتطور.. 

من هنا فإن التراث هو تلك الحصيلة من المعارف والعلوم والعادات والفنون والآداب والمنجزات المادية التي تراكمت عبر التاريخ. وهو نتاج جهد إنساني متواصل، قامت به جموع الأمة عبر التاريخ، وعبر التعاقب الزمني أصبحت هذه الحصيلة المسماة (التراث)، تشكل مظاهر مادية ونفسية ونمطا في السلوك والعلاقات، وطريقة في التعامل والنظر إلى الأشياء.. 

من هنا فإنه لا يجوز النظر إلى هذا التراث العربي والإسلامي، بأنه نهاية المطاف، أو قمة الإبداع الوحيدة، وأكمل صورة من صور الحضارة.. وإنما هو جهد إنساني استطاع أن يحقق قفزة نوعية في مسيرة الإنسان الفرد والمجتمع.. ويقول في هذا الصدد الروائي العربي (عبد الرحمن منيف): أن التراث الشعري للعرب مثلا، والذي هو ديوانهم عبر أغلب العصور كما يقال، يشكل فخرا لهم، ويعطيهم ميزة بالمقارنة مع الشعوب الأخرى.. لكن هذا التراث يجب ألا يكون قيدا عليهم فالمرحلة الحالية أو المقبلة.. وما يقال عن الشعر، يمكن  أن يقال عن الأمور الأخرى، بما فيها اللغة، والتي تعتبر سببا أساسيا في تشكيل الأمة العربية، وخلق مناخ ثقافي لها، ولكثير من الشعوب خلال فترات تاريخية طويلة.. بهذا المعنى نحن نتعامل مع التراث، وبهذا يتحول، تراث الأمة العربية والإسلامية، إلى سبب من أسباب الثراء والتطور لو أحسنا التعامل والاستفادة منه.. لأن التراث كما هو التاريخ، يمكن أن يدفع ويساعد، إذا نظرنا إليه نظرة موضوعية، وأكدنا على الجوانب الإيجابية فيه، واستخرجنا العناصر الحية منه، لكي تستمر وتنمو.. وإذا هضمناه هضما جيدا، دون أن نغفل عن نبض العصر وحاجياته.. 

لهذا فإننا نرجع إلى تراثنا، قصد التزود، وحفز الهمم، والإبقاء على الأمل، والتماس القدوة والأنموذج.. لهذا ف إن تكرار التراث، والانشغال السلبي به عن طريق الوقوف عنده.. وضعا كهذا على المستوى الحضاري، لا يمكن أن ينتج فكرا أو ثقافة قادرة على تأسيس القاعدة النظرية الضرورية للرقي والتطور على المستوى العام.. وبهذا يفقد المجتمع العربي والإسلامي الصلة الضرورية التي تربطه بتراثه وماضيه، من أجل استفزاز جانب الإبداع والابتكار في المجتمع.. لأن التاريخ كما يقول (كروتشه) هو بأجمعه تاريخ معاصر.. أي أن التاريخ يتألف بصورة أساسية من رؤية الماضي، من خلال عيون الحاضر وعلى ضوء مشاكله.. وأن العمل الأساسي للمؤرخ ليس فقط التدوين، وإنما وبالدرجة الأولى التقويم.. 

لهذا فإننا نحافظ على هويتنا الثقافية والاجتماعية، ليس عن طريق الانطواء والهروب إلى الماضي وذكرياته العديدة.. كما أنه ليس عن طريق الاستلاب والتبعية.. إن طريق الحفاظ على هوية المجتمع وتراثه، لا يأتي إلا عن طريق إعادة تنظيم الحياة العقلية والمادية والأخلاقية للمجتمع، على ضوء ثوابت الحضارة والتاريخ.. 

إن الهوية تعبر عن ذاتها، في الكفاح المستميت في تطوير التراث، لا في الانحباس فيه.. وفي تحرر الذات من رواسب الماضي السيئ، وأوهام المستقبل المجهول والغامض.. إن الهوية تتجسد في إطلاق إمكانات الذات في البناء والتطوير.. 

 وهذا هو الرأسمال الأول، الذي ينبغي استخدامه لتنمية راهننا وصولا إلى بناء مستقبلنا المنشود.. وبهذا يتحول التراث إلى مصدر حيوي، لمدارس ثقافية – اجتماعية – تجديدية، تسعى لبناء حاضر هذا المجتمع وفق ثوابته التاريخية والحضارية.. وباستمرار تلح ضرورة قراءة التراث، والتعلق بالخصوصيات الحضارية أبان خضوع المجتمع لعمليات تغيير ثقافي أو اجتماعي سريعة، ولا تنسجم والخصوصيات الذاتية.. بدون فرق سواء جاءت عمليات التغير السريعة من الداخل أو الخارج.. 

وأن أي محاولة لقطع حاضر الأمة الثقافي والحضاري، عن ماضيها وموروثا الثقافي لا يؤدي إلا إلى المزيد من ظهور الكيانات الاجتماعية المشوهة، والتي لا تقدر عمل أي شيء يذكر على المستوى الحضاري.. والعالم العربي والإسلامي ليس وحيدا على الصعيد الدولي حي يهتم بقراءة تراثه والعمل على إحيائه.. إذ تجد جميع الأمم والشعوب تهتم بهذه المسألة وتوليها أهمية قصوى..

والمثال البارز في هذا الصدد هو نقل ملحمة (بيود لف) الشهيرة من اللغة الإنجليزية القديمة إلى الإنجليزية الحديثة لتيسير قراءتها للأجيال المعاصرة.. كما أنه لم تهمل الأساطير اليونانية القديمة رغم أنها خرافات، تتعارض ونظريات العلم الحديث، إنما خضعت لتفسيرات التحليل النفسي والتأويلات الأنثربولوجية.. 

وعلاقتنا بالتراث ليس علاقة ترفيه أو كمالية، وإنما ترتقي إلى مستوى الدين والحضارة.. بمعنى أن علاقتنا بالتراث تنبع من أن في هذا التراث الأنموذج التطبيقي لديننا ومبادئنا أو ما يطلق عليه ب (الإسلام التاريخي).. كما أن انجازات الأمة الحضارية ومكاسبها الإنسانية قد تبلورت وتحققت فعلا في تلك الحقبة التاريخية من الزمن التي نطلق عليها حاليا جزءا من التراث.. وعلى هذا فإن إخراج الإسلام وحضارته من التراث، يحول التراث إلى لا شيء.. 

وثمة مسوغات عديدة لضرورة قراءة التراث من جديد أهمها:  

1.  تجديد الرؤية:

إن قراءة التراث (كما قلنا آنفا) ليس حالة ترفيه تعيشها الشعوب والأمم.. وإنما هي حالة ضرورية لبناء الحاضر.. إذ أن القراءة الواعية للموروث الثقافي والحضاري، يؤسس العوامل النفسية والاجتماعية والثقافية، لتجديد رؤيتنا إلى موروثنا الثقافي، وكيفية الاستفادة منه في حاضرنا.. لهذا فإننا لا نطلب الماضي لذاته، وإنما من أجل تجديد الرؤية، إلى الأصول والمنطلقات والقيم التي صنعت الماضي المجيد، لتوظيفها بما يخدم حاضرنا ومستقبلنا..

2.  تحديات الواقع المعاصر:

بفعل عمليات التحديث القسرية والسريعة التي أصابت العالم العربي والإسلامي، بدأ الواقع المعاش، يتشكل وفق منظومات وقيم جديدة.. وهذا أدى بشكل أو بآخر إلى تفكيك منظومة القيم السابقة، واللغة كأداة للتواصل الثقافي والاجتماعي، وجميع أشكال التواصل بي أبناء المجتمع الواحد.. وبطبيعة الحال فإن هذه العملية وتداعياتها، شكلت تحديا صريحا لشعوب العالم العربي والإسلامي.. والرجوع إلى التراث وقراءته من جديد، ما هو في حقيقة الأمر إلا من أجل مقاومة الانسحاق والاستلاب القيمي – الاجتماعي، وتحقيق التوازن المطلوب للعالم العربي والإسلامي أمام تحديات الواقع المعاصر.. 

3.  تحقيق التطلعات:

يخطأ من يعتقد أن تحقيق تطلعات العصر الحديث، يمر عبر إلغاء الذات والتراث.. لأنه لا يمكن لأي شعب أو أمة أن تحقق تطلعاتها، وهي فاقدة لذاتها.. فالشرط الأول والضروري لتحقيق التطلعات هو حضور الذات الحضارية لأنها هي القادرة وحدها في تحريك كل عوامل وعناصر المجتمع الفاعل والمؤثر والشاهد.. فقراءتنا للتراث، ليس هروبا من الحاضر ومسؤولياته وتحدياته (كما يزعم البعض) وإنما هي عملية واعية لتوفير كل شروط الانطلاقة الحضارية المنشودة.. 

أما كيف ينبغي أن تكون علاقتنا بالتراث، فنحددها بالنقاط التالية: 

1. العلم بالتراث: من الثابت أن مجموعة البشرية، التي تنفصل عن تراثها وماضيها، فإنها تقوم بعملية بتر قسري لشعورها النفسي والثقافي والاجتماعي.. وسيفضي هذا البتر إلى الاستلاب والاغتراب الحضاري.. لهذا فإن العلاقة التي ينبغي أن تربطنا بتراثنا، هي علاقة (العلم)، حتى نتمكن من الاستفادة القصوى من المخزون الرمزي والمعرفي والشعوري الذي يوفره التراث للعالم به.. 

2. الإضافة إلى التراث: بما أن التراث عبارة      عن    الجهود الإنسانية المختلفة، التي أثرت في مجرى التاريخ والمجتمع.. لذلك فإن إيقاف مسيرة الإبداع الإنساني يعد ظلما لتراثنا المجيد.. لهذا فإن العلاقة التي ينبغي أن تربطنا بتراثنا، هي علاقة الإضافة.. بمعنى دفع الجهود الإنسانية في مختلف الحقول والجوانب لاستمرار حركة الإبداع في راهننا.. 

ويخطأ من يعتقد أن أوروبا الحديثة، تنكرت لتراثها وماضيها، وإنما الشيء الذي قامت به هو التخلي عن نظرة الكنيسة التي كانت تنظر بشكل سلبي، إلى حركة المجتمع وسعيه نحو الانفكاك منها.. 

وجماع القول: إن أهمية قراءة التراث، تنبع من ضرورة تحديد العلاقة السليمة بين الماضي والحاضر، فمستوى التقدم المادي (علاقة الإنسان بالطبيعة)، وفي قدرة الإنسان على التحكم بأسرار الطبيعة.. وإن هذا التصاعد في قدرة الإنسان على الطبيعة وتسخيرها ارتفاقا بها وانتفاعا منها، تطرح قضية العلاقة بين حاضرنا وتراثنا، باعتباره منجزا إنسانيا – اجتماعيا، حدث في حقبة زمنية على أرضنا التاريخية، وانطلاقا من ذات القيم التي نعتقد بها نحن.. وإن عدم تحديد العلاقة السليمة بين الماضي والحاضر، هي التي تنشأ حالة مزدوجة يعيشها إنسان هذا العصر.. حيث التقديس        المطلق للماضي، والانبهار التام بمنجزات الحضارة الحديثة.. وحدها القراءة الواعية للتراث، هي التي تؤهلنا للجمع بين جمال الماضي وقوة الحاضر..  

 التراث سؤال أيدلوجي أم معرفي؟؟  

إن التراث بما يتضمن من تجارب وخبرات، تشكل ذاكرة الأمة التي لا يمكن الاستغناء عنها.. فالحقب التاريخية بأحداثها وتجاربها لا تنتهي بمجرد زوالها الوجودي.. وإنما تظل حية في خبرة الأمة وذاكرتها.. لهذا لا يمكن القبول بمقولة انفصال ماضي أمة من الأمم وحاضرها وراهنها.. كما دعا إلى ذلك (مارينيت) بقوله: " إننا نريد أن نهدم المتاحف والمكاتب، فالمتحف والمقبرة صنوان متماثلان في تجانب الأجساد التي تتعارف بشكل محزن ونحس.. إنها مضاجع عمومية حيث تنام الأجساد جنبا إلى جنب مع كائنات مبغوضة أو غير معروفة.. خذوا المعاول والمطارق!.. قوضوا أسس المدن العريقة والمحترمة"..  

فالحديث عن التراث ليس دفنا للحاضر والمستقبل، وإنما نحن نتعرف على التراث وكنوزه الثمينة، وننطلق من نقاط قوته والقيم التي صنعته، لفهم الحاضر والمشاركة بعقولنا وعملنا في صناعة مستقبلنا ومستقبل أجيالنا اللاحقة.. فالتراث ظاهرة مركوزة في التكوين الداخلي للأمة، لا يمكن الفكاك منه.. وإن الحفر المعرفي والتاريخي في تراثنا , لا ي ف ض ي إل ى ال ت ع ام ل م ع جوامد أو رمائم أو مومياءات، وإنما إلى خريطة ثقافية – حية، استطاعت في حقبة زمنية، أن تحولنا من أمة هامشية إلى أمة في قلب العالم وأحداثه وتطوراته.. وبهذا نحقق الوصل المعرفي بين ما ينبغي أن يكون حيا من تاريخنا وتجربتنا الماضية وحاضرنا.. 

لهذا فإن التقاط مركبات ذهنية وفكرية من الفضاء المعرفي الأوروبي، والعمل على تعميمها على النموذج العربي والإسلامي، لا يؤدي إلى معرفة سليمة لكلا الفضاءين (العربي والأوروبي).. لأن مجال المجتمع والحركة الإنسانية، ليس كمجال الميكانيكا، وهو لا يرتضي كل الاستعارات، لأن أي حل ذا طابع اجتماعي يشتمل تقريبا ودائما على عناصر لا توازن.. لذلك فإن قراءة التراث ينبغي أن تتم وفق منهجية خاصة تنسجم وطبيعة الخصائص العقدية والتاريخية للمجتمع.. وعلى هذا من الضروري، أن نبتعد عن عملية الإسقاطات المنهجية، التي تتم على مستوى التاريخ والثقافة، حتى لا نكون جزءا من منظومة ثقافية – فكرية، لا تنتمي إلى بيئتنا وتربتنا الثقافية.. فقراءة التراث العربي والإسلامي، لا يمكن أن تتم بمنهجية غريبة عن بنية المجتمع وإنتاجه الإنساني عبر التاريخ.. وإنما من الضروري تأسيس المنهج الذاتي المنسجم وخصائص الأمة العقدية والتاريخية، حتى نتمكن من فهم التراث العربي والإسلامي على أكمل وجه.. 

ومن هنا نجد أن الكثير من الكتاب والمفكرين الذين قاموا بقراءة تراثنا العربي والإسلامي، بمنهجيات مختلفة ومتغايرة عن بيئتنا الذاتية، وصلوا إلى نتائج، لا تنطبق على تاريخنا، وإنما تنطبق على تاريخ ذلك المجتمع الذي أبدع المنهج.. والمثال المباشر لهذه المقولة هو (الموقف من العلم).. لقد حاول قراء التراث العربي والإسلامي، بمنهجيات الآخر الحضاري، أن يؤكدوا أن العرب والمسلمين، وقفوا موقفا سلبيا تجاه العلم ومنجزاته، اعتمادا على تعميم النموذج التاريخي الغربي.. إذ ينسجم هذا الموقف والمنهجية الغربية، لأن الميتودولوجيا الغربية، تضع استبعاد الدين شرطا أوليا لتحقيق العلمية.. 

بينما الموضوعية تقتضي القول: أن العرب والمسلمين وقفوا موقفا مشجعا للعلم والعلماء، واحترام منجزات الإنسان في شتى حقول الحياة.. لهذا نجد أن موضوعية (كونت) تؤكد في كتابه (نسق السياسة الوضعية) أنه: في الوقت الذي كان فيه الغرب المسيحي مشغولا بقضايا لاهوتية عقيمة، كان العالم الإسلامي ينفتح على العلم والمعرفة والفنون وبالتالي أصل اجتماعيته جنبا لجنب مع روحانيته.. إن التفوق الاجتماعي (يضيف كونت) وأهميته في التعاليم الإسلامية، أهلت المسلم، ليكون أكثر صلاحية من غيره اجتماعيا وأهلته للعالمية..

وقد أكد سان سيمون أيضا على مسألة أن انهيار الفكر اللاهوتي، كان مدينا لدخول العلوم العربية والإسلامية إلى أوروبا بعد أن غيرت طبيعة البنية الفكرية الخرافية لذلك التفكير.. يقول سان سيمون " إن ذلك (سقوط النظام الكنسي) حدث مع إدخال العلوم الوضعية إلى أوروبا عن طريق العرب، وقد خلق ذلك بذرة هذه الثورة المهمة التي انتهت اليوم تماما.. ويضيف: انطلاقا من القرن الثالث عشر كان روجر بيكون يدرس العلوم الفيزيائية بشكل رائع، وأن تفوق الوضعي على الحدسي والفيزيقي على الميتافيزيقي كان جد محسوس منذ البداية حتى من قبل السلطة الروحية نفسها إلى درجة أن كثيرا من الإيكليروس السامي ومن بينهم اثنان من الباباوات توجهوا في نفس الفترة تقريبا إلى قرطبة، ليتموا تعليمهم مع دراسة العلوم القائمة على الملاحظة، على أيدي أساتذة عرب".. 

وبهذا فإن استعارة منهجية غريبة عن بنيتنا العقدية والفكرية، ودراسة أوضاعنا وأحوالنا، من خلال تلك المنهجية، يجعل هؤلاء (أهل الاستعارة المنهجية) يفرضوا التشابه على غير التشابه، ويجعلون وطنهم يكرر أداء تمثيلية جرت وقائعها في بلاد أخرى، وضمن ظروف ومعطيات مختلفة.. وفي هذا تقليد مجانب للأصالة والاستقلالية والإبداع على حد تعبير الكاتب العربي (منير شفيق).. وبإمكاننا أن نضرب مثالا على الاستعارة المنهجية في قراءة التراث العربي والإسلامي، بالنتاج الفكري والثقافي للمفكر الجزائري (محمد أركون)، الذي يرى أن قراءة تراثنا الثقافي والفكري، ينبغي أن تتم بمنهجية (الإسلامية التطبيقية) التي تعتمد على العرض العلمي، والقراءة المجردة من كل تحيز أيدلوجي للتراث.. هدف هذه المنهجية النهائي على حد تعبير أركون نفسه هو " خلق الظروف الملائمة لممارسة فكر إسلامي محرر من المحرمات العتيقة والميثولوجيا البالية، ومحررا من الأيدلوجيات الناشئة حديثا"..   

وهو بهذا يسعى نحو تحقيق قطيعة ابستمولوجية مع فكر الإسلام وثقافته.. ويوضح (أركون) هذه المسألة بقوله: "إن نيتي العميقة أن أعطي مثالا لما ينبغي أن يكون عليه اليوم اجتهاد مخلص في مستوى القوة الروحية والعقلية لكبار المفكرين الكلاسيكيين، ولكن مع قطيعة عقلانية مع الدعاوى المنطقية والمسلمات الإبستمولوجية، والجهاز التصوري لهؤلاء المفكرين أنفسهم وآمل أن تجلب كثير من القراءات إسهاما إيجابيا، لاستكشاف وتقدم الحقل الديني والحقل العلمي الذي ما فتئت متجهة إلى فتحه، لتجنب هذه القراءات العقيمة التي تأخذ جملة ما أو تعبيرا ما، لتشكل منه المحضر المعتاد ضد كل ما هو مخالف".. (مقال بعنوان الأنثروبولوجيا الدينية: نحو إسلامية تطبيقية).. 

وهو منهج يتجنب الأحكام التقويمية للظاهرة، واعتبار النتائج التي ينتهي إليها البحث الإمبريقي وحدها نتائج علمية..  إننا لا يمكننا أن نقرأ تراثنا بدون منهجية واضحة، لأنه لا بحث سوسيولوجي بدون منهجية تحدد البحث وتوجهه.. والأبحاث والدراسات الأمبريقية المجردة، ما هي في حقيقة الأمر إلا عملية تجميع لأكوام من البيانات والمعلومات عديمة الدلالة والتحليل.. وقد عبر (كرين برينت) عن أزمة الميتودولوجيا الغربية حيث قال:" إن العقل الذي يتسلط على مشكلات الدين، يستطيع أن يبين للناس، أنه ليس هناك شياطين.. 

والعقل الذي يعمل على مستوى البحوث الطبية والسيكولوجية، يستطيع أن يثبت أن الجنون اضطراب طبيعي في العقل (وربما في البدن) يؤسف له.. هو باختصار مرض يمكن أن يعالج أو يخفف على الأقل بمزيد من استخدام العقل".. وهذه مسألة طبيعية لاعتماد المنهجية الغربية وتطبيقها على حقول مغايرة لها في المبنى والمعنى.. 

وهذا يعني أن المنهجية جزء من السياق العقدي والحضاري لأي مجتمع.. لهذا لا يمكن أخذ المنهج مجردا من مقولاته ونماذجه.. لأنه تشكل في أحشاء النماذج التي عالجها، واكتسى باللحم من خلال الموضوعات التي ولدها.. 

وتأسيسا على هذا نجد أن التراث السوسيولوجي الذي يصدر انطلاقا من المنهجية الغربية، يسعى جاهدا للتأكيد على قيم الغرب ومتبنياته الفلسفية.. لهذا فإننا لا يمكننا أن نفهم مشاكلنا وأزماتنا المعاصرة، بمعزل عن فهم تاريخنا وتراثنا، والقوانين التي تتحكم في مساره، والمنهجية التي نستعملها في معالجة أمورنا وقضايانا.. لأن الانجاز الإنساني السابق الذي نطلق عليه اليوم مقولة (التراث) على علاقة مباشرة بالمنهج، والطريقة التي أفرزت النمط الاجتماعي والإنساني السابق.. لهذا لا يعقل أن ندرس المنجز الإنساني دون معرفة المنهجية والطريقة المتبعة التي أوصلت أولئك إلى هذا المنجز.. فالأنماط الاجتماعية والحضارية، تختلف باختلاف المناهج والمقولات والنماذج.. وعلى هذا لا يصح لنا أن ندرس النمط الاجتماعي والحضاري الإسلامي، بمقولات ونماذج منهجية تنتسب إلى نمط مجتمعي حضاري مختلف.." فالذين يقرؤون الإسلام والتراث والتاريخ والأنماط المجتمعية الإسلامية، ومختلف ظواهرها من خلال ما يسمونه المنهج العلمي القائم على الموضوعات والنماذج المستمدة من النمط الحضاري الأوروبي ماضيا وحاضرا ليسوا من العلمية في شيء، وليس منهجهم علميا بالرغم من كل ادعاء.. لأنه من غير العلمي أن تقرأ الأنماط المجتمعية المختلفة، من خلال منظور التجربة الأوروبية، وعبر نظرة الغرب إلى نفسه وإلى العالم.. أما العلمية فتقضي الإمساك بالمنطق الخاص بسمات النمط المجتمعي الحضاري المحدد وآليات حركته "(الإسلام في معركة الحضارة – منير شفيق – ص 168 )..

وعلى هذا فإن قراءة تراثنا العربي والإسلامي، وفق منطق مجتمعي وحضاري مغاير، يجعلنا نبتعد من رؤية الأشياء والأمور والقضايا على حقيقتها.. وبالتالي تضيع الحقيقة، كما هي في الواقع التاريخي نفسه.. وبهذا لا يمكننا أن نقرأ تراثنا وقضايانا التاريخية، وفق منهجية القراءة الغربية للتاريخ الأوروبي والحضارة الأوروبية.. لأنها قراءة محكومة بمنطق خاص يختلف ومنطق التراث العربي والإسلامي.. والجدير بالذكر في هذا الصدد هو، أن ما يمنع التراث، من ممارسة دوره المأمول ف حاضرنا وعصرنا، يرجع في اعتقادنا إلى المنهجيات الانتقالية الغريبة عن واقعنا، التي نستخدمها (أدوات ومفاهيم) لفهم تراثنا وماضينا القريب والبعيد.. إذ أن نقل(الخارج) معرفيا وحضاريا إلى (الداخل) مع اختلاف الخصوصيات والظروف، لا يؤدي إلى تطور الواقع الفكري والحضاري للداخل، وإنما على العكس يؤدي إلى تلاشي الذات وأفولها.. من هنا تنبع أهمية تحديد البوصلة النظرية، التي ننطلق منها لتقوية حاضرنا وبناء مستقبلنا وفق معايير وأهداف تلك البوصلة النظرية.. وأن هذه المقدمات المنهجية لقراءة تراثنا العربي والإسلامي، تهدف إلى وصل الحي بالحي، وتقديم خطاب عربي – إسلامي، ينسجم وتطلعات العصر.. 

وجماع القول: إن استخدام هذه المقاربة الواعية بين ماضينا وحاضرنا هي التي تؤدي إلى إخصاب فكرنا، وإخصاب مقدرتنا على العطاء والابتكار الحضاري..  

الخاتمة 

يشكل التراث حصيلة معرفية وسلط ة رمزية ومضمون اجتماعي، لذلك حينما إلتفت إليه المثقفون، حاول كل طرف من أطراف المشهد الثقافي الاستيلاء على التراث، والتعامل معه، بوصف قيمه هي المعادل الموضوعي لذات القيم التي يحملها هذا الطرف أو ذاك.

لذلك شهدت حقبة الستينيات من القرن الماضي، محاولات عديدة قام بها اليسار العربي بكل تلاوينه للاهتمام بالتراث وخلق مقاربات فكرية وأيدلوجية بين متبنياتهم الأيدلوجية والفكرية والسياسية وأحداث التراث ومقولاته الأساسية. وهذه الممارسة بصرف النظر عن بواعثها الأيدلوجية والاجتماعية، هي تؤكد حقيقة ثابتة بواعثها الأيدلوجية والاجتماعية، هي تؤكد حقيقة ثابتة مضادة، أن التراث بشكل مادة عابرة لحقب التاريخ، وتتمكن كل الجماعات الأيدلوجية الإفادة من التراث ومواده [ولقد يعيشه الناس، أو يعيشون بعضها من رموزه ومعطياته، كما يعيشون حاضرهم ومعطيات حاضرهم، من دون أن يشعروا بالتناقض. بل إنهم لا يشعرون بالتناقض لأنهم يخضعون ذلك الماضي لحاضرهم فيعيشونه كجزء من يومياتهم] (ص43)

نقد التراث

لذلك فإن كل المشكلات أو أغلبها، التي تطرح على التراث، هي مشكلات معاصرة، وتبحث عن رؤية أو حلول أو شرعية من التراث إلى الراهن. بمعنى أن جميع الأطراف الأيدلوجية في المجال العربي الإسلامي، تعامل مع التراث بكل حقبه بنزعة أيدلوجية، بحيث تسعى كل منظومة أيدلوجية لتغطية خياراتها بنموذج تراثي أو ممارسة سياسية أو اجتماعية تشكلت في حقب التراث. 

فالعودة إلى التراث لدى الغالبية من المهتمين، لم تكن عودة علمية معرفية محصنة، بل هي عودة من أجل الاستقواء بالتراث ومقولاته وخلق حالة من الربط الأيدلوجي أو المعرفي أو الفكري بين لحظات وخيارات من التراث مع لحظات وخيارات راهنة ومعاصرة.

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

3- لغة الخطاب اللائقة:

هي اللغة الأم التي بها يتخاطب المربي أمًا كانت، أو أبًا، أو غيرهما مع الطفل. يعني أن يتوفر المربي على رصيد لغوي طليق، ذي بيان واضح وحديث، ومتضمّن مصطلحات لغوية جديدة تساعد الطفل على التعلم السريع للغة، وتنمّي فيه روح الحوار المتزن. وينبغي أن يكون المربي حذرا بانتقاء الكلمات التي يلقّنها للطفل فهو صفحة بيضاء تتلقى كل حرف مسموع أو مخطوط، والابن مرآة عاكسة لشخص العائلة العام.

ويمكن تنمية الذكاء اللغوي لدى الطفل من خلال مخاطبته بلغة فصيحة، فأذنه تلتقط الكلمات وهو في المهد، وحينما يكبر يكون قد اختزنها في لاوعيه، والمربي يمضي في لغته الرصينة بانتقائه الكلمات اللائقة في الخطاب والتأديب، وبالنتيجة سوف تقوى لغة الطفل، ويقوى رصيده اللغوي الذي به يخاطب الآخر.

وعلى المربي النأي بالطفل عن الألفاظ المشينة الفضة، وغير اللائقة المستفزة أثناء التخاطب معه؛ فأسلوب التعبير يعبّر عن هوية المربي، واللغة هي الهوية الكاشفة عن شخصية الطفل وعائلته في الحاضر والمستقبل. باللغة المربي يكشف عن هويته الشخصية التي تمكث مطبوعة في ذهن الطفل على طوال سني عمره.

بلغة الخطاب نحاور الطفل، والحوار ليس له زمان ومكان معين بل في كل زمان ومكان يمكن للمربي أن يحاور الطفل، لا أن يلزمه لإن الإلزام يقيده ويشعره بالملل.

ويتم الحوار مع الطفل بلغتين، لغة الخطاب النظري بالكلام، أو العملي بتفعيل الكلام عبر سلوك المربي ولغة جسده؛ ولغة الجسد هي تعبيرات الوجه الإيجابية التي لا تتضمن العنف-أي الأمواج السلبية- التي تنعكس من وجه المربي وجسده نحو الطفل. ويمكن للمربي أن يستخدم الحركات الدافئة كالنظر المباشر في عيني الطفل، وعدم إشاحة النظر عنه، واللمس، والربت على كتفيه، واحتضانه، ونبرة الصوت الهادئة الرقيقة ذات الوقع الإيجابي على نفسه، فالتواصل بالصوت، وفن الإصغاء، والاحترام، والحب أهم عوامل بناء الثقة بالنفس، والشعور بالانتماء والأهمية.

أسلوب الهدوء والرفق واللين هو نهج الحوار مع الطفل، وفسح المجال له لتصحيح الخطأ إن صدر، وقبول الحق، والمصارحة، والتوجيه، والاستشارة بما يناسب عمر الطفل، وتوضيح المفاهيم المبهمة بالحوار، وغرس رقابة الله في نفسه، ومراعاة عنصر التشويق عند طرح الأسئلة الحوارية التي تشد الانتباه، وتعكس صداقة ودودة معه؛ صداقة مبنية على المحبة العميقة، والاحترام، والاهتمام، وتعزيز الثقة بالنفس، ومن ثم فتح المجال للعقل من التفتح لتقبّل الحوار المتبادل؛ فالحوار الهادف الفعال يساهم في جعل العلاقة الوالدية مع الابن حيوية دينامية، كذلك مع المجتمع العام. والحوار مع الطفل ينبغي أن يكون في كل المراحل العمرية حسب تدرّج وعيه، ومقتضيات سنّه.

وليس بالضرورة أن يكون الحوار معدا له مسبقا بل من الممكن أن يكون حوارا عفويا في كل الأحوال. في المكان والزمان، في المنزل وخارجه، في أوقات لعب الطفل ونومه، وراحته، وانشغاله. ينبغي أن يكون الحوار حوار ود ومحبة. "إن قضاء بعض الوقت فقط للاستماع بانتباه، وللنزول لمستوى الطفل، والنظر إليه في عينيه عندما يتكلم، واستخدام اللمس الودود، والأحضان، والكلمات لتوصيل رسائل الحب والعاطفة، كلها أدوات قوية"[1]، لإدارة فن الحوار مع الطفل. وهذه حقيقة اكّدها الرسول ص في حديثه الشريف (تصابوا مع الصبي)، ومعناه: كونوا أطفالا مع الطفل، إلعبوا معه، حاوروه، ناقشوه في أفكاره، تكلموا بلغته، ونتيجة الحوار مع الطفل هو تعزيز ثقته بنفسه، وعدم لجوئه إلى السلوكيات السيئة لإثارة الاهتمام.

من أمثال الحوار نطرح أسئلة بسيطة على الطفل، ونترك له الجواب، ثم نحلل جوابه، ونثير أسئلة أخرى حوله، لينفتح ذهنه على طرح أسئلة جديدة، وإيجاد أجوبة لها، أو طرح قضية، أو مشكلة شخصية له وفسح المجال للنقاش فيها، مثلا:

ماذا تعني الحياة؟

ولماذا نحن موجودون؟

وما هو هدف خلقنا؟

لماذا نأكل ونشرب وننام؟

لماذا نتعلم؟

وقد يطرح الطفل رأيه في قضية ما، وعلى المربي أن يشاركه رأيه، ويناقشه، ويحلله، ويستنتج فيه بتدخل عامل الفرح والمرح، وعدم تسفيه رأيه مهما كان بسيطا، أو ساذجا.

سأل معلم تلاميذه الصغار البالغين من العمر ست سنوات، وكان من بينهم حفيدتي ألينا قائلا:

أنا ممتن لشقتي الصغيرة لأنها تؤويني من برد الشتاء وحر الصيف، وهي مكان راحتي واسترخائي، أنتم بماذا ممتنّون؟

أجاب الصغار كل حسب فهمه ورأيه.

حفيدتي أجابت: أنا ممتنة للحياة.

أجابها الأستاذ: هذا جواب مضمونه فلسفي عميق، وفيه شرح طويل.

والجواب فيه حوار يطول، وربما يملأ الصفحات، فالحوار الحيوي يفتح عقل الطفل على طرح مزيد من الأسئلة، والمواضيع الجادة التي يمكن فيها خوض النقاش.

واللعب وسيلة عملية أخرى لمحاكاة عقل الطفل وحواره، فاللعب له دور كبير في تفتّح عقله، وتعليمه التفكير، والتأمل، والتنظيم، والحوار خاصة إذا كانت وسائل لعبه فكرية تعليمية، حيث تعلّم الطفل الكلام معها وحوارها لوحده. وغالبا ما نرى الأطفال يتكلمون مع وسائل لعبهم.

إذا أردنا تنمية الحوار وتطويره لدى الطفل فعلينا العمل على تكوين عادة القراءة عنده منذ الصغر، وتنميتها، وإحاطتها بالرعاية والعناية التامة؛ ليقوى لديه حب القراءة، وتزداد معارفه بتقديم الزاد المعرفي الذي يشبع تطلعاته ونهمه الفضولي لمعرفة كل شيء في كل مراحل نموه ابتداء من الأشهر الأولى، لكن للأسف أن أغلب المربين يهملون عادة تشجيع القراءة لدى الطفل و"قد درج الناس على إهمال تعليم أطفالهم القراءة قبل سن الخامسة ظنا منهم أن الطفل في مرحلة الحضانة لا يحسن تلقي المعلومات عن طريق البصر كما يتلقاها عن طريق السمع؛ فيكتفون بتلقينه اللغة الصائتة، ويحرمونه من متعة اكتساب المعرفة عن طريق البصر بواسطة القراءة للكلمة المكتوبة قبل أن يجلس لتلقّيها على مقاعد الدرس" [2]. والقراءة تعلّم الطفل فن الحوار وإدارته.

وتتدرّج مراحل القراءة بتدرّج مراحل نضج وعي الطفل، وحثه على المطالعة وقراءة القصص، وتلقينه العلوم والمعارف حسب وعيه العمري، وبالتالي سيتطبع الطفل عليها في المستقبل، وتكون القراءة ومواصلة تلقي المعرفة خصلة ملازمة له ما دام العمر.

بطبيعة الحال إن حث الطفل على القراءة المبكرة من قبل الأبوين المثقفين عامل أساس في إيقاظ فكر الطفل، وتفتّح مواهبه العقلية، وقدرته على إثارة الموضوعات الهامة في الحياة التي تستأثر باهتمامه والحوار فيها. وعلى الأبوين الإصغاء لصوت الطفل لإبداء رأيه، وقبوله دون الحكم عليه بالصواب أو الخطأ في أية فكرة يقرأها أو يسمعها، ومن ثم يستطيع الأبوان أن يوسّعا من الموضوع المطروح، ويدخلا في دائرة نقاش مفتوحة معه، مع إظهار الاهتمام بفكره، واحترامه، والثناء عليه. ويمكن توسيع الموضوع إلى موضوعات عدة، ويُناقش في كل جزء منها كل يوم.

وجود الأبوين المثقفين، وتوفّر المنزل على مكتبة زاخرة بمختلف الكتب المهتمة بالمعارف والعلوم والآداب والفنون بما يتناسب مع المراحل العمرية للطفل، كلها وسائل تطوّر ثقافة الطفل. وقد لا يكون الأهل قادرين على توفير مكتبة المنزل؛ فيشجعون الأبناء على ارتياد المكتبات العامة لاقتناء ما هو محط اهتماماتهم من الكتب، فضلا عن توفير وسائل الثقافة والإعلام مثل المذياع والتلفاز، وغيرها من وسائل التثقيف والتوعية والترفيه؛ فإنها بلا شك ستكون هذه الوسائل مصادر علم ومعرفة للطفل، وسيكون في مستوى أعلى من ناحية القدرات الفكرية والثقافية من الأطفال الذين تربوا في محيط بيتي ذي مستوى ثقافي واطئ، فهناك علاقة بين نوع المحيط الذي تربى فيه الطفل وقدراته العقلية بالتأكيد[3]. هذا بالنسبة لثقافة الأطفال في الماضي التي كانوا يستمدونها من وسائل الإعلام، حيث تخصص هذه الوسائل برامج خاصة بالأطفال تعرض فيها الأفلام الكارتونية، والقصص الشيقة، والمسابقات، ومعارض كتب الأطفال، وغيرها الكثير.

أما اليوم فإن الأطفال يستمدون ثقافتهم من الإنترنيت وتطبيقاته الكثيرة من مواقع، ووسائل تواصل، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، والكتب الإلكترونية التي يكمن فيها المفيد وغير المفيد. اليوم الأطفال مدمنون على وسائل التواصل الاجتماعي يتحاورون مع أصدقائهم لساعات طوال، والأهل عاجزون عن منعهم من استخدامها بالطرق الصحيحة غير المضرة. وأثبتت "دراسة أجريت في مارس (آذار) الماضي أن الوقت الذي يقضيه الأطفال أمام الشاشات يحرمهم من سماع أكثر من 1000 كلمة يتحدث بها الأشخاص البالغون كل يوم، مما يؤدي إلى تراجع مهاراتهم اللغوية"[4]، خاصة في العوائل المثقفة التي في الغالب تتحاور في مختلف الأمور وتتكلم الفصحى بدلا عن العامية.

والقراءة المبكرة والاستمرار في تلقي المعرفة عبر المطالعة الدائمة ستمكن الابن من الحوار الواعي البناء مع محيطه العائلي، والمدرسي، والاجتماعي العام. و" تختلف ثقافة الأطفال في المجتمعات المختلفة تبعا لإطار الثقافة العامة، وما يتبع ذلك من وسائل وأساليب في الاتصال الثقافي بالأطفال، لكن البلدان التي تنتهج اتصالا ثقافيا مخططا تضع في العادة في خططها برامج محددة لأساليب ومضمون الاتصال بالأطفال، وبذلك تحدد إطارا عاما لعمليات إمداد الطفل بالثقافة، وتظهر في ثقافة الأطفال الملامح الكبيرة لثقافة المجتمع في العادة، فالمجتمع الذي يولي أهمية كبيرة لقيمة معينة تظهر في العادة في ثقافة الأطفال"[5].

إذا نشأ الطفل في بيئة قارئة سيتأصل حب القراءة في نفسه، ويعتمد أيضا على ما تبذله الأسرة من جهود قائمة على الوعي والإدراك والشعور العميق بمسؤولية خلق الجو الثقافي للأبناء، لكن بعض الأسر تتجاهل حب القراءة عند الطفل إذا كانت غير مهتمة بالكتاب والثقافة، وما ينبغي الانتباه إليه هو أن "الطفولة المبكرة في عمر الإنسان هي قابليته للنمو الجسدي والمعرفي بشكل متسارع وملموس، ومثلما يحتاج نموه الجسدي إلى الغذاء المركز فإن نموه المعرفي يحتاج كذلك إلى الزاد العلمي المركز، وذاكرته البكر متأهبة لتلقي المزيد من المعلومات؛ بل إن نهمه إلى المعرفة وحبه لاستطلاع محيطه يثير في نفسه كمًّا كبيرا من الأسئلة يستقبله بعض الآباء بالتجاهل فيصيبون طفلهم بالإحباط والخيبة؛ لكنه لا يمل من تكرار أسئلته عليهم من جديد ليروي ظمأه إلى المعرفة".[6]

بالنتيجة القراءة المتواصلة تعلم الطفل الخطاب الأنيق الذي به يستطيع أن يتحاور مع الآخر.

فوائد الحوار البنّاء مع الطفل يكمن في تعلّمه اللغة بسرعة، وتنظيم الأفكار عبر منهج التفكير المنطقي، وسرعة البديهة، والجرأة على طرح الرأي، وتعليمه فن الإصغاء للآخرين، وتنمية وصقل شخصية الطفل ليكون أكثر عطاء وإبداعا وثقة بنفسه. ويساعد الحوار على تفتّح مواهبه وامكانياته الكامنة في ذاته، وتنمية وعيه، وإدراكه، وحسه الفضولي لمعرفة كل ما يرى، ويسمع، ويقرأ. ويساعد الحوار في بناء علاقة ودودة متينة بين المربي والطفل، والدعم والتشجيع والثناء عليه؛ لتبادل الآراء وتفهم احتياجاته ومتطلباته، وتلقينه أساليب السلوك التي تساهم في بناء إدراكه وميوله وتصرّفه في الواقع خارج الأسرة، وتنمية مواهبه لاكتساب الخبرات؛ ومنحه القدرة على حل المشكلات، والتحرر من العادات السلبية السيئة. والمربي من خلال ذلك يفسح المجال للطفل لتقبّل الاختلاف في الرأي مع العائلة، والمجتمع الخارجي، والتخفيف من الصراعات النفسية الداخلية له، بكسر حاجز الخوف، والخجل، وتعزيز القدرة على مواجهة المجتمع، وطرح أفكاره وقناعاته ومشاعره أمامه دون وجل، أو خوف، أو رهاب اجتماعي.

ويعلّم الحوار الطفل الاستقلالية، وشجاعة اتخاذ القرار حينما يكون المربي معه لينا لا يعارضه حينما يطرح رأيه في كل قضية؛ فيكون الطفل أحيانا مبدعا لطرح رأي جديد فيه صلاح لمجتمعه في المستقبل خاصة حينما يكون الرأي حديثا مختلفا يجاري تطورات العصر، والمربي بذلك يكسر طابع التنميط والاستنساخ، ويفرح حينما يكون نتاج تربيته فردا مجددا، مبدعا، سالما، يساير الزمان واختلافاته وتغيراته بقوة، وشجاعة، وثقة عالية بالنفس، وثقة الطفل بنفسه تستحث جهود مربيه لنهج أسلوب المديح، والتشجيع، والاشادة بأي نتاج ينجزه حتى لو كان بسيطا، وتوضيح الصفات الإيجابية في شخصه كالقوة، وغرس الثقة عند مواجهة الفشل في عمل ما أو إنجاز ما، وغيرها. وبإمكان المربي الحديث عن نفسه وإخفاقاته وفشله في محطات من حياته حتى يزرع الثقة والأمل في نفس الابن، فضلا عن الحديث عن إمكانات نجاحه [7]. ولا ينبغي أن يُعلّم شيئا مهما كان جزئيا إذا كان الطفل يعلمه حتى تفسح له مجال التفكير والتصرف الحقيقي تجاهه، ويفسح المجالات له في الأسرة وخارجها للتعبير عن أفكاره، وقراراته، وأساليب تصرفاته، دون تحذير وتخويف وترهيب من الأسرة بسوء العواقب [8].

حينما يخطأ المربي أبا كان، أو أما، أو معلما مع الطفل من اللازم أن يعتذر له فالاعتذار يخلق بيئة إيجابية للتربية والتعليم. والمعارك التي تنشب بين الأطفال من الممكن السيطرة عليها من خلال الحوار معهم، وتخييرهم لأي الطرق الإيجابية يمكن أن تفض النزاع.

من جانب آخر فالأخطاء فرص رائعة للتعلم، وتعني أن نترك مجالا للطفل لكي يخطأ، ويحب فكرة التعلم من الأخطاء بدلا من الخوف والشك في أنفسهم، وأن يتجنب المربي فكرة السعي نحو الكمال، وأن يتخلى عن عادة اللوم والتوبيخ كلما أخطأ الطفل. وندعه يخطأ ليتطور، ولا ندع له مجالا للتفكير بالفشل، وأن هناك من يتتبع أخطاءه وينبهه عليها، ويجب تركه يتعلم السير لوحده لاكتشاف مواهبه وطاقاته لتحسين قدرته الذهنية. "من المناسب أن ندخل في ثقافة أبنائنا أن الخطأ له وجه إيجابي، فهم يتعلمون من أخطائهم أضعاف ما يتعلمونه من صواباتهم. المهم كيف أستفيد من رصيد أخطائي؛ فهو الرصيد الوحيد الذي لا يراد له أن يزداد[9]. "أديسون حينما كان يخترع المصباح الكهربائي استخدم 999 طريقة لكنه لم ييأس، ولم يصف تلك المحاولات بالفاشلة، وإنما قال" لقد أثبتُّ أن هناك طريقة لا تؤدي إلى اختراع المصباح الكهربائي"[10].

حسب التجربة إن أول الطرق لتعليم الطفل الاعتماد على النفس في تصحيح الخطأ وعدم اللجوء إلى الأبوين هي حينما يخطو الطفل خطواته الأولى تركه يمشي، ويسقط على الأرض، وينهض بنفسه دون تدخل الأم أو الأب بشرط أن لا يكون السقوط فيه خطر على حياته، فتكرار المشي والسقوط والنهوض مرات عدة تعلم الطفل فن الاعتماد على النفس، والاستفادة من الأخطاء بشكل متدرّج.

بالنتيجة الحوار بشكل عام مع الطفل إما يؤدي إلى التقارب والانسجام بين المربي والابن؛ فيكون المربي محبوبا كونه مكّن الطفل من إبداء رأيه دون وجل، أو خوف، وعبّر عن مشاعره بحرية وأدب، أو إلى الخلاف بين المربي والطفل حينما يكون المربي متصلّبا أحيانا ومتحيزا لرأيه حتى لو كان مثقفا، فكل نتيجة هي وليدة الأسلوب الذي على أساسها قام الحوار والتواصل، ولغة الخطاب هي العامل الأساس في كل حوار.  (يتبع)

***

إنتزال الجبوري

............................

[1]- نيلسن، جان. مصدر متقدم، ص204.

[2] - سالم، محمد عدنان. القراءة أولا. دمشق- بيروت: دار الفكر، ط1، 1414هـ- 1993م)، ص67.

[3]- عاقل. مصدر متقدم، ص272-273.

[4]- (ما المدة الآمنة لتعرض الأطفال للشاشات يوميا؟). صحيفة الشرق الأوسط(12 أغسطس2024- 7 صفر 1446)(يوميات الشرق).

[5] - الهيتي، د. هادي نعمان. ثقافة الأطفال. الكويت: مطابع الرسالة، 1988، ص30(سلسلة عالم المعرفة، ص30.

[6]-  سالم، محمد عدنان. مصدر متقدم، ص66-67.

[7]-  أنظر: ماكسويل، جون سي. أساسيات العلاقات، المملكة العربية السعودية: مكتبة جرير، ط1، 2009، ص28-30.

[8]-  أنظر: بركات. أ.د. وجدي محمد، وتوفيق، أ.د توفيق عبد المنعم. الأطفال والعوالم الافتراضية...آمال وأخطار. بحث مقدم إلى مؤتمر الطفولة في عالم متغير (مملكة البحرين- الجمعية البحرينية لتنمية الطفولة- 18-19/5/2009)، ص21.

[9]-  سيد حامد. مصدر متقدم، ص69.

[10]-  نفس المصدر، ص70.

 

أولا: التربية الحديثة: إذا كانت تربية طفل الأمس يتقاسمها محيطان هما؛ المحيط العائلي، والمحيط المدرسي؛ فإن تربية طفل اليوم تتقاسمها ثلاثة محيطات؛ هي العائلي، والمدرسي، والمحيط الافتراضي.

في كل من هذه المحيطات نسق تربوي مختلف عن الآخر باختلاف الوسيط التربوي وشخصه، ومكان وزمان نشأة الطفل، وأدوات التربية.

الوسيط التربوي في المحيط العائلي هما الأبوان؛ أمًّا وأبًا كانا، أو جدًا، أو جدًة، أو أحد أقارب الطفل إن فقد الطفل أبويه أو أحدهما مبكرا. وتلعب جغرافية المكان دورا كبيرا في نشأة الطفل حسب طبيعتها؛ غنية إذا كانت فقد تشبع ذاته الخاصة بما ينضوي فيها من كل مستلزمات الحياة المريحة، أم فقيرة، فقد تفقر ذاته وتنعكس ظروفها القاسية على نفسه سواء في الحاضر والمستقبل حيث تُختزن في لاوعيه.

أما أدوات التربية في المحيط العائلي التقليدي فتتمثل بلغة الأبوين، وخزينهما التربوي الحافل بالقيم والعادات والأخلاق والسلوكيات الخاصة، والاجتماعية العامة التي يسعى كل منهما أن تكون حسنة في كل محطات حياة الطفل. خزين الأبوين التربوي يمثّل بوصلة الطفل لمعرفة ذاته، ومرجعيته التربوية التي ينتمي إليها طوال سنيّ عمره، فضلا عن العامل الوراثي الذي يلعب دورا كبيرا أيضا في عملية التربية حيث يرث الأبناء بعض الصفات الإيجابية، أو السلبية من الأهل أجداد، وجدات، وآباء، وأمهات.

أما في المحيط المدرسي فإن الوسيط التربوي يتمثل بالمعلم، وأدوات التربية هي المناهج التعليمية المقررة مسبقا.

وأما في المحيط الافتراضي فإن لا وسيط تربوي للطفل سوى نفسه مستعينا بحواسه الثلاث؛ البصر، واللمس، والسمع، وأدواته هي الأجهزة الذكية (حاسوب، آيباد، هاتف نقال، وأجهزة اتصال أخرى).

تعتمد التربية الحديثة على ركيزتين أساسيتين؛ هما:

1- إيجاد المحيط العائلي الملائم؛

2- أدوات المربي الحديث.

1- إيجاد المحيط العائلي الملائم

تقتضي تربية الطفل الحديثة توفّر المحيط العائلي الملائم الذي ينعكس بآثار إيجابية على حاضر الطفل ومستقبله، وموائمة لمتقلبات العصر. ولكي يتوفر المحيط العائلي اللازم؛ فإن ثمة شروطا تنبغي الإشارة إليها؛ هي:

أ- الاختيار السليم لشريك وشريكة الحياة؛

ب- توفّر المربّي على إرادة كاملة لتقبّل إنجاب الطفل؛

ج- توفّر المربي على رصيد لا بأس به من الوعي والحكمة؛

د- توفّر المربي على ثقافة لا بأس بها بالعالم الرقمي.

أ- الاختيار السليم لشريك وشريكة الحياة: أعني به الاختيار الذي يُشترط فيه التكافؤ العمري–أي المجايلة- ، والتكافؤ الاجتماعي، والثقافي، والاقتصادي[1]، أو التكافؤ النسبي في الجوانب الأربعة.[2]

حينما يكون الاختيار سليما فإن المربي يكون مثاليا؛ كونه تربى في بيئة إيجابية تضعه في موقع الإيمان الحقيقي بشخصية الفرد. والطفل المولود من هذه العلاقة المتكافئة سوف يكون متفوقا على غيره ممن لا تتوفر له شروط المحيط السليم، وسوف تتهيأ له الفرص التربوية والثقافية والاجتماعية التي تمكّنه من خوض محيط الحياة بجد، وربما سيكون فردا مشهورا، أو نجما في المستقبل، وأيضا سوف يختار شريك حياته من نفس مستواه الاجتماعي أو قريبًا منه، ومتكافئًا معه في الجوانب الأخرى.

شراكة الحياة التي ينوجد فيها الأبوان المثاليان في علاقة متينة مبنية على المحبة والتفاهم والاحترام والتعاون تنتج أبناء أقوياء أصحاء النفوس، سليمي العقول، ناجحين، وتنعكس بمشاعر الأمان والسكينة والراحة والهدوء النفسي على الأسرة.

المحيط هنا له دور كبير في التأثير على وراثة الخصال الحسنة، وسوف يرث أبناء الأبناء الصفات البيولوجية والاجتماعية، التي تعمل بشكل متكامل على الارتقاء بالأبناء الجدد وهكذا. على عكس الأسر التي ينوجد فيها الأبوان في علاقة متوترة يسودها العراك والمشاحنات؛ التي تنعكس على نفوس الأبناء؛ فيكونون متوترين، مقهورين، ومضطربين نفسيا وعقليا وربما جسديا، وقد يفشلون في مشاويرهم الدراسية، وقد ينهار الصرح الأسري.

يمكن إثارة سؤال هنا هو:

هل يمكن أن يتدرب طفل ما من الوسط الاجتماعي المتوسط، أو دونه ممن لم يتوفر على محيط أسري سليم من تنمية خبراته وكفاءاته ليكون بمستوى الطفل الذي تربى في محيط نموذجي عال؟

الجواب:

نعم؛ يمكن ذلك حينما يتلقى التدريب الجيد، يمكنه أن يكون متميزا أيضا؛ فالخبرات ليست مقصورة على جودة المحيط، أو على العامل الوراثي بل أيضا على التدريب المستمر، وإن الكثير ممن يشغلون أمكنة هامة في المجتمعات الصغيرة لو تلقوا تدريبا كافيا لأمكنهم أن يكونوا في مصاف المشهورين من عظماء الناس حينما تتوفر له أحسن أنواع التربية والتعليم، فيما إذا استثنينا من يولد موهوبا بالفطرة [3]. والدليل على ذلك إن الكثير من الموهوبين والعلماء منحدرون من أسر ذات مكانة متواضعة، أو دونها في المجتمع، والمعاناة وشظف العيش يمكن أن يولّدا الإبداع والشهرة. لكن حينما تجتمع العوامل الثلاثة التي هي اختيار الشريك الكفوء، والتدريب والإعداد في المحيط الملائم، والصفات الوراثية الحسنة فسوف يكون النتاج طفلا سليما، وفردا إيجابيا في المجتمع.

ب- توفّر المربّي على إرادة كاملة لتقبّل إنجاب الطفل: ينبغي أن يتوفر المربي على قناعة تامة، وإرادة كاملة لإنجاب الطفل، واستعداده للتربية والتوجيه والتهذيب دون ملل، أو إكراه، أو ضجر.

قبل أن تكون أمًّا أو أبًا تأكد أن وقتك لن يكون ملكا لك كله، أحيانا يستنزفه الطفل في كل أحواله، حينما تكون معه في المنزل، أو خارجه، أو وقت طعامه، أو وقت نومه، أو لعبه. قبل أن تكون مربيا ينبغي أن يكون لديك وقت كافٍ للتربية والتهذيب والتوجيه. التربية تتطلب إغداق المحبة، والتقدير، والاهتمام، والتشجيع، والإصغاء لابنك لكي يعبّر عن شخصه، ورأيه.

ج- توفّر المربي على رصيد لا بأس به من الوعي والحكمة: ينبغي على كل من يريد أن يكون مربيا حقيقيا أن يكون على درجة من الوعي، والثقافة، والحكمة. يتحقق هذا الشرط عبر انخراطه في معاهد تربية وعلم نفس الصغار والكبار، حتى يعي ذاته، وذات المتعلقين به (نفس الرجل، والمرأة، والطفل)، ويحقق التوازن النفسي والعقلي والعاطفي له أولا، ومن ثم لمن يرتبط به ثانيا. وحينما يتحقق الوعي عند المربي يتمكن من الحفاظ على أكبر انفتاح لذهن الطفل، وكل طفل سليم فطن ذو ذكاء متدرج؛ وذهن منفتح، حينئذ تكون التربية عملية حيوية مرنة؛ فالتربية عند المربي الواعي هي تبادل لوجهات النظر بشكل دائم، دون تعالي المربي على من يتولى تربيته، ولا بد للمربي أن يكون متواضعا، ومنفتحا غير منغلق على عقل الطفل البريء الفطري "فالمربي الحقيقي هو الذي يعطي ولا يأخذ، وعليه أن يعتبر نفسه أنه مربٍّ بالقدر الراهن، وأن تلقّي التربية هي قدر الآخر الذي يتولى تربيته، لذلك ينبغي على المربي أن يستخدم جميع مصادره السيكولوجية دون شعور بالتفوق، أو السيطرة، وأن ينتزع الخوف من نفسه، عند ذلك تكون التربية عملية جميلة مريحة للمربي والطفل معا"[4] . التربية تعني "نقل القوة والتوازن لا السيطرة بالإكراه، المربون الحقيقيون هم الذين يحاولون أن يعرفوا أنفسهم بأنفسهم" [5].

وعي المربي يزحزح لدى الطفل شعور حب السلطة الأبوية والتفوق على الابن؛ فعملية التربية هنا مبنية على الأخذ والعطاء بين المربي والابن.

د- توفّر المربي على ثقافة لا بأس بها بالعالم الرقمي: يتوفر هذا الشرط عبر الانخراط بشكل خاص في دورات توعية بنظام الانترنيت العالمي ووسائطه للاتصال، والتواصل الاجتماعي بمختلف قنواته المتمثلة ب(الفيس بوك، الانستكرام، الواتساب، الفايبر، التلكرام، وغيرها الكثير)، وتداعياته على الأسرة، والمجتمع العام. والانخراط في مجموعات متخصصة بالتربية، وعلم نفس الطفل في العالم الافتراضي، وتبادل الخبرات والمعلومات بتقنية طرق التربية العائلية، لاكتساب وعي تربوي حقيقي يوازن بين متطلبات العائلة، والمجتمع الواقعي الخارجي، والمحيط الافتراضي، لتخريج جيل ملتزم بالمعايير الأخلاقية الاجتماعية على الصعد الواقعية والافتراضية. ويتعين على "الأسرة المعاصرة مهما كانت درجة تعليمها، أو ثقافتها العامة، أو الخاصة بالكومبيوتر والإنترنيت والتكنولوجيا أن تعمل على تطوير معارفها، ومهاراتها التقنية المعاصرة تدريجيا لتمكينها من التوجيه والإرشاد والإشراف على الأبناء خلال استعمالهم لهذه التقنيات الحديثة، ولمشاركتهم ما يقومون به من تعلّم وتثقيف بواسطتها، والوقوف بوجه التحديات والمخاطر الداهمة، وتشكيل درع واق لحماية الأطفال وتوعيتهم والعمل على نشر الثقافة السليمة بينهم"[6]؛ فإن عدم الوعي بعالم التكنولوجيا المعلوماتي، وما يحتويه من برامج وتطبيقات من قبل الأهل، خاصة الذكاء الاصطناعي يؤدي إلى ازدياد الخطر على الأبناء، وتعرضهم للتنمر الإلكتروني، وعرض الأفلام الفاحشة، وإشاعة العنف والجرائم بأنواعها، والعادات السيئة الخطيرة كالإدمان على تعاطي المخدرات، وغيرها الكثير التي تؤدي إلى التدهور الأخلاقي والقيمي.

2- أدوات المربي الحديث

هي الوسائل المستخدمة في تربية وتوجيه الطفل وتهذيبه؛ وتشمل:

أ‌- وعي المربي بذاته؛

ب- وعي المربي بذات الطفل؛

ج- لغة الخطاب اللائقة؛

د- خزين القيم التربوية الفاضلة؛

هـ- القدرة على توجيه الصفات الموروثة لدى الطفل.

نتناول أدوات المربي، وكيفية توظيفها في كل مراحل تربية طفل اليوم على الوجه التالي:

أ- وعي المربي بذاته:

السعي نحو الكمال هو ما يبتغيه كل من الأبوين في عملية التربية؛ فالتربية الجادة نتاجها ابنا سليما؛ وهو أحد عوامل تحقيق المقام الاجتماعي لدى الأبوين.

وما دام المربي ينشد الكمال في شخصه عليه أن يعي نفسه أكثر عبر الانخراط في دورات تربية وعلم نفس الأسرة؛ فالوعي بالنفس والدراية بها يساعدانه على درك نقاط القوة والضعف فيه، فيعمل على تقوية ذاته، وحين تقوى ذاته يكون قادرا على معرفة ذات الطفل وتربيته التربية المتينة، ويكون نتاجه ابنا قوي الذات، والذات تعتمد عليها قوة الشخصية؛ ف "إن عاطفة اعتبار الذات هي المنظم الأساسي للسلوك، وهي القائد الأعلى للنزعات، والتي تتوقف عليها قوة الشخصية، ووحدة اتجاهاتها، وتناسق أفعالها، وتوازن تصرفاتها" [7].

وحينما يكون المربي واعيا بذاته، يمكنه بذل الجهود الممكنة، والتنازل عن بعض الرغبات إن اقتضت الضرورة لأجل إدارة دفة العلاقة العائلية التي تخص الابن بحكمة وحنكة وحلم دون قيد أو شرط، ويتقبل الاختلاف في الأمزجة والطباع، ويعلّم الطفل فن قبول كل الآراء رغم اختلافها؛ لأن الطفل حينما يكبر يكون واعيا لذاته، ويتقبّل اختلاف الآخرين باعتبار الاختلاف هو الأساس في معرفة الآخر، والعالم في المستقبل هو عالم الاختلافات، ويعلّمه فن الاختيار، وتمييز الرأي الصائب عن الخاطئ وتقبّله دون اعتراض، خاصة العالم يسير صوب السرعة الخاطفة شاء أم أبى. وإذا تحقق الوعي فسوف يكون المربي في نقطة الاتزان الوسطية التي ليس فيها رئيس ومرؤوس، متسلط ومُسَلَّط عليه؛ والسلطة تنعدم هنا- أي سلطة المربي.

حينما يحدث الصراع مع الطفل فإن ما يفعله المربي هو السعي لعدم بث شعور النصر والهزيمة في نفسه ونفس الطفل، وإنه المنتصر والطفل المنهزم، وعليه أن يتساءل مع نفسه هل أكسبه القوة أم الإحباط؟[8] ، لذا على المربي أن يسعى لكسب الطفل في صفه لا هزيمته.

بالطبع عملية التربية عملية مجهدة وشاقة للمربي لذا فهو يحتاج إلى الاستراحة الإيجابية التي لها دور كبير في محو الأفكار السالبة، والمتاعب والضغوط في العملية التربوية، ومن ثم يمكن أن تكون الأمور سهلة وأكثر إيجابية، ويكون أقدر على وضع الحلول اللائقة كل في مكانه[9]. تعني الاستراحة الإيجابية اختيار مكان ووقت مناسب للمربي ليختلي بنفسه، ويتنفس بعمق ويراجع ذاته، ويسترجع نشاطه وسكينته وهدوئه، ثم يعود بعد ذلك هادئا، وساكنا، وحيويا لاستئناف تربية الطفل.

ب- وعي المربي بذات الطفل:

حينما يكون المربي واعيا بذاته وعيا تاما يكن قادرا على وعي ذات الطفل، والإيمان بقدراته؛ كونه إنسانا كما هو تكمن فيه كل عناصر القوة والنجاح على الوجه الأكمل إذا كان سليم الجسم والعقل معا.

ذات الطفل تتشكل في محيط الأسرة، وتعتمد بشكل أساس على قوة المربي ووعيه بذاته، حينما يكون المربي واعيا مثقفا، يكن قادرا أيضا على دراسة شخصية كل طفل ونوعها، فليس كل الأطفال متساوين في استعداداتهم الجسدية والنفسية والعقلية. وهنا ينبغي على المربي أن ينتهج لكل طفل منهجا تربويا مختلفا عن الآخر أخيه؛ كأن يكون أحد الأبناء لديه استعداد عقلي أكبر من أخيه الآخر، أو ذا موهبة خاصة، أو ذا شخصية نرجسية، أو أنانية، أو عنيدة. والأولوية هنا هي دراسة شخصية الطفل ومعرفتها بشكل تام؛ فإنه إنسان كامل، وعلى المربي التعرّف على استعداداته العقلية والنفسية حتى يتمكن من تربيته التربية المناسبة التي تحقق التوازن في شخصه، وتلهمه الشجاعة، والثقة بالنفس لاتخاذ قراراته الحياتية في الحاضر والمستقبل دون تدخّل من خارج النفس فيما لو كان وحيدا في حقبة من حقب حياته.

يقول برناردشو:

"قبل أن أتزوج كان عندي ست نظريات عن تربية الأطفال، الآن لدي ستة أبناء ولا أجد نظرية واحدة تجدي معهم". وهذا دليل على أن لكل طفل شخصية مختلفة كليا عن أخيه الآخر.

"إن دور كل مربٍّ يكمن في أن يقود إلى معرفة الذات، إلى الحقيقة والتوازن، وعلى كل مرب أن يقود نحو توسّع الاستعدادات النفسية، ولكن عليه من أجل هذا أن يكون هو ذاته هذه الحكمة وهذا التوازن"[10]. ولأجل ترسيخ الثقة في نفس الابن تنبغي دراسة قدراته وطاقاته ومواهبه الذاتية ومتطلباته أولا، وتقبّل الشكل الخارجي له من قبل المربي والمجتمع ثانيا، والتأكيد على أن كل فرد هو معرفة لنفسه وللمحيط، وليس نكرة والتأكيد على أنه ليس نكرة هو إنسان لديه ما لدى الآخر تماما ثالثا. نعم هوياتنا ربما تكون مختلفة لكن مطالبنا من المحيط الداخلي- وأعني الأسرة- والمحيط الخارجي - وأعني المجتمع- هي واحدة.

ولا ننسى في هذا المضمار أن الطفل في حضن العائلة يكون أنانيا لا يعرف شيئا غير ذاته وتلبية متطلباتها. والمربي الواعي يمكنه ترشيد حب الذات لدى الطفل بتوازن يمكّنه من تحقيق طموحاته في المستقبل.

لدى علماء التربية "نظرية يطلقون عليها (النبوءة التي تحقق نفسها ذاتيا). مفادها أننا إذا اعتقدنا أن الطفل ذكي وعبقري وسيكون ذا شأن كبير في المستقبل، سيعمل عقل الطفل تلقائيا على تحقيق تلك النبوءة"[11]. نابليون بونابرت يقول: "إن ما توصلت إليه اليوم هو من عند أمي" فهي التي زرعت الطموح ليغير العالم بأسره. وبالعكس لو أُسمِع الطفل كلمات سلبية عن نفسه تشعره بالإحباط، وعدم الكفاءة في تحقيق ذاته وطموحاته. ففي علم النفس أن المرء يردد الأفكار التي يسمعها عن نفسه في داخله إلى أن يقتنع بها وينتهج - وهو لا يدري- الطرق التي تحقق تلك التصورات[12]؛ "لهذا يحذرنا جيمس آلن بقوله: كل ما يصنعه المرء هو نتيجة مباشرة لما يدور في فكره، فكما أن المرء ينهض على قدميه وينشط وينتج بدافع من أفكاره كذلك يمرض ويشقى بدافع من أفكاره أيضا" [13]، وأفكاره تنمو، وتتدرّج معه طبقا لما يسمعه منذ الصغر عن الأهل من آراء إيجابية، أو سلبية حول ذاته.

(يتبع)

***

إنتزال الجبوري

 .......................... 

[1]- أنظر: حجازي، د. مصطفى. الصحة النفسية. بيروت: المركز الثقافي العربي، ط2، 2004، الصفحات121، 123، 126، 129.

[2] - لا يسعني التفصيل في هذا الموضوع لأنه ليس محل البحث، وقد طرحته في دراسة سابقة لي بعنوان: جدلية العلاقة بين الرجل والمرأة، نشرتها صحيفة المثقف في عددها الصادر في (كانون الأول/ ديسمبر 2022)-  الكاتبة.

[3]- أنظر: عاقل، فاخر. علم النفس. بيروت: دار العلم للملايين، ط10، 1987، ص263- 264.

[4]- داكو، بيير. مصدر متقدم، ص550- 551.

[5] - نفس المصدر والصفحة.

[6] - بركات، أ.د. وجدي محمد، وتوفيق، أ.د توفيق عبد المنعم. الأطفال والعوالم الافتراضية...آمال وأخطار. بحث مقدم إلى مؤتمر الطفولة في عالم متغير (مملكة البحرين- الجمعية البحرينية لتنمية الطفولة-  18- 19/5/2009)، ص19- 20. 

[7]- الحفني، د. عبد المنعم. الموسوعة النفسية، القاهرة: مكتبة مدبولي، ط1، 1995، ص308.

[8]- نيلسن، جان. لتهذيب الإيجابي في تربية الأطفال. القاهرة: دار دوِّن، ط1، 2022، ص155.

[9]- نفس المصدر، ص158.

[10]- داكو، بيير. مصدر متقدم، 536.

[11] - سيد حامد. أبي أرجوك لا تفعل هذا. القاهرة: دار الأجيال، ط1، 2012، ص19.

[12]أنظر: نفس المصدر، ص20.

[13]نفس المصدر والصفحة.

كثيرةٌ هى مزايا التصوف، البديل الفعلي للإرهاب، غير أنها تتفرَّق بين الأولياء والعارفين والصوفيّة، ويتفرَّق النزوع إليها والإعجاب بها، مشاربَ وأذواقاً، بين الدارسين والباحثين.

وقد يُحرم الصوفي إحداها أو أكثرها وهو من بعدُ صوفيُّ لا شك في صوفيته؛ لأنه يُحسن ضرباً من الصوفية تصحُّ بها صوفيته ولا يشك فيها أحد.

فقد يُعجبنا من كل متصوف خصوصية فيه ومزيّة ينزع إليها، ويصنف بين الصوفية وفق تملكه إيّاها واتصافه بها؛ فالذي يتميز به أبو طالب المكي غير الذي يتميز به الغزالي، والذي يتميز به هذين غير الذي يتفرد به الجنيد والحكيم الترمذي أو البسطامي أو الحلاج أو ابن عربي أو الجيلي أو السّهروردي أو ابن سبعين.

والذي يستحق به كل واحد منهم صفة الروحانيّة غير الذي يستحقها به البقيّة، فيما لو أخذنا بتصنيفات "الباحثين" - لا تجارب العارفين - بين تصوف سُنيّ أو سلفي أو إشراقي أو فلسفي أو شبه فلسفي على اختلاف الضروب واختلاف التقسيمات.

غير أن المزيّة التي لا غنى عنها، والتي لا يكون الصوفي صوفياً إلا بنصيب منها وافر هى مزيّة واحدة لا خلاف في الرأي عليها: التجربة الصوفيّة وطلب المعرفة الإلهيّة من طريق الذوق والتبتل، وهو مطلبٌ عادل للذات المؤمنة لا شك فيه ولا غبار عليه.

فكما تكون "الطبيعة الفنية" مزيّة الشاعر المطبوع لا غنى عنها ولا يكون الشاعرُ شاعراً إلا بنصيب موفور منها، كما يقول الأستاذ "العقاد" في مقدّمة كتابه عن "ابن الرومي حياته من شعره"؛ كذلك تكون "التجربة الصوفيّة" التي هى حياة الأولياء والعارفين، مزيّة الصوفي الأصيل، ولا يكون الصوفيُّ صوفياً على الحقيقة إلا بنصيب منها.

تعمدتُ حقيقةً أن أستخدم نفس الألفاظ والكلمات التي استخدمها الأستاذ العقاد عند الحديث عن ابن الرومي في مقدمة كتابه وهو بالمناسبة من الكتب التي يعتز بها مؤلفها، وتعمدت أن أسلخها من هناك لألبسها ثوب اللغة الصوفية هنا؛ للمقاربة البادهة بين الطبيعة الفنية لدى الشعراء والتجربة الصوفية لدى كبار صوفية الإسلام.

وبما أنها مقاربة عجيبة فعلاً فيها امتياز واختصاص، فتكاد تنطبق الأوصاف التي تطلق على الشعراء من أصحاب التجارب الفنية على الأوصاف التي تنطبق على الأقطاب الصوفية من أصحاب التجارب الروحيّة.

فقد أراد "العقاد" أن يستخرج من أقوال ابن الرومي حياته التي تدل عليها من الوهلة الأولى أشعاره، لكأنه يريد أن يقول إنه ما من بيت من قصيد الشاعر إلا وعليه من قيم الحياة الحيّة الفاعلة ما يوافقه ويدل عليه ويسمح باستخلاصه في مصدر الشعور ومنبت الضمير من حياة الشاعر نفسها، إذ الطبيعة الفنية هى الحاكمة الفاصلة فيما يصدر عن شاعرية الفنان، وليس يقدح شئ في شاعريته من بعدُ إلا أن يكون خلوّاً منها.

وبنفس المقاييس، تجئ التجارب الصوفية العالية هى الفواصل الفارقة العاملة في معطيات الإشارة الصوفية التي تستقي من عين التجربة.

فالمقول يتحد مع الحالة بلا ريب في بطن التجربة الصوفية، فلا تسمح التجربة الصوفية عند الصوفي بمعطياتها إلا بما تسمح به الطبيعة الفنية لدى الشاعر بمقوماتها:

كلتاهما حياة تظهر أسرارها مع الشاعر المطبوع والصوفي الكبير تحت ظلال التجارب والطبائع.

فإذا كانت الطبيعة الفنية من الضرورة بمكان بالنسبة للشاعر، فالتجربة الصوفية من الأهمية بمكان بالنسبة كذلك للصوفي الكبير، كلتاهما اتحاد في المبدأ يقوم على منبت الشعور ويتغذى من قرارة الوجدان ويصدر عن الصدق فيما يقال عنهما من شعر الشاعر أو إشارة الصوفي.

وليس هناك من عجب أن يتلاقى الشاعر المطبوع مع الصوفي الأصيل؛ فما أقرب الصلة الوثيقة بين الشعر والتصوف، أو بين التجربة الصوفية والطبيعة الفنية، وما أبعد الخلاف بينهما في غور التجربة ويقظة الإحساس بجوانب الحياة المختلفة، مع الوضع في الاعتبار فارق "التوجه" وفارق "التعلق"، ومع الاحتفاظ بالمصدر الشعوري واليقظة الروحيّة في كلتا التجربتين.

فإذا كان الصوفي يتوجه مباشرة بوحدة قصده إلى الله ويتعلق بالوسائل التي توصّله إليه، فالشاعر يتوجه إلى فكرة أو معنى يعيشه ويحسّه كما تعاش الحياة الحيّة وتُحس، ويتعلق في الغالب بمحبوبة في عالم الحسن ينزع بها وجدانه من المحسوس إلى المعقول، ويروم قصداً من وراء ذلك غير الذي يرومه صاحب القصد الأول؛ ويتوخّاه.

وربما توصّل الشاعر بقصده المحسوس إلى ما يعلو على الحس ويرتفع في المثال؛ لينشد الحقيقة التي ينشدها الصوفي من أقرب طريق، فقد يتوصّل إليها إذ ذاك بشعوره الخالص المُجرد؛ ليجيء مصدر الشعور ها هنا توحيداً بين تجربة الصوفي وتجربة الشاعر رغم فوارق التوجّه والتعلق، فالذي يتعلق بالله ويتوجّه إليه ليس كالذي يتعلق بمحبوبة عشقها وتبتل إليها في عالم الحس، ويتوجه إليها من بعدُ ويكنى عنها بالشعر أو بالنثر أو بما شاءت له قريحته أن يُكنى.

ويبقى بعد ذلك ما لا خلاف عليه من تجارب المحبين وصبابة العشاق، وهو أن الطبيعة الفنية لدى الشاعر المطبوع تكاد تقترب من التجربة الصوفية عند الصوفي الكبير، تأخذ عنها وتتوحد بها حتى لا تكاد تفرّق بينهما، يظهر هذا في العلاقة بين الحب والموت.

إنما الأمرُ هنا لا يتوقّف عند حدّ العلاقة بين الحب والموت وكفى، بل يتعدّاه إلى ما بعده، وهو بقاء القصائد الشامخة في الوجدان الراقي، الصافي النقي، لتشرح العلاقة بين الحبّ والموت، وتجلو الصلة القويّة بين الحبّ الحسّي والحبّ الروحي، إذ كان الأول مقدّمة للثاني. ولا يفهم من الثاني (الحب الإلهي) إلا ما يستقر عليه الفهم حقيقةً من الحب الأولىّ، (الحبّ الحسيّ)، فلم تبدع رابعة العدوية في ميدان الحبّ الإلهي إلا بعد تجربة ممضّة مع الحبّ الحسيّ، ولم تكن الصبابة التي يعانيها المحبون في الأودية الحسية إلا مذقاً إنسانياً صادقاً من ظلال التجربة الروحيّة.

واهمٌ من يتصوّر أن هذه القصائد أو تلك تخاطب محبوبة بعينها وكفى؛ لتكون مجرّد علاقة حبّ بين طرفين ليس أكثر .. كلا بل في القصيدة التي يقولها الشاعر الممتاز ظلال صوفيّة خالصة، ليس أيسر من نقلها على الفور من الأودية الحسيّة إلى الأودية الروحيّة في لحظة تجرّد صادقة؛ الأمر الذي يتأكّد معه أنّ المحبين في المحسوس هم أنفسهم المحبُّون في المعقول، في عالم الروح. وأنّ معاناة التجربة في المحبّة الحسيّة هى نفسها معاناة التجربة في المحبّة الروحيّة، وأنّ القادرين على تذوق الحبّ الحسّي هم أنفسهم القادرون من وراء الأشباح والظلال على تذوق الحبّ الإلهي.

فارقُ التجربة الشعوريّة هو التوجُّه، ولكن نهايات التجربة في الحبّ الحسّي تكون في الغالب بدايات التجربة في الحبّ الروحي الخالص، وربما يختلط الأول بالثاني وليس من ريب، وتكون التجربة واحدة، وتزول الفوارق الشعوريّة بين التوجُّهات وتذوب، فلا يعرف المُحب في أي واد من الأودية يتوجّه فيُسلم لها قياده؛ لأنه لا يلمس فارقاً باطناً في أصل المحبّة ولا يكاد يقف عليه.

وشعراء بني عُذرة كجميل بثينة، وقيس لبنى، وغيرهما من شعراء التبتُّل والعفّة كانوا أكثر الناس دلالة على هذا النوع بالحبّ إلى الموت؛ لوجود علاقة رُوحيّة صافية بين الحبّ في الأودية الحسيّة والحبّ في الأودية الروحيّة.

وصبابة العشّاق لوعة مُخامرة هى نفسها تكاد تكون الصبابة التي يعيشها أصحاب الأذواق والمواجيد.

الحُبّ الإلهي أصلُه في الانسان محبّة جزئية محدودة بوقوف الهوى على المُحبّ، تفاصيلها نزوع الوجدان إلى الأصل، وكلما اقتربنا من الأصل زالت الفوارق وذابت الحواجز والمحاجيب، وحلّت من ثمّ الوحدة محلّ التعدُّد والكثرة، فليس يبقى إلّا الواحد على الدوام.

(إنّ الغرام هو الحياة، فمُت به صبّاً، فحقّك أن تموت وتعذرا)

هكذا كان ابن الفارض يقول. هذا ظل ثابت في وجدان العشاق من ظلال التجربة الصوفية لا يمكن تغافله أو صرف النظر عنه بحال.

وعليه، فلا يوجد صوفي واحد له رأي أو مذهب أو أثر من آثار الكتابة والتدوين ولا تكون له تجربة روحيّة ينطلق منها ويعتمد عليها ويتذوق آثارها فيما يرى أو يقول؛ فلئن فاتته التجربة فلم يستطيع خوضها وركوب متاعبها؛ فلا يخلو من شرط التعاطف معها على أقل تقدير.

ولأجل هذا؛ تجئ التجربة الصوفية دائماً أسبق لدى الأولياء والعارفين من الفكرة الفلسفية. وما الفكرة الفلسفية في ظلال التجربة الحيّة المعاشة إلا بمثابة شرح العقل النظري لتجارب العمل والإنشاء في إطارها.

ولولا وجود التجربة الصوفيّة معتمد الأولياء والعارفين ما صَحَّتْ على الإطلاق أذواقهم ولا مشاربهم ولا أحوالهم، وما صَحَّ لهم حال ولا سرُّ ولا معرفة ولا علم ولا نظر، بل ولا مذهب ولا نظرية ولا رؤية ولا استقام لهم طريق؛ إذْ التجربة الصوفية مناط الثورة الروحيّة في الإسلام ومستندها الفاعل بغير شك، وأساس الثمرة المرتقبة من وراء المذاهب والآراء.

وعلى هذا الأساس، لا على أساس غيره، ينبغي أن تُفَسَّرَ كل الآراء الصادرة عن المتصوفة في إطارها ولا تُفَسَّرُ في إطار سواها.

وعلى هذا الأساس، لا على أساس غيره كذلك، تجيء مطالب الذات المؤمنة خاضعة خضوعاً تاماً لمعطيات تلك التجربة الصوفية تُفَسَّرُ من خلالها، تأخذ منها وتعطي من عساه يشعر بها ويحس معها شعور التعاطف وشعور الترقي في مدارج المعرفة ومعارج الاتصال بالحقيقة الإلهية.

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم

المحاولات الدائمة لتجهيل الإنسان لا زالت مستمرة، ولن تنقطع ما دام هنالك من يُفسد في الأرض مع دعوى الإصلاح فيها، ويفسد في النفس مع دعوى تهذيبها، ويصرف الناس عن كشف حقيقتهم الأصليّة؛ لينساقوا كما السَّوائم إلى حيث يشتهون. وربما تمّت عملية التجهيل هذه من الإنسان نفسه مع نفسه لنفسه ولغيره؛ إزاء محاولات إرتقاءاته الماديّة، فتراه يتفوّق في علوم المادة مقابل إخفاقاته الملحوظة في فنون الروح وشئون الضمير، وبالتالي يُخفق اخفاقاً شديداً في الكشف عن حقيقته الأصليّة، فيجئ كل ما يقدّمه مجرد قشور قاحلة لا تغني ولا تثمن من جوع، فتتعطل قواه المعرفيّة ويُصاب بالأمراض النفسيّة من جرّاء جوع الملكات الروحيّة لديه، مع تعطيل سائر القوى التي تمدّه بالإرادة والعزم وتصحيح اليقين.

ولعل الانشغال بعيداً عن توظيف الوعي بالقرآن الكريم سببٌ كارثي مباشر بكل تأكيد من أسباب هذه الاخفاقات سواء على مستوى الوعي الفردي أو على مستوى المجموع؛ الأمر الذي يتطلب من الإنسان إعادة بناء النظرة المُنصفة من نفسه في حق نفسه أولاً قبل المطالبة منه لغيره بإزاء النظر في حقوق الآخرين.

ومن أعجب العجب أن تتقدّم العلوم الكونية والعلميّة ويتأخر العلم بالإنسان، وربما كان موضع العجب في تلك الصعوبات التي تمَّ منذ القدم تجهيل الإنسان من أجلها: تجهيله بحقيقة ذاته، فهو لن يعرف مثلاً سر الحياة ولا سرّ الموت أبداً، ولم يدرك أبداً سِرَّ الرُوح الإنساني، ولن يعرف شيئاً من أسرار التكوين البشري؛ بل إنّ علم الإنسان بالإنسان متأخرٌ جداً عن علم الإنسان بالطبيعة والفلك والكيمياء والميكانيكا والأسلحة النوويّة والبيولوجيّة.

صحيحُ أن هنالك محاولات شاقّة ومُضنية بُذِلتْ من جانب العقل البشري لمعرفة الحقائق الكبرى، ولكن المدى لا يزال بعيداً، والوصول إلى سرِّ الحياة يكادُ يكون من المستحيلات، وذلك لأن تركيب العقل نفسه - فيما يقول برْجُسون - يتصفُ بعجز طبيعي عن فهم الحياة. فلا يعني مطلقاً تقدُّم العلم المادي معرفة الإنسان نفسه بنفسه؛ فتأخُّرُه في هذا المجال مقدَّمُ على تقدُّمه في العلم المادي.

لكن القرآن الكريم عنى عناية بالغة بالإنسان، فجعل التفكير فيه تفكير في الدين، (ولقد كرّمنا بني آدم)، بني آدم بإطلاق. والتفكير في الدّين مجموعٌ بين دفتي القرآن ومحمول عليه، يتحرّك في إطاره ولا يخرج عنه.

وما من تفكير في الدين لا يمسّ القرآن في صميم الصميم لا يعوّل عليه؛ لأنه بالحقيقة يبني الإنسان من جهة النفس والعقل والقلب والروح والسِّر كما يبنيه من جهة البدن والهيئة والجسم والقالب سواء.

ولا بدَّ لقائل أن يتسأل فيقول: إذا كان التفكير في الدين نفسه أوسع عناية وأشمل خطاباً من الدين الإسلامي وأعمّ من ذلك بكثير من حيث إنه يتجاوز القرآن إلى سائر الأديان الكتابية الأخرى السابقة عليه من يهوديّة ومسيحيّة، ناهيك عن الديانات الغير كتابية ممّا تضمّنه الفكر الشرقي القديم في أمم عتيقة مثل: مصر والهند وفارس والصين وغيرها من أمم الأقوام البدائية والحضارات السالفة، فهل يجوز على هذا كله، اختزال كل تفكير في الدين في الإسلام فقط أو اختزاله في الدّين الإسلامي، وهل يقتصر التفكير في الدين على الإسلام وحده أو على القرآن، مُهملاً بذلك سائر الأديان والعقائد الأخرى؟

بداهةً؛ لا يمكن لقارئ لديه أدنى إطلاع على مقارنة الأديان، ولا لباحث في القرآن على التعميم، أن تغيب عنه مثل هذه اللفتة، فإنّ الفرق كبير جداً بين تراث بشري قام على الدين، وبين أصل الدين نفسه حين أظهره الله تعالى بالهدى ودين الحق على الدين كله. غير أن المنطقة التي نتحدّث منها ولا نغفلها لم تكن بغائبة عن هذا التفكير في الدين عموماً، وعلينا من ثمّ تحديدها بما يناسب علّة هذا التفكير في الدين، وبما يخضعه لها من حيث كونها مبعث شمولٍ لحركة الوعي الخاصّ بها على الجملة فضلاً عن التفصيل.

لم تكن منطقة الإظهار في القرآن بالمنطقة التي ينفصل فيها الوعي الكوني عن هيمنة المقدّس واحتوائه.

ــ منطقة الإظهار:

في القرآن الكريم نقرأ قول الله تعالى: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً" (الفتح: 28). لاحظ التعقيب أنه سبحانه أشهد نفسه على هذا الإظهار كما أشهدها على الإرسال. وقوله تعالى: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون" (التوبة: 33، والصف: 9). ولا بدّ لهم من كراهة. ويشدّد على نفس الآية في سورة الصف في حين لم يذكر آية سورة الفتح إلا مرة واحدة، ولم يكررها كما كرر التعقيب "ولو كره المشركون" مرتين في التوبة وفي الصف، فهو سبحانه إذ أرسل رسوله بالهدى ودين الحق أشهد نفسه على الإرسال والإظهار؛ فأعجز وتحدى، ولم يكررها في القرآن كله في حين كرر التعقيب "ولو كره المشركون" في آية التوبة وآية الصف، لتوكيد الإعجاز وتشديد التحدي، وتكفي شهادته سبحانه على منطقة الإظهار: أشهد نفسه على حكمه، وتحدى وأعجز، وكفى بالله شهيداً.

أمّا كراهة المشركين للإرسال والإظهار في آيتين؛ فتنبيه دائم لتحدي الإعجاز: إظهار دين الحق على الدين كله.

من هذه المنطقة يظهر الدّين الحق برسالة الرسول الخاتم مهيمناً على سائر الكتب السماوية الأخرى بمطلق ما جاء فيه من هدى، ومن دين الحق. وعليه؛ يصبح التفكير في الدين هو بالأساس تفكيرٌ في القرآن مع كفاية الله للشهود الذي أرسل، وللهداية التي أوجب، وللدين الحق الذي ارتضاه. وما دام التفكير تفكيراً في الدين فهو تفكير في الإنسان على وجه الإجمال، ومادام تفكيراً في الدين فهو تفكير في القرآن، والتفكير في القرآن هو لا شك تفكير يصدر عن منطقة الإظهار.

لاحظ أن البعد الغائب من الإنسان هو البعد الروحي وهو الذي فيه تكمن حقيقته الأصليّة والتي تم تجهيل الإنسان نفسه بها، في حين تقدم في سائر العلوم الكونيّة والتجريبية وتأخر في علوم الإنسان فلم يعرفه سر الحياة ولا لغز الموت ولم يرتقْ لكشف حقيقته الأصليّة، ولو أنه تعمق في منطقة الإظهار لعرف على الحقيقة مكانة الإنسان بمعرفته بدايةً لمكانة القرآن.

تمثل منطقة الإظهار خاصّة ذاتية للقرآن، صفة توجد فيه وحده ولا توجد في سواه. فليس من كتاب أظهره الله على سائر الكتب المُنزلة الأخرى سوى القرآن، فالظهور هذا من خصوصياته، لا من خصوصية سواه.

تلك المنطقة (منطقة الإظهار) التي أرسل الله منها رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله؛ فالتفكير فيها ومنها هو تفكير بهذه المثابة في الدين كله، لكن ليس أي دين ولا كل دين بل دين الحق، بمشكاةٍ من الوعي النبويّ، على هداه، وعلى شرطه، لا على هدى غيره ولا على شرط سواه.

لم يكن تفكيرٌ في الدين بخارج عن منطقة الإظهار. ومنطقة الإظهار هذه هى أكمل درجة تتحقق فيها الخاصّة الذاتية للقرآن لتستولي على جميع الخصائص الذاتية فيه؛ لأنها منطقة الوحي الذي أظهر الله فيها رسوله بالهدى ودين الحق، ولأن الدين في عموم الدين، إذا كان فيه الحق؛ ففيه الباطل الذي خضع لتحريفات أصحابه وتبديلات رؤسائه.

غير أن الإسلام ظهر من منطقة الإظهار بدين الحق وكمل بهذا الظهور هدى، ثم هيمن بالرقابة والنقد والتصحيح على ما سبق من أديان، هيمن عليها بإضافة وجه الحق فيها واستبعاد الباطل الذي تم تشويهه بأيدي رجاله ممِّن أقاموا فيه قيام الأوصياء. وفي منطقة الإظهار التي أرسل الله فيها الوحي الإلهي، نزل بالقرآن الروح الأمين على قلب رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه؛ ففي القرآن خلاصة الكتب السماوية المتقدّمة.

وقد جاء بالناموس الأعظم لكمال الحالتين الدنيوية والأخرويّة، وآخى بين طبيعتي الإنسان الجسديّة والروحيّة، وأنه أنزل للعالمين أجمعين، ورُوعيت فيه مصالحهم على قسطاس مستقيم. وقد رُبيت على أسلوب هذا القرآن أمة قبل بضعة عشر قرناً؛ فنالت به على مدى سنين قليلة ما لم يصل إليه غيرها في القرون العديدة، وبلغت من بسطتي العلم والملك، ما لم يتهيأ لغيرها في مثل الزمن القصير الأمد.

وبما أن الإسلام آخر الأديان الموحاة فقد امتاز على غيره امتياز الأخير من كل شيء؛ فأصبح له على سائر الأديان امتيازاً؛ لأن للأخير من كل شيء مزيّة ليست لما تقدّمه. وقد صرح القرآن الكريم أن محمداً رسول الإسلام آخر المرسلين، وأنّه أرسل للناس كافة أجمعين:" وما كان محمدٌ أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم المرسلين" (الأحزاب:40) .."وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً"، (سبأ: 28). وهذا ما لم يصرح به كتاب مُنزل حتى الكتب الموجودة بيننا للآن، فقد يؤخذ من كتاب "بوذا" أنه أرسل لإصلاح ديانة البراهمة. ويؤخذ من كتاب "موسى" أنه أرسل لبني إسرائيل. وكذلك كتاب عيسى عليه السلام بأنه أرسل إلى بني إسرائيل أيضاً.

فلم تكن هنالك دعوة في هذه الكتب إلى مُوجّهة أمم العالمين. ولكن نبوته صلوات الله وسلامه عليه، عامة، تامة، شاملة، عالميّة. وهذا ممّا يجب أن يلفت النظر لدين الإسلام ولنبيّ الإسلام، ويجعل له مزيّة على غيره من الأديان: أن منطقة الإظهار فيه مشعة لا إلى المسلمين وكفى ولكن أيضاً إلى العالمين، بمعنى أن الإرسال كخاصة ذاتية للإظهار لا يقتصر على المسلم فقط بل هو رحمة العالمين؛ فكما كانت العالمية من جهة الإرسال عالمية الدعوة، فهي كذلك عالمية الرحمة من المثوبة والجزاء.

وبما أن الإسلام دين عام فقد شرّعه الخالق لربط الشعوب، أبيضها وأصفرها وأحمرها وأسودها، بعضها مع البعض الآخر.

محا الله امتيازات الأجناس والعناصر بمنطقة الإظهار والهيمنة، فأرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون، فلم يعد من هدى ولا من دين الحق سوى دين الإسلام ونبي الإسلام. أمّا من حيث الهيمنة، فإنَّ القرآن الذي نزل بالحق أشتمل على الصحيح الثابت من الأحكام وهو مصدق لما بين يديه من الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل، وهو مُهيمن عليها، رقيباً وشاهداً على ما سبقه من الكتب، يقرُّ الحق ويظهر خطأ ما حرَّفوه: "وأنزَلْنَا إلَيكَ الكتابَ بالحق مُصَدِّقاً لِمَا بينَ يديه من الكتاب ومهيمناً عليه؛ فَاْحْكُم بينهم بما أنزل اللهُ، ولا تتَّبع أهواءَهم عمَّا جَاءَكَ منَ الحق، لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكُم أمةً واحدةً ولكن ليَبلُوَكُم في ما آتَاكم، فاستبقُوا الخيرات، إلى الله مرجعُكُم جميعاً فيُنبّئُكُم بما كنتُم فيه تَختَلفُونَ" (المائدة:48).

وفي حديث ابن عباس أن بعض علماء اليهود قالوا: يا محمد: نحن أحبار اليهود، ولو اتبعناك لاتبعك اليهود كلهم، وإنّ بيننا وبين أناس من قومنا خصومة، ونريد أن نتحاكم إليك، فإنّ قضيت لنا أعلنا صدقك. فلم يقبل عليه السلام فأنزل الله فيهم ذلك إقراراً له على ما فعل.

قضى الإسلام بما تقرّر في كتابه العزيز من أوامر ونواهٍ على العصبيات، وقرّر مبدأ المساواة العامة، وصرح بأن الإنسانية كلها في ظل هذا الدين أسرة واحدة، أبوها آدم وأمها حواء، وأنه ما صارت شعوباً وقبائل للتنازع وللتقاتل، ولكن للتعارف ولتبادل المنافع. أكرم الإسلام الإنسان بما تقرر لديه في منطقة الإظهار فقال تعالى مخاطباً النوع الإنساني كله: "يأيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم" (الحجرات: 13).

ومن منطقة الإظهار هذه، قصد القرآن تربية الإنسان؛ ليكمل بنيانه الجسدي والروحي والعقلي والنفسي والخُلقي، وجعله صالحاً لمواجه ضروب الحياة المنوعة بكل ما فيها من حق وباطل، ومن خير وشر، ومن رزيلة وفضيلة، ونهج في تربيته مناهج يجب تمييزها جملة، ثم مشارفتها تفصيلاً، وفيما أشار إليه الأستاذ الفاضل محمد فريد وجدي في مقدمة المصحف المفسر، فقد خاطب العقل، وناجي العواطف، وحاسب السرائر، وآخذ الضمائر، وأدّب الحواس، وهذّب الملكات، وعدّل القوى، وقرر العقائد، ودعمها بما يناسب كلا منها من براهين، وحكى حال العالمين من حيث الدين، وأرى مواقع البطلان من معتقدات سائرها، وقاد الكتائب، ودوّخ الممالك، ومَصّر الأمصار، وشيّد المدنية الفاضلة، وسنّ الشرائع الكاملة، ووضع دستور الحكومة، وصبّ الأمة على قالبه المحكم، ووضع للمعاملات ناموسها، وشرع للبصيرة شرعتها، وركب للأفئدة علاجها، وخاطب كل نفس على قدر وسعها، وأتى بذلك كله منثوراً في السور على النحو الذي أراد الله عز وجل، بحيث إن بعضه يكمل بعضه الآخر ويوضحه، أو يرى وجهاً آخر منه.

ولا شك كان المقصد السامي الذي نزل القرآن من أجله فأصابه (هو تربية الإنسان تربية صحيحة، وإبرازه أمام الوجود بشراً سويّاً، حاصلاً على كمال طبيعته الجسدية والروحية، متمتعاً بجمال حالتيه الصورية والمعنوية، وهو لأجل إبلاغ الإنسان هذه المكانة العليا عملياً فعلياً، لم يتوجه إليها من قبيل النصائح المجرّدة، والمواعظ العارية؛ بل حاولها من كل مظانها العمليّة؛ بإدخال الإنسان في مقتضياتها ولوازمها، وتوريطه في متعلقاتها وأسبابها؛ ليدفع الإنسان إليها اندفاعاً طبيعياً قسرياً؛ ليكون في كماله الديني سائراً على منهاج كماله الجسمي كيما يكون مسوقاً بنواميس طبيعة لا يستطيع أن يتخلص منها).

ومعنى هذا أن القرآن من منطقة الإظهار كاشف لقارئه عن خصائصه الذاتية التي توجد فيه وحده ولا توجد في سواه، وأنه في أمره لنا أن نتديَّن بالدين الحق الذي لا يقاربه باطل لأنه مُرسل بالهدى على حكم الاعتقاد؛ لم يتركنا عند الأمر بالتدين وكفى نؤوله كما نشاء؛ بل علمنا كيف نبحث عنه، وهدانا للأعلام التي تستدل بها عليه، وعيّن لنا القسط الذي نستطيعه من إدراكه، ونصب لنا ميزاناً نزن به محصول الفكر والنظر في جميع ما ذكر.

وددت لو أني قرّرتُ هذه اللفتة التي لا مناص لي من تقريرها عندي، وهى أن الفكر العربي المعاصر بحاجة شديدة الي العناية بالدراسات القرآنيّة المعاصرة، فإنّ أسوأ ما يفتقر إليه القارئ المعاصر هو أن يأخذ مادته العلمية عن القرآن ودراساته من المؤسسات، ولا يلتفت إلى أنظار المفكرين الأحرار التي كتبت عن القرآن بلوحات فنية حرّة عن القيود لأنها كانت منذ البداية حُرة في التوجّه. ولا يزال هذا الفكر عاجزاً عن المعاصرة ما لم يضع الدراسات القرآنيّة داخل نطاق اهتمامه بل تكون الأساس في بنيته التكوينية، فإنّ دراسة القرآن والتعمق فيه آية الإخلاص في مجال النظر وفي ميدان العمل سواء. ولأن الفكر العربي المعاصر بحاجة ماسّة إلى تقريب المصير الإنساني بلغة معاصرة نقيّة عن شوائب العصور السالفة بأثقالها السياسية وأطماعها الدنيويّة، تقريبه إلى الوجود الإنساني، إنما الوجود والمصير لا ينفصلا ولن ينفصلا، ولا يمكن دراسة الوجود الإنساني بمعزل عن مصيره. ومن يقرأ القرآن على السعة والحضور يتبيّن له أن المصير الإنساني مبطن في الوجود غير مفصول عنه بحال: "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، والعاقبة للمتقين".

نعم! إنّ لهذا الزمان انظاره القرآنية كما كانت للأزمنة المتقدّمة انظارها وأنوارها، وكذلك ينبغي أن تكون لزماننا هذا أنظاره وأنواره، وإلا خلى الفكر العربي المعاصر من شرط معاصرته إذا هو خلى من الروح الباحثة دوماً في أسرار القرآن.

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم

يتناول هذا المقال نتائج دراسة حديثة درست الارتباطات بين التثاقف وتعاطي المواد المخدرة بين 198 مراهقاً في الصف التاسع في جنوب كاليفورنيا (متوسط العمر = 13.8 عاماً). وتضمنت مقاييس تعاطي المواد المخدرة والكحول لمدة ثلاثين يوماً (حالياً) ومدى الحياة. وتم قياس التثاقف باستخدام المقياس المتعدد الثقافات للتثاقف والعادات والاهتمامات للمراهقين (AHIMSA) وهو مقياس تثاقف متعدد الأبعاد يعطي أربع درجات لاستراتيجية التثاقف. وقامت تحليلات الانحدار الخطي بتقييم الارتباط بين التثاقف وتعاطي الكحول والمخدرات، مع تعديل العديد من المتغيرات المشتركة. كشفت النتائج أن استراتيجية التثاقف الاستيعابي كانت مرتبطة بشكل كبير، ولكن سلبي بالاستخدام الحالي للكحول، وخاصة بين الذكور. كانت استراتيجية التثاقف الانفصالي مرتبطة بشكل كبير وإيجابي بالاستخدام الحالي للكحول، وخاصة بين الإناث. ارتبط التهميش بخطر أكبر لاستخدام الكحول والمخدرات مدى الحياة، وخاصة بين الذكور، وخطر أكبر لاستخدام المخدرات حالياً بين الإناث. كانت متغيرات التأثير الاجتماعي تنبؤية بالاستخدام الحالي والاستخدام مدى الحياة للكحول والمخدرات. من المهم أن تتضمن الدراسات المستقبلية مقاييس التثاقف متعددة الأبعاد في استخدام المراهقين للمواد لفهم كيف تؤثر استراتيجيات التثاقف المختلفة على السكان المختلفين.

لقد أسفرت الجهود المبذولة للحد من تبني تعاطي الكحول والمخدرات بين المراهقين في الولايات المتحدة عن بعض النتائج الواعدة. ومع ذلك، عند فحص مواد معينة، تكون الاختلافات العرقية واضحة بشكل لافت للنظر. إن معدلات الاستخدام الحالي للمواد المستنشقة، والاستخدام الحالي للكوكايين، والاستخدام مدى الحياة للهيروين، واستخدام MDMA مدى الحياة هي الأعلى بين اللاتينيين بنسب (4.3%، 5.7%، 3.9%، 13%؛ على التوالي)، مقارنة بالمراهقين البيض (3.6%، 3.8%، 2.6%، 11%؛ على التوالي)، والسود (3%، 2.2%، 2.6%، 6%؛ على التوالي).

وتشير دراسة أخرى إلى أن طلاب الصف الثاني عشر من أصل لاتيني لديهم أعلى معدلات تعاطي الكحول ومخدر الكراك والهيروين، ومادة الروهيبنول بين طلاب الصف الثامن، وتكشف بيانات الاتجاهات عن نتائج مماثلة. في دراسة قاست الانتشار المرتفع لاستخدام الكحول والماريجوانا وMDMA والهيروين على مدى العقد الماضي، أبلغ اللاتينيون عن أعلى استخدام لجميع فئات المخدرات تقريباً باستثناء الأمفيتامينات. أظهرت دراسة مراقبة المستقبل نمطًا مشابهاً، حيث أبلغ طلاب المدارس الثانوية اللاتينيون عن أعلى معدلات استخدام الكوكايين (جميع الأشكال) وميثامفيتامين الكريستالي مدى الحياة مقارنة بكبار السن البيض والسود.

وقد تم تفسير أسباب هذه الاختلافات جزئياً من خلال الاختلافات الثقافية، وتحديداً التثاقف، والذي يتم تعريفه على أنه "العملية المزدوجة للتغيير الثقافي والنفسي التي تحدث في المجتمع". يحدث ذلك نتيجة للاتصال بين مجموعتين ثقافيتين أو أكثر وأعضائها الأفراد. ومع تزايد تأقلم المهاجرين، يمكن أن ينشأ تغيير في السلوك حيث يتبنون مواقف وممارسات البلد المضيف. ومع ذلك، لا يخضع جميع الأفراد للتثاقف بنفس الطريقة، لأن التثاقف عملية طويلة الأمد ومعقدة ومتعددة الأبعاد. يذكر عالم الاجتماع الأمريكي "جون بيري" بُعدين أساسيين للتثاقف: 1) الحفاظ على الهوية الثقافية الأصلية. و2) الاتصال بالمجتمع المضيف والمشاركة فيه.

ويشمل هذا البعد الثاني أيضاً الحفاظ على العلاقات مع الأفراد من مجموعات ثقافية أخرى. ينتج عن هذين البعدين أربع استراتيجيات عامة للتثاقف: (التكامل، والاستيعاب، والانفصال، والتهميش). يحدث التكامل عندما يحافظ الأفراد على ثقافتهم الأصلية، ولكنهم يسعون إلى إقامة علاقات بين المجموعات. ويحدث الاستيعاب عندما لا يهتم الأفراد نسبيًا بالحفاظ على ثقافتهم الأصلية، ولكنهم يسعون إلى إقامة علاقات بين المجموعات. وعلى العكس من ذلك، يتضمن الانفصال الحفاظ على الثقافة الأصلية مع تجنب العلاقات بين المجموعات. وأخيراً، يحدث التهميش عندما لا يحافظ الأفراد على الهوية الثقافية الأصلية ولا يرغبون في إقامة علاقات بين المجموعات، ويرفضون كلتا الثقافتين.

ارتبط التثاقف مع الثقافة الأمريكية بعدد من النتائج الصحية السلبية للمراهقين اللاتينيين، وتحديداً ارتفاع تعاطي الكحول والمخدرات الأخرى. تشير الأبحاث إلى أنه على الرغم من أن تعاطي الكحول والمخدرات كان منخفضاً تقليدياً بين السكان المهاجرين المقيمين في الولايات المتحدة، فإن التثاقف قد يكون مؤشراً مهماً لتعاطي المخدرات بين الشباب اللاتينيين. في الوقت الحالي، يبلغ المهاجرون اللاتينيون الذين يعيشون في الولايات المتحدة، بغض النظر عن بلدهم الأصلي، عن معدلات أعلى من تعاطي المواد والكحول مقارنة باللاتينيين الذين ما زالوا يعيشون في بلدهم الأصلي. وعلاوة على ذلك، يزداد خطر تعاطي المواد كلما طالت فترة بقائهم في الولايات المتحدة.

هناك فرضيتان مهيمنتان في الأدبيات تفسران الارتباط بين التثاقف وتعاطي المواد. هناك فرضية مفادها أن التعرض للثقافة الأميركية يزيد من فرص تعاطي المخدرات في المواقف التي يتواجد فيها الأشخاص مع أقرانهم، فضلاً عن الإلمام بمعايير تعاطي المخدرات. ونظراً لأن اكتساب الكفاءة في التحدث باللغة الإنجليزية يعد أحد المكونات المهمة للتثاقف، فمع تثاقف الشباب اللاتينيين، قد يكونون أكثر ميلاً إلى قضاء الوقت مع أقرانهم من ذوي الثقافة العالية أو المولودين في الولايات المتحدة والذين تبنوا المعايير السائدة لثقافة الشباب الأميركية. ونتيجة لذلك، فإن الارتباط الأكبر بالأقران المولودين في الولايات المتحدة أو البالغين المهمين قد يعرض الشباب المتأقلم لتأثيرات أقران أكثر تأييدًا للمخدرات وربما ينقل اعتقادًا بأن تعاطي المخدرات أمر طبيعي. وقد يجد الشباب المتأقلمون أنفسهم في كثير من الأحيان في الظروف التي يعرض فيها الأقران المواد أو يستخدمونها أيضاً لأنهم يستطيعون الآن التواصل باللغة الإنجليزية مع الآخرين الذين لديهم إمكانية الوصول إلى المخدرات في البيئة.

تعزى فرضية ثانية إلى الإجهاد والصراع المتضمنين في عملية التثاقف. ويتجذر هذا الإجهاد التثاقفي في نموذج الإجهاد/ التأقلم، حيث إذا تجاوزت مسببات الإجهاد التي واجهها الفرد أثناء عملية التثاقف مهاراته في التأقلم، وإذا اعتبر الفرد أن مسببات الإجهاد لا يمكن السيطرة عليها، فقد ينخرط الفرد في التمرد أو الانحراف أو تعاطي المخدرات. تشير الدراسات التي تناولت الضغوط الناجمة عن التثاقف إلى أن استراتيجية التثاقف المتكاملة هي الأقل إجهاداً، حيث توفر الوصول إلى المزيد من الموارد الاجتماعية ومجموعة أوسع من مهارات التأقلم. ومن ناحية أخرى، يؤدي التهميش إلى أكبر قدر من الإجهاد. وتميل استراتيجيات الاستيعاب والانفصال إلى التواجد في مكان ما بينهما، حيث تكون إحداهما أقل إجهاداً من الأخرى في بعض الأحيان.

حتى الآن، ركزت معظم الدراسات التي تناولت التثاقف على النماذج أحادية البعد التي تقيس تفضيل اللغة. وعلى الرغم من أن استخدام اللغة يشكل جزءاً كبيراً من التباين في العديد من مقاييس التثاقف، فإن التثاقف عملية معقدة تنطوي على أبعاد متعددة. لذلك، قد تكون النماذج متعددة الأبعاد التي تقيس ثنائية الثقافة أكثر دقة في تقييم الأفراد الذين يتماهون مع أكثر من ثقافة واحدة. بالإضافة إلى ذلك، لا تفترض النماذج متعددة الأبعاد فقدان الثقافة الأصلية بمجرد دمج الثقافة الجديدة. وتستند الدراسة الحالية إلى الأدبيات السابقة من خلال تنفيذ مقياس متعدد الثقافات للتثاقف والعادات والاهتمامات للمراهقين، وهو مقياس متعدد الأبعاد جديد للتثاقف يوفر درجات من أربع استراتيجيات للتثاقف لفحص العلاقة بين التثاقف وتعاطي الكحول والمخدرات بين المراهقين اللاتينيين. نفترض أنه من بين استراتيجيات التثاقف الأربع، سترتبط استراتيجية التثاقف المهمشة بزيادة تعاطي الكحول والمخدرات.

الطرق والإجراءات

أُجريت هذه الدراسة كواحدة من اختبارين تجريبيين صُمما لتطوير مقاييس لدراسة أكبر لأنماط التثاقف وتعاطي المواد بين المراهقين اللاتينيين في جنوب كاليفورنيا. وأُجريت البيانات التي جُمعت لهذه الدراسة التجريبية في مدرسة ثانوية واحدة تضم عدداً كبيراً من الطلاب اللاتينيين خلال شهر أغسطس 2024. وعلى الرغم من أن غالبية المشاركين وُلدوا في الولايات المتحدة (86.8%)، إلا أن معظم والديهم لم يكونوا كذلك (88.4%)، مما يشير إلى غلبة الجيل الثاني من اللاتينيين المولودين في الولايات المتحدة في العينة. وكان معظمهم من المكسيك (85.3%)، وهو ما يتفق مع بيانات تعداد الولايات المتحدة عن اللاتينيين الذين يعيشون في كاليفورنيا.

 وأفاد ما يقرب من 94% من العينة أنهم يتحدثون لغة أخرى غير الإنجليزية في المنزل. ومن بين هؤلاء، كانت الأغلبية ثنائية اللغة (65.8%؛ تحدثوا الإنجليزية ولغة أخرى بالتساوي)، وأفاد 20.2% أنهم يتحدثون لغة أخرى فقط أو في الغالب، و14% يتحدثون الإنجليزية في الغالب في المنزل. وعلى الرغم من عدم سؤال المشاركين الذين أفادوا أنهم يتحدثون لغة أخرى عن اللغة الأخرى، فمن المرجح أن تكون اللغة الأخرى هي الإسبانية بالنظر إلى بلد المنشأ. وتشير بيانات التعداد إلى أن 65.4% من سكان كاليفورنيا الذين تزيد أعمارهم عن 4 سنوات والذين يتحدثون لغة أخرى في المنزل يتحدثون الإسبانية.

وعلاوة على ذلك، تشير بيانات التعداد المكسيكي إلى أن أقل من 7% من السكان يتحدثون لغة أصلية، مما يشير إلى أن المهاجرين المكسيكيين أكثر عرضة للتحدث باللغة الإسبانية من اللهجة الأصلية. وكان الوضع الاجتماعي والاقتصادي لهيئة الطلاب منخفضاً، حيث شارك 95% من الطلاب في برنامج الغداء المجاني/المخفض السعر. قام مساعدو البحث المدربون بزيارة الفصول الدراسية لشرح الدراسة للطلاب، وتوزيع نماذج موافقة الوالدين ونماذج موافقة الطلاب. ولزيادة معدل إعادة نماذج الموافقة، عُرض على كل فصل حفلة بيتزا إذا أعاد كل طالب في الفصل النماذج، بغض النظر عما إذا كان الوالدان قد وافقا أم لا.

سُمح للطلاب بالمشاركة إذا قدموا موافقة الوالدين المكتوبة وموافقة الطالب. تمت دعوة جميع فصول الصف التاسع في المدرسة للمشاركة. من بين 317 طالباً تمت دعوتهم للمشاركة، قدم 291 (92٪) موافقة كتابية من الطلاب وقدم 213 (67٪) موافقة كتابية من الوالدين. أكمل 198 (62%) من الطلاب الاستبيان، لكن 8 طلاب كانوا تم استبعادها من التحليلات لأن الجنس لم يتم ذكره. وافقت لجنة المراجعة المؤسسية لجامعة جنوب كاليفورنيا على إجراءات الدراسة وأدوات المسح.

الإجراءات

أكمل المشاركون استبياناً ذاتياً على الورق والقلم. واستغرق استكمال الاستبيان خمسون دقيقة تقريبًا وشمل كلًا من النسخة الإنجليزية والإسبانية ضمن نفس الكتيب، حتى يتمكن الطلاب من استكمال الاستبيان بلغتهم المفضلة دون أن يشعروا بأي وصمة عار (اختار طالبان فقط استكمال الاستبيان باللغة الإسبانية). وتألف الاستبيان من أسئلة ديموغرافية (مثل العمر والجنس والعرق والأداء الأكاديمي)؛ وعدد من مقاييس التثاقف والثقافة وحالة الجيل؛ ومقاييس خصائص الأسرة والأقران (على سبيل المثال، من يعيش معه المشارك معظم الوقت، وما إلى ذلك)؛ وتعاطي التبغ والكحول والمخدرات (الاستخدام لمدة 30 يوماً وطوال العمر)؛ وتأثير الأقران؛ والعديد من الأسئلة الأخرى المتعلقة بالسلوك الصحي.

المتغير المستقل

تم تضمين العديد من مقاييس التثاقف في المسح، ومقياس تثاقف "مارين"  Marine Corps ، ومقياس الهوية العرقية، ومقياس الهوية العرقية متعددة المجموعات، ومقياس تقييم التثاقف للأمريكيين المكسيكيين، ومع ذلك، تم استخدام AHIMSA فقط في التحليلات بسبب إيجازه ومناسبته للعمر وأهميته المتعددة الثقافات والقدرة على تقييم أبعاد متعددة للتثاقف. بالإضافة إلى ذلك، فقد ثبت أن AHIMSA يرتبط بمقاييس فرعية أخرى، مما يوفر دليلاً على صحته. علاوة على ذلك، تم التحقق من صحة مقياس AHIMSA لدى المراهقين، وهو مقياس ثنائي الأبعاد، ويستند إلى عوامل أخرى غير اللغة، مما يوفر مقياساً أكثر شمولاً للتثاقف.

يتكون مقياس AHIMSA من ثمانية بنود (تم الإبلاغ عن معلومات إضافية حول مقياس AHIMSA في مكان آخرمع أربع خيارات للإجابة لكل سؤال: "الولايات المتحدة (تشير إلى الاستيعاب)، "البلد الذي تنتمي إليه عائلتي" (تشير إلى الانفصال)، "كلاهما" (تشير إلى التكامل)، و"لا هذا ولا ذاك" (تشير إلى التهميش). تتراوح الدرجات لكل من هذه التوجهات الأربعة من صفر إلى ثمانية. ونظراً لصيغة الاختيار القسري، فإن مجموع التوجهات الأربعة سيكون دائماً مساوياً لثمانية (العدد الإجمالي للأسئلة في المقياس)، وبالتالي فإنه من غير الممكن تضمين جميع درجات التوجهات الأربعة كمتغيرات مستقلة في تحليل الانحدار لأنه بخلاف ذلك سيتم إنشاء اعتماد خطي. بعبارة أخرى، بمجرد معرفة الدرجات في ثلاثة من المقاييس الفرعية، سيكون المقياس الفرعي الرابع ثمانية ناقص مجموع المقاييس الثلاثة السابقة.

من خلال فحص أكثر من بُعد واحد، قد يوفر AHIMSA صورة أكثر دقة لاستراتيجيات التثاقف التي يتبناها المراهقون.

 المتغيرات التابعة

تم قياس استخدام الكحول الحالي من خلال "الثلاثين يوماً الماضية، في كم يوم تناولت مشروباً واحداً على الأقل من الكحول؟"

فئات الاستجابة تشمل: 0 يوم؛ يوم أو يومان؛ 3 إلى 5 أيام؛ 6 إلى 9 أيام؛ 10 إلى 19 يومًا؛ 20 إلى 29 يومًا؛ وجميع 30 يومًا. تم قياس تعاطي الكحول مدى الحياة من خلال "حياتك، كم عدد الأيام التي تناولت فيها مشروباً واحداً على الأقل من الكحول؟" كانت هناك سبع فئات استجابة متاحة: 0 يوم؛ 1 أو 2 يوم؛ 3 إلى 9 أيام؛ 10 إلى 19 يوماً؛ 20 إلى 39 يوماً، 40 إلى 99 يوماً؛ و100 يوم أو أكثر.

من أجل تقييم تعاطي المخدرات الحالي ومدى الحياة، طُلب من الطلاب، "كم مرة استخدمت أياً من هذه المخدرات؟" لكل من تعاطي المخدرات الحالي (آخر 30 يوماً) ومدى الحياة. تشمل فئات المخدرات الست: الماريجوانا (الحشيش)؛ أي شكل من أشكال الكوكايين (البودرة، الكراك، القاعدة الحرة)؛ الميثامفيتامين (السرعة، الكريستال، الكرانك، الجليد)؛ الإكستاسي (MDMA)؛ أي نوع من المهلوسات (LSD، والفطر)؛ وأي نوع من المواد المستنشقة (الغراء، والطلاء، أو أي شيء يمكن استنشاقه).

تم إعطاء الاستجابات على مؤشر تصنيف من 6 نقاط يتراوح من 0 إلى 40+ في فترات متزايدة (على سبيل المثال 0 مرة؛ 1 أو 2 مرة؛ 3 إلى 9 مرات؛ 10 إلى 19 مرة؛ 20 إلى 39 مرة؛ و40 مرة أو أكثر). تم تحديد موثوقية وصلاحية التنبؤ بهذا الشكل مسبقاً. من خلال حساب المتوسط عبر الاستجابات، تم إنشاء مؤشر لاستخدام المخدرات (α = 0.67 للاستخدام الحالي؛ α = 0.67 للاستخدام مدى الحياة). يشير المتوسط الأعلى لاستخدام المخدرات إلى استخدام أكبر لتلك المواد.

المتغيرات المشتركة

 تم إنشاء مؤشر للوضع الاجتماعي والاقتصادي (SES) من سؤالين: "كم عدد الأشخاص الذين يعيشون في المنزل الذي تقضي فيه معظم وقتك (بما في ذلك أنت)؟" و"كم عدد الغرف في منزلك أو شقتك (باستثناء المطبخ والحمام)؟" تم حساب الوضع الاجتماعي والاقتصادي عن طريق قسمة عدد الغرف في المنزل على عدد الأشخاص الذين يعيشون في المنزل. تم الإبلاغ عن العرق ذاتياً، باستخدام السؤال: "ماذا تعتبر نفسك ..." مع إدراج خمسة عشر مجموعة عرقية (هندي أمريكي أو ألاسكا الأصلي؛ آسيوي؛ أسود أو أمريكي من أصل أفريقي؛ إسباني؛ لاتيني أو لاتيني؛ أصلي هاواي أو جزر المحيط الهادئ؛ أبيض؛ مكسيكي؛ من أمريكا الوسطى؛ من أمريكا الجنوبية؛ مكسيكي أمريكي؛ شيكانو أو تشيكانا؛ مستيزو؛ لا رازا؛ وإسباني).

تضمنت الإجابات لكل من هذه المجموعات العرقية: نعم، ولا، ولا أعرف. ولأن العلاقات بين الأقران تعتبر عاملاً مهماً يؤثر فيما إذا كان الشباب يقررون الانخراط في تعاطي الكحول والمخدرات أو الاستمرار فيه أم لا، فقد تم تعديل تأثير الأقران على تعاطي الكحول أو المخدرات والنمذجة لاستخدام الكحول أو المخدرات من قبل البالغين. وفقاً لنظرية التعلم الاجتماعي، يحدث التعلم من خلال النمذجة، والتي تستند إلى الملاحظة المباشرة وتقليد سلوك النماذج، أو من خلال التعلم بالنيابة والتعزيز.

تم قياس تأثير الأقران من خلال سؤالين: فكر في أفضل خمسة أصدقاء لك في هذه المدرسة، 1) "هل سبق لك أن شربت الكحول معه/معها؟"؛ 2) "هل سبق لك أن تعاطت أي مخدرات معه/معها؟" كانت خيارات الاستجابة نعم أو لا. ومع ذلك، نظراً للطبيعة الأنانية لهذا السؤال، تم طرح السؤالين على كل من أفضل أصدقائهم الخمسة، بإجمالي عشر إجابات. تم تلخيص النتائج لكل سؤال، مع نطاق من 0 إلى 5 حيث 0 = لم يستخدم أي من أصدقائهم الخمسة و5 = استخدم جميع أصدقائهم الخمسة مادة معينة مع المشارك. تم قياس النمذجة للبالغين من خلال سؤالين: "فكر في البالغين اللذين تقضي معهما معظم وقتك. كم منهم يشرب الكحول مرة واحدة على الأقل في الأسبوع؟  و"فكر في البالغين اللذين تقضي معهما معظم وقتك. كم منهم يستخدم المارجوانا؟" تضمنت خيارات الاستجابة: لا شيء أو 0، و1 منهم، و 2 منهم.

النهج التحليلي

تتضمن التحولات في البيانات إعادة ترميز العرق على أنه إسباني (أجاب المشارك بنعم على أي من الخيارات التالية: إسباني؛ لاتيني أو لاتيني؛ مكسيكي؛ من أمريكا الوسطى؛ من أمريكا الجنوبية؛ مكسيكي أمريكي؛ شيكانو أو تشيكانا؛ مستيزو؛ لا رازا؛ أو إسباني) مقابل أخرى. والوضع الاجتماعي والاقتصادي (أقل من غرفة واحدة للشخص الواحد مقابل غرفة واحدة أو أكثر للشخص الواحد). ونمذجة تعاطي الكحول أو المخدرات من قبل البالغين (لا يوجد مقابل أحد البالغين أو كليهما نمذجة السلوك المعني) بشكل منفصل لتعاطي الكحول والمخدرات.

ولأن الأبحاث تشير إلى وجود فروق بين الجنسين في تعاطي المواد، فقد تم جدولة النتائج حسب الجنس مع الترددات والنسب المئوية المقابلة. وأجريت اختبارات مربع كاي واختبارات لتحديد

الاختلافات المهمة بين الجنسين. من أجل فحص العلاقة بين متغيرات تعاطي الكحول والمخدرات (سواء الحالية أو مدى الحياة) ومقاييس التثاقف AHIMSA الفرعية، تم إجراء انحدارات خطية، مع تعديل المتغيرات المشتركة. بعد التحقق من افتراضات الانحدار، تم تحويل متغيرات تعاطي الكحول والمخدرات (المتغيرات التابعة) بواسطة اللوغاريتم الطبيعي. تم استخدام ألفا أحادي الذيل 0.05 لتحديد مستوى الأهمية وتم إجراء التحليلات باستخدام برنامج نظام التحليل الإحصائي.

نتائج الدراسة

الخصائص الديموغرافية للعينة

تظهر الخصائص الديموغرافية لعينة الدراسة أنه كان متوسط عمر العينة 13.8 عاماً وكان عدد الإناث المشاركات أكبر قليلاً من عدد الذكور (53.7% إناث). عاش معظم المشاركين مع كلا الوالدين (66%)، وكانوا من أصل إسباني (95.3%)، وولدوا في الولايات المتحدة (86.8%). تشير نتائج المقاييس الفرعية لـ AHIMSA إلى أن نسبة أكبر من الطلاب مندمجون (التوجه نحو كلا البلدين)، يليهم مندمجون (التوجه نحو الولايات المتحدة). وفيما يتعلق باستخدام الكحول، تشير النتائج إلى أن الاستخدام مدى الحياة كان 41.4% بينما كان الاستخدام الحالي 14.9%. كان تعاطي المخدرات مدى الحياة 15.5% للماريجوانا، و9.8% للكوكايين، و7.1% للميثامفيتامين، بينما كان تعاطي المخدرات الحالي 9.5%، و6.4%، و4.3% على التوالي. كانت هناك فروق قليلة بين الجنسين.

 العوامل المرتبطة بتعاطي الكحول والمخدرات الحالي ومدى الحياة

نوضح المعاملات الموحدة التي تختبر الارتباط بين مقاييس فرعية للتثاقف AHIMSA وتعاطي الكحول مدى الحياة، مع تعديل العرق، والوضع الاجتماعي والاقتصادي، وتأثير الأقران، والنمذجة لدى البالغين. وفيما يتعلق بتعاطي الكحول مدى الحياة، ارتبط التهميش بتعاطي الكحول مدى الحياة (β=0.14؛ p<.05). وعلاوة على ذلك، ارتبطت كل من عناصر التأثير الاجتماعي (تأثير الأقران والنمذجة لدى البالغين) بشكل كبير بتعاطي الكحول مدى الحياة (β=0.29؛ β=0.16؛ على التوالي؛ p<.05).

بين الإناث، لم تكن هناك ارتباطات مهمة بين المقاييس الفرعية لـ AHIMSA وتعاطي الكحول مدى الحياة عند مستوى p<.05. ومع ذلك، كان تأثير الأقران والنمذجة لدى البالغين من المتنبئين بتعاطي الكحول مدى الحياة. بين الذكور، ارتبط التهميش بشكل كبير بزيادة تعاطي الكحول مدى الحياة (β=0.21؛ p<.05). كان الاستيعاب واقياً من تعاطي الكحول الحالي (β=-0.17؛ p<.001)، بينما ارتبط الانفصال بزيادة الاستخدام (β=0.11؛ p<.05). كانت النمذجة لدى البالغين وتأثير الأقران من المتنبئين المهمين بتعاطي الكحول الحالي (β=0.30؛ β=0.34؛ p<.05؛ على التوالي). بعد التصنيف حسب الجنس، ظل الانفصال مرتبطًا بشكل إيجابي بتعاطي الكحول الحالي فقط بين الإناث (β=0.21؛ p<.05) بينما كان الاستيعاب وقائيًا بين الذكور (β=−0.22؛ p<.05). ظل تأثير الأقران والنمذجة للبالغين من المتنبئين المهمين بتعاطي الكحول الحالي بين كل من الذكور والإناث.

نوضح الدراسة العوامل المرتبطة بتعاطي المخدرات مدى الحياة والحالية، المعدلة حسب العرق والوضع الاجتماعي والاقتصادي وتأثير الأقران والنمذجة للبالغين. ارتبط التهميش بشكل إيجابي وهام بتعاطي المخدرات مدى الحياة (β=0.16؛ p<.01). بالإضافة إلى ذلك، ارتبط تأثير الأقران والنمذجة للبالغين بشكل كبير بتعاطي المخدرات مدى الحياة. بعد التصنيف حسب الجنس، كان الذكور المهمشون أكثر عرضة بشكل كبير لخطر تعاطي المخدرات مدى الحياة (β=0.21؛ p<.05)، ولكن ليس الإناث (β=0.08؛ p>.05). ظل تأثير الأقران والنمذجة مهمين بين الإناث بينما كانت النمذجة فقط مهمة بين الذكور.

لم يكن أي من المقاييس الفرعية لـ AHIMSA مرتبطًا بشكل كبير بالاستخدام الحالي للمخدرات. ومع ذلك، كشف التقسيم الطبقي بين الجنسين أن الإناث المهمشات كن أكثر عرضة للإبلاغ عن الاستخدام الحالي للمخدرات (β=0.16؛ p<.05). بالإضافة إلى ذلك، كان لتأثير الأقران التأثير الأكبر على الاستخدام الحالي للمخدرات (β=0.70؛ p<.01)، يليه النمذجة (β=0.24؛ p<.01).

كانت الإناث من أصل إسباني أيضاً أكثر عرضة للإبلاغ عن الاستخدام الحالي للمخدرات (β=0.12؛ p<.05). بين الذكور، على الرغم من عدم ملاحظة أي ارتباطات مهمة مع أي من المقاييس الفرعية لـ AHIMSA، فإن النمذجة للبالغين وكونهم غير إسبانيين كانا من العوامل التنبؤية المهمة لاستخدام المخدرات الحالي.

صُممت هذه الدراسة لتقييم ما إذا كان استخدام الكحول والمخدرات طوال الحياة وفي الوقت الحالي يختلف باختلاف استراتيجية التثاقف، كما تم قياسه بواسطة المقاييس الفرعية لـ AHISMA، بين عينة من المراهقين اللاتينيين المراهقين في جنوب كاليفورنيا. أثبتت الدراسات السابقة وجود ارتباط إيجابي بين التثاقف وتعاطي الكحول والمخدرات، مما يشير إلى أنه مع زيادة التثاقف، يتبع ذلك زيادة لاحقة في تعاطي الكحول والمخدرات. ومع ذلك، فإن العديد من هذه الدراسات قامت بقياس التثاقف أحادي البعد، إما لغوياً، أو حسب بلد المنشأ، أو حسب طول مدة الإقامة في الولايات المتحدة. وقد تصورت معظم هذه الدراسات السابقة التثاقف على أنه زيادة في التوجه نحو ثقافة الولايات المتحدة مقترنة بانخفاض في التوجه نحو ثقافة المنشأ.

لقد استخدمت هذه الدراسة مقياساً متعدد الأبعاد، مثل مقياس التثاقف AHISMA، لفحص كيفية ارتباط استراتيجيات التثاقف المختلفة بتعاطي المخدرات بين المراهقين. في الواقع، العديد من الدراسات التي تتضمن مقاييس التثاقف قد ركزت استراتيجيات التثاقف الأربع على كيفية ارتباط هذه المتغيرات بالتكيف النفسي الفردي، بما في ذلك الصحة العقلية، ولكن ليس تعاطي المخدرات.

في هذه الدراسة، هناك اتجاه عام للأفراد المهمشين ليكونوا الأكثر عرضة لخطر تعاطي الكحول والمخدرات طوال حياتهم مقارنة بمقاييس AHIMSA الفرعية الأخرى. ووفقاً لبعض أدبيات الإجهاد الثقافي، فإن الأفراد المهمشين يُظهرون مستويات أعلى من الإجهاد واستراتيجيات أقل للتكيف. وعندما يقترن ذلك بأساليب التكيف غير التكيفية، فقد تزيد ضغوط الحياة من التعرض لتعاطي المواد. من ناحية أخرى، يُقال إن الأفراد المندمجين والمنفصلين متوسطون من حيث مستوى الإجهاد الثقافي الذي يعانون منه، ولكن من غير الواضح أي من هذين المستويين أقل إجهادًا من الآخر. تشير النتائج إلى أن المراهقين اللاتينيين المندمجين، وخاصة الذكور، كانوا أقل احتمالية بشكل كبير للإبلاغ عن تعاطي الكحول الحالي، مقارنة بالمراهقين المندمجين. ومع ذلك، تشير إحدى المقالات إلى العكس، حيث كان لدى الشباب المندمجين سلوكيات مشكلة أكبر، بما في ذلك تعاطي المخدرات، مقارنة بالشباب المندمجين/ثنائيي الثقافة. وعلاوة على ذلك، تشير النتائج إلى أن الانفصال، وخاصة بين الإناث، كان مرتبطاً بتعاطي الكحول الحالي الكبير.

أفادت الدراسات أنه كلما ابتعد الفرد عن ثقافة المنشأ، زاد خطر تعاطي الكحول أو المخدرات. قد يتساءل المرء عما إذا كان من الممكن أن يكون التثاقف قد اختلط بالوضع الاجتماعي والاقتصادي. إذا كان المراهقون ذوو الوضع الاجتماعي والاقتصادي الأعلى أكثر عرضة للاندماج وكان المراهقون ذوو الوضع الاجتماعي والاقتصادي الأدنى أكثر عرضة للاندماج/ثنائيي الثقافة، فقد يكون ارتفاع خطر تعاطي المخدرات بين المراهقين المندمجين نتيجة للوضع الاجتماعي والاقتصادي المنخفض وليس التثاقف. حاولت هذه الدراسة التحكم في التداخل بين الوضع الاجتماعي والاقتصادي من خلال تضمين نسبة الغرف لكل شخص كمتغير مشترك. ومع ذلك، نظراً لأن الوضع الاجتماعي والاقتصادي عبارة عن بنية معقدة لا يمكن قياسها بسهولة من خلال التقارير الذاتية للمراهقين، فمن الممكن أن جوانب أخرى من الوضع الاجتماعي والاقتصادي لم يتم التحكم فيها وأثرت على النتائج. وعلى العكس من ذلك، تشير نتائجنا إلى أن الانفصال، حيث يحافظ الفرد على ثقافة الأصل، ولكنه يختار عدم الحفاظ على العلاقات مع الأفراد من ثقافة المضيف، كان مرتبطاً بشكل إيجابي وهام بالاستخدام الحالي للكحول. أفادت إحدى الدراسات أن المراهقين اللاتينيين ذوي المستويات المنخفضة من التثاقف (أي المستويات العالية من الانفصال) لديهم بدء تعاطي المواد المخدرة واستمرار التجربة أكثر من نظرائهم ثنائيي الثقافة أو المتثاقفين بدرجة عالية. وقد وجدت دراسات أخرى أن المهاجرين الأقل تأقلماً معرضون لخطر متزايد لاستخدام المواد والكحول. وهناك حاجة إلى إجراء بحوث إضافية لفهم طبيعة الانفصال بين المراهقين الذين يعيشون في جيوب عرقية داخل مجتمع متعدد الثقافات. وعلى عكس البالغين الذين يتخذون قراراً بتجنب الثقافة المضيفة والبقاء منفصلين في جيوب عرقية، فإن الأطفال والمراهقين الذين يكبرون في تلك الجيوب العرقية لا يتعرضون لخيارات أخرى. لذلك، قد يكون الانفصال بين المراهقين انعكاسًا للفرص والتجارب المتاحة لهم، وليس قرارهم الواعي بالتمسك بثقافتهم الأصلية ورفض الثقافة المضيفة. يفتقر إلى سلوك المدمنين.

في ظل الفرص المحدودة للنجاح في الثقافة المضيفة، قد يلجأ المراهقون المنفصلون إلى تعاطي المواد أو سلوكيات مشكلة أخرى. في حين أن آلية تأثير التثاقف على تبني الكحول والمخدرات غير واضحة، فإن هذه النتائج غير المتسقة إلى حد ما تشير إلى تعقيدات التثاقف. قد تكمن التفسيرات البديلة لنتائجنا غير البديهية في حقيقة أن دراستنا استخدمت مقياس AHIMSA، وهو مقياس تثاقف جديد إلى حد ما، في حين اعتمدت الأبحاث السابقة عادةً على اللغة أو مكان الميلاد كمؤشرات بديلة للتثاقف. بالإضافة إلى ذلك، كانت عيّنة هذه الدراسة ثنائية الثقافة في الغالب، وُلِدوا في الولايات المتحدة لوالدين مولودين في الخارج، ويرتادون مدرسة ثانوية يغلب عليها الطابع اللاتيني وتقع داخل جيب عرقي لاتيني. على الرغم من أن تدفق المهاجرين الجدد إلى المجتمع قد يكون أمراً شائعاً، إلا أن زملاء المدرسة المندمجين قد يكونون أقل ميلاً إلى دمج الوافدين الجدد في شبكات أقرانهم. ونظراً لحقيقة أن المراهقين في أي مجموعة أقران واحدة يميلون إلى التشابه في العديد من الجوانب، بما في ذلك تعاطي المخدرات، فربما يعزز الطلاب المندمجون، في مجموعاتهم الخاصة، السلوك الاجتماعي ويتعرضون بشكل أكبر للفرص التعليمية والمهنية التي يمكن أن تحولهم عن تعاطي المخدرات. وعلى النقيض من ذلك، قد لا يتمكن الطلاب المنفصلون والمهمشون من الوصول إلى الأنشطة والمؤسسات الاجتماعية البديلة وقد يكونون أكثر تأثرًا بالمجتمع.

وقد يكون الطلاب المهمشون متورطين أيضاً في علاقات مع أقران يشجعون على السلوكيات المنحرفة. أو قد يكون هؤلاء الطلاب منعزلين اجتماعياً، أي أفراداً لا يشاركون في أي مجموعات أقران ويتفاعلون مع أقرانهم بدرجة أقل نتيجة لتوجههم غير الثقافي. وهناك أدلة تشير إلى أن نسبة أعلى بكثير من المدخنين الحاليين منعزلون اجتماعياً. وقد يكون هذا بسبب ارتباط المعزولين بمجموعة أخرى من الأصدقاء خارج المدرسة، وقد تؤثر هذه الصداقات على الطالب تجاه السلوكيات المنحرفة مثل تعاطي المخدرات.

لا يزال هناك احتمال بأن تكون النتائج التي إليها الدراسة مجرد حدث معزول أو خطأ. إن مقياس التثاقف AHIMSA هو مقياس جديد، على الرغم من أن بعض المقاييس الفرعية ثبت أنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمعايير الذهبية مثل مقياس التثاقف Cuellar. في الواقع، كان المقياس الفرعي للاستيعاب AHIMSA مرتبطاً بشكل إيجابي بكل من المقياس الفرعي Cuellar ARSMA-II U.S. Orientation واستخدام اللغة الإنجليزية. وعلاوة على ذلك، عند فحص الحالة الجيلية، كما هو متوقع، كان لدى طلاب الجيل الثالث درجات استيعاب أعلى بينما كان الانفصال (التوجه نحو بلد آخر) هو الأعلى بين المراهقين من الجيل الأول. من ناحية أخرى، وجد أن مقياس التهميش الفرعي AHIMSA يتمتع باتساق داخلي وتباين منخفضين، على غرار ما وجد في مقياس التهميش. وقد يكون التهميش خاصاً بمجال معين، ويختلف من يوم لآخر اعتماداً على الخبرات.

وعندما تحدث مثل هذه الخبرات، قد يستكشف الفرد نتيجة لذلك الصراع الثقافي الذي ينشأ، وبالتالي يفشل في التعرف على إحدى الثقافتين أو كلتيهما. وعلى الرغم من ذلك، ومع الأخذ في الاعتبار الأدلة على صحة البناء، يحاول AHIMSA إنشاء أفضل طريقة ممكنة لقياس التثاقف.

تسلط نتائج هذه الدراسة الضوء على الاختلافات المهمة بين الجنسين. على سبيل المثال، كانت الإناث المنفصلات (من بلد آخر) أكثر عرضة لخطر تعاطي الكحول الحالي مقارنة بالذكور. بالإضافة إلى ذلك، كانت الإناث المهمشات (من خارج أي بلد) أكثر عرضة لخطر تعاطي المخدرات حاليًا من الذكور. من ناحية أخرى، كان الذكور المهمشون أكثر عرضة للإبلاغ عن تعاطي الكحول والمخدرات مدى الحياة من الإناث. كان الذكور المندمجون أقل عرضة لاستخدام الكحول حالياً من الإناث. على الرغم من أن الأدبيات تشير إلى أن الذكور قد يكونون أكثر عرضة لاستخدام المواد من نظرائهم من الإناث، فإن أدبيات التثاقف تشير إلى أن الارتباط بين التثاقف وتعاطي المواد يظل مهماً بالنسبة للإناث، ولكن ليس بالنسبة للذكور. تظل الأسباب وراء هذا التناقض غير معروفة إلى حد كبير، ولكن من المفترض أن التعرضات المختلفة للضغوط التثاقفية، وخاصة فقدان الهوية الثقافية، حسب الجنس قد تساعد في تفسير سبب العلاقة بين التثاقف وتعاطي المواد مهمة للإناث، ولكن ليس للذكور.

تؤكد النتائج أيضاً على أهمية التأثيرات الاجتماعية في تعاطي المراهقين للمواد. كل من تأثيرات الأقران ونمذجة البالغين لتعاطي المواد تنبئ بشدة بالتعاطي. هذه النتائج مدعومة بالأدبيات.

قد تحدث سلوكيات تعاطي المواد نتيجة لقيام الأقران و/أو البالغين بتقليد تعاطي المواد، مما يجعل المواد متاحة بسهولة أكبر، ويمارسون تأثيراً متبادلاً على تعاطي المواد، و/أو التعرض للمعايير التي تشجع على تعاطي المواد.

توجد العديد من القيود الجديرة بالملاحظة في تفسير أو تطبيق هذه البيانات، بما في ذلك حجم العينة الصغير والسلوكيات الخطرة المبلغ عنها ذاتياً. بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن تعميم النتائج إلا على المراهقين اللاتينيين الذين يلتحقون بمدرسة ثانوية عامة بها هيئة طلابية لاتينية اجتماعية واقتصادية منخفضة في الغالب. وعلاوة على ذلك، فضل معظم أفراد عينة الدراسة اللغة الإنجليزية على الإسبانية عند الإجابة على الاستبيان، نظراً لأن طالبين فقط اختارا إكمال الاستبيان باللغة الإسبانية. لذلك، قد لا تنطبق النتائج على المراهقين اللاتينيين الأقل تأقلماً.

وبسبب الطبيعة المعقدة لعملية التثاقف، فقد تستفيد البحوث الإضافية من إدراج مقياس AHIMSA ، وهو مقياس مصمم لتقييم العديد من جوانب التثاقف. وينبغي للبحوث المستقبلية أيضًا التحقيق في دور معايير المدرسة والشبكات الاجتماعية بين الأقران من أجل استكشاف كيفية تأثيرها على التثاقف وتعاطي المواد، نظراً لأن مثل هذه المعلومات غالباً ما يتم نقلها بين الأقران. وعلاوة على ذلك، نظراً لأن الثقافة تتطور باستمرار ويتم إنشاؤها وتفسيرها وتوصيلها بين الأعضاء، فمن المهم إعادة النظر فيما يعنيه التثاقف و"أن تكون مثل الولايات المتحدة" لجيل ما. على سبيل المثال، تحسنت قدرة جيل اليوم على الوصول إلى الاتصالات والمعلومات والتعرض على نطاق واسع بفضل الإنترنت الذي يمنحهم إمكانية الوصول إلى أفراد من خلفيات عرقية وثقافية مختلفة من خلال وسائل مثل مجموعات شبكات الأقران القائمة على الويب. هذه النتائج، على الرغم من محدوديتها، تشير ببساطة إلى التعقيدات في عملية التثاقف وتشير إلى الحاجة إلى مزيد من البحث، بما في ذلك دمج عملية تثاقف أكثر شمولاً.

***

الدكتور حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

هذا الكتاب الذي نحن بصدده، عرضاً ونقداً وتفنيداً لمحتواه، أعني (الصورة الذاتيّة للقرآن.. الكتابةُ والسُّلطة في نصّ الإسلام المقدّس)، لمؤلفه دانييل ماديغان، هو من الأهمية بمكان بحيث لا يُخالجنا الشك مطلقاً في جدوى دراسته، فإذا كنتُ أنا شخصياً لم يسعدني الحظ بوافر سعده للحصول عليه أو قراءته من قبل، فإنّ مُجرّد الحديث عن محتواه الآن يؤمِّل الباحث في الإحاطة بموضوعه وفق منهجه المعروف، وإنْ وجِدَت الخلافات الجوهريّة بين تخريجات الغربيين، وتخريجاتنا لاختلاف الأذواق والمشارب، والخلفيّة الثقافيّة والمعرفيّة، واختلاف الأهداف والمقاصد أيضاً.

وقد تبدو غريبة تخريجات الباحثين الغربيين حول القرآن وعلاقة المسلمين به، وبخَاصّةٍ في الصدر الأول. غير أنها غرابة لمن لا يألفها، ولم يضرب فيها بسهم، أمّا من ألفها واعتاد ممارستها فلن يستغرب بضاعتهم ولم يعد يتوقع غير ما جاؤوا به.

يظهر لي أنهم يُريدون التقليل من مركزيّة القرآن باصطناع مناهج ربما لا تتماشى مع طبيعة النّص المُقدَّس نفسه، أو على وجه التحديد لا تتماشى مع طبيعة القرآن كونه وحياً؛ لأن المفروض بالبداهة المُقرّرة سلفاً أن فهم القرآن مرهونٌ بمنهجه هو لا بمنهج سواه: أعني منهج التذوق والمعايشة والحياة، ومنه إلى الإشعاعة العقليّة المستمدة من كثرة التأمل في منبع الوحي، أعني في مصدر آيات القرآن على الحضور والسّعة والاتصال بالله.

إنه؛ إذا كان القرآن كلام الله؛ فإنّ نظافة العلاقة مع الله كافية لفهم كلامه من أقرب طريق، وليس من فهمٍ على التحقيق والمرءُ بعيدٌ عن منبع الوحي ومصدر النور الذي خرجت منه بداية مشكاة الأنوار بالقرآن، ومعنى أن القرآن كلام الله هو نفس المعنى الذي يقتضي الاستمرار والدوام للكتابة الإلهيّة الخالدة، وإعادة الكتابة هذه فعل مباشر ناشط بين الله والتجربة البشريّة؛ أي فعل مباشر يؤخذ على أنه: تفاعل الله الناشط مع البشريّة.

ومن أعجب العجب عندي إنك ترى دعوات الشرقيين من الذين كتبوا عن القرآن فرأوا بإزاء التقريب بين الدراسات القرآنية وبين ما وصلت إليه الإنسانية وحضارتها يحتاج منا إلى مزيد من تنحية بعض من موروثاتنا القديمة جانباً، والتي هي ليست من ثوابت الدين وقيمة الأصيلة، ثم الإفادة من الحضارة الحديثة، وما وصلت إليه من ناحية وسائل فهم الكون، ومن جوانب مردود النظر إلى ميادين النفس الإنسانية واعتماد كثير منها مّما وصلت إليه الحضارة الحديثة ومناهجها المختلفة بعد ضبطها بمبادئ الإسلام ومقاصده الكلية.

إنه؛ إذا كانت هذه دعواتنا - نحن الشرقيين - بضرورة الانفتاح على المناهج المختلفة ممّا اصطنعته الحضارة الحديثة، وكشفت عن تقدّمها، فما لنا بعد الاطلاع على ما كتبوا من مباحث عن القرآن، وما طبقوا من مناهج؛ نتخوف من دراستها ونقدها أو الاطلاع عليها بغية المعرفة أولاً ثم النقد والتمحيص ثانياً ثم الإفادة منها اذا اقتضى الأمر ثالثاً؟! حتى إذا ما بلغت الإفادة مبلغها لزم معها النقد لا محالة فلا يوجد نقد بغير تقويم للإيجابيات وفرز للسلبيات، ومن البداهة العقلية أن العقل لا يقبل كل ما يعرض عليه قبولاً كاملاً ولا يرفضه رفضاً تاماً كذلك، ولا بدّ من أخذ ورد، وقبول ورفض.

وإزاء هذه المركزيّة القويمة (مركزيّة القرآن) هم عاجزون عن تفسير قوانينها وسِر قوتها ومكمن حيويتها، وامتداداتها الوجوديّة، وبخاصّة في الصدر الأول وما بعده، وأحياناً متخبطون، يسوؤهم ثقة المسلمين في كتابهم المقدّس، لكأنهم يريدون زعزعة استقراره من قلوبهم، وما هم بمستطيعين.

ليس المهم في اصطناع تلك المناهج ولا في تطبيقاتها، وإنّما المهم، وهو موطن الخطر، هو محاولة الباحثين الراهنين تكرار نتائج أسلافهم الغابرين بإزاء القرآن؛ لتكون هذه المناهج أو تلك مُجَرّد غطاء مشروع يتسترون خلفه ولا يميطون لثاماً عما كان من قبيل أسلافهم مُجرّد دعوى لا يقوم عليها دليل؛ كمثل قولهم: إنّ القرآن نسخة مُحرّفة من الكتب السابقة عليه، من اليهوديّة والنصرانيّة، وأن محمداً عليه السلام كان مُجرد ناقل: نقله من أساطير الأولين!

ليأتينا من بعدُ من عساه لا ينسى فيذكر: أن الكتاب يكتمل فيما تقدّم على القرآن من كتب مثل التوراة والإنجيل، ولا يكاد يكتمل في القرآن الكريم بما لست أدرى ماذا عساه يكون؟ وتجيء عبارات لا يُفْهم لها معنى واضح مثلما يردد "ماديغان" كثيراً باهتمام المسلمين الغالب بالكيان المُغلق للقرآن. ولم يوضح قصده بعبارة الكيان المغلق هذه؟!

وهذا الكتاب هو: (الصورة الذاتية للقرآن: الكتابة والسلطة في نصّ الإسلام المقدّس؛ لدانييل ماديغان. المؤلف: يامنة مرمر Yamine Mermer.

والمترجم: هدى عبد الرحمن النمر. ويقصد بالمؤلف هنا مؤلف هذه الدراسة أو هذا العرض لكتاب دانييل ماديغان، أمّا المترجم فقد عرفناه. وأما المؤلف أي مؤلفة الدراسة، فهي "يامنة مرمر" الباحثة التي تقول:

(ومن أهم الكتب التي صدرت في العقود الأخيرة غربًا حول القرآن كتاب دانييل ماديغان (الصورة الذاتيّة للقرآن)، حيث لا نجد دراسة معاصرة تتناول قضايا مثل سلطة النصّ ومرجعيته وعلاقة هذا بأوصاف النصّ عن ذاته، وبالعلاقة بين النصّ حال تنزّله والمصحف المجموع، إلا وتستعيد نتائج هذا الكتاب سواء اتّفاقًا أو اختلافًا أو تعديلًا أو تطويرًا؛ ممّا يزيد أهميّة التعريف به لباحث الدراسات القرآنيّة).

بهذه القطعة من التعبير المبالغ فيه - في تقديري - قُدّم لهذا الكتاب رغم أن هناك دراسات دلاليّة سبقته ووصلت الى نتائج أهم ممّا وصل اليها ماديغان كما رأينا فيما تقدّم في الجزء الأول والثاني من دراستنا هذه، غير أننا لا نريد أن ننهج نفس المنهج في طريقة التعبير حكماً على الكتاب، بل نتابع ما كتب عن قضاياه التي طرحها ومشكلاته التي عالجها بصبر وأناة، ولنرجئ مسألة الحكم على العمل هذه في نهاية المطاف.

قَدّمت (يامنة مرمر) في دراستها إطلالة وافيّة على أهم مرتكزات الكتاب وفكرته المحوريّة حول مفهوم "الكتاب" القرآني ودلالاته، أيضاً وفق تطبيقات المنهج الدلالي، يعني دارت الفكرة المحورية بتطبيقاتها المنهجية حول مفهوم لفظة (كتاب) كما تقرّر المفهوم في القرآن.

قالت الباحثة في إستهلالة لا تخلو من نقد موضوعي من قارئ مُلم بأسباب النزول وبكتب الأديان الكتابية على وجه العموم (كثيرًا ما يُوصَف الإسلام بأنه (دين الكتاب)، ويعتبره كثيرٌ من العلماء المثالَ الأكثر تطورًا لهذا النوع من الدّين؛ ربما لأن كلمات الكتاب تشغل مكانة مركزيّة في معتقد المسلمين وممارستهم أكثر ممّا في الأديان الأخرى. ومع ذلك، لا يُوجد كتاب فِعليّ متمركز في الشعائر الإسلاميّة؛ إِذْ إن مقاربة المسلمين لكتابهم المقدّس شفهيّة بالكامل، فالكثيرون يرتِّلون النصّ المقدّس من ذاكرتهم، ومرَّت سنوات عدَّة بعد وفاة الرسول قبل أن يتخذ شكل كتاب. وبالسؤال التالي الذي سيتم طرحه نفهم المقصود بالصورة الذاتية للقرآن تخريجاً دلاليّاً لكلمة الكتاب حسب رأي المؤلف دانييل ماديغان، ووفق تطبيقات المنهج الدلالي.

فما الذي يعنيه القرآن إذن عندما يُسمِّي نفسه بإصرار: (كتاب)، والتي تُترجَم عادة لـ (Book)؟(

للإجابة عن هذا السؤال، يُعيد دانييل ماديغان النظر في هذا المصطلح الرئيس (كتاب)، كما يَرِد في وصف القرآن عن نفسه. ومن ثَمّ، فمهمَّة هذا المُصنَّف (الصورة الذاتية للقرآن) أن يُسلط الضوء على الدلالات المركّبة لـكلمة (كتاب) في القرآن ولغة كتابته، كما "يسمح بتفسير مفهومه الخاصّ ويتحدّث عن نفسه".

ولتمييز مفهوم القرآن المخصوص للكتاب، يتبنَّى ماديغان استراتيجية مزدوجة: إعادة تقييم الإجماع الذي طالما عقده علماء الإسلام والدارسون الغربيون على حدٍّ سواء عن الكيفية التي يُصوِّر القرآن بها نفسه، وتحديد مقاربة بديلة لا للخبراء في دراسة الإسلام فحسب، بل لكلّ مهتم بالدراسات المقارنة للنصوص المُقدّسة والهرمنيوطيقا.

هكذا تقول الباحثة "يامنة مرمر" عن كتاب الصورة الذاتية للقرآن لدانييل ماديغان، إذْ أرادت أن تتحدّث على لسانه لتستنطقه بما ليس يبديه مع أني لا أعتقد أن النّص القرآني - وفقاً لفكرة كتابي الذاتيّة الخاصّة للقرآن الكريم - لا يقدّم صورة عن ذاته بمقدار ما توجد فيه خصائص ذاتية توجد فيه هو، ولا توجد في سواه، فهذه الخصائص الذاتية نتاج التفاعل الحركي بين القارئ والنص، إذ النّص في ذاته صامت، لا يقدّم عن نفسه صورة ذاتية، وإنما الذي يستنطقه هو القارئ الفاعل، وإذا اختفت تلك الفاعليّة كحركة باطنة حيويّة ذهبت بالخاصّة الذاتية للقرآن في نفس صاحبها، وفي ذاته أيضاً، ومثل هذا التفاعل الحيّ بين النّص القرآني والقارئ هو الذي يخلق عالماً من المعاني واللطائف الروحيّة قلما يخلقه تفاعل آخر بين نصّ وقارئ، حتى إذا ما قلت مثلاً: القرآن كائن حي فقد وصفت الحياة للقرآن ولمن يتفاعل معه، ولمن يتجاوب ويخلق من العوالم معه كل ما هو جديرُ بالحياة، فالكلمات في ذاتها تحيى بمن يحييها ولا يسلبها الحياة سوى من ماتت فيه روافد الحياة.

إذا تقرّر لدينا هذا فأين هى السلطة في نصّ الإسلام المقدّس؟

إذا كان هناك ثمة سُلطة فهي سلطة القارئ يستوحيها من حركة التفاعل مع النّص، فهي سلطة مكتسبة بإزاء التفاعل الحركي فيما هو مشروط أمامه. ولا أعتقد أن صاحب كتاب الصورة الذاتيّة للقرآن يقصد هذا المعنى بوجه من الوجوه.

وتتابع الباحثة أن ماديغان يوضح من البداية أنه يتعامل مع النصّ القرآني بوصفه كُلًّا متماسكًا؛ "لأن هذه هي الطريقة التي يعمل بها داخل المجتمع الذي يُقدسِّه - ينظر له كمصدر للمرجعيّة والسُّلطة - ويستمد منه الهدى. إنّ مفهوم الكتاب موضوع جامع يُعلِن ويؤكد على ذلك التماسك".

وفي المجمل؛ يتبنَّى ماديغان مقاربة نقديّة، وينظر بعين الشك إلى الدلالات المباشرة للكلمات المشتقة من الجذر العربي (ك - ت - ب)، ويأخذ في الاعتبار أقصى ما يمكن تحصيله من دلائل، سواء في النصّ القرآني أو في أجزاء مختارة من التقليد الإسلامي تتعلّق بمجال معانيهم الأول.

ويبدأ بملاحظة أن القرآن يستعمل الكلمات المشتقة من الجذر (ك - ت - ب) في الغالب؛ ليشير ليس للقرآن نفسه، بل لظاهرة مختلفة، مثل إثبات كلّ ما هو مقدور مُسبقًا، في مثل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ كِتَٰبًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِۦ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَة نُؤْتِهِۦ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِى ٱلشَّٰكِرِينَ} (آل عمران ١٤٥) أو قوله تعالى: {كَتَبَ ٱللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا۠ ورسلي ۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ} (المجادلة ٢١).

أو للأحكام الإلهيّة، في مثل قوله تعالى: {قُل لِّمَن مَّا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ قُل لِّلَّهِ ۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓا۟ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } (الأنعام ١٢). أو قوله تعالى: {وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـَٔايَٰتِنَا فَقُلْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ ۖ أَنَّهُۥ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوٓءًۢا بِجَهَٰلَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنۢ بَعْدِهِۦ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُۥ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام ٥٤).

أو تقرير ما هو موجود، في مثل قوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا۟ مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا فِى ٱلسَّمَآءِ وَلَآ أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكْبَرَ إِلَّا فِى كِتَٰبٍ مُّبِينٍ} (يونس ٦١)، أو قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى ٱلْأَرْضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِى كِتَٰبٍ مُّبِينٍ} (هود ٦). أو إثبات أعمال المرء الحسنة والسيئة في مثل قوله تعالى: {لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓا۟ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ ۘسَنَكْتُبُ مَا قَالُوا۟ وَقَتْلَهُمُ ٱلْأَنۢبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا۟ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ}(آل عمران ١٨١).

أو قوله تعالى: { وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً مِّنۢ بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ في ءَايَاتِنَا ۚ قُلِ ٱللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا ۚ إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} (يونس٢١).

والكثير من الدارسين يُحمِّل تلك التصنيفات ما تعلَّمَه عن مفاهيم مماثلة في سياقات دينية أخرى، وبالتالي فهموها على أنها كتابات منفصلة. ومع ذلك، يحاجج ماديغان بأن هذه المقاربة لتصنيفات الكتابة تُخفِق في إدراك أن فكرة الكتابة المُثبَتة في القرآن تظهر عدم تحدّد بشكل استثنائي؛ فجزء ممّا يكتبه الله تشريعي، وبعضه يتألّف من أحكام، بينما باقي الكتابة وصفيّة فحسب، وقدر كبير منها يختصّ بالوحي وشرح طبائع الأشياء، بينما في أحيان أخرى، يكشف اللهُ شيئًا عن ذاته بالكشف عما (كُتب) لنفسه.

مع ذلك، وسط كلّ هذا التنوع، ثمة وحدة لا جدال فيها في فكرة الكتابة الإلهيّة. ووفقًا لماديغان، فإنّ استخدام مصطلح وحيد (كتاب) لوصف العديد من جوانب هذه الظاهرة، يشير بذاته لوحدة «تتجاوز مجرد فكرةٍ ما عن مكتبة أو أرشيف».

ومن ثَمّ، يخلص إلى أن مصطلح الترجمة المقبولة عمومًا (Book) لا تُوفي حقّ تعقيدات المصطلح القرآني (كتاب). ويقترح ماديغان أن تكون الترجمة (كتابة writing) عوضًا عن (Book)، ولو مع بعض التحسينات.

هذا كتاب يقرّر في جوهره أنه مُلْزِم ومكتمل وكذلك مبنيّ ومنظم. وتضارب هذه الدعوى الضمنيّة مع الشكل الفعلي للنصّ القرآني هو ما حَدَا بالكثير من الكُتَّاب الغربيين أن يفترضوا أن إنتاج (الكتاب) المُتخيَّل لم يُستكمَل ولا تمَّ.

تلك كانت فكرة الكاتب عن (الصورة الذاتية للقرآن: الكتابة والسلطة في نصّ الإسلام المقدّس) خلال تطبيق المنهج الدلالي على جذر الفعل (كتب) لتصبح مادة الكتاب، وهى الكتابة نفسها، هى الباقية منه.

معنى ذلك؛ أنّ النّص قابل للكتابة والزيادة والإضافة والتطور والتعديل. وعندي أنا أنه قابل لذلك من جرّاء التفاعل الحركي مع قارئه فهو وحده (أي القارئ) من يمتلك الكتابة ثم الزيادة في امتدادات المعنى، والإضافة إلى ذاته المحدودة ذوات نورانيّة يستمدها من النّص القرآني ويعتمدها في ذاته، ليصعد مع التطور في إرتقاءاته الروحيّة والوجوديّة بعد تعديل مساراته وتطوير مسالكه تبعاً لتوجُّهات الكتاب.

ومن غير المقبول لدينا بداهةً أن يُقال أولاً أن القرآن يستعمل الكلمات المشتقة من الجذر (ك - ت - ب)؛ ليشير ليس للقرآن نفسه، بل لظاهرة مختلفة، ثم يراد بتلك الظواهر المختلفة آيات كريمة من القرآن الكريم، حتى إذا ما فصلنا هذه الآيات القرآنية باعتبارها مجرد ظواهر مختلفة عن الكتاب لم نشأ أن نجعل لها جذوراً في القرآن الكريم نفسه، فهي خاصة ذاتية من القرآن لا من مصدر سواه، القران هو الذي وصف تلك الظواهر وحدد مهماتها والقران هو الذي اشار الذى خصائصها وسماتها، حتى ولو كانت الكلمة المراد منها التعقيب هى جذر الفعل كتب.

ومن غير المقبول لدينا بداهةً أن يقال ثانياً إن الشكل الفعلي للنص القرآني قاصر لم يكتمل بعد، ناقصٌ يفتقر إلى التمام؛ اعتماداً على خيال بعض الكُتّاب الغربيين الذين افترضوا أن إنتاج الكتاب المُتخيَّل لم يعد كاملاً، والقرآن يقوم على خاصة ذاتية تقول بصراحة لا مواربة فيها: (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي، ورضيتُ لكم الإسلام ديناً). ففكرة نقص التمام والانتقاص من الكمال هى فكرة فارغة من الدلالة لا يعتد بها مع تضاربها وقصور معطياتها، هذا اذا كانت لها معطيات ذات قيمة أو معنى.

تمضي الباحثة "يامنة مرمر" في عرض فصول كتاب ماديغان، ليأتي الفصل الأول، يوضح فيه ماديغان كيف أن هذا الافتراض عن البنية والشكل المناسبين للقرآن لا ينبعان من دراسة الوحي القرآني نفسه، وإنما ممّا يعلمه الدارسون عن بنية النصوص المقدّسة الأخرى ووظيفتها؛ فوفقًا لأولئك الدارسين، لكي يكون (الكتاب) بمثابة السجل الكامل للوحي ودستورًا تشريعيًّا للمجتمع، ينبغي أن تكون له بنية أكثر انتظامًا.

ومع ذلك، لا يجد ماديغان أيّ تلميح في النَّصّ أو التقليد عن أيّ نواقص في القرآن، أو أيّ إشارة إلى أنّ بنيته كانت مُشْكِلة من أيّ وجهٍ وقت وفاة الرسول.

ويقتبس ماديغان من ويلفريد كانتويل سميث الذي يقرّر أن: "المسلمين، من البداية حتى الآن، هم تلك المجموعة من الناس التي تلاحمت حول القرآن". بل ويذهب لأبعد من ذلك في ملاحظته، قائلًا: "تشير الدلائل إلى أنهم ألتحموا حوله حين لم يكن مكتملًا بعد، حين كان ما يزال شفهيًّا وسيروريًّا. لقد ألزموا أنفسهم بالإيمان بإله بدأ تواصلًا مباشرًا معهم، وتجمّعوا حول التلاوات بوصفها عهدًا يُوصّل الهدى من الله لهم، لا لكونها كيانًا نصيًّا محدّد المعالم ومغلقًا بالفعل".

يركز الفصل الثاني: على دحض القرآن نفسه لدليل قيمة الكتابات السماويّة، ورفضه للسلوك على أنه نصّ مدوّن ومغلق بالفعل، ويؤكّد أيضًا على إصرار القرآن أن يظلّ مفتوحًا ومتجاوبًا، ليصير بمثابة صوت الله مستمرًا في مخاطبة البشريّة.

علاوة على ذلك، يشدّد ماديغان على أن (الكتاب) المقصود في القرآن لا يمكن خلطه بتصوّر كتاب معتاد؛ لأن حدود معالمه ليست متبلورة قطعيًّا: فليس من الواضح تمامًا ما إذا كان النصّ (القرآن) هو (الكتاب) كلّه أم جزء منه، وما إذا كان واحدًا من بين كُتُب أم الوحيد. حقًّا إنّ القرآن لا يُعرِّف نفسه بوصفه الكتاب؛ إِذْ يستخدم ضمير الغائب عند الإشارة إليه، والتصريح به، والدفاع عنه، وتعريفه.

حتى الآن، لا يتكلم القرآن عن الكتاب ببساطة باعتباره شيئًا ثابتًا ومنفصلًا؛ لأن تلاوة القرآن هي الوسيلة الوحيدة التي ينجلي بها الكتاب ويتفاعل مع الإنسانيّة.

وهكذا ينتهي ماديغان إلى أن القرآن لا يهتم كثيرًا بالكتابة بوصفها مجرد شكل للكلمة الإلهية، بقدر ما يعنى بمصدر تأليفها وسلطتها وصحتها. ودعوى القرآن عن كونه الكتاب إنما هي مطالبة بالسلطة والمعرفة أكثر من كونها تقريرًا بسيطًا عن شكل احتوائه النهائي.

يعالج الفصل الثالث مهمّة تعيين الحقل الدلالي للغة (الكتابة) في القرآن، في ظلّ الفهم الدقيق لكيفية عمل رمز كتاب في الخطاب القرآني. يبدأ ماديغان بتوطئة تدرس خلفية تحليل (الحقل الدلالي)، وتحليل بعض من تطبيقاته في سياق الدراسات القرآنيّة.

في الفصول الثلاثة التالية، يقدّم ماديغان تحليلًا دلاليًّا مُفحمًا عن وعي القرآن بذاته. فيُحاجج بأن القرآن يرى نفسه لا على أنه كتاب أكتمل، بل عملية مستمرة من الكتابة الإلهية وإعادة الكتابة؛ أي: على أنه تفاعل الله الناشط مع البشريّة، ويبرهن كذلك على تغلغل ظاهرة الكتاب في الخطاب القرآني، ويؤكد في ذات الوقت على خاصيّة البُعد عن التحدُّد فيه. بل إن الفصل السابع في الواقع يستعرض كيف أن ذلك البُعد عن التحدُّد هو سبب عدم إمكان فهم الكتاب باعتباره كيانًا مغلقًا جامدًا.

بمجرّد أن يتم إنتاج كتاب، فإنه يتواجد بشكلٍ مستقلٍّ عن مؤلفه، إلا أن المجتمع المسلم تمتع دائمًا بشعور حيوي عن دوام اتصال المؤلف بمستمعيه، والفصل الختامي يهدف لبيان السُّبل التي من خلالها ظلّ مفهوم الكتاب الأوسع والأكثر ثراءً فعالًا في الإسلام، رغم اهتمام المسلمين الغالب بالكيان المُغلق للقرآن.

يُلاحظ "ماديغان" أنّ قبول المصطلح التقليدي (كلام الله) باعتباره المفتاح لفهم الوحي، هو على الأرجح وسيلة للهروب من مصطلح (كتاب)، الذي صار مرتبطًا في الغالب بـ (المصحف). أما مصطلح (كلام) فيوفر المرونة والتجديد والتجاوب الذي يحظى به (الكتاب) في النّصّ القرآني، وإن لم يعد كذلك في التقليد.

تشكّل (الصورة الذاتية للقرآن) إسهامًا كبيرًا في دراسة القرآن، وفهم الإسلام من داخله، وقد بنَى المؤلف دانييل ماديغان خلاصاته على قراءة مقنعة للقرآن ونصوص رئيسة أخرى، وبنى تركيزه على المصطلح الرئيس (كتاب) على أسس صحيحة، فهو يلعب دورًا مصيريًّا في تعريف طبيعة النصوص المقدّسة، وكذلك مهمّة الرسول، والطريقة المخصوصة لتواصل الله مع البشريّة، والعلاقة بين الخالق والخلق، وصلة الإسلام بالأديان الأخرى.

وعلى الرغم من القبول الواسع الآن لمبدأ أن القرآن ليس مُعتمِدًا نصيًّا على ما سبقه من نصوص مقدّسة، إلا أنه لا يزال يُفترض في كثيرٍ من الأحيان أنه أطلع على محتواها ولو جزئيًّا على الأقل، ونادرًا ما يُقترح أنّ القرآن يمكن أن يعكس الدور الذي لعبته الكتب المقدّسة الأخرى داخل مجتمعاتها في وقت ومكان ظهور الإسلام.

وهكذا، تسلط مقاربة ماديغان للقرآن الضوء على الكيفية التي بها يمكن للقرآن في حقيقة الأمر أن يوضح الطريقة التي ينظر بها لـ (أهل الكتاب) فيما يتعلق بـ (كتبهم).

وفي الملحق، يتحوّل ماديغان إلى الوحي والمصطلحات التي يُعرِّف القرآن نفسه بها، ليرى ما إذا كانت فكرة الكتاب التي نشأت من تحليله الدلالي ستكون ذات معنى لدى الآخرين الذين عرّفتهم ظاهرة الكتاب، ويؤمّل أن هذه المحاولة للقراءة (من) القرآن ما تعلَّمه المسلمون من أهل الكتاب الذين اتصلوا بهم، ستمهِّد الطريق لحوار جديد وإيجابي بين هذه الأديان.

بالإضافة لذلك، تأكيد ماديغان على فهم (الكتاب) باعتباره إمارة على الاتصال بمجمل خطاب الله للبشرية بدلًا من كتاب ساكن ومحدد غاية في الأهمية؛ لأنّ الدعوى الضمنية بالكلية والاكتمال المشمولة في كلمة (كتاب) قد تمهد الطريق أمام (الأصوليّة)، التي تحد حدود كتاب الله بحدود النصّ المُتلقَّي.

ومثل هذا الفهم قد يغدو ذا خطر؛ إِذْ لو تخيّل المرء نفسه في حيازة كاملة للحكمة والمعرفة، بدلًا من كونه متصلًا بالمعرفة من الله، فقد يدَّعِي الهيمنة على فهم الوحي.

وعلى هذا، فمقاربة ماديغان المدروسة جيدًا للقضية المعقّدة الخاصّة باصطلاحات المرجعية الذاتية للقرآن ليست في الحقيقة قراءة جديدة للنصّ، إنها بالأحرَى قراءة متأنية تستند إلى فكرة أنْ ثمة وحدة يرتكز عليها استعمال القرآن للجذر (ك - ت - ب).

قد تظهر مثل هذه القراءة على أنها خروج راديكالي عن النهج الإسلامي التقليدي، إلّا أن الأخير يؤيِّد - ضمنًا في أوجُهٍ عديدةٍ - الموقفَ الذي تبَنّاه ماديغان.

كشَف (الصورة الذاتية للقرآن) النقاب عن الوعي الذاتي المُميِّز للقرآن: فهو يلاحظ ويناقش عملية الوحي الخاصّ به؛ ويؤكِّد على سلطته ويتخذ مكانته في تاريخ الوحي. إنَّ فهم هذا البُعد الديناميكي للقرآن ضروري لفهم الإسلام والهويّة الإسلامية.

من وجهة النظر هذه أيضًا، يعدُّ كتاب ماديغان مصدراً مفيداً للغاية، ليس فقط للخبير في دراسة الإسلام، بل كذلك لكلّ مهتم بدراسة النصوص المقدّسة والهرمنيوطيقا، أي تأويل النصوص المقدّسة.

وتختم الباحثة دراستها بقولها إنّ (الصورة الذاتية للقرآن) طفرة كبيرة، لا في مجال الدراسات القرآنيّة فحسب، ولكن الأهم من ذلك في هرمنيوطيقا النصوص المقدّسة. ومضمونه يمثل تحديًا للمعرفة الغربية التقليدية حول الإسلام، وكذلك للأعمال التي كتبها علماء مسلمون (تقليديون).

تعقيب:

الدراسة مفيدة وجادة وتستحق الاهتمام، وإن كنا نختلف مع دانييل ماديغان من عدّة أوجه ذكرنا أكثرها، ونزيد عليها اختلافاً جوهريّاً قائماً منذ البداية؛ وهو إنه لم يتناول القرآن تناول إحاطة من جميع جوانبه، ليظهر لنا صورته الذاتية، عساه يعرّفنا ما المقصود من وراء هذه الصورة، ولكنه قصر نفسه على تطبيق المنهج الدلالي لمعنى الكتاب، ومن هذه الجزئية المحدودة بنى عليها نتائج تجعل للقرآن صفات ذاتية، وربما يسلب عنه صفاته الذاتية الحقيقة التي لم يكن يصل إلى معرفتها إلا المؤمنون حقيقةً. إنما الاقتصار على تطبيق منهج واحد فقط ثم الادعاء بكشف خصائص ذاتية أو صفات ذاتية للقرآن ظلم كبير ودعوى لا يقوم عليها دليل. لا يكفي الاعتماد على منهج واحد...... للمحطة بالصورة آل  الذاتية للقرآن.

لكن عذره أنه يكتب للعقلية الغربية، وينزع فعل القداسة من كتاباته عن القرآن ليوليها منهجه الدلالي وكفى، فهو يقدّس ما عساه يبحث فيه ولا يرى قداسة للموضوع الذي يعانيه.

ولن يؤسفنا أن نقول إنّه ليس في الغرب السياسي، ناهيك عن الغرب الثقافي، من يتذوق معاني القرآن ودلالاته من منبع الوحي المحمديّ بمذاقاته ومشاربه، وعلى الخاصّة المحمديّة، ومعايشة القرآن كما ينبغي أن يُعاش إلا في القليل النادر مع سلامة النية وصدق الإخلاص. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم

ماهية التربية

كيف أربّي إبني، وما الذي يمكنني أن أعلّمه إياه في خِضَمّ الحياة الحاضرة، الذي يموج بكل ألوان المؤثرات الصالحة والطالحة، الخيّرة والشرّيرة، المغرية وغير المغرية، الحقيقية والمُزيَّفة؟

كيف أكون مربّيا حقيقيا في عصر التحدي التكنولوجي والذكاء الاصطناعي؛ عصر التحوّل، والتجديد، والتغيير اللحظي الذي قلب الحياة على عقب وبدّل فيها كل شيء؟

نموذجان لتساؤلات كثيرة يطرحها آباء وأمهات اليوم العاجزون بكل ما تعنيه الكلمة عن مواجهة متغيرات الحياة السريعة في تربية وتهذيب أبنائهم.

موضوع التربية من الموضوعات الجادة في مجتمعاتنا، لا يمكن تناوله بهذه العجالة، ولا تختصره هذه الصفحات بل هو واسع جدا، ومختلف من بلد لآخر، ومجتمع لآخر تبعا لظروف كل بلد، ومجتمع، وتقاليده، وثقافاته، وأديانه، وعاداته، وقيمه. وطرحه مختلف من فرد لآخر تبعا لنوع التخصص، والخبرة التربوية، فضلا عن عامل التطوّر التقني في مجال التربية والتعليم الذي ليس آخره الذكاء الاصطناعي.

التربية مهمة دقيقة فيها يتم تكوين الإنسان وإعداده للحياة الخاصة والعامة. كل مربٍّ منا في مختلف المجتمعات البشرية له فن خاص في منهجه التربوي المختلف عن الآخر؛ لكن المنهج التربوي في المؤسسات التربوية والتعليمية في كل بلد موحّد كونه يعتمد على مناهج مكتوبة يعدّها متخصصون في مختلف الحقول المعرفية.

في طرحي لموضوع التربية اعتمدتُ على نظريات وآراء علماء التربية والنفس والاجتماع السابقين واللاحقين من الشرق والغرب اعتمادا على الطبيعة البشرية، التي قد تتحد في صفات، وتفترق في أخرى. ويمكن القول:

إن نظرياتهم تلك أرست أسس التربية والتعليم الحديثين رغم أنها صدرت بقرنين أو أكثر ما قبل القرن العشرين، وربما تصلح للعقود الأولى من القرن الحادي والعشرين، وقد لا تصلح للعقود اللاحقة، فضلا عن ذلك اعتمدت على تجاربي التربوية، وتجارب المجتمع الذي أعيش فيه، فشخّصتُ ثغرات وإشكاليات أيضا في التربية التقليدية، وطرحتُ آراء تربوية جديدة للمربي الحديث. ولعل طرحي من بين مئات الطروح التي آتت أم لم تؤتِ ثمارها عند المربين، وقد تكمن فيه بعض الفائدة لآباء وأمهات اليوم.

يمكنني الشروع بشكل مباشر في موضوع التربية الحديثة دون التعرّض لموضوع التربية التقليدية الذي أتمنى أن يحظى مني بمحاولة أخرى للكتابة فيه بإذنه تعالى،  وتعليم الأبناء في العصر الحاضر المتغير، الذي يكتنفه الكثير المتحقق، وربما غير المتحقق.

ماهية التربية عند بعض علماء العرب

نستعرض آراء لبعض نماذج علماء عرب تربويين؛ منهم مسكويه؛ أحمد بن محمد بن يعقوب(320-420هـ)؛ إذ يطرح رأيه في التربية قائلا: "هي تعليم مستمر يشمل الإنسان بعمره كله"[1]. ويطرح مسكويه نظريته في مربي الفرد بقوله: "على مدبر المدن أن يسوق كل إنسان نحو سعادته التي تخصه، ثم يقسّم عنايته بالناس، ونظره لهم بقسمين: أحدهما في تسديد الناس وتقويمهم بالعلوم الفكرية، والآخر في تسديدهم نحو الصناعات والأعمال الحسية"[2] .

حجة الإسلام أبو حامد الغزالي(450-505هـ) يستعرض فلسفته التربوية بهذه المقولة حينما "يصف الطفل بأنه أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة"، لذا على المربي أن يرشده بأمانة وإخلاص ومراعاة شعوره فيقول: "إن الطفل المستحي لا ينبغي أن يُهمل، بل يُستعان على تأديبه بحيائه وتمييزه، ويرى ألاّ يُؤخذ الطفل بأول هفوة، بل يُتغافل عنه، ولا يُهتك ستره، ولا سيما إذا ستره الصبي، واجتهد في إخفائه.[3]"

عالم الاجتماع ابن خلدون(732-808هـ) يطرح في مقدمته فلسفته التربوية قائلا: "من كان مرباه بالعسف والقهر- من المتعلمين أو المماليك أو الخدم- سطا به القهر وضيق عن النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث- وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه- وعلمه المكر والخديعة لذلك. وصارت له عادة وخلقا، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن؛ وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالا على غيره في ذلك. بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين" [4].

يعرّف التربية السيد محمد بدوي أستاذ علم الاجتماع (جامعة الاسكندرية- مصر) بأنها: "التنمية والتقوية -أي تعهد أي شيء بالرعاية؛ ففي محيط الإنسان تتضمن التربية الوسائل التي تنمي ملكاته وقواه معا، ومن هذه الوسائل: التربية البدنية، والتربية العقلية، والتربية العلمية، والتربية المهنية، والتربية الفنية، والتربية الاجتماعية الوطنية، والتربية الإنسانية، والتربية الأخلاقية، والتربية الدينية "[5].

كميل الحاج في موسوعته الميسرة أورد تعريفا للتربية والتعليم قائلا: "التربية عملية إعداد الطفل ليصبح مؤهّلًا لمواجهة متطلبات الحياة، ولكي يصبح مهيًّأ ليعيش ضمن الجماعة. ومن شروط التربية الصحيحة أن تُنَمّى شخصية الطفل من الناحية الجسمية، والعقلية، والخلقية، وإعطاؤه القدرة لإصدار أحكام حرة وشخصية" [6].

الدكتور عبد المنعم الحفني في موسوعته الفلسفية أورد تعريفا للتربية قائلا: "وفي الاصطلاح التربية هي تدريب مختلف الوظائف النفسية، وتقوية القدرات، وتنمية الملكات حتى تبلغ كمالها شيئا فشيئا. والمربي هو المؤدِّب الذي يروّض على محاسن الأخلاق والعادات. وقد يترك فيها الطفل على سجيّته ليتعلم من نشاطه القصدي، ويقوم المذهب التربوي على فكرة أن الإنسان كائن حي تتغير طبيعته بتأثير غيره، وبمؤالفة ظروف بيئته، وأنه بالتربية يمكن تطويع هذه الطبيعة لما فيه خيره وخير بيئته. وأن الوراثة عنصر فعال في تكوين الشخصية لكن التربية هي المعوّل عليه في توجيه الصفات الوراثية وتوظيفها اجتماعيا" [7].

ماهية التربية عند بعض علماء الغرب

في كتابه (إميل) يطرح جان جاك روسو الفيلسوف السويسري الفرنسي (1712-1778) نظريته في التربية مقسِّما مراحلها إلى خمس؛ الأولى تبدأ من بعد فطام الطفل أي من بعد عامين حتى الخامسة من العمر؛ مركّزا على احتضان الطفل ليتحقق النمو البدني له، وتلبية رغباته وحاجاته الطبيعية، ومنحه المزيد من الحرية الحقيقية، فالمرحلة الأولى يسميها التربية السلبية؛ لأنها تترك الطفل وفق طبيعته الخيرة دون تدخل من إرادة المربي كي تكون له حرية الإرادة والاستقلالية. أما المرحلة الثانية فتبدأ من سن الخامسة حتى الثانية عشرة حيث تعتمد على تمرين حواس الطفل وتقوية جسمه من خلال احتكاكه بالطبيعة؛ ليكتسب التجارب دون تدخل المربي أو تعليم العلوم الجاهزة. أما المرحلة الثالثة فتبدأ من سن الثانية عشرة إلى الخامسة عشرة، فيها يبدأ المربي بتعليم الطفل المعارف الجاهزة من المناهج المعدة معارف نظرية وتطبيقية، علوم لغات، أو رياضيات، وغيرها. المرحلة الرابعة وتبدأ من سن الخامسة عشرة إلى العشرين، حيث يرى أن مدارك الطفل قد نضجت في هذه المرحلة فلا بد من تعليمه المفاهيم والأمور الدينية، وتعليمه العلاقة العاطفية والجسدية بين الجنسين، وكيفية الانخراط والتأقلم في المجتمع. المرحلة الخامسة حيث تبدأ في سن العشرين التي وصل فيها إلى عمر الزواج من شريك أو شريكة الحياة، حيث يلتقيان ليتشاركا ويتداولا أمورهما الحياتية المختلفة التي تفضي إلى الزواج المستقبلي. نستنتج من كل ما تقدم أن آراء روسو التربوية أحدثت ثورة في مجال التربية حيث أعادت للطفل مكانته ودعت إلى احترام خصوصياته الجسدية والنفسية والعقلية والاجتماعية، فكانت آراءه قد (شكلت قطب الرحى في منهاج التربية الحديث، وارتكزت المناهج التربوية الحديثة من بعد فلسفة التربية لروسو على رغبات الطفل وحاجاته كعنصر أساسي في بناء التعليمات)[8].

الفيلسوف الألماني أمانويل كانط (1724-1804م) يرى "أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يحتاج إلى تربية ونعني بالتربية العناية(الاهتمام)، والتعليم، والتنشئة الأخلاقية". ويعتبر كانط التربية " فن ينتظم وفق أبعاد أربعة، الانضباط، ويقتصر دوره على ترويض الهمجية الكامنة في بنية الإنسان، والتنشئة من اكتساب المهارات، والمدنية التي تسمح للإنسان بالتكيف مع المجتمع الإنساني، والأخلاق؛ وهي النقطة الأخيرة التي تندرج في توجه فكر كانط الأخلاقي الذي يقود إلى الغايات الحسنة"[9].

دوركايم عالم الاجتماع الفرنسي (1858-1917) يعرّف التربية ب"أنها الفعل الذي تمارسه الأجيال الراشدة على الأجيال التي لم ترشد بعد من أجل الحياة الاجتماعية".[10]

جون ديوي عالم الاجتماع الأمريكي(1859-1952م) يعرّف التربية قائلا: "إن التربية هي مجموعة العمليات التي بها يستطيع المجتمع أن ينقل معارفه وأهدافه المكتسبة ليحافظ على بقائه، وتعني في الوقت نفسه التجدد المستمر لهذا التراث، وأيضا للأفراد الذين يحملونه، فالتربية هي عملية نمو وليست لها غاية إلاّ المزيد من النمو، إنها الحياة نفسها بنموها وتجددها" .[11]

برتراند رسل الفيلسوف الإنكليزي المعاصر(1872-1970) يطرح رأيه في التربية معتمدا على أسس أربعة في إعداد النشء يرى أنها "أساس الخلق المثالي: الحيوية، والشجاعة، والحساسية، والذكاء"، بواسطتها يُعنى بالنشء من النواحي البدنية والعاطفية والذهنية[12].

يعرّف التربية متخصص علم النفس الدكتور داكو بيير(1936-1992) تلميذ عالم النفس كارل يونغ قائلا "هي عملية تقوم على ضرب من (الترويض)؛ أي على فرض بعض المنعكسات على الطفل، إن جزءا من هذه المنعكسات يتأصل إلى الأبد، جيدة كانت أم سيئة". والتربية هي عملية توفيقية بين العناصر الثلاثة التي تقوم عليها المتمثلة با "الأب، الأم، الطفل". ولا يمكن لأية عملية تربوية أن تكون كاملة في كل عناصرها لأن الأمراض السيكولوجية للراشدين قائمة في الوسط العائلي الذي تربوا فيه، ومن البداهة أن الحالة هذه ليست عامة في كل المربين، فالتربية هي سلسلة واسعة من النقل، وينبغي أن تكون كل حلقة من حلقاتها في أقل قدر ممكن من النأي عن الكمال[13].

لكن "مرتكزات التربية الأربعة" التي جاء بها التقرير الذي أعدته منظمة (اليونسكو) التابعة للأمم المتحدة في القرن الحادي والعشرين التي ترأسها جاك ديلور؛ هي: "تعلم اكتساب المعرفة، تعلم ممارسة المعرفة، تعلم طريقة وجود، تعلم العيش معا[14].

إذا أردنا العمل ببنود التربية لمنظمة "اليونسكو" في بلداننا فإننا نكون بحاجة ماسة إلى ثورة ثقافية تشمل تغيير طرق التربية والتعليم، والمناهج التعليمية في كل المراحل الدراسية من الابتدائية إلى الجامعة.

بعد هذا الاسترسال في كشف معنى التربية يمكنني القول:

إن التربية هي عملية إعداد الفرد وفق معايير سلوكية عائلية تبدأ في الأسرة على مرحلتين؛ الأولى من الولادة حتى الثالثة من العمر، والثانية من الثالثة حتى السادسة باعتباره كائنا بيولوجيا حديث الولادة والنشأة له متطلباته المادية والمعنوية، ووفق معايير سلوكية اجتماعية عامة في المجتمع العام الواقعي باعتباره كائنا اجتماعيا، وبيئية باعتباره كائنا حيا تشاركه الطبيعة الكائنات الحية الأخرى من حيوان ونبات، ضمن ثلاث دعامات أساسية؛ هي الحضانة، والرعاية، والتربية والتعليم والتهذيب؛ من النواحي الجسدية، والنفسية، والعاطفية، والعقلية، والدينية، والاجتماعية، حسب ثقافة المجتمع الذي يعيش بين ظهرانيه، متضمنة أديانه، ومعتقداته، وأفكاره، وثقافاته، ومثله، وأخلاقه؛ ووفق أخلاقيات ومعايير العالم الرقمي في المجتمع الافتراضي باعتباره كائنا تكنولوجيا. فالتربية هي إعداد الفرد إعدادا كاملا سليما متوازنا في المحيطات الثلاثة المذكورة (العائلة، المجتمع العام، العالم الافتراضي)، متضمنة ثلاثة عناصر مهمة؛ هي المحيط، والوسيط التربوي، وأدوات التربية.

نسلّط الضوء على ثلاثة موارد في تربية طفل اليوم؛ هي:

أولا: التربية الحديثة؛

ثانيا: التعليم الحديث؛

ثالثا: أثر تكنولوجيا المعلومات في تربية وتعليم جيل اليوم. (يتبع)

***

إنتزال الجبوري

..........................

[1] الهلالي، عماد (دراسة وتحقيق). مسكويه. تهذيب الأخلاق. بيروت- بغداد: منشورات الجمل، ط1، 2011،ص204.

[2] نفس المصدر والصفحة.

[3] أيوب، محمد شعبان. موقع قناة الجزيرة (9/7/2017) (ميدان).

[4] إبن خلدون. المقدمة، ص540.

[5] بدوي، السيد محمد. الأخلاق. دار المعرفة الجامعية، 2000، ص15-16.

[6]  الحاج، كميل. الموسوعة الميسرة في الفكر الفلسفي والاجتماعي. بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، ط1، 2000، ص148.

[7] الحفني، د. عبد المنعم. المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة. القاهرة: مكتبة مدبولي، ط3، 2000، ص191.

[8]أنظر: حسن، ابتهال. مفهوم الطفولة عند جان جاك روسو. موقع موضوع(أغسطس 2023)(في حقل قلم). نقلا عن جان جاك روسو. سؤال الطفولة والإنسان.

[9] كانط. في التربية. ترجمة: جوزيف معلوف. بغداد: دار الرافدين، ط1، 2022، ص21.

[10] دوركايم. التربية الأخلاقية. ترجمة: السيد محمد بدوي. مراجعة: علي عبد الواحد وافي، تقديم: محمد الجوهري. القاهرة: المركز القومي للترجمة، ط1، 2015، ص68.

[11] ديوي، جون. الديمقراطية والتربية. ترجمة/ منى عفراوي، وزكريا ميخائيل. القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1946، ص332.

[12] رسل، برتراند. في التربية. ترجمة: سمير عبده. دمشق: دار التكوين، ط1، 2017، ص47.

[13] داكو، بيير. الانتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث. ترجمة: وجيه أسعد. بيروت: مؤسسة الرسالة، ط2، ص24-26.

[14] ديلور، جاك. (نحو التربية المستدامة للجميع). في كتاب القيم إلى أين. إشراف جيروم بندي. ترجمة: زهيدة درويش جبور، وجان جبور. بيروت: دار النهار، ط1، 2005، ص216.

 

في المقال السابق، وبنفس العنوان (القرآن.. والتجربة البشريّة)، أشرتُ إشارة سريعة إلى أثر القرآن الكريم على التجربة الإنسانية، من حيث كونها ذات أبعاد تتصل بالحضارة وبالثقافة وبالمعرفة وبالفكرة في الوجود الروحي على التعميم.

وقلت: إنّ القرآن له بالمباشرة أثرٌ على الإنسان من هذه الجهات مجتمعة ومُفرَدة على السواء، وكل تجربة عميقة ذات أثر في الإسلام كان للقرآن فضلٌ فيها، بل هو مظهر أساسي من مظاهر مكوناتها. ولوحظ أن التجارب البشرية تتكون في مجرياتها التاريخية بالفاعلية والعمل والمباشرة والتعلق وامتدادات الوجود بمسائل المصير، وهى لا تتكون فارغة غير مُحاطة بالوعي ولا ملآنة بالممارسة، إذْ التجارب الفاعلة والمؤثرة لها بعدٌ رُوحي أعمقٌ من الكلمات.

وذهبتُ إذ ذاك إلى الوعد بأنني سوف أتتبع هذا الأثر القرآني على الوجود الروحي عامة كمظهر فعال يعدُّ هو الأساس لكل نشاط سواه، ولأن الأصل في ذلك كله هو الملاحظة التي سقناها من قبل، ونضيف اليها ما سيتبعها مجدداً وهي امتدادات الوجود بمسائل المصير، فإنّ امتدادات الوجود من حيث كونه تجربة؛ كامنةٌ في الواقع الفعلي ومهيئةٌ لاستشراف المصير في حركة فاعلة بين القرآن والتجربة الإنسانية الصادقة.

لكن هذا كله شيء، وواقع التفكير في التجارب البشرية وعلاقتها بالقرآن شيء آخر.. الآن فقط يبقى الرهان قائماً بمدى صحّة هذه التجارب في الواقع التاريخي ومدى فشلها؛ فالتجربة البشريّة هي الإنسان، والإنسان لا يتقدّم بمعزل عن الروح، والروح داعمة الحضارة والثقافة والقيم الكبرى والعلم والتفكير المنهجي الإيجابي الصحيح.

وهنا لا بدّ لنا من استخلاص دلالة تكون بمثابة البديهة الحاضرة في ضبط العلاقة بين التجربة البشرية والقرآن، وهي أنه كلما اقتربت التجربة الإنسانية من روح القرآن وتمثلت آثاره في الفكر والواقع كانت ناضجة مكتملة، وكان لها في الواقع الفعلي أثر مباشر غير منكور ولا مجهول.

والعكس صحيح أيضاً كلما ابتعدت التجربة البشريّة عن توجُّهات القرآن ومبادئه ونظمه الفاعلة كلما أخفقت وانحرفت وتسمّمت بآثار لا تصلح لبقاء ولا تجدي نفعاً على السواء. هذه بديهة حاضرة معنا في محيط ما نبحث فيه، نقبلها ببداهة النظر ونرفض غيرها إذا تعارض معها.

لكن الحقيقة أنّ العقليّة الغربية في إطار ما تبحث فيه، تركز على التجربة البشريّة ومعطياتها: على مدى تقدّمها ودرجة تأخّرها، على مقياس التقدّم فيها ومقياس التخلف، ولا تركز في الغالب على المعطى الروحي. رغم أن هذا المعطى الروحي هو الباعث، وهو الدافع لكل معطيات الحضارة والثقافة والقيم العلميّة على أثرهما. التجربة البشرية لا تجتمع في كلمة بمقدار ما تجتمع في تاريخ طويل وأحداث إنسانية صاخبة تارة وهادئة تارة أخرى، وتتوزع وتتنوع بين فردية خاصّة على مستوى العلاقة المباشرة مع الملأ الأعلى، وبين جماعية عامة كتجارب الثورات الاجتماعية والسياسية وغيرها. لكن تركيزنا نحن فيما يتّصل بالقرآن سيكون على التجربة الفرديّة الخاصّة.

كنت أبحث عرضاً في الإنترنت عن الكتب المُشابهة موضوعاً أو منهجاً لكتابي (الذاتيّة الخاصّة للقرآن الكريم.. دعائم تأصيل التفسير الإشاري) الصادر عن دار ناشرون، بيروت، هذا العام (٢٠٢٤م) في طبعته الثانية، والذي لم أر إخراجه ولا محتواه ولم أتصفحه بعد الطباعة حتى كتابة هذه الأسطر، لأنه لم يصلني إلى الآن، وأنا في غمرة البحث فوجئت فوجدتُ هذا الكتاب (الصورة الذاتية للقرآن.. الكتابة والسُّلطة في نصّ الإسلام المُقدّس)، لدانييل ماديغان، بجوار كتابي كموضوع مُشابه له، على أقل تقدير في تسليط الأضواء الحديثة على اهتمام البحث المتجدّد بعلوم القرآن.

ولم يكن لي علمٌ سابق بهذا الكتاب من قبل، مع معرفتي بمنهجه وتطبيقاته، ومع علمي بنوعيّة الكتب التي تنحو هذا المنحى، فقد اضطلعت على كثير من تلك النوعية من الكتب وعلى تطبيقاتها المنهجية، وأغلبها يطبق المنهج الدلالي ويجري ورائه في لهاث غريب وعجيب، وكنتُ أشرتُ إلى ذلك في هوامش كتابي السابق ذكره. فعلى سبيل المثال لا الحصر كنت كثير الاطلاع على تخريجات المستشرق الياباني (تشيهيكو إيزوتْسو Toshihik Izutsu)، (١٩١٤- ١٩٩٣)، وذلك في كتاب له مهم يتضمن دراسة جادة بعنوان: "الله والإنسان في القرآن: علم دلالة الرؤية القرآنيّة للعالم". يكشف الكتاب عن جوانب للقرآن من ناحية (علم الدلالة Semantis). وقد صدر للمرة الأولى بالإنجليزية عام ١٩٦٤م عن معهد جامعة كيو للدراسات الثقافية واللغوية بطوكيو بعنوان:"بين الله والإنسان.. دراسة دلاليّة لنظرة القرآن إلى العالم". وبعد تسع سنوات على وفاة المؤلف عام ١٩٩٣م، صدرت طبعته الثانية بالإنجليزية أيضاً في ماليزيا عام ٢٠٠٢م، وترجمه إلى العربية الدكتور عيسى على العاكوب، وصدرت الترجمة عن دار الملتقي بحلب ٢٠٠٧م، ثم صدرت ترجمة أخرى للكتاب بعنوان "الله والإنسان في القرآن، علم دلالة الرؤيّة القرآنية للعالم" للدكتور هلال محمد الجهاد عن المنظمة العربية للترجمة في العام ٢٠٠٧م. وهي الطبعة المعتمدة التي بين أيدينا. تعالج فكرة الكتاب الصلة الوثقى بين اللغة والفكر والثقافة وتبرز أن اللغة ليست أداة للتواصل وحسب، بل هي أداة للتفكير. ومن هذا المنظور فهي تعدُّ وسيلة أساسية لتقديم مفاهيم وتفسيرات للعالم الذي يحيط بأهل لغة ما.

وأصل هذه الفكرة له جذور وطيدة ترتبط بالفلسفة الألمانية، خاصّة الفلسفة المثالية، ومصطلح رؤية العالم هذا، متصل بكيفية بناء الأفراد رؤيتهم للعالم بناءً على التجربة والعقل والثقافة.

العنصر البارز والأهم هو أن اللغة عقليّة تصوغ أو تعكس رؤية العالم عن أمة من الأمم أو ثقافة من الثقافات؛ فالثقافة تصوغ اللغة بالقدر الذي تصوغ اللغة فيه الثقافة. والمجمل من ذلك كله هو: تجليات الحضارة، وما يصدر عنها أو ينبثق منها: ثقافة أو لغة أو تفكيراً. واللغة هي المفتاح لفهم ثقافة ما، وإدراك رؤيتها للعالم؛ وبهذا يصبح علم الدلالة كما يفهمه "إيزوتْسو": هو دراسة تحليلية للتعابير المُفتاحية في لغة من اللغات ابتغاء الوصول إلى فهم (رؤية العالم Worldview) عند القوم الذين يستخدمون هذه اللغة في مرحلة محدّدة من تاريخهم الثقافي". يعني تحليل لغة التعبير بإزاء تصورات العالم عند قوم من الأقوام. ويذكر "إيزوتْسو" في كتابه المقابل الألماني لرؤية العالم تلك، وهي كلمة (Weltanschauung).

وتعتبر كلمة Weltanschauung)) كلمة ألمانية تعني "النظرة إلى العالم" أو "إدراك العالم" في اللغة الإنجليزية. أصلها اللغوي يتكون من العناصر التالية:

(Welt): تعني "العالم". أصلها من اللغة الألمانية القديمة weral)) وهي مركبة من wer (إنسان) و(alt)، (الزمن أو العمر)، ممّا يشير إلى "عصر الإنسان" أو "العالم البشري". أما كلمة

Anschauung)) تعني "النظرة" أو "الإدراك". مشتقة من الفعل anschauen)) "ينظر إلى" أو "يُلاحظ"، والذي يعود إلى الألمانية الوسطى القديمة anschouwen والألمانية العليا القديمة anscouwōn (يراقب أو يتأمل).

بالتالي، تشير Weltanschauung إلى منظور شامل أو إطار فلسفي يُفسّر من خلاله الفرد أو المجموع العالم. ثم أصبح المصطلح بارزًا في فلسفة القرن التاسع عشر، خاصة في أعمال مفكرين مثل إيمانويل كانت وويلهلم دلتاي، الذين استخدموه لمناقشة دور الإدراك والخبرة والثقافة في تشكيل فهم الإنسان وفهم العالم من حوله.

 )Naugle, D. K. (2002). Worldview: The history of a concept. Grand Rapids, MI: Eerdmans.p.64.(

يطمح "إيزوتْسو" إلى الوصول للمفاهيم الأولى أو التلقي الأول للوحي، كما تجلي في عصر الرسول والصحابة، باعتبار هذه الفترة هي النقلة الدلالية المباشرة التي أدركها العرب في ذلك الحين. يناقش "توشيهيكو إيزوتْسو" المعنى الأساسي، الوضعي والمعنى العلاقي (السّياقي)؛ ليثبت أن المعنى الوضعي (الأساسي) هو المعنى الخاص بالكلمة الواحدة حتى ولو جاءت منفصلة عن كل الكلمات.

أمّا المعنى السّياقي (العلاقي) فهو المعنى الدلالي الذي تكتسبه الكلمة إذا هي دخلت في مجموعة علاقات وسياقات مع غيرها من كلمات أخرى.

ويُلاحظ على كتاب "إيزوتسو" أن كون اللغة عقلية إنما هي فكرة ليست بجديدة على التفكير العربي خاصّة لدى عبد القاهر الجرجاني ( ٤٧١هجرية - ١٠٧٨م ) في كتابيه "دلائل الإعجاز" و "أسرار البلاغة".

لكن الدراسات الدلالية الغربية تجاهلت الإشارة لا من قريب أو بعيد الي الدراسات الدلاليّة العربية، واستنباط الدلالة من المجاز العقلي كما وجدت في الدراسات البلاغية العربية.

ويُلاحظ أيضاً مع تطور علم الدلالة في سياقه الغربي أن الدراسات الدلاليّة بوجه عام أغفلت جهود الدلاليين العرب القدامي، فلم تأت على ذكرهم في سلسلة الاهتمام الدلالي القديم سواء كانت جهود اللغويين أو جهود الأصوليين في مجال علم الدلالة.

وإذا كان منهج علم الدلالة في سياقه الغربي جديداً على اللغة العربية؛ من حيث يرى "إيزوتْسو" أن اللغة العربية ليست لها خصوصية وتميزاً في ذاتها، إذ اعتبر مجيء القرآن بها يرجع إلى كونه أنزل على العرب، وأنها واحدة فقط من لغات كثيرة، فإنّ هذا الرأي مردودٌ عليه من النقاد، لأن اللغة العربية قادرة على الإبانة عن مُراد الله أكثر من غيرها من اللغات بما فيها من وفرة في المفردات المعبرة عن الشيء الواحد في أوضاعه وأشكاله وخاصياته المختلفة، وبما أنطوت عليه من صيغ حرفيّة معبرة، وبما تدل عليه أوضاعها التركيبية من دلالات، وبما يوفره جرس ألفاظها من تماثلات صوتية تساعد في إبهاج السّامع وإيقاظ ملكاته الإدراكيّة في إيقاع الوعي بتلاوة القرآن خاصّة؛ لتحصيل أكبر قدر من الطاقة الدلاليّة.

وممّا لا ينبغي إغفاله في هذا السياق أن مادة (ع. ر. ب) تفيد البيان والوضوح بمقدار ما تفيد خصوصية اللغة العربية في سياقها الدلالي، واقتدارها من ثمّ أكثر من غيرها من اللغات الحديثة على البيان مع التطور والتقويم. ناهيك عن أن الحروف العربية هي أصلح الحروف لكتابة اللغات: لأن الأمم التي تعتمد على الحروف العربية في كتابتها أكثر عدداً من كل مجموعة عالمية تعتمد في الكتابة على الحروف الأبجديّة، ما عدا مجموعة واحدة، وهي مجموعة الأمم التي تعتمد في كتابتها على الحروف اللاتينية؛ لأن الحروف العربية تستخدم لكتابة اللغة العربية، واللغة الفارسية، واللغة الأوردية، واللغة التركية، واللغة الملاوية، وبعض اللغات التي تتصل بها في الجزر المتفرقة بين القارات الثلاث: أفريقية، وآسيا، وأستراليا. ونسبة الكاتبين بين هذه الأمم أقل في هذا العصر من نسبة الكاتبين بين أبناء الأمم التي تعتمد على الحروف اللاتينية.

على أن الذي يعنينا نحن من هذا الكتاب ليس فقط استغراقه في مسألة العلاقة الشخصية بين الله والإنسان في الرؤية القرآنية للعالم من زاوية المنهج الدلالي للدراسات القرآنية؛ ولكن تعنينا لفتاته الكثيرة ومقارباته المنوَّعة، ومن أهمها هنا إشاراته المتعددة إلى التصوف، فإذا كان القرآن قابلاً لأن يقارب من وجهات نظر عديدة ومختلفة مثل اللاهوتية والفلسفية والاجتماعية والنحويّة والتفسيريّة فهو من باب أولى في نظر المؤلف يمكن أن يُقارَب من ناحية علم الدلالة ومنهجه التحليلي الحديث، ومفهوماته المتعددة ومعانيه المتباينة، وهى مقاربة لها أصولها المرجعية ومعطياتها الدلاليّة وطرافتها الذوقية في ذات الوقت.

لكن علم الدلالة عنده كما يُوحي به الأصل الاشتقاقي للكلمة هو كما تقدّم: علمُ يعني بظاهرة المعنى، بأوْسع معاني الكلمة. ولم يخطئ عبد القاهر الجرجاني ولم يتجاوز الصواب عندما قال في "دلائل الإعجاز": أن الألفاظ في ذاتها لا توجب حكماً، ولا يبدو فيها جمال إلا إذا ألّفت نوعاً من التأليف ثم أنطوت على معنى".

ولا بدّ للمختص بعلم الدلالة من أن يكون ذوّاقة ذا دُربة مصقولة وعادة مقبولة، ممَرّنٌ على التعامل مع الأفكار العليا والمباحث الكبرى قدر تمكنه من القيم العظمى. ولم يكن خلواً من روحانيّة وتجرُّد وصفاء.

أمّا هذا الكتاب، أعني (الصورة الذاتية للقرآن.. الكتابة والسلطة في نصّ الإسلام المقدّس) فلم يسعدني الحظ بوافر سعده للحصول عليه أو قراءته من قبل. وقد تبدو غريبة تخريجات الباحثين الغربيين حول القرآن وعلاقة المسلمين به، وبخاصّة في الصدر الأول.

يظهر لي أنهم يريدون التقليل من مركزية القرآن باصطناع مناهج ربما لا تتماشى مع طبيعة النّص المقدّس نفسه، أو على وجه التحديد لا تتماشى مع طبيعة القرآن كونه وحياً؛ لأن المفروض بالبداهة المقرّرة سلفاً أن فهم القرآن مرهون بمنهجه هو لا بمنهج سواه: أعني منهج التذوق والمعايشة، ومنه إلى الإشعاعة العقلية المستمدة من كثرة التأمل في منبع الوحي، أعني في آيات القرآن على الحضور والسّعة والاتصال بالله.

وإزاء هذه المركزيّة القويمة هم عاجزون عن تفسير قوانينها وسر قوتها ومكمن حيويتها، وبخاصّة في الصدر الأول وما بعده، وأحياناً متخبطون، يسوؤهم ثقة المسلمين في كتابهم المقدّس، لكأنهم يريدون زعزعة استقراره من قلوبهم، وما هم بمستطيعين.

ليس المهم في اصطناع تلك المناهج ولا في تطبيقاتها وإنما المهم، وهو موطن الخطر، هو محاولة تكرار نتائج أسلافهم بإزاء القرآن لتكون هذه المناهج أو تلك مجرد غطاء مشروع يتسترون خلفه ولا يميطون لثاماً عما كان من قبيل أسلافهم مجرد دعوى لا يقوم عليها دليل؛ كمثل قولهم إن القرآن نسخة مُحرفة من الكتب السابقة عليه، من اليهودية والنصرانيّة، وأن محمداً عليه السلام كان مجرد ناقل: نقله من أساطير الأولين!

ليأتينا من بعدُ من عساه لا ينسى فيذكر: أن الكتاب يكتمل فيما تقدّم من التوراة والإنجيل، ولا يكاد يكتمل في القرآن الكريم بما لست أدرى ما ذا عساه يكون؟

وهذا الكتاب هو: (الصورة الذاتية للقرآن.. الكتابة والسلطة في نصّ الإسلام المقدّس؛ لدانييل ماديغان

المؤلف: يامنة مرمر - Yamine Mermer والمترجم: هدى عبد الرحمن النمر). (ومن أهم الكتب التي صدرت في العقود الأخيرة غربًا حول القرآن كتاب دانييل ماديغان (الصورة الذاتية للقرآن)، حيث لا نجد دراسة معاصرة تتناول قضايا مثل سلطة النصّ ومرجعيته وعلاقة هذا بأوصاف النصّ عن ذاته، وبالعلاقة بين النصّ حال تنزّله والمصحف المجموع، إلا وتستعيد نتائج هذا الكتاب سواء اتفاقًا أو اختلافًا أو تعديلًا أو تطويرًا؛ ممّا يزيد أهمية التعريف به لباحث الدراسات القرآنية) بهذه القطعة من التعبير المبالغ فيه قُدّم لهذا الكتاب رغم أن هناك دراسات دلالية سبقته ووصلت الى نتائج أهم ممّا وصل اليها ماديغان، غير أننا لا نريد أن ننهج نفس المنهج في طريقة التعبير حكماً على الكتاب، بل نتابع ما كتب عن قضاياه التي طرحها ومشكلاته التي عالجها بصبر وأناة، ولنرجئ مسألة الحكم على العمل هذه في نهاية المطاف.

قدّمت (يامنة مرمر) إطلالة وافية على أهم مرتكزات الكتاب وفكرته المحوريّة حول مفهوم "الكتاب" القرآني ودلالاته، أيضاً وفق تطبيقات المنهج الدلالي.

قالت الباحثة في إستهلالة لا تخلو من نقد موضوعي من قارئ مُلم بأسباب النزول وبكتب الأديان الكتابية على وجه العموم (كثيرًا ما يُوصف الإسلام بأنه (دين الكتاب)، ويعتبره كثيرٌ من العلماء المثالَ الأكثر تطورًا لهذا النوع من الدّين؛ ربما لأن كلمات الكتاب تشغل مكانة مركزيّة في معتقد المسلمين وممارستهم أكثر ممّا في الأديان الأخرى. ومع ذلك، لا يُوجد كتاب فِعليّ متمركز في الشعائر الإسلاميّة؛ إِذْ إن مقاربة المسلمين لكتابهم المقدّس شفهيّة بالكامل، فالكثيرون يرتِّلون النصّ المقدّس من ذاكرتهم، ومرَّت سنوات عدَّة بعد وفاة الرسول قبل أن يتخذ شكل كتاب.

فما الذي يعنيه القرآن إذن عندما يُسمِّي نفسه بإصرار: (كتاب)، والتي تُترجَم عادة لـ (Book

للإجابة عن هذا السؤال، يُعيد دانييل ماديغان النظر في هذا المصطلح الرئيس (كتاب)، كما يَرِد في وصف القرآن عن نفسه. ومن ثَمّ، فمهمَّة هذا المُصنَّف (الصورة الذاتية للقرآن) أن يسلط الضوء على الدلالات المركّبة لـكلمة (كتاب) في القرآن ولغة كتابته، كما «يسمح بتفسير مفهومه الخاصّ ويتحدّث عن نفسه».

ولتمييز مفهوم القرآن المخصوص للكتاب، يتبنَّى ماديغان استراتيجية مزدوجة: إعادة تقييم الإجماع الذي طالما عقده علماء الإسلام والدارسون الغربيون على حدٍّ سواء عن الكيفية التي يُصوِّر القرآن بها نفسه، وتحديد مقاربة بديلة لا للخبراء في دراسة الإسلام فحسب، بل لكلّ مهتم بالدراسات المقارنة للنصوص المقدّسة والهرمنيوطيقا.

هكذا تقول الباحثة "يامنة مرمر" عن كتاب الصورة الذاتية للقرآن لدانييل ماديغان. أرادت أن تتحدّث على لسانه لتستنطقه بما ليس يبديه مع أني لا أعتقد أن النّص القرآني - وفقاً لفكرة كتابي الذاتيّة الخاصّة للقرآن الكريم - لا يقدّم صورة عن ذاته بمقدار ما توجد فيه خصائص ذاتية توجد فيه هو ولا توجد في سواه، فهذه الخصائص الذاتية نتاج التفاعل الحركي بين القارئ والنص، إذ النص في ذاته صامت، وإنما الذي يستنطقه هو القارئ الفاعل، وإذا اختفت تلك الفاعلية كحركة باطنة حيوية ذهبت بالخاصّة الذاتية للقرآن في نفس صاحبها وفي ذاته، ومثل هذا التفاعل الحيّ بين النّص القرآني والقارئ هو الذي يخلق عالم من المعاني واللطائف الروحيّة قلما يخلقه تفاعل آخر بين نصّ وقارئ.

إذا تقرّر لدينا هذا فأين هى السلطة في نص الإسلام المقدّس؟

إذا كان هناك ثمة سُلطة فهي سلطة القارئ يستوحيها من حركة التفاعل مع النّص، فهي سلطة مكتسبة بإزاء التفاعل الحركي فيما هو مشروط أمامه. ولا أعتقد أن صاحب كتاب الصورة الذاتيّة للقرآن يقصد هذا المعنى بوجه من الوجوه.

وتتابع الباحثة أن ماديغان يوضح من البداية أنه يتعامل مع النصّ القرآني بوصفه كُلًّا متماسكًا؛ " لأن هذه هي الطريقة التي يعمل بها داخل المجتمع الذي يُقدسِّه - ينظر له كمصدر للمرجعيّة والسُّلطة - ويستمد منه الهدى. إنّ مفهوم الكتاب موضوع جامع يُعلِن ويؤكد على ذلك التماسك".

وفي المجمل؛ يتبنَّى ماديغان مقاربة نقديّة، وينظر بعين الشك إلى الدلالات المباشرة للكلمات المشتقة من الجذر العربي (ك - ت - ب)، ويأخذ في الاعتبار أقصى ما يمكن تحصيله من دلائل، سواء في النصّ القرآني أو في أجزاء مختارة من التقليد الإسلامي تتعلّق بمجال معانيهم الأول.

ويبدأ بملاحظة أن القرآن يستعمل الكلمات المشتقة من الجذر (ك - ت - ب) في الغالب؛ ليشير ليس للقرآن نفسه، بل لظاهرة مختلفة، مثل إثبات كلّ ما هو مقدور مُسبقًا، في مثل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ كِتَٰبًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِۦ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلْءَاخِرَةِ نُؤْتِهِۦ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِى ٱلشَّٰكِرِينَ} (آل عمران ١٤٥) أو قوله تعالى: {كَتَبَ ٱللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِىٓ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ} (المجادلة ٢١).

أو للأحكام الإلهيّة، في مثل قوله تعالى: {قُل لِّمَن مَّا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ قُل لِّلَّهِ ۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓا۟ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } (الأنعام ١٢). أو قوله تعالى: {وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـَٔايَٰتِنَا فَقُلْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ ۖ أَنَّهُۥ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوٓءًۢا بِجَهَٰلَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنۢ بَعْدِهِۦ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُۥ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام ٥٤). أو تقرير ما هو موجود، في مثل قوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا۟ مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا فِى ٱلسَّمَآءِ وَلَآ أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكْبَرَ إِلَّا فِى كِتَٰبٍ مُّبِينٍ} (يونس ٦١)، أو قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى ٱلْأَرْضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِى كِتَٰبٍ مُّبِينٍ} (هود ٦). أو إثبات أعمال المرء الحسنة والسيئة في مثل قوله تعالى: {لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓا۟ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ ۘسَنَكْتُبُ مَا قَالُوا۟ وَقَتْلَهُمُ ٱلْأَنۢبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا۟ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } (آل عمران ١٨١)،

أو قوله تعالى: { وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً مِّنۢ بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِىٓ ءَايَاتِنَا ۚ قُلِ ٱللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا ۚ إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} (يونس٢١).

والكثير من الدارسين يُحمِّل تلك التصنيفات ما تعلَّمَه عن مفاهيم مماثلة في سياقات دينية أخرى، وبالتالي فهموها على أنها كتابات منفصلة. ومع ذلك، يحاجج ماديغان بأن هذه المقاربة لتصنيفات الكتابة تُخفِق في إدراك أن فكرة الكتابة المُثبَتة في القرآن تظهر عدم تحدّد بشكل استثنائي؛ فجزء ممّا يكتبه الله تشريعي، وبعضه يتألّف من أحكام، بينما باقي الكتابة وصفيّة فحسب، وقدر كبير منها يختصّ بالوحي وشرح طبائع الأشياء، بينما في أحيان أخرى، يكشف اللهُ شيئًا عن ذاته بالكشف عما (كُتب) لنفسه.

مع ذلك، وسط كلّ هذا التنوع، ثمة وحدة لا جدال فيها في فكرة الكتابة الإلهيّة. ووفقًا لماديغان، فإنّ استخدام مصطلح وحيد (كتاب) لوصف العديد من جوانب هذه الظاهرة، يشير بذاته لوحدة «تتجاوز مجرد فكرةٍ ما عن مكتبة أو أرشيف».

ومن ثَمّ، يخلص إلى أن مصطلح الترجمة المقبولة عمومًا (Book) لا تُوفي حقّ تعقيدات المصطلح القرآني (كتاب). ويقترح ماديغان أن تكون الترجمة (كتابة writing) عوضًا عن (Book)، ولو مع بعض التحسينات.

هذا كتاب يقرّر في جوهره أنه مُلْزِم ومكتمل وكذلك مبنيّ ومنظم. وتضارب هذه الدعوى الضمنيّة مع الشكل الفعلي للنصّ القرآني هو ما حَدَا بالكثير من الكُتَّاب الغربيين أن يفترضوا أن إنتاج (الكتاب) المُتخيَّل لم يُستكمَل ولا تمَّ.

تلك كانت فكرة الكاتب عن (الصورة الذاتية للقرآن: الكتابة والسلطة في نصّ الإسلام المقدّس) خلال تطبيق المنهج الدلالي على جذر الفعل (كتب) لتصبح مادة الكتاب، وهى الكتابة نفسها، هى الباقية منه.

معنى ذلك؛ أنّ النّص قابل للكتابة والزيادة والإضافة والتطور والتعديل. وعندي أنا أنه قابل لذلك من جرّاء التفاعل الحركي مع قارئه فهو وحده (أي القارئ) من يمتلك الكتابة ثم الزيادة في امتدادات المعنى، والإضافة إلى ذاته المحدودة ذوات نورانية يستمدها من النّص القرآني ويعتمدها في ذاته، ليصعد مع التطور في إرتقاءاته الروحيّة والوجودية بعد تعديل مساراته وتطوير مسالكه تبعاً لتوجُّهات الكتاب. ومن غير المقبول لدينا بداهةً أن يقال إن الشكل الفعلي للنص القرآني قاصر لم يكتمل بعد، ناقصٌ يفتقر إلى التمام؛ اعتماداً على خيال بعض الكُتّاب الغربيين الذين افترضوا أن إنتاج الكتاب المُتخيَّل لم يعد كاملاً، والقرآن يقوم بصراحة لا مواربة فيها: (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي، ورضيتُ لكم الإسلام ديناً). ففكرة نقص التمام والانتقاص من الكمال هى فكرة فارغة من الدلالة لا يعتد بها مع تضاربها وقصور معطياتها، هذا اذا كانت لها معطيات.

تمضي الباحثة "يامنة مرمر" في عرض فصول كتاب ماديغان، ليأتي الفصل الأول، يوضح فيه ماديغان كيف أن هذا الافتراض عن البنية والشكل المناسبين للقرآن لا ينبعان من دراسة الوحي القرآني نفسه، وإنما ممّا يعلمه الدارسون عن بنية النصوص المقدّسة الأخرى ووظيفتها؛ فوفقًا لأولئك الدارسين، لكي يكون (الكتاب) بمثابة السجل الكامل للوحي ودستورًا تشريعيًّا للمجتمع، ينبغي أن تكون له بنية أكثر انتظامًا.

ومع ذلك، لا يجد ماديغان أيّ تلميح في النصّ أو التقليد عن أيّ نواقص في القرآن، أو أيّ إشارة إلى أنّ بنيته كانت مُشْكِلة من أيّ وجهٍ وقت وفاة الرسول.

ويقتبس ماديغان من ويلفريد كانتويل سميث الذي يقرّر أن: «المسلمين، من البداية حتى الآن، هم تلك المجموعة من الناس التي تلاحمت حول القرآن». بل ويذهب لأبعد من ذلك في ملاحظته، قائلًا: «تشير الدلائل إلى أنهم ألتحموا حوله حين لم يكن مكتملًا بعد، حين كان ما يزال شفهيًّا وسيروريًّا. لقد ألزموا أنفسهم بالإيمان بإله بدأ تواصلًا مباشرًا معهم، وتجمّعوا حول التلاوات بوصفها عهدًا يُوصّل الهدى من الله لهم، لا لكونها كيانًا نصيًّا محدّد المعالم ومغلقًا بالفعل».

يركز الفصل الثاني: على دحض القرآن نفسه لدليل قيمة الكتابات السماويّة، ورفضه للسلوك على أنه نصّ مدوّن ومغلق بالفعل، ويؤكّد أيضًا على إصرار القرآن أن يظلّ مفتوحًا ومتجاوبًا، ليصير بمثابة صوت الله مستمرًا في مخاطبة البشرية.

علاوة على ذلك، يشدّد ماديغان على أن (الكتاب) المقصود في القرآن لا يمكن خلطه بتصوّر كتاب معتاد؛ لأن حدود معالمه ليست متبلورة قطعيًّا: فليس من الواضح تمامًا ما إذا كان النصّ (القرآن) هو (الكتاب) كلّه أم جزء منه، وما إذا كان واحدًا من بين كُتُب أم الوحيد. حقًّا إنّ القرآن لا يُعرِّف نفسه بوصفه الكتاب؛ إِذْ يستخدم ضمير الغائب عند الإشارة إليه، والتصريح به، والدفاع عنه، وتعريفه.

حتى الآن، لا يتكلم القرآن عن الكتاب ببساطة باعتباره شيئًا ثابتًا ومنفصلًا؛ لأن تلاوة القرآن هي الوسيلة الوحيدة التي ينجلي بها الكتاب ويتفاعل مع الإنسانيّة.

وهكذا ينتهي ماديغان إلى أن القرآن لا يهتم كثيرًا بالكتابة بوصفها مجرد شكل للكلمة الإلهية، بقدر ما يعنى بمصدر تأليفها وسلطتها وصحتها. ودعوى القرآن عن كونه الكتاب إنما هي مطالبة بالسلطة والمعرفة أكثر من كونها تقريرًا بسيطًا عن شكل احتوائه النهائي.

يعالج الفصل الثالث مهمّة تعيين الحقل الدلالي للغة (الكتابة) في القرآن، في ظلّ الفهم الدقيق لكيفية عمل رمز كتاب في الخطاب القرآني. يبدأ ماديغان بتوطئة تدرس خلفية تحليل (الحقل الدلالي)، وتحليل بعض من تطبيقاته في سياق الدراسات القرآنيّة.

في الفصول الثلاثة التالية، يقدّم ماديغان تحليلًا دلاليًّا مُفحمًا عن وعي القرآن بذاته. فيُحاجج بأن القرآن يرى نفسه لا على أنه كتاب أكتمل، بل عملية مستمرة من الكتابة الإلهية وإعادة الكتابة؛ أي: على أنه تفاعل الله الناشط مع البشريّة، ويبرهن كذلك على تغلغل ظاهرة الكتاب في الخطاب القرآني، ويؤكد في ذات الوقت على خاصيّة البُعد عن التحدُّد فيه. بل إن الفصل السابع في الواقع يستعرض كيف أن ذلك البُعد عن التحدُّد هو سبب عدم إمكان فهم الكتاب باعتباره كيانًا مغلقًا جامدًا.

بمجرّد أن يتم إنتاج كتاب، فإنه يتواجد بشكلٍ مستقلٍّ عن مؤلفه، إلا أن المجتمع المسلم تمتع دائمًا بشعور حيوي عن دوام اتصال المؤلف بمستمعيه، والفصل الختامي يهدف لبيان السُّبل التي من خلالها ظلّ مفهوم الكتاب الأوسع والأكثر ثراءً فعالًا في الإسلام، رغم اهتمام المسلمين الغالب بالكيان المُغلق للقرآن.

يُلاحظ "ماديغان" أنّ قبول المصطلح التقليدي (كلام الله) باعتباره المفتاح لفهم الوحي، هو على الأرجح وسيلة للهروب من مصطلح (كتاب)، الذي صار مرتبطًا في الغالب بـ (المصحف). أما مصطلح (كلام) فيوفر المرونة والتجديد والتجاوب الذي يحظى به (الكتاب) في النّصّ القرآني، وإن لم يعد كذلك في التقليد.

تشكّل (الصورة الذاتية للقرآن) إسهامًا كبيرًا في دراسة القرآن، وفهم الإسلام من داخله، وقد بنَى المؤلف دانييل ماديغان خلاصاته على قراءة مقنعة للقرآن ونصوص رئيسة أخرى، وبنى تركيزه على المصطلح الرئيس (كتاب) على أسس صحيحة، فهو يلعب دورًا مصيريًّا في تعريف طبيعة النصوص المقدّسة، وكذلك مهمّة الرسول، والطريقة المخصوصة لتواصل الله مع البشريّة، والعلاقة بين الخالق والخلق، وصلة الإسلام بالأديان الأخرى.

وعلى الرغم من القبول الواسع الآن لمبدأ أن القرآن ليس مُعتمِدًا نصيًّا على ما سبقه من نصوص مقدّسة، إلا أنه لا يزال يُفترض في كثيرٍ من الأحيان أنه أطلع على محتواها ولو جزئيًّا على الأقل، ونادرًا ما يُقترح أنّ القرآن يمكن أن يعكس الدور الذي لعبته الكتب المقدّسة الأخرى داخل مجتمعاتها في وقت ومكان ظهور الإسلام.

وهكذا، تسلط مقاربة ماديغان للقرآن الضوء على الكيفية التي بها يمكن للقرآن في حقيقة الأمر أن يوضح الطريقة التي ينظر بها لـ (أهل الكتاب) فيما يتعلق بـ (كتبهم).

وفي الملحق، يتحوّل ماديغان إلى الوحي والمصطلحات التي يُعرِّف القرآن نفسه بها، ليرى ما إذا كانت فكرة الكتاب التي نشأت من تحليله الدلالي ستكون ذات معنى لدى الآخرين الذين عرّفتهم ظاهرة الكتاب، ويؤمّل أن هذه المحاولة للقراءة (من) القرآن ما تعلَّمه المسلمون من أهل الكتاب الذين اتصلوا بهم، ستمهِّد الطريق لحوار جديد وإيجابي بين هذه الأديان.

بالإضافة لذلك، تأكيد ماديغان على فهم (الكتاب) باعتباره إمارة على الاتصال بمجمل خطاب الله للبشرية بدلًا من كتاب ساكن ومحدد غاية في الأهمية؛ لأنّ الدعوى الضمنية بالكلية والاكتمال المشمولة في كلمة (كتاب) قد تمهد الطريق أمام (الأصوليّة)، التي تحد حدود كتاب الله بحدود النصّ المُتلقَّي.

ومثل هذا الفهم قد يغدو ذا خطر؛ إِذْ لو تخيّل المرء نفسه في حيازة كاملة للحكمة والمعرفة، بدلًا من كونه متصلًا بالمعرفة من الله، فقد يدَّعِي الهيمنة على فهم الوحي.

وعلى هذا، فمقاربة ماديغان المدروسة جيدًا للقضية المعقّدة الخاصّة باصطلاحات المرجعية الذاتية للقرآن ليست في الحقيقة قراءة جديدة للنصّ، إنها بالأحرَى قراءة متأنية تستند إلى فكرة أنْ ثمة وحدة يرتكز عليها استعمال القرآن للجذر (ك - ت - ب).

قد تظهر مثل هذه القراءة على أنها خروج راديكالي عن النهج الإسلامي التقليدي، إلّا أن الأخير يؤيِّد - ضمنًا في أوجُهٍ عديدةٍ - الموقفَ الذي تبَنّاه ماديغان.

كشَف (الصورة الذاتية للقرآن) النقاب عن الوعي الذاتي المُميِّز للقرآن: فهو يلاحظ ويناقش عملية الوحي الخاصّ به؛ ويؤكِّد على سلطته ويتخذ مكانته في تاريخ الوحي. إنَّ فهم هذا البُعد الديناميكي للقرآن ضروري لفهم الإسلام والهويّة الإسلامية.

من وجهة النظر هذه أيضًا، يعدُّ كتاب ماديغان مصدرًا مفيدًا للغاية، ليس فقط للخبير في دراسة الإسلام، بل كذلك لكلّ مهتم بدراسة النصوص المقدّسة والهرمنيوطيقا.

وتختم الباحثة دراستها بقولها إنّ (الصورة الذاتية للقرآن) طفرة كبيرة، لا في مجال الدراسات القرآنيّة فحسب، ولكن الأهم من ذلك في هرمنيوطيقا النصوص المقدّسة. ومضمونه يمثل تحديًا للمعرفة الغربية التقليدية حول الإسلام، وكذلك للأعمال التي كتبها علماء مسلمون.

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم

أثر القرآن الكريم على التجربة الإنسانية ظاهر لا شك فيه، من حيث كونها ذات أبعاد تتصل بالحضارة وبالثقافة وبالمعرفة وبالوجود الروحي على التعميم. فالقرآن له بالمباشرة أثر على الإنسان من هذه الجهات مجتمعة ومفردة على السواء، وكل تجربة عميقة ذات أثر في الإسلام كان للقرآن فضل فيها، بل هو مظهر أساسي من مظاهر مكوناتها.

تتكون التجارب البشرية بالفاعلية والعمل والمباشرة والتعلق وامتدادات الوجود بمسائل المصير، وهى لا تتكون فارغة غير مُحاطة بالوعي ولا ملآنة بالممارسة، التجارب الفاعلة والمؤثرة لها بعدٌ روحي أعمق من الكلمات.

ولسوف أتتبع هذا الأثر القرآني على الوجود الروحي عامة كمظهر فعال يعدُّ هو الأساس لكل نشاط سواه.

للصوفي العظيم السَّهْرَوَرْدِيّ المقتول سنة 632هـ، إشارة كاشفة يقول فيها: “اقرأ الكتاب بوجدٍ وطربٍ وفكر. وأقرأ القرآن كأنه نَزَلَ في شأنِك”.

ولم تكن تلك الإشارة إلا تجربة عاشها قائلها، فكأنما كانت بالفعل هى حياته، عاشها وتمثلها حتى الرمق الأخير، فصدرت عنه كما لو كانت قطعة من روحه، فاعلة ومؤثرة.

يظهر فيها فعل الطرب العلوي واللذة الروحانيّة، تنشأن من أثر القراءة على بصيرة، ونحن نود في تلك الأسطر توضيح العلاقة بين الطرب والوجد من ناحية، والفهم والفكر من ناحية ثانية؛ إذْ الوجد والطرب والفكر صفات مجتمعة: خصائص للذاتية الخاصَّة للقرآن يتقدّمها الفهم لامحالة؛ فيأتي الطرب والوجد فيساوقا ذلك الفهم الذي تقدَّم: خاصّة ذاتية تعرفها الحالة الروحيّة، فتشرق في القلب قبل الظاهر المحسوس، ويكتشفها في نفسه المتحقق بها، يقاربها ويتذوقها، ويستشعر آفاقها المتسعة بين ضلوعه وجوانحه، وتكون مع ذلك كالطلاسم المُبهمات لمن لا يدرك لها معنى ولا يصيب منها تحقيقاً: (ولكل درجات ممّا عملوا).

– فهم القرآن:  اتّساق الحالة مع الفكرة 

وقد يترادف الفهم تحقيقاً مع الفكر، ويقابله مقابلة الشبيه مقابلة واضحة لا غموض فيها. وبما أن الشبيه يدرك الشبيه كما يُقال؛ فالفهم يدرك الفكر ويؤدي إليه من أقرب طريق، ويمدُّ الفكر الفهمَ بأواصر القربة لا محالة؛ فما الفكر هنا إلا الفهم. وما فكر مَنْ فكر إلا مَنْ فهم، وعن الفهم تصدر حالات الوجد والطرب، ولا تصدر مطلقاً بغير فهم ولا تفكير.

فالذي يطرب لمعنى آية من آيات التنزيل هو بلا شك كان قد فهمها في السابق؛ فاتّسع معناها لديه من كثرة التفكير فيها، فطرب لها شعوره وَوَجِدَتْ لديه قواه الباطنة.

ومن هنا، جاء الوجد علامة رُقيِّ الفهم الذي يصحب حالات التلاوة على الحضور. فالوجد والطرب حالتان في باطن النفس يتقدمهما الفكر أو الفهم ولا تتقدم هاتان الحالتان على الفكر أو الفهم بوجه من الوجوه؛ فالذي يجد ويطرب لا يجد ولا يطرب من غير فهم ولا فكر، ولكنه يفهم أولاً، أي يفكر ثم يطرب لما عساه يفكر فيه، وهو لا يطرب حين يطرب لغير فهم سابق ولا تفكير متقدّم، وإلا سيكون طربه عَرَضَاً لحالة نفسية مضطربة مجهولة غير مفهومة ولا معلومة؛ لأجل ذلك كان العلم في القرآن بداهةً مُقدّماً على ما عاداه، وكانت المعرفة سابقة على الوهم الذي يعجز معه الاستبصار؛ إذْ ذَاَكَ يطرب الواجد لمعنى يحسّه في قواه الباطنة بعد أن يكون قد فهمه وفكر فيه؛ ليتسق الفكر مع الشعور فلا يُوحي بتناقض يفصل الحالة عن الفكرة.

الفكرة في القرآن سابقة (مُتقدِّمة) والحالة لها تابعة (لاحقة) ما في ذلك شك، ولا يحدث العكس أبداً؛ لأنه إذْ ذَاَكَ إنْ حَدَثَ يلغي الفكر والعلم والفهم وكل المفردات والعناصر الفاعلة التي تقوم عليها المعرفة وتستند القيم العليا للإنسان عليها، وتبطلها من أساسها، ليس هذا فقط، بل وتقدَّم الجهل والخرافة والوهم والتضليل على العقل والنور والذوق والاستبصار.

تقودنا إشارة “السَّهْرَوَرْدِى” الكاشفة إلى نصِّ هو من الأهمية بمكان، كان “الزَرْكَشِي” شَرَطَهُ في “برهانه” حيث قال:” أصلُ الوقوف على معاني القرآن التَّدَبُّر والتَّفَكُّر. واعْلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي حقيقةً، ولا يظهر له أسرار العلم من غيب المعرفة وفي قلبه بدعة أو إصرار على ذنب، أو في قلبه كِبْرِ أو هوى، أو حُبّ دنيا، أو يكون غير متحقق الإيمان، أو ضعيف التحقيق، أو معتمداً على قول مُفَسِّر ليس عنده إلا علم الظاهر، أو يكون رَاجِعَاً إلى معقوله، وهذه كلها حُجُب وَمَوَانع، وبعضها آكد من بعض…”.

وفهم القرآن هو أول ما يُقَابلنا من جهة المقاصد؛ ليُشكل بجانب الحضور أركان الذاتية الخَاصَّة للقرآن، وإنما المُرَادُ من فهم القرآن أن تريده وحده هو عينه المُراد من الخَاصّة الذاتية له، وفي تلك الخاصَّة الذاتية بشرى ورحمة: “فبشر عباد، الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسَنه، أولئك هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب” (سورة الزمر: آية  17- 18).

فإذا وصفهم – سبحانه – بأنهم أولو الألباب، كان هذا الوصف وصفاً على المدح العاقل لفهم، من جانبهم، للخاصّة الذاتية في استماع القول وإتباع أحسنه؛ فهو من جهة حدَّد الإطار النظري في كلمة “استماع القول”، أي جَعْل القول مناط “العلم” أولاً، ومن جهة أخرى قَرَنَ النظر بالتطبيق تَوَخِّياً للفاعلية العملية (أي المعاملة)

ثم جَعَلَ العمل والسلوك سياجاً حافظاً في المسارعة إلى مَحَابّ الله وتجَنّب مساخطه.

هذه إرادةُ مُغيِّرة تأتي كما لو كانت لبنة جذريّة وأساسية تشكِّل ذاتية القرآن الخاصَّة، إذْ تستحقُ الوصف بالهدى مدحاً غير منقوص ووصفاً بالعقل الذي هو اللب. وذلك ضربُ لا شك فيه من الاعتقاد السَّاري دوماً في فهم القرآن على الصفة المَخْصُوصَة بذاته لا بسواه، ولذاته لا لغيره، من أجل ماذا؟ من أجل “إرادة التغيير”.

ولقد سبقت لنا الإشارة في الكلام عن الحُضور: أنه ذو دلالة على قوة العقل يتولد عنها ذكاءُ الذهن، فيقوى الفهمُ ويستبينُ فيه اليقين، ويصفو من ثمَّ مع استبانة اليقين؛ يصفو الذكر مع قوة الفكر في آي القرآن. واعتبرنا أن هذه الخَاصَّة الذاتية التي تترتب على الحضور هي من موروثات الممارسة ومن ثمار المعاناة في ممارسة الحضور دوماً وفي غير سَهَيَان، وقلنا إن من شأنها أن تتغلغل في عمق داخلي “جُوَّانيِّ” يراها من يطبقها، لا بتعّلم ولا باكتساب؛ بل بهزَّةٍ لدُنيَّةٍ مُفَاضة فيضاً من عند الله: فَيْضٌ في فضل، وفضلٌ من فيض: “قُل بفضل الله وبرحمته؛ فبذلك فليَفْرحُوا هو خيرٌ مَمَّا يَجمَعُون” (سورة يونس: آية 58).

لم نكرر هذا المعنى من جانبنا إلا لتوضيح أمرين اثنين،

 الأول: يتصل بموقف القرآن من العلم، وهو موقف جوهري أصيل يرتبط ارتباطاً مباشراً بحرية العقل المقرّرة سلفاً في الإسلام.

والأمر الثاني: يتصلُ بشرط الحضور في القرآن؛ كون “العلم” فيه شروعاً في التطبيق، ووقوفاً على المباشرة العملية والممارسة الفاعلة.

- القرآن والعلم:

فأمّا الأمر الأول: فهو الذي نتوقف عنده تلك الوقفة؛ لنُجلي بعض عناصره بالنظر فيما صاغه الأستاذ الفاضل محمد فريد وجدي في مقدّمة المصحف المُفسر، وفيما أبداه الدكتور محمد غلاب عن موقف الإسلام من العلم في كتابه “هذا هو الإسلام”؛ ففي هذين الرأيين من تشابه في الوجهة الدفاعية عن الإسلام، وفي توضيح صورة الإسلام الحقيقية خلال تعاليم القرآن ما من شأنه أن يمكننا من ملاحظة قدر انعكاس المعارك الفكرية التي خاضها أمثال هذين العالمين الجليلين مع غير المسلمين من المستشرقين حول الإسلام وقضاياه الكبرى. ومنها على سبيل المثال لا الحصر قضية إنكار موالاة الإسلام للعلم والدعوة إليه والحضّ عليه والإخلاص فيه. واعتبار القرآن – كتاب المسلمين المقدّس – عائقاً للنظر العقلي كما كان يُشَاع لدى بعض المستشرقين.

ولم يكن الفهم – موضوعنا كشرط للخاصّة الذاتية للقرآن – ببعيد مطلقاً عن حرية العقل والعلم، ولم يكن العقل على الإطلاق مُضاداً للدين كما هو مُقرّر في الإسلام؛ فما بين الفهم والعقل والعلم وشائج وصلات لا تختلف كثيراً في روابطها المعرفية وتوجُّهاتها لوحدة القصد في آي القرآن الكريم؛ فالعلم كقيمة من القيم النافعة الباقية لن تقوم له قائمة بغير إعمال العقل.

ولن يكون للعقل ولا للقيم العقلية والمعرفية وجودٌ فعليّ مؤثر على الحقيقة، بغير الفهم الذي هو أحد الأدوات الظاهرة لشهود العيان في استخلاص القيم المعرفية والعلميّة. ولم يكن الحارث بن أسد المحاسبي (ت243هـ) ببعيد عن الصواب حين صَنّفَ أحد كتبه الممتازة (العقل وفهم القرآن)؛ ليكون إشارة قريبة دالة على توحيد المعرفة العقليّة، واتصالها مع فهم القرآن على شرط العلم النافع المُوَجَّه لوَحْدَة القصد. ولا سبيل لفهم الدين إلا بالعقل الذي تنشأ عن فرط استخدامه ملكات التفكر والتّدبُّر والإحالة والتحقيق.

لقد كانت هنالك دعوى عريضة تبناها نفرُّ من المستشرقين الأوروبيين الذين أرادوا الطعن على الإسلام كان منهم من قال: إنّ الإسلام يُحارب الفكر، ويقضي على حرية الرأي، ويحظر على معتنقيه الاشتغال بالعلم الدنيوي، ويقوّض من ثمَّ دعائم الإبداع الإنساني، ولم يبح لأشياعه إلا العناية بالعلوم الدينية؛ وإنه ليعتبر التبحر في العلوم الطبيعة ضرباً من الزندقة التي تستوجب العقاب. وأن القرآن، كتاب المسلمين المقدس، عائقٌ للنظر العقلي كما كان يقول المستشرق الفرنسي (أرنست رينان Ernest Renan (1823- 1892) الذي أقام تفكيره الاستشراقي كله في التعامل مع العرب والمسلمين على الأفكار العنصرية مُفرّقاً بين العقل السامي والعقل الآري، ومؤمناً في إطار تلك التفرقة بالنهضة الكبيرة التي تحدثها أوروبا نظراً لما توليه المجتمعات الأوربية للعلم من اهتمام. ولقد تصدى لأفكار “رينان” كثيرٌ من المفكرين المصلحين أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومصطفى عبد الرازق وفندوا دعواه الباطلة كل التفنيد.

ليس هذا فقط، ولكن أيضاً ردَّدَ المستشرقون من ضمن دعواهم: أن ما عثر عليه التاريخ لدى المسلمين من معارف فكرية هو دخيل عليهم – ليس بأصيل فيهم – من الإغريق وفلاسفة اليونان يرجع الفضل في ترجمته إلى خلفاء العباسيين الذين ورثوا سعة الأفق من أمهاتهم الفارسيات، أو أوحى بها إليهم وزراؤهم ومستشاروهم من الفرس والمسيحيين.

ولم يكن السبب كافياً لقيام تلك الدعوى أو قيام غيرها من دعوات المستشرقين لولا وجود نفرٌ بين المسلمين زعموا على الجهالة أن العقل عدو الدين، ولا سبيل لفهم الدين بواسطة العقل، حتى كان من ضمن الأفكار التي نادوا بها عدم إقرارهم بالعجز عن إدراك ذات الخالق وتشبثهم بوصفه بما يروق لعقولهم، وترضاه لهم مداركهم، وحَمْل الناس على اعتقاد ذلك، والعمل به ومعاقبة كل من يناقشهم فيه.

ومنها: حسبانهم مسائل خلق الكون من الدين وتقدير الطبيعة بحسب أفكارهم وقصر قواها وعجائبها على ما وصل إليهم من الأقاصيص القديمة الخُرافية. على حين كانت أوروبا تدين بمبدأ هام في العلم التجريبي وهو أن لكل ظاهرة طبيعية علة ناموسية تفصلها فصلاً تاماً عما بعد الطبيعة. ومعنى هذا أن مؤثرات الكون محتواة فيه، ليست خارجة عنه، ولا آتية إليه من عالم أسمى كما تقول المسيحية أو الفلسفة. وقد نجم عن هذا بالضرورة فصل العلم عن الدين وعما وراء الطبيعة.

يرفض الإسلام أن يكون العلم وثناً من الأوثان؛ فلم تصغر الإنسانية قط كما صغرت الآن بوساطة العلم المادي الذي يقضي عليها أو يكاد بالانزواء في ركن ضيق محدود من أركان الوجود، وهو ركن التجربة الحسيّة، مادام أنه يحاول جهد الطاقة أن يفقدها كل اتصال يتجاوز حدود المحسّات، ويحملها على جحود كل ما يتعدى أفق المرئيات.

ولكن مع ذلك كله، فقد بلغ الغلو في حمل الناس على هذه الأغاليط بالخلط بين العلم التجريبي والمبادئ العلمية المقررة في القرآن وقياسها على كشوفات العصر؛ ليقال للناس: إمّا هذا وإمّا ذاك، إمّا أن تأخذوا بالعلم التجريبي وكفى، وإمّا أن تتخلفوا عن ركب التقدّم، فظهرت العداوة بين الدين والعلم أو بين العقل والحرية أو بين الفهم وترقية الأذواق والمعارف إلى حد أنهم تربصوا بكل ما يشمون فيه بارقة الحرية العقلية فنكلوا به شرّ تنكيل وأذاقوه العذاب الوبيل، فكم أحرقوا من علماء، وصلبوا من حكماء، وسموا من نبلاء أذكياء، حتى شوهوا وجه الحق مذهبهم وجعلوه عنوان العَسَف والإجحاف بعد أن كان الدين رائد العدالة والإنصاف.

ومهما يكن من شيء؛ فإن تاريخ الإسلام الطويل المفعم بعظائم الأحداث وجلائل الوقائع، لم يحدثنا مرة واحدة أن الإسلام قد حاول، أدنى محاولة، أن يحطم مدنية أمة من الأمم التي فتحها، ووضعها تحت إمرته، وأخضعها لرايته، وإنما كان دائماً يطبعها بطابعه ثم يضمها ويحولها إلى غذاء صالح يفيد أتباعه في دنياهم، أو ينبههم إلى ذكرى تنفعهم في آخرتهم.

ولا ريب أن مسلكاً هذا شأنه ونهجاً مليئاً بالحكمة إلى هذا الحد، ينمُّ عن سعة عظيمة في الأفق تعلوها درجة عالية من التسامح والاعتدال ليشف عن حجة بالغة ضد أولئك المتجنين على الإسلام، المسيئين إلى سمعته، زوراً وبهتاناً، بعزوهم إليه أنه كان – منذ أن وجد – حرباً ضروساً على الفهم والعلم، وعقبة كأداء في سبيل المعرفة والثقافة والتقدّم. ولا جَرَمَ أن هذا الاتهام البعيد عن الحقيقة بعد العدم عن الوجود: إمّا أنه ناشئ عن جهل وسوء فهم للمبادئ الإسلامية، وإمّا أنه شرر متطاير من نار الحقد والحفيظة وسوء النية واسوداد الطويّة.

وأيا ما كان؛ فإنّ الحقيقة التي لا مراء فيها هى أن البحوث العقلية والمجهودات الفكرية والمجادلات النظرية والمحاولات العلمية … وبالإجمال كل فروع المعرفة الإنسانية لم تحارب من الإسلام أية محاربة؛ بل على الضد من ذلك: أمر بها وشدَّد في الحض عليها.

ولا شك كانت هذه الجوانب من المعرفة البشرية هى التي كانت معروفة في تلك العهود باسم العلم الذي طالما أمر به القرآن الكريم، ورفعه إلى الأوج، وجعله في مقدمة الشئون الإسلامية، وأمعن في إبراز الفروق الهائلة بين العالم والجاهل؛ فشبه الأول بالأنوار، والثاني بالظلمات.

ولقد بلغت عناية القرآن الكريم بالعلم إلى حد أنه قرَّرَ أن الإنسان الذي يخشى الله أكمل الخشية، ويقدر جلال الألوهية حق قدرها، إنما هو العالم وحده: “إنما يخشى الله من عباده العلماء”. “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”. “وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور”. “وقل ربي زدني علماً”. “وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم”.

 ولمّا أراد الله تعالى أن يقطع حجة الملائكة الذين كانوا يبدون شيئاً من الدهش ممّا يوشك أن يكون شبه اعتراض على الحكيم العليم جل شأنه، حين أراد أن يجعل في الأرض خليفة:”قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدّس لك؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون”.

لم يجد شيئاً يلزمهم الحجة أكثر من إظهاره جهلهم بما يعارضون فيه، وبالإتيان بآدم الذي كانوا يعترضون على وجوده وإبرازه في صورة تفوقهم … ولكن لا في القوة، ولا في البطش، ولا في السلطان، ولا في الجاه، بل في العلم، وهو أسمى ما يتحقق به التفوق والامتياز:”وعلّم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إنْ كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلمّا أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السّموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون”.

هنالك يصبحُ العلم في القرآن كائناً حَيّاً، شأنه شأن القرآن نفسه، لم يكن ليغفله في الإحاطة والشمول إلا الغافل الذي لا يقف على حيويته المتحركة في إطار المأمور به فرضاً، فليس أعلى من طلب الزيادة منه، وليس أقدر على التفرقة لمن يعلم حق اليقين أن لا يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون. ولم تبلغ عناية القرآن بأمرٍ مقدار ما بلغت عنايته بالعلم في التجربة البشرية؛ كونه حياة حيّة خالصة للذين يقدرون عليه ويخلصون لله في طلبه والقدرة عليه. ولم تكن تزكية الله للعلماء أسمى ولا أرقى ولا أبلغ إلا لأن المعرفة في إطار العلم هي غاية الغايات من عمل الأصفياء.

فالعلم طريقُ معرفة الله لا محالة؛ لأنه يصحب العالم في طريق الله من حيث أمر ومن حيث نهى؛ فيحفظ الطويّة العالمة بإقامة الدليل من غواشي الانحراف. وما يستوى الذين يعلمون بالحجة البرهانيّة مع الذين يجهلونها، ولا يعلمون لا في غاية ولا في هدف ولا في تحقيق منشود.

- قليلٌ العلم خيرٌ من كثير العبادة:

ولم يكن نبيٌ الإسلام، صلوات الله وسلامه عليه، بأقل حرصاً على طلب العلم، وهو الذي سَبَقَ بنظراته الثاقبة باتجاه النظر إلى قيمة العلم كل القوانين المنهجية العلمية الحديثة التي تحرص شديد الحرص على الأمانة في العلم والدقة في نقله بأكثر من أربعة عشر قرناً … بل سبق قانون حماية المؤلفين ونصّ على أن الخيانة في العلم أقوى أثماً من الخيانة في المال، فقال: ”تناصحوا في العلم؛ فإنّ خيانة في العلم أشدّ من خيانة في المال”. ولا غرو فقد فهم المسلمون الأوّلون هذه الروح، وقدروها حق قدرها، وعضوا عليها بالنواجذ، فواصلوا الليل بالنهار لتحصيل العلم والتعب في طلبه، وإحراز المعرفة، ودراسة المشكلات، والتفاني في حلولها. وفي هذا يقول قائلهم: ”العلم لا يضبط باللجام، ولا يصاد بالسّهام، ولا يورث عن الآباء والأعمام. وإنما هو اقتحام المخاطر، واحتضان الدفاتر، واصطحاب المحابر”.

حقيقةً؛ يوم أن فارق المسلمون تلك القيم العلويّة المباركة في طلب العلم وتحصيله، شاعت فيهم الفوضى، وتخلفوا عن ركب الحضارة، وسقطت فيهم قيم القرآن وقيم نبي الإسلام؛  فأصبح العلم لديهم حلية برّانيّة يتزيّنون بها: شارة أو علامة أو مكانة اجتماعية يراءون بها الناس.

لم يكن العلم في التجربة البشرية حقيقة بقدر ما هو صورة برانيّة سرعان ما تزول، ولم يكن طلباً لطريق الآخرة أو مباشرة لوحدة القصد، ولكنه أضحى اليوم بين الناس طلباً لسَعَرِ الدنيا والتنافس الغبي على الزائل الرخيص فيها؛ فانهارت القيم التي يتولّاها العلماء، إذْ زالت عنهم منافع العلم وآدابه، ولم تعد تشيع فيهم قيمه العليا مثل شيوعها أيام المجد الأول: مجد الدين ومجد الدنيا على السّواء.

ولا شك أن الظلام الفكري تعيشه أمتنا اليوم، لهو أدلُّ من أول وهلة على سقوط القيم العلميّة عنه في مستنقع آسن من الآفات والأمراض، واستبدال الحظ الأدنى بالذي هو خير؛ لأنه إذْ ذَاَكَ يعزل الفهم عن العقل، ويعزل العقل عن المعرفة، ويعزلهما جميعاً مرة ثالثة عن قيم القرآن ومبادئه التأسيسية في ظل التجربة البشريّة، ويكتفي فقط بتحصيل القشور القاحلة منها، ثم يعزل العلم عن قيمه الوجوديّة والمصيريّة التي تخدم الفرد فضلاً عن خدمة المجموع.

شدّدت الأحاديث النبوية الشريفة على القيم العلميّة كونها مبادئ أولية في الأمر بالتعلم والتعليم تشديداً لا نظير له في أي دين من الأديان الأخرى؛ فمن ذلك مثلاً قول النبيّ الجليل عليه السلام في الحض على التعلم: ”طلبُ العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة”. “أغدُ عالماً أو متعلماً أو مستمعاً أو محبّاً، ولا تكن الخامس فتهلك”. “قليل العلم خيرٌ من كثير العبادة”.

ولم يكن الأمر بالتعليم بأقل حظاً من الأمر بالتعلم بل هو أشدّ لهجة، وأقسى إنذاراً وتهديداً لمن يكتمون العلم أو لا يحرصون على نشره. وفي هذا يقول صلوات الله وسلامه عليه:” من سئل عن علم فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار”.

وكما استعمل النبيّ في هذا أسلوب الترهيب من عاقبة كتمان العلم واحتكاره، إلى حد أن أنذر العالم الذي يكتم علمه بأن يُلجم يوم القيامة بلجام من نار؛ كذلك سَلك نهج الترغيب بإزاء من يجود بعلمه، ولا يألوا جهداً في بذله لكل من هو في حاجة إليه، فقال صلوات الله وسلامه عليه: ”ساعة عالم متكئ على فراشه ينظر في علمه، خيٌر من عبادة العابد ستين عاماً”. ” أجودكم بعدي رجل علم علماً فنشر علمه … يبعث يوم القيامة أمّة وحده”. ويُلاحظ على هذه الكلمات النبويّة الشريفة إشراق المقاصد العلويّة النافعة قيماً دينيةً في الإسلام تربط الدنيا بالآخرة، وعمل المسير بالمصير، فيجيء طلب العلم أسمى وأرقى ما في الحياة الإنسانية؛ ليتحوّل في العالم الحق إلى تجوهر الشخصية فيه؛ لتكون وَحْدَة القصد من خلاله هى المطلوبة قصداً ورأساً. فالحياة الإنسانية بدون سعي العالم والمتعلم على سلامة النية باتجاه النظر إلى وحدة القصد، لا قيمة لها، ولا مبرر لإصلاحها، ولا جدوى على الإطلاق بالبقاء فيها إلا كما تبقى السوائم السارحة بغير غاية عظمى أو هدف نبيل. كل المقاصد الدنيا الساقطة تزول بزوال مطالبها القريبة.

ولن يبقى في النهاية إلا ما هو خالص في ظلال التجربة البشريّة: المقاصد العليا والمطالب الموصولة بوصلة السّعة والحضور بين يدي الله.

تلك كانت، بلا شك، قيماً نافعة تتضمّن مبادئ مطلقة لا غنى عنها بحال من الأحوال، يصبح التخلي عنها تخلياً في نفس الوقت عن كل نافع يبقى مع الزمن، وفيما وراء الزمن، ثم إنها لتقدح بالجملة في زعم الزاعمين أن الإسلام يحارب العلم أو يضع العقبات في طريق المعرفة. فليس أدعى للدهشة الغربية من النظر إلى دين يرفع من قدر العقل ويؤمن بالعلم والقيم العلميّة، ويعالج “الفهم” كخاصّة ذاتية للقرآن الكريم ثم يكون في نفس الوقت هو نفسه الدين الذي يُحارب العلم ويحدُّ من حدود المعرفة العلمية والعقليّة. إنها ولا ريب لفرية كاذبة يستغربها ولا يسوّغها أدنى ناظر إلى القرآن، وقيم القرآن في التجربة البشرية، من قريب.

ولا شك كانت تلك القيم نفسها هى التي برهن بها علماء المسلمين ممّن عبّروا عن الاستنارة الفكريّة في التراث الإسلامي على سماحة هذا الدين وبخاصّة في مسائل العلم: وذلك حين استقبلوا – كما يقول محمد غلاب (هذا هو الإسلام) – كل أنواع التراث الأجنبي القديم من معرفة إغريقية وترجمات يونانية وحكمة هندية وديانة فارسية، وضمّوه إلى كيانهم المتين، وفعلوا به ما تفعل النحل بالزهور التي تمصّها، ثم تعمل فيها عملها فتحولها إلى شراب مختلف ألوانه فيه للناس شفاء. وسرعان ما أنتجت هذه الخطة الحكيمة: من قادة المفكرين وأفذاذ الفلاسفة وأصناف المجتهدين وجهابذة العلماء وأفاضل المشرّعين من زينوا – ولا يزالون يزيّنون – أروع صفحات التاريخ” (يراجع: هذا هو الإسلام: ص: 31).

تلك كانت نقطة جديرة بالالتفات بكل تأكيد، تُوحي بالانفتاح لا الانغلاق والتقوقع، وتقدر ثقافة الآخرين ومعارفهم وتدل على سماحة “المبدأ” بإزاء العلم يعطيك إيّاه الإسلام، فلم يكن لينقبض عن لقاء كافة الثقافات، ولا أن ينظر إليها نظرة مُغايرة بل هضمها واستوعبها وعمل فيها ذائقته حتى شكلت تباعاً نسيج ثقافته ومقومات ابداعاته.

ولئن كانت جوامع الكَلِم النبويّ تشرق فيها المقاصد العلويّة قيماً دينية في الإسلام يتخذها العالم فيمضي على هداها إلى حيث يكون العلم قيمة خيّرة في ذاتها، فعلى العكس من ذلك تماماً يصبح العلم الذي يدمّر البشرية مادةَ شرِّ كله، ومقصد رعونة في أشخاصه وميادينه لا يعود بالنفع العاجل ولا الآجل على أحد، ولكنه يكون مجال تنافس مادي بين الناس، يشوّه خلق الله، ويقوّض دعائم الأسرة الإنسانية، ويقضي على براءة الحياة ويحيلها إلى سوادٍ ومأساة.

العلم في يد العالم المتحقق بالمقاصد الدنيا رعونة وتدمير، يستخدم في الحروب التي تحركها القيم المادية والاقتصادية، فليس ينفع الإنسانية في شيء بل يقضي عليها ويحليها إلى خراب مُحقق وهلع منكوب. وهو في يد العالم المتحقق بالمقاصد العلويّة أنفع وأبقى، وأصلح للإنسانية في سعيها المتواصل نحو تذليل الكون وتسخيره وترقية التجربة البشريّة، ثم الاتصال بالله على شرعة العمل النافع والمقصد المفيد.

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم - أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف جامعة أسوان

مدخل عام: في عام 2000، قدم عالم الكيمياء الجوية الحائز على جائزة نوبل بول كروتزن مفهوم الأنثروبوسين باعتباره اسم الفترة الجيولوجية التي تلت الهولوسين. بدأ الهولوسين منذ حوالي 12000 سنة، ويتميز بالظروف المناخية والبيئية المستقرة والمعتدلة نسبيًا والتي كانت مواتية لتطور المجتمعات البشرية. حتى وقت قريب، كان للتطور البشري تأثير ضئيل نسبيًا على ديناميكيات الزمن الجيولوجي. وعلى الرغم من وجود خلاف حول التاريخ الدقيق لميلاد الأنثروبوسين، فمن غير الممكن إنكار أن تأثير النشاط البشري على البيئة المناخية أصبح أكثر وضوحًا منذ الثورة الصناعية فصاعدًا، مما أدى إلى وضع يُنظر فيه الآن على نطاق واسع إلى أن البشر لديهم تأثير بيئي جيولوجي حاسم على النظام الحيوي الفيزيائي للأرض. والمثال الأكثر وضوحًا هو تراكم الغازات المسببة للانحباس الحراري العالمي مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان في الغلاف الجوي والتغييرات التي يسببها ذلك في ديناميكيات المناخ. ومن بين الأسباب الأخرى التجانس المتزايد للتنوع البيولوجي نتيجة لهجرة الأنواع الناجمة عن أنشطة الإنسان، والانقراض الجماعي وفقدان التنوع البيولوجي، وتصنيع الأنواع الفرعية الجديدة من خلال التعديل الجيني، أو العواقب الجيوديسية الناتجة عن، على سبيل المثال، بناء السدود الكبيرة، والتعدين، وتغير مستويات سطح البحر. هناك دعوة للخروج من عصر الأنثروبوسين واستكشاف التغيير الجذري في علاقتنا بالطبيعة ولقد لعبت الطرق التي تتعامل بها المجتمعات والمؤسسات والمواطنون مع الطبيعة وتقدرها دورًا رئيسيًا في الأزمات المترابطة المتعلقة بالتنوع البيولوجي وتغير المناخ والموارد الطبيعية والصحة التي نواجهها. نستكشف هذا المداخلة كيفية إعادة صياغة العلاقات بين البشر والطبيعة. ونبحث في كيفية أن يؤدي الفهم الشامل للترابط العميق بين البشر وأشكال الحياة والنظم البيئية الأخرى إلى دوافع جديدة لحماية الطبيعة وتسريع التحول المجتمعي الذي نحتاجه للعيش بشكل جيد ضمن حدود الكوكب. فكيف يتراوح وجود البشر بين نهاية الطبيعية والتغيرات المناخية وبين البيئات غير المناسبة وحالة ما بعد السياسية؟

التسارع نحو عصر الأنثروبوسين

إن حجم السكان البشريين وكثافة الأنشطة الاقتصادية والتكنولوجية البشرية تؤثر بشكل كبير على المحيط الحيوي والغلاف الجوي للأرض. فنحن نغير المناخ؛ والتركيب الكيميائي للغلاف الجوي والمحيطات والتربة والمناظر الطبيعية. في الوقت نفسه، نتوسع على حساب أشكال الحياة الأخرى. وتؤدي هذه التغييرات إلى تآكل قدرة الكوكب على دعم الحياة كما نعرفها - ونحن نقترب بشكل مقلق مما يعتبره البعض "حدودًا آمنة" أو حتى نتجاوزها. إن نطاق التغيير عميق للغاية لدرجة أن العلماء كانوا يقترحون منذ حوالي قرن من الزمان مفاهيم جديدة لوصف الفترة الجيولوجية التي نعيش فيها الآن. لقد اقترحوا أننا لم نعد نعيش في العصر الهولوسيني، بل في "عصر الأنثروبوسين" و"المجال النووي" و"الهوموجينوسين"، ومؤخراً "الأنثروبوسين". في حين أن مصطلح "الأنثروبوسين" جديد نسبياً، فإن القضية الأساسية راسخة جيداً. ففي العالم الغربي، أكد الكاتب والبستاني الإنجليزي جون إيفلين في عام 1662 على الحاجة إلى العناية بالأرض ونباتاتها وتربتها ومياهها وهوائها . وعلاوة على ذلك، فإن تأثير ثاني أكسيد الكربون الناتج عن الاحتراق على المناخ العالمي - والذي أطلق عليه "تأثير الاحتباس الحراري" - كان قد تم وصفه بالفعل في القرن التاسع عشر . ثم قبل 300 عام من إيفلين (1662)، نشرت راشيل كارسون كتابها الربيع الصامت ، والذي أثار الوعي العام والسياسي بالأضرار البيئية الناجمة عن الأنشطة الصناعية. وبعد بضع سنوات، أشار كتاب حدود النمو لنادي روما إلى احتمال تجاوز الموارد وانهيار عدد السكان البشريين ورفاهتهم في ظل "سيناريو العمل المعتاد". وتتوافق مثل هذه التقديرات مع الملاحظات الأخيرة . وعلى الرغم من هذه المخاوف المبكرة، استمرت البشرية في الانتقال إلى عصر الأنثروبوسين بسرعة متزايدة. وعلى وجه الخصوص، شهدت الفترة منذ الخمسينيات من القرن العشرين - والمعروفة أيضًا باسم "التسارع العظيم" - تغيرًا عالميًا غير مسبوق ومتسارعًا من صنع الإنسان. لقد تم توثيق تدمير الموائل الطبيعية، والضرر الواسع النطاق للنظم الإيكولوجية وانقراض الحيوانات والنباتات علميًا دون أدنى شك. وينطبق الشيء نفسه على تغير المناخ المستمر والتغيير الكبير في التدفقات البيوكيميائية. يكرر العلماء هذه الرسالة باستمرار. ومع ذلك، فإن المعرفة وحدها لا تكفي للعمل. يستمر التسارع العظيم . إن حجم التغيير غير مسبوق. يحذر العلماء من حدث الانقراض الجماعي السادس الذي قد يؤدي إلى اختفاء العديد من أشكال الحياة بحلول نهاية القرن. يوضح تقدير حديث التأثير الذي أحدثه البشر على التنوع البيولوجي: من إجمالي الكتلة الحيوية للثدييات، يمثل البشر 36٪ وتمثل الماشية 60٪، بينما تمثل الثدييات البرية 4٪ فقط . إن الأرض تشهد خسارة سريعة للغاية للتنوع البيولوجي: حيث 75% من البيئات الأرضية و66% من البيئات البحرية "تغيرت بشدة" بسبب الأفعال البشرية . كما يرتبط الانحدار السريع في التنوع البيولوجي ارتباطًا وثيقًا بتغير المناخ. وعلى حد تعبير منصة العلوم والسياسات الحكومية الدولية المعنية بالتنوع البيولوجي وخدمات النظم الإيكولوجية والهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، "إنهما يشتركان في المحركات الأساسية، ويتفاعلان ويمكن أن يكون لهما تأثيرات متتالية ومعقدة تؤثر على نوعية حياة الناس وتهدد الأهداف المجتمعية". وتشير التقديرات إلى أن الأنشطة البشرية تسببت في ارتفاع درجة حرارة العالم بنحو 1.2 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة، في المتوسط، مما أدى إلى ارتفاع في الظواهر الجوية والمناخية المتطرفة . وقد دفع هذا الأنظمة الطبيعية والبشرية إلى تجاوز قدرتها على التكيف، مع تأثيرات لا رجعة فيها . تتعرض سبل العيش والصحة والمياه والغذاء والأمن الطاقي لتهديد متزايد بسبب تغير المناخ. ومع توقع ارتفاع درجة حرارة الأرض بمقدار 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة في الأمد القريب، فمن المتوقع حدوث زيادات لا مفر منها في المخاطر المناخية المتعددة والمخاطر التي تهدد النظم البيئية والبشرية.

لقد كرر العلماء المعنيون مؤخرًا تحذيراتهم بشأن حالة الطوارئ المناخية غير المسبوقة والحاجة الملحة إلى اتخاذ إجراءات حثيثة. في قلب التسارع العظيم تكمن مجموعة من العوامل المتفاعلة المتعددة، بما في ذلك التقدم العلمي والتكنولوجي وزيادة مستويات المعيشة ومتوسط العمر المتوقع. وقد جعل هذا النوع البشري فعالاً بشكل لا يصدق في استغلال الطبيعة وتوسيع سكانه بشكل كبير . في حين كان عدد السكان المتزايد هو المحرك الرئيسي للضغوط البيئية، فقد تغير هذا عند مطلع الألفية. لكن، يعد الاستهلاك المتزايد هو العامل الأكثر أهمية في دفع التأثيرات البيئية العالمية. ومع ذلك، فإن المسؤوليات التاريخية والحالية عن الضغوط الكوكبية التراكمية موزعة بشكل غير متساوٍ اعتمادًا على الجغرافيا والثقافة ومستوى التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثروة والرخاء. يتميز تاريخ الدول الغربية بالاستعمار والاستيلاء والتسليع. تاريخيًا، تتحمل هذه البلدان أيضًا المسؤولية عن أعلى مساهمة في انبعاثات الغازات المسببة للانحباس الحراري العالمي، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى الثورة الصناعية التي غذتها الموارد الأحفورية . علاوة على ذلك، كانت الدول ذات الدخل المرتفع مسؤولة عن 74٪ من المواد الزائدة المستخدمة عالميًا بين عامي 1970 و 2017 . في عام 2015، على المستوى العالمي، انبعثت من أعلى 10٪ من أصحاب الدخل أكثر من ضعف كمية ثاني أكسيد الكربون مقارنة بأدنى 50٪ من أصحاب الدخل. يشير هذا إلى قضية "العدالة المناخية": من المرجح أن يكون كبار الملوثين هم الأقل تأثرًا بتغير المناخ، في حين من المرجح أن يكون أفقر الملوثين وأقلهم تلوثًا هم الأكثر ضعفًا. في جوهره، "مجموعة صغيرة وثرية نسبيا مسؤولة عن معظم المطالبات بالموارد والأضرار البيئية - وبالتالي عن التهديدات الوجودية التي يواجهها السكان الفقراء بشدة". خلال العقود القليلة الماضية، أصبح من الواضح بشكل متزايد أنه لا يوجد حل بسيط وسريع للتحديات التي تواجهها البشرية في عصر الأنثروبوسين. التحديات منهجية ولها علاقة بكيفية ارتباط الأفراد والمجتمعات والمؤسسات بالطبيعة وتصرفهم تجاهها. فيما يلي، نسأل عن أنواع العلاقات التي ينشئها البشر في عصر الأنثروبوسين مع الطبيعة وكيف يمكن أن تتغير هذه العلاقات للانتقال إلى عصر الاستدامة.

تطور العقليات المؤسساتية

إن استغلال الطبيعة جزء من التاريخ البشري. لقد طور النوع البشري المهارات والمعرفة والتكنولوجيا لمقاومة القوى والتهديدات الطبيعية والتغلب عليها. في اعتمادنا على الطبيعة، حدد البشر أيضًا تضاربًا أساسيًا في المصالح. مع توسع الحضارة البشرية وتطورها، كانت هناك حاجة إلى المزيد من المساحة والموارد، وتم تدجين أو تدمير أنواع أخرى. ومع ذلك، كانت هناك ولا تزال مجتمعات وثقافات حيث لم يحدث الاغتراب عن الطبيعة وتسليعها بنفس القدر. في العالم الغربي، خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أصبح الوعي البيئي مؤسسيًا تدريجيًا باعتباره الحفاظ على البيئة. في حين تم إعلان المحميات الطبيعية في وقت مبكر يعود إلى عام 1569 (في سويسرا)، جعل الكونجرس الأمريكي من يلوستون أول حديقة وطنية في العالم في عام 1872؛ وتبعتها كندا والدول الأوروبية على مدى العقود التالية . بدأت المؤسسات الدولية التي تركز على الحفاظ على البيئة في الظهور في القرن العشرين، جنبًا إلى جنب مع ولادة النظام المتعدد الأطراف. على سبيل المثال، تأسس الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة في عام 1948 وتأسس صندوق الحياة البرية العالمي في عام 1961. مع إعلان ستوكهولم في عام 1972 ، تم إنشاء برنامج الأمم المتحدة للبيئة. كان الحفاظ على البيئة هو الاستجابة المؤسساتية الأولى لتغيير وتدمير الطبيعة الناجم عن التوسع البشري. لا يزال الحفاظ على البيئة حجر الزاوية في الحوكمة البيئية، لكن قوته تكمن أيضًا في حدوده: فهو ينظر إلى القضية من منظور المصلحة البشرية والأنثروبوسينية بدلاً من الاهتمام البيولوجي أو البيئي بالحفاظ على الطبيعة "الخالصة". وعلى هذا، فإذا ما اعتُبِرت صحة الإنسان أو بقاؤه أو رفاهته على المحك، فمن الصعب تبرير سياسات الحفاظ على البيئة سياسياً. وفي الوقت نفسه، يمتلئ تاريخ الحفاظ على البيئة بحالات انتهاك حقوق الإنسان، مع الإبلاغ عن عمليات الإخلاء القسري وتهجير الشعوب الأصلية والمجتمعات المحلية باسم الحفاظ على البيئة البحرية والبرية في جميع أنحاء العالم . لقد أعادت لجنة برونتلاند وتقريرها "مستقبلنا المشترك" النظر في قضية حماية البيئة من خلال التأكيد على القيمة الآلية للطبيعة بالنسبة للبشر. ووفقاً لهذا التقرير، فإن الطبيعة تشكل جزءاً من الموارد المشتركة العالمية، نتيجة للموارد التي توفرها لنا. على سبيل المثال، ينبغي حماية الغابات المطيرية لأنها تمتص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وهي مستودعات للأدوية غير المكتشفة. وقد شكل تقرير برونتلاند وقمة الأرض وإعلان ريو اللاحق نقطة تحول في العقلية المؤسساتية في عصر الأنثروبوسين. فقد تغير التفكير السائد من حماية الطبيعة ضد البشر، كما كان الحال، إلى حماية الطبيعة لتعزيز التنمية البشرية. وقد جعل هذا التغيير من الممكن سياسياً تطوير سياسات دولية أكثر طموحاً فيما يتصل بالتنوع البيولوجي (مثل أهداف آيتشي لاتفاقية التنوع البيولوجي) والتنمية المستدامة بشكل عام (ولا سيما أهداف الألفية الإنمائية للأمم المتحدة وأهداف التنمية المستدامة في وقت لاحق). وقد تم تحدي هذه الطريقة في التفكير مؤخرًا ، الذي يزعم أنه لمعالجة أزمة التنوع البيولوجي وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، يحتاج صنع السياسات إلى التأكيد على النطاق الواسع لقيم الطبيعة التي تتجاوز القيم السوقية . منذ عام 1973، اعتمد الاتحاد الأوروبي ثمانية برامج عمل بيئية ، تحدد أهدافًا متعددة السنوات ومجموعة واسعة من القوانين البيئية (أو المكتسبات). يعد الحفاظ والاستعادة حاليًا موضوعًا لاهتمام متجدد في سياسة الاتحاد الأوروبي. على سبيل المثال، تنص استراتيجية التنوع البيولوجي في الاتحاد الأوروبي على أنه "يجب تخصيص ما لا يقل عن 20 مليار يورو سنويًا للإنفاق على الطبيعة"، ومن المتوقع تحقيق نتائج إيجابية إذا أمكن تحقيق هذا الهدف. وبالمثل، فإن المتطلب القانوني لاستعادة الطبيعة على نطاق واسع الذي حدده قانون استعادة الطبيعة الجديد في الاتحاد الأوروبي يمكن أن يؤدي إلى نتائج إيجابية مهمة. في حين أن هذه التطورات مشجعة، فإن الوضع خطير للغاية ويشكل تحديًا كبيرًا: فأوروبا حاليًا بعيدة كل البعد عن تحقيق أهدافها الخاصة لحماية الطبيعة والحفاظ عليها واستعادتها وصيانتها، على الرغم من تشريعاتها المتقدمة في هذا الشأن. تبرر المبادرتان السياسيتان المذكورتان الحماية والاستعادة من خلال تسليط الضوء على مجموعة متنوعة من الخدمات التي تقدمها النظم الإيكولوجية والأنواع الأخرى. ومع ذلك، فإنهما لا يذكران أي قيمة جوهرية للطبيعة. وعلى نحو مماثل، تعتبر الصفقة الخضراء الأوروبية الطبيعة شكلاً من أشكال رأس المال - والهدف هو "حماية رأس المال الطبيعي للاتحاد الأوروبي والحفاظ عليه وتعزيزه" - مع الاعتراف بأن رأس المال الطبيعي يتجاوز الموارد الاقتصادية ويمتد إلى خدمات النظم الإيكولوجية المتعلقة بالصحة والسلامة. تعترف خطة العمل البيئية الثامنة للاتحاد الأوروبي بالحاجة إلى التغيير الشامل نحو اقتصاد الرفاهية حيث يكون النمو متجددًا. ومع ذلك، لا تزال تحدد هدف هذا التغيير من حيث تأمين الطبيعة باعتبارها "قاعدة موارد صحية" يمكن من خلالها استخلاص حلول قائمة على الطبيعة. إن القيد الرئيسي الذي يفرضه مفهوم "حماية الطبيعة لتعزيز التنمية البشرية" هو أنه يواجه مشكلة ضعف الاستدامة. وبعبارة أخرى، يُنظَر إلى الطبيعة باعتبارها شكلاً من أشكال رأس المال الذي يمكن استبداله بأنواع أخرى من رأس المال وتداوله. وبهذه الطريقة، يتم تفويض عملية التحول إلى الاستدامة إلى السوق، مع اعتبار المنطق الاقتصادي الأساس المنطقي الرئيسي للسياسة البيئية. على سبيل المثال، إذا كانت اكتشافات الأدوية في مختبرات التكنولوجيا الحيوية تجعل التنقيب البيولوجي التقليدي عتيقًا، فوفقًا لهذا المنطق، ستنخفض قيمة الغابات المطيرة، حيث ستقل الحاجة إلى مواردها الطبية. وهذا يعني أيضًا أن الجزء "غير المنتج" من الطبيعة الذي لا يوفر السلع والخدمات لصالح الإنسان لا يُعتبر "رأس مال"، ويقع ضمن فئة "التنوع البيولوجي الزائد عن الحاجة"، والذي من المرجح أن يظل غير محمي. إن عيوب هذا المنهج واضحة جدًا في مثال "مؤشر الثروة الشاملة". فعلى الرغم من الخسارة غير المسبوقة والمستمرة لرأس المال الطبيعي للفرد بين عامي 1992 و2014، فإن القيمة الإجمالية للثروة الشاملة للفرد لا تزال تشير إلى اتجاه إيجابي في نفس الفترة. وهذا يشير إلى خلل خطير في المنهجية، مما يشير إلى ضعف الاستدامة، وهو ما يتم الاعتراف به الآن بشكل متزايد. إن هذا النقاش ليس جديدًا على الإطلاق ولكنه محوري للغاية. لقد حاولت اتفاقية التنوع البيولوجي بالفعل التعامل مع قيود الاستدامة الضعيفة من خلال الإشارة إلى القيمة المتأصلة للأنواع الأخرى وقيمتها للبشر. وقد فعلت ذلك في مادتها الأولى من خلال إدراج القيم التي يمكن أن تكون اجتماعية وثقافية ولكنها ليست اقتصادية بالضرورة. ومع ذلك، عندما يتم تبرير الأهداف والإجراءات البيئية من حيث الفوائد البشرية، فإنها تصبح مدرجة في منطق نفعي وبالتالي يمكن تجاهلها بسهولة إذا كان من الممكن الحصول على فوائد أعلى من خلال الاستغلال المباشر للموارد الطبيعية. وعلاوة على ذلك، فإن هذا التقييم يستهدف بشكل أساسي تعويض "الأعراض"، بدلاً من العمل على الأسباب الجذرية لتدهور التنوع البيولوجي والنظام البيئي وفقدانه. لقد أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا في 28 يوليو 2022، يعترف بالبيئة النظيفة والصحية والمستدامة كحق من حقوق الإنسان. وفي حين أنه ليس ملزمًا قانونًا، يمكن لمثل هذا القرار أن يعمل كمحفز للعمل. وعلى نحو مماثل، هناك مناقشة جارية داخل الاتحاد الأوروبي حول المسؤولية المؤسساتية عن الأضرار البيئية، ومفهوم الإبادة البيئية والاعتراف بها في قانون الاتحاد الأوروبي. وإلى أبعد من ذلك، دعت الأصوات المنتقدة إلى المزيد من تطوير الاستجابات المؤسساتية للتحديات البيئية والايكولوجية. ويجادل البعض لصالح تشريع يمنح أشكال الحياة غير البشرية الأخرى حقوقًا، وحتى ميثاق الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية للطبيعة. ويضم التحالف العالمي لحقوق الطبيعة مئات المنظمات في جميع أنحاء العالم التي تدافع عن الحقوق القانونية للطبيعة والواجبات القانونية المقابلة للمجتمعات البشرية. وتتجذر هذه الحركات في أفكار الاستدامة القوية والبيئة العميقة، أي في الاعتقاد بأن الطبيعة والنظم البيئية والأنواع والأفراد غير البشرية والبشرية لها قيم لا يمكن تعويضها وجوهرية. قد يكون إدراج حقوق الطبيعة غير القابلة للانتهاك في القانون استراتيجية واعدة لتمكين الحماية والحفاظ عليها. ولكن مجرد الإعلان عن مثل هذه الحقوق لا يكفي ما لم يصاحبه تغيير مصاحب في القيم السياسية والوسائل العملية للتنفيذ. فالسياسات في المجتمعات الحديثة يصنعها البشر ولصالحهم، والتبريرات غير الأنثروبولوجية ضعيفة في ثقافتنا السياسية. وتعكس هذه الحقيقة طبقات ثقافية أعمق تفهم الطبيعة على أنها في معارضة للبشر، وهي الطبقات التي يمكن القول إنها تميز العالم الغربي. وما دامت العلاقة بين البشر والطبيعة تعتبر مسألة "نحن وهم"، فسوف نظل حبيسي "التسارع العظيم".

لا يتعلق الأمر بـ "نحن وهم"

لقد أثارت فكرة الأنثروبوسين العديد من الخطابات حول العصر نفسه، وحول الحاجة إلى الخروج منه وكيفية الخروج منه . إن الخروج من الأنثروبوسين من خلال إعادة التفكير في علاقتنا بالطبيعة، كما اقترح ألبريشت (2015)، هو اقتراح جذاب لأولئك المعنيين بتغير المناخ والتدهور البيئي، وفي نهاية المطاف، الانهيار المجتمعي. ومع ذلك، قد لا يتردد صداه عالميًا، حيث استفاد البعض كثيرًا من الأنثروبوسين والتسارع العظيم، بينما استفاد آخرون قليلاً جدًا. من منظور الاستدامة البيئية، فإن الحاجة إلى التحول العميق معترف بها على نطاق واسع. يسلط برنامج الأمم المتحدة للبيئة الضوء على الحاجة إلى تحويل علاقة البشرية بالطبيعة. في أوروبا، يدعو الآن برنامج العمل البيئي الثامن إلى التغيير النظامي. إن التحول الشامل للنظام وحده هو الذي سيحقق الرفاهة للجميع في حدود قدرة الأرض على دعم الحياة وتوفير الموارد وامتصاص النفايات. وسوف ينطوي هذا التحول على تغيير أساسي في التنظيم التكنولوجي والاقتصادي والاجتماعي للمجتمع، بما في ذلك وجهات النظر العالمية والمعايير والقيم والحوكمة . إن التطورات في العلوم والفلسفة يمكن أن تلهم المزيد من التغيير المؤسستي والسياسي. ويمكن النظر إلى الحفاظ والاستدامة الضعيفة والقوية على أنها خطوات أولية على طريق الخروج من عصر الأنثروبوسين ولكنها لا تزال تعكس عقليته: تفكير ثنائي يضع حدودًا حادة بين "نحن" البشر و"هم" غير البشر. ومع ذلك، فإن حدود هذه العقلية واضحة.

هل يمكننا "نحن" البشر أن نعتبر أنفسنا مستقلين حقًا عن "غير البشر"؟

وصف العلماء والباحثون الطرق العديدة التي يترابط بها البشر والأنواع الحية الأخرى والنظم البيئية . ومن المنظور البيولوجي والنفسي، فإن الفردية هي وهم. في حين أن الخصوصية والتفرد مهمان، فمن الأهمية بمكان أن نعترف بأننا مترابطون. يبدأ هذا بجسم الإنسان، الذي يعد بالفعل كائنًا حيًا فائقًا تلعب فيه آلاف الأنواع من المتعايشين (البكتيريا والعتائق والفطريات) دورًا في الحفاظ على صحة الإنسان. مع التوسع، تصبح جميع الكائنات الحية ونظمها البيئية مترابطة بشكل عميق من حيث المادة والطاقة، على سبيل المثال، على المستوى الأكثر أساسية، من خلال دورات المغذيات في المحيط الحيوي. تتشابك صحة الإنسان وصحة الأنواع الأخرى وصحة الكوكب ، وهي الرؤية التي يجسدها مفهوم "الصحة الواحدة". حتى أن عالمي الأحياء لين مارغوليس وجيمس لوفلوك اقترحا أن كوكب الأرض يمكن اعتباره كائنًا حيًا فائقًا في فرضية غايا. في حين تظل هذه الفرضية مثيرة للجدال علميًا، فقد وجهت الانتباه إلى العديد من الدورات والشبكات المنظمة بدقة للمحيط الحيوي، وكيف يعتمد بقاء الإنسان على صحة النظام البيئي.

قد تساعدنا الفلسفة في التغلب على التمييز بين "نحن" و"هم" وبالتالي تعمل على تقديم أسباب مقنعة لحماية الطبيعة وتنوعها البيولوجي. تتمتع المدارس الفلسفية والأديان الشرقية بتقاليد طويلة في تجاوز الثنائيات مثل "نحن" و"هم"، ويمكن رسم الخط من المفهوم الصيني المعاصر "للحضارة البيئية" وحتى العودة إلى الكلاسيكيات الطاوية المكتوبة منذ أكثر من 2000 عام . ومن بين الأفكار الأكثر حداثة، نجد رؤية الخروج من عصر الأنثروبوسين ودخول عصر التكافل، وهو العصر الذي يبني فيه البشر أفعالهم على فهم أن لدينا علاقات تكافلية مع الأنواع الأخرى والمحيط الحيوي بأكمله. لقد ازدهرت أنظمتنا الاجتماعية والاقتصادية الحالية حتى الآن لأنها أسست أنماطًا قوية ومستقرة لاستغلال الأنواع الأخرى والبشر الآخرين. ومع ذلك، فإن الأنواع الأخرى التي يتم استغلالها هي الكائنات الحية المتعايشة معنا. وعندما نؤذي الآخرين والبيئة، فإننا في نهاية المطاف نؤذي أنفسنا . إن رؤية مماثلة تتمثل في الخروج من عصر الأنثروبوسين والدخول إلى عصر الكثولوسين، عصر التفكير بالمجسات. فالبشر لا يعيشون أو يتصرفون في عزلة، بل من خلال التفاعلات والعلاقات أو "المجسات"، مجازيًا. إن فكرة دونا هارواي عن الكثولوسين هي عصر يتم فيه تحديد الفكر والفعل دائمًا من خلال أسئلة حول من نتفاعل معه ومن نتحمل مسؤوليته. في الكثولوسين، يدرك البشر أنه لا يوجد سوى خيار واحد لبقاء الإنسان، ألا وهو "البقاء مع المتاعب"، كما تقول هارواي، تحمل المسؤولية عن تفاعلاتنا والعمل من أجل ازدهار الأنواع المتعددة. تتردد مثل هذه الأفكار الفلسفية بشكل جيد مع "تقييم القيم" الأخير الذي تم نشره عام 2022. يعتمد التقييم على مفهوم "هدايا الطبيعة" ويقر بوجود قيم وممارسات متعددة ومشروعة لتقدير الطبيعة.  يشير التقييم إلى أن كلاً من الناس والمجتمعات لديهم عدد من الطرق المختلفة لتأطير العلاقات بين الإنسان والطبيعة. وباستخدام مثال النهر، يسلط التقييم الضوء على أن الناس قد ينظرون إلى أنفسهم على أنهم يعيشون من الطبيعة (أي حيث يتم تقدير النهر للموارد الطبيعية وخدمات النظام البيئي التي يوفرها)؛ أو يعيشون في المناظر الطبيعية التي شكلها النهر ويعيشون مع الأنواع الأخرى التي تسكن المناظر الطبيعية النهرية؛ أو يعيشون مثل الطبيعة (أي حيث يُنظر إلى النهر على أنه مقدس وجزء منهم). فما مدى ارتباط البشر بالطبيعة؟

في كتابه "الوهم الذاتي: العلم المدهش حول كيفية ارتباطنا ولماذا يهم ذلك" (2020)، يقدم توم أوليفر أدلة علمية تثبت أن فكرة الذات البشرية الذرية المستقلة هي بناء ذهني مبسط للغاية. ومع ذلك، كأفراد، قد نختلف في كيفية إدراكنا لارتباطنا بالطبيعة. يمكن أن يكون هذا بمثابة نقطة انطلاق لمحادثة حول كيفية وضع أنفسنا الفردية في مواجهة الطبيعة. لذلك تشكل هذه الافكار جزءًا من سلسلة "سرديات التغيير" التي تنشرها الجمعيات للبيئة وتستكشف السلسلة تنوع الأفكار اللازمة لجعل مجتمعاتنا أكثر استدامة وتحقيق طموحات الصفقة الخضراء وتتمثل الرسائل الرئيسية لهذه الدعوى الايكولوجية في ما يلي:

- إن البشر يؤثرون على الأرض أكثر من أي كائنات أو قوى حية أخرى، مما أدى إلى ما وصفه بعض العلماء بالعصر الجيولوجي "الأنثروبوسين".

-قد ارتفعت التهديدات البشرية للنظم البيئية الطبيعية والمجتمعات البشرية بشكل تدريجي، مع عواقب مدمرة على مدى العقود الأخيرة.

- لقد نما الوعي بالتحديات البيئية بشكل كبير على مدى القرن الماضي. ومع ذلك، كانت الاستجابات المؤسساتية غير كافية لحماية الطبيعة. حتى السياسات ذات النوايا الحسنة غالبًا ما تستند إلى الانقسام بين "نحن"، البشر، و"هم"، الأنواع الأخرى.

-هذا التفكير هو جوهر الأنثروبوسين ويحتاج إلى إعادة التفكير.

-إن البشر مترابطون بشكل عميق مع أشكال الحياة والنظم البيئية الأخرى. توضح مفاهيم مثل "الاستدامة القوية" و"الإيكولوجيا العميقة" و"التعايش" و"الكثولوسين" هذه النقطة وتوفر الإلهام لإعادة التفكير في العلاقة بين البشر والطبيعة. قد يكون تبني مجموعة واسعة من العقليات وطرق التعامل مع الطبيعة أمرًا ضروريًا للتحرك نحو مستقبل أكثر استدامة.

-إن السياسات مثل الصفقة الخضراء الأوروبية وبرنامج العمل البيئي الثامن تتخذ خطوات في الاتجاه الصحيح. ومع ذلك، فمن المرجح أن تكون هناك حاجة إلى تحولات عميقة في العقليات والنماذج الراسخة، مثل الاستهلاك. وعلى وجه التحديد، يجب أن ننتقل من النظر إلى الطبيعة كمصدر لرأس المال إلى احترام قيمتها المتأصلة.

-إن مجتمعاتنا بحاجة إلى حكم نفسها بطريقة تتماشى مع احتياجات ومخاوف البشر مع الكائنات الحية الأخرى التي "تخلفت عن الركب" حاليًا. يجب أن نتحول من عقلية "نحن وهم" إلى مفهوم علائقي "نحن جميعًا" لإطلاق العنان لدوافع جديدة لحماية التنوع البيولوجي، متجذرة في شعور أوسع بالمسؤولية.

كان الفيلسوف آرن نيس 1995ـ أحد مؤسسي علم البيئة العميقة ـ متأثراً إلى حد كبير بمبدأ اللاعنف عند غاندي السياسي الهندي. فقد افترض نيس أن تنمية الشخصية الناضجة تعتمد على القدرة على التماهي مع الآخرين ـ أولاً الأسرة، ثم البشر الآخرين، ولكن أيضاً الحيوانات والكائنات الحية الأخرى. وهذا ما أطلق عليه نيس الذات البيئية، ولا ينبغي الخلط بينها وبين الأنا الضيقة. وإذا كان الأمر كذلك، فإن "إطار الحياة" الذي يجسد "العيش كطبيعة" والذي أبرزته لجنة الحكماء الدولية للعلوم والسياسات في مجال التنوع البيولوجي وخدمات النظم الإيكولوجية، والذي يتسم بالوحدة والتماهي، يشكل عنصراً ضرورياً في تنمية ما أطلق عليه نيس الذات البيئية والشخصية الناضجة. من هذا المنظور، فإن التناقض بين المصلحة الذاتية والاهتمام بالآخرين مضلل. وعلاوة على ذلك، فإن الاهتمام بالآخرين قد يكون مفيداً للذات لأننا جميعاً مترابطون. والمصلحة الذاتية، في هذا الرأي، تشمل الاهتمام بالآخرين. إن التغلب على المركزية البشرية لن يكون إذن مجرد تبني نقيضها. بل إنه سيعني رعاية وحماية العلاقات التكافلية بين الكائنات الحية الفائقة على كل المستويات حتى الكوكب نفسه. وعلى حد تعبير ارن نيس: "من خلال التعريف، قد يرون أن مصلحتهم الخاصة يخدمها الحفاظ على البيئة، من خلال حب الذات الحقيقي، وحب الذات الموسعة والمتعمقة". وتدعم الدراسات التجريبية هذا الادعاء من خلال إظهار الارتباط بين الشعور بالارتباط والسلوكيات المؤيدة للبيئة/ المؤيدة للمجتمع.

نحو التغيير النظامي؟

بغض النظر عن مكانتها العلمية، فإن عصر الأنثروبوسين يختلف عن العصور الجيولوجية السابقة في أن أقوى عامل للتغيير (النوع البشري) لديه أيضًا القدرة على الوعي الذاتي والتغيير الواعي. قد لا يكون من الممكن أو المرغوب فيه الخروج من عصر الأنثروبوسين عمدًا، لأنه لا توجد طريقة للعودة إلى عدم كون البشرية لها القوة النهائية للتغيير على الكوكب. لا توجد طرق مختصرة للخروج من أزمات المناخ والتنوع البيولوجي الحالية ويجب أن نجد مسارات كريمة داخلها. في الوقت نفسه، لا يوجد نقص في المعرفة حول المسارات المحتملة "لثني اتجاهات التسارع العظيم" وجعلنا نعيش بشكل جيد داخل حدود الكوكب. نحن لسنا بالضرورة محكومين بكارثة مالتوسية من النمو والانهيار. ومع ذلك، فإن التغيير مطلوب في العديد من المجالات، بما في ذلك معالجة قضايا مثل الإفراط في الاستهلاك، وعدم المساواة، وعدم التوازن في القوة، والمصالح الخاصة، وقصر النظر. إن الاعتراف بالعقليات والنماذج التي تدعم مجتمعاتنا واقتصاداتنا ومؤسساتنا وتطرح الأسئلة بشأنها أمر ضروري. وفي سياق التنوع البيولوجي، ترتبط الأزمة العالمية ارتباطًا وثيقًا بالطريقة التي يتم بها تقييم الطبيعة في صنع السياسات، والتي، للأسف، أعطت الأولوية بشكل أساسي لمجموعة ضيقة من القيم على حساب الطبيعة والمجتمع على حد سواء على الرغم من تنوع قيم الطبيعة. إن الصفقة الخضراء الأوروبية، جنبًا إلى جنب مع التزام الاتحاد الأوروبي بأجندة الأمم المتحدة 2030 وأهداف التنمية المستدامة، تُظهر تقديرًا للطبيعة النظامية لتحديات الاستدامة، وتولد طموحًا وجهودًا سياسية غير مسبوقة. ومع ذلك، فإن الإمكانات الكاملة للصفقة الخضراء الأوروبية لم تتحقق بعد. لذلك يتم إنتاج الأنظمة الثقافية والسياسية والاقتصادية بشكل مشترك وترسيخها بشكل أساسي في النماذج العقلية المجتمعية. وهذا هو السبب وراء ضرورة "التوسع في التغيير" ولماذا يُطلَب الابتكار العميق والمشاركة المجتمعية العميقة في التحولات الجذرية والتحولات المستدامة. وفي حين تُعَد التحولات النموذجية واحدة من أقوى الروافع لتغيير النظام، فإنها أيضًا الأكثر مقاومة وصعوبة في تحقيقها. لذا يستكشف هذه المداخلة فكرة أن أحد المبادئ الأساسية للأنظمة التي يتعين تغييرها هو النظر إلى الطبيعة باعتبارها "هم" ومنفصلة عن "نحن" البشر ومعارضتنا لها. تجعل هذه العقلية من الممكن استغلال الطبيعة وتحويلها إلى سلعة إلى الحد الذي ندمرها فيه. وفي حين تدعو سياسات مثل خطة العمل البيئية الثامنة إلى التغيير النظامي، إلا أنها لم تتحد هذه المبادئ حتى الآن. وبقدر ما يمكن التحكم في التحديات النظامية والتغيير النظامي، فإنها تتطلب من جميع سلطات الحكم أن تلعب دوراً مهما- بما في ذلك الحكومات والأسواق وجمعيات المجتمع المدني، وتفاعلاتهم المتبادلة. إن تحقيق أهداف التنمية المستدامة والتقدم نحو مستقبل عادل ومستدام يتطلب تحولاً في عملية صنع القرار من أجل التعرف بشكل أفضل على قيم الطبيعة، سواء على مستوى المؤسسات أو الأفراد. وعلى مستوى المجتمع المدني، هناك العديد من المجتمعات والثقافات حيث لم يحدث تسليع الطبيعة بنفس القدر وحيث تتمتع أشكال الحياة الأخرى وعناصر المحيط الحيوي بمكانة مختلفة وعليا. ومن المهم أن بعض مواطني المجتمعات الصناعية الحديثة يرتبطون بالطبيعة من حيث الانتماء والقرابة والوصاية والاحترام ويمكن أن يكونوا مصدر إلهام. على سبيل المثال، تستكشف حركة الحياة الطيبة، المتجذرة في المنظمات الأصلية في أمريكا اللاتينية، نماذج بديلة للتنمية من أجل حياة كريمة ومسؤولية اجتماعية وطبيعية، دون استهلاك هائل وتراكم رأس المال. تتخيل أنماط الحياة مثل "العيش البسيط" وأفكار الاكتفاء أو "الكفاية". وفي الوقت نفسه، غالبًا ما يواجه التنفيذ العملي لمثل هذه الأفكار حواجز. على سبيل المثال، قد يصبح تنفيذ حقوق الطبيعة مشكلة حتى لو تم ترسيخها في القوانين (على سبيل المثال في بوليفيا) والتنصيص عليها في الدساتير (على سبيل المثال في الإكوادور)، حيث قد تكون المؤسسات والمحاكم بطيئة في عكس مثل هذه التطورات في ممارساتها. في المجتمعات الرأسمالية الحديثة، عند الواجهة بين المجتمع المدني والسوق، هناك بناء خاص للمواطنين كمستهلكين، يعفيهم من وظيفة أساسية في عجلة الإنتاج التي تدعم النمو الاقتصادي. كما يُعترف بأن مستويات الاستهلاك والأنماط وأنماط الحياة التي تدعمها المجتمعات والأفراد الأثرياء من بين المحركات الرئيسية للضغوط البيئية. ومن المرجح أن يكون التغيير في هذا الصدد ضروريًا أيضًا. ضمن الحركات المذكورة، تتطور وتزدهر أنماط الحياة غير الاستهلاكية. ومع ذلك، فهي أقلية صغيرة. لا جدوى من محاولة فرض سياسات مبنية على أطر حياة أخرى إذا كانت المادية والاستهلاك الهائل لا يزالان يهيمنان على الخطابات المهيمنة والمعايير الثقافية. من حيث الحوكمة، تتطلب التحديات قبول مجموعة أوسع من المبررات لحماية الطبيعة، بما يتجاوز الحجج النفعية البشرية. لقد كان الاعتماد المفرط على إطار الحياة المتمثل في العيش من الطبيعة هو السبب الرئيسي وراء التدهور الهائل للنظم البيئية وفقدان التنوع البيولوجي. هذا يحتاج إلى تغيير. يجب أن يكون هناك توازن أفضل مع الأطر الأخرى، مثل العيش في الطبيعة ومعها وباعتبارها كذلك، في تقييم الإجراءات وفي قيادة السياسات. وفقًا لذلك، هناك حتى مقترحات لميثاق للحقوق القانونية الأساسية للطبيعة. كما تلعب أنظمة الحوكمة وأدوات السياسة دورًا أساسيًا في هذا المجال. وفقًا للمنتدى الحكومي الدولي للعلوم والسياسات في مجال التنوع البيولوجي وخدمات النظم الإيكولوجية، يمكن لأنظمة الحوكمة وأدوات السياسة أن تساهم في خلق الظروف المواتية للتغيير النظامي من خلال:

-تنويع مجموعة القيم والنظرة العالمية الممثلة في صنع القرار؛

-إنشاء مبادرات إنتاج المعرفة الشاملة مع مشاركة أوسع وأكثر تنوعًا؛

-إضفاء الطابع المؤسساتي على قيم الطبيعة عبر مقاييس صنع القرار؛

-الاعتراف بالحاجة إلى مستويات مختلفة من التغيير المجتمعي.

يمكن للعديد من أدوات السياسة دعم مثل هذا التغيير. ومع ذلك، يبدو من غير المحتمل أن يتم تحقيق مثل هذه التحولات في الحوكمة من خلال مناهج من أعلى إلى أسفل وبشكل مستقل عن التحول الثقافي في صنع السياسات. قد يتعين على السياسات الانتقال إلى الفضاء غير المستكشف لمناقشة نماذج السلوكيات وأنماط الحياة وأنظمة القيم. يجب أن تصبح الحوكمة نفسها ليس فقط حكيمة ولكن أيضًا مشاركة وتكافلية ومجسية حقًا. إن مجتمعاتنا بحاجة إلى أن تحكم بطريقة تتوافق مع احتياجات ومخاوف أولئك الذين "تخلفوا عن الركب" حاليًا، من البشر وغير البشر، وتحترم القدرة الاستيعابية للأرض. ولتحقيق الطموحات الكاملة للصفقة الخضراء الأوروبية ورؤية خطة العمل الأوروبية الثامنة، فإن التغيير في النظر إلى "نحن وهم" إلى "نحن جميعًا" أمر ضروري. ومن شأن هذا التغيير أن يخلق دوافع جديدة لحماية التنوع البيولوجي على أساس شعور موسع بالمسؤولية. إننا ندعو إلى "ما بعد الطبيعية" في الفلسفة البيئية ـ إلى فلسفة بيئية لا تستخدم مفهوم الطبيعة بعد الآن. أولاً، إن المصطلح غامض للغاية وخطير فلسفياً، وثانياً، ربما نكون ممن يزعمون أن الطبيعة قد انتهت بالفعل على حق ـ إلا أن الطبيعة ربما كانت قد انتهت بالفعل دوماً. إن ما بعد البيئية، والتاريخ البيئي، والدراسات العلمية الحديثة كلها تشير إلى نفس الاتجاه: فالعالم الذي نعيش فيه هو دائماً عالم تحول بفعل الممارسات البشرية. والأسئلة البيئية هي أسئلة اجتماعية وسياسية، يتعين علينا نحن وليس الطبيعة أن نجيب عليها. وقد يخشى كثيرون أن يؤدي هذا الاستنتاج إلى عواقب وخيمة بيئياً، وإلى مشاكل النسبية والمثالية، ولكننا نزعم أن هذا ليس صحيحاً. فالممارسات حقيقية، وليست مثالية، وليست كل الممارسات متساوية: فالممارسات التي تعترف بالمسؤولية البشرية عن تحويل العالم أفضل من تلك التي لا تعترف بذلك. ويحدث الضرر البيئي عندما لا ندرك مسؤوليتنا عن العالم الذي تخلقه ممارساتنا. إن هذا الطرح الاستفزازي عن الفلسفة البيئية بعد نهاية الطبيعة يزعم أن التفكير البيئي قد يكون أفضل حالاً إذا ما تخلى عن مفهوم "الطبيعة" تماماً وتحدث بدلاً من البيئة المبنية. إن الحفاظ على البيئة، من الناحية النظرية والتطبيقية، يعني حماية الطبيعة. ولكن إذا كنا قد وصلنا الآن إلى "نهاية الطبيعة"، كما أعلن بيل مكيبن وغيره من المفكرين البيئيين، فما الذي تبقى لنا لحمايته؟

في كتابه "التفكير مثل المركز التجاري"، يزعم ستيفن فوجل أن التفكير البيئي قد يكون أفضل حالاً إذا ما تخلى عن مفهوم "الطبيعة" تماماً وتحدث بدلاً من ذلك عن "البيئة" ـ أي العالم الذي يحيط بنا بالفعل، والذي هو دائماً عالم مبني، وهو العالم الوحيد الذي نسكنه. إننا في احتياج إلى التفكير ليس على غرار الجبل بقدر ما ينبغي لنا أن نفكر على غرار المركز التجاري او فضاء التسوق. وتشكل مراكز التسوق أيضاً جزءاً من البيئة وتستحق قدراً كبيراً من الاهتمام الجاد من جانب المفكرين البيئيين كما تستحق الجبال. ويزعم فوجل بشكل استفزازي أن الفلسفة البيئية، في أخلاقياتها، لا ينبغي لها أن تميز بين الطبيعي والاصطناعي، وينبغي لها في سياساتها أن تتخلى عن فكرة مفادها أن شيئاً يتجاوز الممارسات البشرية (مثل "الطبيعة") يمكن أن يعمل كمعيار لتحديد ما ينبغي أن تكون عليه هذه الممارسات. ويزعم أن الاستناد إلى الطبيعة بشكل منفصل عن البيئة المبنية قد لا يكون غير مفيد للتفكير البيئي فحسب، بل إنه في حد ذاته ضار بهذا التفكير. والسؤال المطروح للفلسفة البيئية ليس "كيف يمكننا إنقاذ الطبيعة؟" بل بالأحرى "أي بيئة ينبغي لنا أن نعيش فيها، وأي الممارسات ينبغي لنا أن ننخرط فيها للمساعدة في بنائها؟". ربما يكون السؤال الرئيسي هو هذا: هل يمكننا أن نتخيل عالمًا حيث تكون الممارسات الاجتماعية والاقتصادية في تكافل مع الطبيعة - بدلاً من مجرد وسائل لتحقيق غايات إنسانية؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

يعدّ مفهوم الأنوميا أو الأنوميّ (Anomie) أحد أهمّ المفاهيم المركزيّة الّتي عرفت بها سوسيولوجيا دوركهايم، وقد وظّف هذا المفهوم بقوّة على مدى أجيال متعاقبة من علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا منذ عهد دوركهايم حتّى اليوم، ويوظّف هذا المفهوم سوسيولوجيا في تحليل مختلف أشكال الفوضى الأخلاقيّة والاجتماعيّة في المجتمعات الإنسانيّة المعاصرة.

استخدم دوركهايم مفهوم الأنوميّ (Anomie) في كتابه "الانتحار" (Le suicide ) عام 1897، ووظّفه في معرض الإشارة إلى حالة عدم الاستقرار الاجتماعي أو إلى حالة الاضطراب والفوضى الّتي تهزّ أركان المجتمع بسبب انهيار المعايير الأخلاقيّة، وغياب المثل العليا، وتصدّع القيم الاجتماعيّة المشتركة بين أفراد المجتمع. وقد تؤدّي ظاهرة "الأنوميّ" حسب دوركهايم إلى تفكّك المجتمع وانهيار المعايير والانفصال بين الأهداف الاجتماعيّة المعلنة والوسائل الصحيحة لتحقيق هذه الأهداف، وعندما تستفحل هذه الحالة يدخل الأفراد في سيكولوجيا الإحساس بالاغتراب والعبثيّة والانهيار الأخلاقي1.

صاغ دوركهايم مفهومه عن "الشذوذ الاجتماعيّ" (الأنوميّ) في كتابه "تقسيم العمل الاجتماعيّ "، وقد اشتقت كلمة الأنوميّ (Anomie) من الكلمة اليونانيّة (Anomia)، الّتي تترجم بمعنى "الخروج على القانون"، ويلاحظ في هذا السياق أنّ مصطلح "الأنومي" (Anomie) يترجم إلى اللغة العربيّة بألفاظ مختلفة مثل:" الشذوذ الاجتماعيّ " و"الانحراف الاجتماعيّ" و"الفوضى الاجتماعيّة" و"اللامعياريّة "، (Normlessness) و" الانهيار الأخلاقيّ " وجميع هذه الكلمات تعبّر عن مفهوم الأنوميّ عند دوركهايم وهي مترادفات لفظيّة لمفهومه "الأنوميّ". علماً بأنّ كلمتي "الشذوذ الاجتماعيّ" و" اللامعياريّة: هما الكلمتان الأكثر استخداماً في البحوث الاجتماعيّة.

وصف دوركهايم الشذوذ بأنّه شكل غير طبيعيّ من تقسيم العمل، ووجد بأنّ الشذوذ يتزايد مع غياب القيم الأخلاقيّة والمعايير الاجتماعيّة وعدم كفاية التنظيم اللازم لضمان التعاون بين مختلف الأفراد الموزّعين ضمن الوظائف الاجتماعيّة المتخصّصة. وقدّم دوركهايم أمثلة حيّة وواقعيّة للشذوذ الّذي شهد حضوره في أوقات الأزمات الاقتصاديّة، وبرز في ظاهرة العداء بين الرأسماليّين والعمّال، وفقدان المجتمع لوحدته بسبب التخصّص المكثّف والمتزايد المتزايد. في هذه الحالات جميعها لاحظ دوركهايم العنصر المشترك في الشذوذ هو غياب التفاعل الاجتماعيّ والاتّصال الحيويّ الأخلاقيّ بين الأفراد الّذين يؤدّون أدواراً اجتماعيّة مختلفة في المجتمع.

وفي الأحوال كلها حدّد دوركهايم سببين رئيسيّين للشذوذ، هما: تقسيم العمل، والتغيّر الاجتماعيّ السريع. وكلا الأمرين يرتبطان بطبيعة الحال بالحداثة. إنّ التقسيم المتزايد للعمل يضعف الشعور بالانتماء إلى المجتمع الأوسع، ومن ثم يضعف القيود المفروضة على السلوك البشريّ. وتؤدّي هذه الظروف إلى "التفكّك" الاجتماعيّ- وارتفاع معدّلات السلوك الأنانيّ، وانتهاك القواعد، وما يترتّب على ذلك من فقدان الشرعيّة وانعدام الثقة بالسلطة.

يردّ دوركهايم مفهوم الشذوذ الاجتماعيّ إلى شكل غير طبيعيّ من التقسيم الاجتماعيّ للعمل. وفي تناوله للتضامن الآليّ وجد دوركهايم أنّ الضمير الجمعيّ يسود المجتمعات التقليديّة "البسيطة"، وأنّ هذا الضمير يتميّز بقوّته وقدرته على الضبط الاجتماعيّ، إذ يتضمّن "معتقدات ومشاعر مشتركة بين جميع أعضاء المجموعة". وقد وجد أنّ الروابط الأخلاقيّة القويّة في هذه المجتمعات تمنع حدوث ما يسمّى بالأنوميّ أو بالشذود الاجتماعيّ، إذ يشعر الفرد بارتباط أخلاقيّ قويّ بمجتمعه، وذلك على خلاف المجتمعات ذات التضامن العضويّ.

وقد وجد دوركايم أنّ التقسيم الاجتماعيّ للعمل الموجود في المجتمع الصناعيّ الحديث يؤدّي إلى شكل جديد من التضامن الّذي أطلق عليه كما أشرنا مراراً بالتضامن العضويّ. وقد وجد بأنّ الضمير الجمعيّ في المجتمعات ذات التضامن العضويّ لا يكون شاملاً ومطابقاً للضمير الفرديّ الّذي يتمتّع بدرجة كبيرة من الاستقلاليّة، وقد أكّد دوركهايم أنّ تقسيم العمل يوفّر المزيد من الفرص للتفاعل الاجتماعيّ وتطوير العلاقات الاجتماعيّة، وهو ما يسمّى بـ “الكثافة الأخلاقيّة”. ومن ثمّ فإنّ المستوى الأعلى من الكثافة الأخلاقيّة يخلق المزيد من التضامن العضويّ، ومن ثم التماسك والاندماج في المجتمع.

ومثل هذا الأمر لم يمنع دوركهايم من أن يستكشف أمراض التضامن الحديث ولاسيّما ما يسمّيه بالشذوذ الاجتماعيّ. وقد وجد أنّ الشذوذ هو نتاج لفعاليّة مختلّة في تقسيم العمل. فالتقسيم القسريّ والشاذّ للعمل قد يؤدّي إلى الشذوذ الأخلاق والاجتماعيّ. وبينما يؤكّد دوركهايم أنّ المجتمع العضويّ يولّد روابط الاعتماد المتبادل الّتي تعزّز التضامن الإيجابيّ والتماسك الاجتماعيّ، فإنّه يعترف أيضاً في الوقت ذاته بأنّ المجتمعات الصناعيّة الحديثة، تعاني ظواهر الصراع بين العمل ورأس المال بين العمّال وأصحاب العمل، وبيّن أنّ هذه المجتمعات تعاني من الأزمات الاقتصاديّة والصراعات التجاريّة. وذلك تحت تأثير التقسيم المرضيّ للعمل وبسبب انعدام المعايير الأخلاقيّة والاجتماعيّة (الشذوذ)، والافتقار إلى التنظيم، وتزايد دور المصالح الذاتيّة الفرديّة أو الجماعيّة.

يؤكّد دوركايم على أنّ مثل هذه الأمراض ليست بالضرورة متأصّلة في تقسيم العمل، بل إنّها تنشأ في “ظروف استثنائيّة وغير طبيعيّة”. على سبيل المثال، خلال الثورة الصناعيّة، حلّت الآلات محلّ البشر، وتغيّرت العلاقات بين أصحاب العمل والعمّال، وذلك على خلاف "المجتمعات البسيطة" الّتي كانت تتميّز بوجود علاقة وثيقة وذات معنى بين أصحاب العمل والعمّال والموظّفين، ويضاف إلى ذلك وجود ارتباط قويّ بين العامل ودوره في العمل الجماعيّ،

ولكن مع تطوّر المجتمع والانتقال إلى صور جديدة للعمل الحديث، فرض على العامل نظام عمل صارم وشاقّ أبعده عن عائلته طيلة أيّام العمل وأصبح في الوقت نفسه يعيش بعيداً أكثر من أيّ وقت مضى عن الشخص الّذي يوظّفه. وهذا جزء من التقسيم الطبيعيّ للعمل في المجتمع الحديث. ومع ذلك، «نظراً لأنّ هذه التحوّلات قد أُنْجِزَت بسرعة كبيرة، لم يكن لدى المصالح المتضاربة الوقت الكافي لتحقيق التوازن». ولذا وتحت تأثير هذه الظروف الجديدة يضعف الوعي الجماعيّ، وتتآكل الروابط الاجتماعيّة. فالتخصّص المفرط ينتج "تهديداً للتماسك الاجتماعيّ". ويشرح دوركهايم أنّ زيادة التخصّص في العمل في غياب الترابطات الأخلاقيّة والاجتماعيّة بين التخصّصات المهنيّة قد يكون كارثيّاً في المستويات الأخلاقيّة والاجتماعيّة، ويتطرّق في هذا السياق إلى الانفصال الاغترابيّ للعامل الّذي يقوم كلّ يوم بتكرار العمل الروتينيّ كلّ يوم ضمن نسق من الحركات الرتيبة المملّة، ولكن دون أن يكون لديه أيّ اهتمام أو فهم لها، وهذا يعني أنّ العامل لم يعد ضمن هذه الترسانة الصناعيّة كياناً حيّاً، بل أصبح ترساً جامداً هامداً وهذا من شأنه إلغاء الجانب الإنسانيّ والأخلاقيّ في حياة العمّال وغيرهم من العاملين في النظام الصناعيّ، وهذا يشكّل أحد الأسباب الأساسيّة لظاهرة الشذوذ والانحراف الأخلاق الاجتماعيّ.

وعلى هذا الأساس يبني دوركهايم أنّه عندما يكون تقسيم العمل مَرَضيّاً، فإنّه يعيق تكوين علاقات اجتماعيّة أخلاقيّة متماسكة، وذلك لأنّ هذا النمط من تقسيم العمل يؤدّي إلى زيادة المسافة الاجتماعيّة بين مختلف شرائح المجتمع وأفراده، وهذا بدوره يمنع من تشكّل الكثافة الأخلاقيّة الضروريّة لتعزيز التضامن العضويّ في المجتمع. وفي هذه الحالة لا يمكن للمجتمع أن يعمل بشكل فعّال عندما يعاني تصاعد ظاهرة الشذوذ الاجتماعيّ، إذ لم يعد كلّ جزء من أجزائه مرتبطاً بعلاقته المعنويّة بالجماعة والمجتمع؛ وعلى هذا النحو تعمّ الفوضى، ويظهر التفكّك ويعاني المجتمع من الانحلال الاجتماعيّ والأخلاقيّ، وقد جادل دوركهايم بالضرورة الحيويّة للأخلاق الّتي يمكنها أن تحقّق للفرد كماله من جهة، وأن تحقّق له تفاعله الحيويّ مع المجتمع الّذي يعيش فيه.

وعلى هذا النحو، فإنّ نظريّة الشذوذ لدوركهايم ترى أنّ التقسيم الاجتماعيّ للعمل الّذي تطوّر في بداية التصنيع قد أضعف "الضمير الجمعيّ" (Conscience collective)، وأدّى إلى تضاءل الأعراف والقناعات والضوابط الأخلاقيّة الّتي كانت سائدة في المراحل السابقة، وعليه تراجعت المبادئ الأخلاقيّة والقيم الاجتماعيّة القديمة الّتي تحضّ على التفاعل الأخلاقيّ والاجتماعيّ بين أفراد المجتمع، وقد تركت ساحتها بمبدأ تقسيم العمل القسريّ الشاذّ الّذي أطاح بالقيمة الأخلاقيّة للمجتمع، فأدّى إلى إعاقة التضامن الاجتماعيّ بين أفراده.

ويرى دوركهايم في هذا السياق أيضاً أنّه لا يمكن التحكّم في رغبات البشر ومصالحهم الذاتيّة إلّا من خلال قوى أخلاقيّة تنشأ خارج الفرد وتحت تأثير ضغط العقل الجمعيّ القائم على وحدة المجتمع. يصف دوركهايم هذه القوّة الخارجيّة بأنّها ضمير جمعيّ، وهو رابطة اجتماعيّة مشتركة يُعَبَّر عنها من خلال أفكار وقيم وأعراف ومعتقدات وأيديولوجيّات الثقافة. وبما أنّه لا يوجد شيء داخل الفرد يقيّد هذه الشهوات، فمن المؤكّد أنّه يجب احتواؤها من قبل قوّة ما خارجة عنه، وإلّا فإنّها ستصبح غير قابلة للسيطرة، وستدفع إلى الفوضى والشذوذ والعدميّة.

وبما أنّ الضمير الجماعيّ ينشأ من المجتمع، فقد أوضح دوركهايم أسباب وآثار ضعف الروابط الجماعيّة (ومن ثم إضعاف الضمير الجماعيّ) في الفرد والمجتمع في كتابيه، تقسيم العمل في المجتمع (Division du travail) (1893) والانتحار (Le suicide) (1897). ويؤكّد دوركهايم في هذا المسار إنّه ضعف القيود الاجتماعيّة وتراجع تأثير الضمير الجمعيّ يشجّع على تنامي المصالح الفرديّة، وعندها سيسعى كلّ فرد إلى إشباع إلى إشباع شهواته دون التفكير كثيراً في التأثير المحتمل لتصرّفاته على الآخرين. وبدلاً من السؤال "هل هذا أخلاقيّ؟" أو "هل توافق عائلتي؟" من المرجّح أن يسأل الفرد "هل يلبّي هذا الإجراء احتياجاتي؟" يترك الفرد ليجد طريقه الخاصّ في العالم- عالم تضاعفت فيه الخيارات الشخصيّة للسلوك مع ضعف المعايير والمبادئ التوجيهيّة الأخلاقيّة القويّة والإصرار.

ومـن أجـل معالجة الانهيار الأخلاقيّ والشذوذ الاجتماعيّ عوّل دوركهايم كثيراً على مفهوم النقابات الاجتماعيّة والمهنيّة والهيئات الثقافيّة الّتي يمكن أن توظّف في العمل على تحقيق التناسق والتكامل بين مختلف التقسيمات المفرطة للعمل في المجتمع، إذ يمكن لهذه الهيئات أن تربط بين المهن المتعاونة، وتعمل على التنسيق بين اختصاصاتها2. وقد بيّنت الوقائع بأن لا يمكـن للمجتمع السياسيّ بمجملـه ولا للدولة أن ينجّـزا هـذه الوظيفة؛ فالحيـاة الاقتصاديّة تنزع بقوّة إلى التقسيم المفرط في العمل وإذ ذاك يمكن للمؤسّسات المعنيّة بالمهن المتقاربة والمتجانسة إن تعمل على تنظيم هذا التقسيم وتحقيق التوازن الأخلاقيّ بين الأفراد العاملين فيها بشكل فعّال كي تضمن سير عملها بفعاليّة تواصليّة عميقة، وفي النهاية وجد دوركهايم أنّ غياب الضوابط الأخلاقيّة والاقتصاديّة أدّى إلى الحروب الاجتماعيّة، وإلى البؤس الأخلاقيّ، مثلمـا أنّ غيـاب ضوابط الحياة الدوليّة أدّت إلى الحروب العالميّة المدمّرة3.

***

عليّ أسعد وطفة

جامعة الكويت

...........................

مراجع المقالة:

1 - جي.جي.كلارك، التنـوير الآتي من الشرق، ترجمة شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة، 2007، ص 59 .

2 - فيليب كابان- جان فرانسوا دورتيه، من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية، تــرجمـة: إياس حسن، دار الفـرقـد، 2010:. ص 60.

3 - فيليب كابان- جان فرانسوا دورتيه، المرجع السابق . ص 60.

” عندما يقوم علماء الاجتماع بإجراء بحوثهم ومؤلفاتهم السوسيولوجية فإنهم لا ينهضون إلى موضوعاتهم البحثية بفتور ولا تكون عقولهم جوفاء. وسواء كانت موضوعاتهم تتعلق بطريقة تعامل الناس مع الموت، أو التطور الكلي والمستقبل المحتمل للمجتمع الحديث، فإنهم يركزون على جوانب معينة لما يجري ويقاربون موضوعاتهم بافتراضات معينة، ويؤكدون على مناهج بحثية معينة، ويمتلكون أنماطاً معينة من التساؤلات التي يريدون الإجابة عليها. وهذا يعني أن بحثهم يرتكز على طرق معينة للنظر إلى الأشياء التي تقدمها النظريات السوسيولوجية. إن ما تفعله النظريات هو تفسير تلك الموضوعات بطريقة واضحة ونظامية “.

إن المنظرين السوسيولوجيين مميزون لأنهم يعبرون عن افتراضاتهم أو فرضياتهم بطريقة نظامية جداً، ويناقشون إلى أي مدى تفسر نظرياتهم الحياة الاجتماعية بطريقة شاملة جداً. وما هو أكثر أهمية، أنهم يقدمون رؤى جديدة حول السلوك وأعمال المجتمعات.

تظهر أهمية التنظير والنظرية في تنمية الإبداع وتعزيز الخيال السوسيولوجي عند الباحثين. فالتنظير هو العملية التي تؤدي إلى النظرية، والنظرية مبنية، والتنظير هو عملية البناء. حيث يركز التنظير على الاكتشاف بدلاً من التبرير، فالتبرير يأتي لاحقاً. وهذا يعني أن النظرية ما هي إلا تصور مسبق لشيء ما، والبعض الآخر يرى أن النظرية تمثل فروض علمية، وهناك من يرى بأن النظرية هي قانون علمي، وفريق آخر ينظر إليها على أنها براديغم (نماذج). وبهذا المعنى فإن النظرية هي تفسير لمجموعة من الجهود المتراكمة للباحثين الذين يتخصصون في علم معين وتنتهي بالضرورة إلى صياغة مجموعة من التعميمات التي هي جزء من النماذج المتعددة والمختلفة.

بذلك تعتبر النظرية إطاراً تفسيرياً للظاهرة المدروسة عن طريق نسق مفاهيمي، يحدد علاقة بين متغيرات معينة بغرض التنبؤ بحدوثها، بأخذها مسافة مع المعرفة التلقائية والأفكار المسبقة. كما تُعتبر جزءاً لا يتجزأ من السيرورة المنهجية، حيث لا يمكن الاستغناء عنها. من خلالها، يتمكن الباحث من الابتعاد عن معوقات الحس المشترك. وفي سيرورة البحث، سيقوم الباحث باقتراح فرضيات محاولاً اختبارها والتي ستوجهها النظرية، كما يتعين عليه تحديد المفاهيم حتى يتبين دورها في بناء النظرية.

بمعنى آخر، تعني النظرية صوغاً صريحاً لعلاقات تصورية بين مجموعة من المتغيرات، يتم في ضوئها تفسير فئة من الإطرادات التي يمكن تحديدها تحديداً تجريبياً كما أشار كابلن. ويرى إيرنست ناجل Ernest Nagel في مقاله الشهير " مشكلات المفاهيم وصوغ النظرية في العلوم الاجتماعية Problems of Concepts and Theory Formulation in the Social Sciences " إن تحديد القواعد المنهجية (مراحل وعمليات تأسيس النظرية) لصوغ النظرية في علم الاجتماع بكل ما تحويه النظرية من معانٍ وما يتضمنه تفاوت معانيها من أسس عديدة، أمر يصعب تحقيقه من غير أن تقنن القواعد المنهجية لبناء النظرية وصوغها.

في حقيقة الأمر، تتكون النظرية على العموم من مفهومات، ومن قضايا أساسية تربط بين هذه المفهومات، ومن النتائج التي يمكن استخلاصها من هذه القضايا بواسطة الاستدلال المنطقي. والمفهومات حدود، تشمل المقولات والأنماط التصورية وغير ذلك من البناءات التصورية التي تحدد موضوع النظرية أي إنها تحدد الظواهر التي تتناولها النظرية ويبدو هذا التحديد الذي تقوم به المفهومات في اتجاهين: الاتجاه الأول تقوم فيه المفهومات بتحديد المشاهدة بالنسبة للظواهر التي تتناولها النظرية، والاتجاه الثاني تقوم فيه المفهومات بتحديد نظام تصنيفي يصور الخواص الرئيسية التي تسمى وحدة المشاهدة.

ويطلق على المفهومات التي تُستخدم في تنصيف وحدات المشاهدة استناداً إلى خواصها اسم المتغيرات وبعد أن يتم تحديد المتغيرات، تحدد العلاقات المنطقية التي يمكن أن تقوم بين مجموعة من المتغيرات التي تحويها لغة النظرية، ويصدق على التصنيف بمقتضى مفهومات النظرية ما يصدق على التصنيف العلمي عامةً، إذ ينبغي أن يكون التصنيف جامعاً بحيث تندرج تحته كل فئة يعبر عنها بمفهوم معين في النظرية وكل وحدات المشاهدة التي تحمل صفات الفئة، وأن يكون التصنيف مانعاً لا يسمح بإدراج وحدة بعينها من وحدات المشاهدة في أكثر من فئة واحدة. وعندما يتحقق ذلك الشرط، فإن في ذلك ما يتيح مشاهدة الظاهرة التي تتناولها النظرية مشاهدة منتظمة حيث تتحدد اتجاهات المشاهدة في ضوء مفهومات النظرية.

بناءً على ما تقدم سنحاول في هذه المقالة مناقشة العمليات الرئيسية التي من خلالها يتأسس بناء النظرية منذ بداية كونها معطاة في الواقع الاجتماعي، حتى تأسيس التعميم النظري العام. وحتى اكتسابها طابع القضية العلمية القادرة على توجيه البحث العلمي الامبيريقي المرتكز على معطيات الواقع الاجتماعي واطراداته. فإن تأسيس إطار نظري لا بد أن يمر من خلال أربع عمليات رئيسية، هي كما يلي:

1- التأسيس Construction: وتعتبر عملية التأسيس من أهم العلميات المتصلة ببناء النظرية وأخطرها. إذ يعتبر تأسيس النظرية محاولة لإنشائها بدقة، وفقاً لخطة يمكن الدفاع عنها بالاستناد إلى فهم واضح للمسلمات. على هذا النحو يعتبر تأسيس النظرية جهداً خاصاً يهدف إلى صياغة بعض القضايا النظرية التي تعتبر مقدمات منطقية أو تتضمن مبدأ منهجياً عاماً واضحاً قابلاً للاختبار الامبيريقي. وتتضمن عملية التأسيس النظري ثلاث عمليات فرعية هي:

أ - صياغة المفهوم :Concept Formulation إذا تعتبر صياغة المفاهيم من المهام الرئيسية لتأسيس النظرية، والمفهوم عبارة عن اسم أو رمز لفئة من الوقائع والأفكار، وقد يكون المفهوم ذا دلالة واقعية تتأسس بالنظر إلى الملاحظات الواقعية، أو قد يكون مجرداً بصورة كاملة. وصياغة مفهوم يتحقق حينما نضع مجموعة من الملاحظات الفجة فيما يتعلق بمتغير معين، بشكل مباشر في إطار مجموعة من المقولات التي نسميها مفاهيم.

ب - تأسيس القضية النظرية: في هذا السياق نسعى إلى خلق الصلة بين مفهوم ما وبين مفاهيم أخرى في إطار قضية حتمية. فإذا استطعنا تحديد مفهوم كمفهوم الانتحار عند دوركايم، فإننا نجد أن الانتحار كمفهوم يتصل بالضغوط الاجتماعية التي يتعرض لها المنتحر. في إطار ذلك فإن ما نعنيه بالضغوط الاجتماعية كمفهوم يصبح ذا أهمية قصوى في عملية التأسيس النظري، ما دام التعرف عليها يمكن أن يصبح أساساً لنظريات عن الشخص الذي يميل إلى الانتحار، ومن ثم سنطرح أهمية ملاحظة الضغوط الاجتماعية التي تقع على البشر ويكون من نتائجها تأسيس قضية تجريبية تتعلق بالعلاقة بين مفهوم الانتحار ومفهوم الضغوط الاجتماعية.

ج - إضافة قضايا نظرية: كما ذكرنا سابقاً إن الضغوط الاجتماعية تؤثر على ميل بعض البشر نحو الانتحار. فإننا نجد أنه وإن صاغ المنظّر مفهوم الانتحار والضغوط الاجتماعية، فإنه يجد نفسه مضطراً إلى تحديد طبيعة هذه العلاقة. ونحن وإن كنا لم نلاحظ التأثير، إلا أننا أدركناه من خلال مؤشراته. ومن المثال السابق إذا قلنا إن مفهوم الانتحار والضغوط الاجتماعية مفاهيم ذات طابع إمبيريقي، فإن مفهوم التأثير influence يشكل المفهوم النظري في هذا المثال. وهو يصاغ بطريقة تجعل منه متغيراً Variable في حالات واقعية فإن مدى تأثيره يبدأ من صفر وحتى أقصى مستوى، وحينئذ يكون باستطاعتنا أن نشتق الفرض القائل، أنه كلما كان تأثير الضغوط الاجتماعية هائلاً ازداد الميل إلى الانتحار عنه لو كانت الضغوط الاجتماعية في مستوى الصفر، إذ يفترض حدوث التأثير من خلال الضغوط الاجتماعية كوسيط لذلك. بيد أن هذا لا يمنع من تدخل متغيرات أخرى في أحداث الانتحار، ومن ثم يمكن تضمينها في قضايا مثلما حدث في القضية السابقة، بحيث أنه كلما زادت قضايا النظرية والمتغيرات التي تضمها زادت النظرية تعقيداً واكتمالاً.

2- تنظيم القضايا Codification: بينما يتركز جهد التأسيس النظري حول تحديد طبيعة المفهوم، ثم العلاقة بين المفاهيم حتى تأسيس القضية النظرية. فإن تأسيس النظرية يحتاج بالإضافة إلى ذلك تنظيم مجموعة القضايا التي تم التوصل إليها في إطار شكل منطقي منتظم ونسقي، وهي العملية التي يطلق عليها التنظيم Codification. والتنظيم هو الترتيب المنتظم والمحكم للتجربة المنظمة والمثمرة التي يتم إنجازها بواسطة إجراءات البحث، كذلك والنتائج العينية التي تنتج عن الاستفادة من هذه الإجراءات.

3 - الاشتقاق Derivation: بينما تتصل عمليات التأسيس الافتراضي والتنظيم بصياغة بناء النظرية في مستوياته المتباينة، فإن الاشتقاق - كعملية تتبع في بناء النظرية الاجتماعية - يهتم أساساً بتأكيد كفاءة النظرية عن طريق إعادة تعريض قضايا النظرية في شكل فروض جديدة تحتاج إلى الصدق والإثبات الإمبيريقي. وبذلك تتأكد الصلة التي ينبغي أن تكون بين النظرية والبحث الامبيريقي، وتؤكد استمرار كفاءة النظرية، عن طريق الإعادة المستمرة لاختبار الفروض المشتقة من بنائها الأساسي. وإلى جانب أن الاشتقاق قد يعني محاولة تحديد طبيعة وخصائص بعض البيانات بالنظر إلى بعض الفروض المشتقة من بناء النظرية بشأنها، فإنه يساعد أيضاً في التحقق من سلامة التفسيرات البعدية التي قد تطرح في أعقاب اكتشاف أية معطيات أساسية تتعلق بمفاهيم معينة، أو بالعلاقات بين هذه المفاهيم. وبالنظر إلى هذه العمليات ذات الأهمية بالنسبة لبناء النظرية، فإننا نجد أن عمليتي التأسيس والتنظيم تتجهان من أسفل إلى أعلى، بحيث تسبق أولاهما الثانية، أي من مستوى المعطيات الامبيريقية إلى مستوى المبادئ والتوجيهات النظرية العامة فهي تتجه مما هو ملموس وواقعي إلى ما هو تركيبي وأكثر تجريداً. على خلاف ذلك نجد أن عملية الاشتقاق تتخذ اتجاها عكسياً، من البناء النظري إلى المعطيات الامبيريقية من خلال اشتقاق الفروض من بناء النظرية ثم إعادة اختبارها امبيريقياً، هذا بالإضافة إلى قطع الطريق في مواجهة أية كيانات نظرية زائفة كالتفسيرات البعدية، أو تلك التي تظل على مستوى التوجهات النظرية العامة.

 4- الإبداع Creation: برغم أهمية هذه العملية لاستكمال بناء النظرية الاجتماعية فإنها تعتبر أقل العمليات من حيث مستوى التقنين، فليس يكفي أن تصوغ مفهوماً يشير إلى مجموعة من المعطيات الواقعية المتماثلة، أو تأسيس قضية عن طريق صياغة علاقة اطرادية بين مفهومين، أو ضم هذه القضايا من خلال عملية التنظيم في إطار بناء نجاهد أن يكون متسقاً ومنطقياً، إذ أنه لو كان الأمر على هذا النحو في بناء النظريات العلمية لوجدنا كماً من النظريات يقارب تقريبا كم المتخصصين في أي علم من العلوم. يؤكد ذلك ما يذهب إليه إيرنست ناجل من أن النظريات إلى جانب أنها جهد عقلي منظم فهي تعتبر (إبداعات حرة Free creations) للعقل. بل أننا نجد باحثاً مثل جوهان جالتونج يذهب إلى القول بأن توفر التراث العلمي في شكل معطيات أو تعميمات إمبيريقية ليس كافياً لقيام النظرية، إذ تعتبر النظرية هي الوحدة المعرفية الوحيدة في نسق التفكير العلمي التي لا تخضع في صياغتها للتنظيم. ذلك لأن بناء النظرية يعد إنجازاً خلاقاً، ومن هنا فإن الأمر لا يدعو للدهشة حين نجد نفراً قليلاً من المشتغلين في ميدان علمي معين هم القادرون على القيام بمثل هذا العمل. حيث نجد لديهم القدرة على القفز فوق الأدلة المنطقية، وإحساس خفي متصل بالجهد الخلاق، فصياغة النظرية تشبه - إلى حد كبير - إنجاز العمل الفني. ومن هنا كانت منهجية النظرية وصياغة النظرية متخلفة بالنسبة لمنهجية الفروض وصياغتها. وأنه يبدو أن نوعي الفلاسفة والعلماء اللذين يعملان على هذين المستويين مختلفين كيفياً.

خلاصة القول، تعتبر النظرية عبارة عن ربط معقد بين مفاهيم معينة، عبر مجموعة من الاقتراحات لفهم الظاهرة، تربطها علاقة ببعضها البعض. تسعى إلى تقدم الإطار التفسيري للظواهر المدروسة، مشكلة نسقاً من المفاهيم المرتبطة ببعضها البعض عن طريق نسق مفاهيمي، لتفسير الميكانيزمات المتحكمة بالظاهرة، بهدف التنبؤ بها. إن النظرية في نظر ريتشارد سويدبيرغ Richard Swedberg، ليست عبارة عن موهبة عقلية فطرية فقط، هي بل هي مكونة من عدة أجزاء يتعين تركيبها معاً والتوفيق بينها بأسلوب خاص، أي إن على الباحث أن يبني النظرية من خلال إنشائها وتركيبها تركيباً.

وهكذا تتميز النظرية في علم الاجتماع بكونها تعبر عن مجموعة من الأفكار التي تجسد ماهية البنى والنظم الاجتماعية والممارسات الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية بين الأفراد والجماعات بغرض فهمها واستيعابها. إنها عبارة عن ترابط للأفكار والقوانين والمفاهيم التي يتم تكوينها من الواقع الاجتماعي. فالنظرية تساعدنا على بلورة إجابة على سؤال معين، أو تفسير أحد الممارسات أو الظواهر في حياتنا اليومية.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

..................

- المراجع المعتمدة:

- علي ليلة: علم الاجتماع وبناء النظرية الاجتماعية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، الكتاب الأول، ط1، 2016.

- علي بن محمد الكاشف: النظريات الاجتماعية – الاتجاهات والمذاهب الكلاسيكية، بدون دار نشر، ب. ت.

- لمياء مرتاض نفوس: إشكالية التنظير في العلوم الإنسانية، دار المناهج للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2021.

- عبد الإله فرح: التنظير والنظرية في سوسيولوجيا ريتشارد سويدبيرغ، ببلومانيا للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2024.

- رث والاس، ألسون وولف: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع – تمدد آفاق النظرية الكلاسيكية، ترجمة: محمد عبد الكريم الحوراني، دار مجدلاوي، عمان، ط1 (العربية)، 2011-2012.

 

على الرغم من أن الشعبوية لم تكن ظاهرة جديدة، لكن ازداد الاهتمام بها على نطاق واسع في السنوات الأخيرة، على المستوى الرسمي والأكاديمي والشعبي؛ نتيجة صعود شخصيات وأحزاب يمينية متطرفة في الانتخابات في بلدان أوروبية عدة والولايات المتحدة، خصوصا بعد وصول دونالد ترامب للبيت الأبيض في الفترة الرئاسية السابقة، وترشحه للفترة القادمة. هذه التطورات والتحولات لم تحدث بمعزل عن الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية العميقة التي تواجهها البلدان الرأسمالية، بل حتى البلدان النامية لم تسلم من صعود هذه الظاهرة خصوصا في بلدان أمريكا اللاتينية، والمنطقة العربية كذلك، وإن لم تُدّرس فيها الحالات الشعبوية التي شهدتها مثل الناصرية وحالة عبد الكريم قاسم أكاديميا. علما أن هذه الظاهرة لم يسلم منها اليسار عالميا، فقد ظهرت في صفوفه في فترات مختلفة. ويترافق كل ذلك مع الالتباس الذي يحدث في بعض الحالات في التمييز بين ما هو شعبوي وغير شعبوي، فهناك شخصيات وأحزاب غير شعبوية ولكنها تتبنى خطابا شعبويا في ظروف معينة مثل فترات الانتخابات أو أحزاب شعبوية لكنها تتراجع عن خطابها الشعبوي عندما تدخل في حكومات ائتلافية.

وإسهاما في التعرّف على بعض سمات الشعبوية التي بات خطرها يهدد حتى الديمقراطيات الراسخة فما بالك بالديمقراطيات الناشئة في البلدان النامية، كرسنا هذه المقالة لهذه الموضوعة والتي سنعالج فيها: مفهوم الشعبوية، وخلفية نظرية، وأسباب ظهور الشعبوية، والخطاب الشعبوي، والشعبوية والأزمة، والشعبوية والفاشية وخطر الشعبوية.

مفهوم الشعبوية

مفهوم الشعبوية مثل الكثير من المفاهيم الأخرى في العلوم الاجتماعية والإنسانية، مازال موضع نقاش وسجال، وهذا يعود إلى تداخل وتعقد المكونات التي تُسهم في نشوء هذه الظاهرة وتغذيتها زمانيا ومكانيا سواء على مستوى بعدها المحلي أو العالمي.

يمكن تعريف الشعبوية بأنها "عقيدة واستراتيجية سياسية وأسلوب خادع لتسويق البرامج السياسية". وقد جرى استخدام هذا المصطلح أول مرة في سياق الديمقراطيات الحديثة عام 1890، لوصف الطرف الثالث الواسع من الجماهير، غير الممثل بواسطة الأحزاب الرئيسة(1)، خصوصا في البلدان الأوروبية.

لكن هناك من يرى أن الشعبوية مفهوم بعيد المنال ومتكرر في الوقت نفسه. فنحن نعرف من خلال الحدس ما نشير إليه عندما نسمي حركة أو أيديولوجيا بأنها شعبوية، ولكن لدينا صعوبة أكبر في ترجمة الحدس إلى مفاهيم. وقد أدى هذا في كثير من الأحيان إلى نوع من الممارسة الخصوصية؛ إذ استمر المصطلح يستخدم بطريقة الحدس المجرد وأي محاولة للتأكد من محتواه يتم التخلي عنها أو رفضها(2). وقد سبق لنائب رئيس بوليفيا ألفارو لنيرا أن قال أن "الشعبوية وعاء يضعون فيه كل شيء لا يفهمونه"(3).

كذلك يقرّ بيير روزانفالون في كتابه "قرن من الشعبوية: التاريخ والنظرية والنقد"، بالغموض الذي ينطوي عليه مفهوم "الشعبوية"، ويدعو إلى التحلي بالوعي السياسي والدقة العلمية الضروريين للخوض في الموضوع والتعامل مع هذا المفهوم الملتبس، من دون أن يعني ذلك التخلي عن استعماله(4) .

تواجهنا الشعبوية كصنف من التحليل السياسي بمشكلات متميزة؛ إذ على الرغم من إنها فكرة متكررة، كما أشرنا، ومنتشرة على نطاق واسع، كونها جزءًا من وصف مجموعة كبيرة ومتنوعة من الحركات السياسية، إلا إن تحليلها تواجهه صعوبات في فهمها على نحو دقيق. وفي المنتصف بين الوصفي والمعياري، يهدف تحليل الشعبوية إلى فهم شيء مهم وحاسم يتعلق بالحقائق السياسية والأيديولوجية التي تشير إليها. ولا يترجم الغموض الواضح للمفهوم إلى أي شك يتعلق بأهمية وظائفها المنسوبة إليها(5). وهذه نقطة جوهرية في بحث هذه الظاهرة.

يبدو في الوقت الحالي على الأقل، إن وضع مفهوم مناسب لمصطلح الشعبوية يبدو بعيد المنال؛ إذ تعاني الكتابات من ضبابية في المفهوم حين يتعلق الأمر بالشعبوية، وتشمل هذه الضبابية المشكلات التالية: تُعَرّف الشعبوية بأنها استراتيجيا وخطاب وأيديولوجيا وأسلوب سياسي في الوقت نفسه. ولا تقدم التعريفات في معظمها أي تحليل لكيفية الارتباط الجوهري لهذه الظاهرة بالمنطق السياسي. ويُغفل معظم التفسيرات المعاصرة للشعبوية مفهوم "الهيمنة"(6)، الذي كما نعرف نظّر له أنطونيو غرامشي بعمق.

خلفية نظرية

يمكن تحديد أربع مقاربات لتفسير الشعبوية. ثلاث منها تعتبرها كحركة وكأيديولوجيا في الوقت نفسه. وتقلصها المقاربة الرابعة إلى ظاهرة أيديولوجية خالصة. بالنسبة إلى المقاربة الأولى فإن الشعبوية هي التعبير النموذجي الذي يحدد الطبقة الاجتماعية ويميز بالتالي الحركة وأيديولوجيتها. وتعتبر الشعبوية نموذجًا لطبقة اجتماعية متميزة، بغض النظر عن المثال الملموس الذي تم اختياره. لذلك، بالنسبة إلى أولئك الذين ركزوا على دراسة روسيا في القرن التاسع عشر، فإن الشعبوية ستمثل على نحو أساسي أيديولوجية الفلاحين، أو أيديولوجيا وضعت من قبل المثقفين الذين يمجدون القيم الفلاحية. أما إذا كان موضوع التحليل هو الشعبوية في أمريكا الشمالية، سيتم اعتبارها أيديولوجيا وتعبئة نموذجيتان لمجتمع الفلاحين الصغار ضد الحياة الحضرية والأعمال التجارية الكبيرة. أخيرا، في أمريكا اللاتينية، حيث اكتسبت تعبئة الجماهير الحضرية في كثير من الأحيان دلالات شعبوية، سوف ينُظر لها على أنها تعبير سياسي و أيديولوجي إما للبرجوازية الصغيرة وإما للقطاعات المهمشة أو للبرجوازية الوطنية، تسعى لتعبئة الجماهير من أجل المواجهة الجزئية مع الأوليغارشية المحلية والإمبريالية. لكن مشكلات هذا النوع من التفسير تكون واضحة: فهو يتجنب الظاهرة التي ينوي تفسيرها. وبما أنه توجد اختلافات أساسية بين ما يطلق عليه بالحركات الشعبوية، لذلك ما يتم عمله بشكل عام في مثل هذه الحالات، هو الاستمرار في نقاش ظاهرة الشعبوية دون تحديدها(7)، على وجه الدقة وهذا ما أشرنا له في تناول مفهوم الشعبوية.

بالنسبة إلى مؤيدي نظرية التحديث، شكلت الشعبوية وسيلة لدمج الطبقة العاملة الحضرية والطبقات المتوسطة، في السياسة، والتي ظهرت بعد انهيار السياسات الأوليغارشية وانتقال تلك البلدان إلى الرأسمالية والحداثة. أما بالنسبة إلى الماركسيين ومنظّري التبعية، فالشعبوية هي حركة سياسية متعددة الطبقات ذات صلة بمرحلة التصنيع القائمة على إحلال الواردات. ووفقا لهذا التفسير "سمحت السياسات الدولتية والقومية القائمة على إحلال الواردات للزعماء الشعبويين ببناء تحالفات عابرة للطبقات بين العمالة الحضرية، والقطاعات الوسطى، وأصحاب الصناعة المحليين"(8). وبغض النظر عن اختلاف المقاربتين، فإنهما اعتبرتا أن الشعبوية تقتصر على الظروف التاريخية والسياسية للتنمية في العالم شبه الطرفي، و"توافقتا على أهمية تعريفها من الناحية الاجتماعية، المتجذرة في علاقات الإنتاج وظروف السوق"(9)، علما أن هذه الظاهرة لا تشهدها البلدان شبه الطرفية فقط وانما البلاد الرأسمالية المتقدمة.

لا تكمن وحدة الشعبوية في وحدة محتوى برامج الحركات الشعبوية المختلفة؛ إذ تاريخيا وفي الوقت الحالي، فإن الأمر يشير إلى عكس ذلك تماما؛ إذ تكمن وحدتها في وحدة الظروف. لذلك يتطلب تحليل الشعبوية تقسيم تمظهر هذه الظروف إلى عدد من الأبعاد ذات العلاقة. الوحدة التي يمكن أن تظهرها الشعبوية فيما بعد لا تكمن في التفاصيل الخاصة بسلسلة من الظروف المحددة لكن في نمط متكرر لنوع مثالي من العلاقات الاجتماعية(10)، وعلاقتها بالبنية الاقتصادية زمانيا ومكانيا.

يذكر روزانفالون إن السمات الخصوصية للمثال النموذجي للشعبوية تتحدد بتغيّر الواقع، وهكذا، فإن معطيات السياق التاريخي، ومتغيرات الوضع الجيوسياسي، ووضع المؤسسات، ومكانة الدين في المجتمع، وملامح الشخصيات السياسية المعنية وغيرها من المعايير، كلها ترسم مظاهر أساسية تؤهل للحديث عن شعبويات (في صيغة الجمع)(11). وهذا هو واقع الحال إذا نظرنا إلى خريطة توزيع الشعبويات عالميا.

لا يستند الحكم النظري لتصور "الشعب" كتصنيف سياسي إلى البنية الاجتماعية؛ إذ لا يشير هذا إلى مجموعة معينة، بل إلى فعل مؤسسي يخلق قوة جديدة من مجموعة من العناصر غير المتجانسة، يُطلق عليها الشعب، تكون وحدة المجموعة هذه ببساطة نتيجة تجميع المطالب الاجتماعية التي يمكن، بالطبع، أن تتبلور في الممارسات الاجتماعية المترسبة(12)، أي المترسخة عبر الزمن في البنية الاجتماعية.

أسباب ظهور الشعبوية

هناك الكثير من الأسباب المركبة والمتداخلة التي تقف وراء ظهور الشعبوية وتوسعها وهي أساسا ترتبط بالبنية الاجتماعية-الاقتصادية والثقافية والتحولات التي تشهدها، خصوصا تعمق التفاوت الاقتصادي والاجتماعي والخلفية التاريخية للتطورات السياسية والحروب والأزمات التي مرت بها مجتمعات معينة.

تظهر الشعبوية استجابة إلى المشكلات التي يفرزها التحديث ونتائجه. وتكون المشكلات  الأكثر أهمية هي تلك المتعلقة بالتنمية الاقتصادية والسلطة السياسة. وتظهر الحركات الشعبوية في المجتمعات والمجموعات الاجتماعية التي أصبحت تدرك أنها باتت في موقع هامشي بالنسبة إلى مراكز السلطة. ويمكن النظر إلى الفعل الاجتماعي الذي يشكل قاعدة الحركات الشعبوية على أنه مدفوع بمواجهة غير مباشرة مع مشكلات التنمية الاقتصادية(13)، خصوصا في البلدان النامية.

تكتسب الشعبوية زخما من الأزمات؛ فالأزمة أو التهديد يؤديان إلى المطالبة بالتصرف فورا والقيام بإجراءات استثنائية. ويمكن ملاحظة ذلك في أوروبا، حيث الأزمة المالية العالمية عام 2008 التي تلتها أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو وأزمة المهاجريين، مصحوبة بأزمات إقليمية كأزمة شبة جزيرة القرم، والحرب الأهلية السورية، وأزمات طويلة شملت الديمقراطية أو الأحزاب القائمة أو الرأسمالية. وتسمح الأزمات وحالات الطوارئ بتحويل لغة الفاعلين السياسيين في النقاش السياسي باتجاه الراديكالية، وتكييفها لتتحول إلى لغة مباشرة وذات منطق بسيط(14) كي تتقبله وتتفاعل معه قطاعات واسعة من الجماهير.

إن ما يُعدّ أزمة تمر بها الديمقراطية الليبرالية المعاصرة الناتجة من ترابط تقليدين هما التقليد الديمقراطي والتقليد الليبرالي مع انتشار الشعبوية اليمينية في البلدان الغربية ليس بظاهرة جديدة كليا، بل هو من تجليات ما يمكن تسميته أزمة دائمة للديمقراطية في ظروف جديدة(15). وهي في الوقت نفسه أزمة الرأسمالية كنظام التي تكرر على بشكل دوري كما حللها كارل ماركس بعمق.

من الواضح من خلال اشتقاق معطيات إثنوغرافية من المقابلات التي أجريت مع مؤيدي ترامب الانجيليين، وعلى الرغم من الأسباب الكثيرة التي قدمت لدعم ترامب، لكن ما يشتركون فيه هو الخوف من احتمال فقدان وضعهم الاجتماعي الحالي، والغضب من أي شخص يُنظر إليه على أنه تهديد لأمنهم الثقافي. يمكن أن تُفهم هذه الديناميات جيدا وتؤخذ في الاعتبار من خلال الاعتماد على تحليل ثيودور أدورنو للجناح اليميني للحركات الشعبوية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. من منظور عمله هذا، يُفسر دعم الإنجيليين لترامب من خلال الطرق التي يدعو بها أتباعه في خطبه وكذلك شخصيته إلى التخلي عن ذواتهم الفردية والاندماج في عمله الديني. وتوضح النظرية النقدية لأدورنو كيف أن "ابتزاز ترامب في الدين" يتجاهل مضمون المسيحية، بينما يستغل طاقة الحركات الإنجيلية والسخط الاجتماعي. وتساعد منهجية أدورنو في تفسير هذا التطور باعتباره نتيجة التغيرات البنيوية في المجتمع، والتي تؤدي على نحو متزايد إلى تفتيت المؤسسات الوطنية الكبيرة، وترك الناس يربطون أنفسهم بالجلبة المتنافسة على حساب ذواتهم الفردية(16)، وهذا هدف مركزي من أهداف الشعبوية.

يتطلب كذلك دراسة انبثاق الحركات الشعبوية المستبدة ليس فقط ملاحظة دقيقة ودراسة أثنوغرافية، ولكن بحسب كريستوفر بريتين  يحتاج  عمل أدورنو المهم أن يُكمل من خلال تحليل أكثر عمومية للظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تبني وتشكل الدوافع والاهتمامات التي يعبر عنها أتباع مثل هذه الحركات(17).

من الدراسات المتميزة في مقاربتها لظاهرة صعود التيار الشعبوي في أمريكا وأوروبا، الدراسة التي قدمها عزمي بشارة، والتي حاولت أن تقدم مدخلا تفسيريا يركز على فكرة استيراد صراع الحضارات إلى داخل المكونات الثقافية في الولايات المتحدة وأوروبا، وإمكان تحول هذه الثقافات في ظل هذا الصراع المحتدم إلى هويات، وتشير الدراسة إلى تبني فكرة صراع الحضارات من قِبَل قوى دولية أخرى كالصين وروسيا، إلى جانب تزايد الفجوة بين النخبة الليبرالية والفئات المحرومة من الأقليات والطبقة العاملة من البيض في أمريكا وأوروبا؛ ما يجعل العلاقة بين هاتين الفئتين أقرب إلى الصراع منها إلى التحالف(18). وهذا التحليل فيه بُعد طبقي واضح.

في هولندا مثلا، يمكن أن ينظر السياسيون الشعبويون والمحافظون إلى الاختلاط على أنه معادل أو مساوٍ لاندماج الأقليات الإثنية في الحياة الهولندية الحديثة. ووفقًا لوجهة النظر هذه، يفترض أن المهاجرين سيندمجون، وفي حالة "فشل" اندماجهم يُنظر إليهم على أنهم هم السبب وراء هذا الفشل. ونتيجة لذلك، يُوضع المهاجرون، وخصوصًا المسلمين، في موقف دفاعي. وعلى المستوى السياسي، ثمة ميل إلى لوم المهاجرين المسلمين كونهم غير راغبين في الاندماج في المجتمع الهولندي(19). ومن الواضح أن هذه نظرة مبسطة لعملية الاندماج الاجتماعي التي يشترك فيها طرفان المجتمعات المستقبلة للمهاجرين والمهاجرون وهي صيرورة مستمرة لا تتوقف عند نقطة معينة، وتؤثر فيها العوامل الاجتماعية-الاقتصادية والسياسية والثقافية في المجتمعات المستقبلة وفي المجتمعات المرسلة للمهاجرين.

الخطاب الشعبوي

احتل تحليل خطاب الشخصيات والحركات الشعبوية حيزا مهما في الدراسات المتعلقة بهذا الموضوع. وبحسب عزمي بشارة فإن "ظاهرة الشعبوية السياسية نمط من الخطاب السياسي، يتداخل فيه المستويان الخطابي والسلوكي بشكل وثيق، وقد يتفاعل هذا الخطاب مع عفوية تقوم على مزاج سياسي غاضب لجمهور فقد الثقة بالنظام والأحزاب السياسية القائمة والنخب الحاكمة، كما يوظّف بوصفه استراتيجية سياسية في مخاطبة هذا المزاج هادفة إلى إحداث تغيير سياسي عبر الوصول إلى الحكم. ويتحول هذا الخطاب إلى أيديولوجيا في الحالات المتطرفة"(20). وهنا تكمن خطورة وصول الأحزاب الشعبوية للسلطة على الديمقراطية حتى عن طريق الانتخابات والتي لا تنظر له هذه الأحزاب بأنه تداول سلمي السلطة بقدر ما تنظر إليه بأنه عهد جديد وقطيعة مع ما سبقه.

يأتي الخطاب ليرسم علاقة جدلية مع المزاج. وهذه الجدلية مسألة خلافية في تحليل الخطاب خصوصا، والعلوم الاجتماعية عموما. يؤمن أرنستو لاكلو وشانتال موف أن الخطاب يخلق الواقع الاجتماعي، بينما يعتقد الماركسيون، أن الخطاب نتاج للواقع الاجتماعي. ويقف المحللون النقديون للخطاب موقفا وسطا، فالخطاب ينتج المزاج الغاضب، وهو في الوقت نفسه نتاج ذلك المزاج. وبهذا يعمل الخطاب على تعزيز الاستياء وتحويله إلى مواقف معادية لفئات اجتماعية أو مؤسسات سياسية أو نخب حاكمة(21)، كما نلاحظ ذلك في خطاب الشخصيات والأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا خصوصا.

وعن الشعبوية في منطقة آسيا غير المتجانسة من ناحية التطور الاقتصادي والسياسي، والتنوع الثقافي، والبنية الإثنية. إضافة إلى اختلاف الانقسامات الاجتماعية الرئيسية عبر البلدان. يُلاحظ أن انبثاق الشعبوية في هذه المنطقة يُظهر العديد من الأنماط المتميزة التي تشمل إعادة توزيع الشعبوية (تنجم من المستويات العالية لتفاوت الدخل والفقر في المناطق الريفية؛ يعني الانقسام بين النخب السياسية والتجارية الحضرية والفقر في المناطق الريفية والحضرية)، والشعبوية الإثنية-الدينية، والشعبوية التقدمية والشعبوية المستبدة. ومن خلال دراسة 11 حالة، وجد أن كل نمط من الحركات الشعبوية له أهداف وفن خطابة واستراتيجية مختلفة. بالإضافة إلى ذلك، تختلف أيضا تأثيرات الشعبوية على أداء الديمقراطية(22)، اعتمادا على مدى رسوخ الديمقراطية في تلك البلدان.

وفيما يتعلق بما يُسمى بالشعبوية المستبدة، نأخذ العراق مثالا، في زمن حكم حزب البعث؛ إذ يذكر زهير الجزائري "في ضوء الخطاب الديني الجديد تغيرت مشروعية القائد. فحتى عشية غزو الكويت كان هناك اختلاط بين الرمز الشعبوي الذي يجسد عراقية العراقيين بلهجاتهم وأزيائهم ومهنهم المختلفة، وبين الرمز القومي الذي برز بعد غياب عبد الناصر وزيارة السادات للقدس باعتباره تجسيدا للبطل التاريخي العربي الذي بشر به عفلق. الاستعارات الإسلامية ارتفعت في سنوات الحرب الأخيرة مع إيران لقطع الطريق على الحركات الدينية المحلية ومواكبة المد العربي الإسلامي، إلا أن الخطاب السائد هو الخطاب القومي عموما"(23).

الشعبوية والأزمة

تُعد الأزمة مكونا مهما في دراسة وتحليل الشعبوية عبر تاريخها وإلى الوقت الحالي. فإذا عدنا إلى الازمة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية في أوروبا، فقد حللها الكتّاب الماركسيون بعمق. إذ كانت تحدث كل التوجهات الخاصة بالمرحلة الأخيرة من التطور الرأسمالي، وخاصة فيما يتعلق بالتحول في مواقف الطبقات والمصالح، بشكل أكثر وضوحًا  خلال الأزمة، وذلك على نحوين: فهي تصبح مبالغ فيها بسبب الظروف المحيطة، حتى أن بعض التغيرات تصبح معكوسة، ويتركز التحول في فترة قصيرة من الزمن. ففي غضون سنوات قليلة خلال الأزمة تضاعفت البطالة عدة مرات. في الوقت نفسه، لم يحدث تقلص في جهاز التوزيع أو الإدارة، بحيث تحمّل تكاليف انخفاض العمل أولئك الأشخاص المنخرطون في الإنتاج بشكل شبه حصري. وفي ذات الوقت، نمت الطبقة المتوسطة المدمرة ولكن غير البروليتارية بسرعة، في حين زاد بوتيرة سريعة عدد الأشخاص الذين لا يشتغلون في عمل انتاجي  فوق المعدل المتوسط. وبالضرورة تبع ذلك انخفاض في الدور الإنتاجي للفئات المختلفة من المسؤولين والعاملين ذوي الياقات البيضاء(24). وهذا ما زاد من تعمق الأزمة التي مهدت لصعود الفاشية والنازية واندلاع الحرب العالمية الثانية.

إن استغلال الأزمة يمثّل جانبا حيويا من الشعبوية المعاصرة. وبينما تنزع المفاهيم المهيمنة إلى النظر إلى الأزمة باعتبارها عاملا خارجيا فقط بالنسبة إلى الشعبوية، لكن ينبغي أيضًا النظر إلى الأزمة باعتبارها سمة داخلية للشعبوية، بالنظر إلى أن الأزمات لا تكون أبدا حوادث "محايدة"، لكن يتم استغلال الأزمات بنشاط من قبل الجهات الشعبوية الفاعلة التي تحاول تسليط الضوء على الفشل من أجل نشر الشعور بالأزمة. بكلمات أخرى، بينما تمثّل الأزمة "مرحلة" مهمة تتجلى فيها العروض الشعبوية، فإن الجهات الشعبوية الفاعلة تلعب دورا حاسما في تهيئة المسرح للأزمة. من الوضح، أن أهمية الأداء في الشعبوية المعاصرة، يدل على أن الأزمة لا يمكن أن تصبح أزمة إلا من خلال الأداء أو الوساطة(25) اللذين تقوم بهما الشخصيات والحركات الشعبوية المنظمة.

نما مع ظهور الإسلاموفوبيا، في كثير من البلدان الغربية، خطاب سياسي يميني متطرف يسعى بشكل حثيث إلى استثمار تحولات النظام الدولي، والأزمات الاقتصادية العالمية، وحالة الاستقطاب التي تجتاح أقاليم واسعة من العالم. ومع  موجات اللجوء الكبرى القادمة من سوريا والعراق وبلدان آسيوية وأفريقية، خلال السنوات الأخيرة، انتشر خطاب الكراهية على نحو أكبر، وترافق ذلك مع صعود لافت للتيارات اليمينية، ففي الولايات المتحدة، ترافق صعود الشعبوية في ظل إدارة ترامب، مع تنام غير مسبوق في جرائم الكراهية ضد المسلمين(26). وهذا موثق وقد اشارت له العديد من الجهات السياسية والإعلامية في الولايات المتحدة.

كما شهدت الانتخابات الأوروبية في السنوات الأخيرة انتصار الأحزاب اليمينية المتطرفة وتبوُّئها مكانة مركزية في الخريطة السياسية في أوروبا، حيث شهدت العديد من البلدان الأوروبية تراجعا اقتصاديا كبيرا، مع فشل الحكومات اليسارية واليمينية في تحقيق برامجها السياسية ووعودها الانتخابية، ما دفع الأحزاب اليمينية المتطرفة إلى واجهة الأحداث، حيث تنتصر الخطابات القومية والمعادية للهجرة على حساب الأحزاب المعتدلة من اليسار واليمين على حد سواء(27). لا ننسى أن العمليات الإرهابية التي نفذتها الجماعات الإسلامية المتطرفة خصوصا في أوروبا مثل القاعدة وداعش لعبت دورا في تنمية التوجهات اليمينية المتطرفة اجتماعيا وثقافيا وسياسيا. ويشير أسامة السعيد "إن القراءة المتعمقة لتراث العداء ... تكشف أن ثمة سياقات أكثر عمقا وتنوعا مما يبدو عليه التحليل الأولي لذلك الخطاب، فهو لا يصدر إلا عن بُنى فكرية وتاريخية وأيديولوجية، كما أنه يرتبط بمتغيرات جيوسياسية واقتصادية متداخلة"(28)، خصوصا الأزمات الاقتصادية والمالية وآخرها أزمة عام 2008.

وفي هذا السياق، أكد أنطونيو غوتيريش، السكرتير العام الأمم المتحدة، في كلمته أمام الجمعية العامة بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة كراهية الإسلام، الإسلاموفوبيا، في 15 آذار| مارس 2023، "إن الكراهية المتنامية التي يواجهها المسلمون ليست حدثا منعزلا، ولكنها جزء أصيل من عودة القومية الإثنية، وأيديولوجيات النازيين الجدد الذين يتشدقون بتفوق العرق الأبيض، والعنف الذي يستهدف الشرائح السكانية الأضعف"(29). وهنا بالتأكيد يشير إلى المهاجرين المسلمين والأقليات الأخرى التي تكون هدفا لخطاب الكراهية والعنصرية لليمين الشعبوي.

الشعبوية والفاشية

سبق للمناضلة الألمانية كلارا زيتكن قبل مئة سنة أن قالت "عندما نفهم أن الفاشية تمارس تأثيرا حارقا وكاسحا على الجماهير الاجتماعية، التي فقدت أمن وجودها السابق وفي الغالب قناعتها في نظام اليوم، سنكون عندها فقط قادرين على محاربتها"(30). وهذا ينطبق على الحركات الشعبوية الحالية خصوصا ذات التوجه الفاشي.

ظهرت خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، دراسات ماركسية غنية بشأن الفاشية وارتباطها بالشعبوية اتجهت لتأكيد وجود تناقضات متنوعة ومتعددة الأشكال أدت إلى ظهور الفاشية، علما أن النظرية الماركسية عادة ما تعتبر أن الرأسمالية أو الليبرالية هي منشأ الفاشية. ومن بين الأعمال هذه كتابات غرامشي حول الفاشية التي  جمعت في عام 1974 ونشرت في روما (31).

تشترك الشعبوية والفاشية في سمة أساسية، هي "إيمانها بأن الأمة يتم تعريفها وفقا للدين أو العرق ممثلا في أهم مصادر الهوية التي يشترك فيها عرق ما"، ومن هنا تأتي أهمية الوعد الذي يقطعه كلاهما "بتوحيد الأمة في أصلها النقي الأول تحت قيادة قوية". ولعل هذا التماثل في الوسائل والأهداف بين الشعبوية والفاشية هو ما دفع المحكمة في فرنسا عام 2016 إلى إصدار حكم يسمح لخصوم زعيمة حزب الجبهة الوطنية مارين لوبان، بمناداتها بالسياسية الفاشية(32).

في هولندا، كانت النزعة الفاشية حاضرة في خطاب إيفا فلاردينجربروك(33) في مؤتمر للسياسيين اليمينيين المتطرفين والمتعاطفين الذي عقد مؤخرا، حيث تحدثت عن "الغزاة" الذين "سمحت لهم النخبة الفاسدة بالدخول"، وعن "السكان الأوروبيين المسيحيين البيض الأصليين الذين يتم استبدالهم بوتيرة متزايدة باستمرار". ودعت إلى تدمير الاتحاد الأوروبي: "لقد أعلنت نخبنا الحرب علينا، والآن حان الوقت لكي نلبس سلاح الله، ونقاتل، وننتصر". وقد شوهد خطابها بالفعل 50 مليون مرة على تويتر X، وتلقى الكثير من الدعم من الدوائر اليمينية المتطرفة، وأثار الرعب خارجها بشكل أساسي(34). وهذا دليل على استغلال مسألة المهاجرين في تصعيد الخطاب الشعبوي اليميني المتطرف، فيما تؤكد الدراسات والبحوث الأوروبية الأكاديمية حاجة البلدان الأوروبية المتزايدة للعمالة المهاجرة نتيجة تراجع النمو الطبيعي للسكان.

في الولايات المتحدة، وارتباطا بالنزعة الفاشية لليمين المتطرف، وصف ترامب خصومه في حملته الانتخابية الحالية بـ "الحثالة البشرية" وسبق أن وصف اليساريين الأميركيين بالـ "حشرات"، والمهاجرين الذين يعبرون الحدود من المكسيك بأنهم "يسممون دماء بلادنا"(35). كل ذلك لكسب المزيد من الدعم من الأوساط اليمينية المتطرفة خصوصا وسط السكان البيض.

خطر الشعبوية

يُعدُّ صعود الأحزاب والقادة الشعبويين في بلدان أوروبية ذات تجارب ديمقراطية عريقة، ظاهرة شديدة الأهمية والخطر؛ لما تحمله من تهديد واضح لهذه النظم. وعلى الرغم من صعود اليمين الشعبوي في عدة بلدان ديمقراطية في أوروبا شرقا وغربا، لم يستشعر دارسو النظم الديمقراطية خطر التحول الشعبوي على هذه النظم إلا مع وصول الشعبوي ترامب إلى البيت الأبيض؛ إذ بدا لهم أن حجم الخطر الذي يحدق بتجارب البلدان الديمقراطية الراسخة أكبر من أن يُتجاهل، وقد وصل إلى مركز المنظومة الليبرالية(36). وهذا الخطر سيكون أكبر فيما لو نجح ترامب في الفوز بالانتخابات الرئاسية القادمة.

تتمثل النزعة الشعبوية الحقيقية والخطيرة في عدم مسؤوليتها وإهمالها للحقائق والظروف والقيود، فضلاً عن ميلها نحو التطرف. وعندما يسير التطرف الاجتماعي و/أو التطرف القومي جنباً إلى جنب مع الخطاب الشعبوي، فيتعين علينا جميعاً أن ندرك أن جوهر الديمقراطية في خطر(37).

ينبغي تمييز الخطر الذي تمثّله الشعبوية على الديمقراطية بين تهديدها لديمقراطية ليبرالية راسخة قادرة عموما على احتوائها، وخطرها على الديمقراطيات الوليدة، ولا سيما تلك التي نشأت بالانتقال من نظام سلطوي ولم تتطور بالتدريج عن ليبرالية سابقة عليها؛ أي لم تترسخ فيها الحقوق والحريات بعد. فالشعبوية في هذه الحالة يمكن أن تشكّل خطرا حقيقيا(38). وهذه الحالة تنطبق بوضوح على العراق في ظل تجربته الديمقراطية المتعثرة التي نتجت عن الاحتلال وعلى بلدان عربية ونامية أخرى.

تكمن المشكلة في التعبئة الشعبوية لتوجيه الغضب ضد المؤسسات الديمقراطية وليس ضد السياسات فحسب. والأخطر هو تحول الأسلوب الذي يقسم المجتمع إلى "نحن" متخيلة يدّعي المنتمون إليها أنها الشعب من جهة، و "هم" متخيلة من أعداء الشعب، ومؤلفة من النخب والسياسيين والمثقفين والأحزاب عموما، إلى أيديولوجيا. هنا لا تعود الشعبوية مجرد استراتيجية في العمل السياسي بل تدخل في مجال الأيديولوجيا(39). وهذا يقربها أكثر من الفاشية والنازية.

يشرح روزانفالون مسألة التمثيل في الشعبوية، ويأخذ أمثلة من أمريكا اللاتينية في أواسط القرن العشرين، حيث التعارض بين الشعب والنخبة كان أكثر وضوحا لدى المواطنين، وفي هذا السياق برزت موضوعة "الرجل الأمة". ويقتبس عن خورخي جايتان الزعيم الكولومبي البارز في الثلاثينيات والأربعينيات، من القرن العشرين قوله "لست فردا، بل أنا شعب (...) وهو ما استلهمته الشعبويات اللاحقة التي ظهرت في أرجاء القارة الأمريكية". غير أن فكرة "الرجل الأمة" لم تقتصر على شعبويات أمريكا اللاتينية. ففي أثناء الحملة الانتخابية في فرنسا عام 1995 رفعت الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة في ملصقاتها  شعار "لوبان هو الشعب". ويدلل روزانفالون على استمرار هذا النهج لدى سياسيين شعبويين معاصرين مثل الفرنسي جان ميلونشون، حيث قال في تصريحات: "الجمهورية؟ ما هي الجمهورية؟ أنا الجمهورية"، "شخصي مقدس"، "أنا سبعة ملايين شخص" ويقصد هنا عدد الذين صوّتوا له في الانتخابات الرئاسية. وفي الولايات المتحدة قال ترامب في خطاب التنصيب في مؤتمر الحزب الجمهوري "أنا صوتكم"(40). علما يُصنف ميلونشون بأنه يساري متطرف.

عملت استراتيجية الخطاب الشعبوي في أمريكا وبريطانيا، عبر مزيج متنافر من تلمس المشكلات الحقيقية للطبقة المتوسطة والعاملة، وتوجيه اللوم إلى المؤسسة النخبوية، على خلق تحالف عابر للانتماءات الطبقية، ليتم في النهاية تسديد الرمية بعيدا جدا عن الهدف، بإعطاء وصفات خاطئة للحل تركز على العداء للمهاجرين والأقليات وتهدد قيم الديمقراطية(41)، وهذا هو الخطر الأكبر حيث يمكن أن تمهد لما يسمى بالديمقراطية المستبدة.

لا يقتصر أثر الخطاب الشعبوي على فترة الانتخابات الرئاسية في أمريكا حتى مرحلة الفوز فقط، وإنما من المتوقع أن يضفي هذا الخطاب طابعا من الشرعية على حالات العداء للأجانب والأقليات والمرأة في المجتمع الأمريكي، خصوصا تلك النزعات المتسترة والتي لم يكن في إمكانها الظهور في الأزمان العادية، إذ ستتجه تحت الغطاء الواسع الذي يوفره وجود رئيس شعبوي، إلى أن تعبر عن نفسها صراحة وبقوة على هيئة أحداث ومواقف علنية، وربما تطورت إلى اعتداءات وهجمات بدافع الكراهية. أما خطر الحرب الأهلية، فهو احتمال وارد، وخصوصا من المناصرين للديمقراطية الليبرالية والمدافعين عن حقوق الأقليات لن يقفوا مكتوفي الأيدي، وقد بدأت بوادر حالات التمرد والمقاومة للتوجه الشعبوي في زمن رئاسة ترامب في الظهور عبر تظاهرات وحشود غاضبة(42). ومن المحتمل أن تكون المقاومة أشد في حالة فوز ترامب في الانتخابات القادمة.

أما على مستوى المنطقة العربية، يذكر الكاتب حسن أوريد أن "الشعوب العربية والسَّرديّات الجامعة؛ من قوميّة عربيّة، إلى إسلامٍ سياسي، فانتشاء خلال (الربيع العربي)، جميعها منيت بإخفاق في مستوى كلّ موجة، ولم يبق من بديلٍ لهجير الكبوات سوى سراب الشعبويّة. وهل يكون الدواء من صميم الداء: الهروب من رمضاء تشوُّه السياسة، وكساد الاقتصاد، وكبوة الثقافة، إلى هجير الشعبويّة؟ لا بديل يلوح في أفق العالم العربي، سوى السلطويّة متلفّعةً بلبوسٍ شعبوي"(43). وهنا يبدو أوريد متشائما، لأن ديناميات التحولات الاجتماعية والاقتصادية في البلدان العربية على الرغم من تفاوتها، لابد وأن تُعيد الفرز والاصطفاف الاجتماعي، وهذان العاملان يسهمان في خلق مقدمات للفعل السياسي بأشكاله المتنوعة، بما فيها الانتفاضات والثورات والتي نعتقد أنها ستكون أنضج مما سبقها بحكم تراكم التجارب التاريخية، باتجاه السعي من أجل بناء نُظم ديمقراطية ترتكز على دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية مهما طال الزمن.

***

د. هاشم نعمة

.....................

الهوامش

1 - أبو بكر عبد الرزاق، "الديمقراطية الليبرالية بين النخبوية والشعبوية: دراسة أسباب صعود التيار الشعبوي في أمريكا وتداعياته"، سياسات عربية، العدد 26، أيار| مايو 2017، ص 68.

2- Ernesto Laclau, Politics and Ideology in Marxist Theory: Capitalism, Fascism, Populism (London: NLB, 1977), p. 143.

3 - سعيد بكار، "في الإجابة عن سؤال: ما الشعبوية؟ (مراجعة كتاب عزمي بشارة)، سياسات عربية، العدد 54، كانون الثاني| يناير 2022، ص 146.

4 - طارق عزيزة، "قرن من الشعبوية: التاريخ والنظرية والنقد" (مراجعة كتاب بيير روزانفالون)، تبيُّن، العدد 48، المجلد 12، ربيع 2024، ص 158.

5- Ernesto Laclau, On Populist Reason, London/ New York: Verso, 2005, p. 3.

6 - فرانك ستنغل وآخرون (تحرير)، الشعبوية والسياسة العالمية، سبر الأبعاد الدولية والعابرة للحدود، ترجمة محمد حمشي، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022، ص 71-72.

7 - Laclau, Politics and Ideology, pp. 144-145.

8 - ستنغل وآخرون، ص 75.

9 - المصدر نفسه، ص 75-76.

10- Ghita Ionescu & Ernest Gellner, Populism its meanings and national characteristics, London: Weidenfeld & Nicolson, 1969, p. 180.

11 - عزيزة، ص 161.

12- Laclau, On Populist, p. 224.

13- Ionescu, pp. 180-181 & Gellner.

14 - ستنغل وآخرون، ص 86.

15- عزمي بشارة، "الشعبوية والأزمة الدائمة للديمقراطية"، سياسات عربية، العدد 40، أيلول| سبتمبر 2019، ص 9.

16- Jeremiah Morelock (ed.) How to Critique Authoritarian Populism , Brill, 2021, p. 384.

17- bid., pp. 384-385.

18 - عبد الرزاق، ص 70-71.

19- Thaddeus Muller & Peer Smets, “Welcome to The Neighbourhood: Social Contacts between Iraqis and Natives in Arnhem, The Netherlands "Local Environment", vol. 14, no. 5 (May 2009), pp. 403-404.

20 - بشارة، ص 8.

21 - بكار، ص 148.

22 - Sook Jong Lee et al., (ed.) Populism in Asian Democracies: Features, Structures, and Impacts, Leiden/ Boston: Brill: 2015, p. 211.

23 - زهير الجزائري، المستبد، صناعة قائد- صناعة شعب، ط 2، بغداد: دار سطور للنشر والتوزيع، 2023، ص 306.

24 - David Beetham (Translation), Marxists in face of Fascism, Manchester University Press, 1983, p. 303.

25- Benjamin Moffitt, The Global Rise of Populism, California: Stanford University, 2016, pp. 131-132.

26 - أسامة السعيد، "سياقات بناء (الإسلاموفوبيا) في الخطاب الغربي"، السياسة الدولية، العدد 233، يوليو 2023، ص 266.

27 - المصدر نفسه، ص 266.

28 - المصدر نفسه، ص 262.

29 - عبير ياسين، "الإسلاموفوبيا... الكراهية والعنصرية في خدمة التطرف والإرهاب"، السياسة الدولية، العدد 233، يوليو 2023، ص 254.

30 - رشيد غويلب (ترجمة)، "تحليل كلارا زيتكن للفاشية (نص الخطاب)"، الثقافة الجديدة، العدد 442، كانون الثاني 2024، ص 83.

31- هاشم نعمة، "في فهم الفاشية"، طريق الشعب، 28 نيسان| أبريل 2024.

32 - عبد الرزاق، ص 69.

33 - سياسية سابقة في حزب الحرية من أجل الديمقراطية الهولندي FVD اليميني المتطرف ومنذ بضع سنوات صانعة رأي يمينية متطرفة معروفة دوليا.

34- Floor Rusman, "Fascisme als zinloos etiket", NRC Handelsblad, 4 mei 2024.

35 - "ترمب يصف خصومه بـ (الحثالة البشرية)"، الشرق الأوسط، 28 مايو 2024.

36 - عبد الرزاق، ص 68.

37 -p. 93.  Hannes Swoboda & Jan Wiersma (eds.), Democracy, Populism and Minority Rights, Renner Institute, 2008,

38- بشارة، ص 8.

39- المصدر نفسه، ص 9.

40 - عزيزة، 159-160.

41- عبد الرزاق، ص 73.

42 - المصدر نفسه، ص 75.

43 - "إغراء الشعبوية في العالم العربي... الاستعباد الطوعي الجديد"، (عرض لكتاب حسن أوريد)، الشرق الأوسط، 8 تموز| يوليو 2024.

نشرت في مجلة الثقافة الجديدة، العدد 447، أيلول| سبتمبر 2024

 

بينما التوراة لا تذكر من الأقوام البائدة الكافرة سوى قوم نوح وقوم لوط وقوم فرعون، فالقرآن يحدثنا عن الأقوام الأولين البائدين وأولهم قوم نوح وآخرهم قوم فرعون، وبينهما أقوام كثيرون كقوم عاد وقوم ثمود وقوم تُبَّع، وقوم إبراهيم وقوم مدين، والأخيران ذكرتهما التوراة ولم تذكر كفرهما إلا في مواضع متأخرة وليس عند مبدأ الحديث عنهم!

‏﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)﴾ [الحج: 43- 44].

﴿‏أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [التوبة: 70]. والمؤتفكات هم قوم لوط.

ولا خلاف بين القرآن والتوراة في أن قوم نوح هم أول قوم من الأقوام العصاة الذين استحقوا الهلاك بكفرهم. ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)﴾ [الإسراء: 17]. وأعاد الله إعمار الأرض بعدهم. ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء: 3].

والقرآن يذكر قوم عاد، وأنهم أول قوم استخلفوا في الأرض بعد قوم نوح. وسنشرح في مبحث منفصل في كتابي "القصص الحق" ما ذكره القرآن عن (إرم) وما ذكرته التوراة عن (أرام).

﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا .............أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)﴾ [الأعراف: 65: 69].

ثم يذكر القرآن قوم ثمود بأنهم من خلفوا بعد قوم عاد، ولا تأتِ التوراة على ذكرهم بتاتًا رغم أن صالح من أجداد إبراهيم، ويسمونه في توراتهم شالح لإبهام اسمه كي لا يُعرف. ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ................... وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)﴾ [الأعراف: 73- 74].

وتأكيدات القرآن حول ترتيب هؤلاء الأقوام الثلاثة متكررة. ﴿مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) ﴾ [غافر: 31].

﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53)﴾ [النجم: 50- 53].

﴿وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)﴾ [إبراهيم: 8- 9].

وفي الآيات إخبار لنا من القرآن الكريم أن بني إسرائيل جاءهم خبر قوم عاد وقوم ثمود، لأننا لا نجد لهم أثر في التوراة. وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ تأكيد آخر على كثرة الأقوام البائدة الذين لم يقص الله تعالى علينا قصصهم، وبعضهم ذُكر اسمه في القرآن دون أدنى تفصيل كأصحاب الرس وقوم تُبع.

﴿وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)﴾ [الفرقان: 37- 38]. حتى أن المدقق في آية الفرقان يستنبط منها أن قوم نوح أرسل الله إليهم رسلًا آخرين معه.

وفي بعض الآيات يكون ذكرهم دون ترتيب زمني لغرض ما من جمع كل مجموعة منهم في آية واحدة. ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13)﴾ [ص: 12- 13].

﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)﴾ [ق: 12- 14].

وقد بحثت عن أصحاب الرس الذين قُرنوا بثمود مرتين في القرآن الكريم، وما اطمأننت إليه أن الرس هو وادٍ كثير النخل، وبه بئر مطوية بالحجارة، وقد ذُكر الواد في معلقة زُهير بن أبي سُلمى، واختلفوا في مكان وادي الرس، والأقرب أنه في اليمامة بنجد، وأهم ما في الأمر أن أصحاب الرس ألقوا نبيهم في البئر التي بالوادي.

بَكَرْنَ بُكُورًا وَاسْتَحْرَنَ بِسُحْـرَةٍ ***** فَهُـنَّ وَوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَـمِ

فَـلَمَّا وَرَدْنَ المَاءَ زُرْقاً جِمَامُـهُ ***** وَضَعْـنَ عِصِيَّ الحَاضِرِ المُتَخَيِّـمِ

ويذكر القرآن كفر قوم مدين وغشهم في الموازين. ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ﴾ [هود: 84].

وديار مدين إلى الجنوب من قرية لوط عليه السلام، في أقصى الجزء الشمالي الغربي من جزيرة العرب، وهذا معلوم لا خلاف فيه بين العرب، وإن كانت التوراة قد نقلتها لتكون جنوب البحر الميت مباشرة وليس شرق خليج العقبة كما نعرف. وقوم مدين قد أهلكوا بالصيحة مثل قوم لوط. وقد نص القرآن على لسان شعيب عليه السلام بأن ما حدث لقوم لوط قريب منهم، ولا يُفهم تحديدًا هل القصد لقربهم المكاني أم الزماني أم كليهما.

﴿وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)﴾ [هود: 89].

فلو كان قربًا زمانيًا فهذا يعني أن القرآن يخبرنا أن كفر قوم مدين وبعثة نبي الله شعيب فيهم كان بعد هلاك قوم لوط بزمن يسير، وهذا يجعل شعيبًا أسبق من إسماعيل أو معاصرًا له، وهو احتمال مستبعد تمامًا لأن قوم مدين من نسل إسماعيل، فجُذام ممن تشاءم من ولد سبأ، وسنناقش هذه النقاط في مواضعها من كتابي "القصص الحق".

ورغم أن التوراة ذكرت قوم مدين ونسبت أباهم إلى نبي الله إبراهيم -كما سنشرح في مبحث منفصل في كتاب "القصص الحق"-، وذكرتهم مرة ثانية في قصة موسى عليه السلام، إلا أنها لم تذكر كفرهم القديم وبعثة نبي فيهم.

والقرآن يذكر قوم تُبَّع دون أن يقص قصتهم، ويُذكِّر بالذين من قبلهم، فكأنهم من آخر الأقوام البائدة قبل قوم فرعون، ولكنهم ليسوا في عتو وكفر قوم فرعون. وتُبَّع هو ملك عربي يمني على المشهور عند العرب، لم يكن قومه مؤمنون.

﴿‏أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ [الدخان: 37].

‏ويؤكد القرآن مرارًا على أن آل فرعون هم آخر الأقوام البائدة.

﴿‏كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [آل عمران: 11].

‏﴿‏كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: 52].

‏﴿‏كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ﴾ [الأنفال: 54].

وفي القرآن الكريم آيات تضم قارون –وهو من بني إسرائيل قوم موسى عليه السلام- إلى فرعون ووزيره هامان، وتخبرنا أن موسى كان مرسلًا إلى قارون مثلما هو مرسل إلى فرعون وهامان، وتذكر الخسف ضمن طرق العقاب الدنيوي التي عاقب بها الله الخطاة العاصين.

 ‏﴿‏وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)﴾ [العنكبوت: 39- 40].

ومعلوم أن قارون هو من خُسف به وبداره الأرض.

﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)﴾ [القصص: 81].

ويخبرنا القرآن الكريم أن التوراة أنزلها الله تعالى على موسى عليه السلام بعد هلاك القرون الأولى، ما يؤكد أن فرعون وقومه هم آخر القرون الأولى.

‏﴿‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)﴾ [القصص: 43].

وهو ما لا تختلف فيه التوراة، ولكنها لا تنص عليه، كونها لم تذكر أن صحفًا نزلت على موسى في الفترة التي دعا فيها فرعون وقومه للإيمان، فوفقًا للتوراة فالله لم ينزل على موسى سوى ألواح التوراة وبعض الآيات التي نزلت فرقانًا عليه وعلى هارون عليه السلام بعدها، وذُكر بعض فرقان موسى في سفر التثنية، بينما يذكر القرآن ما أنزل عليه قبلها ويسميها بصحف موسى، ويذكر أيضًا صحف إبراهيم، أو يعمم فيقول الصحف الأولى.

‏﴿‏وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾ [طه: 133].

 وهي صحف منسوخة لم تبقَ، فكأن القرآن يخبرنا أن الكتب السماوية الثلاث الباقية للرسالات الخاتمة نزلت بعد هلاك الأقوام البائدة الأولى، لكن يوضح الله تعالى في القرآن أن ما شرعه لأمة محمد هو مزيج مما وصى به نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، إضافة إلى ما أوحاه لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام.

‏‏﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا ‏بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى ‏الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ ‏يُنِيبُ (13)﴾ [الشورى: 13].

ويذكر لنا القرآن في سورة النجم بعضًا مما لم يُنسخ، ومنه ذكر قومي عاد وثمود، وربما كان في هذا تبرير لغياب ذكرهما في التوراة؛ إن كان قد نزل ذكرهما في الصحف المنسوخة قبل التوراة وحسب.

﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) ﴾ [النجم: 36-  56].

ثم يذكر لنا القرآن بعض ما نزل في الصحف الأولى المنسوخة في سورة قصيرة كاملة، هي سورة الأعلى.

﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)﴾ [سورة الأعلى].

***

د. منى زيتون

مستل من كتابيّ "القصص الحق" و "تأملات في كتاب الله"

لقد كان الدين جانبا أساسيا من الحضارة الإنسانية لقرون من الزمان، حيث يوفر للأفراد شعورًا بالهدف والانتماء والتوجيه الأخلاقي. وفي حين قد يختلف مفهوم الدين من ثقافة إلى أخرى، فإن أهميته الأساسية تظل عالمية. في هذه المقالة، سنتعمق في معنى الدين، ونستكشف كيف يؤثر على معتقداتنا وسلوكياتنا وتفاعلاتنا مع العالم من حولنا. من خلال فحص الدور الذي يلعبه الدين في تشكيل قيمنا وهوياتنا، يمكننا اكتساب فهم أعمق لتأثيره العميق على المجتمع. لتوضيح التفسيرات المتنوعة للدين، سنستكشف أمثلة من تقاليد دينية مختلفة، بما في ذلك المسيحية والإسلام والبوذية والهندوسية واليهودية. من خلال تحليل مقارن، سنبرز أوجه التشابه والاختلاف بين هذه الديانات، ونلقي الضوء على مبادئها وممارساتها الأساسية. من خلال فحص تعاليم الشخصيات الدينية المؤثرة والكتب المقدسة التي توجه أتباعها، يمكننا اكتساب رؤى حول التجارب الروحية العميقة التي تشكل نظرتنا للعالم. ومن خلال الفحص الدقيق لهذه الأمثلة، يمكننا أن ندرك النسيج الغني من المعتقدات التي تشكل المشهد الديني العالمي.

1. الدين قوة عظيمة تشكل الأفراد والمجتمعات والثقافات في جميع أنحاء العالم.

الدين قوة عظيمة تشكل الأفراد والمجتمعات والثقافات في جميع أنحاء العالم بطرق عميقة. سواء كنا مؤمنين ممارسين أو لا أدريين أو ملحدين، لا يمكن إنكار أن الدين يلعب دورا مهما في حياتنا. منذ العصور القديمة إلى المجتمعات الحديثة، كان الدين قوة دافعة وراء السلوك البشري والمعتقدات والقيم والتقاليد. بالنسبة للعديد من الأفراد، يقدم الدين شعورا بالهدف والمعنى والانتماء. كما يوفر بوصلة أخلاقية للتنقل عبر شكوك الحياة وتحدياتها. يقدم الدين الراحة في أوقات الحزن، والعزاء في أوقات اليأس، والأمل في أوقات الشدائد. إنه بمثابة مصدر للقوة والمرونة للمؤمنين الذين يستعينون بإيمانهم للتغلب على العقبات وتحقيق النمو الشخصي. علاوة على ذلك، فإن الدين له تأثير عميق على المجتمعات، ويشكل قوانينها وعاداتها ومؤسساتها. تؤثر المعتقدات الدينية على القرارات السياسية والأعراف الاجتماعية والممارسات الثقافية. في بعض المجتمعات، يتشابك الدين بشكل عميق مع الحكومة، مما يؤثر على السياسات المتعلقة بقضايا مثل التعليم والرعاية الصحية وحقوق الإنسان. غالبا ما يلعب الزعماء الدينيون دورا بارزا في الدعوة إلى العدالة الاجتماعية وتعزيز السلام وتقديم الخدمات الخيرية للمحتاجين. على نطاق عالمي، يتمتع الدين بالقدرة على توحيد أو تقسيم الناس من خلفيات ومعتقدات وثقافات مختلفة. على مر التاريخ، أدت الصراعات الدينية إلى الحروب والاضطهاد والتمييز. ومع ذلك، يتمتع الدين أيضا بالقدرة على تعزيز التفاهم والتسامح والتعاون بين المجتمعات المتنوعة. الحوار بين الأديان والشراكات المسكونية والجهود التعاونية من أجل العدالة الاجتماعية هي أمثلة على كيف يمكن للدين أن يكون قوة موحدة من أجل الخير في العالم. لا يمكن إنكار تأثير الدين على الثقافات، لأنه يؤثر على الفن والموسيقى والأدب والعمارة وغيرها من أشكال التعبير الإبداعي. تلهم المعتقدات والممارسات الدينية الفنانين والكتاب والموسيقيين لخلق أعمال ذات جمال ورمزية وأهمية روحية. إن الطقوس والاحتفالات الدينية تشكل جزءا لا يتجزأ من التقاليد الثقافية، فهي تنقل القيم المشتركة والهوية الجماعية والشعور بالاستمرارية مع الماضي. وفي الختام، فإن الدين قوة قوية تشكل الأفراد والمجتمعات والثقافات بطرق عميقة ودائمة. وسواء اعتنقنا المعتقدات الدينية أو رفضناها، فمن المستحيل أن ننكر التأثير الذي يخلفه الدين على حياتنا وعالمنا. ومن خلال فهم معنى الدين وتأثيره على الإنسانية، يمكننا أن نكتسب تقديراً أعمق لتنوع المعتقدات والقيم والخبرات التي تشكل نسيج الوجود الإنساني. وبينما نواصل الإبحار عبر تعقيدات عالمنا المعولم، فلنعمل جاهدين على احترام وتقدير الدور الذي يلعبه الدين في تشكيل إنسانيتنا المشتركة.

2. إنه يمنح المؤمنين إحساسا بالهدف والمعنى، ويمنحهم إطارا لفهم العالم ومكانهم فيه.

يلعب الدين دورا حاسما في تشكيل نظرة العالم وهوية المؤمنين من خلال تزويدهم بإحساس بالهدف والمعنى في الحياة. عبر مختلف الثقافات والتقاليد، يعمل الدين كإطار خالد يمكن للأفراد من خلاله التنقل عبر التعقيدات وعدم اليقين في العالم من حولهم. أحد الجوانب الأساسية للدين هو قدرته على تقديم غرض أو سبب أعلى للوجود للمؤمنين. سواء كان ذلك من خلال خالق إلهي، أو مجموعة من المبادئ الأخلاقية، أو نظام اعتقاد جماعي، فإن الدين يوفر للأفراد إحساسًا بالاتجاه والأهمية في عالم يمكن أن يشعر غالبًا بالفوضى والعشوائية. بالنسبة للعديد من الناس، يمنحهم هذا الشعور بالهدف القوة والدافع لمواجهة تحديات الحياة وانتصاراتها بالمرونة والتفاؤل. علاوة على ذلك، يساعد الدين المؤمنين على فهم مكانهم في العالم وعلاقاتهم مع الآخرين. من خلال توفير مجموعة من القيم الأخلاقية والمبادئ الأخلاقية، يقدم الدين إرشادات حول كيفية تفاعل الأفراد مع بعضهم البعض، وتعزيز التعاطف والتسامح والتفاهم. إن هذه البوصلة الأخلاقية لا تساعد المؤمنين على توجيه أفعالهم وقراراتهم فحسب، بل إنها تعزز أيضا الشعور بالانتماء إلى المجتمع والتواصل مع الآخرين الذين يتشاركون معهم معتقدات مماثلة. على سبيل المثال، في المسيحية، يمكن أن يوفر الإيمان بإله محب ومتسامح للمؤمنين العزاء في أوقات الشدة والشدائد. يمكن أن يوفر هذا الإيمان بقوة أعلى مصدراً للراحة والاطمئنان إلى وجود خطة أعظم قيد العمل، حتى في مواجهة المعاناة أو الخسارة. وبالمثل، في البوذية، يمكن لمبادئ الرحمة واليقظة أن تساعد الأفراد على إيجاد السلام الداخلي والرضا، على الرغم من عدم ثبات الحياة وعدم اليقين فيها. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للدين أيضاً أن يوفر للمؤمنين شعوراً بالانتماء والهوية داخل مجتمع أكبر. من خلال الطقوس والتقاليد والمعتقدات المشتركة، تقدم المجتمعات الدينية شعوراً بالتضامن والدعم يمكن أن يكون مريحاً ومُمَكِّناً للغاية. يمكن لهذا الشعور المشترك بالهوية أن يعزز الروابط الاجتماعية ويعزز الشعور بالوحدة والغرض بين المؤمنين. في الختام، يعمل الدين كأداة قوية لإعطاء المؤمنين شعورا بالهدف والمعنى والارتباط في عالم يمكن أن يشعر غالبا بالإرهاق وعدم اليقين. من خلال تزويد الأفراد بإطار لفهم مكانهم في العالم وعلاقاتهم مع الآخرين، يساعد الدين في تشكيل نظرتهم إلى العالم وهويتهم بطرق عميقة. من خلال قوة الإيمان والطقوس والمجتمع، يقدم الدين للمؤمنين مصدرًا للقوة والتوجيه والإلهام وهم يتنقلون بين تعقيدات الحياة.

3. على سبيل المثال، تعلم المسيحية الحب والرحمة والمغفرة، في حين يؤكد الإسلام على الخضوع لإرادة الله واتباع أركان الإسلام الخمسة.

يلعب الدين دورا مهما في تشكيل معتقدات وقيم وممارسات الأفراد والمجتمعات في جميع أنحاء العالم. تقدم ديانتان عالميتان رئيسيتان، المسيحية والإسلام، وجهات نظر فريدة حول معنى الحياة والأخلاق وعلاقتنا بقوة أعلى. على سبيل المثال، تعلم المسيحية الحب والرحمة والمغفرة كمبادئ أساسية للإيمان. تؤكد تعاليم يسوع المسيح على أهمية محبة بعضنا البعض، وإظهار الرحمة تجاه المحتاجين، ومسامحة أولئك الذين أخطأوا في حقنا. هذه القيم أساسية للإيمان المسيحي وتوجه المؤمنين في كيفية تفاعلهم مع الآخرين وعيش حياتهم. في الكتاب المقدس، يأمر يسوع أتباعه "أن تحب قريبك كنفسك" (متى 22: 39)، مسلطا الضوء على أهمية إظهار اللطف والتعاطف تجاه الآخرين. يُدعى المسيحيون إلى تجسيد روح الحب في تفاعلاتهم مع من حولهم، والسعي إلى تنمية الشعور بالوحدة والتفاهم بين جميع الناس. إن هذا التأكيد على الحب والرحمة يعمل كقوة قوية لتعزيز السلام والوئام والنوايا الحسنة في العالم. وبالإضافة إلى الحب والرحمة، فإن المسيحية تضع أيضا تأكيدا قويا على مفهوم المغفرة. إن تعاليم يسوع بشأن المغفرة تشكل جوهر الإيمان المسيحي، حيث يُدعى المؤمنون إلى مسامحة الآخرين تماما كما غفر الله لهم. إن هذا التأكيد على المغفرة هو مبدأ قوي يمكن أن يساعد الأفراد على التغلب على مشاعر الغضب والاستياء والمرارة، وتعزيز الشفاء والمصالحة في العلاقات. من ناحية أخرى، يؤكد الإسلام على الخضوع لإرادة الله واتباع الأركان الخمسة باعتبارها مبادئ أساسية للإيمان. إن مفهوم الخضوع، أو "الإسلام"، يكمن في قلب الإيمان الإسلامي، حيث يُدعى المؤمنون إلى الخضوع الكامل لإرادة الله في جميع جوانب حياتهم. من خلال تسليم أنفسهم لهداية الله، يسعى المسلمون إلى تنمية شعور التواضع والإخلاص والطاعة في علاقتهم بخالقهم. تعمل الأركان الخمسة للإسلام كواجبات وممارسات أساسية يتوقع من جميع المسلمين اتباعها. تتضمن هذه الأركان إعلان الإيمان (الشهادة)، والصلاة (الصلاة)، والصيام خلال شهر رمضان (الصوم)، والصدقة (الزكاة)، والحج إلى مكة (الحج) مرة واحدة على الأقل في العمر لمن استطاع إليه سبيلا. باتباع هذه الأركان، يُظهِر المسلمون التزامهم بإيمانهم ويعززون ارتباطهم بالله والمجتمع الإسلامي الأوسع. من خلال استكشاف تعاليم المسيحية والإسلام، نكتسب فهمًا أعمق للطرق المتنوعة التي يشكل بها الدين معتقداتنا وقيمنا وأفعالنا. يقدم كلا التقليدين الدينيين رؤى قيمة حول معنى الحياة وطبيعة الأخلاق ومسؤولياتنا تجاه أنفسنا والآخرين. سواء من خلال الحب والرحمة في المسيحية أو الخضوع والإخلاص في الإسلام، فإن الدين بمثابة مصدر قوي للتوجيه والإلهام للأفراد الذين يسعون إلى عيش حياة ذات معنى وهدف.

4. إن دراسة المعتقدات والممارسات الدينية للثقافات المختلفة من شأنها أن تعزز الفهم والتعاطف واحترام التنوع.

إن دراسة المعتقدات والممارسات الدينية للثقافات المختلفة ليست مجرد مسعى أكاديمي، بل إنها خطوة حاسمة نحو تعزيز الفهم والتعاطف واحترام التنوع في مجتمعنا. ومن خلال التعمق في النسيج الغني للتقاليد الدينية من جميع أنحاء العالم، يمكننا اكتساب رؤى لا تقدر بثمن في المعتقدات والقيم التي تشكل حياة إخواننا البشر. ومن الطرق الرئيسية التي تعزز بها دراسة الممارسات الدينية المختلفة فهمنا هي تزويدنا بنافذة على وجهات نظر الآخرين في العالم. فالدين بمثابة قوة قوية تشكل الطريقة التي ينظر بها الناس إلى العالم، ويفسرون تجاربهم، ويديرون علاقاتهم مع الآخرين. ومن خلال الانغماس في معتقدات وطقوس الثقافات الأخرى، يمكننا تطوير تقدير أعمق للطرق المتنوعة التي يفهم بها الناس العالم من حولهم. وعلاوة على ذلك، فإن دراسة المعتقدات الدينية للثقافات المختلفة من شأنها أيضًا أن تعزز التعاطف من خلال تمكيننا من رؤية العالم من خلال عيون الآخرين. عندما نخصص الوقت لفهم النصوص المقدسة والطقوس والرموز التي تحمل أهمية للأشخاص من مختلف التقاليد الدينية، فإننا نكون أكثر قدرة على التعاطف مع أفراحهم وصراعاتهم وأحزانهم. يمكن أن يساعد هذا الفهم المتعاطف في سد الفجوة بين الأفراد من خلفيات ثقافية مختلفة، وتعزيز الروابط وخلق شعور بالإنسانية المشتركة. إن احترام التنوع هو نتيجة حاسمة أخرى لدراسة المعتقدات والممارسات الدينية للثقافات المختلفة. من خلال الاعتراف بالطرق الفريدة التي تعبر بها المجتمعات المختلفة عن روحانيتها وتكريمها، يمكننا أن نزرع شعورًا عميقًا بالاحترام لثراء وتعقيد التجربة الإنسانية. يعمل هذا الاحترام للتنوع كترياق قوي للتحيز والتمييز وعدم التسامح، مما يعزز مجتمعًا أكثر شمولا وتناغما. في عالمنا المتزايد العولمة، حيث تتواصل الثقافات والأديان المختلفة على أساس يومي، أصبح من المهم أكثر من أي وقت مضى تنمية الفهم والتعاطف واحترام التنوع. من خلال دراسة المعتقدات والممارسات الدينية للثقافات المختلفة، يمكننا تجهيز أنفسنا بالأدوات اللازمة للتنقل عبر تعقيدات مجتمعنا التعددي بنعمة وحساسية. وفي الختام، فإن دراسة المعتقدات والممارسات الدينية للثقافات المختلفة تشكل رحلة تحويلية يمكنها توسيع آفاقنا وتعميق تعاطفنا وإثراء تقديرنا لتنوع التجارب الإنسانية. ومن خلال تخصيص الوقت للتعرف على التقاليد المقدسة للآخرين، يمكننا بناء جسور التفاهم، وإقامة روابط التعاطف، وزراعة ثقافة الاحترام للنسيج الغني من المعتقدات التي تشكل عالمنا. دعونا نغتنم هذه الفرصة للنمو في المعرفة والرحمة والانفتاح على التنوع العجيب للروحانية البشرية.

5. من خلال استكشاف معنى الدين، يمكننا اكتساب نظرة ثاقبة للتجربة الإنسانية والأسئلة الكونية للوجود.

لقد لعب الدين دائمًا دورًا مهمًا في تشكيل المجتمعات والثقافات البشرية عبر التاريخ. لقد وفر إطارا لفهم أسرار الوجود، ومعالجة المعضلات الأخلاقية، واستكشاف تعقيدات التجربة الإنسانية. من خلال التعمق في معنى الدين، يمكننا اكتساب نظرة ثاقبة عميقة للأسئلة الأساسية التي ابتليت بها البشرية لقرون. أحد أكثر جوانب الدين إقناعا هو قدرته على تقديم تفسيرات لأصول الكون والبشرية. تقدم العديد من الأديان أساطير الخلق التي تسعى إلى الإجابة على أسئلة حول كيفية تشكل العالم وكيف جاء البشر إلى الوجود. على سبيل المثال، في المسيحية، يصف سفر التكوين خلق الله للعالم في ستة أيام. وبالمثل، في الهندوسية، يروي الريجفيدا قصة التضحية الكونية بالكائن البدائي، بوروشا، الذي خُلق منه الكون. من خلال دراسة هذه الأساطير واستكشاف المعتقدات التي تكمن وراءها، يمكننا اكتساب فهم أعمق لكيفية تعامل الثقافات المختلفة مع أسرار الوجود. كما يعمل الدين كبوصلة أخلاقية للعديد من الناس، حيث يقدم التوجيه حول كيفية العيش في حياة فاضلة وأخلاقية. على سبيل المثال، توفر الوصايا العشر في اليهودية والمسيحية مجموعة من القواعد للسلوك تؤكد على الصدق واحترام الآخرين وقدسية الحياة. في البوذية، يحدد المسار النبيل الثماني طريقة لتحقيق التنوير من خلال السلوك الأخلاقي واليقظة والتأمل. من خلال فحص هذه التعاليم الأخلاقية، يمكننا اكتساب نظرة ثاقبة للقيم التي شكلت المجتمعات البشرية وما زالت تؤثر على مواقفنا وسلوكياتنا اليوم. علاوة على ذلك، يوفر الدين شعورا بالمجتمع والانتماء للعديد من الناس، ويقدم شبكة دعم من الأفراد ذوي التفكير المماثل الذين يتشاركون في المعتقدات والقيم المشتركة. غالبا ما تجتمع المجتمعات الدينية معا للعبادة والاحتفال بالمهرجانات ودعم بعضها البعض في أوقات الحاجة. على سبيل المثال، يجتمع المسلمون للصلاة الجماعية خلال شهر رمضان، ويجتمع المسيحيون معا لحضور خدمات العبادة يوم الأحد، ويحتفل الهندوس بعيد ديوالي بالألعاب النارية والأعياد. من خلال دراسة هذه الممارسات والطقوس الجماعية، يمكننا اكتساب فهم أعمق للحاجة البشرية للتواصل والانتماء. بالإضافة إلى ذلك، يوفر الدين إطارًا للتعامل مع الأسئلة العالمية المتعلقة بالحياة والموت والمعاناة والفداء والمعنى النهائي للوجود. تقدم العديد من التقاليد الدينية تفسيرات لسبب وجود المعاناة في العالم وكيف يمكن التغلب عليها من خلال الإيمان والصلاة والأعمال الصالحة. على سبيل المثال، في البوذية، تعلم الحقائق النبيلة الأربع أن المعاناة جزء متأصل من الحياة ولكن يمكن تجاوزها من خلال ممارسة اليقظة والرحمة. من خلال استكشاف هذه الأسئلة الوجودية من خلال عدسة الدين، يمكننا اكتساب نظرة ثاقبة للحالة الإنسانية والبحث عن المعنى الذي يتجاوز أنظمة المعتقدات الفردية. في الختام، من خلال الخوض في معنى الدين، يمكننا اكتساب فهم أعمق للتجربة الإنسانية والأسئلة العالمية التي ابتليت بها البشرية لقرون. من خلال دراسة أساطير الخلق، والتعاليم الأخلاقية، والممارسات المجتمعية، والأسئلة الوجودية، يمكننا اكتساب نظرة ثاقبة للطرق المتنوعة التي تعاملت بها الثقافات المختلفة مع أسرار الوجود والبحث عن المعنى. لا يزال الدين يلعب دورا حيويا في تشكيل المجتمعات والثقافات البشرية، حيث يقدم التوجيه والمجتمع والشعور بالهدف لمليارات الأشخاص في جميع أنحاء العالم. من خلال استكشاف النسيج الغني للمعتقدات والممارسات الدينية، يمكننا اكتساب تقدير أكبر لتعقيد وتنوع التجربة الإنسانية.

تقدم دراسة الدين رؤى عميقة في التجربة الإنسانية والترابط بين جميع الكائنات. من خلال المعتقدات والطقوس والممارسات المختلفة، يجد الأفراد المعنى والغرض والاتصال بشيء أعظم من أنفسهم. تسلط الأمثلة المقدمة في هذه المقالة الضوء على تنوع وثراء التقاليد الدينية عبر الثقافات وعلى مر التاريخ. من خلال استكشاف المعتقدات المختلفة واحترامها، يمكننا تعزيز الفهم والتعاطف والوحدة في عالمنا المتزايد العولمة. دعونا نستمر في دراسة وتقدير والاحتفال بالأهمية العميقة للدين في تشكيل هوياتنا وتشكيل عالمنا.

***

محمد عبد الكريم يوسف

........................

المراجع

1.     Smith, Huston. The World's Religions. HarperOne, 2009.

2.     Armstrong, Karen. A History of God: The 4,000-Year Quest of Judaism, Christianity and Islam. Ballantine Books, 1993.

3.     Nussbaum, Martha C. The New Religious Intolerance: Overcoming the Politics of Fear in an Anxious Age. Harvard University Press, 2012.

1- نشأة النقد الأدبي العربي: في المفهوم: يبدو أن النقد أمر فطري في الإنسان، فالإنسان يميز بفطرته بين الخير والشر، وبين القبح والجمال، وبين اللذّة والألم، وينفر من الكلمة الخشنة الجافة.

(والنقد الأدبي هو من يكشف أصالة الأدب أو عدم إصالته، ويميز جيده من رديئه، وسواء كان النقد علماً أو فناً فهو ليس قائماً بذاته، وإنما هو متصل بالأدب يستمد منه وجوده، ويسير في ظله، ويرصد خطأه واتجاهاته.). (1).

مفهوم النقد عند العرب:

النقد كما عبرت عنه المعاجم  العربيّة مأخوذ من ("نقد الصيرفي الدراهم، والدنانير  وانتقدها"، أي ميز صحيحها من زائفها، وجيدها من رديئها، ومن معانيه أيضاً "النقاش"، فيقال ناقد فلان فلاناً في الأمر، أي ناقشه فيه". ومن هذا المعنى  الأصلي للكلمة جاء معنى النقد في الأدب، ذلك أن ما يفعله الناقد من محاولة التمييز بين جيد الكلام ورديئه، إلا من جنس ما يفعله الصيرفي نقد الدراهم والدنانير). (2).

أما النقد الأدبي اصطلاحاً: (فيُعد عمليّة تحليل وتفسير وتقييم الأعمال الأدبيّة، وتتم عملية النقد من خلال أربع مراحل، وهي الملاحظة والتحليل والتفسير والتقويم. ففي المرحلة الأولى تتم قراءة النص الأدبي ومحاولة فهم معناه، ويقوم الناقد في المرحلة الثانية بتحليل النص الأدبي وتفكيكه إلى عناصره الأوليّة ومعرفة طريقة تنظيم الأجزاء مع بعضها بعضاً. وفي المرحلة الثالثة يشرح الناقد العلاقة بين الأجزاء والعناصر ومعرفة ما يودُّ المؤلف قوله، وأخيراً يُصدر حُكمه المبنى على فهمه للنص ككل.).(3).

أما تعريف النقد عند النقاد والأدباء العرب القدامى: فقد عرفه على سبيل المثال: "قدامة بن جعفر": (بأنّه علم تلخيص جيد الشعر من رديئة، كي لا يتخبّط الناس في الشعر، وكي يتفقّهوا في العلوم، فقليلًا ما يصيبون في فَهم الشعر، فالنقد يُبين صحة الكلام وصوابه.). (4). وتاريخ النقد الأدبي عند العرب صناعة وعلم، فلا بد للناقد من التمكن من أدواته، ويُفضّل في الناقد أن يلمّ بالعلوم الأدبيّة المختلفة من مثل عِلم الغريب، وعِلم البلاغة والنحو، وأغراض المعاني، وعلمَيْ الوزن والقوافي، والثقافة العامة في الأدب.. وعندما طُرح السؤال حول البداية الأولى للنقد العربي، تعددت الإجابات وتشعبت، فاختلف الناس فيها بين قابل ورافض، ولكل واحد من الطرفين منطلق يبرر به قبوله أو رفضه. هكذا أثارت مرحلة البداية الأولى للنقد نقاشا محتدماً بين الباحثين المحدثيـن الذين اختلفوا في تقويم ما أثير عن هذه المرحلة من أقوال نقديّة، وأحكام موجزة مرتجلة، ومقاييس ذوقيّة غير معللة.(5).

آراء في النقد الأدبي عند بعض النقاد العرب:

لقد تعدد آراء الباحثين في قضايا النقد الأدبي وتاريخه  في تحديد مفهوم النقد، ففريق من الباحثين يرى أن مرحلة العصر الجاهلي هي المرحلة التي تطور عنها النقد لينتهي إلى أن العرب عرفوا النقد انطلاقا من التلازم المفترض بين الشعر والنقد، فما دام لدينا شعر فلا بد أن يكون لدينا نقد. بل منهم من يذهب أبعد من ذلك حين يعتبر أن النقد أسبق إلى الوجود من تلك الفنون"، وهل الأديب إلا ناقد قبل أن تأخذ أفكاره صبغتها الفنية، ومن أشهر من حمل مشعل هذه الفئة:

الأستاذ "طه أحمد إبراهيم. والأستاذ محمد زغلول سالم". (6).

وفريق آخر قرأ النقد العربي القديم انطلاقا من مفاهيم نقديّة مستمدة من الثقافة الغربيّة، وانتهى برفضه للبداية الأوليّة للنقد، لينص أن النقد لن يظهر إلا في القرن الرابع الهجري، وقبل هذه المرحلة لا يمكن أن يُعتد به. وبذلك يكون قد أعاد قراءة النقد العربي القديم من خلال تصورات ومفاهيم جديدة حول النقد، يحكمه منهـج مـأخوذ مـن ثقافة الآخر، ومن رواد هذه الفئة " د. محمد مندور" . (7)

وفريق ثالث نص على أن النقد العربي لن يظهر إلا بظهور الفلسفة وقد توصل لهذه النتيجة من خلال استقراء تاريخي لتاريخ النقد الأدبي في أوربا، ومادامت الفلسفة قد تأخر ظهورها في الثقافة العربيّة، فطبيعي أن يتأخر ظهور النقد، ولن يظهر إلا مع ظهور الفكر الفلسفي على يد المعتزلة و المتكلمين، ومن رواد هذا الطرح الدكتور "محمد غنيمي هالل". (8).

هذا وإن الأشكال النقديّة عند العرب تستمد حضورها وفاعليتها في تاريخ النقد الأدبي عند العرب، من علوم اللغة وعِلم الفلسفة، فمنذ العصر الجاهلي عُرفت ألوانُ مختلفة من النقد، ويمكن أن تُجمَل الأشكال النقديّة عند العرب القدماء كما يأتي:

1- القصائد الحوليّة المحكّمة: وهي القصائد التي استغرقت حولًا كاملًا في تدقيقها الشديد أو مراجعتها.

2- الاحتكام، أو الشعر المحكم: وهي أن بعض الشعراء كانوا يلجؤون إلى من يُفاضل بينهم، ولُقِّب هذا الحَكَم بالقاضي، فكان يحكم بين الشعراء أيُّهم أجود بلاغة ولفظًا.

3- الأسواق الأدبيّة: وهي الظاهرة التي امتدت من العصر الجاهلي إلى الإسلام، وهي الأسواق التي يجتمع فيها الشعراء فيلقون الشعر ويتلقون النقد ملاحظة لهم أو عليهم، ومن أشهر هذا الأسواق في الجاهلية "سوق عكاظ". "

4- مجالس الشعراء: كانت مجالس الشعراء تدور فيها ملاحظات الشعراء بعضهم على بعض، وهي ملاحظات ذات قيم نقديّة يغلب عليها الروح الانطباعيّة والشكلانيّة، وكان لكل شاعر طريقته الخاصة في النقد. (9).

النقد الأدبي في العصر الجاهلي:

إن الملاحظات النقديّة التي توصل إليها النقاد عن العصر الجاهلي وشعره وشعرائه، تؤكد أن نقدهم كان مبنيا على (الذوق والفطرة) التي تتأثر بما تسمع من قول تصدر عليه الحكم غير معلل أو غير مشفوع بحيثياته.

فالناقد إذا ما استساغ بذوقه الفطري قصيدة أو جزءاً من قصيدة، أو بيتاً أو حتى نصف بيت منها، ما أسرع أن يندفع إلى التعميم في الحكم، ويجعل من الشاعر أشعر الناس، هذا بالنسبة لملكة النقد في تلك المرحلة. أما نقدهم فقد تحرك في ميدانيين كما يذكر الناقد "عبد العزيز عتيق" هما: (ميدان الحكم على الشعر)، و(ميدان الحكم على الشعراء وتفضيل بعضهم على بعض)، وغالباً ما تُمييز بعض القصائد الجيدة بألقاب. ففي ميدان الحكم على الشعر اتجه نقدهم إلى الألفاظ والمعاني، وبناء الصور الشعريّة، فنظم الكلام عندهم محكم أم غير محكم، والمعاني مقبولة أم غير مقبولة، والصور الشعريّة كاملة البناء أم ناقصة البناء. أما واقع النقد وتحركه في ميدان السعراء والمفاضلة بينهم وخلع الألقاب على بعض قصائدهم. فالحكم لشاعر بالشاعريّة، أو الحكم بتفضيله على غيره، أو الحكم بجودة قصيدة وتلقيبها بلقب خاص، لم يكن حكماً مسبباً ومعللاً، وإنما كان حكما تأثريّاً قوامه الذوق والفطرة. (10)

النقد الأدبي في عصر الرسول:

لا شك إن الشعر في عصر الرسول قلَّ كماً وكيفا وموضوعاً، وأنه ظل جاهليًاً في شكله ومضمونه وروحه، وهو لم يتطور عن نهجه القديم ألا قليلاً. وما تأثره في الإسلام إلا قليلاً و خاصة في المعاني والمقاصد الدينيّة، حيث فرض على الشاعر أن يلتزم قول الحق في كل ما يقول، ويبتعد عن الذم والحقد والهجاء وكل ما يخالف روح المحبة والتسامح. وهذا ما أكد عليه الرسول بقوله: (إنما الشعر كلام مؤلف فما وافق الحق منه فهو حسن، وما لم يوافق الحق فيه فلا خير فيه.). (11)

أما انقد في عصر الخلفاء الراشدين:

لقد ظل النقد الأدبي هنا يتمثل في جوهره مبادئ النقد الجاهل ذاتها عدا التمسك بالمضمون الأخلاقي الذي ساد في عصر الرسول. وبشكل عام إن نقد الشعر في عصر الخلفاء الراشدين والصحابة، كان يدعوا إلى العدول عنه إلى القرآن الكريم، والعمل على تلقين الأبناء أحسنه وأعفه تقويماً لألسنتهم وتهذيباً لنفوسهم، والاستعانة به عند الاقتضاء في تفهم القرآن كتاب الله. (فالشعر الذي يحقق المتعة الأدبيّة، ويُسكن به الغيض، وتطفأ به الثائرة، ويعطى به السائل، وينزع إلى الفضائل بصفة عامة، هو الشعر الذي راق للخلفاء الراشدين واستحق التشجيع والتقدير.). (12).

النقد الأدبي في العصر الأموي:

نما النقد الأدبي في العصر الأموي وازدهر في بيئات ثلاثة هي: الحجاز و العراق و الشام، وقد تلوّن في كل بيئة بلون الحياة و الظروف الاجتماعيّة و السياسيّة التي أحاطت بكل بيئة، لأن الأدب انعكاس للواقع، وباختلاف ظروف كل بيئة اختلف الشعر فأدى ذلك إلى اختلاف النقد بين هذه البيئات.

يطلق على العصر الأموي على المرحلة التي تبدأ بخلافة معاوية سنة 41هـ، وتنتهي بغلبة العباسيين عليهم وانتزاع السلطة منهم سنة 132هـ.

وبناءً على التحولات التاريخيّة التي تمت في بنية الدولة الأمويّة بسبب الفتوحات الواسعة ودخول شعوب أخرى لها ثقافتها وطموحاتها السياسيّة، ولكثرة تدفق الثروات على المسلمين العرب الفاتحين، راحت تتجلى مجموعة نزعات عند الشعراء الأمويين. فهناك من الشعراء لم يستطع شعرهم أن يعزل نفسه عن جملة الصراعات الدائرة وكان مؤثراً في الفتن الدائرة، ولسان الأحزاب، حيث كان لكل حزب شعراؤه الذين يناضلون ويعبرون عنه، ويصطبغ شعرهم بصبغة العقيدة التي يدعو إليها هذا الحزب أو ذاك. (13).

بيد أن الحياة السياسيّة وصراعاتها لم تكن الشغل الشاغل للشعراء، وإنما كان هناك شعراء أبعدوا أنفسهم عن حالات الصراع الدائرة، وراحوا يغردون لأنفسهم ويصنعون شعراً عاطفيّاً تعلق بالمرأة ومغامرات الشعراء معها، وخاصة بعد أن كثر عدد النساء من الموالي وما تركوه من أثر في حياة الشعر الأموي وطقوس الغناء والطرب وبخاصة في الحجاز وباديتها. حيث لا يزال شعر أهل الحجاز إلى اليوم له تأثيره وجماله وقيمته الأدبيّة. (وكان الشاعر "عمر بن ابي ربيعة" هو رائد هذا الشعر أو من حمل لواءه في الحجاز، وسار على منواله كثيرون من شعراء مكة والمدينة، من أمثال " العرجي" وأبو دهبل" و" الحاري بن خالد المخزومي"  و" عبيد الله بن قيس الرقيات" و" الأحوص" ونُصيب بن رباح"  و" قيس بن ذريح". ومن يتابع النقد الأدبي في العصر الأموي كما يذكر كتاب الأغاني، يدهش مما يرى من اهتمام عام بالنقد الأدبي على جميع المستويات ومختلف الطبقات. فالنقد الأدبي أسهم به في تلك لفترة النساء والرجال والشعراء وغير الشعراء كل على قدر فهمه وذوقه وروحه ونوع ثقافته.). (14). هذا وقد انصب النقد حول نقد الشعراء أنفسهم من حيث شعريتهم وأغراض شعرهم ومغامراته العاطفية وغير ذلك. (كما انصب على المفاضلات والموازنات الشعريّة، من حيث الصدق الشعري في المعنى والعاطفة، أو في الشعر الذي يوحيه العقل والمنطق، أو العقل والعاطفة، وتفضيل الثاني على الأول.). (15).. (كما بدأ يظهر في تلك الفترة الكلام عن السرقات الشعريّة أو أخذ بعض الشعراء عن بعض وغير ذلك من موقف.). (16). والنقد في هذه المدرسة غالبا ما اتجه أيضاً الى المعاني التي وعاها النص، والتي كان الناقد يعرضها على ذوقه الحضري، فيقبل منها ما يراه موائما لهذا الذوق، وما هو أليق لعاطفة الحب وأنسب لفن الغزل. (ومن النقاد كان هناك "ابن أبي عتيق". الذي تميز في نقده بذوق مترف وحس مرهف وبصيرة نافذة في التمييز بين جيد الشعر ورديئه، وكان على صلة وثيقة بتيارات الشعر واتجاهاتها.). (17).  والشعر الجيد عن "ابن أبي عتيقة" هو الشعر الذي تظهر فيه قوة وصلابة النقد، والذي يشتغل على دقة عاطفة قائله، وتأثيره في عواطف سامعيه. أي (أن يكون له موقع في القلب وعلوق في النفس، وأن يكون بليغاً في الوفاء بغرضه والتعبير عنه.). (18).. هذا إضافة إلى ما يمتاز به الشاعر وشعره من سمات وخصائص مثل: (دقة المعنى، ولطف المدخل، وسهولة المخرج ومتانة الحشو، وتعطف الحواشي، وإنارة المعاني، والإعراب عن الحاجة. وقبول المعاني السارة ورفض المعاني  المؤلمة التي تدعو إلى التطير).(19).. (إنها في العموم مدرسة الغزل وكان النقد فيها مطبوعاً بطابع الذوق الفني والرقة، والروح الإنسانيّة) (20). ، (تبعاً لأدب هذه البيئة التي شاع فيه ما شاع من رقة وخفة وظرف، وتذوق رفيع للجمال وأساليب القول). (21). أو كما يقول أحمد أمين: (لقد  نشأ في الحجاز شعر رقيق يتفق وروح العصر، فيه دعابة وفيه وصف للنساء صريح، وفيه قصص لأحداث الشعراء مع النساء .... هذا الأدب الجديد في هذه البيئة اللاهية استتبع كذلك رقيّاً في النقد يدل على رقي في الذوق). (22).

النقد الأدبي في العصر الأموي – العراق أنموذجاً:

قلنا في عرضنا السابق بأن النقد الأدبي في العصر الأموي نما وازدهر في بيئات ثلاث هي: الحجاز و العراق و الشام ، وقد تلوّن في كل بيئة بلون الحياة و الظروف الاجتماعيّة و السياسيّة والفكريّة التي أحاطت بكل بيئة، لأن الأدب انعكاس للواقع، وباختلاف ظروف كل بيئة اختلف الشعر، فأدى ذلك إلى اختلاف النقد بين هذه البيئات.

اختلف الشعر في بيئة العراق عما كان عليه في الحجاز والشام، فالشعر في العراق يشبه إلى حد كبير الشعر الجاهلي في مضمونه وأسلوبه، ويعود ذلك إلى عامل العصبيّة القبليّة التي عادت إلى الظهور من جديد بعد أن تلاشت إلى حد ما في صدر الإسلام حيث نبذها الإسلام، وكانت أغلب موضوعات الشعر في العراق تصب في الافتخار و الاعتزاز وهجاء الخصوم بما هو مر ومقذع. أما غرض الغزل وغيره من الأغراض الأخرى، فكانت ليست ذات أهميّة وقليلة الرواج، فانحصر الشعر غالبا في تلك النقائض التي حمل لواءها بالخصوص شعر الثالوث الخطير: "الفرزدق وجرير والأخطل" الذين جعلوا من العراق أشهر مكان للتنافس و التباري في هذا اللون من الشعر. وقد ساعد على انتشار شعر النقائض وولوع الناس به في سوق الشعر (المربد) الذي كان يشبه سوق عكاظ في الجاهليّة، يفد إليه الناس من كل جهة، ويجتمع فيه الشعراء ينشدون الأشعار في صورة تشبه ما كان عليه في الجاهليّة من مفاخرة بالأنساب وتعاظم بالكرم و الشجاعة، وإبراز ما لقوم كل شاعر من فضائل وأيام. ( 23).

كما  خلف لنا النقد الأدبي في العراق في العصر الأموي نوعاً من النقد يفاضل بين الشعراء ويوازن بين الأعمال الشعريّة، ويميز بين طرائق التعبير على أساس من فحولة الأسلوب...  (وهذا ما أفضى إلى بزوغ نجم النقد في هذه المدرسة، وهو نقد يقوم على المفاضلة بين الشعراء بناء على ما يقدم كل منهم في أشعاره، وما يستخدم من أساليب وطرق يُعبّر بها عن مضمون الفكرة أو الغرض الذي أراده الشاعر، وتميز شعراء هذه المدرسة بتعففهم عن استجداء أعطيات الخلفاء والأمراء وظهور العزة والأنفة فيهم.). (24). ومع نمو الحركات السياسيّة، خلف لنا نوعاً من الشعر الذي يرفض التوجه للأمراء والتمسح بالملوك واستجداء المال بالمدح كما في شعر الخوارج، كما  نمت الى جوار هذا الشعر حركة نقديّة مالت إلى تقييم الشعر على ضوء التزامه بالقيم الدينيّة والخلقيّة. (25).

ولا ننسى أن بيئة العراق بيئة علميّة ثقافيّة امتزجت فيها الأصول العربية والأصول الأجنبية، ولذلك تأثرت هذه المدرسة بالمنهج العلمي الذي اعتمد فيه نقادها غالباً على قواعد النحو وأصول اللغة، ويقيسون الأدب بمقاييسها، ويحاولون أن يخضعوا الشعراء لها. تلك هي مدرسة اللغويين في العراق التي غلب عليها الطابع اللغوي والنحوي، وإن لم تهمل الجوانب المعنويّة والتعبيريّة الأخرى. ولم يكن هؤلاء العلماء النقاد من اللغويين والنحويين، على درجة واحدة في التزام المقياس العلمي، (فالحق أن منهم من كان نقده يقوم أساساً على الأصول المقررة في اللغة والنحو والعروض، ومنهم من يميل الى الأصول الأدبية الفنيّة في التعبير والتصوير.). (26).

النقد الأدبي في بلاد الشام في العصر الأموي:

في الحقيقة لا يوجد في بلاد الشام سمات وخصائص متميزة يتفرد بها النقد الأدبي في هذه البلاد بالنسبة للعصر الأموي. وذلك راجع إلى أن أكثر سكان الشام من العرب اليمنيين الذين اكتسبوا لغة عرب الشام اكتساباً، (وبالتالي لم يستطيعوا أن يشتغلوا عليها في قول الشعر ونظمه. الأمر الذي حال دون ظهور شعراء معرفين ومشهورين لديهم سوى "عدي بن الرقاع العامدي" ومع ذلك هو لم يستطيع أن يرتقي بشعره إلى مستوى شعراء العراق مثل جرير والفرزدق وذو الرمة والأخطل.). (27).

(إن شعر الشام كان، إما وافداً، اقتصر دوره على مدح الخلفاء والأمراء والولاة طالباً عطائهم. أو هو شعر الحروب القبليّة التي كانت تدور بين القبائل القيسيّة واليمنيّة التي وفدت أثناء الفتوحات إلى بلاد الشام. ولعل الشعر الوحيد الذي نبع من بلاد الشام هو الشعر الذي احتفى به بعض الأمراء الذي انغمسوا باللهو وليالي الطرب والشراب، كيزيد بن معاوية، ويزيد بن عبد الملك، والوليد بن يزيد بن عبد الملك.). (28).

وأكثر النقد الأدبي الذي عرفته بيئة الشام في العصر الأموي، (قد صدر عن الخلفاء والأمراء لسعة إحاطتهم باللغة والأدب، ولمعرفتهم الدقيقة بمحاسن الكلام ولمشاركتهم الفعليّة فيما كان يجري من حوار ونقاش حول الشعر.). (29). كعبد "الملك بن مروان"، حيث كان له مجلسه الأدبي في قصره الذي يفد إليه الشعراء، وتعقد فيه حوارات نقدية حول الشعر ونقده في كل مذهب. بالرغم أن هذا النقد ظل يعتمد على الذوق الفطري ذي السمات والخصائص العربيّة الخالصة.(30).

النقد في العصر العباس:

في القرنين الثاني والثالث للهجرة ومنذ وصول العباسيين للخلافة، بدأ العصر الذهبي الذي أخذت فيه الحضارة العربيّة تنزع إلى الترف وتتشكل معظم مقوماتها، حيث نشأت أكثر العلوم العربيّة والإسلاميّة وبدأ تدوينها، وظهور ما يسمى بعصر التدوين، إذ نقل إلى العربيّة ما نقل من علوم اليونان والفرس والهند، (وفي هذه الفترة بدأ الشعر العربي يتحول إلى فن وصناعة بعد أن كان يصدر عن طبع وسليقة، وظهر من بين الموالي الكثير من الشعراء والكتاب والأدباء والعلماء، الذين عدو عرباً لنشأتهم في البصرة والكوفة اللتين نزلتهما في صدر الإسلام  بعض القبائل العربيّة التي ينتمي إليها بعض هؤلاء الشعراء بالولاء.). (31). وكان من أهم الأسباب التي أدت الى ازدهار النقد في العصر العباسي، تلك الظروف والعوامل الاجتماعية التي طبعت الأدب والعلوم بطبائعها، وأثرت في فكر الشعراء والنقاد وعكست ملامحها عليهم، ودفعت النقاد الى دراسة ما يكون لهؤلاء الادباء من خصائص أسلوبية يفرقون بها بين أديب وآخر.

عندما نتابع النقد في العصر العباسي نجد إمعانًا في الحضارة وإمعانًا في الترف،  وأن الشعر والأدب يتحولان إلى فن وصناعة بعد أن كانا يصدران عن طبع وسليقة كما بينا قبل قليل، حتى لنرى كثيرًا من الكتاب والشعراء من الموالي الذين عدوا عرباً بالمربى. كما نرى أن الثقافة راحت تتعاظم وتتسع وتشمل فروع المعرفة كلها لولم تعد تقتصر على الثقافة الدينيّة والأدبية، وذلك بسبب تدفق الثقافات الأجنبيّة على الخلافة الإسلاميّة من فارسيّة وهنديّة ويونانيّة، ورأينا كل مجموعة من المعارف تتحول إلى علم حتى اللغة والأدب والنحو والصرف. فكان طبيعيًّا أن يتحول الذوق الفطري إلى ذوق مثقف ثقافة علميّة واسعة، وأن يتأثر النقد الأدبي بهذه الثروة العلميّة والأدبيّة الواسعة.

لقد كان مما عمله العلماء، (أنهم جمعوا ما استطاعوا من أشعار الجاهليين والإسلاميين، فكانت المادة الأدبيّة التي ينقدونها أغزر وأوفر، وجمعوا مادة اللغة، واطلعوا على أقوال النقاد السابقين كما نقلت إليهم أقوال الفرس والهند واليونان في معنى البلاغة وشروطها. فكل هذا أفسح لهم مجال النقد، ومكّن لهم من رقي الذوق، كما مكن لهم من أن يحولوا النقد القديم غير المعلل الذي لا يعدو أستحسان أو استهجان، إلى نقد معلل يبين فيه سبب الاستحسان والاستهجان.). (32). وعلى هذا لم يعد النقد الأدبي على ما يبدو ضرباً من ضربا الترف الأدبي أو نقداً سلبيّاً يقف عند حدود التذوق، كما كان في المراحل السابقة، وإنما بدأ يتحول تدريجيّاً إلى نقد إيجابي يتجاوز حدود التذوق إلى حدود التفسير والتعليل، وإلى حدود إيراد الأحكام النقديّة مشفوعة بعللها وأسبابها. (مثلما أصبح للأدب والكثير من العلوم الأخرى اتجاهاً علميّاً حيث راحت تؤلف الكتب العربيّة في العديد من معارف ذلك العصر. فعلى مستوى الأدب والنقد الأدبي في العصر العباسي تم الاهتمام في هذا الاتجاه، وراح المهتمون ينهجون فيه نهجاً تاريخياً، حيث وضعت الكتب التي جُمع فيها الكثير من شعر الجاهليين والإسلاميين، ورتبوا أصحابها إلى طبقات، وذكر طرفاً من تاريخ حياتهم، ومن آراء وأقوال النقاد في شعرهم. مثل كتاب " جمهرة أشعار العرب"  لأبي زيد القرشي. وكتاب (طبقات الشعراء) لـ"محمد بن سلام.). كما وضعت كتب للنحو والبلاغة من قبل العديد من النحاة كأبي الأسود الدؤلي وابن جني وسيبويه.). (33). وظهر في هذا العصر الكثير من الأدباء (كابن قتيبة  والجاحظ الذي كان أديباً ونحويّاً، ومن الذين اشتغلوا على علم الكلام والبلاغة والمحسنات البديعة. فهذا "محد بن سلام" يكتب عن ضرورة ثقافة الناقد حيث يقول في كتابه (طبقات الشعراء): إن كثرة المدارس تعين على العلم، وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر الصناعات. والصناعات منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان.). (34).. وهو هنا يريد أن يقول إن قول الشعر صنعة لها أصولها العلميّة وهي كالحرفة التي تصقل بالممارسة والتجربة.

ولو تتبعنا ما روي لنا من النقد الأدبي في هذا العصر لرأيناه متجهًا إلى عدة اتجاهات لم تكتمل ملامحها النقدية بشكل واضح، ولذلك سنجد هنا نوعاً من النمذجة النظريّة لهذه المدارس النقديّة استنتجها بعض النقاد المحدثين من السيرة العامة لتاريخ النقد في العصر العباسي  منها:

أولاً: الاتجاه اللغوي:

هو اتجاه نقدي يعتمد على اتخاذ قواعد اللغة أساسًا لنقد الأدب، وقد بدأت خطواته الأولى بصورة أوليّة ساذجة في غضون القرن الثاني للهجرة، وذلك على أيدي طائفة من النحاة واللغويين والرواة الذين أصدروا أحكامهم على الشعر وانتقاداتهم للشعراء في ضوء بعض المقاييس النحويّة أو اللغويّة أو العروضيّة، التي كانت قد تحددت آنذاك. من أبرز هؤلاء: (عبدالله بن أبي إسحاق الحضرمي (ت117 هـ) ويحيى بن يعمر (ت 129هـ) وعيسى بن عمر الثقفي (ت149هـ) وأبي عمرو بن العلاء (ت154هـ)، والمفضل الضبي (ت168هـ)، والأصمعي (ت216هـ)، وغيرهم.). (35).

ثانيًا: الاتجاه الكلاسيكي الاتباعي:

وهو ذلك المنهج الذي يقوم على الالتزام بالأصول والتقاليد الفنيّة الموروثة، ويرى ضرورة اتباعها، وعدم الخروج عليها. وخير ما يمثل ذلك المنهج هو النقد العربي في فترة طويلة من تاريخه، فقد زاول النقد العربي لفترات طويلة هذا الأسلوب في النقد، وبخاصة حين استقر ما عُرف بعمود الشعر. ومن رأي القدماء في  هذه الاتجاه الفني (إنهم كانوا يحاولون شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف، ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة كثرت سوائر الأمثال وشوارد الأبيات والمقاربة في التشبيه، والتحام أجزاء النظم، والتئامها في التخيّر من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى، وشدّة اقتضائهما للقافية حتى لا تحدث منافرة بينهما، فهذه سبعة أبواب هي عمود الشعر. وقد مضى المرزوقي شارحًا ومحللاً هذه الأصول الفنية، ثم انتهى إلى إعلان الرأي العام العربي الذواقة للشعر، "فمن لزمها بحقها وبنى شعره عليها، فهو عندهم الْمُفْلِقُ المعظم، والمحسن المقدم، وهناك إجماع مأخوذ به ومنهج متبع حتى الآن".).(36).

ثالثًا: الاتجاه الرومانسي التجديدي:

وهو ذلك المنهج الذي يقوم على التحرر من الأصول الموروثة، وتعظيم الذوق الفردي بناء على أن الإنسان مقيّد بشخصيته، وأنه ليست هناك مقاييس يستطيع أن يزن بها أفكاره، أو أفكار غيره، فالشخصيات تختلف. ولذا ينبغي أن يفهم كل قارئ العمل الفني حسب طبيعته، أي: ميوله النفسيّة واستعداده الكافي. (ويمكن أن يُعقد الشبه هنا بين هذا المنهج وبين اتجاه التجديد الذي شاع في العصر العباسي وتزعمه "أبو نواس، وبشار، ومسلم بن الوليد"، وأضرابهم ممن نحوا نحو التجديد والخروج على عمود الشعر القديم. وبلغ أوجه عند "المتنبي وأبي العلاء المعري". ولعل أول محاولة علميّة جادة في ميدان علم البديع هي تلك المحاولة التي قام بها خليفة عباسي ولّي الخلافة يوماً وليلة ثم مات مقتولا وقيل مخنوقا سنة 296 هجرية. هذا الخليفة هو "أبو العباس عبد الله بن المعتز بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد"، والمولود سنة 247 هجرية. لقد كان شاعراً مطبوعا مقتدرا على الشعر، سهل اللفظ، جيد القريحة، حسن الإبداع للمعاني، مغرما بالبديع في شعره، وبالإضافة إلى ذلك كان أديبا بليغا مخالطا للعلماء، والأدباء معدودا من جملتهم، وله بضعة عشر مؤلفا في فنون شتى وصل إلينا منها: ديوانه، وطبقات الشعراء، وكتاب البديع.).(37).

(وإذا كان عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 471 للهجرة وصاحب كتابي: «دلائل الإعجاز» و «أسرار البلاغة» هو واضع نظرية علم البيان وعلم المعاني فإن عبد الله بن المعتز هو واضع علم البديع، كما يفهم ذلك من كتابه المسمى «كتاب البديع» الذي ألفه سنة 274 للهجرة).(38).

رابعًا: الاتجاه التاريخي:

إنه المنهج المعني بوصف الأحداث التي وقعت في الماضي وصفًا كيفيًّا، يتناول رصد عناصرها وتحليلها ومناقشتها وتفسيرها، والاستناد على ذلك الوصف في استيعاب الواقع الحالي، وتوقع اتجاهاتها المستقبلية القريبة والبعيدة. وهو في سياق الدرس الأدبي: يقوم على دراسة الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية للعصر الذي ينتمي إليه الأدب، ويتخذ منها وسيلة لفهم الأدب وتفسير خصائصه واستجلاء كوامنه وغوامضه. وهو يقوم بالأساس على توظيف المعلومات التاريخيّة في فهم الظاهرة الأدبية/الإبداعيّة باعتبارها مُعطًى تاريخيًّا قبل كل شيء، ويربط الوقائع الأدبيّة بالحقائق التاريخيّة فيصبح تاريخ الأدب فرعًا من التاريخ العام.

هذا وقد حفل التراث النقدي العربي بكثير من المقولات النقدية، التي يمكن أن تدرج في إطار هذا المنهج، وإن جاءت في صورة جزئية تمثل طبيعة العصر الذي قيلت فيه. فمن ذلك على سبيل المثال: (تعليل ابن سلام الجمحي  لشعر عدي بن زيد، وسهولة منطقه بأنه: "كان يسكن الحيرة ويراكز الريف". وتفسيره لقلة الشعر في مكة والطائف بقلة الحروب، فهو يقول: "وبالطائف شعراء وليس بالكثير، وإنما كان يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين الأحياء، نحو حرب الأوس والخزرج، أو قوم يغيرون ويغار عليهم، والذي قلل شعر قريش أنه لم يكن بينهم ثائرة ولم يحاربوا".). (39).

خامسًا: النقد النفسي:

لقد كان غرض هذا المنهج البحث عن سيكلوجيا المبدع من خلال أثره الأدبي الذي تركه عبر اتجاهات عديدة، فهي تارة تحلل أثرًا معينًا من الآثار الأدبيّة، لتستخرج من هذا التحليل بعض المعلومات عن سيكلوجيّا المؤلف.

وهي تارة أخرى تتناول جملة آثار المؤلف وتستخرج منها نتائج عامة عن حالته النفسية، ثم تطبق هذه النتائج العامة في توضيح آثار بعينها من آثاره .

وهي تارة تتناول سيرة كاتب من الكتاب على نحو ما تظهر من أحداث حياته الخارجيّة، وفي أمور أخرى كرسائله واعترافاته أو يومياته الشخصية ثم تبني من هذا كله نظرية في شخصيّة الكاتب: صراعاته، حرماناته، صدماته، عصاباته، لتستعمل هذه النظريّة في توضيح كل مؤلف من مؤلفاته.  وهي تارة أخرى تنتقل من حياة المؤلف إلى آثاره، ومن آثاره إلى حياته، موضحة هذه بتلك، وتلك بهذه. وهي في أكثر الأحوال تجمع بين هذه الأغراض كلها، وتستعمل هذه الأساليب جميعها...

ويحسن بنا هنا أن نذكر بعض أمثلة تطبيقات هذا المنهج في القديم، يقول ابن قتيبة: (وللشعر دواع تحث البطيء، وتبعث المتكلف، منها الطمع، ومنها الشوق، ومنها الشراب، ومنها الطرب، ومنها الغضب. ويقول أبي هلال العسكري في بيان أثر الحالة النفسية في قوة الشعر أو ضعفه: "إذا أردت أن تصنع كلامًا فأخطِر معانيه ببالك، وتذوق له كرائم اللفظ. واعمله ما دمت في شباب نشاطك، فإذا غشيك الفتور وتخونك الملال فأمسك، فإن الكثير مع الملال قليل والنفيس مع الضجر خسيس، والخواطر كالينابيع يسقى منها شيء بعد شيء، فتجد حاجتك، وتنال أربك من المنفعة، فإذا أكثرت عليها نضب ماؤها، وقل عنك غناؤها.). (40).

سادسًا: الاتجاه الذاتي في النقد:

وهو ما يعرب فيه الناقد عما يحسه ويتأثر به حين يقرأ عملا أدبيا، معتمداً فى حكمه عليه بالجودة والرداءة، أي على ما ينطبع فى نفسه حين يواجه هذا النص، لا على مقاييس موضوعيّة أو قواعد معينة، فهو إذن يقابل النقد الموضوعي.

وقد عرف نقاد العرب هذا اللون من النقد وسموه (النقد الإقناعي) فها هو ذا "ابن الأثير" في كتابه (المثل السائر) يقول: (وسئل جرير عن نفسه وعن الفرزدق والأخطل فقال: أما الفرزدق ففي يده نبعة من الشعر وهو قابض عليها، وأما الأخطل: فأشدّنا اجتراء وأرمانا للقرائض، وأما أنا فمدينة الشعر.) وسئل "أبو عمرو بن العلاء" عن الأخطل فقال: لو أدرك يوما واحداً من الجاهليّة ما قدمت عليه أحدا). (41). وهذا اللون من النقد كان سائداً فى الأدب العربى القديم كما بينا في مواقع سابقة، حيث كان الناقد آنذاك يصدر حكمه النقدي عن إحساس ذاتي بالأثر الأدبي، وتذوق فطري له معتمداً على أصالة عروبته، وسلامة ملكته ونقاء فطرته وصفاء طبعه.

سابعاً: النقد السلبي المتعصب:

لا شك أن هناك صلة وثيقة بين الأديب والناقد فيجب على الناقد أن يبين جوانب الحسن ومواطن الرداءة، وأن ينأ بنقده عن الميل والهوى، فلا يقتصر على كشف جوانب القبح أو يميل عن المهمة السامية للنقد الأدبي وله أن يخالف الأديب فى رأيه إن كان هناك ما يوجب المخالفة.

وقد أشار "ابن قتيبة" إلى التزام الناقد العدل فى حكمه فيقول: (ولم أسلك فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختاراً له سبيل من قلّد أو استحسن باستحسان غيره، ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، وإلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل إلى الفريقين، وأعطيت كلاً حظه ووفرت عليه حقه").(42). فابن قتيبة يوصى هنا الناقد بأن يلتزم العدل فى حكمه، والحيدة فى رأيه، والاحتكام إلى ذوقه النقدي السليم الذى لم يفسده التعصب ولم يتأثر بالأهواء والميول الشخصية.

وفى تاريخ النقد العربي ما يدل على أن بعض النقاد لم يلتزم بما أشار إليه ابن قتيبة، فاستسلم لنوازع نفسه وانقاد لهواه، وتعصب لشاعر بعينه أو عليه، فجاءت أحكامه النقدية بعيدة عن الصواب والجادة، وأتت آراؤه ولمحاته غير موضوعية تعوزها الدقة، (وهذا ما فعله أبو بكر الصولى فى كتابه (أخبار أبى تمـام) حين أسرف فى تعصبه لأبى تمام، وفعل ذلك الحاتمي مع المتنبي حيث تحامل عليه تحاملاً شديداً.). (43).

لاشك أن هذا اللون من النقد يفقد قيمته، لأنه نأى عن الصواب والعدل فى الحكم والتقويم وجنح إلى التعصب والتحامل، وانقاد إلى الأهواء والنزعات والميول الشخصية التي أبعدته عن الحيدة فى التقويم، وعن التمسك بالأصول النقدية القويمة.

ثامناً: الاتجاه الفلسفي في النقد العباسي:

تتضح الإفادة من النقد اليوناني في أي أثر من آثار التفكير البلاغي والنقدي عند العرب في كتاب، ("نقد الشعر" لقدامة بن جعفر"،(ت337هـ)، الذي كان نصرانيًّا وأسلم ثم كان أحد النقلة والمترجمين لآثار اليونان في المنطق والفلسفة وقد أتاح له ذلك خبرة طويلة بمذاهب اليونان في الأدب والنقد، وكان من الطبيعي أن تظهر آثار هذه المعرفة في كتابته عن الشعر العربي ونقده. فلا ريب في أن الثقافة اليونانيّة كانت من ابرز المؤثرات في قدامة بن جعفر؛ فقد كان ممن يشار إليه في علم المنطق وعد من الفلاسفة الفضلاء، وله كتاب في صناعة الجدل، ويدل كتابه "في الخراج" على ثقافة عالية)..(44).

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

.............................

الهوامش:

1- الدكتور عبد العزيز عتيق – تاريخ النقد الأدبي عند العرب – دار النهضة العربيّة للطباعة والنشر –بيروت – 1972 – ص 7.

2- المرجع نفسه – عبد العزيز العتيق – ص8.

3-  مدونات الجزيرة نت نظرة عامة في النقد الأدبي - عبدالحميد المدري.

4- .  رشيد العبيدي، الأدب ومذاهب النقد فيه، ص 98 ط الأولى، 1955.

5-  للاستزادة في ذلك راجع– الدكتور عبد العزيز عتيق – تاريخ النقد الأدبي عند العرب – دار النهضة العربيّة للطباعة والنشر –بيروت – 1972 – ص 5 و6.

6- موقع الأدب العربي - نشـأة النقـد العربـي القديــم بين الممارسة والتأريخ.  السيدة بشرى تاكـفـراست. ) بتصرف.

7- المرجع نفسه. ؤتصرف.

8- المرجع نفسه. بتصرف.

9-  طه أحمد إبراهيم، تاريخ النقد الأدبي عند العرب من العصر الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري، ص 6، ط دار الحكمة – بيروت، لبنان.). بتصرف.

10- الدكتور عبد العزيز عتيق – تاريخ النقد الأدبي عند العرب – دار النهضة العربيّة للطباعة والنشر –بيروت – 1972 ص34-35- 36. ). بتصرف

11- المرجع نفسه: ص 49.

12- المرجع نفسه: ص58.

13- للاستزادة في هذا الموضوع يراجع - الدكتور عبد العزيز عتيق – تاريخ النقد الأدبي عند العرب – دار النهضة العربيّة للطباعة والنشر –بيروت – 1972.   ص 105.

14- المرجع نفسه: ص113

15- المرجع نفسه: ص129

16 – المرجع نفسه: ص139.

17- المرجع نفسه: ص120.

18- المرجع نفسه: ص122.

19- المرجع نفسه: ص123.

20- تاريخ النقد الأدبي والبلاغة د/ محمد زغلول سلام ص85.

21- دراسات في النقد الأدبي د/ حسن جاد ص44..

22- النقد الأدبي – ظهر الإسلام 2 / 421 للاستاذ أحمد أمين.).

23-  (موقع المرسى – (النقد في العصر الأموي في بيئة العراق). بتصرف.

24- موقع سطور – (النقد في العصر الأموي - أنس محفوظ).

25- د/ محمد أحمد العزب - عن اللغة والأدب والنقد ص282، وراجع أيضاً النقد الأدبي لأحمد أمين 424 وما بعدها.).

26- موقع سطور -) النقد في العصر الأموي) - أنس محفوظ.

27- - الدكتور عبد العزيز عتيق – تاريخ النقد الأدبي عند العرب – دار النهضة العربيّة للطباعة والنشر –بيروت – 1972.   ص 105. ص191.

28- المرجع نفسه: ص192.

29 – المرجع نفسه: ص 195.

30- المرجع نفسه: ص214. بتصرف.

31- المرجع نفسه: ص271

32- للاستزادة في هذا الاتجاه – يراجع - موقع هنداوي – (النقد في العصر العباسي -).

33- المرجع نفسه: ص 176 و 177.

34- المرجع نفسه: 296.

35- موقع كنانة أون لاين -  - إ.د/صبري فوزي أبوحسين  (اتجاهات النقد الأدبي في العصر العباسي).

36- المرجع نفسه.

37 -(اتجاهات النقد الأدبي في العصر العباسي -إ.د/صبري فوزي أبوحسين – موقع كنانة أون لاين .). (كذلك يراجع موقع - موقع الدكتور عبد الحميد هنداوي – المناهج النقديّة -).

38-0 المرجع نفسه.

39- المرجع نفسه.

40- المرجع نفسه.

42- المرجع نفسه.

43- المرجع نفسه.

44- المرجع نفسه.

45- المرجع نفسه.

 

(دراسة تحليلية – تطبيقية)

” من أقوال " شلايرماخر" المبكرة التي تلقي الضوء على طبيعة التأويل قوله (إن الهرمينوطيقا هي بالضبط طريقة الطفل في فهم معنى كلمة جديدة): إنه يسترشد ببنية الجملة وبسياق المعنى، وكذلك تفعل الهرمينوطيقا العامة. تبدأ الهرمينوطيقا في نظر شلايرماخر من أحكام الحوار، فهي " حوارية "  Dialogical في طبيعتها، غير أنه للأسف لم يتفطن إلى المتضمنات الخلاقة لهذه الطبيعة الحوارية، وشغلته عن ذلك رغبته في استخلاص قوانين والحصول على تماسك منهجي، غير أن هذا التخلي بحد ذاته، من وجهة نظرنا الحالية، قد وجه الهرمينوطيقا وجهةً جديدة، وجهها إلى أن تصبح علماً “. (من كتاب فهم الفهم: مدخل إلى الهرمينوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر، عادل مصطفى، ص: 62-63).

تمهيد:

إذا كانت المنظورات الوظيفية والصراعية تؤكد على أهمية البناء الاجتماعي في تشكيل وتوجيه أفراد المجتمع والتأثير على سلوكهم الإنساني، فإن منظورات المدرسة التأويلية المعاصرة على الطرف الآخر تولي اهتماماً كبيراً لدور الفعل والتفاعل بين أفراد المجتمع في تكوين تلك البنى.

في حقيقة الأمر. إن عودة العلوم الإنسانية إلى دائرة الهرمينوطيقا (علم التأويل) هي بمثابة عودة المياه إلى مجراها الطبيعي، حيث تعتبر الهرمينوطيقا علماً لتأويل النصوص كيف ما كان نوعها وطبيعتها، لأن غايتها الأساسية هي الكشف عن المعنى، هذا الأخير الذي لا يمكن أن يتحقق بشكل سليم إلا إذا تمكنت الهرمينوطيقا من خلق علاقات متبادلة ومنسجمة بين الميتافيزيقا والأنطولوجيا والابستيمولوجيا والفينومينولوجيا والاثنوميثودولوجيا، وهذا ما يستدعي التأكيد على أهمية مبدأ التطبيق الذي يعني الانتقال من النص إلى الفعل عبر أو بواسطة العقل، بمعنى استحضار الواقع بكل أحداثه ومعطياته في عملية التأويل، فالواقع إذن يصبح هو دليل التأويل وبرهانه.

 تتعلق الهرمينوطيقا كمنهجية للتأويل بالمشاكل التي تنشأ عند التعامل مع الأفعال البشرية الحاملة لمعنى ونواتج هذه الأفعال، وبالأخص النصوص. وهي بوصفها معرفة منهجية توفر مجموعة أدوات لمعالجة هذه المشاكل. يرتبط التأويل كتقليد قديم بمجموعة من الإشكالات السائدة والمتكررة في حياة الإنسان، فالتأويل نشاط إنساني حاضر في كل وقت وحين ينطلق كلما تطلع البشر إلى فهم ما يرونه مهما في نظرهم. ونظراً لتاريخ الهرمينوطيقا الطويل، فمن الطبيعي أن تكون قضاياها، وأدواتها، قد شهدت تحولاً كبيراً مع مرور الوقت، ولحق هذا التحول مبحث التأويل نفسه.

 ويُعرف التأويل في اللغة: ترجيع الشيء إلى الغاية المرادة منه، من الأول وهو الرجوع. وفي الاصطلاح: رد الكلام إلى الغاية المرادة منه، بشرح معناه، أو حصول مقتضاه. وفي الفلسفة هي المبدأ المثالي الذي من خلاله تكون فيه الحقائق الاجتماعية (وربما أيضاً الحقائق الطبيعية) رموزاً أو نصوصاً والتي بدورها يجب أن يتم تفسيرها بدلاً من وصفها أو إيضاحها. وفي نظرية الفهم يرى فريدريك شلايرماخر (1768- 1834) أن الهرمينوطيقا هي فن الفهم؛ أي الفن الذي لا يمكن الوصول إلى الفهم إلا من خلاله. وانطلاقاً من أن تفسير الفهم معرض دائما لخطر الابتلاء بسوء الفهم، اعتبر شلايرماخر الهرمينوطيقا مجموعة قواعد منهجية تُستخدم لرفع هذا الخطر.

وقد بدل هذا الفهم الهرمينوطيقا من مجموعة قواعد إلى علم منظم ومتناسق. وبعبارةٍ أخرى: الهدف الأساس من هذا الفهم للهرمينوطيقا هو بيان شروط الفهم في كل محاورة، بحيث يمكن عد أصولها أساساً لأي نوع من الفهم والتأويل. والجديد في هذه النظرة إلى الهرمينوطيقا، أنه عُرِّف هذا العلم لأول مرة بأنه الباحث عن نفس الفهم. وعلى هذا الأساس، كان شلايرماخر في صدد بيان أن الهرمينوطيقا نوع من الفنون - أي هي شرح منهجي للقواعد الحاكمة على النصوص - يُعنى ببيان كيفية التأويل بحيث لا نقع في التفسير بالرأي.

وفي المنهج العام للعلوم الإنسانية يرى فيلهلم دلتاي أن الهرمينوطيقا منهج عام وعلم أساس تُبنى عليه كل العلوم الإنسانية. لذا، سعى أن ينظم علم الهرمينوطيقا كمنهج جامع للفهم والتأويل في هذه العلوم. وكان يريد أن ينقل نهضة كانط في العلوم الطبيعية إلى العلوم الإنسانية، لكن بمنهج يتناسب معها. فكما أن كانط استفاد من نقد العقل المحض لفهم العلوم الطبيعية وبيانها، فإن دلتاي رأى أنه يجب أن نبدأ من " نقد العقل التاريخي " في العلوم الإنسانية. ويعتقد دلتاي أن الهرمينوطيقا هي أفضل منهج يمهد للفهم الصحيح في العلوم الإنسانية.

ويؤكد دلتاي على أن حصول الاطمئنان في العلوم الطبيعية مرهون للمنهج الصحيح الحاكم فيها. ومن جهة أخرى، خلص إلى أن الفراغ الأساس في العلوم الإنسانية هو عدم الاستفادة من منهج جامع. لذا، صب كل جهده لتقعيد علم الهرمينوطيقا الذي يمهد المباني المنهجية للعلوم الإنسانية.

أما في مجال السوسيولوجيا فقد عرف هذا المفهوم استعماله الشائع مع السوسيولوجي ڨيبر الذي كان يقول بأن مهمة عالِم الاجتماع هي " الفهم من خلال التأويل لتلك الأفعال الموجهة بصورة لها معنى ". ويبرز في الحقل السوسيولوجي اليوم رجل مثل جيدنز مدافعاً بشدة عن ضرورات إحياء التراث التأويلي ومنتقداً ما أسماه الإجماع المتزمت، الذي يعتمد على وحدة المنهج العلمي وعلى إمكانية تطبيق قوانين عامة على الظواهر الاجتماعية كما في المجال الطبيعي، لأن البقاء عند مستوى مادية الوقائع الاجتماعية باعتبارها أشياء، إنما تنتقص من الواقع الحقيقي للعالم الاجتماعي الذي يمتلئ بالرموز، ومنه فلا يجب المغالاة في البحث عن العلاقات السببية ولكن علينا أن نعترف في البداية أن العلوم الاجتماعية هي علوم تأويلية، لأنها تسعى إلى الفهم المتعمق للفعل الإنساني، الذي يعد بطبيعته فعلاً قابلاً للفهم، ويتحقق ذلك فقط باكتشاف المعاني الخفية وراء الأفعال عن طريق دراسة القواعد التي يتبعها الفاعلون في سلوكهم فالسلوك ذو المعنى هو نشاط موجه بالقواعد التي تمنح الفاعل تبريرات لسلوكه. وعملية فهم المعنى والتبريرات تلزم الباحث ربط السلوك الملاحظ بالقواعد المحددة له، وهذه الأخيرة لا تأخذ مطلقاً شكل قانون مثلما هو عليه الحال في العلوم الطبيعية، لأنها عبارة عن واجهات خارجية للمعاني الداخلية المرتبطة بأفعال الأفراد.

واقعياً، أدت أحداث السياق الاجتماعي وتفاعلاته في ستينيات القرن العشرين المنصرم إلى بروز المدرسة التأويلية على الساحة الأكاديمية لعلم الاجتماع الغربي. ومن أهم تلك الأحداث ارتباط اليسار الجديد بحركات الاحتجاج الاجتماعي وبالأخص الاحتجاجات الطلابية في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية عام 1968، حيث جاءت تلك الأحداث كرد فعل على فشل النظريات البنائية الكبرى (الوضعية، الوظيفية، الماركسية) في سعيها لإيجاد حلول مناسبة للمشاكل التي تعترض المجتمعات الغربية بسبب تعدد الاتجاهات والإيديولوجيات التي تتحكم بنظرتها وفهمها وتفسيرها للواقع الاجتماعي.

تهتم هذه المدرسة بشكل خاص بتحليل الأنساق الاجتماعية الصغرى (الميكرو سوسيولوجي) Micro Sociology. وتدرس الأفراد في المجتمع ومفهومهم عن المواقف الاجتماعية، والمعاني والأدوار، وأنماط التفاعل الاجتماعي فيما بينهم.

خلاصة ما تقدم، يتعين علينا قبول هذا الواقع بأن ثمة اتجاهات نظرية متقابلة وأن علماء الاجتماع يحملون تصورات وأفكار، ويستخدمون أساليب بحثية تنتمي لأكثر من اتجاه نظري. فالنظريات البنائية تؤكد أن المجتمع خارج عن الأفراد ومستقبل عن وعيهم وإرادتهم وهو يصوغ سلوكهم ويحدد هذا السلوك. وهذه العوامل والمتغيرات الخارجية تشكل مجتمعة ما يسمى بالبناء الاجتماعي. وتركز النظريات البنائية على بحث الوحدات الكبرى وتعتمد المناهج والأساليب الكمية والمسوح الاجتماعية والمقارنة وتستخدم الاستبيانات والمقابلات المقننة. وفي مقابل ذلك فإن النظريات التأويلية تركز على الأفعال الفردية ذات المعنى والهدف أو القصد والغرض، وتميل إلى استخدام المناهج والأساليب البحثية الكيفية، وتعتمد على الملاحظة المشاركة وغير المشاركة والمقابلات غير المقننة، وهي أساليب تختلف كثيراً عن الأساليب المتبعة في النموذج الكلاسيكي لعلم الاجتماع.

وأخيراً، يرى أصحاب المنظورات التأويلية أن علم الاجتماع بالنسبة لهم هو مصدر الفهم السببي والتأويلي للعالم المحيط بهم. إن المهمة الأساسية لعلم الاجتماع التأويلي هي دراسة الفرد وفعله باعتباره وحدة البحث الأساسية في علم الاجتماع المعاصر. فالفرد هو النهاية القصوى للفعل ذي المعنى، والناقل الوحيد له. ومهمة عالِم الاجتماع هي اختزال مفاهيم مثل الدولة والنظام والطبقة...، إلى فعل قابل للفهم طالما أن هذه المفاهيم ترمز إلى أنماط معينة من التفاعل الإنساني.

أولاً- تعريف المدرسة التأويلية في علم الاجتماع:

تهتم هذه المدرسة بالدرجة الأولى بكيفية قيام الأفراد والجماعات بتأسيس المجتمع وإضفاء معنى عليه ومعايشة الحياة فيه، بدلاً من الاهتمام بكيفية تأثير المجتمع على الأفراد والجماعات. بمعنى آخر تمثل المعاني التي ينتجها الأفراد في تفاعلاتهم جوهر الأطروحة الأساسية لعلم الاجتماع التأويلي فيمكن اعتباره اتجاهاً في تأويل المعنى أساساً.

يركز هذا التحليل السوسيولوجي (قصير المدى) على الأنساق الاجتماعية باعتبارها نتاجاً إنسانياً يتشكل عملياً بموجب تفاعلات الأفراد مع بعضهم البعض وهذه الفكرة تقف على الجانب الآخر من الوجود الاجتماعي الذي ركزت عليه المدرسة البنائية في علم الاجتماع المعاصر.

كما تسعى هذه المدرسة إلى الابتعاد عن أي نظرة ترى المجتمع كياناً قائماً بذاته مستقلاً عن الأفراد المكونين له والتركيز بدلاً من ذلك تركيزاً فجاً على الأساليب التي يخلق بواسطتها البشر عالمهم الاجتماعي. بمعنى آخر في علم الاجتماع التأويلي يتم التنكر لكل القوى الخارجية التي يمكنها أن تمارس تأثيراً على الأفراد وتوجه سياقات المعنى في تفاعلاتهم باعتبارهم هم من يشكلون الحقيقة الاجتماعية.

 ترى المدرسة التأويلية أن الناس يتجهون في حياتهم من الذات إلى خارجها مؤكدين أن الأفراد هم الذين يشكلون المجتمع، من خلال التأكيد على أهمية المعاني للاتصال بما يشمله من لغة وإيماءات وإشارات، بالإضافة إلى التوقعات التي تكون لدى الآخرين عن سلوكنا في ظروف مواقف معينة خلال عملية التفاعل الاجتماعي.

تعتمد المدرسة التأويلية على منهجية فهم الفعل الاجتماعي وتأويله، مع تفسير هذا الفعل المرصود سببياً بربطه بالآثار والنتائج. ويقصد بالفعل سلوك الفرد أو الإنسان داخل المجتمع، مهما كان ذلك السلوك ظاهراً أو مضمراً، صادراً عن إرادة حرة أو كان نتاجاً لأمر خارجي. ومن ثم، يتخذ هذا الفعل - أثناء التواصل والتفاعل - معنى ذاتياً لدى الآخر أو الآخرين، مادام هذا الفعل الاجتماعي مرتبطاً بالذات والمقصدية. وهنا ينتقل علم الاجتماع التأويلي من عالم الأشياء الموضوعية إلى الأفعال الإنسانية. أي انتقل من الموضوع إلى الذات، أو من الشيء إلى الإنسان. كما تجاوز المقاربة الوضعية نحو المقاربة الهيرمونيطيقية التي تقوم على الفهم والتأويل الذاتي الإنساني. وبهذا قد أحدث قطيعة ابستمولوجية، ضمن مسار علم الاجتماع، بتأسيس مدرسة الفعل الاجتماعي أو المدرسة التأويلية.

- المنهج التأويلي لفهم الفعل الاجتماعي عند فيبر:

تسعى المقاربة التفهمية الفيبرية إلى فهم الظاهرة الاجتماعية، باستخلاص دلالات أفعال الأفراد، واستكشاف معانيها ومقاصدها وغاياتها ونواياها. وفي هذا السياق نجد أن فهم الفعل الإنساني - حسب فيبر- ليس مسعى سيكولوجياً، بل هو السعي إلى فهم السيرورة المنطقية التي تقود الفاعل الاجتماعي إلى اتخاذ قرار ما في ظرف خاص. إذ يتعين إعادة تشكيل المنطق العقلي للفاعل، كما ينبغي، أيضاً، فهم الجانب العقل في سلوكه، تبعاً للأهداف التي يتوخاها والوسائط التي يتوسلها، من أجل التوصل إلى فهم تفسيري للفعل.

بمعنى أن فيبر يعتمد منهجاً تأويلياً يستند إلى الفهم (دراسة المعنى الداخلي)، والتأويل (إدخال الذات والمرجع على مستوى القراءة). ويعني هذا أن الفعل الاجتماعي أو الفعل الإنساني مرتبط بثقافة مجتمعية معينة. وبالتالي لا يمكن دراسة الثقافة أو الإنسان من خلال المنهج الوضعي، بل لا بد من الاعتماد على منهج الفهم في ذلك. أضف إلى هذا أن الظاهرة الإنسانية مرتبطة بمجموعة من الأسباب، وليس بسبب واحد. لذا يصعب تطبيق المنهج الوضعي على الظاهرة الاجتماعية التي يحضر فيها الإنسان باعتباره فاعلاً ومنفعلاً، وكائناً واعياً ومتغيراً.

ونستنتج مما تقدم بأن منهج فيبر يرتكز على ثلاث مقومات أساسية هي الفهم والتاريخ والثقافة وذلك بالاعتماد على منهج الفهم في دراسة السلوك الاجتماعي، ورصد أشكال الهيمنة والسلطة، ويعني هذا أنه من مؤسسي نظرية الفهم والتأويل في علم الاجتماع. ويعني ذلك أيضاً أن منهجية فيبر تهدف إلى فهم معنى التفاعلات السلوكية للأفراد داخل المجتمع. أي أن علم الاجتماع يدرس الفعل الاجتماعي الذي يقصد به مجموعة من الوسائل التي يستند إليها المجتمع للحفاظ على أتساقه وانسجامه، وخاصة الوسائل القانونية والتنظيمية أو الأعمال التي تدفع الأفراد والجماعات التي تعيش نوعاً من الهشاشة إلى العيش الكريم، والانصهار في وحدة المجتمع.

ثانياً- الروافد الفكرية والفلسفية للمدرسة التأويلية المعاصرة:

تعد المدرسة التأويلية إحدى أهم المدارس السوسيولوجية المعاصرة.  تنهض على أسس فلسفية ونفسية متأثرة إلى حد كبير بالفلسفة البراغماتية (النفعية) Pragmatic Philosophy، والفلسفة الوجودية Existential Philosophy.

أ- البراغماتية: بوصفها دليل عمل سوسيولوجي للفلسفة البراغماتية التي تهتم بالخبرة الإنسانية باعتبارها منبعاً للمعرفة. فالواقع أو التجربة هو المقياس لأي نظرية أو فكرة.

ب- الوجودية: لتأكيدها على خبرات الفرد الذاتية ودورها في رسم تصورات الإنسان الخاصة مع نفسه والآخرين.  كما أنها تعبّر عن اتجاه فلسفي يغلو في قيمة الإنسان، ويبالغ في التأكيد على تفرده وأنه صاحب تفكير وحرية وإرادة واختيار ولا يحتاج إلى موجه. وهي فلسفة عن الذات أكثر منها فلسفة عن الموضوع.

كما تعود جذور تلك المدرسة (التأويلية) في الدراسات الكلاسيكية لعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم النفس الاجتماعي، وكانت لأفكار ماكس فيبر دوراً كبيراً في فهم العالم الاجتماعي من خلال فهم اتجاهات الأفراد الذي تتفاعل معهم، وأن فهم الطواهر الاجتماعية يكون من خلال تحليل الفعل الاجتماعي في المجتمع.

وقد أكد فيبر أن المجتمعات الإنسانية يمكن دراستها من خلال فحص المعاني الفردية، وفهم معنى السلوك بالنسبة للأفراد الذين يتفاعلون مع بعضهم وهي طريقة التي أطلق عليها فيبر الفهم، وطور مدخل الفهم كوسيلة لدراسة الحياة الاجتماعية، ومن خلاله حاول علماء الاجتماع بطريقة عقلية أن يضعوا أنفسهم محل الآخرين بهدف التعرف على أفكارهم ومشاعرهم، وقد ذهب فيبر إلى أن الناس يتصرفون طبقاً لتفسيرهم لمعاني عالمهم الاجتماعي.  

ثالثاً- أهداف المدرسة التأويلية: تنحصر فيما يلي:

1. فهم وتفسير الواقع الاجتماعي من خلال أعين الفاعلين ونشاطاتهم والاهتمام بكيفية قيام الأفراد والجماعات بتأسيس المجتمع وإضفاء معنى عليه ومعايشة الحياة فيه بدلاً من الاهتمام بكيفية تأثير المجتمع على الأفراد.

2. إعادة روح النزعة الإنسانية للعلوم الاجتماعية، التي افتقدتها في ظل فلسفة الاتجاه الوضعي الذي اتُخذ كمبدأ أساسي لدراسة الواقع الاجتماعي من قبل المدرسة البنائية.

3. التأكيد على أن المعاني التي ينتجها الأفراد خلال عملية تفاعلهم الاجتماعي تمثل جوهر الأطروحة الأساسية لهذه المدرسة التأويلية.

4. النظر إلى الأنساق الاجتماعية على أنها تمثل نتاجاً إنسانياً يتكون عملياً بموجب تفاعلات الأفراد مع بعضهم البعض.

5. تفعيل البعد التواصلي اللغوي والتفاهم العقلاني الهادف، الذي يؤدي بالأطراف المشاركة بالعملية التواصلية إلى محاولة تحقيق نوع من الاتفاق والإجماع المتبادل حول القضايا المطروحة للحوار في الواقع الاجتماعي.

رابعاً- المنطلقات النظرية للمدرسة التأويلية المعاصرة:

تنطلق المدرسة التأويلية في رسم حدودها النظرية من خلال المنطلقات رئيسية التالية:

1) التركيز على تفاعلات الوجه لوجه الفاعلين الاجتماعيين عن طريق عملية التفاعل والتواصل بين الأفراد عن طريق اللغة أكثر من التركيز على الوحدات الاجتماعية المجردة (كالطبقات الاجتماعية).

2) اعتبار اللغة من أهم الرموز اللازمة للتفاعل الاجتماعي. فالكائنات الإنسانية تتقاسم فيما بينها الرموز ذات الدلالة، بدليل أننا لا نفهم المعاني التي يقصدها أحد المتحدثين بلغة غير مألوفة وتكتسب الكلمات المعاني التي يقول الأفراد أنهم يقصدونها من هذه الكلمات.

3) التركيز على المعاني أكثر من الوظائف لذلك تحاول تفسير المعاني التي يلصقها الأفراد بأفعالهم. وهذا الفهم على عكس فهم البنائية الوظيفية لوظيفة الأنساق الاجتماعية (الجزء في خدمة الكل).

4) التركيز على الخبرة المعاشة أكثر من التركيز على المفاهيم المجردة (المجتمع، المؤسسات)، وبذلك تمثل تلك المدرسة اتجاهاً مغايراً يسعى نحو الابتعاد عن أي نظرة ترى المجتمع كياناً قائماً بذاته مستقلاً عن الأفراد المكونين له.

5) التركيز على الأساليب التي يخلق بواسطتها البشر عالمهم الاجتماعي. فالأفراد هم الذين يصنعون الحقائق الاجتماعية لتفسير ما يحدث في العالم الذي يعيشون فيه.

6) المعنى حسب هذه المدرسة يتكون من خلال العملية الاجتماعية ويمكن وجود المعنى موضوعياً حتى في غياب الإدراك. مثال ذلك ففي مبارزة السيف تعتبر محاولة التجنب تأويلاً لمحاولة الطعن.

7) إنكار المدرسة التأويلية لكل القوى الخارجية التي يمكن أن تمارس تأثيراً على الأفراد وتوجه سياقات المعنى في تفاعلاتهم وبشكل خاص بناءات القوة وعلاقاتها.

خامساً- رؤية منظورات المدرسة التأويلية المعاصرة للإنسان والمجتمع:

يتضمن التحليل السوسيولوجي من وجهة نظر المدرسة التأويلية المعاصرة عدة منظورات سوسيولوجية سنسعى إلى استعراض أهم مقولاتها باختصار شديد منعاً للإطالة والاسترسال، وقد حرصنا على عرضها كفقرات قصيرة لسهولة الفهم والتركيز، وهي كالآتي:

1- التفاعلية الرمزية (جورج هربرت ميد/ هربرت بلومر):

تنظر التفاعلية الرمزية للإنسان والواقع من خلال ما يلي:

أ- الإنسان قادر على تحسين ذاته وبناء شخصيته وتشكيل واقعه الاجتماعي خلال عملية التفاعل الاجتماعي.

ب- يتكون البناء الاجتماعي والحفاظ عليه عن طريق استخدام الرموز مثل اللغة وعن طريق عمليات التفاعل الرمزي والتصرف ضمن توقعات الآخرين.

ج- لا يمكن فهم أنماط التنظيم الاجتماعي بدون معرفة العمليات الرمزية بين الأفراد الذين يشكلون في النهاية هذه النماط.

د- ظواهر المجتمع ليس لها وجود خارج وعي الأفراد أو مداركهم.

هـ- المجتمع نسق متفاعل باستمرار، أي كيان متجدد باستمرار بين كل لحظة وأخرى.

و - تلعب التنشئة الاجتماعية دوراً هاماً ومؤثراً في ربط الفرد بالجماعة وربط الجماعة بالمجتمع.

2- الاثنوميثودولوجيا/ منهجية الحياة اليومية (هارولد جارفينجل):

 من أهم مقولات تلك النظرية، ما يلي:

أ - الإنسان كائن إيجابي، أفراد المجتمع هم الذين يشكلون الواقع والحقيقة الاجتماعية دون تصورهم في حالة خضوع مستمر للقوى الخارجية.

ب - الإنسان كائن عقلاني له أفكاره وتصوراته الخاصة التي تختلف باختلاف المجتمعات والثقافات السائدة.

ج- تتكون تصورات الإنسان العقلانية خلال علاقات التفاعل ومن خلال المعاني الذاتية التي يُضفيها هؤلاء الأعضاء على أفعالهم ومن خلال نقل المعرفة للآخرين.

د- يهدف المنظور الاثنوميثودولوجي إلى وصف كيفية قيام أفراد المجتمع بصياغة المفاهيم حول المواقف المختلفة وكيفية تشكيل الحقيقة الاجتماعية. 

هـ- تعد عملية تشكيل الحقيقة الاجتماعية عملية مستمرة في التغير وذلك نظراً لأن مواقف الحياة المختلفة تعد عملية متغيرة غير ثابتة.

و- الواقع الاجتماعي في حالة تغير دائم، وهذا المنظور يحث الأفراد على تغيير ذواتهم بدلاً من تغيير النظام الاجتماعي القائم.

ز- الأبنية الاجتماعية القائمة في المجتمع فيها الكثير من القواعد والمعايير الاجتماعية الغير معروفة بشكل واضح لأعضاء المجتمع، لذا لا بد من الكشف عن الطرق والإجراءات التي يستخدمها أعضاء المجتمع لجعل أفعالهم وأهدافهم وخبراتهم الماضية قابلة للتفسير والفهم من قبل الأعضاء الآخرين في المجتمع.

3- الفينومينولوجيا / الظاهراتية (ألفريد شوتز):

 ترى الإنسان والمجتمع من خلال المقولات السوسيولوجية التالية:

أ- الإنسان يمتلك المبادأة في الفعل الاجتماعي، فالفاعل الاجتماعي يقف على علاقة جدلية مع الواقع. فهو يعد خالق هذا الواقع ونتاجاً له في ذات الوقت.

ب- التركيز على كل ما هو في قالب الشعور مع القيام بجهد أو قصد نحو سبر غور باطن الشعور ومضمونه.

ج- عقل الفاعل ليس مجرد بل مكتسب اجتماعياً حصل عليه من محيطه الاجتماعي. وعالم الحياة المعيش يتسم بتوتر إدراكي يجعل الفاعل يقظاً وحذراً من الفواعل والأحداث التي يواجهها ويتفاعل معها.

4- التبادل الاجتماعي (بيتر بلاو):

ترى الفرد والمجتمع من خلال العلاقة القائمة ما بين التكلفة والعائدة وما يترتب عليها من ممارسات اجتماعية، وهي كالآتي:

أ- ترى هذه النظرية الإنسان يتصرف بشكل منطقي وعقلاني، فكل إنسان يضع أمامه مجموعة من الأهداف ويحدد لنفسه أكثر الوسائل كفاءة لبلوغ هذه الأهداف.    

ب- يتطلع البشر في علاقاتهم الاجتماعية إلى تجنب السلوك المكلف الذي لا يعود بالفائدة عليهم ويتأسس التبادل وفقاً لذلك على أساس حساب التكلفة والعائد.

ج- التبادل الاجتماعي لا يقتصر على الجانب الاقتصادي فقط وإنما يرتبط بالجوانب النفسية والاجتماعية فتسير الحياة وفق سلسلة من التبادلات ذات التكلف والعائد.

د- أما فيما يتعلق برؤية هذا المنظور لطبيعة المجتمع، فيرى أن الحقيقة الاجتماعية يجب أن نبحث عنها في الفرد وليس المجتمع، وتتخذ هذه التبادلات بمرور الوقت شكل التنظيمات الاجتماعية المعقدة كالجامعات، والشركات، والمؤسسات.

هـ- المجتمع عبارة عن شبكة عمليات تبادلية، ومن خلال هذه العمليات التبادلية يؤدي المجتمع وظائفه المختلفة، إذ أن الموارد محدودة ويجب أن يحصل الأفراد على حاجتهم من الآخرين عن طريق تكوين العلاقات الاجتماعية وتبادل الخدمات والسلع.  

5- نظرية الفعل التواصلي (يورغن هابرماس):

تحاول هذه النظرية إعادة الاعتبار للنزعة الإنسانية من خلال ممارسة الفعل التواصلي القائم على مبادئ العقلانية التواصلية. تؤمن هذه النظرية بأن اللغة تشكل الوسيط الحيوي والمقولة الأولية التي تميز النشاط الإنساني عن الباقي المخلوقات الأخرى. 

أ- إن النشاط التواصلي لن يتم إلا من خلال علاقة تفاعل بين فردين أو أكثر داخل سياق العالم المعيش، ولذلك فمن حق كل شخص له القدرة على الكلام والفعل أن يشارك في التجربة التواصلية، على أن يعلن اعترافه بمزاعم أو مطالب الصدق المتفق عليها.

ب- تتم عملية التواصل من خلال اللغة مما يؤدي إقامة علاقة بين المشاركين في التفاعل وبين العالم الخارجي، وبينهم وبين الذوات الأخرى، باعتبارها – اللغة – الوسيط الأساسي في النشاط التواصلي، وعن طريقها يتم الوصول إلى نوع من التفاهم بتوظيف الجمل والعبارات أو التعبيرات التي يتلفظ بها أعضاء الجماعة المشاركة في التواصل سواء كانوا متحدثين أو مستمعين.

ج- تهدف التجربة التواصلية للوصول إلى اتفاق بين الذوات المشاركة في التفاعل ويفترض هذا الاتفاق وجود معرفة مشتركة بينهم، أو على الأقل وجود نوع من التقارب في وجهات النظر، وأن يتم الاعتراف المتبادل على مزاعم الصدق من أجل الوصول إلى إجماع.

د- أما عن رؤيتها لطبيعة المجتمع فإنها تسعى إلى تأسيس «المجتمع الديمقراطي التشاوري (التواصلي)». الذي تقوم ديمقراطيته على أساس جماعة مثالية للتواصل خالية من أية هيمنة أو سيطرة ما عدا غلبة أفضل حجة. كما أن مفهوم التشاور يعد مفهوماً مركزياً، في ديمقراطية المجتمع الجديد المؤسسة على المناقشة، لأنه في التشاور يعطى للآخرين الحق في الكلام والنقد ورفع ادعاءات الصلاحية وتقديم اقتراحات جديدة بخصوص القضايا المطروحة للنقاش في المجال العام.

سادساً- الانتقادات الموجهة للمدرسة التأويلية المعاصرة:

 تعرضت مقولات المدرسة التأويلية في نظرتها للإنسان والواقع إلى مجموعة من الانتقادات، وهي كالآتي:

1- إن اهتمام المدرسة التأويلية المتزايد بدراسة الشخصية أو الذات الفاعلة، مما دفع روادها إلى دراسة التفاصيل الصغيرة وإهمال دراسة النظام الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي.

2- صعوبة تعامل منظورات المدرسة التأويلية مع الجوانب التنظيمية الكبيرة الحجم داخل البناء الاجتماعي. 

3- عدم قدرة المدرسة التأويلية على فهم عملية التغير الاجتماعي، مما جعل تفسيرها السوسيولوجي ينحصر في نطاق التغير النفسي للأفراد وليس التغير في الوحدات الاجتماعية الكبرى.

4- فشل أغلب المنظورات السوسيولوجية للمدرسة التأويلية في تقديم افتراضات مترابطة حول طبيعة الإنسان أو الحقيقة الاجتماعية.

5- أما على صعيد المنظور التبادلي نجد أن الإنسان يبحث عن أهدافه بعقلانية ويقوم باختيارها من خلال بدائل بنائية محددة. إلا أن تلك الأهداف تتأثر بعض العوامل التي ترجع إلى البناء الاجتماعي.

6- وفيما يتعلق بمسلمة الوضع التواصلي الأمثل عند هابرماس، نجد أن هذا المسلمة يشوبها الكثير من النقائض، بالاستناد إلى مجريات الواقع الاجتماعي وتفاعلاته، فالنزاعات والصراعات الاجتماعية لم يتم تجاوزها لأن الشروط والعوامل التي تنتجها لازالت قائمة، وهذا ما يظهر بجلاء من شعور الأفراد والجماعات ووعيهم بالظلم بما يسمى الاحتقار أو الازدراء الاجتماعي المسلط عليهم، وخاصةً تجاه المهاجرين الأجانب في أوروبا.

سابعاً- نماذج تطبيقية في تفسير منظورات المدرسة التأويلية المعاصرة للمشكلات الاجتماعية:

في هذا السياق سنسعى إلى توظيف منظورات المدرسة التأويلية المعاصرة (التفاعلية الرمزية، التبادل الاجتماعي، الاثنوميثودولوجيا) في تفسير مشكلة الطلاق من خلال عنوان البحث التالي: العوامل المسؤولة عن الطلاق وآثاره على الحياة الأسرية والاجتماعية (دراسة حالة لعينة من الأسر في مدينة ما).

 من خلال ما سبق يمكن للباحث الاستناد إلى مجموعة من النظريات السوسيولوجية التي ستشكل بمجملها مرجعيته العلمية في تحليل وتفسير كيفية حدوث مشكلة الطلاق واشتقاق التساؤلات (الفروض) التي سنجيب من خلالها عن الأسباب الكامنة خلف حدوث مشكلة البحث، وهي كالآتي:

1- النظرية التفاعلية الرمزية:

ينصب التركيز الأساسي لنظرية التفاعلية الرمزية على أن الفرد يعيش في عالم من الرموز والمعارف المحيطة به في كل موقف أو تفاعل اجتماعي يتأثر بها ويستخدمها يومياً وباستمرار. ويتضح استخدام الفرد للرموز من خلال معانيها للتعبير عن حاجاته الاجتماعية ورغباته الفردية، وتتجلى أهمية الرموز عند استخدامها من قبل أفراد المجتمع على صعيد الممارسة اليومية في الحياة الاجتماعية. حيث يتعلم الفرد من خلال تفاعله مع الآخرين المحيطين به بشكل شعوري أو لا شعوري استخدام الرموز مثل: استخدام اللغة، أو تحريك الرأس للدلالة على الرفض أو القبول، لبس الخاتم عند الزواج، ووفقاً لهذه النظرية فإن التفاعل الرمزي في الأسرة يشير إلى دراسة التفاعل والعلاقات الشخصية بين الزوجين وزوجته وأولادهما. بناءً على ذلك، نجد أن سلوك الأفراد في الأسرة ما هو إلا تفاعل اجتماعي، وانعكاس للرموز التي يشاهدها الفرد، ويتأثر بها سلباً أو إيجاباً في مواقف الحياة اليومية بشكل مباشر. أي إن الأسرة من خلال هذا التفسير يجب ألا تدرس كنموذج مثالي بل يجب أن تدرس كما هي في الحياة اليومية فليس هناك أسرتين متشابهتين لدرجة التطابق فكل أسرة لها علاقتها الخاصة بها والتي تميزها عن الأسر الأخرى.

وهذا يعني، أن نظرية التفاعلية الرمزية تفترض أن العالم الرمزي والثقافي يختلف باختلاف البيئة اللغوية والعرقية أو حتى الطبقية للأفراد، وفي ضوء هذه الفرضية يهتم دارسوا الأسرة بطبيعة الاختلاف بين العالم الرمزي للزوج والزوجة وتأثير هذا الاختلاف على تحديد توقعات أدوارهما وعلى مجريات التفاعل بينهما، وقد أكدت الدراسات في هذا الصدد أنه كلما كان العالم الرمزي مختلفاً ومتبايناً (كما يحدث في الزيجات بين أفراد ينتمون إلى بيئات لغوية وثقافية مختلفة) أي كلما تبلورت توقعات الأدوار بينهما بشكل ضعيف وبطئ، كلما شهد التفاعل بينهما ضروباً من التوتر والصراع مما يؤدي إلى حدوث الطلاق في أغلب الأحيان .

خلاصة القول تلعب الأسرة دوراً مهماً في تلقين الأفراد أدوارهم المستقبلية. وكل أسرة لها مجموعة من الرموز والمعايير التي تعلمها لأبنائها في مرحلة الصغر وهذه الرموز والمعاني تختلف من أسرة لأخرى، فالفرد يحاول أن يستوعب الدور المتوقع منه أولاً ثم يحاول من خلال تعامله اليومي مع الآخرين إدخال بعض التعديلات على دوره وفقاً للرموز التي اكتسبها في مرحلة الصغر ووفقاً للظروف المحيطة به لذلك نجد أن كل علاقة زوجية تختلف عن العلاقات الزوجية الأخرى بسبب اختلاف عملية التنشئة الاجتماعية. فكلما كانت المعاني والرموز التي اكتسبها الزوجان من أسرهما متقاربة ساعد ذلك على تحقيق التفاهم بينهما والتصرف ضمن توقعات الآخرين والعكس صحيح، فكلما كانت الرموز والمعاني متباعدة بل متنافرة بين الزوجين أدى ذلك إلى خلق فجوة بينهما مما يؤدي إلى بروز الخلافات والصراعات لينتهي الأمر بحدوث الطلاق.

2- نظرية التبادل الاجتماعي:

ترى نظرية التبادل الاجتماعي أن البشر يمارسون سلوكاً يجلب لهم منافع ويشبع لديهم حاجات، حيث يتمحور موضوع بحثها حول السلوك الفعلي للأفراد. وهو يعني أن تبادل النشاطات الإنسانية يتم في ضوء العائد (المكافأة) والتكلفة. وأن تلك النشاطات تفسر من خلال المقارنة بين تكلفة أفعال معينة، والمكاسب التي تتحقق من وورائها بالنسبة للفاعل، بحيث يحاول كل فاعل من خلال فعله أن يختزل التكاليف ويعظم من المنفعة والأرباح. فعندما تتعذر الحياة الزوجية بين الطرفين وتصبح الحياة مليئة بالصراعات والمشاحنات، فإن كلا الطرفين أو أحدهما يحاول أن يحسب مقدار الخسائر المترتبة من هذا الطلاق ومقدار المكاسب فإذا أحس أن مكاسبه من الطلاق تفوق خسائره فإنه يتخذ قرار الطلاق والعكس صحيحاً إذا كانت الخسائر أكثر من المكاسب فإنه يستمر في حياته الزوجية، وأن هذه المكاسب أو الخسائر ليست هنا مادية فقط وإنما هي مادية أو معنوية أو اجتماعية. خلاصة القول إن العلاقات الاجتماعية بين الأفراد تبدأ بالتغير وبالانهيار عندما لا تتوافق التكلفة مع العائد أو الأخذ والعطاء أي تناقض المصالح والغايات بين أفراد الجماعة.

3- نظرية الاثنوميثودولوجيا:

تنظر هذه النظرية إلى الإنسان باعتباره كائناً إيجابياً قادراً على تشكيل الحياة الاجتماعية دون الخضوع المستمر للقوى الخارجية. كما أنها ترى أن الإنسان كائن عقلاني له أفكاره وتصوراته الخاصة التي تختلف باختلاف المجتمعات والثقافات السائدة فيها. وترى هذه النظرية أيضاً أن تصورات الإنسان تتكون من خلال علاقات التفاعل والمعاني الذاتية التي يضفيها أعضاء المجتمع على أفعالهم. بذلك يهدف المنظور الاثنوميثودولوجي إلى وصف كيفية قيام أفراد المجتمع أثناء تفاعلهم في الحياة اليومية بصياغة المفاهيم حول المواقف المختلفة وكيفية قيامهم بتشكيل الحياة الاجتماعية من خلال الطرق والإجراءات التي يستخدمها أعضاء المجتمع لجعل أفعالهم وأهدافهم وخبراتهم الماضية قابلة للتفسير والفهم من قِبل الأعضاء الآخرين في المجتمع.

وعندما يفشل الزوج والزوجة في صياغة تصورات مشتركة تؤدي إلى عدم التوافق والتفاهم حول حياتهما الاجتماعية، بسبب الاختلاف الثقافي وعدم إتباع طرق مناسبة، لجعل أفعالهما وخبراتهما المتراكمة قابلة للفهم والتفسير في إيجاد أسلوب معين تقوم عليه الحياة الزوجية، سيؤدي ذلك بطبيعة الحال إلى عدم قدرة الزوج والزوجة على صياغة الحقيقة الاجتماعية المتعلقة بالحياة الزوجية، وهذا يعني أن كل من الزوج والزوجة يعتقد أنه يمتلك الحقيقة الاجتماعية دون الآخر مما ينذر بتفاقم الخلافات والمشاكل التي ستفضي لا محال إلى حدوث الطلاق.

- تمرين/ بناءً على ما سبق، ناقش المشكلة الاجتماعية التالية: (أسرة مؤلفة من زوج وزوجة حديثي الزواج، لا يعانون من مشاكل اقتصادية وتتوفر لديهم كل سبل الحياة المادية والمريحة، ومع ذلك حدثت مشاكل اجتماعية بينهما في الفترة الأولى من زواجهما بسبب عدم قدرتهم على بناء تصورات مشتركة حول حياتهم الاجتماعية المستقبلية أدت بهم إلى الطلاق النفسي، ثم الانفصال بشكل نهائي). المطلوب:

1. حدد اتجاه المشكلة الاجتماعية، ولأي اتجاه سوسيولوجي تنتمي؟

2. حدد من المسؤول عن حدوث المشكلة، وكيف تتجسد على أرض الواقع الاجتماعي؟

3. حدد الاختيار النظري المناسب لتفسير المشكلة الاجتماعية المذكورة أعلاه مع الشرح التوضيحي.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة، قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

..........................

- مراجع الدراسة:

- إبراهيم عيسى عثمان: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع، دار الشروق، عمان، ط1، 2008.

- أنور مقراني: محاولة في تأصيل مفهوم التأويل في العلوم الاجتماعية، مجلة الكلمة، العدد: 65، السنة السادسة عشر خريف 2009.

https://kalema.net/home/article/view/921

- إيان كريب: النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة: محمد حسين غلوم، مراجعة: محمد عصفور، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، العدد:244، أبريل/ نيسان، 1999.

- ثيودور جورج: الهيرمينوطيقا، ترجمة: كوثر فاتح، مجلة حكمة، 19/08/2020، ص(2). https://2u.pw/s1TZgPWe

- جوناثان ه. تيرنر: علم الاجتماع النظري – مقدمة موجزة لاثنتي عشرة نظرية اجتماعية، ترجمة: موضي مطني الشمري، دار جامعة الملك سعود، ط1، 2019.

- حسام الدين فياض: الإطار النظري في البحوث الاجتماعية؛ توظيف المقولات النظرية في تفسير الظواهر الاجتماعية (دراسة تحليلية – تطبيقية)، مجلة ريحان للنشر العلمي، المجلد: 5، العدد: 46، سوريا، 2024، ص(128-218).

- حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع (من مرحلة التأصيل إلى مرحلة التأسيس)، مكتبة الأسرة العربية، إسطنبول، ط1، 2021.

- حسام الدين فياض: ماهية علم الاجتماع التأويلي، صحيفة الحوار المتمدن، العدد: 8031، 07/07/2024. https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=835153

- حسام الدين فياض: منهجية الفهم والـتأويل عند ماكس ڨيبر ”إنك تدرس لكي تفهم“ (دراسة تحليلية – نقدية)، مجلة ريحان للنشر العلمي، المجلد: 7، العدد: 48، سوريا، 2024، ص(292-325).

- حسام الدين فياض: نظرية التشكيل البنائي لدى أنتوني جيدنز (محاولة للتوفيق بين البنية والفعل في فهم المجتمع الإنساني)، المجلة العربية للعلوم ونشر الأبحاث (مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية) مجلة علمية دولية محكمة، المجلد: 4، العدد7، يوليو 2020.

- حسام الدين فياض: وجهات نظر في نظريات علم الاجتماع المعاصر (دراسة تحليلية - نقدية)، صحيفة الحوار المتمدن، العدد: 7395، 08/10/2022. https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=770798

-  رث والاس، ألسون وولف: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع – تمدد آفاق النظرية الكلاسيكية، ترجمة: محمد عبد الكريم الحوراني، دار مجدلاوي، عمان، ط1 (العربية)، 2011-2012.

- سمير نعيم: النظرية في علم الاجتماع (دراسة نقدية)، دار المعارف، القاهرة، ط5، 1985.

 -  صفدر إلهي راد: مفهوم الهرمينوطيقا، مجلة الاستغراب، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، العدد: 19، بيروت، السنة الرابعة - ربيع 2020 م / 1441 هـ.

- طلعت إبراهيم لطفي، وكمال عبد الحميد الزيات: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع، دار غريب، القاهرة، ط1، 1999.

- عادل مصطفى: فهم الفهم: مدخل إلى الهرمينوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط2، 2018.

- عبد العزيز الغريب: نظريات علم الاجتماع – تصنيفاتها، اتجاهاتها، وبعض نماذجها التطبيقية من النظرية الوضعية إلى ما بعد الحداثة، دار الزهراء، الرياض، ط1، 2012.

- علي ليلة: بناء النظرية الاجتماعية، المكتبة المصرية، الإسكندرية، سلسلة النظريات الاجتماعية، الكتاب الأول، بدون تاريخ.

- عبد الله شلبي: علم الاجتماع الاتجاهات النظرية وأساليب البحث، دار الشمس للطباعة، القاهرة، 2008.

- غسان اكويندي: ما التأويل؟ ملاحظات في علم التأويل، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، الرباط (المغرب)، 24 مايو 2022. https://2u.pw/quzFa6PE

- فيليب جونز: النظريات الاجتماعية والممارسة البحثية، ترجمة: محمد ياسر الخواجة، مصر العربية للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، 2010.

- محمد عاطف غيث: دراسات في تاريخ التفكير واتجاهات النظرية في علم الاجتماع، دار النهضة العربية، بيروت، ط1، 1975.

- محمد عبد الكريم الحوراني: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع – التوازن التفاضلي صيغة توليفية بين الوظيفية والصراع، دار مجدلاوي، عمان، ط1، 2008. 

- مصطفى خلف عبد الجواد: نظرية علم الاجتماع المعاصر، دار المسيرة، عمان، ط2، 2011.

- ميل تشيرتون وآن براون: علم الاجتماع النظرية والمنهج، ترجمة هناء الجوهري، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 2075، ط1، 2012.

- نيقولا تيماشيف: نظرية علم الاجتماع (طبيعتها وتطورها)، ترجمة: محمود عودة وآخرون، مراجعة: محمد عاطف غيث، دار المعارف، القاهرة، ط5، 1978.

 

يؤكد أهل العرفان أنّ الذّات الإلهية المُقَدسة هيَ ذاتٌ مُطلقة الكمال والجمال، غيبيّة مجرّدة، دائمة الفيض (الصدور)، وأنّ أوّل فيوضاتها هو الصادر الأوّل وهو كذلك فَيض مُجرّد، وذو طبيعة غيبيّة وليس ماديّة، ولكنّه فيض مُحدَث. وهذا الصادر - الغيب المُحدث الأول - يَحمل صفاتًا وتجلّيات وفيوضات هي نفس صفات الذات المقدسة ولكن بنحو التجلّي الغيبي المُحدث، لا الحمل الأصلي كما هو عليه في الذات المقدسة.

ذَهَبَ العديد من مُتكلّمي وفلاسفة المسلمين إلى التطابق بين نظرية: "الواحد لا يصدر عنه إلا واحد" مع حقيقة المبدأ الأوّل، لكونه واحد، مؤكّدين أنّ الصادر الأوّل هو واحد ومنه تصدر سلسلة تُعطي الكثرة، وشهدت هذه النظرية قبولًا من جلُّ مُتكلّمي وفلاسفة المسلمين، مؤكّدين على ضرورة أن يكون الصادر الأوّل عن الحق تعالى واحدًا وفي سلسلة تتكثّر فيها الجهات لتعطي الكثرة.

وفي المقابل، شهدت هذه النظرية اعتراضًا من البعض الآخر، فقال ابن رشد (ت 595 ه) معترضًا على هذه النظرية:

" وأمّا المشهور اليوم فهو ضد هذا، وهو أنَّ الواحد الأوّل صدر عنه صدورًا أولًا جميع الموجودات المتغايرة "1؛ واعترض كذلك العلّامة الحلّي (ت 762 ه) بقوله:

" القول بالفرق بين الفاعل المختار فلا يشمله حكم هذه النظرية، والفاعل بالاضطرار فتصدق عليه "2، منطلقًا من حقيقة أنَّ الله تعالى هو فاعل مختار، وكذلك حَكَمَ ببطلان هذه النظرية الفخر الرازي (ت 606 ه) فأجابه صدر المتألهين في شرح الهداية الأثيرية ص 254 - بقوله: "والاشتغال بجواب أمثال هذه الشبهات تضييع للأوقات من دون فائدة، فإن قائلها إما أن لا يقدر على إدراك" وفي الأسفار والقبسات كذلك تفصيل"3.

وهكذا تباينت آراء علماء الدين بين مؤيد ورافض للنظريّة. وكانَ للسيّد محمد حسين الطباطبائي رأي مميّز أورده في بداية الحكمة يقول فيه:

" أن من الواجب أن تكون بين العلة ومعلولها سنخية ذاتية ليست بين الواحد منهما وغير الآخر، وإلا جاز كون كل شيء علة لكل شيء وكل شيء معلولا لكل شيء، ففي العلة جهة مسانخة لمعلولها، هي المخصصة لصدوره عنها، فلو صدرت عن العلة الواحدة - وهي التي ليست لها في ذاتها إلا جهة واحدة - معاليل كثيرة بما هي كثيرة متباينة غير راجعة إلى جهة واحدة بوجه من الوجوه، لزمه تقرر جهات كثيرة في ذاتها وهي ذات جهة واحدة، وهذا محال"4، كما وأشار في نفس الصفحة (الهامش)، لقول المحقق الطوسي في شرح الإشارات3: 122: " وكان هذا الحكم قريبًا من الوضوح "، ليكشف بذلك عن حقيقة أنَّ الواحد الذي يصدر عنه الكثير هوَ إنَّما يصدر لأنَّ في ذاته جهات كثيرة.

ولكن رأينا من الواجب الإشارة إلى أبرز علماء المسلمين، ومن مختلف المذاهب، ممّن أيدوا فكتبوا وشرحوا وفصّلوا في نظرية الصادر الأوّل (قاعدة الواحد) معتبرين أنَّ هذه القاعدة بديهية وثابتة وقطعية ومنهم:

والكندي5، والفارابي6، وابن سينا 7، وبهمنيار 8، وابن رشد 9، وابن عربي 10، والقونوي 11، والمحقق الطوسي 12، وشيخ الإشراق السهروردي 13، والميرداماد 14، وصدر المتألهين 15، والمحقق اللاهيجي 16، والملا هادي السبزواري 17، والملا عبد االله الزنوزي 18، والملا نعيما عرفي طالقاني 19، وأبي الحسن الأشعراني 20، والميرزا مهدي الآشتياني 21، والإمام الخميني 22، والعلامة الطباطبائي 23، وحسن زادة الآملي 24.

علمًا إنَّ هناك غيرهم الكثير، إنَّما أحببنا الإشارة إلى بعضهم، فالمقام لا يتّسع لذكرهم جميعًا.

لَقَد أكّد العديدُ مِنَ الحُكَماء والمُتكلّمين، إشراقيين أو مشائين، والعديد من مفكري الإمامية إلى الأخذ بنظريّة العليّة في أمر تدبير الوجود وإدارته، حيث تؤكد هذه الرؤية على العلاقة بين العلّة والمعلول، وأنَّ وصول الفيض الإلهي إلى جميع المخلوقات دون وجود واسطة هو أمر غير معقول بإجماع الحكماء، حيث أنَّ أساس هذه الرؤية، والتي تدعمها الدلائل العقلية والنقلية وتؤكّدها الآيات القرآنية والعديد من الروايات الصادرة عن السنة النبوية المعصومة، تقوم على أساس أنَّ الحقّ تعالى هو الخالق والمدبّر وهو الأوّل والآخر، وهو علّة لجميع العلل، ولكن شاءت إرادته أن تخرج عنه الكثرة عن طريق أوّل مخلوقاته وهو الصادر الأوّل.

والملاحظُ أنّ أهل العرفان قد فَرَّقوا بَين الصادر الأوّل والعقل الأوّل بينما رأت جميع الاتجاهات الفلسفية من المشائين والإشراقيين والحكمة المتعالية أنَّ الصادر الأوّل مساوٍ للعقل الأوَّل، فالعقل الأوَّل عند أهل العرفان هو مَظهرٌ مِن مظاهر الصادر الأول ويُمثّل جنبته العقلية فقط، أمّا الصادر الأوَّل فهو وجود شامل لكل عالم الإمكان وهو الإنسان الكامل، وأنَّ أهم وأتم وأكمل مظهر للصادر الأوّل في نشأتنا الدنيوية هو النبي المصطفى والأئمة الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين.

إنَّ عَقل النبيّ المصطفى (صلى الله عليه وآله) بلحاظ المرتبة الخَلقيّة هو”العقل الأوّل” الذي هو مَخلوق، حيث ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قوله: " أول ما خلق الله العقل " 25.

أمّا فيما يخص الروايات التي تُبيّن وتشرح وتفصل في طبيعة المخلوق الأوّل لله تعالى، فهو نور النبي وهو أوّل ما خلق الله تعالى وأنَّه محمول على الحقيقة، وأمّا خلق العقل، أو القلم، أو الماء فهو محمول على الأولية الإضافية.

رَفَضَ العديد مِنَ الفَلاسفة المسلمين ومنهم صدر المتألهين إسناد الأفعال الطبيعية والجزئية إلى االله مباشرة، وإنّ الوجود بجميع مراتبه، وكل ما دون مرتبة الحق تعالى لا يمكن أن يكون أو أن يستمر دون وجود الصادر الأوّل، ودون حقيقة "نور نبيّكم"، فهو واسطة الفيض الإلهي، وأنَّ إمداد الوجود إنَّما يكون بتوسطه.

كما وذهب جمهرة من علماء الفلسفة والعرفان إلى الأخذ بنظرية الصدور من خلال تفسيرات لنظريات مختلفة توضح مبدأ الصدور ضمن سلسلة العلل الطوليّة والعرضيّة، ومنها نظرية العقول الفَلكية، حيث يُعدّ الفارابي (ت339 هـ) أوّل مَن بَلوَرَها وَقَدّمها مُنطلقًا من نظرية العقل بالفعل والتي تُعرف بالعقل الفعّال لدى المشائين، والتي أسّس لها الفيلسوف الأغريقي أرسطو (ت322ق.م)، فقدّم الفارابي هذه النظريّة ليُفسّر مِن خلالها طبيعة صدور الكثرة عن الواحد.

أمّا نظرية المُثُل، والتي تُسمى كذلك بنظريّة العِلَل (العقول) العرضيّة، فَقَد تَبنّاها الإشراقيون، وكانت تُنسب إلى الفيلسوف اليوناني أفلاطون (ت348 ق.م) الذي كان أوّل من قدّمها، عِلمًا أنَّ نظريّة المُثل في الأساس مِن بنات أفكار أساتذته: سقراط (ت399ق.م) ومِن قَبله بارمينيدس (ت480 ق.م) وهرقليطس (ت480 ق.م)، حيث قدّم أفلاطون العقول العرضية على أنَّها الصادر الأوّل عن المبدأ الأوّل.

ويُعدّ السهروردي من أكابر مفكري الفلسفة الإشراقية، والذي قدّم حلًا لمشكلة وجود الكثرة والتنوّع في عالم الطبيعة في المُثل الأفلاطونية، ويؤكد أنَّ المبدأ الأوّل "الله" جل جلاله هو نور الأنوار، ومن نوره خرجت أنوارٌ أخرى، حيث صدر (فاض) عن نور الأنوار النور الإبداعي الأوّل الذي صدرت منه سلسلةٌ مُترابطة من العقول (الأنوار) الطوليّة أطلق عليها تسمية "القواهر العالية" والتي ترتبط مع بعضها البعض بنظام العلّة والمعلول، وهي تتفق مع العقول الطولية العشرة عند أفلاطون، وأضاف، أن هناك عقولاً - أنوارًا - عَرَضيّة، هي أدنى من الأولى، أطلق عليه تسمية "أرباب الأنواع"، مَهمّتها تدبير شؤون عالَم الحِس، أي تَدبير شؤون الأنواع، فَلكل نوع من الأنواع هناك عقل مجرد في عالم الإبداع يدير شؤون أنواعه. وبذلك يكون السهروردي قد أعطى تفسيرًا للكثرة في عالم الطبيعة (العالم المادي)، الأمر الذي عجزت عن تفسيره نظرية العقل الفعال عند المشائين، كما وأنَّ السهروردي ابتدع عالَمًا ثالثًا أسماه عالم البرزخ والذي يتموضع بين العالم العقلي والعالم المادي وهو عالَم نفسيّ خياليّ، وبذلك تكون لنظرية السهروردي خمسة عوالم (مراتب): الأوّل نور الأنوار، ومن ثمّ العقول الطولية (القواهر العالية)، ثم العقول العرضية (أرباب الأنواع)، ثم عالم البرزخ، وأخيرًا عالم الأنواع (الأجسام المادية).

لَم يَعتَمد السهروردي العِلمَ الصوَري في تفسير طبيعة الشَبَه بَين العِلّة والمَعلول، وإنَّما اعتمد العلم الإشراقي حيث الفيوضات الإشراقية تنبع من نور الأنوار بالنحو الذي يجعل كل الموجودات التي صدرت عن المبدأ الأوّل منطوية في قهر نوره، وأنَّ نظريّة العقول الطولية كما يحررها السيد الطباطبائي بقوله: " ثم إن العقل الأول، وإن كان واحدا في وجوده بسيطا في صدوره، لكنه لمكان إمكانه، تلزمه ماهية اعتبارية غير أصيلة، لأن موضوع الإمكان هي الماهية، ومن وجه آخر، هو يعقل ذاته ويعقل الواجب تعالى، فيتعدد فيه الجهة، ويمكن أن يكون لذلك مصدرا، لأكثر من معلول واحد.

لكن الجهات الموجودة في عالم المثال، الذي دون عالم العقل، بالغة مبلغا لا تفي بصدورها الجهات القليلة، التي في العقل الأول، فلا بد من صدور عقل ثان ثم ثالث وهكذا، حتى تبلغ جهات الكثرة عددا، يفي بصدور العالم الذي يتلوه من المثال. فتبين أن هناك عقولا طولية كثيرة، وإن لم يكن لنا طريق إلى إحصاء عددها " 26.

وبالنتيجة ووفقًا لمبدأ العليّة، وانطلاقًا من حقيقة أنَّ الحقّ تعالى وهوَ الخالق لجميع المخلوقات والذي هو علّة العلل، فقد شاء أنْ يكون العقل الأوّل، كما يسميها العرفاء بـــ (الحقيقة المحمديّة)، وأنَّ مِن هذا العقل تصدر باقي العقول، ليكون الوجود الطبيعي وعالم الأنواع معلولًا لآخر عَقل، ومِنه تَستمد الكائنات والموجودات وجودها، فهو (هم) عللها الثابتة، حيث الأنواع بأجمعها لها عقل مفارق (آخر العقول الطوليّة) لدى المشائين ويطلقون عليه تسمية "العقل الفعّال الأخير"، بينما يمثّل عند الأشراقيين مجموعة من العقول العرضية والتي يسمونها "أرباب الأنواع".

وفي شأن المراتب الطوليّة والعرضيّة يقول الشيخ مرتضى المُطهري: " إنَّ المراد من النظام الطولي والعلية والمعلولية هو الترتيب في خلق الأشياء، أو ما يُصطلح عليه بالترتيب في فاعلية االله تجاه الأشياء، وصدور الأشياء عنه. إن علوّ ذات الباري تعالى وقدّوسيّته تقتضي وجود الأشياء بشكل رتبي وتعاقبي، بأن يكون هناك صادر أول، وصادر ثان وثالث وهكذا، ويكون كل صادر معلولاً للصادر قبله. وبطبيعة الحال فإن المراد من الترتّب بين الأول والثاني والثالث هنا، ليس ترتباً زمنياً، بل لا مجال للحديث عن الزمان هنا؛ لأن الزمان في حد ذاته واحد من المخلوقات. وكذلك الملائكة يدخلون بدورهم في سلسلة العلل والمعاليل التكوينية أيضاً "27.

أمّا الأشاعرة فقد أسندوا جميع الأفعال إلى الحق تعالى مباشرة ومِن دون الحاجة إلى واسطة، وقد كان لصدر المتألهين كلام في هذا الشأن، حيث يقول: " والأول محال بالبراهين القطعية والأدلة النقلية؛ لأن ذاته أجل أن يفعل فعلاً جزئياً متغيّراً مستحيلاً كائناً فاسداً، ومن نسب إليه تعالى هذه الانفعالات والمتجدّدات، فهو من الذين لم يعرفوا حق الربوبية ومعنى الإلهية " 28.

أمّا الإمام روح الله الخميني فقد كانت له شروحات كثيرة ومنها هذه الإشارة الجميلة في هذا السياق، يقول: " أنّه تعالى لمّا كان بسيطاً في غاية البساطة، وجميع صفاته وشئونه الذاتيّة يرجع إلى الوجود الصرف البسيط فلا يتصوّر في ذاته وصفاته التجدّد والتصرّم والتغيّر، وإلّا لانقلب البسيط مركّباً، والفعليّة الصرفة قوّةً، والوجوب بالذات إمكاناً. ولازم بساطة الذات والصفات أنّ ما يصدر منه يكون صادرًا من حقّ ذاته وتمام هويّته وصرف حقيقته، فلو صدر المتجدّدات والمتصرّمات عنه تعالى من غير وسط وبالمباشرة والمزاولة يلزم منه التصرّم والتغيّر في ذاته وصفاته التي هي ذاته. " 29.

إنَّ الموجودات جميعًا في عالم الإمكان هيَ مَظاهر الأسماء الإلهيّة، وأنّ الاسم الأعظم الجامع وجميع تجلياته تنشأ من الأحدية الذاتيّة - كما أشرنا سابقاً -، وكذلك منشأ الصادر الأوّل (الحقيقة المحمديّة) والذي هو المظهر الجامع لاسم الله الأعظم، وهو مبدأ الأنوار المجردة الأزلية، حيث ظهور الخليفة، مرتبة الإنسان الكامل، وأنّ مظهره الأتمّ والأكمل هو النبيّ المُصطفى والأئمة المعصومين من أوصيائه (عليهم السلام)، المرآة التامة لكلّ الأسماء والصفات الإلهية، وأن جميع الموجودات في مراتب وجود عالم الإمكان هي مظاهرٌ للصادر الأوّل، فالسماء والأرض والبحار والأنهار والنجوم وكل ما خلق الله هي مظاهر الصادر الأوّل، فهو الواجد لجميع كمالات الاسم الأعظم، وأنَّ الاسم الأعظم هو الواجد لجميع كمالات الأسماء وأنَّ المخلوقات هي في الحقيقة مظاهر للأسماء، لذلك فالصادر الأوّل هو في الحقيقة لطف من ألطاف الحق تعالى، ولأنّه نشأ في المرتبة الأحدية فهو بذلك يكون شاهدًا على الحقائق العلمية شهادة إجمالية، ولأنَّه في الحضرة الواحدية فقد أطلعه الباري على حقائق الوجود العينية فهو بذلك شاهد عليها، من هنا ندرك كيف أن الصادر الأوّل - الخليفة والإنسان الكامل -، والذي من أبرز وأكمل مظاهره هو النبي المصطفى، هو عَينُ الأعيان الثابتة، فالكل ينظر من خلاله بل هو سبب الوجود (بأمر من الحق تعالى) لأنّه كما أشرنا مظهر جامع لاسم الله الأعظم، حينما تَجَلّى الحق تعالى وَخَرَجَت الأسماء والصفات والأعيان الثابتة من الخفاء العلمي إلى الظهور العيني، من الهاهوت (الأحدية الثابتة)، أو الكنز الخفي، أو الفيض الأقدس إلى اللاهوت أو الفيض المقدس، والذي يسمى بالنور أو نور الأنوار، فقد بَدَأَ تَنَزّل هذا الإنسان الكامل من الحضرة العلمية ومقام الأحديّة إلى الحضرة العينية (إلى حضرة الأعيان الخارجية)، وتلك الأعيان التي تنقسم إلى عالم الغيب وعالم الشهادة، وبذلك يكون لهذا الإنسان الكامل مَظاهر مُتعددة في كلّ العوالم والمراتب التي يمر بها.

***

د. أكرم جلال كريم

............................

المراجع

1. خلاصة علم الكلام، العلامة عبدالهادي الفضلي، ص82.

2. خلاصة علم الكلام، العلامة عبدالهادي الفضلي، ص84.

3. الأسفار، ملّا صدرا، ج 2 ص 204 - 212 وج 7 ص 192 - 244. والقبسات، محمد باقر المداماد، ص351 - 367. وشوارق الالهام، عبدالرزاق اللاهيجي، ص 207 - 208. وشرح الإشارات، الشيخ الطوسي، ج3، ص122 - 127.

4. بداية الحكمة، السيد محمد حسين الطباطبائي، ص117.

5. رسالة في وحدانية االله وتناهي جرم العالم من سلسلة فلاسفة العرب، الكندي، ص8.

6. رسالة الدعاوى القلبية، أبو نصر الفارابي، من مجموعة الرسائل، ص4 . وآراء أهل المدينة الفاضلة، أبو نصر الفارابي، ص260.

7. الإشارات، ابن سينا، ج3،ص 122.

8. التحصيل، بمنيار، ص341.

9. ما بعد الطبيعة، ابن رشد، ص 160. وتهافت التهافت، ابن رشد، ص 290.

10. الفتوحات المكية، ابن عربي، ج 2،ص 434؛ وج 10،ص 379،الطبعة الجديدة.

11. نصوص الحكم، صدر الدين القونوي، ص ـ 23 و28- 74. ومصباح الأنس، محمد بن حمزة الفناري، ص ـ 30-69.

12. شرح الإشارات، الخواجة نصير الدين الطوسي، ج3، ص 122. كشف المراد، الخواجة نصير الدين الطوسي، ص 116.

13. المطارحات، السهروردي، ص 385. وشرح حكمة الإشراق، قطب الدين الشيرازي، ص 314.

14. قبسات، ميرداماد، ص 351 و410.

15. الأسفار الأربعة، صدر المتألهين، ج 2،ص 177 و193 و204 و209؛ ج 7،ص2070 و192.

16. گوهر مراد، عبد الرزاق اللاهيجي، ص 290.

17. شرح الأسماء، الملا هادي السبزواري.

18. لمعات إلهية، الملا عبد االله الزنوزي، تقديم وتصحيح: السيد جلال الدين الآشتياني، ص 165 و226.

19. أصل الأصول، الملا نعيما الطالقاني، تعليق: السيد جلال الدين الآشتياني، ص80.

20. شرح أصول الكافي، المولى محمد صالح المازندراني، ج 3،ص 123،التعليقات.

21. أساس التوحيد، الميرزا مهدي الآشتياني، ص 504.

22. مصباح الهداية، روح االله الموسوي الخميني، ص 64؛ رسالة طلب وإرادة (الطلب والإرادة)، ترجمة وشرح: أحمد الفهري، ص 690.

23. بداية الحكمة، العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، المرحلة الثامنة، الفصل الرابع.

24. رسالة الوحدة في رؤية العارف والحكيم، حسن زادة الآملي، ص 84. وتعليقة على شرح المنظومة، مهدي الآشتياني، ج2، ص 668.

25. بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج55، ص212.

26. بداية الحكمة، العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، ص174.

27. مجموعه آثار (الأعمال الكاملة)، الشيخ مرتضى مطهري، ج1،ص 123.

28. الأسفار الأربعة، صدر المتألهين، ج8،ص118.

29. الطلب والإرادة، السيد روح الله الموسوي الخميني، ص34.

 

يوجد عدد متزايد من السياسيين والمحاورين الأوروبيين الذين يرون الإسلام كدين يتعارض بشكل مباشر مع الثقافة الأوروبية، وبالتالي يعتقدون أن الإسلام يشكل عقبة أمام اندماج المهاجرين واللاجئين. اكتسب هذا الموقف زخماً بشكل خاص بعد الهجمات الإرهابية في الولايات المتحدة في 11 سبتمبر/أيلول 2001.

يتفق بعض المسلمين في أوروبا مع الرؤية التي قدمها "طارق رمضان" Tariq Ramadan استاذ الفلسفة الذي يقيم في سويسرا، الذي يرى نفسه مسلماً، ويعتبر أن كل شيء في الثقافة الأوروبية لا يتعارض مع الإسلام هو جزء منه.  عملت هذه المجموعة من المسلمين بشكل هادف لتطوير تفسير للنصوص الإسلامية وأسلوب حياة يجمع بين المبادئ الإسلامية، والقيم، والممارسات الأوروبية، والدنماركية. هذا ينطبق بشكل خاص على جيل الشباب من المسلمين الذين يريدون فصل المبادئ الإسلامية عن تقاليد آبائهم أو أجدادهم من دول مثل تركيا وباكستان والعراق.

يعتبر الإسلام الأوروبي Euro-Islam محاولة لتفسير الإسلام في سياق أوروبي حديث، بحيث يصبح من الممكن الحفاظ على تفسير إسلامي للحياة وهوية مسلمة آمنة وفي نفس الوقت المشاركة البناءة والفاعلة في المجتمع. وبالتالي فإن الإسلام الأوروبي هو إعادة تفسير للإسلام يأخذ في الاعتبار الظروف الثقافية والسياسية الخاصة والتاريخ الذي يميز أوروبا، ولكنه لا يزال قائماً على كتاب القرآن الكريم. إنه ليس نصاً دينياً أنيقاً أو مكتملاً أو برنامجاً محدداً تعمل جمعية أو منظمة لعموم أوروبا على تحقيقه. على النقيض من ذلك، يُنظر إلى الإسلام الأوروبي على أنه اتجاه أو حركة في أوروبا اليوم.

يتناقض هذا الاتجاه من جهة، مع المسلمين "العلمانيين المتطرفين" الذين يريدون تحرير أنفسهم من غالبية خلفيتهم الإسلامية من أجل الاندماج والتكيف تماماً في المجتمع الغربي. ومن ناحية أخرى يتعارض مع الجماعات الإسلامية المتطرفة الذين يريدون التحرر من الأعراف الثقافية والنظام الاجتماعي للغرب وتقويضها وإقامة دولة إسلامية بدلاً من ذلك.

المسلمون الثقافيون، والمعروفون أيضاً باسم المسلمين الاسميين، أو المسلمين غير الممارسين أو المسلمين غير الملتزمين، هم أشخاص يعتبرون أنفسهم مسلمين لكنهم ليسوا متدينين ولا يمارسون العبادات. قد يكونون أفراداً غير متدينين أو علمانيين. ما زالوا يتماهون مع الإسلام بسبب الخلفيات العائلية، أو التجارب الشخصية، أو التراث العرقي والوطني، أو البيئة الاجتماعية والثقافية التي نشأوا فيها. ومع ذلك، لا يتم قبول هذا المفهوم دائماً في المجتمعات الإسلامية المحافظة.

يمكن العثور على المسلمين الثقافيين في جميع أنحاء العالم، ولكن بشكل خاص في البلقان، وآسيا الوسطى، وأوروبا، والشرق الأوسط، وروسيا، وتركيا، وسنغافورة، وماليزيا، وإندونيسيا والولايات المتحدة. وفي العديد من البلدان والمناطق، يمارس هؤلاء المسلمون الثقافيون الدين على مستويات منخفضة، وبالنسبة للبعض، ترتبط هويتهم "الإسلامية" بالتراث الثقافي أو العرقي أو الوطني، وليس مجرد الإيمان الديني فقط.

التعريف

ما يسمى الإسلام الثقافي، أو المسلمين الديمقراطيين، أو المسلمين الناقدين نشأ في آسيا الوسطى وفي الدول الشيوعية السابقة، بدأ استخدام مصطلح "المسلم الثقافي" لوصف أولئك الذين يرغبون في ربط هويتهم "الإسلامية" بطقوس وطنية وإثنية معينة، بدلاً من الإيمان الديني فقط. ناقشت الأكاديمية والكاتبة الإنجليزية الأيرلندية "ماليز روثفين" Malis Ruthven مصطلحي "المسلم الثقافي" و"المسلم الاسمي" في كتابها "الإسلام: مقدمة قصيرة جداً" Islam: A Very Short Introductionعلى النحو التالي:

"ومع ذلك، هناك معنى ثانوي للمسلم قد يتداخل مع المعنى الأول. المسلم هو الشخص الذي يولد لأب مسلم يأخذ الهوية الطائفية لوالديه دون أن يلتزم بالضرورة بالمعتقدات والممارسات المرتبطة بالإيمان، تماماً كما قد يصف اليهودي نفسه بأنه يهودي دون مراعاة "التناخ"Tanakh أو "الهالاخاه"Halakha. او مثل المسيحي العلماني. في المجتمعات غير الإسلامية، قد يلتزم هؤلاء المسلمون بهويات علمانية ويكتسبونها. إن المسلمين في البوسنة، المنحدرين من السلاف الذين اعتنقوا الإسلام في ظل الحكم العثماني، لا يشتهرون دائماً بحضور الصلاة، والامتناع عن الكحول، وغير ذلك من الممارسات الاجتماعية المرتبطة بالمسلمين المؤمنين في أجزاء أخرى من العالم. فقد تم تصنيفهم رسمياً كمسلمين حسب الجنسية لتمييزهم عن الصرب الأرثوذكس، والكروات الكاثوليك في ظل النظام الشيوعي اليوغوسلافي السابق. وتشير تسمية المسلمين إلى عرقهم وانتماءهم الجماعي، ولكن ليس بالضرورة إلى معتقداتهم الدينية. وفي هذا السياق المحدود (الذي قد ينطبق على الأقليات المسلمة الأخرى في أوروبا وآسيا)، قد لا يكون هناك تناقض بين كون المرء مسلماً وكونه ملحداً أو لا أدرياً، تماماً كما يوجد ملحدون يهود ولا أدريون يهود. وهذا التعريف العلماني للمسلم (أحياناً يتم استخدام مصطلحي المسلم الثقافي أو المسلم الاسمي) بعيد كل البعد عن كونه غير قابل للجدال".

يعرف الباحث الباكستاني البريطاني "حسين رسول" Hussein Rassool تسمية "المسلم الثقافي" على النحو التالي:

"تُستخدم تسمية "المسلم الثقافي" في الأدبيات لوصف هؤلاء المسلمين الذين لا يلتزمون بالدين أو العلمانيين أو غير المتدينين الذين ما زالوا يتماهون مع الثقافة الإسلامية بسبب الخلفية العائلية أو التجارب الشخصية أو البيئة الاجتماعية والثقافية التي نشأوا فيها".

يستوعب المسلم الثقافي التقاليد الثقافية الإسلامية أو طريقة التفكير كإطار مرجعي. المسلمون الثقافيون متنوعون من حيث المعايير والقيم والآراء السياسية والآراء الدينية. إنهم يحتفظون بخطاب أو بنية شعور تتعلق بالتاريخ والذكريات المشتركة.

إن مفهوم المسلم الثقافي - الشخص الذي يحدد هويته كمسلم، ولكنه ليس متديناً - لا يُقابل دائماً بالقبول في المجتمعات الإسلامية المحافظة. القاعدة هي أن المؤمن مقابل غير المؤمن والممارس مقابل غير الممارس. ففي البلدان ذات الأغلبية غير المسلمة، قد يحدد المسلمون أنفسهم من خلال التمييز بين أنفسهم كممارسين مقابل غير ممارسين ومؤمنين مقابل غير مؤمنين. وعادةً ما يُفترض أن الممارسين للطقوس هم مؤمنون، في حين قد يكون غير الممارسين مؤمنين أو غير مؤمنين.

لماذا نشأ الإسلام الأوروبي؟

الخلفية العملية للإسلام الأوروبي، هي هجرة المسلمين إلى أوروبا بأعداد أكبر منذ الخمسينيات فصاعداً. ومع ذلك، فإن الفكر الإسلامي الأوروبي لم يكن قادراً على اكتساب موطئ قدم إلا عندما نشأ مهاجرون من الجيل الثاني أو الثالث في المجتمعات الغربية، مع الرغبة في المشاركة بنشاط في المجتمع الذي هم فيه، ومع الرغبة في التحرر من بعض الأعراف الثقافية التي جاءت من بلدان موطن الوالدين / الأجداد.

عندما سُمح لعائلات المهاجرين بالقدوم إلى أوروبا للإقامة مع الأزواج، تم إعادة إنتاج الهياكل الاجتماعية وأنماط الحياة الأجنبية في الدول الأوروبية. كان على الأطفال من أصول أجنبية أن يذهبوا إلى المؤسسات والمدارس والمستشفيات وما إلى ذلك، وكانت هناك صدامات ثقافية ومناقشات حول ما إذا كانت الثقافة العربية والتركية والإسلام لا يتوافقان مع أعراف المجتمع الأوروبي.

ومع ذلك، كان النقاش حول الإسلام مختلطاً تماماً مع النقاش حول التقاليد المحددة ثقافياً وقومياً للمهاجرين، ولفترة طويلة، كانت المساواة معادلة للإسلام وأي شكل من أشكال ثقافة المهاجرين.

 لقد غير الجيل الشاب من المسلمين ذلك. لقد نشأوا في أوروبا، وكثير منهم يشعرون بأنهم مثل الأوروبيين المسلمين أكثر من كونهم مثل الباكستانيين، أو الأتراك، أو العرب، وقد بدأوا في البحث معاً وتجاوزوا الانقسامات العرقية والوطنية، وبالتالي تم خلق الظروف المناسبة لنشوء للإسلام الأوروبي.

يرغب العديد من الشباب المسلمين في تحرير أنفسهم من بعض المعايير الثقافية الأبوية التي يُنظر إليها على أنها عقبة أمام الاندماج. عندما يدرسون الإسلام يكتشفون أن العديد من مشاكلهم ناتجة عن تقاليد غير إسلامية، والتي غالباً ما يعتبرها الوالدان إسلامية عن طريق الخطأ. وهذا ينطبق على سبيل المثال، على الزواج بالإكراه، وختان الإناث، ومقاومة الفتيات اللواتي يحصلن على تعليم عالٍ، وما إلى ذلك.

من خلال التنظيم عبر تجاوز الانقسامات القومية في المنظمات ذات الميول الأوروبية الإسلامية، يمكن للشباب المسلمين كسر أجزاء من معايير جيل الآباء، والانخراط مع محيطهم دون المساس بالثوابت الإسلامية.

إن مصطلح "الإسلام الأوروبي" بدأ يظهر بانتظام في الجدل الأوروبي حول الإسلام. لكن في الواقع، ينأى العديد من المسلمين الأوروبيين بأنفسهم عن هذا المفهوم، لأنه يعتبر نوعاً من مشروع الاتحاد الأوروبي الذي يهدف إلى تحديد نوع الإسلام الذي يُسمح للمسلمين ممارسته في أوروبا.

أما فيما يتعلق بالنسخة الدنماركية من الإسلام، التي تُمارس بين المهاجرين المسلمين الذين لم يولدوا ويعشوا قط في دول إسلامية مثل تركيا والباكستان والعراق، لكنهم ولدوا وترعرعوا في حي نوريبرو في كوبنهاغن أو في مدينة أودينسة" تكشف الممارسات الإسلامية التي تتطور بين الشباب المسلم في السنوات الأخيرة، إلى أنه يمكن للمرء أن يتحدث عن إسلام خاص بوجه دانماركي.

يرى عالم الأديان الدنماركي "جيسبر يبترسن" Jesper Petersen أن "الإسلام هو أسلوب حياة وإطار مرجعي، في نفس الوقت الذي يعتبرون فيه الدنمارك وطنهم ويعلنون احترام التقاليد الديمقراطية، هم يعتبرون أن دولة الرفاهية الدنماركية متوافقة تماماً مع القيم الإسلامية"

وفي الدنمارك، ظهر الإمام التركي "فاتح عليف" imam Fatih Alev ,hgYlh والإمام الدنماركي "عبد الواحد بترسن"Abdul Wahid Pedersen  والإمام "شيرين خانكان" Sherin Khankan والنائب الدنماركي المسلم من أصل سوري "ناصر خضر" Nasser Khader. والطبيب الدنماركي من أصل مصري "مصطفى قاسم" Moustapha Kassem. والطبيب الدنماركي من أصل تركي "أكمال صفوت" Akmal Safwat وجميعهم يدعون إلى دمج تعاليم الإسلام مع الديمقراطية الدنماركية، وحل إشكالية العلاقة بين الإيمان والثقافة الدنماركية. ويدعون إلى مشاركة المسلمين في المجتمع وإلى احترام القوانين الدنماركية طالما أنهم يعيشون في البلاد. وكذلك تفسير الإسلام في سياق دنماركي.

كان لهؤلاء دور مركزي في تقديم نموذج تقدمي من الإسلام الدنماركي، حيث يمتلكون مشروعاً لجعل المسلمين الشباب يفهمون ويعيشون حياتهم اليومية الدنماركية على أساس الإسلام بدلاً من تنمية إيمانهم بمعزل عن المجتمع المحيط بهم.

 نشط هؤلاء في وقت كانت المساجد في الدنمارك مقسمة عرقياً مع أئمة تم جلبهم من بلدانهم الأصلية، وكانوا يعظون باللغات التركية أو العربية أو الأردية. وهي اللغات التي لا يتقنها معظم المهاجرين من الجيل الثاني والثالث.  وأيضاً واجه هؤلاء الأئمة صعوبة في تقديم إجابات ذات مغزى لكيفية ارتباط الشباب بقضاياهم الحياتية، مثل حفلات المدارس الثانوية، والأصدقاء، والتعليم الجنسي، الحمامات المشتركة، الخ. لقد اكتفوا بقول لا.

يتعرض المسلمين الثقافيين لانتقادات ليس فقط من المسلمين المحافظين، ولكن أيضاً من بعض التقدميين، قائلين إن المسلمين الثقافيين يختارون الأفضل من العالمين دون مساهمة استباقية كافية، دون ممارسة العبادات، ودون التزام بالقيم االليبرالية.

التركيبة السكانية

في العديد من البلدان، يمارس بعض المسلمون الدين بمستويات منخفضة. ووفقاً لمسح أجراه مركز بيو للأبحاث عام 2019، والذي أجرى مقابلات مع مسلمين في جميع أنحاء العالم، قال حوالي 1% من الذين تمت مقابلتهم في أذربيجان، و5% في ألبانيا، و9% في أوزبكستان، و10% في كازاخستان، و19% في روسيا، و22% في كوسوفو إنهم يحضرون المسجد مرة واحدة في الأسبوع أو أكثر. وفقاً لنفس الدراسة، قال 15% فقط من الذين تمت مقابلتهم في ألبانيا، و18% من الذين أجريت معهم المقابلات في كازاخستان أن الدين مهم جداً في حياتهم. و2% فقط من الذين أجريت معهم المقابلات في كازاخستان، و4% في ألبانيا، و10% في كوسوفو، و14% في البوسنة والهرسك، و14% في قيرغيزستان، و16% في أوزبكستان، و21% في أذربيجان أفادوا بأنهم يؤدون الصلوات الخمس يوميًا.

وحوالي 71% من الذين أجريت معهم المقابلات في أوزبكستان، و64% في أذربيجان، و54% في طاجيكستان، و50% في قيرغيزستان لم يذهبوا إلى مسجد قط في استطلاع عام 2019.

وفقًا للباحث الأمريكي اللبناني "إبراهيم وردة"  Ibrahim Wardeفإن غالبية المسلمين في البلقان يُعتبرون مسلمين "ثقافيين" أو "اسميين" بحسب ما جاء في كتابه "التمويل الإسلامي في الاقتصاد العالمي" Islamic Finance in the Global Economy. في كتابه "الإسلام بعد الشيوعية: الدين والسياسة في آسيا الوسطى" Islam After Communism: Religion and Politics in Central Asiaاستشهد الباحث المؤرخ الباكستاني الأمريكي "أديب خالد" Adeeb Khalid بأن غالبية المسلمين في آسيا الوسطى وروسيا هم مسلمون ثقافيون أو اسميون. هناك شريحة كبيرة من المهاجرين المسلمين في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية هم مسلمون ثقافيون أو اسميون، وخاصة بين المهاجرين من الجيل الثاني، حيث ترتبط هويتهم "الإسلامية" بالتراث الثقافي أو العرقي بدلاً من الإيمان الديني فقط. وفقاً لكتاب "ما أؤمن به" What I Believe للباحث الإسلامي المصري السويسري "طارق رمضان" Tariq Ramadan فإن "معظم الغربيين المسلمين لا يمارسون دينهم بانتظام"، ويعرّف بعضهم أنفسهم على أنهم مسلمون "ثقافيون" فحسب.

ألبانيا

وفقًا للعلماء، فإن غالبية المسلمين في ألبانيا هم مسلمون "اسميون" أو "ثقافيون". في استطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث بين الألبان المسلمين في عام 2019، كان الدين مهمًا بالنسبة لـ 15٪ فقط، بينما يصلي 7٪، ويذهب حوالي 5٪ إلى المسجد، ويعطي 43٪ الزكاة، ويصوم 44٪ خلال شهر رمضان ويعرب 72٪ عن إيمانهم بالله ومحمد. أظهرت دراسة طبية أجريت عام 2014 في تيرانا حول العلاقة بين الالتزام الديني ومتلازمة الشريان التاجي الحادة أن 67% من المسلمين الذين تمت مقابلتهم كانوا غير ملتزمين دينياً تماماً. كان الحضور المنتظم للمؤسسات الدينية (مرة واحدة على الأقل كل أسبوعين) منخفضاً (6%)، وكان الحضور الأسبوعي منخفضاً جداً (2%). كانت الصلاة المتكررة (مرتين إلى ثلاث مرات على الأقل في الأسبوع) بين المسلمين الذين سئلنا عنهم حوالي 17%، وكانت الصلاة خمس مرات يومياً (كما هو مطلوب من المسلمين المتدينين) نادرة (2%). كان الصيام المنتظم خلال شهر رمضان منخفضاً بشكل مماثل (5%). أيضاً في ألبانيا وفقاً لإحدى الدراسات، يتم ختان 36.8% فقط من الذكور، مع معدل 46.5% لأولئك من خلفية إسلامية على الرغم من أنها تقليد إسلامي للمسلمين بشكل عام.

أذربيجان

أذربيجان دولة ذات أغلبية مسلمة من المذهب الشيعي، حيث إن أكثر من 96% من سكانها مسلمون. ووفقاً للعلماء فإن غالبية المسلمين في أذربيجان هم مسلمون "اسميون" أو "ثقافيون" وفقاً لما جاء في كتاب "جغرافية روسيا وجيرانها" Geography of Russia and Its Neighbors" للأكاديمي الروسي ميخائيل بلينيكوف" Mikhail Blinnikov.

قدرت دراسة استقصائية أجريت عام 2008 نسبة المؤمنين المتحمسين في أذربيجان بنحو 7 %، وهو ما يزيد قليلاً عن عدد الملحدين المعلنين - ما يقرب من 4 % - مع وقوع أكبر عدد في فئة أولئك الذين يعتبرون الإسلام قبل كل شيء أسلوب حياة، دون مراعاة صارمة للمحظورات والمتطلبات، أو كجزء أساسي من الهوية الوطنية.

وفقاً لاستطلاع رأي أجرته مؤسسة غالوب عام 2019، تعد أذربيجان واحدة من أكثر البلدان غير الدينية في العالم الإسلامي، حيث أشار حوالي 54٪ من المستجيبين إلى أهمية الدين في حياتهم على أنها قليلة أو معدومة. يشير نفس الاستطلاع إلى أن 21٪ فقط من المستجيبين حضروا مناسبات دينية. أشارت المؤسسة إلى أن 34٪ فقط من الأذربيجانيين يلتزمون بالممارسات الدينية، وصنفت أذربيجان في المرتبة الثالثة عشرة من بين أقل البلدان تديناً من البيانات التي تم جمعها في أعوام 2005 و2013 و2019. إنها دولة علمانية بموجب دستورها، وأحد أهداف الحكومة العلمانية في أذربيجان هو الحد من انتشار الإسلام السياسي.

بلجيكا

لاحظت الاستطلاعات القديمة التي أجريت في عامي 1996 و1998 انخفاضاً في التدين بناءً على انخفاض المشاركة في المساجد، وقلة الصلاة، وانخفاض الأهمية المرتبطة بالتعليم الديني، وما إلى ذلك. هذا ما أكدته الباحثة الفرنسية في الدراسات الإسلامية "جوسلين سيزاري" Jocelyne Cesari في كتابها "دليل أكسفورد للإسلام الأوروبي" The Oxford Handbook of European Islam كان هذا الانخفاض في التدين أكثر وضوحاً لدى المسلمين الأصغر سنًا؛ ومع ذلك، تظهر دراسات أخرى أحدث أنه في حين أن المشاركة في الأنشطة الدينية بين الشباب المسلمين آخذة في الانخفاض، فإنهم أكثر عرضة للتعرف على الإسلام ثقافياً.

كما أظهرت دراسة أجرتها جامعة بروكسل الحرة عام 2015 إلى أن حوالي 10% من السكان المسلمين في بلجيكا "مسلمون يمارسون شعائرهم الدينية". هذا ما جاء في تقرير "وزارة الخارجية الأمريكية، تقرير الحريات الدينية الدولية 2016، بلجيكا" US State Department, International Religious Freedom Report 2016, Belgium ووجد استطلاع أجري عام 2019 أن غالبية المسلمين في بلجيكا يؤيدون "الفصل بين الدين والدولة". ووجدت دراسة أجريت عام 2020 أنه في حين يركز المسلمون بشكل كبير على الحرية الدينية وذكرت الأغلبية الساحقة أن الناس يجب أن يكونوا أحراراً في ترك الإسلام إذا أرادوا، إلا أنهم كانوا أقل راحة مع فكرة زواج المسلمين من غير المسلمين.

البوسنة والهرسك

وُصف البوشناقيون بأنهم "مسلمون ثقافيون" بحسب كتاب "البلقان: تاريخ ما بعد الشيوعية" Balkans: A Post-Communist History للمؤرخ البريطاني "روبرت بيدلكس" Robert Bideleux أو "مسلمون تقدميون" كما جاء في كتاب "المسلمون البوسنيون في الحرب العالمية الثانية" The Bosnian Muslims in the Second World War للمؤرخ اليوغسلافي البريطاني "ماركو أتيلا هواري" Marko Attila Hoare. ويميل المسلمون البوسنيون إلى وصفهم غالباً بأنهم معتدلون وعلمانيون ومتجهون نحو أوروبا مقارنة بالمجموعات الإسلامية الأخرى. وفي استطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث بين المسلمين البوسنيين في عام 2020، كان الدين مهمًا بالنسبة لـ 36%، بينما صلى 14% وذهب حوالي 14% إلى المسجد.

بلغاريا

صرحت إيفجينيا إيفانوفا من الجامعة البلغارية الجديدة في عام 2018 أن "الدين ليس من الأهمية الأساسية للمسلمين في بلغاريا". أجرت الجامعة البلغارية الجديدة استطلاعاً لـ 850 مسلماً في بلغاريا، والذي وجد أن 48.6٪ وصفوا أنفسهم بأنهم متدينون، وكان 28.5٪ منهم متدينين للغاية. لم يذهب حوالي 41٪ إلى مسجد أبداً و59.3٪ لم يصلوا في المنزل. يعتقد حوالي 0.5٪ أن النزاعات يجب حلها باستخدام الشريعة الإسلامية وقال 79.6٪ أن ارتداء الحجاب في المدرسة "غير مقبول". قال أكثر من نصف المستجيبين أن العيش المشترك بدون زواج "مقبول"، وأكل 39.8٪ لحم الخنزير وشرب 43.3٪ الكحول. على العكس من ذلك، قال 88٪ من المستجيبين إنهم يختنون أولادهم و96٪ لاحظوا ممارسات الدفن الإسلامية لأقاربهم بحسب دراسة بعنوان "المسلمون في بلغاريا ليسوا متدينين بشدة"Bulgaria's Muslims not deeply religious نشرت في صحيفة "حريت" اليوميةHürriyet Daily News.

وفقاً لمسح أجراه مركز بيو للأبحاث عام 2022، أجاب 33% من المسلمين البلغاريين أن الدين "مهم جدًا" في حياتهم. ووجد نفس المسح أن 7% من المسلمين البلغار يصلون الصلوات الخمس، و22% يذهبون إلى المسجد مرة واحدة على الأقل في الأسبوع، و6% يقرؤون القرآن مرة واحدة على الأقل في الأسبوع.

آسيا الوسطى

لا يمارس معظم المسلمين في آسيا الوسطى دينهم يومياً، ولا ينتمون إلى الإسلام إلا بشكل اسمي أو ثقافي. ووفقاً لمسح أجراه مركز بيو للأبحاث عام 2012، فإن حوالي 71% من المسلمين في أوزبكستان، و64% في أذربيجان، و54% في طاجيكستان، و50% في قيرغيزستان لم يذهبوا إلى المسجد أبداً. وهذا يرجع إلى حد كبير إلى القيود الدينية المفروضة على الإسلام في ظل الحكم الشيوعي، فخلال تلك الحقبة لم يكن لجميع الأديان سوى وجود اسمي.

الدنمارك

في دراسة استقصائية أجريت عام 2005، شارك 40% من المهاجرين المسلمين وأحفادهم في مراسم/خدمات دينية مقارنة بـ 60% من المهاجرين/أحفاد الروم الكاثوليك فعلوا نفس الشيء. وفي دراسة استقصائية أجريت عام 2008 للمهاجرين من تركيا وباكستان ويوغوسلافيا السابقة وإيران والعراق والصومال، اعتبر 37% أنفسهم متدينين قليلاً جداً، واعتبر 33% أنفسهم متدينين بشكل معتدل، واعتبر 24% أنفسهم متدينين للغاية. ووجدت دراسة استقصائية أجريت عام 2011 أن 37% من المسلمين الدنماركيين كانوا مسلمين غير ممارسين.

وفي استطلاع أجرته القناة الثانية في التلفزيون الدنماركي عام 2019 تبين أن النساء المسلمات في الدنمرك أكثر تديناً من الرجال/ حيث أجابت 46% منهن أنهن يصفن أنفسهن كمسلمات مؤمنات. وفي المقابل، فإن 37% فقط من الرجال يعطون نفس الإجابة. ويشير مع ذلك إلى أن هناك 15% في كل من مجموعتي النساء والرجال الذين يجيبون بأنهم "إلى حد كبير جداً" يصفون أنفسهم بأنهم مسلمون متدينون، فيما اعتبر 42% من المسلمين أنهم متدينين قليلاً.

فرنسا

في مقال بعنوان "كيف تحسب فرنسا عدد سكانها المسلمين؟"How does France count its Muslim population? للكاتب "مايكل كوسجروف" Michael Cosgrove  منشور في صحيفة "لو فيجارو"Le Figaro ورد أن 33% فقط من المسلمين الفرنسيين الذين تمت مقابلتهم إنهم مؤمنون ممارسون. وهذا الرقم هو نفس الرقم الذي تم الحصول عليه من خلال مسح INED / INSEE في أكتوبر 2010. وزعم 20% أنهم يذهبون بانتظام إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة، و31% يمارسون الصلاة بحسب مقال بعنوان “المسلمون الفرنسيون أصبحوا أكثر تديناً” French Muslims becoming more observant المنشور في موقع وكالة الأنباء "روتيرز"Reuters. وقال 70% إنهم "يصومون رمضان". ويضيف المقال أنه على الرغم من أن الصيام خلال شهر رمضان هو الممارسة الأكثر شعبية، إلا أنه يصنف كعلامة على الهوية الإسلامية أكثر من التقوى، وهو أكثر علامة على الانتماء إلى ثقافة ومجتمع، وأن عدم شرب الكحول "يبدو أنه سلوك ثقافي أكثر".

إندونيسيا

تقسم الوثائق الكلاسيكية المسلمين الإندونيسيين إلى مسلمين "اسميين" nominal أو "أبانجان" abangan، الذين تتجه أنماط حياتهم نحو الثقافات غير الإسلامية، ومسلمين "أرثوذكس" orthodox أو "سانتري" santri، الذين يلتزمون بالمعايير الإسلامية الأرثوذكسية. كان يُنظر إلى أبانجان على أنها مزيج أصلي من المعتقدات الأصلية والهندوسية البوذية مع الممارسات الإسلامية التي تسمى أحياناً أيضاً بالجاوية أو كيجاوين أو أجاما جاوا أو كيباتينان. وفقًا لدراسة أجريت عام 1999، فإن 17.3% من المسلمين في إندونيسيا كما جاء في كتاب "الإسلام: إندونيسيا" لعالم الأنثروبولوجيا الأمريكي "جويل سي كويبرز"  Joel C Kuipers.

الشتات الإيراني

يعرّف الباحث الإيراني "رضا غلامي" Reza Gholami في كتابه "العلمانية والهوية: اللاإسلامية في الشتات الإيراني" Secularism and Identity: Non-Islamiosity in the Iranian Diaspora الإيرانيون في الشتات بشكل عام على أنهم علمانيون إلى حد كبير ومسلم ثقافي أو اسمي لا يؤدون الطقوس الإسلامية أبدأً أو نادراً. لا يقوم معظمهم بأداء الطقوس الإسلامية الأساسية، مثل الصلاة اليومية أو الصيام، وقد اعتنقوا العلمانية إلى حد كبير.

كوسوفو

ذكر "واين سي. تومسون" Wayne C. Thompson في سلسلة العالم اليوم The World Today Series "أوروبا الشمالية والوسطى والجنوبية الشرقية 2020-2022" Nordic, Central, and Southeastern Europe 2020–2022 Hkالأغلبية العظمى من ألبان كوسوفو هم مسلمون ثقافيون/اسميون. وقال 13٪ من المسلمين الكوسوفيين الذين سئلوا إنهم يحضرون صلاة الجمعة مرة واحدة في الأسبوع وقال 40٪ إنهم لا يزورون مسجدهم المحلي أبداً، بينما أعرب 81٪ عن إيمانهم بالله ومحمد.

هولندا

في عام 2009، وفقًا لدراسة، حضر 24% فقط من المسلمين الذين شاركوا في الاستطلاع في هولندا المسجد مرة واحدة في الأسبوع "الدين في بداية القرن الحادي والعشرين" Religie aan het begin van de 21ste eeuw نشر في منصة CBS للبيانات. وفقاً لنفس المسح وجدوا أن أهمية الإسلام في حياة المسلمين الهولنديين، وخاصة المهاجرين من الجيل الثاني، آخذة في التناقص. استندت هذه الملاحظة إلى انخفاض مشاركة المسلمين الأصغر سناً في الطقوس الإسلامية والمنظمات والصلاة. وتوقعت الدراسة أيضاً أن يستمر هذا الاتجاه مع زيادة التعليم و"الفردية". ومع ذلك، وجدت الدراسة أيضاً أن المهاجرين من الجيل الثاني يعلقون أهمية أكبر على الدين من الجيل الأول باعتباره "تجربة فردية". وخلصت الدراسة إلى أن "التعبير عن التدين من قبل الشباب المسلم لم يكن مختلفاً كثيراً عن تعبير أقرانهم المسيحيين أو اليهود الهولنديين".

النرويج

وجدت الدراسات التي أجريت لقناة تلفزيونية في عام 2016 أن 18٪ من المسلمين النرويجيين أفادوا بزيارة المسجد مرة واحدة في الأسبوع. أفادت دراسة مماثلة أجريت عام 2019 أن 36% من الشباب المسلمين يزورون المسجد أقل من مرة واحدة في الشهر. ووفقاً للباحثة النروجية "كريستين جاكوبسن" Kristin Jacobsen فإن العديد من الشباب المسلمين في النرويج هم مسلمون اسميون أو ثقافيون، وهم يحددون هويتهم على هذا النحو فقط بسبب التراث الثقافي وليس بسبب القناعة الدينية كما ورد في كتابها "التقاليد الإسلامية والشباب المسلم في النرويج" Islamic Traditions and Muslim Youth in Norway. وفقًا لمسح أجري للطلاب في المدارس الثانوية العليا في أوسلو، يصلي 25% من المسلمين بانتظام بينما يحضر 12% الخدمات الدينية أسبوعياً.

السويد

يقول الباحث السويدي "بال كيتيل بوتفار" Pål Ketil Botvarفي مقال بعنوان "آراء الشباب المسيحيين والمسلمين وغير المتدينين في النرويج والسويد حول حقوق الإنسان" Views on human rights among Christian, Muslim and non-religious youth in Norway and Sweden نشر في مجلة "نورديك للدين والمجتمع" Nordic Journal of Religion and Society أنه في عام 1994 ما يقرب من 40-50% على الأكثر من الأشخاص ذوي الخلفية الإسلامية في السويد "يمكن اعتبارهم متدينين بشكل معقول"، وفي عام 2004، استناداً إلى المناقشات والمقابلات مع القادة المسلمين، فيما يتعلق بالمسلمين من الجيل الثاني الذين ولدوا ونشأوا في السويد، "لا يبدو أن النسبة التي يعتبرونها مسلمين متدينين بمعنى أكثر تأهيلاً تتجاوز خمسة عشر بالمائة، أو ربما أقل". أكد بوتفار في عام 2014 أن "نحن لا نعتقد أنه من غير المعقول وضع رقم المسلمين المتدينين في السويد في وقت كتابة هذا التقرير عند ما يقرب من 150.000". فإن "الغالبية العظمى من الأشخاص ذوي الخلفية الثقافية الإسلامية علمانيون أو غير متدينين".

تركيا

يقول الباحث الأمريكي في دراسات الشرق الأوسط "كارل يامبرت" Karl Yambert في كتابه "الشرق الأوسط المعاصر: قارئ من ويستفيو" The contemporary Middle East : a Westview reader أن  16٪ من المسلمين الأتراك إنهم "متدينون للغاية"، وقال 39٪ إنهم "متدينون إلى حد ما"، وقال 32٪ إنهم "غير متدينين".

معظم الأتراك العرقيين إما مسلمون ثقافيون أو غير ممارسين، ويميل العديد من المسلمين الأتراك الثقافيين أو غير الممارسين إلى العلمانية السياسية كما يقول عالم السياسة التركي "سونر چاغاپتاي" Soner Cagaptay في "كتاب صعود تركيا: أول قوة إسلامية في القرن الحادي والعشرين" The Rise of Turkey: The Twenty-First Century's First Muslim Power، وأضاف: لا يحضر العديد من الأتراك المساجد إلا في المناسبات الخاصة (مثل حفلات الزفاف والجنازات والتجمعات المجتمعية)، وفقًا لمسح أجراه مركز بيو للأبحاث عام 2020، يقول 19٪ من المسلمين الأتراك إنهم يحضرون صلاة الجمعة مرة واحدة في الأسبوع ويقول 23٪ إنهم لا يزورون مسجدهم المحلي أبدًا. بشكل عام، يُعتبر "الإسلام التركي" "أكثر اعتدالاً وتعددية" مقارنة بالمجتمعات الإسلامية في الشرق الأوسط. والغجر في تركيا مسلمون ثقافيون أيضاً، يعتمدون على الإسلام السني في المدرسة الحنفية، ويمارسون ختان الذكور.

الولايات المتحدة

وفقًا لمركز بيو للأبحاث في مسح أجري عام 2019، فإن 1٪ من المسلمين الأمريكيين لا يؤمنون بالله. كان معدل تلقي إجابات الصلاة بين المسلمين 31% مرة واحدة على الأقل في الأسبوع و12% مرة أو مرتين في الشهر. وفقاً لعالم الاجتماع الأمريكي "فينسنت باريلو" فإن هناك شريحة كبيرة من المهاجرين المسلمين في الولايات المتحدة هم مسلمون ثقافيون. على سبيل المثال، الغالبية العظمى من المسلمين الأميركيين الإيرانيين هم ما يسمى بالمسلمين الثقافيين أو الاسميين، وأغلبهم لا يؤدون طقوساً إسلامية أساسية، مثل الصلاة اليومية أو الصيام. والعديد من الأميركيين الأتراك هم مسلمون ثقافيون كما جاء في كتاب باريلو بعنوان "إعادة التفكير في الأقليات اليوم" Rethinking Today's Minorities.

***

د. حسن العاصي

أكاديمي وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك

في العلوم الاجتماعية بشكل عام والعلوم السياسية بشكل خاص، يميز الباحثون بين الوضعية ("ماذا") والمعيارية ("ما يجب أن يكون"). نظراً لأن العلوم السياسية تتعامل مع موضوعات سياسية بطبيعتها وغالباً ما تكون مثيرة للجدل، فإن هذا التمييز بين "ما هو" (إيجابي) و"ما ينبغي أن يكون" (معياري) مهم لأنه يسمح للأشخاص المختلفين ذوي وجهات النظر العالمية المفضلة المختلفة بمناقشة الأسباب وأساليب العمل. وآثار السياسة والهياكل الاجتماعية. وهكذا في حين أن القراء قد يختلفون حول الصفات المعيارية للدولة العميقة (أي ما إذا كانت جيدة أم سيئة)، فإنه لا يزال من الممكن دراسة الصفات الإيجابية (أي أصولها وآثارها) دون الحاجة إلى تقييم معياري.

في بعض الأحيان يشير مصطلح "الدولة العميقة" إلى الشركات التي، على الرغم من كونها شركة خاصة رسمياً، تعمل بحكم الأمر الواقع مثل "دول داخل الدولة". كان الجدل السياسي الدائر حول الفصل بين الكنيسة والدولة يدور في السابق حول تصور مفاده أن الكنيسة إذا تركت دون رادع قد تتحول إلى نوع من الدولة داخل الدولة، وهو نتاج غير شرعي للسلطة المدنية الطبيعية للدولة. وفي مجال العلوم السياسية، تتم دراسة مفهوم الثقافة الشعبية ضمن الأدبيات المتعلقة بالدولة. ترجع الأدبيات الحالية حول الدولة بشكل عام إلى إعادة الدولة إلى عام 1985 وتظل هيئة نشطة من الأبحاث العلمية حتى يومنا هذا. في هذه الأدبيات، تُفهم الدولة على أنها مكان (مجموعة من القواعد التي يتصرف ويتفاعل بموجبها الآخرون، بالإضافة إلى كونها فاعلاً (بأجندتها الخاصة). من الأمثلة على النسخة غير التآمرية لـ "الدولة كفاعل" من الأدبيات العلمية التجريبية "فعل الحقيقة للسلطة" كتلاعب على قول الحقيقة للسلطة، وهو ما يطمح الصحفيون في كثير من الأحيان إلى القيام به. في ظل هذا الفهم المزدوج، فإن النسخة التآمرية لمفهوم الدولة العميقة ستكون نسخة واحدة من "الدولة كفاعل"، في حين أن النسخة غير التآمرية ستكون نسخة أخرى من "الدولة كمكان". إن الاستنتاج الأساسي من الأدبيات العلمية حول الطبيعة المزدوجة للدولة هو أن "الدولة كفاعل" (الدولة العميقة) هي سمة لجميع الدول التي يمكن أن يكون لها آثار جيدة وسيئة على حد سواء، ولا ينبغي أن ينظر إليها على أنها سيئة بشكل افتراضي.

ما هي الدولة العميقة

"الدولة العميقة" هو المصطلح المستخدم للإشارة إلى فكرة وجود كادر من الموظفين المهنيين داخل الحكومة يعملون معًا للتلاعب سرًا بسياسة الحكومة وتقويض القادة المنتخبين أو المعينين السياسيين. يمكن لهؤلاء الأشخاص أن يشغلوا مناصب في المجالات العسكرية أو الاستخباراتية، بالإضافة إلى مجالات حكومية أخرى. إذن هي نوع من مراكز القوى تتكون من شبكات سرية وغير مصرح بها تعمل بشكل مستقل عن القيادة السياسية للدولة في السعي لتحقيق أجندتها وأهدافها الخاصة. في الاستخدام الشائع، يحمل هذا المصطلح دلالات سلبية إلى حد كبير. تم استخدام هذه العبارة في الأصل للإشارة إلى ديناميكيات السلطة في دول أجنبية مثل الاتحاد السوفيتي السابق والبلدان التي يحاول فيها موظفو الأنظمة الاستبدادية السابقة تقويض القادة المنتخبين حديثًا في الديمقراطيات الهشة.

إن عبارة "دولة داخل الدولة" أقدم من مصطلح "الدولة العميقة"، ولكنها تستخدم إلى حد ما لنفس الظاهرة. فالقيادة ـ على سبيل المثال من خلال انتخابات ديمقراطية ـ ليست هي التي تقرر فعلياً لأن هناك البعض الذين يتجاوزون القيادة الرسمية بمرور الوقت وبشكل منهجي، دون أن يقصدوا بالضرورة تقويض سلطة القيادة الرسمية ومكانتها. يشير مصطلح "الدولة العميقة" أكثر إلى منظمة خفية تسعى إلى التلاعب بالدولة العامة.

يُشار إلى الدولة العميقة في الولايات المتحدة على إنها شبكة سرية من أعضاء الحكومة الفيدرالية (خاصة داخل مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة المخابرات المركزية)، الذين يعملون جنباً إلى جنب مع كيانات وقادة ماليين وصناعيين رفيعي المستوى، لممارسة السلطة جنبًا إلى جنب أو داخلها. حكومة الولايات المتحدة المنتخبة

بدأ استخدام مصطلح "الدولة العميقة" يكتسب زخماً في الولايات المتحدة خلال السباق الرئاسي لعام 2016 وأصبحت الإشارات أكثر تكرارًا وبروزًا بعد انتخاب ترامب للبيت الأبيض. تم استخدام المصطلح في المقام الأول في الولايات المتحدة لوصف "الحكومة الدائمة" المكونة من البيروقراطيين المهنيين الراسخين أو موظفي الخدمة المدنية الذين يتصرفون وفقاً لتفويضات وكالاتهم وقوانين الكونجرس عندما يُنظر إليهم على أنهم في صراع مع الإدارة.

أظهر استطلاع جديد أجرته شبكة ABC News وواشنطن بوست أن ما يقرب من نصف الأمريكيين يعتقدون أن هناك "دولة عميقة" تعمل داخل الحكومة الفيدرالية. وقد تم تعريفهم في الاستطلاع بأنهم "مسؤولون عسكريون ومخابرات وحكوميون يحاولون التلاعب سراً بسياسة الحكومة". ويعتقد أغلبية (48%) أن الدولة العميقة موجودة، بينما يقول الثلث فقط (35%) أنها مجرد نظرية مؤامرة. يقول واحد من كل ستة أمريكيين أنهم لا يعرفون. ويقول 28% أن الدولة العميقة موجودة وأنها مشكلة كبيرة. وخلافاً لأغلب القضايا في المناخ السياسي المنقسم اليوم، فإن الإيمان بـ "الدولة العميقة" يأتي بالتساوي من كلا الحزبين. ويقول 45% من الديمقراطيين إن هناك دولة عميقة، ويقول 46% من الجمهوريين ذات الشيء. ولدى 51% من المستقلين الاعتقاد ذاته.

"الدولة العميقة" deep stat هي نسخة من الكلمة التركية derin devlet. يرتبط المفهوم الحديث للدولة العميقة بتركيا، وهي شبكة سرية مفترضة من ضباط الجيش وحلفائهم المدنيين الذين يحاولون الحفاظ على النظام العلماني القائم على أفكار "مصطفى كمال أتاتورك" Mustafa Kemal Atatürk من عام 1923. هناك أيضاً آراء مفادها أن الدولة العميقة في تركيا و"مكافحة حرب العصابات" قد تأسست في حقبة الحرب الباردة كجزء من "منظمة غلاديو" Gladio Organization للتأثير على تركيا أكثر في حلف شمال الأطلسي ضد تهديد توسع الشيوعية السوفيتية.

بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، أصبحت الدولة العميقة مستخدمة على نطاق واسع كمصطلح تحقير مع تعريف سلبي للغاية من قبل كل من إدارة دونالد ترامب ووسائل الإعلام ذات الميول المحافظة.

في السبعينيات، أعلن مسؤولون سابقون رفيعو المستوى في الاتحاد السوفييتي، بعد انشقاقهم إلى الغرب، أن الشرطة السياسية السوفييتية - الكي جي بي - KGB كانت تعمل كدولة عميقة تحاول سراً السيطرة على الحزب الشيوعي، وفي النهاية الحكومة السوفييتية.

وبحسب الصحفية الأمريكية من أصل روسي "جوليا إيوفي" فإن جمهورية الشيشان الروسية، بقيادة "رمضان قديروف"  Ramzan Kadyrovأصبحت دولة داخل الدولة بحلول عام 2015.

في عام 2013، كتب المؤلف "عبد العظيم أحمد" في مقال باللغة الانجليزية نشرت في مجلة متخصصة أنه تم استخدام الدولة العميقة للإشارة إلى الشبكات العسكرية/الأمنية المصرية، وخاصة المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد الثورة المصرية عام 2011. إنهم "قادة غير ديمقراطيين داخل الدولة" وتكون سلطتهم بصورة "مستقلة عن أي تغييرات سياسية تحدث". إنهم "غالباً ما يكونون مختبئين تحت طبقات من البيروقراطية" وقد لا يكونون "يسيطرون بشكل كامل في جميع الأوقات" ولكن لديهم "سيطرة ملموسة على الموارد الرئيسية (سواء كانت بشرية أو مالية)". وكتب أيضاً: "بدأت "الدولة العميقة" تصبح بمثابة اختصار لهياكل السلطة المناهضة للديمقراطية داخل الحكومة، وهو أمر لا يمكن إلا لعدد قليل جدًا من الديمقراطيات أن تدعي أنها خالية منه.

في مايو 2020، وصف مقال في صحيفة "هآرتس"  Haaretzكيف أن الأشخاص الذين التقوا برئيس الوزراء "بنيامين نتنياهو" Benjamin Netanyahu "سمعوا خطابات مطولة أنه على الرغم من انتخابه مراراً وتكراراً، إلا أن البلاد في الواقع تسيطر عليها "الدولة العميقة‘".

وأشهر حالة هي حالة الدعاية المستحقة (المعروفة باسم P2) كانت عبارة عن محفل ماسوني ينتمي إلى المشرق الكبير في إيطاليا (GOI). تأسست عام 1877 باسم الدعاية الماسونية. وفي فترة إدارتها من قبل رجل الأعمال "ليسيو جيلي" Licio Gelli اتخذت أشكالاً منحرفة فيما يتعلق بقوانين الماسونية وأصبحت هدامة للنظام القانوني الإيطالي. تم تعليق P2 من قبل حكومة إسرائيل في 26 يوليو 1976؛ بعد ذلك اختتمت لجنة التحقيق البرلمانية في المحفل الماسوني P2 برئاسة الوزيرة "تينا أنسيلمي" قضية P2 بإدانة المحفل باعتباره "منظمة إجرامية" حقيقية و"تخريبية". تم حله بقانون خاص ن. 17 بتاريخ 25 يناير 1982.

يقول الكاتب الصحفي الأمريكي "روبرت وورث" Robert Worth  إن الدولة العميقة "مناسبة تماماً" للشبكات في العديد من دول الشرق الأوسط حيث تواطأت الحكومات مع المهربين والجهاديين (سوريا)، والمحاربين الجهاديين القدامى في الحرب السوفيتية الأفغانية (اليمن)، وغيرهم من المجرمين الذين يعملون بشكل غير نظامي. القوات (مصر والجزائر). في كتابه "من الدولة العميقة إلى الدولة الإسلامية" From Deep State to Islamic Stateيصف النواة الصلبة للأنظمة في سوريا ومصر واليمن التي نظمت ثورات مضادة ناجحة ضد الربيع العربي في تلك البلدان، ومقارنتها بمماليك مصر والشام (1250-1517) من حيث إنهم يعلنون أنفسهم خدماً للحكام المفترضين بينما يحكمون أنفسهم فعلياً.

وفي الباكستان، كان للقوات المسلحة الباكستانية دائماً تأثير كبير على سياسة البلاد منذ الاستقلال، بالإضافة إلى عقود من الحكم المباشر من قبل الحكومة العسكرية، لدى الجيش أيضاً العديد من القيود على سلطة رؤساء الوزراء المنتخبين، كما تم اتهامه بأنه دولة عميقة. غالباً ما يُشار إلى الجيش الباكستاني باسم "المؤسسة" نظراً لوجوده ومشاركة العميقة في عمليات صنع القرار في البلاد.

في تركيا، خلال خمسينيات القرن العشرين، زُعم أن ائتلافاً مؤثراً مناهضاً للديمقراطية داخل النظام السياسي التركي يسمى "الدولة العميقة" كرس نفسه لطرد الشيوعيين من الجمهورية التركية الجديدة التي أسسها مصطفى أتاتورك بعد الحرب العالمية الأولى. من عناصر داخل الجيش التركي، والأمن، والفروع القضائية، عملت الدولة العميقة " derin devlet" على تأليب الشعب التركي ضد أعدائه من خلال شن هجمات "أعلام زائفة" وأعمال شغب مخطط لها. في النهاية، تم إلقاء اللوم عليها في مقتل الآلاف من الأشخاص.

ووفقاً للصحفي "روبرت وورث" فإن "مصطلح "الدولة العميقة" نشأ في تركيا في التسعينيات، حيث تواطأ الجيش مع تجار المخدرات وضرب الرجال لشن حرب قذرة ضد المتمردين الأكراد". كتب البروفيسور الأمريكي "رايان جينجيراس" أن المصطلح التركي derin devlet "باللغة العامية" يشير إلى "العنصر" الإجرامي "أو" المارق "الذي شق طريقه بطريقة ما إلى السلطة". كتب الصحفي الأمريكي "ديكستر فيلكنز" Dexter Filkins عن "شبكة سرية مزعومة" مكونة من "ضباط عسكريين أتراك وحلفائهم المدنيين" الذين قاموا، لعقود من الزمن، "بقمع وقتل المعارضين والشيوعيين والمراسلين والإسلاميين والمبشرين المسيحيين وأعضاء الأقليات - أي شخص" يُعتقد أنه يشكل تهديداً للنظام العلماني". وصف الصحفي "هيو روبرتس" "العلاقة المشبوهة" بين الشرطة وأجهزة المخابرات، و"بعض السياسيين والجريمة المنظمة"، التي يعتقد أعضاؤها أنهم مخولون "القيام بكل أنواع الأشياء غير المقبولة" لأنهم "أوصياء على السلطة العليا". مصالح الأمة”.

في المملكة المتحدة أطلق كبار السياسيين على الخدمة المدنية اسم الدولة العميقة. في عام 2018، ادعى "ستيف هيلتون" Steve Hilton مستشار رئيس الوزراء البريطاني السابق "ديفيد كاميرون" David Cameron آنذاك، أن توني بلير قال: "لا يمكنك التقليل من مدى اعتقادهم بأن مهمتهم هي إدارة البلاد فعلياً ومقاومة التغييرات التي طرحها الأشخاص الذين يرفضونهم على أنهم" هنا اليوم ". السياسيون الذين يرحلوا غداً يعتبرون أنفسهم حقاً الأوصياء الحقيقيين على المصلحة الوطنية، ويعتقدون أن مهمتهم هي ببساطة إرهاقك وانتظارك حتى النهاية. كما زعمت رئيسة الوزراء السابقة "ليز تروس" Liz Truss أنها أُجبرت على ترك منصبها من قبل "الدولة العميقة"

منذ عام 1963 تم في الولايات المتحدة استخدام الدولة العميقة لوصف "رابطة هجينة من العناصر الحكومية وأجزاء من الصناعة والمالية رفيعة المستوى القادرة فعلياً على حكم الولايات المتحدة دون الرجوع إلى موافقة المحكومين كما تم التعبير عنها من خلال عملية سياسية رسمية." وقد اتهمت عناصر في إدارة دونالد ترامب وكالات الاستخبارات مثل وكالة المخابرات المركزية بمحاولة إحباط أهدافها السياسية. حذر المحلل "إيساندر" Isander في كتابه لصحيفة "نيويورك تايمز" New York Times من "الخلاف المتزايد بين الرئيس وقواعده البيروقراطية"، بينما كتب محللو العمود: على الرغم من أن الدولة العميقة تتم مناقشتها أحياناً باعتبارها مؤامرة غامضة، إلا أنه من المفيد التفكير فيها باعتبارها صراعاً سياسياً بين زعيم الدولة ومؤسساتها الحاكمة.

وفقًا للمعلق السياسي "ديفيد جيرجن" David Gergen الذي نقلته مجلة تايم في أوائل عام 2017، فقد تم تخصيص هذا المصطلح من قبل "ستيف بانون" Steve Bannon و"برايتبارت نيوز" Breitbart News وغيرهم من أنصار إدارة ترامب من أجل نزع الشرعية عن منتقدي رئاسة ترامب. في فبراير 2017، تم رفض نظرية الدولة العميقة من قبل مؤلفي صحيفة نيويورك تايمز، وكذلك صحيفة "نيويورك أوبزرفر" New York Observer. وفي أكتوبر 2019 أعطت صحيفة نيويورك تايمز مصداقية للفكرة العامة من خلال نشر مقال رأي يجادل بأن الدولة العميقة في الخدمة المدنية تم إنشاؤها "لمحاربة أشخاص مثل ترامب".

لقد اعترض الباحثون بشكل عام على فكرة أن بيروقراطية السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة تمثل دولة عميقة حقيقية كما يُفهم المصطلح رسميًا، لكنهم اتخذوا مجموعة من وجهات النظر حول دور تلك البيروقراطية في تقييد أو تمكين رئيس الولايات المتحدة.

تم وصف "كارتل الشمس" Sun cartel وهي مجموعة من المسؤولين رفيعي المستوى داخل الحكومة البوليفارية الفنزويلية، بأنها "سلسلة من الشبكات المتنافسة في كثير من الأحيان مدفونة في أعماق نظام "تشافيز" Chavez. في أعقاب الثورة البوليفارية، اختلست الحكومة البوليفارية في البداية حتى لم يعد هناك أي أموال للاختلاس، الأمر الذي تطلب منها اللجوء إلى تهريب المخدرات. أقام الرئيس هوغو شافيز شراكات مع الميليشيا اليسارية الكولومبية القوات المسلحة الثورية الكولومبية "فارك" FARC وواصل خليفته نيكولاس مادورو هذه العملية، حيث قام بترقية المسؤولين إلى مناصب رفيعة بعد اتهامهم بتهريب المخدرات.

في كتابه الصادر عام 2015 بعنوان "الدولة: الماضي والحاضر والمستقبل" The State: Past, Present, and Future يعلق الأكاديمي البريطاني "بوب جيسوب" Bob Jessopعلى التشابه بين ثلاث بنيات:

الدولة العميقة، والتي يستشهد بها بتعريف الكاتب الأمريكي "مايك لوفغرين" Mike Lofgren لعام 2014: "رابطة هجينة من عناصر الحكومة وأجزاء من التمويل والصناعة على المستوى الأعلى قادرة بشكل فعال على الحكم، دون الإشارة إلى موافقة المحكومين كما يتم التعبير عنها من خلال العملية السياسية الرسمية."

إن الدولة المظلمة أو شبكات المسؤولين والشركات الخاصة ووسائل الإعلام ومراكز الفكر والمؤسسات والمنظمات غير الحكومية ومجموعات المصالح والقوى الأخرى التي تلبي احتياجات رأس المال، وليس الحياة اليومية في حين أنها مخفية عن أعين الجمهور ومخبأة عن الجميع. إنها الفرع الرابع لحكومة الولايات المتحدة، والذي يتكون من مركز غير خاضع للرقابة وغير خاضع للمساءلة يعمل خلف حجاب من السرية. لقد ارتبطت الدولة العميقة في الولايات المتحدة بالمجمع الصناعي العسكري باعتباره الجزء الخاص من الدولة العميقة.

الدولة الموازية

تختلف الدولة الموازية عن "الدولة داخل الدولة" الأكثر استخدامًا من حيث إنها عادة ما تحظى بتأييد النخبة السياسية السائدة في البلد، في حين أن "الدولة داخل الدولة" هو مصطلح ازدرائي لوصف المؤسسات الشبيهة بالدولة التي تعمل دون موافقة، وحتى على حساب سلطة دولة قائمة (مثل المؤسسات الأمنية والدينية أو الجمعيات السرية التي لها قوانينها وأنظمة محاكمها الخاصة).

الدول الموازية كانت شائعة في المجتمعات الشمولية، مثل ألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية، والاتحاد السوفيتي. تشمل المنظمات المرتبطة عادة بفكرة الدولة الموازية الأحزاب السياسية، والنقابات، ووكالات المخابرات، والجيوش.

في تركيا استخدم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مصطلح "الدولة الموازية" (أو "الهيكل الموازي") لوصف أتباع "فتح الله غولن" Fethullah Gülen الذين يشغلون مناصب بيروقراطية وقضائية رفيعة، والذين اتُهموا بمحاولة إسقاط حكومة أردوغان. يُزعم أن حركة الجماعة التابعة لغولن، والتي لها وجود كبير داخل تركيا، متورطة في الحد من قوة القوات المسلحة التركية من خلال محاكمات "أرغينيكون" Ergenekon وقضية المطرقة بينما كانت متحالفة مع أردوغان. في أعقاب احتجاجات 2013-2014 ضد حكومة أردوغان، انقلبت حركة الجماعة ضد أردوغان، الذي وصفها بالتالي بأنها "دولة موازية". ألقى أردوغان باللوم على أتباع غولن في تدبير فضيحة الفساد الحكومي عام 2013، وكذلك محاولة الانقلاب في عام 2016.

الدراسات الأكاديمية "للدول الموازية"

"الدول الموازية" هي أيضًا دراسة حول إمكانية توحيد دولة واحدة مع منحها دولتين متوازيتين في السلطة والتمثيل؛ ومع ذلك، ستكون هاتان الدولتان متوافقتين مع سلطة مركزية واحدة. واقترحت هذه الدراسة أيضاً باعتبارها حجر الزاوية لسيناريوهات السلام المحتملة في البلدان التي مزقتها الحرب. أحد الأمثلة على ذلك هو "مشروع الدول الموازية".  والتي تم استضافتها في "جامعة لوند" السويدية Lund University والذي يسعى إلى استكشاف إمكانية وجود نهج "الدول الموازية" لاقتراح حل للقضية الإسرائيلية الفلسطينية.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

في ضوء كتابه: "مقدمة في علم الكلام الجديد"

ملخص: تقدم هذه الورقة البحثية قراءة مركبة للمشروع الفكري لعبد الجبار الرفاعي كما جاء في كتابه: "مقدمة في علم الكلام الجديد"، إذ تنطلق الورقة من فكرة أنّ هذا الكتاب هو أكثر كتابات الرفاعي إفصاحًا عن ثورته الناعمة على التحجر والانغلاق في الفكر الإسلامي.

بعد وقوف الرفاعي عند الحاجة الانطولوجية للإيمان، وتأكيده على الأسس الميتافيزيقية للوجود الإنساني، ودعواه إلى "أنسنة إيمانية" جديدة، وبناء مشروع تأويلي معاصر؛ يذهب الرفاعي في كتابه هذا إلى زعزعة ثوابت عِلْم ميّز الفكر الإسلامي وابتنى عليه وهو علم الكلام، يفسّر من خلال ذلك الرفاعي الانتكاسة الفكرية للحضارة الإسلامية.

عندما نقرأ للرفاعي هذا الكتاب وغيره نراه يقوم بانتفاضة تأويلية بأدوات إبستيمولوجية وغايات إيمانية لتحقيق "ثورة المعنى"، الذي يشدد الرفاعي على ضرورة استحضاره في التفكير الديني اليوم. نكتشف من خلاله أن الرفاعي "فيلسوف معنى"، كما يعبر كتابه هذا عن ذلك، وما يؤسس له في تعريفه الذي ينفرد فيه للدين. الشغف باكتشاف المعنى في الدين هو الهمُّ الذي يتحكم في منهج الرفاعي لفهم رسالة الدين في الحياة، وتفسير القرآن الكريم وكل النصوص الدينية. في بحثنا هذا، نميل للقول ان الرفاعي يسعى لاكتشاف "المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي" حيث وجده في الدين ونصوصه. ويجعل من هذا المعنى منطلقًا للفهم، ويضعه ميزانًا لكل ما يقبله من الموروث؛ ذلك هو رهان كتابه: "مقدمة في علم الكلام الجديد".

تلقي هذه الورقة البحثية إذن الضوء على علم الكلام الجديد عند عبد الجبار الرفاعي من حيث إمكاناته، ممكناته، عوائقه وحدوده، انطلاقا من مقاربة مستعرضة للقول بأن التجديد في علم الكلام لا يعني القطيعة الإبستيمولوجية، بقدر ما يخص المنعطف الهيرمينوطيقي من أجل تأويلية هيرمينوطيقية في الفكر الإسلامي.

كلمات مفتاحية

علم الكلام -معنى -هيرمينوطيقا- تأويل-تجديد -قطيعة-منعطف

Abstract

This scientific review is shedding light on the intellectual project of Abdul-Jabbar Al-Rifai، as stated in his book "Introduction to the New Theology". The central question of the book is to ask what it means to take this new theological vocation seriously. Then، Al-Rifai tries to destabilize the hermeneutical foundations of a science which distinguishes، in large measure، the Islamic school of thought. Using an analytical criticism Al Rifai provides guidelines to justify the theory of an intellectual setback of Islamic civilization.

This research is discussing the epistemological standards for the emergence of the new theology as envisioned by Al-Rifai. The discussing is based on a transversal approach to saying that renewal in theology does not mean epistemological rupture as much as it refers to a hermeneutic turn. The paper contributes to better understanding of the hermeneutic process in new islamical theology.

Keywords

New theology-interpretation-rupture-hermeneutic -turn

I- جغرافيا الكتاب

"مقدمة في علم الكلام الجديد" هو الكتاب السادس من سلسلة كتب خصها عبد الجبار الرفاعي لدراسة علم الكلام؛ دشنها بتحرير كتاب: "علم الكلام الجديد وفلسفة الدين" الصادر سنة 2002، مرورا بـ "الاجتهاد الكلامي: مناهج ورؤى متنوعة في الكلام الجديد" (2002)، فكتاب: "مقدمة في السؤال اللاهوتي الجديد" (2005)، ثم "تحديث الدرس الكلامي والفلسفي في الحوزة العلمية" (2010)، و"علم الكلام الجديد: مدخل لدراسة اللاهوت الجديد وجدل العلم والدين" (2016)، وأخيرًا كتابه هذا، موضوع الورقة، الصادر مستهل2021

علم الكلام إذن أرق مزمن يلازم كتابات الرفاعي، ولعله جوهر مشروعه الفكري كما ذهبت لذلك زبيدة الطيب، وإن كان مشروعه هذا يتجاوز نقد التراث الذي أشارت اليه الطيب، والذي عزتْه لدوافع ذاتية وتكوينية وعملية (زبيدة الطيب، (2019، وإن كنا نرى في الرفاعي "فيلسوفَ تأويل" أكثر منه "فيلسوفَ نقد"، طالما أن هاجس اكتشاف المعنى يسكن مشروعه الفكري أكثر من هاجس العقل، وإلا كيف لنا أن نبرر تصوف الحياة عنده أو لاهوت الحياة، أو قوله بظمأ أنطولوجي واغتراب ميتافيزيقي؟

عمومًا، قد تكون بدايات الرفاعي نقدية، لكن كتاباته المتأخرة تأويلية، فأيّ جديد يحمله هذا الكتاب؟ وأية خبايا يفصح عنها في فكر الرفاعي؟

يقدم هذا الكتاب قراءة تاريخية لظهور مفهوم "علم الكلام الجديد"، تسافر به في جغرافيا الاجتهاد الإسلامي، وتقف عند محطة الإسلام الهندي، تلك المحطة التي مازالت غير حاضرة كما يليق بها في المباحث الفكرية العربية؛ ذلك أنّ القطار الفكري الحديث للعالم الإسلامي قد توقف كثيرًا عند محطة "الغرب"، ولعل ساعة الرحيل قد آنت، فلدى الحضارات الأخرى الشيء الكثير لتعلمنا إياه، لذلك لا يزال حضور الفكر الإسلامي الهندي في العالم العربي حضورا باهتا (الرفاعي،2017).

على مستوى بنيته؛ جاء الكتاب في أربعة فصول تتباين كمًّا وموضوعًا. الفصل الأول، اختار له الرفاعي عنوان: "علم الكلام: ملخص لنشأته وتطوره وعجزه وانسداده"؛ والذي انهال فيه الرفاعي بسهام نقد جريء على علم الكلام القديم، مقدمًا لتشريح دقيق لأسباب كساده الفكري.

وحدد في الفصل الثاني بوضوح أن: "علم الكلام الجديد هو الفهم الجديد للوحي"، ليشرح لنا الأبعاد الإبستيمولوجية لهذا العلم القديم الجديد؛ مقدما لمقاصده وضوابطه، وموضحًا لمحورية الوحي الخاصة فيه.

في حين يتعلق الفصل الثالث من الكتاب بـ: "الفهم الجديد للوحي في الهند" بقراءة نقدية لإسهام المفكرين المسلمين الهنود وتجديدهم، وفي هذا المبحث الذي ينتهي من خلاله الرفاعي إلى الإقرار بجرأة مفكري الهند وتحررهم النوعي من رقابة الماضي.

أما الفصل الرابع من الكتاب فهو بعنوان: "إيقاظ المعنى القيمي للدين في علم الكلام الجديد"، هو يشكل فرصة للرفاعي أثناء إحدى حواراته يعود من خلالها إلى هاجس اكتشاف المعنى الديني الذي يؤسس له مشروعه الفكري منذ بدايته، وهو كذلك فرصة انتهزها الرفاعي ليقدم المبررات الأنطولوجية الإبستيمولوجية والأخلاقية للتجديد في هذا العلم.

تلك خطة ذكية من الرفاعي، لأن كتابات التجديد تهتم باستقراء الوضع القائم ثم تنتقل إلى اقتراح مناهج تصحيحية، لذلك سعى الرفاعي إلى إشراك القارئ بضرورة إدراك الحاجة الملحة إلى تجديد علم الكلام؛ ولعل هذا ما يسمح لنا بالقول إن ما يقترحه الرفاعي في كتابه هذا هو خطة تصحيحية لاستدراك ما ترتب عن موت سريري لعلم الكلام الذي استمر طويلًا.

ربما لا نكون بصدد ولادة علم جديد كما قد يوحي بذلك العنوان، بل بنضوج جديد لهذا المبحث الفريد في تاريخ الفكر الإسلامي؛ إنه قانون التغيير: إما الموت أو الاستسلام لرهان التغيير. ولعلها ولادة جديدة تلك التي يبشر بها الرفاعي، وإن كان من الصعب التكهن بالمسافة الزمنية بين البُشرى وتحقق الأماني، والأصعب هو إيجاد الطريق والأدوات؛ لعل هذا هو السبب الذي يدفع الرفاعي للاعتراف بقوله: "لا يمكن بناء علم كلام جديد بديل لعلم الكلام القديم بمدة زمنية وجيزة، وإن كانت محاولات بعض المفكرين جديرة بالتبجيل، لعلميتها ورصانتها وجديتها …". (الرفاعي، ص 24). إن الأمر إذن يتعلق بمشروع فكري تتعاون فيه أيدٍ وإرادات موحَّدة غايتها الفهم وليس الإقناع.

ولأن لكل عصر أسئلته فلا بد أن يكون لكل عصر إجاباته، فأية أسئلة تلك التي يوقظها الكتاب؟ وأية إجابات قد يحملها؟ أم أن الرفاعي على نمط كيركگورد الفيلسوف الدانماركي الذي خصه بكتاب: "الحب والايمان عند سورن كيركگورد" (2015)، ربما لا يخلو فكره من حضور مختلس لتصور الفيلسوف الدانماركي للإيمان، وإن كان الرفاعي لا يتفق كليًا مع كيركگورد في أفكاره. ولعله قد تأثر هو الآخر بذبابة الخيل المزعجة، فجاءت كتاباته دعوة ملحة لتحريرنا من كسل التأويل والركون للمألوف.

عموما، الكتاب رحلة شيقة في التاريخ، والجغرافيا، والدين، وفلسفة المعنى، والسياسة، باتجاه محطة أخيرة هي اكتشاف المعنى في الدين حيث الوعد بـ "إنسانية إيمانية".

II- الكتابة الرفاعية

تحضر عند الرفاعي لغة السرد بقوة أيضا، ويستسلم كثيرا للاعتراف، دون أن يغرق كتاباته في بحور التبشير الديني، بل على العكس من ذلك، تحضر النزعة العقلانية النقدية بقوة أحيانًا، إذ تستنفرنا في كتاباته انتفاضة ومقارعة للأطروحات المتحجرة والآراء الراكدة.

على هذا الأساس لا يمكن أن تقرأ كتابات الرفاعي إلا ضمن ازدواجية الدين والفلسفة. قد يكون للمرجعية التكوينية للرفاعي سبب في ذلك، فهو يجمع في زواج سعيد بين الفكر اللاهوتي والفلسفي، والدراسة الحوزوية والأكاديمية، وقد تكون لمهنة التدريس دورها أيضا في انصرافه غالبا إلى أسلوب الحوار الذي يتيح له التحرر من سيولة الكتابة الأكاديمية، باتجاه بينذاتية الخطاب المتبادل، لذلك تبدو كتابات الرفاعي سلسة بنكهة عذبة، وإن تكررت بعض الأفكار هنا وهناك. إنّ قلق العقل وكثافة السؤال إذن أهم ما يميز فكر الرفاعي (الطيب، ص 14).

من جهة أخرى، كتابات الرفاعي غزيرة، لذلك من غير الصحيح القول بأن التأليف قد يعجزه، لاستمرار مؤلفاته وكتاباته وتدفقها المتواصل، أو أنه غير قادر على بلورة منهج فكري واضح المعالم إبستيمولوجيًا، أو أن خيار الذاتية نراه في كتاباته (معاذ بني عامر، الظمأ الإبستيمولوجي في كتاب "الدين والظمأ الانطولوجي")، (مؤمنون بلا حدود، فبراير2016)؛ ذلك أن حضور الذاتية إثراء للمعنى لا ينفي رصانة التفكير، بقدر ما يعبر عن انخراط فاعل في هموم وانشغالات مشتركة مع العامة من الناس، ولعل الذاتية أيضا إشراك للقارئ غير الخبير، وتحرير للخطاب الأكاديمي من قيوده.

لا يبدو أن الرفاعي يكتب لخواص فقه أو فلسفة دين، ولأنه يقارب الظاهرة الإنسانية، فلا بد أن تأتي كتاباته متجاوزة ضيق أفق الإبستيمولوجيا والعقلانية الصارمة، ذلك أن النزعة الإنسانية تغلب على فكر الرفاعي؛ وتحضر بقوة في كتاباته كثيفة المعنى، حيث تتجاور مفاهيم لم يكن في خطة واضعيها أن تقترن ببعضها، أما إذا غلبنا كفة العقلانية، وهو ما يميل اليه أغلب الدارسين للرفاعي، معتبرين إياه "فيلسوف تنوير ديني"، (ز .الطيب،  ر. ج. كاظم،  ب. الكرباسي…)، فقد نتلمس عنده فَقْرًا إبستيمولوجيًا، غير أن هاجس التنوير العقلي ثانوي عنده، إذ يطغى على كتاباته أرق الفهم وكشف المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي في الدين، فلا تكاد تخلو كتاباته من عودة متكررة لمفهوم المعنى باعتباره غاية مشروعه الفكري. وقد يكون من الأولى قراءة الرفاعي في ضوء الهيرمينوطيقا الغنية، وليس في ضوء تنويرية عقلانية فقيرة، فلا يكفي استدعاء خطاب عقلي للقول بأهداف تنويرية، أما المعنى فقد يتجاوز حدود العقل.

الرفاعي يتجاوز في كتاباته توثين العقل وتسيّده الديكارتي، واهدار كل معنى خارج العقل كما انتهى الفيلسوف ديكارت وأمثاله. يهتم بالمتخيل، ويرى أن تجاهل دراسة أثر المتخيل في فهم الدين وتفسير وظيفته أحد أبرز الثغرات عن مفكري الإسلام في العصر الحديث. المتخيل في نظره موطن صناعة المعنى الديني والابداع الأدبي والفني، يقول الرفاعي: "اكتشافُ جغرافيا المتخيَّل وفاعلياتِه ضروريةٌ للكشف عن نشأةِ وتطور الأديان، وأثرِ مخيلة الجماعة في إنتاج المعنى الديني، وكيفيةِ ولادة وتضخّم مخيلتها في سياق: رغباتها، وأمنياتها، وأشواقها، وأحلامها، وأوهامها، ومسعاها للتعويض عن كلّ ما تعجز عن إنجازه في عالمها الأرضي، بنحوٍ يمسي ذلك المتخيَّلُ شديدَ التأثير في حياة الفرد والجماعة، وربما يطغى تأثيرُه، فيسيطر عليها ويأسر حاضرَها ومصائرَها... المتخيَّل موطنُ صناعة المعنى الديني والابداع الأدبي والفني، يعيش فيه الدين والأدب والفن، ويتغذى وينمو ويتجذّر ويتشعّب كنسيج متشابك يتكثّف على الدوام. المتخيَّل شبكةُ صور راقدةٌ في اللاوعي الجمعي، تترسّب وتتراكم وتتغذى مما تنتجه سردياتُ الجماعة، وتأويلُها لنشأتها وتحولاتها ومختلف وقائع تاريخها ومطامحها وأحلامها. من يمتلك المنابعَ المغذّية للمتخيَّل الجمعي يتحكم بنظام إنتاج المعني في حياة الجماعة، ويتحكم بتوجيه حاضرها ومستقبلها"، "الرفاعي، المسألة الدينية عند الوردي: رؤية نقدية".

الرفاعي مسكونٌ باكتشاف المعنى في الدين أكثر من شغفه بالعقل. يبدو أن الخيط الناظم في كتاباته هو الإنسان وليس الدين،كما قد توحي بذلك قراءة أولى لما يكتبه، فما الدين عنده إلا ما ينشده من المعنى الذي يثري به حياة الإنسان. نقرأ ما يقوله في كتابه الأخير الدين والكرامة الإنسانية: "هذا الكتابُ محاولةٌ في فهمِ الإنسان أولًا، ومعرفةِ شيءٍ من طبيعته، واكتشافِ احتياجه لمعنى وجوده، والوقوفِ على شيءٍ من الدوافع المتضادّة لسلوكه ومواقفه. لا يمكن أن نفهمَ الدينَ قبلَ أن نفهمَ الإنسانَ، وحاجةَ الإنسان لمعنى لحياته، وحاجتَه للكرامة... في كل هذا الكتاب وغيره من أعمالي، اعتمدت المعيار الذي أفهم فيه الدين بوصفه حياة في أُفق المعنى، تفرضه حاجة الكائن البشرية الوجودية لإنتاج معنى روحي وأخلاقي وجمالي لحياته الفردية والمجتمعية". (الرفاعي ص 145).

ولعل الرفاعي سابق على دارسيه ممن لا يزال يغريهم مشروع التنوير، وإن كان مجرد محطة في تاريخ الفكر الإنساني انتقلتْ بنا اليوم إلى فكر ما بعد حداثي، شهد عودة قوية للروحانيات وللميتافيزيقا الدينية وعودة للإله. في كتابه: "Psychothérapie de Dieu" يعرج بنا Boris Cyrulnik على الحاجة الأنطولوجية للدين ولله، باعتبار الدين بعداً نفسيًا وعلائقيًا واجتماعيًا ووجدانيًا يعطي للوجود معنى، مصرحًا دون تردد بأن هذه الألفية الثالثة ألفية تديّن روحاني دون شك. وفي هذا تعزيز للمقاربة الفلسفية للرفاعي من زاوية علم النفس العصبي، وتأكيد على الحاجة المتزايدة للمعنى وليس للعقل. على هذا الأساس يمكن أن نلحق الكتابة الرفاعية بالمدارس ما بعد الحداثية، التي تحررت من قيود القطائع الإبستيمولوجية بين الحقول المعرفية، وتخلصت من وزر الشرط العقلي، وعدم رؤية تطلعات الروح وأشواق القلب.

إن عبدالجبار الرفاعي "فيلسوف معنى"، وفيلسوف المعنى يختلف عن "فيلسوف المنهج". يحضر السعي لاكتشاف المعنى في الدين في كل كتاباته بكثافة، ففي تعريفه للدين يحيل اليه بوصفه: "حياة في أُفق المعنى" حسب فهمه، مثلما يحيل إلى "المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي" لوظيفة الدين، وأن المعنى هو الأُفق لانتظار الإنسان من الدين، ويضع الرفاعي الكشف عن هذا المعنى غاية كل عملية تجديد للدين، كما يضعه معيارًا لاختبار قيمة وراهنية أي فهم للدين وتفسير لنصوصه يواكب الحياة وتقدمها.

III- عن غرض الكتاب

يضعنا الكتاب أمام مأزق الفهم، حيث يستسلم الرفاعي في مدخل كتابه للتعبير عن ضيق ما يشعر به نتيجة انحسار أفق التأويل في العالم الإسلامي؛ ذاك الضيق نفسه الذي نستشعره في كتاباته السابقة، وكأن مجمل كتاباته تأوهات فلسفية تنتفض ضد قيود تأويل لازماني، لتطالب بتحرير الزمن والطلاق من ماضٍ نرفض أن يمضي.

ينطلق الكتاب من الإقرار بالحاجة الأنطولوجية للبعد الديني والإيماني في الوجود الإنساني، يعرج بعدها الرفاعي للاعتراف بأن الطبيعة التأويلية للدين ونصوصه، واستغلاله كمادة للأيديولوجيا وشبكات المصالح المتصارعة، تجعله خاضعًا لصراعات التأويل وأيديولوجيا القراءات، مصرحًا بأنه يجمع بين عاملي الهدم والبناء، (الرفاعي، ص (5، فهو معًا رسالة للموت ورسالة للحياة (ص 6). لا يمتنع الرفاعي بعد هذا عن استنكار "شح المعنى" الذي فرضه تعطيل الاجتهاد والتجديد في المعارف الدينية، وكيف أن المعنى الذي يفيضه الدين على الإنسان، وتفاعل ذلك المعنى مع روح الإنسان وقلبه ومشاعره، وحاجة الإنسان إليه مادام حيًّا، وعجز الإنسان عن تأمينه من منبع بديل، كل ذلك -كما يقول الرفاعي- يدعونا: "للانتقال من علم الكلام القديم إلى علم الكلام الجديد، استجابة لما فرضته الأسئلة الحائرة للإنسان وقلقه الوجودي، وشح المعنى في حياته، وشعوره بعدم الأمان"، (الرفاعي، ص (6. هو إذن تصريح برفض الفهم الواحد وإقصاء الفهوم الأخرى. (الطيب ص 8).

في صفحات الكتاب الأولى، يقيم الرفاعي تقابلا سريعا بين القراءة البروتستانتية والكالفينية والقراءة الأشعرية لفكرة الخلاص؛ الأولى دنيوية، في حين أن الثانية أخروية، إذ جعل البروتستانت من العمل سبيلا للخلاص الديني، ولعل هذا ما يفسر ازدهار الرأسمالية، وفقًا لتصور ماكس فيبر الذي يستند إليه الرفاعي. قد يكون لهذا التقابل ما يبرره من جهة، إلا أنه لابد من الأخذ بعين الاعتبار المخاض التاريخي للحركة الإصلاحية المسيحية، والثمن الذي دفعته مقابل التحرر من تغوّل "حراس المعبد" على حدّ قول ابن سينا. أما في عالمنا الإسلامي فإن مشاريع الإصلاح لم تعمّر طويلا؛ ليس لأن الخطاب الديني الإسلامي عصي على التجديد، وإنما لعوامل تاريخية وسيكو-اجتماعية، ربطت نهضة المسلمين بالدين وحده، وجعلته مبررا لكل تميز. وإن كان الدين من دوافع النهضة إلا أنه ليس دافعها الوحيد، لأن هذا الدافع سرعان ما تحول إلى ذريعة نبرر بها تفوقنا إن وجد، وفشلنا متى اعترفنا به، لكن لا يقتضي الإصلاح قطع الحبل السري مع الماضي، وإنما القطيعة الإبستيمولوجية مع العذر الواحد، فأعذار تخلف المسلمين الحضارية كثيرة، وليس ارتهان الفهم الديني للماضي إلا أكثر أشكالها ظهورًا. وقد تكون التجربة الاستعمارية التي عاشتها مجمل الدول الإسلامية مبررًا آخر لموقف الانغلاق على الماضي وإحساس الدونية المتلبس، وقد يكون أصل ما يعانيه المسلمون هو "أزمة ثقة ثقافية".

لهذا تجتمع في الأزمة الحضارية عند المسلمين - حسب الرفاعي - أزمةُ الزمن وأزمةُ المعنى. من هذا المنطلق يقترح الرفاعي في الصفحات الأولى من كتابه الانطلاقَ من مسلمة التغير التاريخي، والتأكيد على أن الدين مكون أساسي لبناء معنى الوجود، لما له من أثر في تكون البنية الذهنية للمجتمع، خاصة في المجتمعات التقليدية، لينتقل بعد ذلك إلى المقاربة الهيرمينوطيقية بغرض الإفصاح عن أسباب تخلف المسلمين الحضاري، والذي يعزوه إلى تعصب تأويلي، وتقديس لقراءات تعالت على النص نفسه، من هنا جاءت الحاجة إلى "علم كلام جديد" يؤسس لفهم آخر للمقدس في علاقته بالإنساني. وبناء عليه يلح المفكر العراقي - في سياق خارطة طريق تأويلية - على ضرورة إعادة تشكيل صورة الله، وإعادة تعريف الوحي، مع الايمان بمصدره الإلهي، إذ يقول: "الفهم الذي أتبناه للوحي لا يهدرُ البُعدَ الإلهي الغيبي المتعالي على التاريخ الذي ينطقُ به الوحيُ"، مع الإقرار بالبُعد البشري للوحي؛ من حيث التلقي البشري له؛ ومن حيث حضوره في الواقع، فيؤكد على أن: "البُعد الإلهي في الوحي لا يقعُ في إطار صيرورة التاريخ وسياقاته، بخلاف البُعد البشري في الوحي الذي يقع في إطار صيرورة التاريخ وسياقاته"، (الرفاعي، ص141-142). يشدد الرفاعي على ضرورة إعادة تشكيل صورة الله، وإعادة تعريف الوحي، باعتبارهما البدايات الأولى لإعادة بناء معنى الدين عند المسلمين، واللبنة الأساسية لإعادة الثقة بزمانية حضارتهم، ليكون غرض الكتاب هو الكشف عن تموضع النص الديني في التاريخ، وخضوع عملية التأويل نفسها لبراديم التطور، حتى نتجاوز "شح المعنى"، (الرفاعي ص 9) .

الكتاب إذن ككتابات الرفاعي السابقة استكمال لمشروعه الفكري، المطالب باكتشاف المعنى في الدين، وبإعادة التصالح مع الحاضر ومع الإنسان، لكن بشرط طلاق ودي مع الماضي؛ لا يمحو ذكراه بقدر ما يحفظ جميل صنيعه، فهو ليس تأسيسا لعلم جديد بقدر ما هو دعوة أخرى إلى انطلاقة فعلية لورش التجديد في عِلم ميّز الحضارة الإسلامية. إجمالا يمكننا القول بأن الانطلاق بعلم الكلام خصوصًا وبالفكر الإسلامي عمومًا نحو رحابة المعنى، وتحريرهما من إرث الفكر ما قبل الحداثي، من الأهداف الأساسية للمشروع الفكري لعبد الجبار الرفاعي.

IV- الإسلام الهندي

ينخرط الرفاعي في هذا الجزء من كتابه في سجال فكري مع بعض أعلام المدرسة الهندية، فهو يعترف في مستهل مقاربته التاريخية لمنشأ علم الكلام الجديد بندرة المراجع التي تكشف عن بداية التأسيس والظهور الأول لـ "علم الكلام الجديد"، ويحاول أن يؤرخ بإيجاز لذلك، فيشير إلى الولادة العسيرة لهذا العلم، وذلك نتيجة تداخل أدوار مفكرين كثر تتأرجح بين سنوات اجتهاد خصب وتوالي سنين فكرية عجاف، (الرفاعي، ص 28). يرفض الرفاعي نسبة هذا العلم لاجتهاد فردي، وهذا ما يجعله يلحقه بسيرورة تكامل المعرفة الإنسانية، حيث يكتب: "يغدو القول بوجود فرد واحد مؤسس لهذا العلم قولًا يقفز على حقائق التاريخ ويجهل المدلول الحقيقي لتجديد الكلام… وليس تجديد علم الكلام بدعًا من ذلك؛ وإنما هو مشروع تضافرت في احتضانه وتطويره مبادرات وجهود فكرية وعملية، أسهم فيها رجال كثيرون من أعلام المسلمين في العصر الحديث، وإن كان دور الريادة يبقى نصيب عدد محدود منهم "، (الرفاعي، علم الكلام الجديد ووهم التأسيس، 2002).

تنطلق رحلة الرفاعي في البحث عن أصل تسمية علم الكلام الجديد ونشأته ومؤسسيه من الهند، إذ يجد الإرهاصات الأولى لقيام علم الكلام الجديد في الإسلام الهندي، فيرى أن علم الكلام الجديد انطلق من الهند، بفضل التعددية الدينية والثقافية، ثم إيران عن طريق الترجمة ابتداءًا، حيث أعاد المفكرون الإيرانيون تكوينه والعمل على بناء مرتكزاته الأساسية وتطويره، ثم انشغل فيه العرب، إذ أغنى مفكرو البلاد العربية علم الكلام الجديد وفلسفة الدين بتوظيف الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة.

إن ما يميز الهند حسب الرفاعي هو: "تنوع ميتافيزيقي، وعقل تركيبي يثريه تراكم تجارب الأديان وتلاقحها"، (الرفاعي، ص 73). في المقابل، يقر الرفاعي بالفقر الميتافيزيقي للتيار السلفي في العالم العربي، وميله إلى حرفية التفسير، وتزمته في النفور من الدلالات الرمزية للنص، وانغماسه في بساطة الفهم، مما يحرمه من خصوبة المعنى. وينسب انتشار التفسير السلفي في الجزيرة العربية إلى عوامل جغرافية واجتماعية وثقافية، (ص 51 )، جاعلاً من الأرض القاحلة وفقرها الميتافيزيقي مرتعًا لعوز الفهم وضيق أُفق التأويل، وقد لا تكون الأسباب الجغرافية وحدها عاملًا في انغلاق المعنى، فتلك الصحراء قد أنجبت من تملّك اللغة وروض المعنى و طوّع الدلالات كما نقرأها في الشعر، ولربما الإفراط في الاعتقاد بتفرد الحضارة العربية وتميزها، والنزوع إلى التعالي البيّن على باقي الشعوب، في رد فعل فاضح لمركب نقص ثقافي، من دوافع التقوقع على الذات وفقر التأويل وتغييب البعد الزماني فيه. إن العيب ليس عيب أرض، بل عيب مَنْ يسكنها.

بالعودة الى الهند، نجد أن الحركة الإصلاحية فيها تأرجحت بين تيارين دينيين متعارضين: تيار تصوف تعددي بنكهة عرفانية ينسب لابن عربي، (ص 52)، الذي يعده الرفاعي تيارًا منفتحًا؛ يمثله كل من: ولي الله الدهلوي، وسيد أحمد خان، ومحمد إقبال، وفضل الرحمن. ويغيب أثر هذا التيار في الفكر الديني للجماعات الإسلامية في المحيط العربي، لميله أكثر إلى العرفان، وتجاوزه لخطوط الأدبيات السلفية، لهذا اقتصر اتصال العرب بالهند على الشعر والأدب، كما هو الحال مع محمد إقبال مثلا، الذي اشتهر بالعربية بوصفه شاعرًا، وليس فيلسوف دين ومتكلمًا جديدًا.

إلى جانب هذا التيار التعددي المنفتح وُجد تيار كلامي أُحادي آخر منغلق، يمثله كل من: شبلي النعماني، أبو الحسن الندوي، وأبو الأعلى المودودي، وكان الأخيرُ الأكثرَ انغلاقًا وتشددا حسب الرفاعي. هذا التيار يثير شهية الجماعات الإسلامية العربية لقربه من خطابها الأصولي، كما يصرح بذلك الرفاعي، (ص53)، الذي يرى أن فكر المودودي هو الأكثر حضورًا والأعمق تأثيرا في أدبيات الجماعات الدينية العربية، نظرًا لاختلاط مشروعه الفكري بأهداف سياسية، أبرزها حلمه بإقامة دولة ما قبل الدولة الحديثة، لذلك فإن الأحلام السياسية عنده غطت على أهداف الإصلاح، فانغمس مشروعه الفكري في أيديولوجيا الجماعات الدينية. ونظرا لتبني المودودي لخطاب القوة والعنف، وصخب قراءته الأيديولوجية السياسية، يكتب الرفاعي أن: "المودودي حوّل الإسلام إلى: دين بلا روح، ودين بلا قلب، ودين بلا عقل"، (ص 54). في عبارة أخرى في كتابه: "الدين والكرامة الإنسانية" يضيف الرفاعي موضحا أكثر موقفه من المودودي فيكتب: "أهدر المودودي المعنى الذي يمنحه الدين للحياة، وأدخل هو، ومن سقط في شباك قراءته السياسية لعقيدة التوحيد الإسلامَ في مأزق حضاري؛ ذلك أن الدين الذي يخلع على نفسه جلبابا سياسيا يهدر الدلالات الميتافيزيقية لكتابه المقدس، ويبدد المعاني الروحية والأخلاقية والجمالية التي يمنحها الدين للحياة". (الرفاعي، ص 135) .

وقد نبّه حسن حنفي هو الآخر لأثر فكر المودودي على الجماعات الدينية خاصة في مصر، إذ خصّه بمقال مهم في كتابه: "الدين و الثورة في مصر، الحركات الدينية المعاصرة"، وقف من خلاله عند أثر هذا المفكر على هذه الجماعات في حديث مطوَّل عن الأسس الفكرية لمشروعه، وكيف تغذّت جماعة الإخوان المسلمين في مصر من معين حلمه بدولة دينية، لذلك فإن غلبة الأطماع السياسية على مشروع التجديد كافية لإقصاء المودودي من سيرورة التجديد التأويلي، بل إن مشروعه الفكري هو أقرب إلى التطويع الأيديولوجي للدين، (حسن حنفي، الدين والثورة في مصر، الحركات الدينية المعاصرة 1988، 1981-1952، مكتبة مدبولي، القاهرة).

لا بد أن نضيف هنا أن موقف الرفاعي من الحركات الدينية العربية موقف ناقد، يتضح من خلال نقده لـ "أدلجة الدين" أو "التدين السياسي"، كما أشار له في تصنيفه لأشكال التدين. ليس لنا إلا أن نقول إن الرفاعي ينقد كل مظلة تأويلية تحجب معنى الدين الروحي والأخلاقي والجمالي، إذ أن الدين عنده تغلب عليه الغاية الأنطولوجية، بتجلياتها الروحية والأخلاقية والجمالية، كنوع من "تصوف عقلاني". ما دفعنا لهذا التصنيف هو قول الرفاعي بتحديد مجال الدين في مجال المعنى، ورفضه لإقحام الجماعات الدينية وتوظيفها المارق لخطاب المقدس في السياسة، ودغدغتها لأحلام دولة ما قبل الدولة الحديثة. نقرأ في كتاب الرفاعي أن "الدين لحظة تأسيسه انبجاس غزير لينبوع المعنى... وقد يصبح الدين أخطر ما يهدد بنية المجتمعات البشرية، لأنه عندما يخرج من حقله الطبيعي ويجتاح حقول الحياة الأخرى خارج مجاله، يصادر كل ما هو من اختصاص العقل والعلوم والمعارف والتجارب البشرية، ويعمل على العبث فيها وتبديدها"، (الرفاعي، ص 83).

يعبر الرفاعي عن رؤيته هذه بمصطلح "إنسانية إيمانية"، بوصفها شكلا من أشكال التدين العقلاني الأخلاقي الرحماني، و"طريقا ثالثًا" يختلف عن التفسير التراثي للدين وتفسير الجماعات الدينية، كما يصرح بقوله: ‏(‏الإنسانية الإيمانية تحاول بناء طريق ثالث؛ لا يكرر طريق ‏معاهد التعليم الديني التقليدية، ‏التي يسودها فهم تراثي للدين، وقراءة تراثية لنصوصه، ولا يكرر طريق الإحيائية الأصولية المسكونة باستئناف الماضي كما هو، والاستحواذ على السلطة والثروة. إنه طريق ثالث؛ ‏يقدم فهمًا للدين بوصفه حياة في أُفق المعنى، ونظاما لإنتاج معنى روحي وأخلاقي وجمالي للحياة الفردية والمجتمعية. التدين الذي ينتجه هذا الفهم للدين هو "تدين عقلاني أخلاقي رحماني". "‏الإنسانية الإيمانية"، تختلف بشكل جذري عن "‏الإنسانية العلمانية أو غير الإيمانية". لا ‏يصح تصنيف "‏الإنسانية الإيمانية"، تحت عنوان: "العلمانية المؤمنة" أو غيرها"). يضيف الرفاعي: ("أنا مسلم وكفى"، "‏أؤمن بالله ورسوله محمد "ص" والوحي والقرآن الكريم، وأُقيم الصلاة. أعمل باجتهادي في فهم الدين وقراءة نصوصه. أرفض هذه التصنيفات. أرفض هذه التصنيفات والتوصيفات. أنا لا تقدمي ولا رجعي، لا يمين ولا يسار، لا علماني ولا حداثي ولا ما بعد حداثي، لا اشتراكي ولا ليبرالي). هذا جواب أثناء نقاش خاص بتاريخ 29 غشت "آب" 2021 جمعني عبر الأنترنيت بالأستاذ الدكتور عبد الجبار الرفاعي قاسمته فيه موقفي من توجهه الفكري باعتباره أقرب الى تصوف "عقلاني" بأدوات تأويلية، لكن عبر الدكتور الرفاعي عن رفضه بشدة لكل هذه التسميات والتصنيفات، وميله إلى الاقتصار على صفتي "الإنسانية" و"الإيمانية"، وشدد على قوله: "أنا مسلم وكفى".

كتابات الرفاعي تتجاوز حدود الخطابات الإنسانية الصرفة باتجاه "إنسانية إيمانية روحانية أخلاقية" تبشر بها الألفية الثالثة. رفض الرفاعي الانصياع لكل تصنيف قد يلغي غنى خطابه، وإن كان يجد مبرره في ثقافته البين–مجالية، وانتفاضه ضد قيود الخطابات الأكاديمية الصارمة، متنصلًا من تسييجات الإبستيمولوجيا الصلبة، بل وحتى الفلسفة. إنه نزوع نحو كونية الخطاب بعيدًا عن محلية الموضوع.

قد تكون إباحة قيام خطاب معرفي عقلاني إبستيمولوجي لاهوتي، لا ينتمي بالقوة الى المدرسة اللاهوتية الكلاسيكية، ثورة أخرى على جمود التأويل في الفكر الديني. وقد يكون من الملائم قبل الخوض في مغامرة التأويل هذه وتجديد الفهم التصالح مع مفاهيم العلمانية والعلمنة، وتجاوز التقابل الأيديولوجي الضيق الذي يجعل كل تحديد لمجال الدين إقصاء له من الوجود الفاعل للإنسان، فإذا كان الرفاعي يطالب بالتأويل خارج الذات التراثية فلا بد كذلك من التحرر من جدليّة الدولة والدين التي ورثها الإسلام المعاصر عن الحركات الدينية، وذلك بغرض تجفيف ينابيع تجارة الدين الرابحة في بعض الأيديولوجيات السياسية.

في سياق آخر، واستكمالًا للقراءة التاريخية التي قام بها الرفاعي لنشأة علم الكلام، نجده بعد أن أقصى المودودي من الكلام الجديد، إذ به يعترض على إقحام شبلي النعماني في مساره، لكن إذا كان الرفاعي قد أقصى المودودي من مسار علم الكلام الجديد لأسباب الأيديولوجيا السياسية للمودودي، فإنه يقصي شبلي النعماني لدواعٍ إبستيمولوجية، معتبرا إياه مجرد "شارح جديد لعلم كلام قديم"، (الرفاعي ص 28). وإن كان الاستعمال الأول لعنوان "علم الكلام الجديد" في التأليف يعود الى كتاب النعماني الصادر في جزئين سنة 1903 و1904 بعنوان: "علم الكلام الجديد"، كما يصرح بذلك الرفاعي؛ معترفاً له بفضل السبق في استعمال العنوان، غير أنه يعترض على منهج شبلي النعماني، ولا يرى فيه تجديدًا، بقدر ما يجد فيه تبسيطًا وتحديثًا لقضايا سابقة في علم الكلام القديم، (الرفاعي ص 25). يكتب الرفاعي: "شبلي النعماني يستأنف القديم بلغة أكثر وضوحًا واختزالًا للاستطرادات والتفاصيل المملة، وحتى العناوين الجديدة التي أدرجها في كتابه هذا لا نرى في حديثه عنها ما يشير إلى معالجة تخرج من جلباب الآباء"، (الرفاعي ص 28). يرى الرفاعي في شبلي النعماني: "متكلم تقليدي وضع عنوانًا جديدا لمضمون قديم"، (الرفاعي، ص 28). ما يرفضه الرفاعي هو موقف النعماني التبريري، وميله للدفاع بدلًا من تجديد الفهم حيث (تظل وظيفة الكلام الجديد في مفهوم النعماني دفاعية، إذ يمكث علم الكلام في مقولات متكلمي الفرق القديم، يشرحها ويعزز أدلتها بأدلة جديدة، من دون أن يعيد النظر في مضمونها… لا نرى محاولة لبناء رؤية جديدة ترسم صورة بديلة لله والعالَم في كتابه "علم الكلام الجديد"، أو تعريفًا جديدا للوحي والنبوة، أو مسعى لتوظيف المكاسب الحديثة للفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع في فهم الدين وتفسير نصوصه). (الرفاعي ص 27).

من حيث منشأ علم الكلام الجديد يرى الرفاعي أن إرهاصاته ارتبطت بمطلع القرن الثامن عشر، وبالضبط مع ولي الله الدهلوي، الذي يعتبره الرفاعي من أعلام الإسلام التعددي في الهند؛ كونه جمع في مشروعه الفكري بين التجديد والتصوف، (ص 56)، إذ استطاع أن يوفق بين الميل العرفاني دون مغالاة، والغرض الإصلاحي؛ وذلك بفضل التربية الدينية الصوفية التي تلقاها عن والده، وبفضل ميوله الفكرية والنقدية المجددة. لذلك تعد كتابات الدهلوي من المشاريع النقدية الأولى التي مهدت لولادة علم الكلام الجديد، وبشارة انتفاض ضد جمود التأويل. ولعل ما يجعل من الدهلوي مفكرًا مجددًا في علم الكلام هو مقاربته للوحي ولدور النبي الفاعل فيه، ووقوفه عند الأبعاد الاجتماعية للدين، (سيد عبد الماجد الغوري، 2016). إن ما حققه الدهلوي هو تغيير في المنهج، وتغيير في الغاية، وانتقال من الوظيفية التبريرية إلى الوظيفة التأويلية. أما ما يسعى إليه الرفاعي في علم الكلام الجديد فهو تغيير في المنهج والغاية والأدوات، مطالبا بالانفتاح على الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة.

يقف الرفاعي عند وجه آخر من وجوه حركة الإصلاح الإسلامية المعاصر في القرن التاسع عشر، مشيدًا بالدور التربوي الرائد لمؤسس جامعة عليكرة سيد أحمد خان، وسعيه للنهوض الحضاري بمسلمي الهند، عبر تبني طرائق تعليمية جديدة والاستفادة من الخبرة الغربية، متمثلة في الجامعات البريطانية العريقة، إذ رد "سيد أحمد خان تدهور أحوال المسلمين إلى سببين؛ الأول: نقص التعليم لديهم، والثاني: عدم الاتحاد والاختلاط بالإنجليز"، (معراج الدين الندوي)، لكن موقفه المتسامح مع فكر الغرب، ودعوته لمحاسبة الذات قبل لوم من تطاول على الأرض، جرّت عليه ويلات من يريحهم السكون لدور الضحية، وكان هذا الانبهار بالغرب مع نزوع نحو العلمانية جعلت أفكاره لا يستسيغها أغلب المسلمين شرقًا وغربًا، وإن كان ذلك لا ينتقض من أهمية مشروع تجديد الخطاب الديني عند سيد أحمد خان، فأفكاره تكاد تكون سابقة لعصرها، خاصة مواقفه من التربية والوحي وبشرية الفهم لتفسير القرآن والإجماع والجهاد، (رائد نصري أبو مؤنس). أشرنا هنا إلى هذه الدراسة التي قام بها رائد نصري أبو مؤنس من جامعة غزة، ونشرت بمجلة الجامعة الإسلامية للدراسات الشرعية والقانونية في يناير 2020، وهي تكرر نفس الانتقادات المتحاملة على الفكر التجديدي لأحمد خان، والتي سبقه في نقد أحمد خان إليها جمال الدين الافغاني وشبلي النعماني وغيرهم، مقدمة بذلك صورة عن تغول التيار التقليدي واستمراره، على الرغم من عقود تلت محاولة سيد أحمد خان الإصلاحية. إن ما يزعج في موقف أحمد خان حسب الرفاعي: "تمرده على مقولات المتكلمين التقليدية، وتقديمه لقراءات جديدة لمفاهيم الوحي والنبوة"، وهذا ما يدعو الرفاعي لاعتبار أحمد خان: "أول متكلم جديد في العصر الحديث"، (الرفاعي، ص 60).

أثّر منهج أحمد خان في معاصريه وتابعيه، وبالأخص محمد إقبال وفضل الرحمن، اللذان خصهما الرفاعي بمنزلة مميزة في لحظة التأسيس لعلم الكلام الجديد، فهو يرى أن: "محمد إقبال كان من أنضج مفكري الإسلام في القرن العشرين؛ في بناء رؤية نظرية لتجديد التفكير الديني، وأكثرهم براعة في الكشف عن الأبعاد الكونية للقيم الروحية والأخلاقية في الإسلام"، (الرفاعي، ص 65).كما أن تجربة محمد إقبال تعكس محاولة ذكية للجمع بين فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، وإن كان الرفاعي يؤاخذه على الحضور المحتشم للفلسفة في خطاباته، وعلى انشغاله بمشاريع قومية وسياسية صرفته عن "صياغة رؤية لنظام معرفي بديل، وإنجاز أركان فلسفة دينية، وبناء ركائز علم الكلام الجديد"، (الرفاعي، ص 64)، وأسف الرفاعي على كون إقبال أول من صاغ رؤية لـ"هوية دينية للدولة"، (الرفاعي، ص 64)، لكن ما يميز محمد إقبال في نظر الرفاعي هو جمعه بين المختلفات، من خلال فكر مركب؛ تناغمت فيه الفلسفة والعرفان مع الدين والأدب والشعر والسياسة، وإن كانت هموم تأسيس باكستان على أساس "هوية دينية للدولة" استنزفت تفكيره وبددت جهوده في سنواته الأخيرة، حسب الرفاعي.

الوجه الآخر للمحاولات الجادة في بلورة علم كلام جديد يمثله فضل الرحمن، الذي لم يتمكن هو الآخر - على الرغم من اجتهاداته الذكية - من التحرر من سطوة الثرات السلفي في نظر الرفاعي (الرفاعي، ص 68)، وعلى الرغم من محاولاته لخلق عقلانية متطورة، (الحاتمي،2020)، لكن يبقى موقف فضل الرحمن من إعادة فهم الوحي أهم اجتهاد كلامي جديد لديه في نظر الرفاعي، دون ذلك فإن فضل الرحمن يظل عاجزا لأنه كان وفيا للمرجعية الدينية السلفية إلى الحد الذي أعاق اجتهاداته، يكتب الرفاعي: "أحيانا يعجز فضل الرحمن عن عبور آراء متكلمي الإسلام ومفسريه ومحدثيه، ولم يشتق لاجتهاده طريقا مغايرا، كان يكرر آراء تعبر عن وقائع وأحوال عصرهم، لذلك نرى بعض آرائه أسيرة تفكير انتهى زمانه" (الرفاعي، ص 70). لذلك لا تعدو تجربة فضل الرحمن إلا محاولة أخرى في صرح التمهيد لقيام علم كلام جديد.

في ضوء ذلك يمكن القول إن قيام علم كلام جديد مشروع غير مكتمل وفق ما ذهب إليه الرفاعي، وإن كانت لدينا اجتهادات متنوعة جريئة، لعلماء دين وفلاسفة ومتمرسين في العلوم الإنسانية، من أمثال: محمد حسين الطباطبائي، وأمين الخولي، ومحمد عبد الله دراز، وعلي شريعتي، ومرتضى مطهري، ومحمد باقر الصدر، وفهمي جدعان، ومحمد أركون، وعبدالكريم سروش، ومحمد مجتهد شبستري، ونصر حامد أبو زيد، وحسن حنفي، وعبد المجيد الشرفي، وآخرين، (الرفاعي، ص 46)، وربما لا تكتمل في الكل شروط المتكلم الجديد التي وضعها الرفاعي.

فمن هو هذا المتكلم الجديد؟ وما هي الضوابط الإبستيمولوجية التي يضعها الرفاعي لقيام علم كلام جديد؟

IV- في الحاجة لعلم جديد

يحتل علم الكلام مكانة خاصة في المشروع الفكري لعبد الجبار الرفاعي كما تؤكد ذلك خلاصات زبيدة الطيب، (الطيب، ص 19)، إذ يحضر بقوة سواء كان ظاهرًا أو مستترًا، في كتبه الخاصة أو كتاباته المشتركة، فقد خصّ الرفاعي على سبيل المثال مباحث التجديد في علم الكلام بمجموعة أعداد من مجلة قضايا إسلامية معاصرة، وحرّر كتابًا بعنوان: "الاجتهاد الكلامي، مناهج ورؤى متنوعة في علم الكلام الجديد"، ضمّنه رغبته الملحة بأنسنة علم الكلام وجعل غايته اكتشاف المعنى الروحي والأخلاقي للحياة، وإعادة وصله بالبعد العملي في الوجود الإنساني، بعد أن تحول لمجرد "علم تجريدي"، (الطيب، ص 26)، مقارعًا بذلك القراءات الضحلة القائمة على إعادة التدوير الفكرية، والاكتفاء بالأجوبة الجاهزة والمكررة، بعيدًا عن احتياجات اليومي والمعيش. تتناسل إذن مطالب الخروج من وصاية الفهم التقليدي في كتابات الرفاعي، وتجديد علم الكلام، في اعتقاده بالمنعطف الهيرمينوطيقي اللازم لبناء فهم ديني راهن عن الانسان والعالَم. يكتب:"علم الكلام الجديد في رأيي يمثل نظرية المعرفة في الإسلام، لأنه هو الذي ينتج منطق التفكير الديني، ومنطق كل عملية تفكير هو الذي يحدد طريقة التفكير ونوع مقدماته ونتائج، وذلك يعني أن أية بداية لتجديد التفكير الديني في الإسلام لا تبدأ بعلم الكلام ومسلماته المعرفية ومقدماته المنطقية والفلسفية، فإنها تقفز إلى النتائج من دون المرور بالمقدمات". (الرفاعي، ص 33).

على هذا الأساس فإن محطة علم الكلام هي اللحظة الأولى لفهم كيف تبلور الفكر الإسلامي، ومن ثم الشروع في قراءات جديدة لهذا الإنتاج الكلامي المرتبط بأسئلة وتحديات شهدتها الحضارة الإسلامية في أزمنة سابقة، فكانت المقولات الكلامية إجابات عنها. لكنها ما لبثت أن تحولت إلى إجابات نهائية عن كل الأسئلة - التي تغيرت شكلًا، مضمونًا وسياقًا- تتحكم في الراهن، الغريب كليًا عن لحظتي النشأة والتطور. زد على ذلك أن أهداف علم الكلام التقليدي انحسرت في أُفقي الدفاع والتبرير في إطار استراتيجية هيرمينوطيقا تبجيلية، ومثال ذلك ما جاء في تعريف الفارابي لغرض هذا العلم، إذ يقول: "الكلام: صناعة يقتدر بها الإنســان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرح بها واضع الملة، وتزييف كل ما خالفها من الأقاويل"، (أبو نصر الفارابي، إحصاء العلوم، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1991، ص41). أما اليوم فإن رهان الدين تحوّل إلى حاجة لبناء فهم جديد عن المعتقد، وعن انعكاسه على حياة الإنسان، وأصبحت وظيفة الدفاع لاحقة على وظيفة الفهم. وإن كان هاجس الدفاع ما زال مستمًرا في بعض الاجتهادات السطحية، حتى وإن تغيّرت التسمية، كما هو الحال مع شبلي النعماني؛ من علم كلام قديم الى آخر جديد. نقرأ في كتاب النعماني (علم الكلام الجديد): "إن علم الكلام القديم عني ببحث العقائد الإسلامية، لأن شــبهات الخصوم كانت ترتكز على العقائد فقط، بينمــا يجري التأكيد هذا اليوم علــى الأبعاد الأخلاقية والتاريخيــة والاجتماعيــة في الديــن، وتتمحور الشــبهات حول المســائل الأخلاقيــة والقانونية مــن الدين، وليــس حــول العقائد"، (شبلي النعماني، علم الكلام الجديد، ترجمة: جلال السعيد الحفناوي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2012، ص 181). لأجل هذا ينتفض الرفاعي ضد ما يسميه "ذهنية كلامية تقليدية"، تميل إلى التجريدية عبر فهم ميكانيكي للوحي وتأويل منغلق للنصوص، يغربها وينفيها عن عصرها، ويحشر الفكر الإسلامي المعاصر في مأزق الوفاء للماضي، للإرث، للهوية، تحت وصاية الذات التراثية. فهو يقر بأن التأويلات ما هي إلا إجابات مرحلية، مدافعا بذلك عن زمانية المعنى، ومشيرًا إلى ما يسميه "المعنى المؤقت" بزمن خاص، وهو يبحث عن المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي الدائم، (الرفاعي ص 15). فإذا كان الرفاعي يشدد على القول بالحاجة الأنطولوجية للدين، وبالاغتراب الميتافيزيقي أو الوجودي للإنسان المعاصر، فلابد كذلك من الإقرار بتغير الوعي الإنساني، وخضوعه لسيرورة التاريخ، ذلك أن "العقل كائن تاريخي يتغير ويتطور ويتكامل تبعا لنمو وتراكم معقولاته ومعطياته كيفا وكما"، (الرفاعي ص 30).

من هنا أيضا؛ لابد من الإقرار بأهمية تأويلات علم الكلام الجديد نفسه، فهو علم منفتح يسافر بالنص تبعًا لزمن التأويل، يكتب الرفاعي: "أبدية الكتب المقدسة وعبورها الزمان والمكان قائمة على تعدد قراءتها وتنوع فهمها وتعدد المعنى الذي يتلقاه القارئ منها، بالانطلاق من تساؤلات الذات الواعية لمناهج الفهم والقراءة. لا ثمة ديمومة تدعي الفهم النهائي والأبدي للكتب المقدسة"، (الرفاعي ص 91). بهذا المعنى يفقد النص في علم الكلام الجديد تعاليه على الزمن، وينتج نصوصًا تأويلية قد تنتهي كما هو الشأن في الهيرمينوطيقا المسيحية بتغليب كفة إنسانية النص المقدس. ولعل هذا ما يخشاه متعصبو التأويل التقليدي. إن انتقال ملكية النص مغامرة تأويلية، قد لا يرضاها الكثيرون؛ علما بأن هذا النص إنما جاء مخاطبا الإنسان محدود الفهم والمعرفة. نقرأ للرفاعي: "إن الله مطلق ومعرفة الإنسان بالله نسبية، لأنها محدودة بحدود طبيعته البشرية وآفاق وعيه وثقافته ونمط رؤيته للعالَم وللزمان والمكان الذي يعيش فيه"، (الرفاعي، ص13)، فالقول بخضوع النص للفهم الإنساني ليس قولًا بمحدودية النص بقدر ما هو تسليم بمحدودية الفهم الإنساني نفسه العاجز بمفرده عن بناء معنى نهائي ومريح عن النص. ذلك أن النص ينبغي أن يُقرأ في ضوء دائرة هيرمينوطيقية غنية. لا يتعلق الأمر إذن بالمقابلة بين المقدس والإنساني بقدر ما يتعلق بالمقابلة بين المعنى والإنسان. وليست الهيرمينوطيقا تهديدا لسلطة المقدس أو النص وإنما هي أيضا رحلة أخرى للفهم.

في المحصلة، لا بد من الاعتراف بزمانية النظام المعرفي لكل عصر وخضوعه لمتغيرات المجتمع والإنسان، ثم الإقرار بزمانية المعنى وظرفيته، والوقوف ضد كل تقديس يطال التأويل فيحنطه، ويصادر حق النص في الترحال في فضاء الفهم بعيدًا عن وصاية الماضي والأسلاف. وأمام سيرورة التكرار التي أنهكت العلوم الدينية، إنه لمن المشروع -كما يدافع عن ذلك فيلسوف الحوزة - المطالبة بإنتاج تأويل معاصر للنص الديني في الإسلام. هذه الثورة الهيرمينوطيقية من شأنها أن تنهي عقودًا من تعطيل المتغير البشري في المباحث العلمية الإسلامية. هذا الحفر في أساسيات التغيير هو ما قاد الرفاعي للدعوة إلى "تحيين المعنى الديني"، (الرفاعي، ص 16)، فهل يتعلق الأمر بتحديث أم تجديد؟

نثير هنا إشكالا ابستيمولوجيًا يتعلق بالحدود الرفيعة بين التحديث والتجديد في علاقتهما الملتبسة بالماضي، فهل ما يريده الرفاعي هو الانسلاخ عن علم الكلام القديم إلى حد يمكن معه تحقيق هذه القطيعة الإبستيمولوجية؟ وهل يمكن تجاوز الإطار المرجعي لعلم الكلام القديم؟ أية شروط؟ وأي ضوابط؟

يكتب الرفاعي مجيبًا: "هو علم "جديد" بوصفه لا يستنسخ مناهج الكلام القديم، ويتحرر من كثير من مسائله وجدالاته المكررة، ويتسع لمسائل جديدة تتصل بأسئلة ميتافيزيقية توالدت في ذهن إنسان اليوم ولم يعرفها إنسان الأمس، خاصة الأسئلة المتصلة بمعنى وجود الإنسان وحياته ومصيره"، (الرفاعي، ص 22).

إن رهان القطع إبستيمولوجيًا مع الماضي كان ولا يزال قطب رحى كل مطالبات التجديد في الفكر الديني، لذلك قد يكون من الضروري تبرئة هذه القطيعة الإبستيمولوجية من تهمة العقوق. إنها ليست قضاءً على الأصول بقدر ما هي تحرير للخلف من وصاية السلف الخانقة، وانتقال لمسؤولية الفهم واستملاك المعنى الديني الذي يواكب الواقع.

نطالع في مقال لعبد السلام بن عبد العالي يثير فيه مسألة القطيعة الإبستيمولوجية، فيقول: "علينا أن نميز بين مفهومين عن القطيعة: مفهوم وضعي يفصل فصلا نهائيا بين مرحلة وأخرى، بين عامل وآخر - أو كما يقول أصحاب الإبستيمولوجيا وتاريخ العلوم - بين إشكالية وأخرى. ومفهوم يريد أن يذهب أبعد من ذلك؛ فيجعل القطيعة انفصالا لا متناهيا ما يفتأ يتم. وما ذلك إلا لأنه ينطلق من نفي الـ "حضور" والتحقق النهائي. بهذا المعني فإن "جوهر" القطيعة لا يكمن في الفصل وإنما في لا تناهي الفصل ولا محدودية، فليست القطيعة هي حلول حاضر يحجب ما قبله. القطيعة هي انفصال لا متناه، أي أنها حركة دائبة دائمة لا تنفك تتم. ليست القطيعة انفصالا بين حاضرين بين حضورين، وإنما هي خلخلة للحضور ذاته؛ إنها اقحام اللامتناهي "داخل" الكائن"، (عبد السلام بن عبد العالي، 2020).

إن القطيعة في هذا المعنى أقرب لمعنى الامتداد، إنه امتداد دون وصاية، وقطيعة دون عقوق، إنها ليست الغاءً للماضي؛ إنما رفض للتبعية الاتصالية زمانيًا والنكوصية معرفيًا. هو ارتهان المعنى للفهم، وارتهان النص للاجتهاد الإنساني وللراهن. إنه ليس كذلك توفيقًا مسالمًا بين الماضي والحاضر، إنه انتقال هيرمينوطيقي بارٌّ بالماضي شغوف بالحاضر ومتطلع للمستقبل. وليس قفزة إبستيمولوجية منسلخة عن الماضي ومستلبة للحاضر، متوهمة بمستقبل لا يحمل تجاعيد الماضي وإن بهتت. لنقرأ للرفاعي "منهجي في بناء علم الكلام الجديد ينطلق من فهم الترات واستيعابه، لكنه لا ينتهي بالتراث". رأيي هو رأي الشيخ أمين الخولي، الذي لخص البداية بقوله: "أول التجديد قتل القديم فهما"، (الرفاعي، ص 86). لذلك فالتحديث بمنظور تجديدي الذي يتبناه الرفاعي ينطلق من إعادة النظر في فعل التأويل في كليته؛ انطلاقا من علاقة المؤول بالنص، من خلال القول ببشرية تلقي الوحي، مع إيمان الرفاعي بالمصدر الإلهي الغيبي للوحي، وبشرية التأويل، ثم علاقته بالعقل عبر الانفتاح على مباحث العلوم الإنسانية وجديد العلوم المتنوعة، وعلاقته بالواقع وانخراطه في راهن عصره وانشغالاته. هكذا يتسع مجال علم الكلام الجديد ليشمل سعة الوجود الإنساني المركب.

دعونا نلخص إذن أبرز ملامح الاختلاف بين علم الكلام القديم وعلم الكلام الجديد فيما يلي:74 table

بعد تحديد ما يبدو لنا أهم نقاط الاختلاف بين علم الكلام القديم وعلم الكلام الجديد، لنقف عند الضوابط الإبستيمولوجية لعلم الكلام الجديد كما تصورها الرفاعي، الذي وضع لهذا العلم الجديد أركانًا سبعة تؤسس لاستراتيجية هيرمينوطيقية خاصة (ص41)، تتمثل في الآتي:

1- تفسير جديد للوحي

مخاض التجديد في علم الكلام الجديد يفترض معيارًا أساسيًا قائمًا على بناء فهم جديد للوحي. لهذا يركز الرفاعي على أن بناء فهم جديد للوحي هو الشرط العلمي لقيام علم كلام جديد. من هنا يميل للقول ببُعدين للوحي: "بُعد إلهي هو المصدر، وبُعد بشري هو المتلقي"، (الرفاعي، ص 42) . البُعد البشري في الوحي يعني "التلقي البشري للإلهي"، (الرفاعي، ص 42)، مضافًا إلى أنه أيضًا "التعبير الإنساني عن الإلهي"، (الرفاعي، ص 42).

يسمح هذا التصور عن الوحي بانفتاحه على نظريات التلقي، ويكشف عن أبعاده الإنسانية وعن دور النبي الفاعل، وإن كان يفصح أيضًا عن نقائص تدوين ونقل الثرات ويسائله من زوايا مناهج التاريخ. يكتب الرفاعي: "في ضوء هذا الفهم يكون للقرآن والكتب الوحيانية وجه إلهي ووجه بشري، فهو من جهة اتصاله بالغيب إلهي، وهو من حيث تلقي النبي له وتعبيره عنه بلغته وثقافته والواقع الذي كان يعيش فيه بشري، أي تظهر فيه حدود لغة النبي وقيودها ومدياتها، وطبيعة حياته الشخصية، وملامح عصره ومجتمعه وثقافته وبيئته"، (الرفاعي، ص 42). لكن لا يختص الوحي دائمًا بكتاب أو نبوة نبي كما يرى الرفاعي، وهذا ما ذهب إليه محيي الدين بن عربي، وهو ما يفسّر التعددية الدينية في رأيه، لذلك يدعو لإعادة تعريف النبوة والكشف عن أبعادها الإلهية والإنسانية. هذا الفهم للوحي يسمح حسب الرفاعي بتجاوز مأزق تغييب البعد الإنساني والكوني والتاريخي فيه. إن القول بفاعلية النبي في الوحي من شأنه أن يقدم لقراءة جديدة للدين تعيده إلى مجاله ببناء الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية، كي يتحول الدين إلى أداة للبناء لا للهدم، (الرفاعي، ص 47).

2- إعادة بناء صورة الله:

يرى الرفاعي أن أول عملية تأويل في تاريخ البشرية ارتبطت بصورة الله، حيث بحث الانسان عن ذاته ومعنى لوجوده من خلال بحثه عن الخالق (الرفاعي، ص 135). لذلك فإن مقاربة الفهم الذي لحق بصورة الله في اللاهوت التقليدي من شأنه أن يؤسس لبناء تصور عن موقع الإنسان في هيرمينوطيقا علم الكلام القديم. ولهذا الغرض يقف الرفاعي ضد التصورات اللارحمانية لصورة الله، إذ يرى أن صورة الله في المقولات الكلامية ارتبطت بمعاني التسلط والاستبداد التي تهدر المعاني الروحية والأخلاقية والجمالية للدين. يكتب الرفاعي: "القراءة المتوحشة تبدد الإيمان وتهدر كرامة الانسان وتفتك به، والقراءة الخرافية لا تخلو من وثنية، وكل وثنية لا تهدر كرامة الانسان وتبدد المضمون الروحي والأخلاقي للدين فحسب، بل يحتجب معها الله عن العالم، وتنتصب بديلا عنه أوثان تتعدد بتعدد تلك الخرافات، وهذه الأوثان ليست إلا آلهة زائفة تستعبد الإنسان، بعد أن تشل عقله وتمزق روحه وتبذر حقوقه، وتحجبه عن الإله الرحماني" (الرفاعي، الدين والكرامة الإنسانية، ص161). يضيف فيلسوف العراق كذلك أن هذا الانفصال ما بين الله والإنسان إنما حدث بفعل تأويلات تلغي معاني الرحمة، وتنشر معاني الاستعباد أو ما يسميه الرفاعي "لاهوت الاستعباد" في مقابل "لاهوت الحرية"، ولا أدل على ذلك من مطالبته بـ "إنقاذ صورة الله"، (الرفاعي، ص 18). ما يقصده الرفاعي هو إعادة تأويل صورة الله بعيدًا عن قراءات حرفية مغلقة متصلبة، تجعل علاقة الله بالإنسان علاقة تسلطية صرفه وجافة ومخيفة، كما جاء في عقيدة الجبر أو مفهوم الحاكمية الإلهية للمودودي، وهي أمثلة يوردها الرفاعي كنموذج عن غربة الإنسان عن رحمة الله في اللاهوت القديم. ويتضح موقفه هذا أكثر فيما كتبه بعد ذلك دون تردد في كتاب: الدين والكرامة الإنسانية، إذ يقول: "في لاهوت المتكلمين يغترب الانسان وجوديا عن الله، لأن ذلك اللاهوت يبرع في نحت صورة لله تحاكي علاقة السيد بالعبد المكرسة في مجتمعات الأمس. الله في هذا اللاهوت تسلطي كما الملوك المستبدين، ونمط علاقته بالإنسان كأنها علاقة مالك برقيقه، فهو يمتلك الناس كما يمتلك الأسياد الرقيق، ويمتلك أقدارهم، ويمتلك التصرف بكل شيء في حياتهم. إن الصورة التي صاغها المتكلمون لله في كتاباتهم لا يتجلى فيها شيء من رحمته، بل تظهر قاسية شديدة مخيفة، إذ عمل المتكلم على رسم صورة الخالق بوصفه معاقبا لخلقه عقابا مريرا، ومعذبا لهم عذابا مريعا، ومتسلطا عليهم؛ يراقب كل زلة أو خروج عما فرضته تلك الصورة من أوامر ونواه تتسع لكل صغيرة وكبيرة في حياتهم. وتغلبت صورة الإله المرعب وتغلغلت في آثار المتكلمين، حتى طمست ما يشي بمحبة الله لخلقه، ورحمته، وعفوه، وتوبته، ومغفرته لهم"، (الرفاعي، ص192-193).

إن التفسيرات المغلقة للدين كما يرى الرفاعي أنتجت كل ذلك. نورد هنا ما أشار إليه دايفيد جاسبر في كتابه مقدمة في الهيرمينوطيقا ملمحًا هو الآخر إلى الحدود الرفيعة بين الدين والسياسة، يقول: "هذا يذكرنا بأن الهيرمينوطيقا كانت دائمًا نشاطًا دينيًا وسياسيًا وأنه لا توجد قراءة بريئة من الدوافع المسبقة"، (دايفيد جاسبر، ص 51). وهكذا يتضح ما لتطويع الدين لأغراض السلطة من أثر على معانيه وغاياته وما يترتب عنه من تشويه لفهم الدين نفسه، ولذلك لا تقرأ هيرمينوطيقا اللاهوت بعيدا عن الأبعاد الاجتماعية والسياسية والنفسية في مدارس ما بعد الحداثة.

يبدو كذلك أن أول مهمة لعلم الكلام الجديد هي إعادة وصل الانسان بالله وإعادة تشكيل صورة الله الرحمانية، البعيدة عن صور التجبر والاستعباد التي تهدر كرامة الإنسان وتستلب حريته. يصرح الرفاعي: "في علم الكلام الجديد يعاد اكتشاف صورة الله، وفي ضوء هذه الصورة يعاد بناء صلة الانسان بالله، وهي صلة تتحرر من ركام العبوديات بمختلف أشكالها"، (الرفاعي، ص 95).

لا بد أن نشير هنا إلى جانب آخر مهم في الكتابة الرفاعية، يتخلل كتابه هذا كما في كتبه الأخرى، بوح عرفاني أحيانًا، فهو يتحدث عن العبادة بوصفها حالة "انجذاب حميمي"، (الرفاعي، ص 132) لا تهدر كرامة الانسان ولا تصادرها، وهكذا يمكن للعلاقة بالله أن تُؤَسَّس على المحبة والوصال. إن ما يريده الرفاعي هو "إنسانية إيمانية" بنكهة عرفانية، كما جاء في قوله في صفحات الكتاب الأولى: "أعاد العرفان بناء صورة جميلة لله، كلها إشراق وجمال ومحبة، يلتقي عبر هذه الصورة الانسان مع الله عاجلا، لأن هذه الصورة ألغت المسافة اللامتناهية التي صنعها المتكلمون بين الله والبشر"، (الرفاعي، ص 14). تلك صورة من شأنها أن تحرر الانسان من لاهوت الموت والاكتئاب وتنجيه بلاهوت الحياة.

3- ايقاظ المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي في الدين

لا يكتفي الرفاعي بالمطالبة بإنقاذ صوة الله أو القول ببشرية بُعد تلقي الوحي وأثر الواقع فيه، وإنما يلجأ إلى الدعوة إلى إحياء معاني الرحمة في فهمنا للألوهية وللحاجة للدين كضرورة أنطولوجية. بل يطالب الرفاعي بإيقاظ معاني الدين الأخرى والتي توارت خلف حجاب الاستعباد والتهويل، حيث يردف كتابه "مقدمة في علم الكلام الجديد" بحوار تتبدى فيها رؤيته بوضوح عن المنهج الجديد لعلم الكلام، الرامي إلى الإقرار بالمعاني الروحية والأخلاقية والجمالية للدين، والتي تتجاوز ضيق أُفق المقولات الكلامية. ينطلق الفيلسوف العراقي من إعادة قراءة مفهوم المقدس في لقائه بالدين، مؤكدا أن انتاج المقدس يتسع مع الابتعاد تدريجيا عن لحظة ظهور الدين، مستحضرا أثر المسافة الزمنية في توليد المخيال الديني، ليشخص الرفاعي: "تضخما للمقدس" في الحياة الإسلامية بالتدريج بعد عصر البعثة الشريفة، (الرفاعي، ص 78)، وتغوله على ما هو ديني، علما بأن المقدس يدين بالكثير للحس المشترك عند العامة ولثقافة الحشود. من هنا جاءت الحاجة إلى الفصل بين الدين وما ترتب عنه من أشكال فهم مشوه في التراث؛ قد تكون المسؤولة عمّا لحق الدين اليوم من نفور وتأويلات فاشية كما ألمح إليها الرفاعي. يعرج بعد ذلك الرفاعي للوقوف عند علاقة الدين بالدولة وبالمجتمع، معتبرا إياه حاجة ضرورية للتكامل الوجودي للكائن البشري، وللتضامن الاجتماعي، دون أن يجعل الرفاعي للدين حق التفرد في توجيه وشرعنة ضوابط العيش المشترك؛ ذلك أن الرفاعي مقتنع بأن الدين اليوم خرج كثيرًا عن مجاله بوصفه منبعًا للمعنى الروحي والأخلاقي والجمالي، لذلك فإن الحاجة ملحة إلى إعادة الدين إلى مجاله الأنطولوجي والميتافيزيقي، وإيقاظ معانيه الروحية والأخلاقية والجمالية. ولا يتحقق كل هذا إلا في إطار مشروع فهم جديد وراهن للدين يخلصه من خطايا التفسيرات التاريخية.

4- فهم جديد للنصوص الدينية:

لا يكتمل مشروع علم الكلام الجديد دون الرهان على فهم جديد للنصوص الدينية، خارج إطار ما عهدناه في القراءات الكلامية التقليدية، وما تكرره الاجتهادات المعاصرة على رصانتها وجديتها، اذ لا بد أن ينطلق تجديد التفكير الديني هذا من خطوات هيرمينوطيقية أساسية، تتجلى أولا في اعتبار القارئ هو الإطار الصحيح لقراءة النص؛ هذا القارئ ما هو إلا المتكلم الجديد. لبناء هوية هذا المتكلم الجديد يعرج بنا الرفاعي باتجاه حفريات تاريخية تعود بنا إلى أواخر القرن 18 ومحاولات التجديد الأولى في الفكر الإسلامي.

أقصى الرفاعي كثيرا ممن اعتبرهم عاجزين عن التحرر من سطوة نواميس علم الكلام التقليدي، من أمثال: شبلي النعماني، وطه عبد الرحمن، وغيرهما، (الرفاعي، ص 34) باعتبار أن هؤلاء عجزوا عن التحرر من القراءة الكلاسيكية لعلم الكلام، ويقر للمفكر المغربي طه عبد الرحمن بأنه حمل تجديدًا فيلولجيا لعلم الكلام القديم، واصفا موقفه بـ "التبجيلي لعلم الكلام التقليدي"، (الرفاعي، ص 36). اعتبر الرفاعي أن المتكلم الجديد هو ذاك "الذي يفكر في آفاق عقلانية العصر الحديث، ولا يفتقر للحس التاريخي، ويفهم الوحي فهمًا ديناميكيًا، خارج مفهومه في علم الكلام القديم"، (الرفاعي، ص 36). إنه الهيرمينوطيقي القادر على الجمع بين الحاجة التأويلية والرصانة الإبستيمولوجية، لأنه قادر على ضمان مسافة نقدية مع الماضي. إن شرطًا أساسيًا يستحضره الرفاعي في بناء هوية المتكلم الجديد يتعلق بشرط الإيمان. وهذا ما يؤشر لحضور الذاتية في علم الكلام الجديد، الا أنها ذاتية إيمانية وليست ذاتية انفعالية. لذلك فإن علم الكلام الجديد هو بصدد بناء "هيرمينوطيقا إيمانية" بعيدة عن هيرمينوطيقا الشك، (دايفيد جاسبر، ص24).

نجد في نموذج الفيلسوف الفرنسي بول ريكور مثالا جديًّا عن إمكانية تحقق "هيرمينوطيقا إيمانية" بهمة إبستيمولوجية عالية، بعيدا عن الخطابات الدعوية والتبشيرية أو التشكيكية المتحاملة. وقد يكون من غير الصائب نفي إمكانية قيام هيرمينوطيقا الإيمان في الإسلام وإن كان هذا يتطلب زمانًا طويلاً، ولا يتحقق دون بناء كفاءات تأويلية ومعرفية جادة. لكن إلى أي حد تستطيع الجامعات العربية ومعاهد التعليم الديني - في ظل انغلاق التخصص والقطائع المفتعلة بين الحقول المعرفية - التأسيس لبناء فهم جديد لصورة الله وللوحي وللنبوة وغيرها من القضايا الكلامية المحورية؟

هنا لا بد أن نميز في الفهم الديني بين فهم أكاديمي وفهم لسوق الاعلام. ساحتنا الفكرية تفتقر لمفكري إعلام من أمثال مفكري فرنسا، ميشيل اونفري وغيره، ممن يحررون الإشكالات الوجودية والفلسفية وحتى الدينية من قيود الأكاديمي وحصون المغالاة المعرفية، فيشاركون في هموم اليومي ويخاطبون احتياجات العامة من الناس، وليس في ذلك تبضيع للمعرفة العالِمة، بقدر ما هو تذليل لها حتى تساهم بفاعلية في بناء الوعي العام. هذا الانخراط الجماعي في أسئلة وجودية راهنة من زوايا دينية تأويلية شعبية من شأنه أن يمهد الطريق لقيام تأويلية عالِمة؛ هذا ما نلمسه على الأقل في كتاب الرفاعي "الدين والكرامة الإنسانية" حيث تتجاور في زواج سعيد الفلسفة العالِمة مع قضايا المعاش بلغة لا ترهق الفهم أو تعاند التأويل.

5- الانفتاح على العلوم الإنسانية:

إن علم الكلام الجديد يستدعي أيضا تغيرًا في باراديجمات المنهج والأدوات والأهداف، إذ يفترض الانفتاح على العلوم الإنسانية والمعارف الأخرى، من خلال استحضار آليات هيرمينوطيقية معاصرة، فإلى جانب التوجه الكلامي التقليدي، الذي ينتفض ضده الرفاعي، أشار إلى تيارين آخرين لتفسير الوحي، من شأنهما إلهام علم الكلام الجديد؛ هما: التيار الميتافيزيقي، وتيار آخر تاريخي. التيار التاريخي لا يظهر فيه البُعد الميتافيزيقي للوحي، ويقدم لقراءة جافة عنه، لا تتحدث عن حضور الغيب في الوحي، وعدم حضور الغيب في الوحي يعني افتقاره للمعنى الديني الروحي والأخلاقي. هذا التيار التاريخي يمثله رواد الفلسفة وعلوم الانسان والمجتمع العرب، من أمثال: محمد أركون، ونصر حامد أبو زيد، وحسن حنفي، وعبد المجيد الشرفي، وآخرين (الرفاعي، ص 46). في مقابل هذا التيار هناك تيار آخر يغلب كفة العرفان، من خلال التأكيد على البُعد الغيبي في الوحي، وهو التيار الميتافيزيقي، الذي يمثله: أحمد خان، ومحمد إقبال، وفضل الرحمن، ومحمد مجتهد شبستري، وعبد الكريم سروش، (الرفاعي، ص 46) .

يطالب الرفاعي بالانفتاح على العلوم الحديثة، وعلى اجتهادات رصينة في علم الكلام خارج معاقل علم الكلام القديم، إلا أنه لا يتنكر لأثر البيئة الثقافية، فهو لا يدعو إلى قطيعة تامة مع التراث، لأنه يراها متعذرة، (الرفاعي، ص 88). لا يقتضي التسليم بالهوية الحضارية القطيعة مع مناهج ومعارف العلوم الحديثة، وإنما يقف الرفاعي، كما ألمح لذلك في كتابه، ضد العقل الأيديولوجي المتحيز في المقاربة العلمية. إنه نزوع نحو الموضوعية في البحث الديني من جهة، ونحو راهنية خطاباته من جهة أخرى.

خاتمة

طالما نادى الرفاعي دون انقطاع بضرورة الانتقال نحو تأويلية جديدة تكتشف المعنى في الدين، وتخرجه من مأزق اللازمانية وحرج الأدلجة. إن كتابه هذا، وإن خص مبحث علم الكلام بمخطط التجديد، يظل هو الآخر محاولة رصد لشروط قيام ثورة تأويلية مأمولة منذ عقود. لا يحمل كتاب الرفاعي هذا ادعاءات تجاوز علم الكلام التقليدي كلية، لكنه يوفر أرضية خصبة لمستقبل الاجتهاد الفكري في هيرمينوطيقا الإيمان. إنه بداية الرحلة فقط، و"ما زال أمامنا طريق طويل في رحلتنا، ولكن على الأقل بدأنا وعلينا أن نتقد بمزيج صحي من الإيمان والشك، وبجهوزية أن نفكر بصلابة"، (دايفيد جاسبر، ص 41).

الرفاعي ليس "فيلسوف دعوة" ولا مدعي تنوير، لكنه أقرب إلى مبشر التجديد، مثل سلفه من دعاة التحرر من وزر الماضي الذي لا يمضي، في انتظار ثورة معنى ناعمة تطيح بانسداد الفهم التقليدي. على الرغم من أن الرفاعي قارئ شجاع وجريء إلا أنه كاتب حذر، علينا أن نتذكر خلفيته الإيمانية، وعقله النقدي، وميوله الإنسانية لتوليد رؤية جديدة عن الدين، الكل بنغمة عرفانية للإيمان والمحبة والرحمة الإلهية في الحياة.

يختصر الرفاعي هدف مشروعه باكتشاف المعنى الديني حيثما وجده، إذ يقول: "يتحكم اكتشاف المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي في فهمنا للدين ورسالته في الحياة. هو المبتغى لإعادة بناء علم الكلام، وهو البوصلة في تفسير القرآن الكريم وكل النصوص الدينية، وهو منطلق تعريف الدين، وإدراك حاجة الإنسان إليه، وهو معيار ما نقبله من الموروث"، (الرفاعي، ص 15).

إن الدعوة الى التجديد ما زالت مستمرة منذ ما يقارب القرنين، فمتى ننتقل إلى مرحلة المأسسة وإحداث مراكز بحث متعددة التخصصات، وفق مقاربة تشاركية، وذكاء جماعي يستنفر كلا من: علوم الدين، والفلسفة، والعلوم الإنسانية، والعلوم الدقيقة، بغرض بناء فهم جديد للظاهرة الدينية المركبة؟ متى سندرك أن الفهم لا يتم الا بمشاركة عقول كثيرة وبسواعد متعاونة؟ ألم يحن الأوان بعد للفطام من الماضي؟

***

د. كوثر فاتح

أستاذة فلسفة متخصصة في الهيرمينوطيقا، المغرب.

......................

مراجع

-عبد الجبار الرفاعي، مقدمة في علم الكلام الجديد، الطبعة الأولى، (دار التنوير. بيروت،2021). وصدرت طبعة ثانية مزيدة ومنقحة من الكتاب خريف 2021.

- عبد الجبار الرفاعي، الدين والكرامة الإنسانية، (دار التنوير. بيروت،2021).

- عبد الجبار الرفاعي، " علم الكلام الجديد ووهم التأسيس"، صحيفة الوسط البحرينية،12 ديسمبر ، 2002، شوهد بتاريخ 08-08-2021،في

http://www.alwasatnews.com/news/856156.html

- عبد الجبار الرفاعي، "فضل الرحمن والفهم الرحماني الأخلاقي للقرٍآن"، مؤمنون بلا حدود، 7يوليو 2017، شوهد بتاريخ 03-08-2021، في

https://www.mominoun.com/articles/%D9%81%D8%B6%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AD%D9%85%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%87%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AD%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%82%D9%8A-%D9%84%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86-5195

اطلع عليه بتاريخ   03-08-2021

- عبدالجبار،الرفاعي، المسألة الدينية عند الوردي: رؤية نقدية، ورقة في مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية السنوي – دورة علي الوردي، سنة 2021.

- دافييد جاسبر، مقدمة في الهيرمينوطيقا. ترجمة وجيه قانصو، (الدار العربية للنشر والعلوم. بيروت،2017)

-  أبو نصر الفارابي، إحصاء العلوم، (مركز الإنماء القومي.   بيروت.  1991)، ص 41

- حسن حنفي، الدين والثورة في مصر الحركات الدينية المعاصرة 1952 -1981، (مكتبة مدبولي. القاهرة مصر1988)

-شبلي النعماني، علم الكلام الجديد، الطبعة الأولى، ترجمة جلال السعيد الحفناوي (المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2012). ص 181

- معاذ بني عامر، "الظمأ الابستيمولوجي في كتاب "الدين والظمأ الانطولوجي " "، مؤمنون بلا حدود، 3فبراير 2016، شوهد بتاريخ 22-07-2021، في

https://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%B8%D9%85%D8%A3-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%A8%D8%B3%D8%AA%D9%85%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B8%D9%85%D8%A3-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%86%D8%B7%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A-3613

- زبيدة الطيب ، " علم الكلام في فكر عبد الجبار الرفاعي... أي غاية؟"،مركز نماء للبحوث و الدراسات ، 09 August، 2019 ، شوهد بتاريخ 08-08-2021، في:

https://nama -center.com/Uploads/Files/%D8%B9%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%81%D9%8A%D9%81%D9%83%D8%B1%D8%B9%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%81%D8%A7%D8%B9%D9%8A.pdf

-  سيد عبد الماجد الغوري، "الامام شاه ولي الله الدهلوي وجهوده في القران الكريم تفسيرًا وترجمة وتأصيلًا"، وحدة الامة العدد السابع، الهند ،دجنبر 2016، شوهد بتاريخ 07-08-2021،في

https://www.researchgate.net/publication/336915599_alamam_shah_wly_allh_aldihlwy_wjhwdh_fy_alqran_alkrym_tfsyraa_wtrjmta_wtasylaa

-معراج الدين الندوي،" السير سيد أحمد خان وجهوده الإصلاحية في القارة الهندية (1817 – 1898م)"، شبكة ضياء، 13 نوفمبر، 2015، شوهد بتاريخ 17-08-2021، في

https://diae.net/21071/

-رائد نصري أبو مؤنس، "تيار سيد أحمد خان وآراءه التجديدية في أصول الفقه دراسة أصولية نقدية"، (مجلة الجامعة الإسلامية للدراسات الشريعة والقانونية. العدد28. غزة. فلسطين، 2019)، شوهد بتاريخ 6-08-2021، في:

https://journals.iugaza.edu.ps/index.php/IUGJSLS/article/view/4995

-عبد السلام بن عبد العالي، "الحداثة ومسألة القطيعة" مؤمنون بلا حدود، 10يونيو 2020، شوهد بتاريخ 03-09-2021، في

https://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D8%A7%D8%AB%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%B3%D8%A3%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B7%D9%8A%D8%B9%D8%A9-665

*نشير هنا الى أنه اثناء كتابة هذا المقال صدرت الطبعة الثانية لكتاب مقدمة في علم الكلام الجديد للرفاعي لذلك فإن ترقيم الصفحات قد يختلف في الطبعة الثانية.

.........................

نورد هنا ملحقاً يوضح توجه الرفاعي في بناء علم الكلام الجديد، كما ورد في الطبعة الثانية في بغداد.

ملحق رقم (1)

أركان علم الكلام الجديد عند عبد الجبار الرفاعي، (علم الكلام الجديد، ط 2، 2021، بغداد).

علمُ الكلام الجديد برأيي علمٌ يقوم على الفهم الجديد للوحي، وهو يمثل الأساس الذي تقوم عليه عدةُ أركان، إن تحقّقت يتحقّق، وإن انتفت ينتفي. وكلُّ كتابة لا تتضمّن هذا الأساس، وما يتفرّع عنه من أركان لا أصنّفها كلامًا جديدًا. وهذه الأركان تتمثّل في الآتي:

1. الأساسُ الذي تبتني عليه وتتفرع عنه الأركانُ الآتية يتمثل في أن علمَ الكلام الجديد يُفسِّر الوحي تفسيرًا ديناميكيًا، بمعنى أنه لا يرى النبي منفعلًا سلبيًا حالة الوحي، كما يرى علمُ الكلام القديم الذي يفسّر تلقّي النبي للوحي، وكأنه قناةٌ تمرّ من خلالها كلمةُ الله للناس، من دون أن يكون النبي متفاعلًا معها ومتأثّرًا ومؤثّرًا فيها. للوحي في الكلام الجديد بُعدان إلهي وبشري، البشري تعكسه شخصيةُ النبي والواقعُ الذي كان يعيش فيه. نكتشفُ منابعَ تفسير الوحي في آثار العرفاء، مثل محيي الدين بن عربي وغيره، وظهرت إشاراتٌ له مجدّدًا في آثار وليّ الله الدهلوي (1703-1762)، واستأنفه أحمد خان (1816-1898) بتفصيل وصياغة أوسع، وأعاد بناءَه محمد إقبال (1877-1938)، وفضل الرحمن (1919-1988)، وطوّره بعضُ المفكّرين الإيرانيين والعرب في نصف القرن الأخير.

2. الإنسان بطبيعته ينفر ممن يخاف منه، ولا يحاول الاقتراب إليه. علم الكلام القديم رسم صورةً مخيفة لله، وفي سياقها تشكّلت علاقةُ المسلم بالله. علم الكلام الجديد ينشد إعادةَ رسم هذه الصورة بشكل يجعل صلةَ المسلم بالله لا خوفَ فيها، صلة مشبعة بالسلام الروحي. في ضوء هذه الصورة يعيد الكلامُ الجديد بناءَ هذه العلاقة، فينقلها من علاقة مسكونة بالخوف إلى صلة تتوطّن مقامَ المحبة.

3. تتحدثُ الآيةُ 54 من سورة المائدة عن بناءِ صلةٍ بالله تتأسسُ على المحبّةِ المُتبادلَة: "يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ". ترسمُ الآيةُ صورةً تفاعلية للصلة بالله، ثنائيةُ الاتجاه لا أُحادية، من الله إلى الإنسان ومن الإنسان إلى الله. يبدأ اللهُ الإنسانَ بالحُبّ، فيتفاعل معه ويبادله الإنسانُ الحُبّ. الصلةُ في الآية ليست عموديةً تسلطية باتجاه واحد، الحُبُّ فيها مُتبادَل، لا تتحدثُ الآيةُ عن الله بوصفه فاعلًا وعن الإنسان بوصفه منفعلًا سلبيًا في الحُبّ. عندما يفيض اللهُ الحُبَّ على عباده يتخذ الحُبُّ قلوبَهم موطنًا له، يهدأ قلقُهم الوجودي، ويعيشون سلامًا باطنيًا، وتنشرح صدورُهم بالاستنارة الروحية. الاستنارةُ الروحية أجملُ ما منحته الأديانُ لحياة الإنسان، في الإسلام كانت الاستنارةُ الروحية منبعًا مُلهمًا لتحويل الصلة بالله من علاقة مسكونة بالخوف والرعب إلى صلة مشبعة بسكينة الروح وطمأنينة القلب.

4. ينشدُ علمُ الكلام الجديد إيقاظَ المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي في الدين، بما يتواءم وحاجةَ حياة الإنسان للمعنى الديني في زماننا، ويسعى لاكتشاف القيم الكونية المشتركة في الإسلام مع الأديان الأخرى، ويعمل على الكفِّ عن إخراج الدين عن مجاله، ومصادرته لكل شيء في الحياة، وزجِّه في مجالاتٍ تُجْهِض المعنى الذي ينشدُه.

5. لا يُعرِّف الكلامُ الجديد الدينَ بوصفه يتسع لكلِّ شيء في الحياة، ويكونُ بديلًا للعقل والعلوم والمعارف والتجربة وتراكم الخبرة البشرية، كما يُعرِّف الدينَ بذلك أكثرُ الذين ينطلقون من تفسير علم الكلام القديم للوحي والنبوة. في ضوء تعريف الوحي في علم الكلام الجديد يُعادُ تعريفُ النبوة، ويُعادُ تعريفُ الدين، بالشكل الذي يكونُ الدينُ منبعًا لما يثري حياةَ الإنسان بالمعنى الذي يتطلبه وجودُه، ويعزّزُ الأملَ والرؤيةَ المتفائلة للعالَم، ويوقظُ الحوافزَ الخيرية لدى الإنسان ويغذّيها باستمرار، ويكونُ الدينُ عنصرًا فاعلًا في بناء الإرادة وترسيخها، ورفدها بكلِّ ما يكرّس الشخصية ويجعلها صبورة صلبة لا تنكسر عند مواجهة التحديات الصعبة في الحياة.

6. لا يتحقّق علمُ الكلام الجديد من دون تعدّدِ قراءات القرآن الكريم، وإعادةِ تفسير كلام الله، وتنوعِّ فهم النصوص الدينية تبعًا لتنوع الأزمان وتعدّد الأحوال، وإعادةِ تفسير آيات القرآن في ضوء حاجة الإنسان للمعنى الروحي والأخلاقي والجمالي الذي يتطلبه العيشُ في عالَم يتسارع فيه إيقاعُ المتغيرات، وتتفاقم فيه كلُّ يوم مختلف المشكلات. يقول محيي الدين بن عربي: "كلامُ اللهِ اذا نزلَ بلسانِ قومٍ فاختلفَ أهلُ ذلك اللسان بالفهمِ عن اللهِ ما أراده بتلك الكلمة أو الكلمات مع اختلاف مدلولاتها، فكلُّ واحدٍ منهم وإن اختلفوا فقد فهمَ عن اللهِ ما أراده، فإنه عالِمٌ بجميع الوجوه تعالى، وما من وجهٍ إلا وهو مقصودٌ لله تعالى بالنسبة إلى هذا الشخص المعين، مالم يخرجُ من اللسان، فإن خرجَ فلا فهمَ ولا عِلْمَ"، (ابن عربي، الفتوحات المكية،باب 418، ج 7، ص 36، 1999، دار الكتب العلمية، بيروت).

7. يُفكِّر علمُ الكلام الجديد في آفاق العقل ومعطيات الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع والتأويل الحديثة، لأن تجديدَ علوم الدين وإعادةَ بناء علم الكلام يتكفّله تجديدُ علوم الدنيا، فكلّما تطورت علومُ الدنيا وتجدّدت تطورت علومُ الدين وتجدّدت تبعًا لها. المناهجُ وأدواتُ النظر الموروثة في فهم الدين وتفسير نصوصه لا تُنتِج إلا المعنى الديني الذي تكرر إنتاجه من قبل، لذلك لا يمكن أن نترقبَ إنتاجَ علم كلام جديد عبر تكرار استعمالها والتفكير في فضائها.

..........................

المشاركة رقم: (14) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي

 

دراسة في دور "القرشية" وآثارها العميقة في تاريخ الإسلام

 يشهد تاريخ الرسالات والأديان السماوية - بل تاريخ كل الأفكار الإصلاحية - أن محتوى هذه الرسالات، عقائدها، قيمها، تعاليمها يبدأ كما أراده الله نقياً صافياً يخاطب الفطرة ويعالج مقتضياتها ثم يأخذ صفاء هذه الرسالة بالاعتكار ونقاؤها بالتغير، فينحرف مسارها عن الطريق الذي أراده الله إلى حيث أدت له عوامل الانحراف وأسبابه.

 وليس هذا عيباً في الرسالة أو الفكرة - مالم تكن مجانبة للفطرة أو بعيدة عن مقتضيات الإنسانية وحاجاتها – بل العيب في الإنسان الذي تلقى هذه الرسالة ولم يرتفع إلى حيث أرادت له الارتفاع مع توفر إمكانات السمو لديه ووجود أدوات التجاوز عنده، توفرها في قوة الفكرة ونصاعة القيم، ووجودها في استعداد الإنسان اللانهائي على التفاعل مع الرسالة والعطاء بلا حدود.

 العيب في الإنسان الذي يعبر بأهوائه وغرائزه والتصاقه بالأرض، عن النقص بأجلى صوره. والعيب في الإنسان الذي لم يستطع ان يداني المثال الممكن أو يمازج المطلق القريب، فالرسالة بقيمها وأفكارها ليست صورة بعيدة عن التناول او أنموذجاً يتغنى – وحسب - بجمال معناه وسمو أفكاره. بل الرسالة أفكار للعمل وقيم للحياة. والرسالة قيمة يؤمن بها عقل المؤمن، ويحنو عليها قلبه، وتمازجها جوارحه في الحياة سلوكاً وممارسة.

 وهكذا كان تاريخ الإنسان في علاقته برسالات الله، استعداداً لتلقي الرسالة وحملها أول الأمر، ثم ضعفاً عن هذا الحمل ونوءاً بثقل الأمانة.

 فالمسيحية تحولت من ديانة توحيدية مجردة إلى ديانة مليئة بالرموز والطلاسم، واليهودية كذلك تحولت من رسالة ذات أهداف إنسانية إلى ديانة قومية تستأثر برحمة الله كلها لليهود وتضن بها على الآخرين.

 وأما الإسلام فبالرغم من أن صورته العقائدية بقيت بشكل عام سليمة من الأذى، وظلت صورة العبادات فيه كذلك على حالها دون أن يطرأ عليها تغيير أساسي، كما أن القرآن الكريم بقي بحفظ الله مصوناً من التحريف وبعيداً عن العبث الذي طال الكتب السابقة، فإن تحدياً أساسياً واجه هذه الرسالة في مرحلة التطبيق وتحكيم القيم الجديدة. وهو نوع من التحدي ينبثق من خصوصية الرسالة الإسلامية وطبيعتها الشمولية. فالإسلام ليس عقيدة تستقر في ضمير المؤمن وتضم الى جانبها وصايا أخلاقية تنظم السلوك الفردي فحسب، بل هو عقيدة وأخلاق ينبثق عنهما تشريع يعالج مختلف شؤون الحياة. تشريع يستتبع وجود جهاز لتنفيذ أحكامه وبنوده، ومن هنا جاء التحدي الأكبر للرسالة.

 ومع اعترافنا بالدور الهام الذي لعبته التيارات الفكرية والخصوصيات الثقافية للأمم والأعراق التي اشتملت عليها الأمة الإسلامية، أو تلك التي احتكت بها الأمة عن بعد في الابتعاد بصورة الإسلام عن بساطته الأولى وإضافة ما لا ينبغي من الألوان والظلال لهذه الصورة. فنحن نرى أن التصور المطروح يومذاك لقضية الإمامة والمقاييس التي اعتمدت في تحكيم هذا المفهوم وتطبيقه في الحياة كانت السبب الأكبر لكل ما ابتليت به الأمة بعدُ من مظاهر الانحراف والابتعاد عن قيم الإسلام وينابيعه الصافية. فالذي يملك زمام الحكم يملك إلى حد بعيد القدرة على تطويع كل شي، تطويع العقول والقلوب، وصياغة الأفكار، والعقائد، والقيم.

 ولا نريد أن نستبق النتائج ونصدم القارئ الكريم بهذه الطريقة المباشرة في البحث، بل أردنا الإشارة إلى حقيقة اجتماعية يمكن رصدها بتتبع تاريخ العقائد والأفكار وملاحظة تطورها والتحولات التي طرأت عليها. فهذه العقائد لم يحمل أمانتها ملائكة مجردون إلا من الإخلاص، بل تحمل مسؤولية أخذها والعمل بها بشر عاديون لهم حاجاتهم وأهواؤهم وطموحاتهم، وقد أضاف هؤلاء من أفكارهم وظروف عصرهم ومقتضيات بيئتهم ما حوّل الرسالة - على المدى البعيد - إلى شيء مختلف، قليلاً او كثيراً، عن الأصل او الصورة الحقيقية لهذه الرسالة.

 والرسالة الإسلامية ليست بدعاً من الرسالات ولا استثناءً منها في هذا السياق، وإذا كان هناك من فارق بينها وبين غيرها فهو في الخصوصية التي أشرنا إليها، وكذا في خصوصية المجتمع الذي تحمل بدءاً مسؤولية هذه الرسالة وحملها إلى الآخرين.

حملة الرسالة

 أنزل الله تعالى كتابه على نبيه وأمره بتبليغه الناس ودعوتهم إلى الإسلام، ولم يكن الناس المخاطبون يومئذ إلا عرباً يعيشون ما عاشه العرب مذ عرفوا الاجتماع من قيم وأخلاق وسنن وأنماط في التعامل والنظر إلى قضايا المجتمع وشؤون إدارته.

 كما لم يكن المخاطبون أول الأمر سوى أهل مكة والمحيطين بالحرم، والمكونين من بطون قريش الاثني عشر وهؤلاء هم عمار بيت الله والمجاورون لحرمه، وهذه ميزة نالوا بها احترام الناس من حولهم والسيادة عليهم كما اكتسبوا بها احتياج الناس لهم وقصدهم إياهم، فمكة لم تكن يوم ذاك مجرد مكان يحتضن الكعبة ويقصده العربي للحج والطواف وحسب، بل كانت سوقاً اقتصادية يؤمّها ذوو الحاجات والتجار في مواسم الحج وغيرها، كما كانت سوقاً ثقافية ومكاناً تحل فيه قبائل العرب مشاكلها وتسوي خلافاتها.

 وقد هيأ هذان العاملان، وهما: عمق تأثير التقاليد القبلية التي تذهب إلى تبني الحكم الوراثي، وترى الحكم والإدارة شأنها شأن المال وغيره، يورث للأبناء وذوي القربى. ونظرة القداسة والاحترام التي حظي بها أهل مكة من جانب العرب الآخرين، هيئا لقبيلة قريش دوراً متعاظماً في تاريخ الرسالة الإسلامية منذ بزوغ فجرها ومنحاها امتيازاً خاصاً في تشكيل الإطار السياسي لهذه الرسالة ومن ثم تحديد مسارها.

 ويمكن ملاحظة هذا الدور وانعكاسه بوضوح في أدبيات النظرية السياسية وحيثيات الفكر السياسي لتلك الفترة، فقد تحولت (القرشية) من خلال هذا الفكر إلى امتياز يعطي لصاحبه حقاً إضافياً يميزه عن الآخرين ويتفوق به عليهم. وهذا الحق هو أهلية القرشي دون سواه من المسلمين للخلافة وتسنم منصب الإمامة.

 والحقيقة ان اصطلاح (الأهلية) قد لا يكون معبراً بدقة عن حقيقة الدوافع في طرح مفهوم القرشية وإبرازه كمفردة ذات قيمة موضوعية محددة في قاموس الفكر السياسي بقدر ما يعبر عن الاتجاه التبريري في منهج هذا الفكر وسعيه لإضفاء الشرعية على واقع يراه مقدساً ويرى مواقف رجاله وأفعالهم حجة على أبناء الرسالة جيلاً بعد جيل.

 ولم يكتف هذا الفكر بتوفير الغطاء الشرعي لتقرير أهلية القرشي وحده لمنصب الخلافة، ولم يقف عند طرح الأحاديث والمناسبات التي تبين هذه الأهلية وتفرض على الأمة القبول بها. بل تخطى ذلك إلى الإمعان في إبراز مفهوم القرشية والتأكيد عليه بحيث كاد هذا المفهوم أن يتحول إلى معادل لمفهوم الإيمان من بعض النواحي. ونستطيع أن نفهم ملامح هذا الاتجاه من خلال بعض الأحاديث التي تعطي امتيازاً دينياً خاصاً للقرشي. ولعل أوضح مصداق على هذه الحقيقة ما اشتهر على الألسن من أحاديث التبشير بالجنة. فقد تحدثت هذه الروايات عن أنّ

رسول الله (ص) بشّر مجموعة من أصحابه (وعددهم عشرة) بدخول الجنة. وهؤلاء الصحابة المبشرون جميعهم من قريش وليس فيهم أحد من الأنصار أو من المهاجرين من غير قريش. وهو أمر لافت للنظر، فبعض المبشرين بالجنة ليسوا أفضل حالاً من عدد من المهاجرين من غير قريش، كما أنهم ليسوا أفضل حالاً من عدد كثير من الأنصار ممن آووا ونصروا وكان لهم تقدم على هذا البعض في السابقة والجهاد ونفاذ البصيرة وحسن الرأي.

 ومع أن هذا الأمر لا يتنافى عقلاً مع أصل فكرة التبشير لهؤلاء العشرة بالجنة، إلا أن كون هؤلاء المبشرين جميعاً من قريش يعد من (المصادفات) التي لا يجود واقع الحياة بها كثيراً والتي لا يمكن المرور عليها دون الوقوف على خلفياتها وما تستبطنه من دلالات وإشارات، خصوصاً إذا عرفنا أن نصف هؤلاء المبشرين كانوا أبطالاً لأخطر الأحداث وأكثرها عنفاً في تاريخ الإسلام بل أشدها تأثيراً في مساره وتداعيات فصوله، الأمر الذي يجعل وضعهم جميعاً في مستوى واحد من الإيمان بالرسالة والوفاء لمبادئها هو من قبيل الجمع بين الشيء ونقيضه، ويصور الويلات التي حلت بساحة الإسلام والكوارث التي جرّها بعض هؤلاء المبشرين على الأمة وكأنها مزحة لا يترتب على القيام بها أي مسؤولية أمام الله، وَلِمَ المسؤولية مادام أعداء اليوم إخواناً على سرر متقابلين غداً؟!!

 وتأسيساً على ما تقدم يمكننا الزعم ان فكرة عصمة الصحابة (من الناحية العملية) والحكم ببراءتهم جميعاً، وعدم جواز اتهام اي منهم او تحميله مسؤولية ما وقع من الأخطاء والتجاوزات على الرسالة وقيمها هو في الحقيقة تعبير مُمّوه عن هذا المفهوم (حصانة القرشي). فالصحابة الذين أحيطوا بهذا السياج المحكم من القداسة والاحترام لم يكونوا (في الغالب) ألا أولئك الذين يمكن أن يرد عليهم نقد أو اتهام بسبب دورهم في الأحداث التي أشرنا إليها، وفي غيرها مما يتصل بشؤون الحكم وأموره. ولم يكن هؤلاء الصحابة ذوو الحصانة سوى رجال من قريش كانوا يمارسون (حقهم) في ميراث رسول الله ويطالبون بنصيبهم من سلطانه!

 إنّ هذا التباين بين صورة الصحابي القرشي المصون وبين الأحداث والتجاوزات التي ارتكبت في سلطان هؤلاء أو في سعيهم للوصول إلى السلطان من ظلم وتجاوز لتعاليم الرسالة وقيمها، وسفك للدماء أظهر الحاجة لافتراض عناصر ومؤثرات ومخارج تنأى بهذه الصورة عن الظنة والاتهام وتبقيها عند مستوى العصمة العملية. وقد تهيأت هذه المخارج في عنصرين:

الأول: عنصر التأويل. فالصحابة الذين تصدوا لخوض تلك الأحداث وما يتصل بها من ممارسات وتصرفات كانوا متأولين مجتهدين، وهم مأجورون على اجتهادهم سواء كانوا مصيبين فيما شجر بينهم أم مخطئين.

الثاني: العنصر الخارجي. فما وقع بين الصحابة لم يكن نتيجة لانحراف عن الإسلام أو استهتار بقيمه وتعاليمه، وإنما كان نتيجة لدسيسة عناصر من خارج مجتمع الصحابة وتحريض هذه العناصر وإيقاعها بين الصحابة. ويرد في هذا السياق اسم عبد الله بن سبأ كعنصر خارجي لابد من وجوده لتحميله مسؤولية الأحداث الدامية التي وقعت بين المسلمين.

 ولا باس ان نشير هنا إلى ما قاله ابن خلدون في هذا الصدد وهو يلقي ضوءاً فاحصاً على هذين العنصرين ويدفع عن قريش ومن تابعها مسؤولية إيقاد الفتنة وما نجم عنها. قال عن العنصر الأول: (والأمر الثالث شان الحروب الواقعة في الإسلام بين الصحابة والتابعين فاعلم أن اختلافهم إنما يقع في الأمور الدينية وينشا عن الاجتهاد في الأدلة الصحيحة والمدارك المعتبرة، والمجتهدون اذا اختلفوا، فإن قلنا إنّ الحق في المسائل الاجتهادية واحد من الطرفين، ومن لم يصادفه فهو مخطئ، فإن جهته لا تتعين بإجماع، فيبقى الكل على احتمال الإصابة ولا يتعين المخطئ منهما والتأثيم مدفوع عن الكل إجماعاً. وإن قلنا إنّ الكل حق وإنّ كل مجتهد مصيب فأحرى بنفي الخطأ والتأثيم. وغاية الخلاف الذي بين الصحابة والتابعين أنّه خلاف اجتهادي في مسائل دينية ظنية وهذا حكمه)[1]. وقال عن العنصر الثاني:

 ... مثل قبائل بكر بن وائل وعبد القيس بن ربيعة وقبائل كندة والأزد من اليمن وتميم وقيس من مضر، فصاروا إلى الغض من قريش والأنفة عليهم والتمريض في طاعتهم والتعلل في ذلك بالتظلم منهم والاستعداء عليهم والطعن فيهم بالعجز عن السوية والعدل في القسم عن السوية وفشت المقالة بذلك وانتهت إلى المدينة وهم من علمت، فأعظموه وأبلغوه عثمان فبعث الى الأمصار من يكشف له الخبر[2].

 وواضح أنّ ابن خلدون هنا يلقي مسؤولية الفتنة على القبائل التي تنفس على قريش سلطانها وتدعو إلى الانتقاص من هذا السلطان، وهو يجري في هذا التفسير وفقا لنظريته في العصبية كما ستأتي الإشارة أليه.

 وأما الذين أوردوا اسم عبد الله بن سبأ سبباً لما وقع من الأحداث بدءاً من التململ على عثمان والإنكار عليه وانتهاء بمقتله وما أعقبه من أحداث، فأنهم حققوا بهذا الافتراض غاية مزدوجة، فهم من ناحية أبعدوا المسؤولية عن قريش، بل عن مضر كلها حين افترضوا لهذا الرجل أصلاً من اليمن ومنحوه اسماً يوحي بهذا الأصل. ومن ناحية أخرى طبعوا الاتجاه المعارض

لــ (أصحاب الحق) في السلطان بطابع المؤامرة والكيد، وهي الصفة التي حرص كثير من المؤرخين على إشاعتها من خلال اتهام المنقضّين على حكومة عثمان بالسبئية، والذين كانوا يمثلون جزءاً رئيسياً من جيش عليّ، وهذا يعني تمهيد الأرضية لاتهام حملة الراية العلوية مستقبلاً بانتمائهم إلى جذور السبئية المتآمرة على الإسلام!

الإسلام والواقع القبلي

 هدف الرسالة الإسلامية – ككل الرسالات السماوية – هو تربية الإنسان ووضعه على طريق الهداية والتكامل، وقد سعى الإسلام لتحقيق هذا الهدف من خلال تغيير الواقع الاجتماعي المنحرف وإزالة القيم والمواضعات الأخلاقية وهدم كل المؤسسات والبنى التي يستند اليها ذلك الواقع، ومن ثم إحلال قيم وأسس جديدة لبناء واقع إنساني جديد في علاقاته ونظرته للحياة.

 جاء الإسلام والمجتمع العربي مقسم إلى مجموعة قبائل لا يضمها نظام سياسي قوي ولا يجمعها سلطان موحد. وتمثل مجتمعات يثرب ومكة والطائف وحدها – ربما – استثناء في درجة التنظيم الاجتماعي وشكل الإدارة النافذة فيها. فالأول مجتمع زراعي نال درجة من الاستقرار من خلال الارتباط بالأرض، وحقق نزوعاً متقدماً – نسبياً – لإنشاء نوع من الحكم السياسي الموحد، فرغم الصراعات العنيفة والدامية بين الأوس والخزرج كان هناك اتجاه لتتويج شخص يكون ملكاً على يثرب كلها قبل ظهور الإسلام وهجرة النبي إليها، وتذكر كتب التاريخ أنّ عبد الله بن أُبَيّ كان أحد المرشحين لتولي هذا المنصب.

 والمجتمع المكي حظي أيضاً بمثل هذا التنظيم، فاستقرار هذا المجتمع في حمى بيت الله وانشغال أبنائه في مهنة التجارة التي تتطلب درجة عالية من الذكاء الاجتماعي وخبرة خاصة في العلاقات العامة حفزه على إيجاد نوع من التنظيم الإداري المتوازن بين فروع قريش وبطونها الاثني عشر، وقد كانت دار الندوة هي التعبير المؤسساتي لهذا التنظيم، حيث كانت مكاناً تناقش فيه الأمور التي تهم مجتمع قريش وتتخذ فيه القرارات اللازمة.

 كما لم يكن مجتمع الطائف بطبيعته الزراعية – التجارية بعيداً عن هذا الشكل الإداري المتطور قياساً بما كانت عليه غالبية الجزيرة العربية.

 غير ان هذه المظاهر الإدارية المتقدمة نوعاً لم تستطع أن تؤثر – على الإطلاق – على الروح القبلية لهذه المجتمعات، بل لم تكن هذه المظاهر سوى إجراءات اقتضتها طبيعة الاستقرار الجغرافي والعلاقة بالأرض. وأما القيم والعادات السائدة فيها فلم تتغير قط، وبقي الطابع القبلي هو الحاكم في هذه المجتمعات، فلا تجد فرقاً بينها – في هذا الأمر – وبين العرب الرحل الذين كانوا يمتهنون الرعي والحرب وسيلتين لكسب الرزق.

 ان أبرز ما كان يفرضه الانتماء القبلي على الناس يومذاك هو قوة الشعور بهذا الانتماء وتقديم رابطة الدم التي تربط بين أفراد القبيلة كلهم على ما سواها من الروابط والعلاقات.

 وهذا الشعور أملته ظروف الحياة القاسية واستدعته الحاجة إلى التكتل في مواجهة الإخطار التي كانت تهدد حياة الناس. وقد كان الاحتماء بهذا النوع من الرابطة الحسية تعبيراً عن حالة غريزية يلجأ إليها الناس عادة في أطوار حياتهم البدائية وقبل ان ينجحوا في إيجاد علاقة بينهم تقوم على أسس قيمية وأخلاقية.

 هذه العلاقة بلغت من القوة والرسوخ لدى عرب الجاهلية بحيث تحولت القبيلة بمصالحها مقياساً للحق والباطل، فليس للحق مفهوم مجرد، بل الحق هو ما حقق فائدة للقبيلة وكان فيه نفع لأبنائها. ومن هنا كانت فكرة وقوف أبناء القبيلة إلى جانب بعضهم في الشدائد والمحن وفي مواجهة الآخرين، بقطع النظر – في أكثر الأحيان – عما إذا كان المُنتَصَر له مُحقّاً في موقفه أم غير محق ظالماً كان أم مظلوماً.

 الإسلام سعى إلى استثمار هذه الحالة استثماراً إيجابياً تصب عوائده في صالح الرسالة ويدفع عنها الأخطار التي كانت تهدد وجودها. فاللحمة القبلية والتماسك بين أفراد القبيلة والذي تحول لدى عرب الجاهلية إلى قيمة أخلاقية تستحق التضحية وتحمل الشدائد كان هدفاً للتوظيف من جانب الرسالة.

 فبنو هاشم الذين ينتسب رسول الله (ص) إليهم والذين يمثلون فرعاً لأقوى بطون قريش، بطن بني عبد مناف لهم من القوة والمنعة، والمكانة المعنوية ما يجعلهم ظهيراً قوياً لرسول الله في مواجهة قريش بصرف النظر عن إيمان هؤلاء برسالة النبي او عدم إيمانهم بها، فالعرف القبلي وحس القرابة ورابطة الدم كلها تفرض عليهم مثل هذا الوقوف وتحمل نتائجه. لهذا أمر الله تعالى نبيه بالانفتاح على عشيرته الأقربين أولاً ودعوتهم إلى الإسلام، ليكونوا له ظهيراً وسنداً في توسيع قاعدة الدعوة ومخاطبة الآخرين بها.

 يحدثنا التاريخ أن رسول الله دعا بعد نزول قوله تعالى {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}[3] قومه إلى وليمة وأمر عليّاً بتهيئة طعام يكفي أربعين رجلاً كلهم من بني عبد المطلب. وفي هذه الوليمة خاطبهم رسول الله ودعاهم إلى الإسلام ونبذ عبادة الأوثان، كما دعاهم الى المؤازرة والنصرة وتحمل عبء الدعوة وما يكتنف طريقها من الصعاب. ومع أن أحداً منهم – باستثناء عليّ – لم يُجِبْهُ بشكل صريح ومباشر إلى ما دعاهم له، فإن أحداً منهم أيضاً – باستثناء أبي لهب – لم يقف من هذه الدعوة موقف العناد والعداء، وقد كان لهذا الموقف أثره البالغ على مستقبل الرسالة وحرية رسول الله في الحركة والدعوة إلى الله، فقد أُحيط النبي منذ ذلك الإعلان بالرعاية والحماية من قبل عشيرته وأهله الأدنين، مع أن عدداً من هؤلاء لم يكونوا قد آمنوا بالإسلام بعد. وقد سجل التاريخ مواقف كثيرة لبني هاشم في هذا الصدد نذكر منها موقفين اثنين:

 الأول: بعد أن يئست قريش من التأثير على أبي طالب ليمنع رسول الله من الاستمرار في سب آلهتها والمضي قدماً في دعوته، قررت فرض المقاطعة بكل أشكالها على بني هاشم، وقد اختار هؤلاء جميعاً مؤمنهم وكافرهم – حاشا أبي لهب فانه كان مع قريش على قومه –[4] الذهاب إلى الشِعب وتحمل أعباء المقاطعة يقدمهم شيخهم أبو طالب، معبرين في هذا الموقف عن تضامنهم مع رسول الله وقرارهم في الوقوف إلى جانبه.

 الثاني: حين آمن عدد من أهل يثرب من الأوس والخزرج بالإسلام وبايعوا رسول الله في العقبة على ان يمنعوه ان هو قدم إليهم مما يمنعون أنفسهم وأهليهم وأموالهم كان المتحدث عن رسول الله (ص) في هذا الموقف الخطير هو عمه العباس بن عبد المطلب الذي لم يكن أعلن إسلامه في ذلك الوقت. وقد اخذ هو نفسه على المبايعين العهود والمواثيق على الوفاء ببيعتهم وما ألزموا به أنفسهم.

 إن هذين الموقفين وأمثالهما كثير من قبل عصبة النبي وأهله الأقربين تبين بوضوح قوة رابطة القرابة وعمق تأثيرها في ذلك المجتمع بحيث طغت على رابطة الدين السائد يومذاك، كما تبين من جهة أخرى إفادة الإسلام من هذا الظرف واستثماره لخدمة الرسالة وقيمها، من دون ان يعني ذلك إقراراً بواقع يتنافى مع هذه القيم او مساومة على حساب المبادئ. فالإيمان بالله قبل القرابة والعشيرة وهو يلغيهما ان تعارضتا معه. ولا يسعنا هنا ذكر ما جاء به القران الكريم او صدر عن الرسول الأمين في التأكيد على قيم الإيمان والإخوة المستندة إليه في نسيج مجتمع الرسالة، وكذا التحذير من الوقوع في حبائل الجاهلية وكبرها المقيت.

 ولكننا نشير فقط إلى ان مفهوم الأهل والقرابة والعشيرة صار ينظر إليه في المجتمع الجديد باعتباره نوعاً من صلة الرحم التي دعا إليها الإسلام وأكد عليها بإلحاح والتي تعني التعبير الايجابي عن حالة عاطفية غريزية من غير تجاوز على حقوق الآخرين او بخس لأشيائهم.

 هذه هي نظرة الإسلام للحالة القبلية وطريقته في التعامل معها، فكيف اتجه التعامل بعد رحيل رسول الله وانتقاله إلى الرفيق الأعلى؟ هل اكتسح مفهوم الإيمان والعمل الصالح مفاهيم العشيرة وأولي القربى حين يفرض عليهما ان يكونا في مواجهة بعضهما؟ ام ان مفاهيم الإيمان والسابقة والجهاد تراجعت أمام قيم تجذرت في أعماق مجتمع الرسالة فكانت الغلبة في النتيجة لقيم الجاهلية على قيم الإسلام؟!

 مهاجرون فقط ام قرشيون مهاجرون؟

 لنعد إلى يوم رحل فيه رسول الله (ص) إلى يوم السقيفة حيث اجتمع الأنصار أوسيهم وخزرجيهم، وثلاثة من المهاجرين من قريش هم ابو بكر وعمر وابو عبيدة يبحثون في أمر الأمة بعد رحيل نبيّها ويقررون مصير خلافته (ص). وإنها – والله – للحظات تخشع لخطرها القلوب ويصمت لهولها التاريخ. ففي هذا المكان المنعزل المتواضع، في سقيفة بني ساعدة سيتقرر مصير الأمة – بل البشرية كلها- وما سيتعاقب عليها من الأحداث والوقائع في توالي الأيام والعصور، وسيتحدد في ضوء ما يتقرر نصيب الرسالة من النجاح وحظ قيمها من التحقق، فلنَرَ كيف سيدلي المجتمعون بحججهم وهم يقررون ما يرونه في شأن الخلافة وما هي المقاييس التي سيتبعونها في قرارهم الخطير هذا.

 يذكر المؤرخون أن الأنصار اجتمعوا بعيد الإعلان عن وفاة رسول الله (ص) في سقيفة  بني ساعدة ليقرروا بأنفسهم مصير خلافة الرسول، ويضعوا بقرارهم هذا الآخرين أمام الأمر الواقع. ويذكر هؤلاء أيضاً أن المجتمعين قرروا مبايعة سعد بن عبادة بالخلافة، غير أنّ عمر وأبا بكر وأبا عبيدة علموا بأمر الاجتماع، فسارعوا في الحضور إلى السقيفة للمشاركة ولمنع الأنصار من الانفراد بالأمر. وفي السقيفة كان سعد بن عبادة يتحدث عن مناقب الأنصار وتقدمهم في السابقة والنصرة والجهاد ليعرّج بعدها على أهلية الأنصار واستحقاقهم الخلافة دون غيرهم. فيرد عليه أبو بكر قائلاً:

 فإنكم لا تذكرون منكم فضلاً إلا وأنتم له أهلٌ وإنّ العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش وهم أوسط العرب داراً ونسباً!

 وفي رواية أخرى أنه قال: فهم (أي المهاجرون من قريش) أول من عبد الله في الأرض وآمن بالله وبالرسول هم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم في ذلك إلا ظالم.

 ثم قام الحباب بن المنذر ليؤكد حق الأنصار في الخلافة فإن أبى المهاجرون ذلك فلا أقلّ من اقتسامها بينهما مناصفة او كما قال: منا أمير ومنكم أمير، فرد عليه عمر بقوله:

هيهات لا يجتمع اثنان في قرن... من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته، ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدلٍ بباطل أو متجانف لإثم ومتورط في هَلَكَة.

 ثم قام بشير بن سعد الأنصاري وقال: ألا إنّ محمداً من قريش وقومه أحق به وأولى. وأَيمُ الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبداً فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم![5]

 بعدها حسم القرشيون الثلاثة الأمر لصالح قريش، وبايع الناس أبا بكر.

 ولنتمعن الآن في هذه الكلمات:

أبو بكر: وهم (أي المهاجرون) أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده.

عمر: من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته.

بشير بن سعد الأنصاري: ألا إن محمداً من قريش وقومه أحق به وأولى.

 ما الذي نستنتجه من هذه العبارات؟

 ما نستنتجه هو أن الناس ليسوا سواء في نسبتهم إلى رسول الله، فهناك من هو أحق برسول الله وتراثه وأقرب إليه من الآخرين، بحيث يصح أن يقال في مقام الاحتجاج: (نحن) و (أنتم) ولكن بأي مقياس؟ هل هو مقياس السابقة في الإيمان والتقدم في الجهاد؟ مقياس التقوى والعمل الصالح والارتقاء إلى مستوى الرسالة وقيمها؟ لا. فإن هذا كله من الفضل وهو مما يُحمدُ عليه المرء وينال به الاحترام، ولكن لا علاقة لهذا بشؤون الحكم والسلطان. أو على الأقل هو لا يكفي وحده للاقتراب من سدة الحكم وحيازة السلطان. المعيار في هذا الأمر هو أن يكون المتصدي للحكم منتسباً للمتوفى بصلة القربى والانتماء للعشيرة كما تنص عليه التقاليد العربية التي كانت تجعل الحكم حقاً صرفاً يرثه أهل الحاكم المتوفى وذوو قرباه. وهذا مبدأ عام وشائع في جميع أنظمة الحكم وأشكاله، ليس لدى العرب وحدهم، بل لدى غيرهم من الأمم كذلك، بقطع النظر عن درجة التطور الاجتماعي أو رقي التنظيم السياسي لهذه الأمم. ومازال هذا النوع من الحكم شائعاً في أماكن عديدة من العالم.

 والسؤال أو الأسئلة التي نثيرها هنا ونترك الإجابة عنها للقارئ الكريم هي: ألا يُعَدُّ الالتزام بتقليد جاهلي في مثل هذه القضية الخطيرة نكوصاً عن المبادئ التي أقرّتها الرسالة الإسلامية وتراجعاً عن قيم المجتمع الإيماني التي سعى القران الكريم والرسول الأمين لإشاعتها وتحكيمها في أفراد هذا المجتمع؟ ألا يُعَدُّ التعبير ب (نحن) و (أنتم) تجاوزاً لأهم انجازات الرسالة التي جمعت أولئك الناس الممزقين على صعيد الأخوة الإنسانية المستندة إلى أسس الإيمان بالله والعبودية له مصداقاً لقوله تعالى {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[6]؟

 وهل يُعَدُّ من مقتضيات مبدأ الشورى عزل أحد شِقَّي الأمة يومذاك – الأنصار وهم من هم! – عن ممارسة الحكم بحجة عدم انتسابهم لعشيرة النبي وذوي قرباه؟

 ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الأنصار كانوا هم بدورهم واقعين تحت تأثير فكرة الأهل والعشيرة هذه، فكانوا – أو عدد منهم على الأقل – يحسّون في قرارة أنفسهم أن المهاجرين – أهل النبي وعشيرته – أحقّ منهم بالخلافة و(وراثة) النبي. يدل على هذا سرعة تراجعهم عن موقفهم الأول والداعي إلى مبايعة سعد بن عبادة واقتراحهم أن يكون منهم أمير ومن قريش أمير. كما يدل عليه بوضوح أكثر كلام بشير بن سعد الآنف الذكر والذي يتضمن (اعترافاً) بأحقية قريش في سلطان محمد وإمارته! دون ان نغفل –بطبيعة الحال- أثر الأحقاد الدفينة بين الأوس والخزرج في إضعاف موقف الأنصار وترجيح كفة قريش في هذا النزاع.

 نُحّي الأنصار وأُبعدوا عن الحكم منذ تلك اللحظة التي صفق فيها عمر يد أبي بكر مبايعاً إياه بالخلافة. وكُتِبَ عليهم من حينها أن يكونوا وزراء ويكون القرشيون هم الأمراء كما شاء أبو بكر. والوزير في عرف ذلك الزمان يُستشار ويُستَنصَح فحسب وليس له من ممارسة السلطة شيء.

 استمرت قريش تمارس (حقها) في سلطان رسول الله قرشياً عن قرشي حتى آل الأمر إلى رجال من قريش لم تكن لهم سابقة أبي بكر وعمر ولا غيرهما من المسلمين الأوائل. بل لم يكن لهم ما يشرّفهم في الموقف من الرسالة منذ صدع رسول الله بها، ولم يكن لهم ما يميزهم عن غيرهم من المؤمنين، بل إن بعض من ولِي أمور المسلمين من قريش كان ممن جيّش الجيوش وكاد الرسالة وأهلها، وكان رمزاً للكفر ومحادّة الله ونبيه، ولم يكن هذا بالأمر المستغرب أو الحادث المؤسف غير المنتظر، بل كان نتيجة منطقية لتحكيم مبدأ ((والعرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش))[7] فهذا المبدأ يستتبع – ورغماً عن كل المبادئ الأخلاقية وروح المساواة التي جاء بها الإسلام – أن يكون ذوو الشرف في الجاهلية ذوي الشرف في الإسلام أيضا، فكأن القرشية – على هذا المبدأ – تجبّ ما قبل الإسلام وتمحو ما يَصِمُ التاريخ الشخصي لهؤلاء (الأشراف) في قبال الرسالة.

 مات ابو بكر وأوصى لقرشي من بعده هو عمر. ثم مات عمر وأوصى بالأمر من بعده لستة قرشيين فرض عليهم أنْ يختاروا واحداً منهم. فإن انقسموا وتعادلت الكفتان رُجّحت الكفة التي فيها عبد الرحمن بن عوف. وهكذا كان واختير عثمان. فلنستمع إلى عليّ وهو يشخص بدقة نزعة الاستئثار بتراث محمد (ص) السياسي لدى قريش بعد اختيار عثمان (إنّ الناس ينظرون إلى قريش وقريش تنظر إلى بيتها وتقول: إنْ وُلِيَ عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبداً وما كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم)[8] وتداولوها بينهم حتى آل أمرها الى صبيان قريش وسفهائها!

 وانظر كيف تتقارب الرؤى وتتداخل الخنادق في ضوء (والعرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش) و (من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته).

 روى الطبري بإسناده عن ثابت قال: لما استخلف أبو بكر قال أبو سفيان: مالنا ولأبي فصيل[9] إنما هي بنو عبد مناف!

 قال: فقيل له إنّه قد وَلّى ابنك. قال: وصلته رحم![10]

 فلئن كان الأمر أمر {نحن أولياؤه وعشيرته} فبنو عبد مناف _ لَعَمرُ الله _ أمسُّ رَحِماً وأوصل قرابةً برسول الله من بني تيم، تيم التي لم يكن شيخها غافلاً عن هذا الحق فأسند عملاً لأحد أبناء أبي سفيان عميد البيت الأموي المتفرع من عبد مناف.

 ثم انظر كيف يصل هذا الفهم إلى مداه ويؤول تصور الحق في السلطان إلى غايته، فيتحول الأمر على لسان المبشَّرين بالجنة إلى تيمية وعدوية ومنافية.

 روى البلاذري بإسناده عن عبد الله بن عباس أن عثمان شكا عليّاً إلى العباس فقال له: يا خال إنّ علياً قطع رحمي وألّب الناس ابنك. والله لئن كنتم يا بني عبد المطلب أقررتم هذا الأمر في أيدي بني تيم وعَدِي، فبنو عبد مناف أحق ألا تنازعوهم فيه ولا تحسدوهم

عليه.[11]

 فاعتراض عليّ وابن عباس على سياسة عثمان – في نظر عثمان وذوي قرباه – كان حسداً هاشمياً ليس غير! وكان أولى بهذا الحسد ان يوجّه الى تيم وعَدِي حين استلم ممثلاهما

أبو بكر وعمر مقاليد الأمور وهما الفرعان البعيدان عن بني هاشم، لا أن يوجه إلى أبناء عمومتهم من بني أمية الذين هم أقرب إليهم من تيم وعدي ويلتقون معهم عند جدهم الأعلى عبد مناف!!!

 ومع ما بين أبي بكر وعمر من جهة وبين عثمان وذوي قرباه ومن انتصر لدمه من جهة أخرى من التفاوت في السياسة والسلوك الشخصي، إذ لم يعرف عن الشيخين استئثار بمال ولا إيثار لآل، بل ماتا دون أن يخلفا وراءهما من المال أكثر مما يخلفه غيرهما من أواسط الصحابة، بل حتى ضعافهم. فلقد كانت الأموال تُجبَى لعمر وكنوز الفتوح تصل المدينة أرسالاً فتبهر الألباب وتأسر القلوب، فلم يستأثر لنفسه ولا لخاصة أهله منها بشيء، بل كان حديداً عليهم شديداً في معاملته إياهم شدة تجاوزت الحد في كثير من الأحيان نقول: ومع هذا التفاوت بين الجهتين إلا أنّ المبدأ الذي اعتمده ابو بكر وعمر في التعامل مع قضية الحكم وتصورهما عما ينبغي أن يكون عليه رجاله والقائمون عليه لم يكن ليفضي إلى غير هذه النتيجة أو يؤدي إلى غير ما حصل وأخبرنا به التاريخ.

 فوفقاً لمبدأ (من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته) يصعب التوفيق والموازنة بين ملاكات السابقة في الإيمان والجهاد والعمل الصالح وبين المؤهل الأساسي في السلطان وهو انتماء المرشح للولاية او الإمارة لقريش عشيرة النبي وأهله، فإن اعتماد مبدأ سار عليه الناس قبل ظهور الإسلام أزماناً متمادية يعني إقراراً رسمياً لهذا المبدأ واستمراراً على العمل به وأن التغيير الذي حصل بمجيء الإسلام لن يؤدي - بعد وفاة رسول الله- إلى أن يخسر ذوو الشرف والمكانة مواقعهم السابقة، ولن يُفسِح المجال –كما ينبغي- للجيل الجديد الذي بنته الرسالة وتشبّع بمبادئها. فأياً كان حرص أبي بكر وعمر على تطبيق مبادئ الإسلام وتحكيم قيمه فإنه لن يسمح –في كل حال- في ان يتولى أمور المسلمين عبد حبشي ذو زبيبة[12] أو حتى حر غير قرشي وإن فاق غيره في السابقة والجهاد. ولن يمنع أن يلي أمور المســلمين من لاحظَّ له في سابقة إيمان أو بلاء في جهاد. وإنّ حرص الرجلين - بالغاً ما بلغ- لن يتعدى أثره حياتيهما ماداما قد أضفيا الشرعية على تقليد جاهلي عريق، فأتاحا بذلك لقريش أن تستعيد مرة أخرى ثقتها بنفسها، وأن تعيش من جديد مشاعر الاستعلاء والفخر والكبر.

روى الطبري بإسناده عن الحسن البصري قال:

 كان عمر بن الخطاب قد حجر على أعلام قريش من المهاجر في البلدان إلّا بإذن وأجل فشكوه فبلغه فقام فقال: ألا إني قد سننت الإسلام سنَّ البعير... ألا وإن قريشاً يريدون أن يتخذوا مال الله معونات دون عباده، ألا فأمّا وابن الخطاب حيّ فلا. إني قائم دون شعب الحرة آخذ بحلاقيم قريش وحُجَزِها أن يتهافتوا في النار.[13]

 ولكن ما إن أُرسِلت حلاقيم قريش وحُجَزُها بعد وفاته حتى انطلقت في البلاد – بعد أن مهد عمر نفسه ومن قبله أبو بكر لها الطريق- تخذم مالَ الله خذم الإبل نبتة الربيع[14]وتستأثر لنفسها بالنفوذ والسلطان، حتى تحول الحكم على يد أكثر فروعها دهاء واستهانة بالقيم الى ملكية صريحة يرث فيها الابن أباه والرجل ابن عمه القريب. لقد ضاقت قريش – ممثلة بالفرع الأموي – بالقيود الأخلاقية التي استدعاها قرب العهد بالوحي وصاحب الرسالة و(الميوعة) السياسية التي أظهرها عمر في إيلائه العهد لستة قرشيين موزعين على بطون: بني عبد مناف، بني زهرة، بني أسد بن عبد العزى، بني تيم. كما ضاقت ذرعاً من قبل بتسلط بني تيم وبني عدي[15] واغتصابهم سلطان بني عبد مناف. فأعادت الأمر إلى (نصابه القديم) ملكية لا غبار عليها يستوفي فيها بنو عبد مناف حقهم كاملاً لا يشركهم فيه أحد. ولكن ماذا عن بني هاشم أبناء عمومتهم الألداء وشركائهم في عبد مناف؟

هؤلاء تكفيهم النبوة، وهل من العدل أن يجمعوا بين النبوة والخلافة وتبقى قريش خاضعة لهم إلى الأبد؟!

 وللإنصاف نقول: إن هذا (أو بعضه) لم يكن رأي بني أمية وحدهم، بل كان رأي قريش كلها كما عبر عنه بوضوح كامل كلام عليّ السابق بعد اختيار عثمان خليفة على المسلمين. وكما صرح به عمر نفسه في لحظة من لحظات المكاشفة في حديث له مع عبد الله بن عباس عن سبب إقصاء عليّ عن الخلافة مع استحقاقه لها بقوله: (لقد كرهت قريش لكم ان تجمعوا بين النبوة والخلافة).[16]

 ان المتتبع بتجرد للنظرة إلى الحكم لدى القائمين عليه منذ وفاة رسول الله، وتطور هذه النظرة من الشورى إلى الملكية لا يجد فرقاً كبيراً – من حيث الأصول والمنطلقات – بين ما صار يعرف في التاريخ بالخلافة الراشدة من جهة وبين الكسروية التي يرث فيها الابن أباه او الأخ أخاه من جهة أخرى.[17] فلقد بدأ الأصل في السقيفة قبلياً موسعاً يشمل

- من حيث المبدأ – كل بطون قريش وفروعها ويستبعد من سواهم من المؤمنين، وانتهى قبلياً ضيّقاً – على أيدي الأمويين – لا يشمل غير بني أمية أحد فروع بني عبد مناف من قريش.

 وبهذا نعرف أن استخدام اصطلاح (المهاجرين والأنصار) لدى الحديث عن السقيفة وما وقع فيها من تجاذب في المواقف وتنافر في الرؤى هو استخدام مضَلّل إلى حد بعيد، ولا يعبر عن طبيعة المنطق الذي قاد المواجهة بين الطرفين. فإن النزاع بين الفريقين لم يحسم بالتأكيد على أنّ الأَولى بالخلافة هو من تحمل عبء الهجرة وآلامها دون من آوى ونصر، وإنما تركز على منطق: هل ان عشيرة النبي وأهله أولى بخلافته من غيرهم أو أن غيرهم أولى بها منهم؟ وقد كان المنطق القبلي هذا من القوة والنفوذ بحيث تمكن ثلاثة من القرشيين وأحد مواليهم فقط من فرض رأيهم على الحاضرين في السقيفة التي كانت تغص يومذاك بوجوه الأنصار وسادتهم من الأوس والخزرج.

 وبناءً على ما تقدم يمكننا القول: إن الكسروية في التاريخ الإسلامي ألقى بذرتها أبو بكر وعمر في السقيفة – دون أن يريدا ذلك أو يخطر لهما ببال – وأفرعت شجرتها بدم عثمان وانحيازه لبني أمية، واستصفى ثمارها بنو صخر بن حرب وبنو الحكم بن العاص.

القرشية والفكر التبريري

 تعامل المفكرون والمؤرخون مع هذه الحالة باعتبارها شيئاً لابد من حصوله مادام الصحابة أرادوا ذلك. وما على هؤلاء المفكرين وذوي الرأي سوى تفسير هذه القضية وإيجاد المبررات لظهورها في التاريخ على النحو الذي يُظهر هذا التاريخ مبرّءاً من العيب ونقياً من الغلط، فيأخذ هذا التفسير مكانه في البناء الهندسي المتقن والدقيق لتاريخنا الذي حرص هؤلاء المفكرون والمؤرخون على عرضه للأجيال عقلانياً وجميلاً، حكيماً وأخلاقياً. فالقرشية وفقاً لهذه الرؤية ليست شيئا طارئاً على الرسالة أو انحرافاً عن مبادئها، بل هي جزء من مبادئها، جزء من الرسالة وواحدة من مفردات ثقافتها. فلنستمع إلى أقوال منظّري (القرشية) كيف ينظرون إليها؟ وما هو رأيهم في موقعها من قضية الإمامة؟

قال الماوردي في الأحكام السلطانية:

 (وأما أهل الإمامة فالشروط المعتبرة فيها سبعة (ثم ذكر منها ستة وقال: والسابع: النسب) وهو ان يكون من قريش لورود النص فيه وانعقاد الإجماع عليه. ولا اعتبار بضرار حين شذ فجوّزها في جميع الناس)[18].

والغريب أن الذين تعرضوا لذكر أحداث السقيفة من المؤرخين والمحدّثين لم يذكروا أن المهاجرين احتجوا على الأنصار بوجود نص يحصر الإمامة في قريش ويدفعها عن غيرهم، بل ذكروا أن احتجاج هؤلاء انصب على أنهم أهل النبي وعشيرته، وهم – لهذا – أولى من الأنصار بوراثته والقيام بخلافته. بل إن ابن خلدون نفسه الذي قال في مقدمته (وأما النسب القرشي فلإجماع الصحابة يوم السقيفة على ذلك واحتجت قريش على الأنصار بقوله (ص): الأئمة من قريش) لم يخرج في إيراده خبر السقيفة في تاريخه عما ذكره الطبري حول هذا الموضوع وليس فيه احتجاج بنص او استناد لوصية. فكأن مدوني الفكر السياسي لتلك الفترة شعروا أن واجبهم هو معالجة المشاعر الفائرة للصحابة من قريش وإعادة صبها في شكل مواد قانونية ملزمة من خلال النظر إليها كشرط لا بد منه من شروط الإمامة.

 ونود في ختام البحث أن نشير إلى رأي ابن خلدون في مسالة القرشية، وهو رأي جدير بالنظر حقا، فهذا الرجل الذي تمكن من صياغة نظرية متكاملة في أصل الاجتماع وقدم حوله آراء تدل على فكر ثاقب وذهن (تأصيلي) مبتكر جعل فكرة العصبية محوراً تدور حوله مظاهر الاجتماع وأشكاله، وانتقال المجتمع من حالة البداوة الى الحضارة، ومن الخشونة إلى الترف ومن ثم التحلل. وقد جنح ابن خلدون في مقدمته الى تفسير القرشية في ضوء نظريتــه عن العصبية، مبتعداً في ذلك عن نظرة من تقدمه من المفكرين الذين أضفوا طابعاً دينياً من خلال طرحها كشرط أبدي لابد من توفره في الإمام. قال في المقدمة:

 (وذلك أن قريشاً كانوا عصبة مضر وأصلهم وأهل الغلب منهم، وكان لهم على سائر مضر العزّة بالكثرة والعصبية والشرف، فكان سائر العرب يعترف لهم بذلك ويستكينون لغلبهم، فلو جعل الأمر في سواهم لتوقع افتراق الكلمة بمخالفتهم وعدم انقيادهم ولا يقدر غيرهم من قبائل مضر أن يردَّهم عن الخلاف)[19].

 فالقرشية – حسب هذا النص – شرط في الإمام مادامت قريش قوية بعصبيتها وشرفها، وقادرة على قمع الخارجين على الحكم ولجم المتمردين عليه. أمّا حين تنحسر قوتها وتضعف العصبية لديها فلا يعد الانتماء إليها شرطاً في الإمام كما يقول في كلام قريب من النص المنقول، فابن خلدون يتخطى هنا – كما هو بيّن – عقبة القداسة التي وضعها من تقدمه من المفكرين.

 فالقرشية عنده ليست شرطاً لازماً في كل حال، أي حتى إن ضعف القرشي عن القيام بشؤون الحكم ومهامه كما يذكر ذلك الماوردي [20] نقلاً عن بعض الفقهاء، ولا في كل زمان، بل هي شرط في حال قوة قريش فقط. وبهذا تكيّف القرشية عند ابن خلدون وكذا النصوص التي دُعِمَت بها تكييفاً براغماتياً يجعل من الفائدة والمصلحة مقياساً لاشتراطها في الإمام أو عدمه. ولا ريب أن للعصر الذي عاشه ابن خلدون والذي شهد تفتتاً في الحكم وضعفاً في القائمين عليه على امتداد البلاد الإسلامية، كما شهد اندثاراً لقريش وعصبيتها، تأثيراً كبيراً في رؤيته هذه عن القرشية والنظر إليها كتراث يُفسّر في سياقه الزماني والمكاني ويُقَيّم في ضوء ملابساته التاريخية وظروفه الموضوعية.

 على أن نظرة أدق إلى رأي ابن خلدون هذا في القرشية يجعلنا نرى أن براغماتيته المشار إليها لم تقف عند حد الالتزام بالقرشية أو عدم الالتزام بها بحسب الفائدة من ذلك أو عدمها، أو عند مجرد تفسير النصوص المساقة في القرشية في ضوء هذه الفائدة او عدمها[21] بل تخطت ذلك كله الى التضحية بالقيم التي جاء بها الإسلام على مذبح الحكم واستقرار أركانه، فإن اعتبار استتباب الحكم وغلبة أهله على من سواهم هدفاً بحد ذاته، وحصر هذه القدرة بقريش وعصبيتها سيؤدي إلى تبرير إبعاد المخلصين ذوي الكفاءة من غير قريش والى تسويغ ما يقع في ملك قريش من الأخطاء والانتهاكات مادام الغرض منه هو الحفاظ على هيبة الحكم ووحدة الكلمة، وهو الأمر الذي اضطر إليه ابن خلدون اضطراراً لدى حديثه عن حكم بني أمية.

 ***

طاهر ناصر الحمود

كاتب عراقي، وكيل وزارة الثقافة العراقية سابقا.

.........................

[1] - عبد الرحمن ابن خلدون، العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر (مقدمة ابن خلدون)، (دار الفكر، بيروت، 1981)، ط1، ج1، ص 266.

[2] - المصدر نفسه، ص 268.

[3] - الشعراء، 214.

[4] - ابن خلدون، مصدر سابق، ج2، ص 414.

[5] - أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك (تاريخ الطبري)، (دار المعارف، مصر، 1967)، ط2، ج3، ص 205، و218-221.

 [6] - الأنبياء، 92.

[7] - جزء من خطبة أبي بكر في السقيفة. 

[8] - تاريخ الطبري، مصدر سابق، ج4، ص233.

[9] - الفصيل: ولد الناقة. وهذا تعريض بكنية ابي بكر التي تؤدي كلمة (بكر) فيها نفس المعنى. 

[10] - تاريخ الطبري، مصدر سابق، ج3، ص209. 

[11] - أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري، جمل من أنساب الأشراف، (دار الفكر، بيروت، 1996)، ج6، ص116.  

[12] - أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري الجعفي، (دار طوق النجاة، بيروت، 1422هـ)، ج1، ص140. حيث اخرج البخاري في صحيحه عن عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ.

 [13] - تاريخ الطبري، مصدر سابق، ج4، ص396.

 [14] - من خطبة لعليّ يصف فيها ما فعله عثمان وذوو قرباه من التصرف ببيت مال المسلمين الذي أثار المهاجرين والأنصار وأهل الأمصار. 

[15] - قال أبو سفيان يوم بويع أبو بكر: إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم يا آلَ عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم؟ أين المستضعفان؟ أين الأذلان عليّ والعباس؟ ما بال هذا الأمر في أقل حيّ من قريش. ينظر: عز الدين ابن الأثير، الكامل في التاريخ، (دار الكتاب العربي، بيروت، 1997)، ط1، ج2، ص187، حوادث سنة 11 هـ. وراجع أيضاً كلام عثمان السابق ذكره للعباس بن عبد المطلب. وينقل أبو حنيفة احمد بن داود الدينوري في كتاب الأخبار الطوال، (دار إحياء الكتب العربية، مصر، 1960)، ط1، ص187، وعند تناول وقعة صفين: ان معاوية كتب إلى عليّ يقول: نحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضل. 

[16] - تاريخ الطبري، مصدر سابق، ج4، ص223.

[17] - لا يملك المراقب المنصف سوى الإذعان إلى أن خلافة عليّ كانت استثناءً من هذا الحكم. فهو الوحيد – من بين الأربعة – الذي تحقق الإجماع الساحق على خلافته حين انثال الناس عليه زرافات يطالبونه بتولي أمورهم بعد مقتل عثمان، فكان كهفاً للأمة وملاذاً للمهاجرين والأنصار. فلم يصحب خلافته تهديد بالقتل او بحرق البيوت كما حصل في خلافة أبي بكر لمن امتنع عن بيعته فقد امتنع عبد الله بن عمر عن البيعة ولم يرغمه أحد عليها. ولم يوصِ به من سبقه في الحكم كما حصل في خلافة عمر. ولم تصل إليه الخلافة نتيجة لمناورات قبلية وحسابات قرشية كما حصل في خلافة عثمان.

[18] - أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي (الماوردي)، الأحكام السلطانية، (دار الحديث، القاهرة، بلا سنة طبع) ج1، ص20. 

[19] - ابن خلدون، مصدر سابق، ص 244.

[20] - الماوردي، مصدر سابق، ص6-7.

[21] - ابن خلدون، مصدر سابق، ص 241 – 245.

 

مقدمة لا بدّ منها

يهدف هذا المقال إلى  استعراض لأغلب دراسات المستشرقين الروس والسوفييت عن النثر العراقي المعاصر، وبيان موقعها في النقد الأدبي السوفيتي وأهميتها. ومن المفيد أن نذكر هنا أننا ارتأينا الإيجاز والتوقف عند المسائل المهمة، مثل تحديد المدارس الأدبية التي كان ينتمي إليها الأدباء العراقيون قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، وأهم القصص الفنية ومراحل النثر العراقي وغيرها من القضايا النقدية التي لم تحسم بعد في النقد الأدبي العراقي.

اهتم المستشرقون الروس ومن بعدهم السوفييت بقضايا الأدب العربي في مصر وسوريا ولبنان بشكل خاص، بينما بقى الأدب العراقي المعاصر بعيدا عن مركز اهتمامهم. وبلا شك أن الأسباب كثيرة إلا أننا نستطيع أن نخمن العائق الرئيسي إلا وهو انغلاق العراق في تلك الفترات وعزلته الكبيرة عن العالم، لا بل عن الوطن العربي كله.

وفي الحقيقة إن حركة الاستشراق الروسية في بداية نشاطها لم تدرس الأدب العربي المعاصر لعدم توفر المصادر لديها. ولهذا اهتم المستشرقون الروس في بداية أبحاثهم الأولى بدراسة تاريخ الأدب العربي القديم بمختلف مراحله. ولم نعثر على بحث مكرس للأدب العربي المعاصر في المرحلة الأولى من حركة الاستشراق الروسية، ما عدا مقال المستشرق الروسي المعروف كريمسكي أ. ي (1942-1871) عن الشيخ علي الطنطاوي الذي كان يعمل أستاذا في جامعة بطرس بورج، وبلا شك أن عمل الأخير في هذه الجامعة هو السبب الحقيقي في اهتمام كريمسكي بأدبه(*).

وبظهور المستعرب الروسي الكبير إغناطيوس كراتشكوفسكي (1951-1883) دخلت حركة الاستشراق الروسية والسوفيتية مرحلة جديدة، غنية بالأعمال والنشاطات العلمية والتعليمية، كان نتيجتها أن ظهر جيل من المستشرقين الجادِّين مثل آنّا أرداديفنا دولينينا وفاليريا نيكولايفنا كيرييتشينكو وأولجا فرولوفا وكمال عصمانوف وغيرهم. وكان إغناطيوس كراتشكوفسكي أول من كتب عن الأدب العراقي في حركة الاستشراق الروسية كلها.

لقد تضمن مقاله الأول عن الأدب العراقي “الأدب العربي المعاصر” الذي كتبه في بداية الثلاثينات، معلومات ليست عن الشعر فحسب بل عن النثر أيضًا. وأشار الكاتب في هذا المقال إلى وجود قصاصين مثل محمود أحمد السيد، وأنور شاؤول، وذو النون أيوب من الذين يمثلون الجيل الأول من الناثرين العراقيين المعاصرين ممن أصبحت لهم مكانة وشهره كبيرة في الحياة الثقافية العراقية(1).

وتناول إغناطيوس كراتشكوفسكي الأدب العراقي في مقال آخر أيضًا ونشره بعنوان “نبذة تاريخية موجزه عن الأدب العراقي” وتطرق فيه إلى الشعر أكثر من تطرقه إلى النثر. لقد أشار كراتشكوفسكي في هذا المقال إلى علاقة الأدب العراقي الوثيقة والنثر بشكل خاص بالواقع الاجتماعي المعاش وانعكاسها في الأعمال الأدبية.

وتحدث أيضًا عن ترسخ التقاليد الواقعية في الأدب العراقي المعاصر وتأثير المحدثين المصريين على كتاب العراق آنذاك(2).

ثم حظيت القصة العراقية بنبذة تاريخية موجزه نشرها المستعرب السوفيتي دانيال يوسوبوف(3) تناول فيها أعمال الكاتب العراقي المعروف ذو النون أيوب بشكل خاص. وقدم فيها وصفا سريعًا لمراحل تطور الأدب القصصي في العراق وثبَّت أيضًا ظهور اتجاه أو مدرسة “الواقعية الجديدة” التي مثلها غائب طعمه فرمان وغيره من أدباء ما بعد الحرب العالمية الثانية. وكتب الباحث الراحل يوسوبوف مقالا صغيرا آخر عن الأدب العراقي بشكل عام، ورغم أننا لا نجد شيئًا جديدًا فيه إلا أنه مع ذلك أسدى خدمة كبيرة للثقافة العراقية ولحركة الاستشراق السوفيتية من خلال مشاركته في الموسوعة الأدبية(4).

ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن هذه المقالات اتسمت  بالتوصيف الموجز والسريع لكنها تضمنت في الوقت نفسه أفكارًا قيمِّة عُولجت وطُوّرت فيما بعد في اطروحات المستشرقين الروس الآخرين.

وإضافة  إلى هذه المقالات المذكورة أعلاه نلاحظ أن الاهتمام بالنثر العراقي أخذ يزداد في السنوات اللاحقة أيضا. ولقد تعدى هذا الاهتمام بالنثر العراقي حدود المقالات السطحية عنه، بل وصل إلى مستوى ترجمة بعض آثاره.

فقد صدرت ولأول مرة في الاستشراق الروسي السوفيتي مجاميع قصصية لكتاب عراقيين مثل “قصص الكتاب العراقيين”(5) وهي أول مجموعة قصصية عراقية مترجمة إلى اللغة الروسية. وتضمنت هذه المجموعة قصص رواد القصة العراقية مثل محمود أحمد السيد وأنور شاؤول وذو النون أيوب إضافة إلى قصص الجيل الثاني مثل عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي وغائب طعمه فرمان ومهدي عيسى الصقر وغيرهم.

نقرأ في مقدمه المجموعة التي كتبها المترجم فلاديمير شاغال عن ترسخ التقاليد الواقعية، وتأثير الواقعية الأوروبية الغربية، وتأثير الأدب الروسي على الأدب العراقي.

كذلك أشار ولأول مرة في الاستشراق الروسي السوفيتي إلى القاص المبدع الموهوب عبد الملك نوري وزميله الذي لا يختلف عنه كثيرًا من حيث الأسلوب، القاص والروائي فؤاد التكرلي، تنتمى أعمالهما إلى “الاتجاه السايكولوجي”. ويرى أن قصص المجموعة الأخرى مثل غائب طعمه فرمان، شاكر خصباك، أدمون صبرى ومهدى عيسى الصقر وغيرهم من القصاصين العراقيين “الخمسينيين” تنتمي إلى اتجاه “الواقعية الجديدة”.

ثم صدرت “عصيده وشمس”(6) وهي أيضًا مجموعة قصص عراقية مترجمه إلى الروسية وتحمل اسم إحدى قصص الكاتب العراقي، الروائي المعروف غائب طعمه فرمان المترجمة ضمن هذه المجموعة. وكررت المستعربه السوفيتية باتسييفا في مقدمتها لهذه المجموعة نفس المسائل التي سبق وأن تطرق إليها المترجم شاغال.

إلا أن المستعربة باتسييفا أكدت الطابع التشاؤمي الذي اتسم به “الاتجاه السايكولوجي” إضافة إلى الشعور بلا جدوى النضال من أجل الحياة ووصف العالم الداخلي للأبطال والعالم المحيط بهم من منطلقات تعاني من الإحباط النفسي.

وفي عام 1967 دافعت المستعربه الشابه م. عماروفا في معهد العلاقات الدولية عن أطروحتها الموسومه “حياة وأعمال ذو النون أيوب رائد القصه القصيرة العراقية”(7). غير أنها تركت النقد الأدبي بعد تخرجها حيث أخذت تعمل في مجال تعليم اللغة العربية في المعاهد.

تكمن أهمية دراستها في كونها أول اطروحة دكتوراه في الاستشراق السوفيتي عن النثر العراقي، وأول دراسة أكاديمية في النقد الأدبي العربي والسوفييتي عن ذو النون أيوب القاص العراقي الذي دوخ الحكم الملكي المباد بقصصه الكثيره والذي قام بدور ملحوظ في تطوير القصة القصيرة وفي تنشيط الاهتمام بالأنواع النثرية المعاصرة بشكل عام. وبرأينا أن تقييم أعمال ذي النون أيوب وكشف أهم خصائص ابداعه يتطلبان دراسة موضوعية لكل جوانب المجتمع العراقي ومشاكل تطوره الاقتصادي والسياسي والثقافي.

ويجب دراسة أعماله القصصية جنبًا إلى جنب مع معالجة الأنواع الصحفية التي اثرت إلى حد كبير على قصصه وبحث تطورها فمن الخطأ الكبير أن نحاكم الآن الكاتب ذو النون أيوب من منطلقات ومفاهيم نقدية معاصره كانت بعيدة عن أذهان كتاب تلك الفترة، وهذا ما انتبهت إليه المستعربه عماروفا على عكس العديد من النقاد الصحفيين العراقيين.

عالجت م. عماروفا في الفصل الأول من أطروحتها مختلف جوانب التطور التاريخي للأدب العراقي المعاصر، وبَيَّنت مكانة النثر فيه. ومن أهم المسائل التي تناولتها في الفصل الأول مسألة عدم تمكن رواد القصة الأوائل من طرح وتقديم شخصيات أدبية نموذجية حية تتسم بملموسية الحياة، وحدث هذا الأمر بسبب اسقاط أفكارهم على هذه الشخصيات الأدبية.

كذلك أشارت إلى سبب تأخر النثر عن الشعر وهو غياب المدرسة الأدبية الحقيقية وغياب التقاليد في مجال النثر الذي أثر تأثيرا سلبيا على نتاجات الرواد.

“ولهذا – والحديث للباحثه – فكثيرا ما نرى أن القصاصين الأوائل، انشغلوا بالوصف السريع لبعض الحالات الاجتماعية، أو لصور مأخوذه من الواقع المحلي”(8). والغرض من هذه “اللعبة الفنية” بالطبع هو جذب القارئ، لا بل إثارة همومه ومشاعره وأحاسيسه. إن مثل هذه القصص لا تمتلك أهمية كبيرة لا من حيث الشكل ولا المضمون.

لكنَّ هؤلاء القصاصين تناولوا بعض الموضوعات الحيوية المأخوذه من الواقع الاجتماعي، ولكن أهم ما ينقصهم هو المهاره الفنية والأسلوب الأدبي، ومع هذا فإن لأعمالهم أهمية من حيث دراسة تاريخ الأدب(9). إن هؤلاء الكتاب فعلاً عكسوا بأعمالهم النثرية مستوى تطور الأنواع النثرية في العراق والقصة خاصة.

وتطرقت عماروفا إلى العلاقة بين اللغة الأدبية واللهجات المحلية باعتبارها من أعقد المسائل التي تواجه الأدباء العرب إلا أنها لم تعالج هذا الموضوع بالتفصيل، ولهذا لابد لنا من التوقف عنده قليلا وإعطاء رأينا حوله.

لقد مارست بعض المفاهيم النقدية الكلاسيكية التي دعت إلى رفض اللهجات المحلية رفضًا قاطعًا ودعت الكتّاب إلى الالتزام باللغة الرفيعه فقط، مارست هذه الأفكار تأثيرها السلبي البالغ على بعض الأدباء العرب حتى في وقتنا الحالي. لم يميز هؤلاء الأدباء بين مستويات اللغة العربية الأدبية والفصحى ولغة الصالونات “الرفيعة” فنراهم يقدمون للقارئ شخصيات أدبية تتحدث بلغة رفيعة رسميه، متكلفه، متحذلقه بعيدة عن الواقع مما يفقدها حيويتها ويبعدها عن أن تكون نموذجيه حقا فيطلع القارئ على أبواق تصرح بأفكار الكاتب، وليس على شخصيات أدبيه.

ويحدث العكس أحيانا إذ كثيرا ما يقع بعض الكتاب وخاصة أغلب الواقعيين في أسر رومانسية اللهجة المحكية الاجتماعية الشارعية المحلية التي يتكلم بها أبطاله لدرجة أنه يطوّع الحروف العربية المطبوعة إلى اللفظ المحكي المحلي!!. وكثيرا ما يتصور قسم آخر من الكتّاب أن إغراق العمل الأدبي باللهجة المحلية من شأنه أن يرفع من قيمته بل إن بعض النقاد يتصور أن الكتابه باللهجة الشعبية اليومية موقف تقدمى والالتزام بالفصحى موقف متخلف.

إن الفارق الكبير بين اللغة العربية الفصحى ولغة الشارع كان ولا يزال من أعقد المسائل في النثر العربي المعاصر، رغم أنها ليست مقتصرة على الأدب العربي وبعض الآداب الشرقية الأخرى فنحن عندما ندعو الكتاب، بل نطالب ونحرص في الوقت نفسه على تقديم أعمال أدبية واقعية مشبعه بشخصيات نموذجية أدبيه أصليه، ندعو أيضًا إلى تقريب اللهجة المحلية ورفعها إلى مقام اللغة العربية الفصحى لا إغراق العمل الأدبي باللهجات المختلفة التي قد تعيق التطور اللغوي للقارئ وندعو إلى أن يمارس الأديب دوره في تطوير لغة القراء وثقافة المجتمع. إن العمل الدؤوب والمواصلة والدقه المتناهية في اختيار المفردات، التي يتحدث بها الأبطال يساعد الكتاب على خلق لغه وسيطه، هجينه، مزيج من العامية الرفيعه المنقحة أو المترجمة إلى الشكل اللغوي الانقى والفصيح.

إن البحث المتواصل هو الذي سيرشد الكاتب ويدله نحو تلك المفردات الفصيحه النموذجية الجمالية المستخدمة في العامية وإلى عدم الاهتمام والانشغال بالفروق اللفظية والصوتية، وفي طرق نطق مخارج الكلمات في اللهجات العربية. فمن الخطأ مثلا التأكيد على الفاظ مثل “ﭽان، ﮔلت” وغيرها من الكلمات والألفاظ العراقية والخليجية وبعض مناطق فلسطين وإلخ في حين يمكن أن نقول: “كان، قلت”، بلا شك أن القارئ العراقي مثلاً في هذه الحالة سيقرأها كما يلفظها في العامية أو بالأحرى سيتذكر لفظها العامي اليومي ولكن هذا يساعد من ناحية أخرى على فهم العمل من قبل القراء العرب وعلى رفع المستوى اللغوي وعلى تعود القراء على اللفظ الفصيح.

وذكرت الباحثه عماروفا القصص التالية: “بداي الفايز” لمحمود أحمد السيد، “مجنونان” لعبد الحق فاضل، “الرجل الصغير” لعبد الملك نورى، ومجموعة “عهد جديد” لشاكر خصباك كأفضل قصص فنيه حتى بداية فترة الخمسينات. وأشارت أيضا إلى افتقار أغلب القصص ذات المضامين الجيدة إلى أشكال فنيه متطورة. ولهذا فإن القصص الأولى أقرب إلى المقاله من النثر القصصي الفني، وفي الحقيقة هي أقرب إلى الأنواع الصحفية بشكل عام التي تعتمد على السرعة والارتجال.

أما عن سبب ضعف الأشكال الفنية فترى الباحثه أنه حدث بسبب تسرع الكتاب وانشغالهم لا بإخراج أعمال أدبية متكاملة، بل إلى إثارة القراء للاحتجاج ضد الأعمال اللاديمقراطية التي مارستها الحكومة الملكية، فظهرت أعمالهم القصصية بأشكال متعارف عليها في الكتابات الصحفية والمقالات الاجتماعية(10). وأعتقد أن هذه القصص المبكرة تنتمى قبل كل شيء إلى نوع التحقيقات الوثائقية، أو الكتابات التي تعتمد على الحقائق والمشاهد اليومية لشد انتباه القارئ ولتحقيق هذه معاً بأقصى سرعة ممكنه.

وهكذا فإنها مهدت في الفصل الأول لدراسة الحياة والنشاطات الأدبية في العراق، ثم درست في الفصلين اللاحقين من الأطروحة أعمال ذو النون أيوب.

لقد تناولت عماروفا بشكل مفصل كل أعمال ذو النون أيوب وأشارت إلى الجوانب الإيجابية والسلبية. وفي الحقيقة أنها اتبعت “المنهج الموضوعي” في دراسة ذو النون أيوب. فهي كثيرا ما تشيد بالمضامين الإيجابية وتشرحها بالتفصيل في صفحات كثيرة لكنها تخرج باستنتاج يفرغ مدحها له من محتواه، كأن تؤكد على الضعف الفني وسوء اللغة التي تتسم بالإنشائية المليئة بالتعليقات السياسية والاجتماعيه.

ومع ذلك فنستطيع أن نقول إنها وضعت النقاط على الحروف في دراسة أعمال ذو النون أيوب من مختلف جوانبه. وأسدت بعملها العلمي هذا خدمة كبيرة للاستشراق الروسي والسوفييتي من الناحيتين النظرية والتطبيقية فهي (الأطروحة) تدخل ضمن مناهج تدريس الأدب العراقي المعاصر في موسكو. ومن الضروري هنا الإشارة إلى أن أهمية أطروحتها لا تقتصر على حركة الاستشراق السوفييتي والعالمي بل على الثقافة العراقية والنقد الأدبي في العراق. وكان المفروض أن تقوم الهيئات المعنية بترجمتها إلى اللغة العربية ونشرها بكتاب خاص لما فيه من فائده للقراء وللنقاد، ولا سيما في تلك الفترة، أي من عام 1967 حيث لم تنشر آنذاك دراسات عن رائد القصة “المقاتلة” ذو النون أيوب.

الدكتورة نرمين خانم سلطانلي والقصة العراقية:

ولا تقل أهمية أطروحة أخرى كبيرة وهامة هي “الواقعية الجديدة في القصّة العراقية بعد الحرب العالمية الثانية”(11) للمستشرقة الاذربيجانية الدكتورة نرمين خانم سلطانلي. وقد أشرفت على هذه الدراسة المستعربة الكبيرة آنا آركادييفنا دولينينا ولهذا يمكن للقارئ ملاحظة الأفكارالجدية والحيوية وكثرة المصادر وخاصة في الفصل الأول الذي تناولت فيه أغلب جوانب الحياة الثقافية في العراق منذ بداية القرن حتى نهاية الخمسينات. ولعل من أهم المسائل التي عالجتها سلطانلي بدقة، هي مسألة تحديد الأجيال أو المراحل الأدبية، وهي قضية معقدة تخبط بها أكثر النقاد في العراق وهي الأخرى لم توفق برأينا في حلها تمامًا. تقسم سلطانلي مراحل تطور النثر العراقي إلى ثلاث مراحل يمثل كل منها جيلاً من القصاصين:

الجيل الأول: ظهر ممثلو هذا الجيل في بداية العشرينات، وهم الرواد في مجال القصة مثل محمود أحمد السيد، ذو النون أيوب، عبد المجيد لطفي، عبد الحق فاضل، وأنور شاؤول وغيرهم.

وأما الجيل الثاني: فهو جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية ويمثله عبد الملك نوري، عبد الله نيازي، أدمون صبرى، غائب طعمه فرمان، فؤاد التكرلي، جبرا إبراهيم جبرا، نزار سليم، مهدي عيسى الصقر وغيرهم.

والجيل الثالث والأخير: جيل الكتاب الشباب الذين بدأوا نشاطهم الابداعي بعد ثورة 14 تموز 1958. وتذكر الدكتورة نرمين خانم سلطاني من هؤلاء الشباب مثلاً: على سهيل، محمد كامل عارف، محمد خضير، موسى كريدي وغيرهم(12).

إن تقسيم مراحل الأدب يجب أن يعتمد على الأحداث التاريخية والتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكبيرة والتي تهز المجتمع كله وهذا ما لم يأخذه بنظرالاعتبار كل من كتب عن هذا الموضوع في النقد الأدبي العراقي، ونحن نتفق من حيث المبدأ مع الدكتورة نرمين خانم سلطانلي وسنرجع في مقال آخرإلى هذا الموضوع بتفصيلات أخرى لم تتطرق إليها الباحثة.

أما عن أزمة الشكل الفني في قصص ما بعد الحرب العالمية الأولى فلم يكن رأيها ليختلف عن وجهة نظر عماروفا. فهي أيضا ترى أن أغلب قصاصي الجيل الأول وبعض الناثرين الشباب انشغلوا في المضمون وتركوا الشكل بسبب افتقارهم إلى الممارسه والخبرة، وحدّة التغيرات السياسية والاجتماعية في العراق، فكان يهمهم أن تصل أفكارهم أكثر بكثير، من اهتمامهم بطريقة طرحها كان المهم عندهم الفكرة لا الشكل الفني. وذكرت بعض الأعمال الأدبية التي تعاني من هذا الضعف مثل قصة “جلال خالد” لمحمود أحمد السيد فاعتبرتها “بعيده عن الكمال الفني بسبب هزالة البناء ولكون شخصياتها مفترضة من وعي الكاتب لا من الواقع..”(13).

ونحن هنا لا نتفق مع الدكتورة نرمين خانم سلطانلي لأن محمود أحمد السيد لم يسقط أفكاره على الشخصية الرئيسة (جلال خالد) بقدر كونه اعتمد على السيرة الذاتية إضافة إلى سيرة أصدقائه المثقفين في بنائها وهذا يعني أنها تمثل شريحة معينة من مثقفي العراق آنذاك. ولهذا نلاحظ الشبه الكبير بين جلال خالد ومحمود أحمد السيد وحياة المثقف العراقي الأول المعروف حسين الرحال، بل حتى بالأحداث التي مر بها الكاتب.

أما فيما يخص هزالة البناء وبعدها عن الكمال الفني فهذا صحيح وهو واضح وأن الكاتب نفسه لم يرفض هذا الرأي بل أكده في أكثر من مناسبه ولهذا سماها “قصه عراقية موجزه”.

أي أنها ليست رواية حقيقية “من ذوات التحليل والصراع النفسي” على حد تعبير السيد نفسه. لا شك أن السيد كان بحاجة إلى الممارسة والخبرة وكثرة التجارب الحياتية لكن مرضه ثم موته المفاجئ ضيع على الأدب العراقي فرصة ظهور كاتب متطور في تلك الفترة، كان يمكن أن يثريها بأعمال جيده وكان يمكن أن يأخذ بيد القصاصين الشباب الذين ظهروا بعد الحرب العالمية الثانية والذين تخبطوا في بداية حياتهم الثقافية وبدأوا من الصفر، فانقسم هذا الجيل إلى اتجاهين: “الاتجاه السايكولوجى” واتجاه “الواقعية الجديدة”. الأول يمثله عبد الملك نوري الذي تأثر كثيرا بالأدب الفرنسي والثقافة الأوربية بشكل عام وبالطرق التعبيرية التي استخدمها المجددون الأوروبيون فنلاحظ في الوقت نفسه أن قصصهم تضمنت طروحات عن بعض المواضيع الاجتماعية وبطلهم هو في الحقيقة نموذج للإنسان الصغير، كما هو عند غيرهم من الكتاب الواقعيين. “إلا أن هذا الإنسان الصغير ليس عضوا في المجتمع أو في طبقه ما من الشعب بل إنسان يعاني من الوحدة والتشرد وهو ضعيف يقف مكتوف الأيدي أمام القدر”(14).

وأكدت سلطانلي على “النزعة التشاؤمية التي اتسمت بها أغلب أعمال هذا الاتجاه وولعهم في التحليل السايكولوجى وهم بشكل عام لم ينشغلوا كثيرا في وصف الظروف الاجتماعية والعالم الخارجي وعلاقة هذا العالم بالبطل بل الاهتمام فقط بعالم الشخصية الأدبية الروحي.

إن ولعهم الشديد في الولوج بالعالم النفسي للبطل أعاق كثيرا من عكس الواقع المحيط به...”(15) نرى أن سلطانلي بالغت بعض الشيء في تضخيم الغربه والتشرد التي يعاني منها الإنسان الصغير في أعمال ممثلي هذا الاتجاه ولهذا أشارت إلى أن عبد الملك نوري مثلا هو أول كاتب عربي تتلمذ على يد جويس وتأثر بالذات بروايته الشهيره “عوليس” إلا أنه لم يتأثر تأثيرا مطلقا بطريقته الإبداعية التي تؤدي في نهاية المطاف إلى العزلة التامة عن الواقع المعاش(16). واعتبرت قصة “مجرى الدم” من أفضل القصص العراقية شكلا ومضمونا، لكونها تتسم بالواقعية.

نرمين خ. سلطانلي وفؤاد التكرلي:

سبق وأن قلنا في هذا المقال إن سلطانلي تضخم "الخطأ" الذي وقع به الكتاب “السايكولوجيون” في بعض قصصهم ونقصد به الاهتمام فقط بالعالم الداخلي للأبطال وإسقاط إرهاصات وحالة الإحباط التي يعاني منها الكاتب وهو يمثل المثقفين، على شخصيات بسيطة لا علاقة لها بهذا النمط من التفكير.

ولهذا نراها تعطي رأيها بفؤاد التكرلي بطريقة مبالغ بها كثيرا فهي تقول عنه: “إن كل أعمال فؤاد التكرلى مليئة بالنظرة المتشائمة للعالم وعدم الإيمان بالإنسانية ولا بقدرة الإنسان على الوقوف ضد الظلم”(17).

وفي الحقيقة، إنها تعتمد في رأيها هذا على بعض الأفكار المتشائمة في قصة “العيون الخضر” بالذات(18). وترى سلطانلي أن مثل هذا النوع من التفكير لا يمكن أن يكون مصدراً للأفكار الإيجابية. وانتقدت الباحث العراقي المعروف على جواد الطاهر الذي حاول تبرير هذه الأفكار في كتابه “في القصص العراقي المعاصر” حيث أشار إلى أن هذه الأفكار لم تكن غريبه على المثقفين العراقيين.

شهدت الخمسينات ظهور الأفكار الوجودية وانتشار النزعات التجديدية في الأدب لكن هذا لا يبرر إسقاط هذه الأفكار على شخصيات همها اليومي تأمين كسرة خبز تسد بها رمقها. لقد أثبت التكرلى في “الرجع البعيد” التي صدرت مؤخرًا في العراق بأنه فعلا متمكن من الكتابة الروائية بشكل خاص، وأن شخصية المثقف الذي يعاني من كل الأزمات النفسية أقرب إلى الكاتب، ولهذا فإنّ وسائله الأدبية المتطورة في تصوير العالم الداخلي لهذه الشخصيات ساعده كثيرا على كشف العالم الرحب لمختلف الناس. ولقد أثبت فؤاد التكرلى ب “الرجع البعيد” أنه يكن حبا عميقا لشخصياته وأنه يتفاعل مع الأحداث لكنه يجيب عن أسئلة الواقع بطريقة أخرى تختلف عن غيره من الكتاب.

وبلا شك أن التكرلى أولى وما زال يولى اهتماما كبيرا لعالم البطل الداخلي ووصفه ولا ننكر وجود بعض الأفكار "المتشائمة" في قصصه بسبب "تأثره" بالفكر الوجودى، أو اهتمامه به، لكن هذا لا يعني ولا بأية حال من الأحوال أن أدبه لا ينتمي إلى التيار التقدمي القومي الديمقراطي. ولا بد لنا هنا من الإشارة إلى أن مصطلح الاتجاه السايكولوجى ليس دقيقا وهو لا يمارس وظيفته بشكل مطلق ولا ينطبق تماما على أدب التكرلى وعبد الملك نورى وغيرهما من الأدباء العراقيين من ذوى النزعات الوجودية لأنهما وإلى حد ما غائب فرمان أرادوا الاستفادة منذ بداية نشاطهم الأدبي من المهارة الفنية التي اكتسبها الكتاب الروس والغربيون أمثال تولستوي و دوستوييفسكي وجويس ووليم فوكنر وغيرهم، فخرجت أعمالهم بمسحه واقعية فنية غير مباشرة بسبب تعمّقهم بوصف الإنسان والمجتمع.

إلا أن هذا الإنسان يائس ومحبط في أغلب قصص التكرلى ونورى بعكس بطل “الواقعية الجديدة” في بدايتها، الذي هو في الحقيقة أقرب إلى بطل “الواقعية الاشتراكية” عند بعض القصاصين (عبد الرزاق الشيخ علي وغائب طعمه فرمان في مجموعته الأولى “حصيد الرحى” مثلا).

ومن الضرورى أيضا الإشارة إلى أن الانغمار بالعالم الروحي للشخصية بمعزل عن وصف فاعليته في المجتمع لا يعني دوماً المهارة الفنية التي يمكن أن تُكتسب بالتجربة الحياتية ومن خلال الكتابة اليومية عن النشاطات الكبيرة. ولهذا نرى أن بعض الكتاب الواقعيين الموهوبين يتركون وسائلهم الأولى التي استخدموها في بداية حياتهم الإبداعية، فيتوغلون في العالم النفسى للفرد وهذا لا يعني ابتعادهم عن الواقعية لأن الفرد عندهم دائما مرتبط مصيريا بالمجتمع. لذلك سميت هذه الواقعية “بالواقعية السايكولوجية” من قبل بعض النقاد وهنا يكمن الفارق الجوهرى بين كتاب “الواقعية الجديدة” و”المدرسة السايكولوجية” إلا أن أدب ممثلى المدرستين صب في تيار واحد هو التيار الوطني التقدمى كما سبق وأن ذكرنا ولهذا بالذات فنحن لا نتفق مع الدكتورة نرمين خانم سلطانلى في تحميل فؤاد التكرلى “ذنوب” لا علاقة له بها فهي تقول: “أما الفلسفة التشاؤمية التي تميز بها التكرلى فقد زادت من الطين بله إذ عمقت من المصاعب التي عانى منها الشعب العراقي في تلك الفترة”(19).

ونحن نرى أن هذا اتهام خطير وغير علمي ويجب أن يوجه فقط لممثلى التيار الأدبي الرجعى إن وُجد. ثم تناولت سلطانلي أعمال أدمون صبرى وشاكر خصباك ومجموعة غائب طعمه فرمان الثانية (مولود آخر) من مختلف الجوانب الفنية، من حيث المضمون والشكل وعلاقتها بحياة المجتمع. وهي أيضاً كزميلتها المستعربة الدكتورة عماروفا اهتمت كثيرا بمضامين أعمال هؤلاء القصاصين.

وهناك أطروحة دكتوراه أخرى دافع عنها ب. ف. تشوكوف عن الرواية العراقية(20) وصاحبها لا يزال يعمل في معهد الاستشراق بموسكو ويكتب بعض المقالات والدراسات عن الأدب العراقي. ومن الجدير بالذكر أنه أصدر في الفترة الأخيرة مجموعة قصصيه لأغلب الكتاب العراقيين. وعالج هذا المستشرق في أطروحته نفس المسائل التي تطرق إليها الباحث والناقد العراقي المعروف الدكتور عبد الإله أحمد في كتابه “نشأة وتطور القصة العراقية”..

أخيرا لا بد لنا من الإشارة إلى أن بعض المستشرقين الذين كتبوا عن النثر العراقي تركوا العمل في هذا المجال (مثل عماروفا وسلطانلى) واتجهوا إلى أعمال أخرى في مجال الاستعراب لكنها لا تمس الأدب العراقي.

وإن الهدف من بعض الأطروحات التي أشرنا إليها، لم يكن ليتعدى حدود الحصول على درجة الدكتوراه، ولهذا لم تظهر كتب خاصة عن الأدب العراقي كما هو الحال بالنسبة للأدب العربي في مصر وسوريا، حيث نشرت عنه كتب قيمه قام بتأليفها مستعربات بارزات مثل دولينينا وفرولوفا وكيربيتشينكو وغيرهن.

ونود أن نشير هنا في ختام مقالنا هذا إلى ضرورة إرسال المؤلفات العربيه بمختلف الطرق إلى المكتبات الأجنبية في الخارج. ونعتقد أن هذه المهمة، تقع على عاتق الجمعيات الأدبية والمهنية في كل قطر من الأقطار العربية، لكي يستفيد منها المستشرقون ويتناولوها في دراساتهم، ولكي لا تقتصر أبحاثهم على الأعمال الأدبية القليلة، وتكون النتيجة سلبية بالنسبة لثقافتنا العربية في الخارج.

أخيرًا لا بد من الإشادة، بشكل عام بالمنهج العلمي الموضوعي الذي يلتزم به بعض المستشرقين القديرين، الذين يكنّون حبًا كبيرًا للأدب العربي. ولهذا لا بد من متابعة نشاطاتهم العلمية وتشجيعهم والعمل على ترجمة كتبهم القيمة إلى اللغة العربية لفائدة القراء والطلاب العرب. ومن الضروري أيضًا متابعة أبحاث المستشرقين ومراقبتها في كل العالم للتصدي لكل ما يسيء لثقافتنا العربية وأصالتها، وتشجيع المبادرات الإيجابية منها.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

...........................

* نُشرَ هذا المقال في مجلة البديل، العدد 8، حزيران يونيو 1986، بيروت

- ومن الجدير بالذكر أن كراتشكوفسيكي ألف كتابًا عن الطنطاوي أيضًا. أنظر: كراتشكوفيسكي. الشيخ الطنطاوي بروفيسور جامعه بطرس بورج. لينبنغراد 1929.

(1)- كراتشكوفسكي. الأعمال الكاملة. موسكو – لينينغراد 1956 المجلد الثالث ص65.

(2)- نفس المصدر ص 87.

(3)- يوسوبوف د/ الأدب العربي. موسكو، 1964.

(4)- يوسوبوف د/ الأدب العراقي. الانسكلوبيديا الأدبية الموجزة. موسكو 19 المجلد الثالث ص166.

(5)- قصص الكتاب العراقيين. موسكو 1961.

(6)- عصيده وشمس. موسكو 1965.

(7)- م. عماروفا. حياة وأعمال ذو النون أيوب رائد القصة القصيرة العراقية. موسكو. 1967 بالروسية.

(8)- نفس المصدر السابق. ص 430.

(9)- نفس المصدر السابق. ص 44.

(10)- م. عماروفا. نفس المصدر السابق. ص (102-101).

(11)- ن. خ. سلطانلي. "الواقعية الجديدة" في القصة العراقية بعد الحرب العالمية الثانية. باكو. 1972.

(12)- خ. سلطانلي. نفس المصدر. ص (5-4).

(13)- سلطانلي. نفس المصدر. ص 54.

(14)- سلطانلي. نفس المصدر. ص 69.

(15)- سلطانلي. نفس المصدر. ص69.

(16)- سلطانلي. نفس المصدر. ص70.

(17)- نفس المصدر. ص72.

(18)- فؤاد التكرلى. الوجه الآخر. بغداد 19 ص 97.

(19)- سلطانلى. نفس المصدر. ص 72.

(20)- ب.ف.تشوكوف. ترسخ نوع الرواية في النثر العراقي المعاصر (1954-1919). موسكو. 1970.

 

مقدمة: يعرّفنا أرسطو، في كتابه الأخلاق النيقوماخية، على أخلاقيات تضع في المركز الاهتمام بـ”الحياة الطيبة”. هذه الأخلاق، التي قد تبدو غريبة تمامًا عن مفاهيمنا الحالية، تدعونا في الواقع إلى إعادة التفكير في ماهية الحياة المنجزة في ضوء أخلاقيات الفضيلة. لكن أخلاقيات السعادة هذه - بعيدًا عن كونها تمجيدًا للذاتية الأنانية - هي أيضًا أخلاقيات الآخر وتعطي مكانة الصدارة للصديق. وبالتالي سيكون الهدف من هذا المقال هو التشكيك في العلاقة بين الصداقة والسعادة في إطار الأخلاق الأرسطية. وبتعبير أدق فإن السؤال الذي سنحاول الإجابة عليه في نهاية هذا المقال هو: هل الصداقة ضرورية للسعادة؟ الأطروحة التي سندافع عنها من خلال عدة حجج هي أن الصداقة ضرورية بالفعل لتحقيق السعادة. للدفاع عن أطروحتنا، سيكون من الضروري أولاً تقديم نظرة عامة على القضايا المحيطة بسؤالنا. للقيام بذلك، سيكون من المفيد توضيح المفاهيم الرئيسية التي تحيط بالمفهوم الأرسطي للصداقة والسعادة والتي ستكون بالتالي أساسية للتطوير الجدلي. وسيتضمن ذلك تسليط الضوء على المفاهيم الأرسطية الثلاثة وهي الفضيلة والسعادة والصداقة. وبعد ذلك، سوف نقترح ثلاث حجج رئيسية لصالح أطروحتنا. سيتم مناقشة موضوعات حب الذات، والإنسان باعتباره "حيوانًا سياسيًا" تباعًا، بالإضافة إلى الجوانب المختلفة للصديق باعتباره مكونًا مباشرًا لخيرنا وسعادتنا. بالإضافة إلى ذلك، سوف نقوم بدمج كل من الاعتراضات "الشائعة" التي سنسعى إلى تفكيكها لدعم أطروحتنا بشكل أفضل وحدود المنطق لتسليط الضوء على العيوب الممكنة في الأطروحة.

التحديد المفهومي للحقل الايتيقي

من المعلوم أن ارسطو اشتغل في كتبه على تعريف المفاهيم الهامة التي تتنزل ضمن الحياة العملية للبشر

أولا وقبل كل شيء، سنحتاج إلى تحديد المفهوم الأكثر هامشية لسؤالنا - ولكنه لا يزال ضروريا لفهم جيد للحجج وهو مفهوم الفضيلة. وسنستمر في الحديث عن السعادة بالمعنى الأرسطي: eudaimonia فن السعادة، الذي يحتل مكانة مركزية في أخلاقياته. أخيرًا، سيكون الأمر يتعلق بشرح مفهوم الصداقة ذاته الذي يشير إليه أرسطو: الفيليا philia. سيكون من الضروري بعد ذلك شرح صفاتها الخاصة، وموضوعها، وكذلك التمييز بين الأشكال المختلفة “المشتقة” من الصداقة التي تميل المفاهيم المشتركة إلى ربطها – بشكل خاطئ، وفقًا لأرسطو – بالصداقة الحقيقية. اولا هناك اشارة إلى الخير الأسمى الذي يمكن ربطه بالسعادة والحياة المنجزة وثانيا اشارة إلى شكل الصداقة بامتياز، الذي يتميز بالفضيلة. فماهي الدلالة الفلسفية لهذه المفاهيم الايتيقية؟ ولماذا حاول ارسطو التقريب بينها؟

مفهوم الفضيلة

بداية، ما هي الفضيلة وبأي معنى تلعب دورًا في الصداقة والسعادة؟ التعريف الكلاسيكي الذي يقترحه أرسطو في الفلسفة الإنجليزية له ثلاثة جوانب رئيسية. من ناحية، طبيعتها: “حالة اتخاذ القرار”. وبالتالي فإن الدولة هي “استعداد معتاد للعمل العقلاني” ولكنها تظل في الوقت نفسه مرتبطة دائمًا بالعمل وصنع القرار. إذا تحدثنا بمصطلحات أرسطو، فإن الفضيلة هي قوة تم استدعاؤها لتصبح فعلًا. ولذلك يُنظر إلى الفضيلة دائمًا عند أرسطو على أنها فضيلة في العمل، ومن هذا المنظور ستكون مرتبطة بالصداقة والسعادة. من ناحية أخرى، الفضيلة الأخلاقية هي التصرف الذي يتم اكتسابه من خلال العادة والخبرة وبهذا المعنى يعبر أرسطو عن فكرة أنه من خلال القيام بالأفعال الجيدة يصبح المرء جيدًا . وهذا يعني أن هذه الحالة الفاضلة التي تفترضها الصداقة الحقيقية ليست امتيازًا لأقلية قد تكون امتيازًا للخير "في جوهره"، ولكن يمكن قيادة الجميع لتحقيق شكل معين من الفضيلة. أخيرًا، يُنظر إلى الفضيلة على أنها وسيط سعيد، "وسط بين رذيلتين". ولذلك فهو دائمًا تعبير عن التميز، عن حالة من التوازن المثالي الذي يجب على البشر أن يبحثوا عنه باستمرار. وهكذا فإن الفضيلة، باعتبارها مؤسسة اختياراتنا وما ينتج عن العقلانية الإنسانية، توجه الإنسان نحو الغاية . والكن، الغاية بامتياز، كما سنرى، هي السعادة.

مفهوم السعادة

في الجزء الأول من الأخلاق النيقوماخية، يؤسس أرسطو السعادة باعتبارها الوظيفة النهائية للحياة البشرية. في الواقع، يسلط أرسطو الضوء على حقيقة أن أفعالنا موجهة نحو غايات، وهي نفسها تابعة لغايات أخرى. الآن، يجب أن تكون هناك غاية تشمل كل الآخرين، والتي ستكون مرغوبة في حد ذاتها والتي ستشكل بعد ذلك الخير الأسمى، والتي بدونها ستكون رغباتنا وتطلعاتنا عبثًا. هذه الغاية، هذا الشيء الذي نرغب فيه ونسعى إليه لذاته وليس بحكم أي شيء آخر، هو السعادة. إذا كان هذا التعريف للسعادة يبدو مقبولا بالنسبة لنا بشكل بديهي، فإن بعض النقاط مثل طبيعتها ومتطلباتها الأساسية تستحق الاهتمام. أولاً، لا يعرّف أرسطو السعادة على أنها شيء يمكن تحقيقه أو امتلاكه في حد ذاته، بل على أنها “نوع من النشاط الذي هو جزء من الصيرورة”. لذلك، فإن السعادة تعني في الأساس “العيش والنشاط” وهذا الطابع الموضعي واستمرارية النشاط (الفاضل) هو ما يميز السعادة طوال العمل. يمكننا بعد ذلك إدراك وجود صلة مباشرة بين السعادة والفضيلة. في الواقع، إذا كانت السعادة “شكلًا معينًا من أشكال الحياة”، وأنها هذا “النشاط العقلاني للروح” وأنها تتميز بسيادتها، أليس كذلك؟ تحقيق أو تحقيق الفضيلة بأقوى معانيها، كحالة تسترشد بالعقل الصحيح الذي يميل إلى تحقيق ما هو أفضل؟ على الأقل هذا ما يبدو أن أرسطو يشير إليه عندما يؤكد أن السعادة هي نشاط الروح في التعبير عن الفضيلة النهائية. ولذلك فإن السعادة تقع بشكل أساسي في النشاط الفاضل الذي نقوم به.

مفهوم الصداقة

بعد أن تناولنا هذين المفهومين الأولين، حان الوقت لنسأل أنفسنا عن جوهر مشكلتنا التي لا تتعدى مشكلة الصداقة. لكي نفهم حقًا ما هي الصداقة في شكلها الكامل، من الضروري أولاً أن نفهم ما ليست عليه من خلال تمييزها عما يسمى بالأشكال العرضية للصداقة. وتشمل هذه الصداقة بالمتعة والصداقة بالمصلحة. في الحالة الأولى، ما يحفز العلاقة هو الفرحة البسيطة التي يمنحها لي الآخر. يُنظر دائمًا إلى الصديق في هذه الحالة على أنه الشخص الذي يجلب لي المتعة . أما في حالة الصداقة من باب المصلحة، الفكرة مشابهة لأن الصداقة قد اختزلت مرة أخرى إلى دور فعال؛ الصديق مفيد بالنسبة لي، ويسمح لي بالحصول على سلع معينة ووجوده يهمني لأنه يسمح لي بالوصول – بشكل مباشر أو غير مباشر – إلى امتيازات معينة. إن اللوم المستمر الذي يصوغه أرسطو فيما يتعلق بهذه الأشكال "المشوهة" من الصداقة يكمن في فكرة أنها تفتقد تمامًا ما يشكل الجزء الأساسي من العلاقة الودية، أي الاهتمام المتبادل بخير الآخر، "شكل من المشاركة". القيم ومفهوم الخير، و”الإحسان الفعّال” تجاه الآخرين وقبل كل شيء، بل وأكثر من ذلك، حب الآخر “لأنفسهم”، لشخصهم بالكامل وليس لدورهم الوظيفي. هذا لا يعني أن المتعة أو الفائدة التي يمكن أن يجلبها لي الصديق قد تم إنكارها، لأن كل الصداقة مدفوعة بما هو جيد أو ممتع. ومع ذلك، فإنهما يظلان ثانويين بالنسبة لعلاقة الصداقة العميقة. علاوة على ذلك، فإن الصداقات العرضية، على عكس المحبة الحقيقية، لها طابع غير مستقر إلى حد كبير، لأن موضوع هذه الصداقات هو في حد ذاته متقلب؛ في الواقع، يكفي أن يتوقف الشخص عن تقديم ما كنا مرتبطين به حتى تتفكك العلاقة بأكملها . لكن هذا ليس هو الحال في الصداقة الحقيقية، لأن الشخص نفسه هو الذي يشكل شخصيته وهويته التي نعتز بها. ومع ذلك، هذه الأشياء هي أكثر دواما. إذا أضفنا إلى ذلك حقيقة أن المحبة هي شكل الصداقة التي تجمع الأشخاص الفاضلين – فالفضيلة نفسها ذات طبيعة دائمة – فإننا نفهم أن الصداقة الحقيقية هي الأكثر استقرارًا والأكثر احتمالية للصمود أمام اختبار الزمن. وكما قلنا، الصداقة في شكلها الكامل هي الصداقة الفاضلة. ولكن لماذا تعتبر الفضيلة أساسية إلى هذا الحد؟ لماذا يضع أرسطو الفضيلة في مركز المحبة؟ يبدو هذا السؤال معقدا، ولكن لمحاولة الإجابة عليه ببساطة، يجب علينا أن نفهم كيف يفهم أرسطو طبيعة الهوية الشخصية. بالنسبة لأرسطو، تتشكل هوية الصديق إلى حد كبير من شخصيته الأخلاقية، باختصار، شخصيته. وما يحدده ككائن عاقل هو بالتالي مجموعة من القيم والمداولات. ومع ذلك، فإن العمل من أجل خير الآخرين يفترض معرفة ماهية هذا الخير وبالتالي الاهتمام بهوية الآخر. إن فهم الآخر فيما هو عليه في أعماقه يتطلب بالتالي استخدام الفضيلة، لأنها الفضيلة التي تعرف كيف تتعرف على الشخصية الحقيقية للصديق. وهكذا، بدون الاعتراف بالشخصية الأخلاقية للآخرين والقيم التي تقوم عليها، يصبح شكل المشاركة الذي تتطلبه المحبة مستحيلاً. ومن ثم نفهم لماذا "الصداقة الكاملة هي صداقة الأشخاص الطيبين المتشابهين في الفضيلة" بالإضافة إلى كل هذا، فإن الصداقة هي أيضًا في الأساس "العيش معًا". إن الشعور بوجود الصديق يمكن تقديره في حد ذاته، فمن خلال قضاء الوقت مع صديقه ومشاركته في حياته يتم الشعور بوجوده. "الصداقة هي في الواقع مجتمع" . ستكون لدينا الفرصة لإظهار أهمية هذا العنصر المجتمعي من الصداقة في حجتنا. لتلخيص ذلك، يمكننا القول أن الصداقة هي مشاركة الحياة ومجموعة من القيم والتطلعات المشتركة، والاعتراف والمشاركة في خير الآخر، وفي بناء عالمنا، وفي نفس الوقت، من عالمنا. الصديق "يشارك ويدعم بنشاط الصديق في مشروعه لحياة طيبة".

الحجج والاعتراضات

فلنعد إذن إلى مشكلتنا التي تتعلق بعلاقة الضرورة بين الصداقة والسعادة. هل الصداقة ضرورية للسعادة؟ إذا كنا قادرين على فهم أن نوع الصداقة الذي يهمنا في سياق تساؤلاتنا هو الصداقة بالمعنى الحرفي وليس الصداقة "عن طريق التشابه" - وهي مجرد ملاحق بسيطة للمتعة - فقد حان الوقت لتسليط الضوء على الحجج المختلفة التي دافع عنها أرسطو والتي ستدعم أطروحتنا. وفي إطار الحجة، ستؤدي سلسلة من الاعتراضات إلى تأهيل أو التشكيك في بعض الحجج المطروحة.

"حب الذات"

أولاً، ستركز حجتنا على ما وصفه أرسطو بـ”حب الذات”. لذلك، سنحاول أولاً تأهيل وتعريف هذا الشكل من "الموقف الودي تجاه الذات". بعد ذلك، سنتناول حجة أرسطو التي تهدف إلى إظهار أن الموقف الودي ينشأ من الموقف الودي تجاه الذات . لفهم المعنى العميق للصداقة، يقدم لنا أرسطو في الفصل التاسع منعطفًا غير متوقع عبر "الذات"، محاولًا أن يجعلنا نفهم أن حب الذات والصداقة - بطريقة تبدو متناقضة للوهلة الأولى - مرتبطان ارتباطًا وثيقًا. . بداية السؤال هي هل حب الذات أمر محمود أم مذموم؟

كالعادة، للإجابة على هذا السؤال، يتم تقديم تمييز أساسي بين شكلين من أشكال حب الذات. فمن ناحية حب الذات الفاسد المرتبط بالأنانية. هذه هي الدوكسا الشعبية. في الواقع، يشرح لنا أرسطو، إذا كان الناس ينظرون إلى حب الذات بشكل سيء للغاية، فذلك لأن الصورة التي لديهم عنها تأتي من الرجل السيئ، الذي يعتبر، بالنسبة لأرسطو، أفضل ممثل للجمهور وأيضًا الشخص الوحيد. الذي يمتلك سمات حب الذات المبتذلة. ما يهدف المفهوم الشائع للصداقة إلى تسليط الضوء عليه والذي يشكل أيضًا اللوم الموجه للشرير، هو حقيقة “عدم الابتعاد أبدًا عن نفسه عندما يتصرف”. يجيب أرسطو على هذا على النحو التالي: من المؤكد أن حب الذات هذا يستحق اللوم، وهو محق في ذلك. ومن ناحية أخرى، إذا كان الأمر كذلك، فذلك لأن هذا المفهوم هو نقيض ما يمثله حب الذات حقًا. في الأساس، ما يخبرنا به أرسطو هو أن هذا الحب ليس في الحقيقة حب "الذات" لأنه يحب فقط الجزء العاطفي من روحه، الذي يستسلم للمتع الدنيئة وغير القادر على رؤية ما وراء اللحظة . كما يشير إلى "حب الذات" باعتباره التصرف الفاضل والطاعة للجزء السيادي من روح المرء و يعين العمل الذي تكون نهايته الصحيحة هي إنجاز أمر معين من التميز.

على العكس من ذلك، فإن حب الذات الحقيقي يشير إلى شخصية فضيلة. إنه حب لما يشكل "الذات" في أعمق حالاتها، أي الجزء السيادي من كياننا الذي يشكل الذكاء ؛ هذا الجزء منا الذي يحدد هويتنا كعامل عقلاني والذي يسمح لنا بتوجيه أفعالنا نحو الخير (وفي النهاية السعادة). إنه التغلب على تصور الذات على أنها دقة في المواعيد، وفهم "الشمولية الوحدوية لممارسة الفرد للحياة" . والأكثر من ذلك، أن حب الذات الحقيقي لا يكون أبدًا على حساب الآخرين؛ في حين أن حب الذات المبتذل يتمثل في السعي لامتلاك جميع أنواع الخيرات التي يستولي عليها المرء على حساب الآخر، فإن محبة الذات، وهي شخصية فاضلة، ليست تنافسية (يمكن للمرء أن يكتسب الفضيلة دون حرمان الآخر. لذلك لا يُنظر إلى الآخر على أنه خصم لسعادتي، بل - سيتم مناقشته لاحقًا - كجزء لا يتجزأ منها. ولمواصلة الاستدلال لا بد من الرجوع إلى الأطروحة الواردة في المتن الاخلاقي الارسطي التي تشبه التصرف الودي تجاه الصديق بما يتمسك به المرء تجاه نفسه. في الواقع، الصديق هو الشخص الذي نحبه بامتياز. هذا الصديق هو أيضًا الشخص الذي نرغب في العيش معه وتحقيق الخير الأعظم، وهو الشخص الذي نشاركه وجودنا. ومع ذلك، فإن هذه الخصائص تعتبر صحيحة أيضًا فيما يتعلق بعلاقتنا بأنفسنا. ومن ثم، فمن خلال هذه الملاحظة نفهم لماذا يدعونا أرسطو إلى اعتبار الصديق "ذاتًا أخرى" ولماذا لا يكون حب الذات غريبًا جدًا على الموقف الودي. وإذا كان الصديق حقاً هو نفساً أخرى، والإنسان الفاضل يتعلق بهذه الأخيرة كما يتعلق بنفسه، فإن الخير الذي يتمناه لصديقه هو مثل ما يتمناه لنفسه . كل ما بدا متناقضًا في التأكيد على أن “من الموقف الودي تجاه الذات تأتي صداقة الآخرين” يرتكز على حقيقة أن أرسطو يقدم تعريفًا غير معتاد لحب الذات. في الأساس، هذا هو الانفصال عن الذات كموضوع خالص يتمحور حول الذات لصالح الممارسة الفاضلة لعقلانية الفرد. ولهذا السبب، ربما يكون حب الذات إلى حد كبير تصحيحًا لعلاقة المرء بنفسه. تؤدي لامركزية الذات هذه إلى الوعي بتأثيري على العالم كعامل عقلاني وواقع الآخر باعتباره خارجيًا بالنسبة لي وليس كوظيفة لإدراكي الخاص. وأخيرًا، ما يجعلنا سعداء هو في الوقت نفسه "ما يحفز الفعل الأخلاقي"؛ أي الاهتمام بمصلحة الصديق والعمل الفاضل في ذاته. يمكننا حتى أن نذهب إلى حد القول إنه بالنسبة لأرسطو، الاثنان لا ينفصلان، وهذا هو السبب الأول الذي يجعلنا نعتقد أن الصداقة ضرورية لتحقيق السعادة.

الإنسان باعتباره "حيوانا سياسيا"

يمكن أن يكون عنوان حجتنا الثانية لصالح الأطروحة: “الإنسان، حيوان سياسي” (السياسة , 1995, 1253a8-1253a10). وبالفعل، فإن تفسير "الطبيعة الاجتماعية" للإنسان والمكون المجتمعي الذي يربط الصداقة والسعادة هو الذي سنتناوله. في الكتاب التاسع من الاخلاق النيقوماخية، يتبنى أرسطو بسرعة هذه الفكرة التي ذكرناها عندما يقول لنا: "إن الإنسان في الواقع مخلوق للمدينة وللحياة المشتركة، بطبيعته" . يبدو أن ما يريد أرسطو أن يخبرنا به على المستوى الأكثر سطحية هو أن الإنسان كائن اجتماعي في الأساس وأن طبيعته تدفعه إلى البحث عن وجود شعبه. ولكن ما الذي يمكن أن نستخلصه، لغويا، من صيغة «الحيوان السياسي»؟ إن القول بأن الإنسان حيوان سياسي يعني القول إنه حيوان بالتأكيد، لكنه يتمتع بملكة تجعله فريدًا وتميزه كإنسان. إن ما يشجع البشر على التعايش هو إذن تقاسم هذه القدرة التي تمثل خيرهم المشترك. لكن أرسطو يعتقد أيضًا أن “[المدينة] (وبالتالي السياسة) هي حقيقة من حقائق الطبيعة”. علاوة على ذلك، فإن "الطبيعة لا تفعل شيئًا عبثًا" (السياسة، 1995، 1256ب20-1256ب22) والغرض من السياسة هو الصالح السيادي؛ وهي السعادة. 5 مصطلح متعدد المعاني يعني الخطاب والكلام والعقل. نحن هنا نشير إلى القدرة العقلانية للإنسان وإلى الخطاب ولكن الفارق الدقيق الذي يقدمه أرسطو والذي يجعل الحجة مثيرة للاهتمام بشكل خاص هو أنها تتجاوز الجانب المادي والنفعي الذي يقرر الناس ربطه بالمدينة. ومن ثم تحرر المدينة نفسها من الدور الأداتي البسيط المتمثل في تلبية الاحتياجات الحيوية وتبادل الخدمات الضرورية لأداء وظيفتها بشكل سليم لتصبح مرادفًا لـ "الحياة الطيبة" الأصيلة . ما يجب أن نفهمه باختصار هو أنه وفقًا لأرسطو، هناك شيء جيد في أنفسهم يبحث عنه الناس عندما يتحدون في مجتمع سياسي وأن الإنسان كحيوان سياسي يدرك نفسه تمامًا . علاوة على ذلك، فإن هذه القناعة هي التي تروي العمل بأكمله والتي يعيد استخدامها عندما يصر على حقيقة أن علم السعادة هي سعادة لا يمكن تصورها بمفردها وأن مساهمة الآخرين هي التي تجعلها كاملة. هذا الشكل من العيش معًا الذي يشكل المجتمع، والذي يؤسس للسياسة (كغاية في حد ذاته) والذي يربط الكائنات العلائقية داخل المدينة معًا، هو مشاركة. وهي – قلنا سابقاً – تبادل الشعارات، مصدر الخطاب السياسي. إنه شكل من أشكال العقلانية، وهو خطاب حول العالم يميل إلى بناء رؤية مشتركة للخير. إذا كان من الواضح الآن أن الروابط المباشرة تظهر بين الصداقة الفاضلة - التي يقال إنها تقاسم عقلاني للقيم، والمفاهيم التي تشكلني كفاعل - والصداقة السياسية، فذلك لأن أرسطو نفسه يعتبرهما متشابهين. تنص على. في الواقع، يُنظر إلى الصداقة أيضًا على أنها "حياة مشتركة" بنفس الطريقة وتتضمن خصائص مماثلة. إذا كانت صداقة المواطنين وغيرهم تتوافق وتعني نفس الأشياء؛ علاوة على ذلك، إذا كان الإنسان يميل بطبيعته إلى العيش في جماعة وإلى مشاركة هذا الشكل من الصداقة التي تربطه بالآخرين وبالسعادة في نهاية المطاف، فإن ذلك يعني أن الإنسان يحتاج إلى أصدقاء - أو أقل من ذلك، إلى شكل من أشكال "العيش معًا" والمشاركة مع الآخرين. أقرانهم - لتحقيق السعادة. وبهذا المعنى، فإن النقص في هذه الصداقة “التي لا يمكن لأحد أن يختار العيش بدونها حتى لو كان لديه كل الخيرات الأخرى من شأنه أن يعيق سعادته. ومع ذلك، لا تزال هناك مقاومة تؤيد هذه الحجة. فإذا كانت الصداقة الفاضلة والصداقة السياسية شيئان متشابهان والإنسان حيوان سياسي، فكيف يمكن أن نواجه التناقض الذي يحدث بين الوجه الوحدوي/الكوني الذي تمثله فكرة "الحيوان السياسي"؟ والوجه الانتقائي/الهرمي الوجه الذي يفصل بين "الصالح" و"الخبيث" في الصداقة الفاضلة؟ يقول أرسطو أن الفضيلة شيء يمكن أن يصل إليه الجميع. ومع ذلك، يبدو أنه من الناحية العملية، قليلون جدًا هم الذين يمكنهم المطالبة بهذه الدرجة من الفضيلة التي يساويها أرسطو بشروط الصداقة الحقيقية. وماذا عن من يسمون بالأشخاص "العاديين"؟ هل يمكن حقًا تحقيق الصداقة الكاملة إلا بشكل مقيد، من خلال نوع من “فحص” الفضيلة؟ فهل ما زال هذا المفهوم يعكس حقا العلاقة الودية التي يعتبر فيها الصديق لنفسه دون قيد أو شرط؟ وعلى نطاق أوسع، هل الشخص الفاضل الذي يقدمه أرسطو لديه شخصية إنسانية فقط أم أنه مجرد مثال ينبغي السعي لتحقيقه؟

الآخر كجزء من ممتلكاتي

في نقطتنا الأخيرة، سيتم تجميع أشكال مختلفة من الحجج الفرعية التي تحدد الصديق بطريقة أكثر مباشرة كوسيط أساسي للسعادة. سنحتاج إلى ملاحظة هذه الأشكال المختلفة من الحجج وفهم المعنى الذي يساهم به الصديق في تحقيق السعادة في كل حالة.

الصديق يساعد على جعل السعادة مثالية

أولا، دعونا ننظر إلى الحجة التي تبدأ في الاخلاق النيقوماخية والتي يمكن أن يترك بناءها موضع شك. وهذا يؤدي إلى استنتاج مفاده أن “لامبالاة الفاضل تجاه أخيه الإنسان أمر مستحيل بطبيعة الحال. لكن ما الذي يحاول أرسطو أن يخبرنا به من خلال هذه الصيغة الغامضة وكيف يدخل ذلك في بحثنا عن العلاقة بين الصداقة والسعادة؟ إن إعادة صياغة الاستنتاج تسلط الضوء تمامًا على هذا الموضوع وتكشف لنا البنية البسيطة للحجة في نهاية المطاف. يخبرنا أرسطو أن الحياة، بالنسبة لرجل فضيلة، هي شيء ملموس في حد ذاته. إن وعي المرء بوجوده لا يقل أهمية لأنه يعادل المتعة المرتبطة بالوعي بكونه رجلاً صالحًا. ثم يضيف أنه في ظل هذه الظروف، وإذا كان الصديق مشابهًا لنا من حيث الفضيلة، بحيث يبدو وجوده مرغوبًا بالنسبة لنا مثل وجودنا، فإن الخير الناتج عن مشاركة الوجود وأفكارنا معه يمثل خيرًا أكبر. أكثر مما يمكن أن يختبره الإنسان بمفرده. الفكرة العامة هي أن الصديق يصنع سعادة كاملة لا يمكن أن تكون إلا جزئية بدون حضوره. ونذكر أيضًا أن الوعي بوجود الصديق لا يمكن أن يتحقق حقًا إلا عندما يشارك الأصدقاء في "شركة" الحياة والفكر التي تميز الصداقة . يبدو أيضًا أن أرسطو قد حسم مسألة ضرورة الصداقة بسرعة كبيرة من خلال الإعلان دون مزيد من التفاصيل أنه بما أن هذا الخير الذي يمثله الصديق يمكن تقديره ويجعل السعادة كاملة، "فسوف يحتاج بالتالي، إذا أراد أن يكون سعيدًا، إلى أصدقاء فاضلين". ومع ذلك، لا يزال هناك شك لأن التفسير يبدو متسرعًا بعض الشيء: يبدو في الواقع، في نهاية الحجة، أن الصديق يُنظر إليه على أنه مساعد للسعادة أكثر من كونه مكونًا لها. وبعبارة أخرى، يبدو أن الأمر لا يهدف إلا إلى زيادة الخير الذي كان لدى الشخص الفاضل بالفعل في نفسه، وبالتالي لا يقدم هذه الصفة الضرورية.

الصديق باعتباره وساطة مع الذات

لكي نفهم بشكل أدق الضرورة التي تتطلبها الصداقة في السعي إلى حياة كاملة، من المفيد تبرير ذلك. الحجتان اللتان يشكلان المقطع توضحان بشكل أكثر وضوحًا ضرورة الصديق وعدم انفصال الرابط الذي يوحد الصداقة والسعادة. قبل كل شيء، يشير أرسطو إلى تعريف السعادة كنشاط – وهو ما يتناقض مع فكرة “موضوع التملك” . وبالتالي فإن الرجل السعيد هو الذي يتمكن من الحفاظ على نوع ما من النشاط، والحفاظ على شكل من أشكال الحياة يسترشد بالعمل الفاضل. ومن الواضح، كما ذكرنا من قبل، أن هذا يعني أن الحياة في حد ذاتها شيء ممتع، لأنها بالإضافة إلى الانتماء إلى أشياء محددة، فهي نشاط. علاوة على ذلك، فإن الطبيعة الانعكاسية لمعارفنا (حقيقة إدراك أننا نفكر) هي في الوقت نفسه وعي بوجودنا، لأن الحياة هي قبل كل شيء "شعور أو تفكير". ومع ذلك، فإن هذا الشكل من الانعكاسية هو الذي يحدد الطريقة التي ندرك بها أفعالنا وأنفسنا. في هذا الصدد، يقدم أرسطو موقفًا مناهضًا للديكارتية تمامًا ويدافع عن أنه بهذه الطريقة لا يستطيع الإنسان أبدًا الوصول إلى المعرفة الذاتية الحدسية . ولذلك فإن هناك جزءًا من عدم المعرفة يبقى فيما يتعلق بالذات. بمعنى آخر، لا يمكن للإنسان أن يرى نفسه أبدًا كذات هو، بل كموضوع فقط. يتيح لنا هذا الاعتبار الاقتراب من أعماق الفكر الأرسطي؛ فكرة محدودية الوجود الإنساني. ما يفعله أرسطو في هذا المقطع يمكن رؤيته بشكل أساسي على أنه إعادة صياغة للإنسان على طبيعته الخاصة: طبيعة كائن محدود، غير قادر على إدراك نفسه بطريقة "فورية" أو باعتباره ذاتًا. فطبيعة إذن تبرر حاجة الصديق إلى تحقيق السعادة التي تتجاوز إطارها المحدود. كيف، في الواقع، يمكننا أن نتصور إنسانًا منعزلاً، كائنًا محدودًا قادرًا على تحقيق بوسائله الخاصة خيرًا يعكس مثل هذا النظام من الكمال - خير، في النهاية، يتجاوز فرديته -؟ من المحتمل أن يكون رد أرسطو على هذا مختصرا؛ فهو لا يستطيع، ولهذا فهو يحتاج إلى أصدقاء لتأسيس هذه السعادة العليا. ولكن، بأي معنى يسمح الصديق بإتمام هذا الخير؟ وقد ورد في المقطع الذي أشرنا إليه شكلان من الرد. أولاً، يبدأ أرسطو التفكير من خلال التذكير بتفضيل ما هو "شخصي". في الواقع، نحن نفضل فضيلتنا على فضيلة الآخرين. ومع ذلك، للأسباب الموضحة أعلاه، لا يستطيع الإنسان أن يراقب نفسه بنفس الحرص الذي يراقب به صديقه الفاضل . ولكن بما أن الصديق هو ذات أخرى، فإن أفعاله الجيدة يمكن أيضًا تقديرها باعتبارها “أشياء شخصية”. وهذا يعني أن الرجل الصالح يمكنه تحقيق السعادة من خلال "العرض" الوحيد لأصدقائه، رجال العمل. ولذلك فهو لا يحتاج إلى إظهار النشاط بنفسه للاستفادة من المتعة التي تمنحها تصرفات هؤلاء الأصدقاء والوصول إلى خير معين. ومن ناحية أخرى، فإن ما يبدو أنه يطرح مشكلة هو معرفة ترتيب السعادة الذي يمكن أن يحققه بهذه الطريقة لأننا نستطيع أن نتصور أن هذه الفضيلة "بالوكالة" التي يغدقها الصديق ليست كافية لبناء السعادة الكاملة. النشاط الشخصي، في وقت أو آخر، غير موجود. هذه الذات الأخرى التي يجب أن تشبهنا من وجهة نظر الفضيلة هي بالتالي وساطة لأنفسنا. هذه الوساطة التي تشكل النظرة الموضوعة على الصديق، والموجهة إلى أفعاله، هي في الواقع انعكاس لما أنا عليه وتسمح لي بشكل غير مباشر بتأكيد قيمة ممارستي الأخلاقية بشكل موضوعي. إن الصديق الذي يشارك في حياتي، والذي يدعمني ويشاركني ويساهم بنشاط في مُثُلي للحياة يبدو بلا شك الأكثر تشابهًا معي، ومراقبته هي ما يجعلني أكثر قدرة على الحكم على أفعالي. وهكذا فإن الإنسان السعيد يحتاج إلى الصديق، هذا المنظور "الخارجي" الذي يصبح جزءاً لا يتجزأ من واقعه؛ نظرة تتداخل مع انعكاساته وتسمح له برؤية نفسه أقرب ما يكون إلى حقيقته. الاعتراض الأكثر مباشرة الذي يمكن توجيهه إلى هذا هو أن الفاعل، عندما يكون قادرًا على العقلانية، يكون لديه بالفعل علاقة انعكاسية مع نفسه، وبالتالي يستعير نفس النظرة المتجنبة التي تسمح له بالحكم على أفعاله. يمكننا الرد بأنه حتى لو كان هذا صحيحًا، فإن هذا لا يمنع أن تكون هذه القدرة التأملية مطلقة. على عكس الله، الإنسان ليس حقيقة خالصة، "وعيا ذاتيا" لا يترك ظلا على شخصه. وهذا بالضبط مرة أخرى هو الانفصال الأساسي الذي يحدث بين الله – الذي يكمن الخير بالنسبة له في التأمل الذاتي والذي بالتالي لا يتطلب أي مظهر خارجي والإنسان. وعلى عكس الله، فإن خير الإنسان مرتبط ارتباطًا جوهريًا بالآخرين. وبالتالي فإن نموذج الحياة الجيدة المنعزلة سيكون مبنيًا على خطأ: ذلك الذي يخلط بين الحالة الإلهية والإنسانية. وهكذا، يمكن أن توجد السعادة المنفردة إذا كان الإنسان المعني إلهًا، وإذا كان لديه إمكانية الوصول إلى "حقيقته الداخلية". وهذا هو بالضبط سبب إصرار أرسطو على الاعتماد على الصديق، ولماذا لا يمكن أن يكون خير الآخر ومصلحتي شيئين منفصلين تمامًا عن بعضهما البعض.

الصديق بمثابة إدامة لاستمرارية النشاط

وتعيد بقية الحجة الحاجة إلى الصديق إلى مركز الاهتمام، ولكن هذه المرة من زاوية استمرارية النشاط. مرة أخرى، هذه الحجة بمثابة نقد للسعادة الانفرادية. يؤكد أرسطو هنا على عدم القدرة على الحفاظ على الاستمرارية في نشاط الفرد الفاضل. إلا أن مجرد امتلاك فضيلة دون تفعيلها لا يكفي لتحقيق السعادة، كما هو الحال عندما نأخذ مثال النائم الفاضل، الذي يصعب وصفه بالفضيلة. مرة أخرى، من خلال الأصدقاء يمكن للمرء علاج هذه الفضيلة "بشكل متقطع" لأنه بشرط أن تكون "في صحبة الآخرين وفي علاقة مع الآخرين" يمكن جعل الفضيلة مستمرة. وإذا أخذنا استعارة الملاحة لتمثيل رحلة الفضيلة بين العيب والإفراط، ندرك أن الصديق يساهم أيضًا، من خلال نشاطه الفاضل، في إعادتنا إلى الوسط الذهبي الذي يشكل الفضيلة. في الواقع، إن الحفاظ على هذا الثبات بمفرده ليس بالأمر السهل دائمًا، وبهذا المعنى بالتحديد يمكن للصديق أن يتدخل عندما يتصرف بشكل فاضل، وبالتالي يذكرنا بمشروعنا الخاص بالحياة الطيبة ويساعدنا على إيجاد طريقنا في الحياة. الأوقات التي تخذلنا فيها الفضيلة. لكن من الواضح أن هذه العلاقة ليست في اتجاه واحد. على الرغم من أنه يمكن أن يكون راضيًا مؤقتًا عن "مشهد الفضيلة" الذي يقدمه الصديق عندما يتصرف الأخير بدلاً منه، إلا أن الشخص الفاضل يدين بسعادته قبل كل شيء لأفعاله. بهذا المعنى، مرة أخرى، يحتاج إلى أصدقاء لممارسة فضيلته ويمكننا بعد ذلك أن نفهم لماذا نقول إنه “في أوقات الحظ السعيد نحتاج إلى أصدقاء.

حدود المفهوم المتناقض للصديق

رغم كل شيء، تبقى بعض النقاط إشكالية وغير واضحة في نظري. وبالفعل، يبدو لي أن النص مملوء بالتوتر المستمر في رؤية الصداقة. تتداخل في الواقع نغمتان ضمنيتان إلى حد ما في مفهوم الصداقة الذي اقترحه أرسطو. فمن ناحية، فإن الأطروحة التي تجعل الصديق ضرورة للسعادة تطلب منا أن ننظر إلى الصديق ونحبه بطريقة نزيهة: "لنفسه". إنه يضعها خارج القضايا النفعية أو النفعية. ومن ناحية أخرى، يبدو أن العكس أيضًا قد تم ذكره ضمنيًا. في الواقع، لا يبدو أن الصديق أو ما يملكه يُنظر إليه أبدًا كغاية في حد ذاته، بل كوسيط لسعادتنا. ألا تبدو فكرة الذات الأخرى التي يشكلها الصديق في نظر الفاضلين إشكالية، بمعنى أنها تبدو وكأنها تنكر اختلافيتها من أجل إعادتها إلى الذات؟ بالإضافة إلى ذلك، يمكننا أن نلاحظ المصطلحات التي استخدمها أرسطو لوصف علاقة الصداقة. ومن خلال استعارة اقتصادية ورياضية وبموجب شروط المدين والدائن والسعر والخدمة والإتاوة والسلطة، غالبًا ما يظهر وصف العلاقة الودية.

الخاتمة

وفي نهاية هذا العمل يمكن طرح عدة أسباب للدفاع عن أطروحة ضرورة الصديق في حياة المبارك. لقد أظهرنا ذلك أولاً من خلال حالة الرجل الذي يحب نفسه: من خلال إظهار أن حب الذات هذا هو ما يسمح لنا بالارتباط بالصديق وأن العلاقة الصحيحة التي نحافظ عليها مع الذات ومع الصديق هي من نفس الطبيعة، فإننا وقد أظهرت التشابك والدلال المتبادل للخير للآخر والخير للذات، وبالتالي ضرورة الصديق في الحياة السعيدة. ومن ثم استخدمنا فكرة الطبيعة “الاجتماعية” للإنسان لتبرير الأطروحة. كان علينا ترسيخ الصداقة داخل المدينة كشكل من أشكال المحبة والدفاع عن أن السعادة الإنسانية هي السعادة في "المجتمع". أخيرًا، في الجزء الجدلي الأخير، حاولنا أن نرى كيف يمكن للأصدقاء المساهمة بشكل مباشر في السعادة. وقد لاحظنا كيف يمكن للصديق أن يتصرف عندما لا يكون الإنسان مكتفياً بسعادته. سواء من خلال ضمان استمرارية النشاط الفاضل، أو من خلال العمل كانعكاس للمحب - الذي يمكنه بالتالي أن يتصل بنفسه بشكل أكثر موضوعية من خلال الصديق - أو من خلال السماح له بممارسة إحسانه، فقد تمكنا من إظهار، مرة أخرى، أن الحاجة المباركة للأصدقاء. وفي الوقت نفسه فإن الحجة المخالفة للأطروحة التي تدافع عن موقف الإنسان المكتفي بذاته في سعادته يمكن إبطالها بالاعتراض على أنها تخلط بين الحالة الإلهية والحالة الإنسانية. وبالتالي، فإن مثل هذا الموقف الذي يجعل من نفسه الدعم الوحيد لسعادة المرء والذي ينكر أي مساهمة خارجية في ذلك، لا يمكن إلا أن يشير إلى الغطرسة المفرطة والانسحاب من الذات. كان من الممكن أيضًا تشكيل بعض الانتقادات الداخلية للحجج، لكنها بشكل عام تدور حول ما اعتبرته تناقضات أو مواقف متناقضة في الاستدلال أو المقدمات أكثر من كونها انتقادًا حقيقيًا للأطروحة نفسها. لقد واجهت بالفعل صعوبة في العثور على اعتراضات على الحجج التي تدعم الأطروحة. علاوة على ذلك، كان من الصعب فصل الحجج عن بعضها البعض لأنه كان لدي انطباع متزايد، مع تقدم العمل، أنها كلها مرتبطة ببعضها البعض بطريقة معينة وأن نفس الفكرة الأساسية - "خير الفاضلين يمر". بالضرورة من خلال خير الآخر" أو حتى "لا يعتبر الإنسان نفسه أبدًا دون المرور عبر الآخر" - عادت إلى الظهور باستمرار في كل من الحجج. وفي نهاية النقاش، يبدو أننا تمكنا من طرح عدة أسباب للقول بأن الصداقة ضرورية للسعادة، رغم أن بعض الغموض لا يزال قائما، خاصة كما قلنا، فيما يتعلق بمفهوم الصداقة. يقترب عملنا الآن من نهايته، وحتى لو تمكنا من تقديم بعض الإجابات فيما يتعلق بالدور الذي يمكن أن تلعبه الصداقة في السعادة الإنسانية، فلا يزال هناك العديد من وجهات النظر حول الصداقة التي يمكن استكشافها. على سبيل المثال، سيكون من المثير للاهتمام التساؤل بمزيد من التفصيل عن الدور السياسي للصداقة، والطريقة التي يسمح بها الحوار بين الأصدقاء - باستخدام كلمات أرندت - "بإضفاء الطابع الإنساني على العالم".

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

....................

المصادر

Aristote Éthique à Nicomaque (Trad. R. Bodéüs). Éditions Flammarion(2004)

Aristote Politique (Trad J. Tricot). Éditions Vrin (1995)

في قلب الطبيعة، تكمن قصة مذهلة تروي كيف تشكلت الحياة وتطورت على مر العصور. هذه القصة ليست خيالية بل هي حقيقة علمية، تُعرف بالتطور الأحيائي. التطور ليس مجرد نظرية بل هو حقيقة واقعية مقبولة على نطاق واسع في مجال علوم الحياة تدعمها الأدلة الجيولوجية والأنثروبولوجية والكيمياوية والبيولوجية. إنه العملية التي من خلالها تتغير الأنواع الحية بمرور الزمن من خلال التغيرات الجينية والانتقاء الطبيعي. وكما قال داروين، "ليست الأنواع الأقوى التي تبقى، ولا الأكثر ذكاءً، بل الأكثر استجابةً للتغيير"، فهي فكرة بسيطة لمن يطلع على جوهرها ولكنها عميقة في تأثيرها على فهمنا للحياة نفسها.

رحلة قصيرة من داروين إلى العصر الحديث

كتاب "أصل الأنواع" الذي كتبه تشارلز داروين (1809-1882) ونشر في عام 1859 (1)، كان نقطة تحول في فهمنا للحياة. خلال رحلته البحرية التي استمرت خمس سنوات، قام داروين بدراسة الحياة في مناطق مختلفة من العالم مثل أفريقيا وأمريكا اللاتينية وأستراليا وجزر عديدة، ووصل إلى اثنين من الفرضيات الرئيسية:

1. التطور: اقترح داروين أن جميع الكائنات الحية، بما في ذلك الإنسان، تطورت من أسلاف قديمة من خلال تغيرات تراكمية عبر الزمن. وهذه الفكرة حصلت على اعتراف واسع النطاق بفضل الأدلة الوافرة من علم الحفريات، المورفولوجيا وعلم الأجنة والجيولوجيا، مع اعتماد الكثيرين عليها قبل اكتشاف علم الجينات.

2. الانتخاب الطبيعي: أشار داروين إلى أن الانتخاب الطبيعي هو العملية الرئيسية التي تسبب التغيرات التطورية. ورغم ذلك، لم تحظى هذه الفرضية بنفس مستوى الدعم القوي الذي حصلت عليه الفرضية الأولى في زمانه.

بعد داروين، مر علم التطور بثلاث مراحل رئيسية. اولا اللاماركية الجديدة New-Lamarckism (2) التي اقترحت أن الكائنات الحية يمكن أن تورث الصفات التي اكتسبتها خلال حياتها للأجيال القادمة، لكن هذه النظرية لم تصمد أمام الاختبارات. بعدها ظهرت نظرية التطور الموجه Orthogenesis (3) التي فسرت التطور كمسار خطي محدد مسبقا، لكنها لم تقدم تفسيرا واضحا للآلية وفشلت في الاختبارات. ثم ظهرت نظرية المطفرين Mutationists (4) الذين رأوا أن الطفرات الجينية هي السبب الوحيد للتطور، لكن هذه النظرية أيضا لم تنجح في الاختبارات. ولا زال البحث مستمرا فتاريخ التطور يشهد على استمرار البحث والتجارب لفهم كيفية تطور الكائنات الحية والعوامل التي تحدد اتجاهها.

في الثلاثينات من القرن العشرين، ظهرت الداروينية الجديدة التي دمجت فرضية داروين حول الانتخاب الطبيعي مع علم الجينات الذي طوره كريكور مندل (1822-1884)، مما أدى الى تقبل واسع لنظرية التطور بعد ان تم اعادة اكتشاف نتائجه في سنة 1900. عبر اسلوب جديد من التحليل التطوري تم معالجة النقص في فرضية داروين الثانية بفضل فهم أفضل لعلم الجينات، ومنذ ذلك الحين، نجحت نظرية التطور في اجتياز اختبارات عديدة في مجالات مختلفة مثل البيولوجيا والجيولوجيا والكيمياء. واليوم، نعلم ان التطور من أسلاف مشتركة هو حقيقة علمية مؤكدة، وقد تمت ملاحظتها وتوثيقها قبل داروين بآلاف السنين. اما الخلافات حول التطور فتتركز على آلية الانتخاب الطبيعي وليس على حقيقة التطور نفسه.  فمنذ الثلاثينيات، لم يعد هناك خلاف علمي جوهري حول نظرية التطور، والنقاشات المتبقية تجري خارج النطاق العلمي. عندما ينتقد التطور، من المهم التأكد من أن الناقد متخصص في علم البيولوجيا التطورية، لأنه اذا لم يكن كذلك، فقد يكون تفكيره متأخرا بحوالي 150 سنة عن العلم الحديث. لقد انتهى الجدل حول التطور، فالتطور، وفقا لكاميرون سميث عالم الانثروبولوجيا، يصف آثار مترتبة غير مقصودة ناتجة عن ثلاث حقائق مستقلة عن العالم الطبيعي، وهي: أن أشكال الحياة تنتج الذرية (التضاعف)، وأن الذرية غير متطابقة مع الأبوين (التمايز)، وأن الذرية لا تتمكن جميعها من البقاء على قيد الحياة (الانتقاء). هذه العملية البسيطة، التي تحدث على ملايين السنين، تخلق تنوعا لا يُصدق في الحياة التي نراها اليوم (5).

التطور يعلمنا ان الحياة ليست ثابتة بل في حالة تغير مستمر، وأن كل كائن حي هو نتيجة لتاريخ طويل من التغيرات الصغيرة، التي تراكمت بمرور الزمن. هذه الرؤية تعطينا فهما أعمق لمكاننا في شجرة الحياة وتظهر كيف أن البساطة يمكن أن تؤدي إلى تعقيدات مذهلة.

اهداف علم التطور الاحيائي

يهدف التطور اساسا الى إيجاد الحقيقة الخالصة حول نشوء الانواع، بغض النظر عن النتائج الفلسفية لمثل هذه الطريقة من البحث العلمي ، فهو في الأساس لا يهدف الى محاربة اي دين، او الحكم مسبقا على أي فكرة على حساب فكرة أخرى، وهو ما قد يعتقده البعض في تصورهم لنشوء الكون والخالق ولفهمهم من سعي العلماء الدؤوب لمحاولاتهم لأثبات الفرضيات، على الرغم من أن هذا يمكن اعتباره احد النتائج الفلسفية للعلم والبحث العلمي في هذا الصدد، لكن العلم لا علاقة له بإثبات أو إنكار أي دين، فالعلم يناقش فقط الفرضيات العلمية. اما الدين فيترك لعلماء الدين ورجال الدين ومن المهم جدا أن نتمكن من احترام العلم والعلماء والنتائج التي توصلوا إليها عن طريق البحث العلمي الجاد والرصين.

البدايات الأولى

يشكل أصل الحياة وتطورها الأولي لغزا محيرا يعود إلى نحو 3.8  مليار سنة، حيث شهدت المحيطات الأولى على الأرض ظهور الكائنات الحية الأولى. هذه الكائنات، رغم بساطتها، كانت تحتوي على الشفرة الجينية الأولية التي وضعت الأساس لتنوع الحياة الذي نشهده اليوم. قبل تشكل هذه الخلايا الأولية، كانت هناك جزيئات عضوية أساسية ساهمت في تحفيز عملية الحياة.

وفقا لاحدى النظريات الرائدة، فأن الحامض النووي الريبي (رنا RNA) كان البطل الأول في هذه القصة، حيث يعتقد أنه كان المادة الوراثية الأولى التي لم تحمل المعلومات الجينية فحسب، بل كانت أيضا قادرة على تحفيز التفاعلات الكيميائية (6). يُقترح أن جزيئات رنا قد تكون تشكلت بشكل طبيعي في بيئات معينة، مثل البرك الطينية أو الفتحات الحرارية البحرية، ومن هناك تطورت إلى أشكال أكثر تعقيدا واستقرارا.

مع مرور الوقت، من المحتمل أن تكون الأحماض النووية (دنا DNA) والبروتينات قد ظهرت كأنظمة وراثية ووظيفية أكثر تطورا وكفاءة من رنا. ومع ذلك، تظل هذه النظريات محل نقاش وتكهن، حيث لا يزال العلماء يبحثون عن أدلة ملموسة تدعم أو تنفي هذه الافتراضات.

العلماء يستخدمون التجارب المختبرية والمحاكاة الحاسوبية والملاحظات الفلكية لاختبار هذه النظريات وتطوير فهم أعمق لكيفية نشوء الحياة. كما يسعون لاكتشاف دلائل على وجود حياة خارج كوكب الأرض، مثل المريخ، حيث يمكن أن توفر الظروف المختلفة أو المشابهة للأرض رؤى جديدة حول هذا اللغز العظيم. من خلال استكشاف أصول الحياة على الأرض، نتعلم المزيد عن تاريخنا البيولوجي ومكانتنا في الكون الواسع.

تطور الخلايا البسيطة

في رحلة التطور البيولوجي الطويلة، تعد اللحظة التي التهمت فيها خلية كبيرة خلية أصغر حدثا محوريا. هذا الحدث الذي يعرف بالعلاقة التكافلية الاندماجية Symbiosis، أدى إلى تشكيل الميتوكوندريا، وهي عضيات تُعتبر محطات الطاقة داخل الخلايا. تمكنت الميتوكوندريا من تزويد الخلية الأم بالطاقة اللازمة للنمو والتكاثر، مما أسهم في تعزيز قدراتها الحيوية وتطورها. على مدى ملايين السنين، شهدت الخلية تحولات جذرية، حيث تطورت من كائنات بدائية بسيطة إلى خلايا حقيقية النواة، معقدة ومتخصصة. هذه الخلايا حقيقية النواة تمتلك نواة محاطة بغشاء وتحتوي على الحمض النووي، مما يمكنها من التحكم بدقة في العمليات الحيوية والوراثية. هذا التطور الخلوي لا يزال يعتبر واحدا من أعظم الإنجازات في تاريخ الحياة على الأرض.

ومع تطور الخلايا حقيقية النواة، بدأت تظهر أنظمة بيولوجية أكثر تعقيدا. هذه الخلايا المتطورة كانت قادرة على تشكيل تعاونيات خلوية، مما أدى إلى ظهور الأنسجة والأعضاء والكائنات متعددة الخلايا. كل خطوة في هذا المسار التطوري كانت تمثل قفزة هائلة نحو التنوع البيولوجي الذي نشهده اليوم.

من الخلايا البدائية الأولى إلى الكائنات المعقدة، تطورت الحياة عبر سلسلة من التحولات الرئيسية. الانتقال من الخلايا الفردية إلى الكائنات متعددة الخلايا فتح الباب أمام تطور النباتات والحيوانات والفطريات والطحالب. كل فئة من هذه الكائنات تطورت لتلائم بيئاتها، مما أدى إلى تنوع لا يصدق في الأشكال والوظائف.

خلال هذه الرحلة الطويلة لم يكن التطور مسارا مباشرا أو محددا، بل كان عملية معقدة مليئة بالتجارب والأخطاء والانقراضات والابتكارات. كل تغيير جيني، كل طفرة، كل انتقاء طبيعي كان له دور في تشكيل الشجرة الحياتية التي نراها اليوم. ومع استمرار البحث العلمي، نكتشف المزيد عن هذه العملية المدهشة التي أدت إلى تنوع الحياة على كوكبنا.

التنوع البيولوجي

عبر العصور، شهدت الحياة على الأرض تحولات مذهلة. بدأت الرحلة بكائنات بسيطة تعيش في أعماق البحار، ومن ثم تطورت إلى ديناصورات ضخمة تهيمن على اليابسة. وبمرور الزمن، ظهرت الثدييات بتنوعها الواسع، بما في ذلك الإنسان. يظهر هذا التنوع البيولوجي الغني قدرة الحياة على التكيف والازدهار في مختلف البيئات.

التنوع البيولوجي الذي نشهده اليوم هو نتيجة لملايين السنين من التطور، حيث تكيفت كل فئة من الكائنات الحية مع بيئتها بطرق مختلفة. من النباتات التي تستخدم الضوء لصنع غذائها إلى الحيوانات التي تطورت لتعيش في أعماق البحار أو تحلق عاليا في السماء، كل كائن حي له دوره الفريد في شبكة الحياة.

التطور ليس مجرد تغيير في الأشكال الخارجية، بل هو عملية ديناميكية تشمل التغيرات الجينية التي تحدث على مستوى الجزيئات. هذه التغيرات تنتقل عبر الأجيال، مما يؤدي إلى ظهور سمات جديدة وتحسين القدرة على البقاء والتكاثر. وهكذا، يستمر التنوع البيولوجي في النمو والتوسع، مما يجعل الحياة على الأرض غنية ومتجددة باستمرار.

يمكننا اعتبار وجود التنوع البيولوجي الهائل على الارض كشهادة حية على القدرة الاستثنائية للطبيعة على التكيف والابتكار حيث يعد كل نوع من الكائنات الحية جزءا لا يتجزأ من شبكة معقدة تعمل معا للحفاظ على التوازن البيئي. من الكائنات الدقيقة التي تعيش في قطرة ماء إلى الحيتان العملاقة التي تسبح في المحيطات، كل كائن له دوره الذي يساهم في ديمومة الحياة.

التنوع البيولوجي لا يقتصر على الأنواع المختلفة فحسب، بل يشمل أيضا التنوع الجيني داخل الأنواع، والتنوع البيئي الذي يشمل الأنظمة البيئية المتنوعة. هذا التنوع يمنح النظم البيئية المرونة لمواجهة التغيرات والتحديات، مثل التغيرات المناخية والكوارث الطبيعية.

ومع استمرار البحث العلمي والاستكشاف، نكتشف أنواعا جديدة ونظما بيئية لم نكن نعرف عنها من قبل، مما يعزز فهمنا للتعقيد والجمال الذي يكمن في الطبيعة. ومن خلال حماية التنوع البيولوجي، نضمن لأجيال المستقبل فرصة لاستكشاف وتقدير هذا الكنز الطبيعي الثمين.

اليات التطور

في رحلة الحياة العجيبة على كوكب الأرض، تلعب قوى التطور دور النحات الذي يشكل التنوع البيولوجي بمهارة فائقة. فمن خلال سلسلة من العمليات الدقيقة والمعقدة، تظهر صفات جديدة تضفي على الكائنات الحية القدرة على التكيف والازدهار في بيئاتها. وتعتبر عملية التطور بمثابة المحرك الذي يعمل على إنتاج وتنويع هذه الصفات البيولوجية الجديدة في مختلف الأنواع. هذه العملية ليست عشوائية بل تتبع آليات محددة تساهم في تشكيل الخصائص الجديدة والمعقدة التي تظهر في الكائنات الحية عبر الأجيال. من بين هذه الآليات، هناك بعضها الذي يحظى بأهمية خاصة نظرا لدورها البارز في دفع عجلة التطور.

أكثر هذه الاليات شيوعا هي الانتقاء الطبيعي والطفرات وتضاعف الجينات (5):

1- الانتقاء الطبيعي

الانتقاء الطبيعي هو العملية التطورية التي تعمل على تحسين قدرة الكائنات الحية على البقاء والتكاثر في بيئتها. هذه العملية، التي اكتشفها تشارلز داروين، تعتبر القوة الدافعة وراء التطور البيولوجي وتنوع الحياة على الأرض.

يعتمد الانتقاء الطبيعي على ثلاثة مبادئ رئيسية: التباين والتكاثر والتكيف.

- التباين:

تختلف الكائنات الحية في صفاتها وخصائصها بسبب الطفرات والتزاوج والوراثة. هذا يعني أن كل فرد له مزايا وعيوب مختلفة عن غيره من أفراد نفس النوع. ويعتبر التباين الجيني بين الأفراد شرطا أساسيا لعملية الانتقاء يوفر المادة الخام التي يعمل عليها الانتقاء الطبيعي. في كل جيل، تحدث طفرات عشوائية وتباينات جينية تؤدي الى اختلاف الذرية عن الاباء واخوتهم، مما يخلق تنوعا في السمات الفيزيائية والسلوكية. هذا التنوع يسمح للانتقاء الطبيعي بالعمل، حيث يمكن للبيئة “تفضيل” الأفراد الذين يحملون سمات معينة تزيد من فرص بقائهم وتكاثرهم.  بمرور الوقت، تصبح هذه السمات أكثر شيوعا في السكان، مما يؤدي إلى تطور الأنواع. لذلك يمكن القول إن التباين هو المادة الرئيسية للانتقاء الطبيعي، وهو يلعب دورا حاسما في التطور البيولوجي للكائنات الحية (7).

ينشأ التباين الجيني ينشأ من خلال عدة آليات، منها الطفرات العشوائية والإعادة الجينية خلال الانقسام الاختزالي، والهجرة بين السكان. هذه العمليات تؤدي إلى تنوع في الجينات داخل المجتمع الاحيائي، مما يوفر “المادة الخام” للانتقاء الطبيعي للعمل عليها.

الطفرات العشوائية: الطفرات هي تغيرات في تسلسل الحمض النووي (دنا DNA)  يمكن أن تحدث بشكل عشوائي. معظم الطفرات لا تؤثر على الكائن الحي أو قد تكون ضارة، ولكن بعضها يمكن أن يكون مفيدا. على سبيل المثال، طفرة في جين معين قد تؤدي الى إنتاج إنزيم أكثر فعالية يساعد الكائن الحي على استغلال مصدر غذاء جديد.

الإعادة الجينية: خلال الانقسام الاختزالي، تحدث الإعادة الجينية، حيث تتبادل الكروموسومات أجزاء من الحمض النووي مع بعضها البعض. هذا يخلق تنوعا جينيا جديدا ويمكن أن يؤدي إلى توليفات جينية مفيدة. على سبيل المثال، توليفة جديدة من الجينات قد تزيد من مقاومة الكائن الحي لمرض معين.

الهجرة: الهجرة تؤدي إلى تدفق الجينات بين الاحياء، مما يمكن أن يؤدي إلى زيادة التنوع الجيني. على سبيل المثال، إذا هاجرت مجموعة من الحيوانات إلى سكان جديد، فإن الجينات التي تحملها قد تدخل في الجينات المحلية وتزيد من التنوع الجيني.

أمثلة على التباين الجيني:

1. الفراشات: بعض الفراشات تطورت لتظهر ألوانا وأنماطا تشبه البيئة المحيطة بها، مما يزيد من فرصها في تجنب الطيور او الحيوانات المفترسة.

2. البكتيريا: البكتيريا يمكن أن تطور مقاومة للمضادات الحيوية بسرعة بسبب معدل الطفرات العالي والقدرة على تبادل المادة الجينية.

3. الطيور: بعض الطيور تطورت لتكون لها مناقير مختلفة الأشكال والأحجام لتناسب أنواع مختلفة من الغذاء.

خلاصة الموضوع، يعتبر التباين الجيني اساس الانتقاء الطبيعي لأنه يوفر الاختلافات التي يمكن أن تكون مفيدة في بيئات معينة. بدون هذا التنوع، لا يمكن للانتقاء الطبيعي أن يعمل، ولن يحدث التطور. التباين الجيني يضمن أن السكان يمكن أن يتكيفوا مع التغيرات في البيئة ويستمروا في البقاء على قيد الحياة.

- التكاثر:

التكاثر هو أحد المبادئ الأساسية للتطور، وهو يشير إلى العملية التي تنتج بها الكائنات الحية نسلا جديدا. هذه العملية مهمة للغاية لأنها تضمن استمرار الأنواع عبر الأجيال. الكائنات الحية تسعى جاهدة لإنتاج عدد كبير من النسل لزيادة فرص بقائها على قيد الحياة. ومع ذلك، ليس كل النسل يمكنه البقاء على قيد الحياة بسبب عوامل مثل الموارد المحدودة، المنافسة الشديدة بين الأفراد، ووجود المفترسات.

في بيئة محدودة الموارد، لا يمكن لجميع الكائنات الحية أن تجد ما يكفي من الغذاء أو المأوى للبقاء على قيد الحياة. هذا يؤدي إلى الانتقاء الطبيعي، حيث يتم اختيار الأفراد الأقوى والأكثر قدرة على التكيف للبقاء والتكاثر. هؤلاء الأفراد يمتلكون صفات تجعلهم أكثر قدرة على البقاء في بيئتهم، وبالتالي، يمكنهم نقل هذه الصفات إلى نسلهم.

التكاثر يمكن أن يكون جنسيا أو لاجنسيا. التكاثر الجنسي يتطلب وجود شريكين، حيث يتم دمج المادة الوراثية من كلا الوالدين لإنتاج نسل جديد. هذا النوع من التكاثر يؤدي إلى تنوع وراثي، مما يزيد من فرص النسل في التكيف مع التغيرات في البيئة. من ناحية أخرى، التكاثر اللاجنسي يتم عن طريق كائن حي واحد وينتج نسلا مطابقا وراثيا للوالد. هذا النوع من التكاثر سريع وفعال، لكنه يقلل من التنوع الوراثي.

التكاثر ليس فقط عملية بيولوجية، بل هو أيضا عملية اجتماعية وسلوكية. الكائنات الحية تطورت لتتبع استراتيجيات معقدة لجذب الشركاء وحماية نسلها. على سبيل المثال، بعض الطيور تبني أعشاشا معقدة، بينما تقوم بعض الأسماك بحراسة بيضها بعناية فائقة. هذه السلوكيات تزيد من فرص بقاء النسل وتنميته.

التكاثر لا يقتصر فقط على الإنتاج الفيزيائي للنسل، بل يشمل أيضا نقل الصفات الوراثية والسلوكيات التي تساعد على بقاء الأنواع.  الكائنات الحية تستخدم استراتيجيات متنوعة لضمان نجاح نسلها. على سبيل المثال، بعض الحيوانات تختار شركاءها بناءً على صفات معينة تعزز فرص بقاء النسل، مثل القوة او السرعة او الذكاء.

التطور لا يعتمد فقط على البقاء الفردي، بل يعتمد أيضا على النجاح التكاثري. لذلك فالأفراد الذين يمكنهم نقل جيناتهم إلى الجيل التالي هم الذين يعتبرون ناجحين تطوريا. هذا يعني أن السلوكيات التي تزيد من فرص التكاثر تصبح أكثر شيوعا في الأنواع. على سبيل المثال، الطيور التي تغني أغاني معقدة أو تقوم برقصات تزاوج مثيرة للإعجاب قد تجذب المزيد من الشركاء وبالتالي تنقل جيناتها بنجاح أكبر.

من المهم أيضا الإشارة إلى أن التكاثر يمكن أن يكون مكلفا من ناحية الطاقة والموارد اللازمة. الكائنات الحية تحتاج إلى استثمار الكثير من الطاقة في إنتاج النسل ورعايته. هذا يعني أنها قد تحتاج إلى التوازن بين البحث عن الغذاء والحماية من المفترسات والتكاثر. الاستراتيجيات التكاثرية تختلف بشكل كبير بين الأنواع، وكل استراتيجية لها مزايا وعيوبها.

خلاصة الموضوع، يعتبر التكاثر عنصر أساسي في الحياة والتطور. إنه يسمح للكائنات الحية بنقل جيناتها وسلوكياتها إلى الأجيال القادمة، مما يساهم في التنوع البيولوجي والتكيف مع البيئات المتغيرة. التكاثر يضمن أيضا أن الأنواع يمكنها الاستمرار في الوجود على الرغم من التحديات التي تواجهها، وهو يعتبر بذلك أحد الأعمدة الرئيسية للحياة على الأرض.

- التكيف:

التكيف هو مفهوم أساسي في نظرية الانتقاء الطبيعي، وهو يشير إلى العملية التي تطور بها الكائنات الحية صفات تمكنها من البقاء والتأقلم مع البيئة المحيطة. التكيفات يمكن أن تكون جسدية، مثل تغير لون الجلد أو شكل الأطراف، أو سلوكية، مثل تطوير استراتيجيات جديدة للصيد أو التزاوج. هذه التغيرات تزيد من فرص بقاء الأفراد وتمكنهم من التأقلم مع ظروف جديدة.

التكيفات تحدث نتيجة للتغيرات الجينية التي تنتقل من جيل إلى جيل. الطفرات العشوائية في الحمض النووي يمكن أن تؤدي إلى صفات جديدة. إذا كانت هذه الصفات تزيد من فرص بقاء الكائن الحي وتكاثره، فإنها تصبح أكثر شيوعا في الأجيال اللاحقة من خلال الانتقاء الطبيعي. على سبيل المثال، الحيوانات التي تعيش في المناطق الباردة قد تطور فراءً أكثر كثافة للحفاظ على الحرارة، بينما قد تطور الحيوانات في المناطق الحارة والجافة طرقا للحفاظ على الماء.

التكيف ليس عملية فورية، بل هو عملية تدريجية تحدث على مدى أجيال عديدة. الكائنات الحية التي تعيش في بيئات متغيرة باستمرار هي الأكثر عرضة لتطوير تكيفات جديدة. هذا لأن الضغوط البيئية، مثل التغيرات في المناخ أو المنافسة على الموارد، تفرض تحديات جديدة تتطلب استجابات مبتكرة للبقاء.

التكيفات يمكن أن تكون مفيدة في بيئة معينة، لكنها قد لا تكون مفيدة في بيئة أخرى. هذا يعني أن الكائنات الحية يجب أن تكون قادرة على التكيف مع التغيرات السريعة في البيئة لضمان بقائها. على سبيل المثال، الأسماك التي تعيش في المياه العذبة وتجد نفسها فجأة في بيئة مالحة قد تحتاج إلى تطوير آليات جديدة لتنظيم ملوحة جسمها.

التكيفات لا تقتصر على الصفات الجسدية فقط، بل تشمل أيضا السلوكيات. الحيوانات قد تطور سلوكيات جديدة للتعامل مع التحديات البيئية، مثل تغيير أوقات الصيد أو تطوير أساليب جديدة للتواصل مع بعضها البعض. هذه السلوكيات يمكن أن تكون حاسمة في بقاء الأنواع، خاصة عندما تكون التغيرات البيئية سريعة.

اخيرا، التكيف هو عملية مستمرة تلعب دورا حيويا في بقاء الكائنات الحية وقدرتها على التأقلم مع البيئات المتغيرة. التكيفات تسمح للأنواع بالتطور والازدهار في مواجهة التحديات الجديدة، وهي تعتبر دليلا على المرونة والقدرة على الابتكار التي تميز الحياة على الأرض. إذا، يمكن تلخيص الانتقاء الطبيعي بأنه عملية تختار فيها الطبيعة الأفراد ذوي التكيفات الملائمة للبقاء والتكاثر، بينما تستبعد الأفراد ذوي التكيفات غير الملائمة. هذا يؤدي إلى تغير صفات الأنواع عبر الأجيال، وقد يؤدي إلى ظهور أنواع جديدة مختلفة.

والانتقاء الطبيعي على انواع، من امثلته:

الانتقاء الإيجابي:  يحدث الانتقاء الإيجابي عندما تزيد صفة معينة من فرص بقاء الكائن وتكاثره، مما يؤدي إلى زيادة تواتر هذه الصفة في السكان. على سبيل المثال، قد يفضل الانتقاء الطبيعي الحيوانات ذات الفراء الكثيف في المناطق الباردة لأنها تحافظ على الدفء بشكل أفضل.

الانتقاء السلبي: الانتقاء السلبي يعمل على إزالة الصفات الضارة من السكان. على سبيل المثال، الطفرات التي تؤدي إلى ضعف البصر في الحيوانات التي تعتمد على الرؤية للصيد قد تقلل من فرص بقائها.

الانتقاء المتوازن: الانتقاء المتوازن يحافظ على التنوع الجيني في السكان. هذا يمكن أن يحدث عندما تكون هناك ميزة لحمل نسختين مختلفتين من جين معين، كما هو الحال مع جين فقر الدم المنجلي.

الانتقاء الجنسي: الانتقاء الجنسي يتعلق بالصفات التي تزيد من جاذبية الفرد للجنس الآخر. على سبيل المثال، الذكور ذوي الريش الملون في بعض الطيور قد يكونون أكثر جاذبية للإناث، مما يزيد من فرص تكاثرهم.

وبصورة عامة يعتبر الانتقاء الطبيعي عملية معقدة ومتعددة الأوجه تؤثر على كل جانب من جوانب الحياة على الأرض. ومن خلال فهم الانتقاء الطبيعي وأشكاله المختلفة، نكتسب رؤية أعمق لكيفية تطور الكائنات الحية وتكيفها مع البيئات المتغيرة.

الانتقاء الطبيعي ليس عملية عشوائية؟

الانتقاء الطبيعي ليس عملية عشوائية. قد يحدث التباين الجيني الذي يعمل عليه الانتقاء الطبيعي بشكل عشوائي، لكن الانتقاء الطبيعي في حد ذاته ليس عشوائيا على الإطلاق. يرتبط بقاء الفرد ونجاحه الإنجابي ارتباطا مباشرا بالطرق التي تعمل بها صفاته الموروثة في سياق بيئته المحلية. إن بقاء الفرد على قيد الحياة والتكاثر يعتمد على ما إذا كان لديه جينات تنتج صفات تتكيف بشكل جيد مع بيئته.

2- الطفرات

الطفرات هي تغيرات عشوائية في الحامض النووي (DNA) تحدث بشكل طبيعي وتلعب دورا حاسما في التطور البيولوجي (8). هذه التغيرات يمكن أن تكون بسيطة مثل تغيير في نوكليوتيد (وحدة بناء دنا) واحد، أو معقدة مثل إعادة ترتيب شاملة للجينوم. الطفرات هي المصدر الأساسي للتنوع الجيني الذي يعتمد عليه الانتقاء الطبيعي، وبالتالي، فهي تشكل الأساس للتكيف والتطور البيولوجي. كما انها يمكن أن تكون مفيدة، ضارة، أو محايدة من حيث تأثيرها على الكائن الحي.

يمكن تقسيم الطفرات إلى عدة أنواع بناءً على طبيعتها وتأثيرها ومنها الطفرات النقطية (Point Mutations) وهي تغيير في نوكليوتيد واحد في تسلسل الدنا،. والإدخالات والحذف (Insertions and Deletions) وفيها تضاف أو تحذف نوكليوتيدات من تسلسل الدنا، مما قد يؤدي إلى تغيير إطار القراءة (Frameshift) وتأثير كبير على البروتين المنتج. ومن الطفرات ما تسمى بالانقلابات (Inversions) وفيها تنقلب قطعة من الدنا في اتجاهها داخل الكروموسوم، مما قد يؤثر على التعبير الجيني. اما التكرارات (Duplications)  ففيها يتكرر جزء من الدنا مما يؤدي إلى وجود نسخ متعددة من الجين أو الجينات. وهناك تغييرات كبيرة تؤثر على الكروموسومات بأكملها، وتسمى بالطفرات الكروموسومية مثل الانتقالات (Translocations) والفقدان  .(Deletions)

كل نوع من هذه الطفرات له تأثيرات مختلفة على الكائن الحي ويمكن أن يسهم بطرق متنوعة في التطور البيولوجي. الطفرات النقطية قد تؤدي إلى تغييرات دقيقة في البروتينات، بينما الطفرات الكبيرة مثل الانقلابات والتكرارات قد تؤدي إلى تغييرات جذرية في الخصائص الفيزيائية أو الوظيفية للكائنات الحية.

آليات حدوث الطفرات:

بسبب طبيعة الطفرات التي تحدث بشكل عشوائي يمكن أن تكون نتيجة لعدة عوامل داخلية وخارجية. هذه العمليات تشمل الاخطاء التي تحصل اثناء النسخ الذاتي للدنا او نتيجة التعرض للمواد المسرطنة والضغوط البيئية او الاصابة بالفيروسات او نتيجة حصول الاخطاء اثناء عملية الانقسام الخلوي. هذه الآليات تساهم في التنوع الجيني الذي يعتبر أساسيا للتطور. فالطفرات توفر المادة الأولية التي يمكن للانتقاء الطبيعي أن يعمل عليها، مما يؤدي إلى تكيف الأنواع مع بيئاتها المتغيرة، وفهم هذه العمليات يساعد العلماء على استكشاف كيفية تطور الحياة على الأرض ويمكن أن يؤدي إلى تطورات في مجالات مثل الطب والزراعة.

دور الطفرات في التطور:

كما بينا اعلاه تعتبر الطفرات المحرك الأساسي للتنوع الجيني في الكائنات الحية. هذا التنوع يمكن أن يظهر في صور مختلفة، من الاختلافات الطفيفة في الصفات إلى تغييرات كبيرة في الوظائف البيولوجية. التنوع الجيني يسمح للأنواع بالتكيف مع البيئات المتغيرة ويزيد من فرص بقائها على المدى الطويل. وكنتيجة للتنوع الجيني توفر الطفرات الأساس للتغيرات التطورية التي يمكن أن تؤدي إلى ظهور أنواع جديدة.

هناك ثلاثة انواع من الطفرات، المفيدة والضارة والمحايدة. الطفرات المفيدة تعزز فرص بقاء الكائن الحي أو تكاثره. على سبيل المثال، طفرة قد تؤدي إلى تحسين قدرة الكائن على استخدام مصدر غذائي جديد أو تحمل ظروف بيئية قاسية. اما الطفرات الضارة فتقلل من فرص بقاء الكائن الحي أو تكاثره. هذه الطفرات قد تؤدي إلى ضعف في الوظائف الحيوية أو زيادة العرضة للأمراض. بينما لا تؤثر الطفرات المحايدة بشكل مباشر على الكائن الحي في بيئته الحالية. هذه الطفرات قد تصبح مفيدة أو ضارة إذا تغيرت البيئة ولذالك  تلعب دورا مهما في التطور لأنها توفر مخزونا من التنوع الجيني الذي يمكن أن يكون مفيدا في المستقبل. الطفرات المفيدة قد تنتشر في السكان من خلال الانتقاء الطبيعي، بينما الطفرات الضارة قد تُقمع أو تُزال من الجينوم. ومع ذلك، حتى الطفرات الضارة يمكن أن تظل في السكان إذا كانت مرتبطة بصفات مفيدة (ظاهرة الارتباط الجيني) أو إذا كانت الضغوط الانتقائية ضعيفة.

يمكن القول ان الطفرات تساهم في التطور عن طريق توفير المواد الأولية للتكيف والتغيير. من خلال فهم الطفرات وتأثيرها، يمكن للعلماء استكشاف كيفية تطور الحياة وتكيفها مع البيئات المتغيرة على مر الزمن.

كيف يمكن للانتقاء الطبيعي أن يعزز أو يقمع الطفرات:  الانتقاء الطبيعي هو عملية تحدد أي الصفات الجينية تنقل إلى الأجيال القادمة بناءً على فعاليتها في بيئة معينة  فالطفرات التي تعزز البقاء والتكاثر تميل إلى الانتشار في السكان، بينما تلك التي تقلل من اللياقة البيولوجية تميل إلى الاختفاء. على سبيل المثال، طفرة تزيد من مقاومة الكائن الحي لمرض معين قد تعزز وتنتشر، بينما طفرة تقلل من هذه المقاومة قد تُقمع. وهناك امثلة عديدة لحالات تطورية لعبت الطفرات فيها دورا رئيسيا، منها:

1. الفراشات السوداء في بريطانيا (The Peppered Moth): خلال الثورة الصناعية، الفراشات ذات اللون الفاتح كانت تتعرض للافتراس من قبل الطيور بسهولة بسبب التلوث الذي جعل الأشجار داكنة. طفرة أدت إلى ظهور فراشات بلون أغمق سمحت لها بالتمويه والبقاء، وبالتالي انتشرت هذه الصفة (9).

2. مقاومة الملاريا في البشر: بعض الأشخاص في مناطق تنتشر فيها الملاريا لديهم طفرة في جيناتهم تجعلهم مقاومين للمرض. هذه الطفرة تُعزز في السكان بسبب الانتقاء الطبيعي.

هذه الأمثلة تظهر كيف يمكن للطفرات أن تؤثر على اللياقة البيولوجية Biological fitness وكيف يمكن للانتقاء الطبيعي أن يغير تواتر هذه الطفرات في السكان. الطفرات توفر التنوع الجيني اللازم للتكيف مع البيئات المتغيرة، والانتقاء الطبيعي يعمل كآلية تحدد أي من هذه التغيرات ستستمر وتنتشر.

كيف تساهم الطفرات في تكيف الأنواع مع بيئاتها: عندما تحدث طفرة تعطي ميزة تكيفية في بيئة معينة، يمكن للانتقاء الطبيعي أن يعمل على تعزيز هذه الصفة في السكان. على سبيل المثال، طفرة تؤدي إلى إنتاج إنزيم يمكنه تحليل مصدر غذائي جديد يمكن أن تكون مفيدة إذا تغيرت البيئة ليصبح هذا المصدر هو الغذاء الرئيسي. وهناك امثلة عديدة للتكيفات الناتجة عن الطفرات، منها:

-  السحالي التي تعيش في الكهوف (Cavefish): بعض الأسماك التي تعيش في الكهوف فقدت بصرها عبر الزمن بسبب طفرات جينية. في بيئة الكهوف حيث الضوء نادر أو غير موجود، فلم يعد البصر مفيدا، والطاقة التي تُستهلك في تطوير العيون يمكن توجيهها لوظائف أخرى.

-  البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية: البكتيريا يمكن أن تطور مقاومة للمضادات الحيوية من خلال طفرات تغير بنية البروتينات المستهدفة أو تزيد من إنتاج مضخات الإفراز التي تطرد المضاد الحيوي من الخلية (10).

هذه الأمثلة تظهر كيف يمكن للطفرات أن تؤدي إلى تكيفات تساعد الأنواع على البقاء في بيئاتها المتغيرة. وباختصار، الطفرات تعمل كأداة للتطور، مما يسمح للكائنات الحية بالتكيف مع التحديات الجديدة والاستفادة من الفرص الجديدة.

دور الطفرات في التطور على المستوى الجزيئي:  تلعب الطفرات دورا حاسما في التطور الجزيئي، حيث تؤدي إلى تغييرات في البروتينات التي تشكل اللبنات الأساسية للحياة. على المستوى الجزيئي، حتى تغيير صغير في تسلسل الدنا يمكن أن يؤدي إلى تغييرات كبيرة في بنية البروتين ووظيفته. هذه التغييرات يمكن أن تؤثر على كيفية تفاعل البروتينات مع بعضها البعض، مع الجزيئات الصغيرة، أو كيفية تنظيمها للعمليات الحيوية داخل الخلية. ومن الامثلة على تأثير الطفرات على البروتينات ووظائفها، المثالين التاليين:

-  الهيموغلوبين وفقر الدم المنجلي (Sickle Cell Anemia): طفرة نقطية في جين الهيموغلوبين تؤدي إلى تغيير حامض اميني واحد، مما يؤدي إلى تغيير شكل خلايا الدم الحمراء. هذا التغيير يؤثر على قدرة الدم على حمل الأكسجين ويسبب الأعراض المرتبطة بفقر الدم المنجلي (10).

-  مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية: طفرات في الجينات التي تكوّد لبروتينات معينة يمكن أن تؤدي إلى تغييرات تجعل هذه البروتينات أقل حساسية للمضادات الحيوية، مما يؤدي إلى مقاومة البكتيريا لهذه الأدوية.

يواجه فهم الطفرات ودورها في التطور تحديات كبيرة  بسبب تعقيد الأنظمة البيولوجية والتفاعلات الجينية. من التحديات الرئيسية:

-  التنوع الجيني الهائل: الجينومات معقدة ومتنوعة بشكل كبير، مما يجعل من الصعب تحديد الطفرات الفردية وتأثيرها.

-  التفاعلات الجينية: الطفرات قد تؤثر على الجينات الأخرى بطرق غير متوقعة، مما يجعل من الصعب فهم تأثيرها الكامل.

-  البيئة مقابل الوراثة: تحديد مدى تأثير البيئة مقارنة بالجينات على الصفات البيولوجية يظل موضوعا معقدا.

وتعد الابحاث الجارية حاليا بتقدم كبير في فهمنا للحياة وتطورها، فهي توفر أدوات جديدة لمواجهة التحديات الصحية والبيئية. الطفرات والتطور ليست فقط مواضيع للبحث الأكاديمي، بل هي أيضا مفاتيح لتطوير تقنيات يمكن أن تحسن حياة البشر والكائنات الأخرى على كوكبنا. خلاصة هذا الجزء هو ان الطفرات تمثل عنصرا أساسيا في الحياة البيولوجية وتطورها فهي توفر المادة الأولية للتنوع الجيني الذي يمكن أن يؤدي إلى تكيفات جديدة ومعقدة. فهم الطفرات وتأثيرها على التطور يمكن أن يفتح آفاقا جديدة للعلم ويساهم في تحسين حياة الإنسان.

3- تضاعف الجينات

تضاعف الجينات هو ظاهرة بيولوجية تلعب دورا حاسما في التطور والتنوع الجيني. يحدث هذا العمل عندما يتم نسخ جزء من الحمض النووي  (دنا) بطريق الخطأ، مما يؤدي إلى وجود نسخ متعددة من الجين نفسه داخل الجينوم. هذه النسخ المكررة يمكن أن تتطور بشكل مستقل عن بعضها البعض، مما يسمح بظهور وظائف جينية جديدة ويساهم في التنوع البيولوجي. ويمكن لتضاعف الجينات أن تحدث بعدة طرق، بما في ذلك الانقسام غير المتساوي أثناء الانقسام الخلوي، أو نتيجة للطفرات الجينية. في بعض الأحيان، يمكن أن تحدث هذه النسخ المكررة بسبب الأخطاء في عملية إصلاح الحمض النووي أو كنتيجة للتبادل الجيني بين الكروموسومات.

تضاعف الجينات يمكن أن يكون له تأثيرات إيجابية على الكائن الحي. فهو يوفر “مادة خام” للتطور، حيث يمكن للنسخ المكررة أن تتحور وتكتسب وظائف جديدة، مما يساعد الكائنات الحية على التكيف مع البيئات المتغيرة. كما يمكن أن يؤدي إلى زيادة التعقيد الجيني والوظيفي، مما يعزز القدرة على البقاء والتكاثر.

مع ذلك، ليست كل نتائج تضاعف الجينات إيجابية. في بعض الحالات، يمكن أن تؤدي النسخ المكررة إلى عدم الاستقرار الجيني وتسبب مشاكل في التنظيم الجيني. كما يمكن أن تؤدي إلى تطور الأمراض، خاصة إذا كانت النسخ المكررة تشمل جينات مرتبطة بالأمراض.

ولقد أظهرت الدراسات الحديثة أن تضاعف الجينات كان له دور كبير في تطور الأنواع النباتية والحيوانية. فهو يساهم في تطور الصفات الجديدة ويساعد في تكيف الكائنات الحية مع الظروف البيئية المختلفة. كما ان له دور مهم في التطور البشري والتنوع الجيني من حيث انه يؤدي إلى تطور وظائف جديدة ويساهم في التكيف مع البيئات المتغيرة. ومع ذلك، يمكن أن يكون له أيضا تأثيرات سلبية، مثل زيادة خطر الإصابة بأمراض معينة إذا كانت النسخ المكررة تشمل جينات مرتبطة بالأمراض.

على سبيل المثال، تم الاشارة الى حالات حيث أدى تضاعف الجينات إلى تغييرات جينية قد تنتقل عبر الأجيال، مما قد يؤثر على الصفات الوراثية والتطور البشري.  كما أن الدراسات الحديثة تشير إلى أن التغيرات الجينية، بما في ذلك تضاعف الجينات، يمكن أن تؤثر على سلوك الإنسان وصفاته الشخصية. بالإضافة إلى ذلك، تشير الأبحاث إلى أن بعض الجينات التي تتضاعف قد تكون مسؤولة عن سمات معينة أو حتى سلوكيات معينة، مما يعزز الفهم بأن الجينات والبيئة تلعبان دورا مشتركا في تشكيل هوية الإنسان (11).  لذلك، يمكن القول إن تضاعف الجينات له تأثيرات متعددة على البشر، سواء من حيث الصحة الجسدية أو الصفات النفسية والسلوكية، ويستمر العلماء في استكشاف هذه التأثيرات لفهم أعمق للتطور البشري والتنوع الجيني.

هناك عدة أمثلة على تضاعف الجينات في التاريخ البشري الذي أثر في تطورنا وصحتنا، منها:

1. جين CCR5: هذا الجين معروف بدوره في منح المقاومة ضد فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) (12).  في حالة مثيرة للجدل، قام عالم صيني بتعديل جينات توأمين ليحملا نسخة معدلة من جين CCR5، وهذه التغييرات ستنتقل إلى أحفادهم.

2. التطورات المرتبطة بالهضم: تضاعف الجينات له دور في تطور قدرة البشر على هضم اللاكتوز، وهو السكر الموجود في الحليب. هذا التطور سمح لبعض البشر بالاستمرار في استهلاك الحليب بعد مرحلة الطفولة.

3. التطورات المرتبطة بالمقاومة للأمراض: تضاعف الجينات يمكن أن يؤدي إلى تطور مقاومة لبعض الأمراض. على سبيل المثال، تضاعف جينات معينة قد يعزز الحماية ضد الملاريا.

هذه الأمثلة تظهر كيف يمكن لتضاعف الجينات أن يكون له تأثيرات مباشرة وملموسة على الصحة والتطور البشري. ومع ذلك، يجب التعامل مع هذه التقنيات بحذر شديد لتجنب العواقب غير المقصودة والأخلاقية.

بالإضافة إلى الاليات الثلاثة الرئيسية التي اوضحناها اعلاه: الانتقاء الطبيعي والطفرات وتضاعف الجينات، هناك اليات أخرى أقل شيوعا تساهم في عملية التطور، مثل:

1. الانحراف الوراثي:

يحدث الانحراف الوراثي عندما لا يتم توزيع الأليلات الجينية على النسل بالتساوي من جيل إلى آخر، ويمكن أن يحدث هذا بسبب العوامل العشوائية مثل الانقسام الاختزالي أو الهجرة. يؤدي الانحراف الوراثي إلى تغيرات سريعة في تواتر الأليلات في مجموعة سكانية، حتى لو لم تكن هناك طفرات جديدة.

2. التهجين:

يحدث التهجين عندما تتكاثر كائنات حية من نوعين مختلفين وتنتج ذرية هجينة، ويمكن أن تؤدي عملية التهجين إلى إدخال أليلات جديدة إلى مجموعة سكانية، مما قد يؤدي إلى تنوع وراثي جديد.

3. التدفق الجيني:

يحدث التدفق الجيني عندما تنتقل الكائنات الحية أو جيناتهم من مجموعة سكانية إلى أخرى، ويمكن أن يحدث هذا بسبب الهجرة أو التلقيح المتبادل. يؤدي التدفق الجيني إلى إدخال أليلات جديدة إلى مجموعة سكانية، أو قد يؤدي إلى إزالة الأليلات الموجودة.

4. الانقراض:

الانقراض هو اختفاء نوع من الكائنات الحية من على وجه الأرض، ويمكن أن يحدث بسبب مجموعة متنوعة من العوامل، مثل تغير المناخ أو الأحداث الكارثية أو التنافس مع الأنواع الأخرى. يؤدي الانقراض إلى إزالة الأليلات من مجموعة سكانية بشكل دائم.

5. التطور الثقافي:

التطور الثقافي هو نوع من التطور يؤدي إلى تغييرات في سلوكيات الكائنات الحية وعاداتها وتقاليدها، ويحدث من خلال عملية الانتقاء الثقافي، حيث يتم نقل السلوكيات والعادات المفيدة من جيل إلى آخر.

التطور الاحيائي للبشر

هناك اعتقاد خاطئ وهو ان البشر تطوروا من القردة، هذا خطأ فاحش فالبشر لم يتطوروا من القرود. يرتبط البشر بالقردة الحديثة  modern apesبشكل أوثق من ارتباطهم بالقردةmonkeys ، لكننا لم نتطور من القردة. يشترك البشر في سلف مشترك مع القردة الأفريقية الحديثة، مثل الغوريلا والشمبانزي، وهذا السلف المشترك كان موجودا منذ 5 إلى 8 ملايين سنة. وبعد ذلك بوقت قصير، انقسمت الأنواع إلى سلالتين منفصلتين. تطورت إحدى هذه السلالات في النهاية إلى غوريلا وشمبانزي، وتطورت الأخرى إلى أسلاف بشريين مبكرين يُطلق عليهم اسم الإنسان Homo.

منذ أن افترق أقدم أنواع البشر عن السلف الذي نتقاسمه مع القردة الأفريقية الحديثة، كان هناك ما لا يقل عن اثني عشر نوعا مختلفا من هذه المخلوقات الشبيهة بالبشر. العديد من هذه الأنواع من البشر هم أقارب، ولكن ليس أسلاف الإنسان. لقد انقرضت معظمها دون أن تؤدي إلى ظهور أنواع أخرى. ومع ذلك، فإن بعض الكائنات البشرية المنقرضة المعروفة اليوم قد تكون أسلاف مباشرة للإنسان العاقل بشكل شبه مؤكد. وفي حين أن العدد الإجمالي للأنواع التي كانت موجودة والعلاقات فيما بينها لا يزال مجهولا، إلا أن الصورة تصبح أكثر وضوحا مع العثور على حفريات جديدة. لقد تطور البشر من خلال نفس العمليات البيولوجية التي تحكم تطور جميع أشكال الحياة على الأرض.

اين نشأ الانسان الحديث (الانسان العاقل) Homo sapiens؟  (13، 14)

قبل حوالي 300,000 سنة، في قلب أفريقيا، حيث السهول الشاسعة والغابات الكثيفة، بدأت قصة مذهلة. هناك، في هذه البيئة الغنية والمتنوعة، ظهر الإنسان العاقل، أو كما نعرفه، الإنسان الحديث.

لم تكن رحلتنا الطويلة في هذا العالم مجرد خط مستقيم، بل كانت مليئة بالتقلبات والمنعطفات. فقد سافر أسلافنا عبر القارات، وفي كل مكان التقوا بأقاربهم البعيدين، مثل النياندرتال والدينيسوفان، ومن خلالهم تشابكت خيوط قصتنا الجينية.

وكأننا نحلل شفرة سرية، تكشف لنا الأدلة الجينية عن خريطة معقدة لأصولنا. فمن خلال دراسة الحامض النووي الميتوكوندري والكروموسوم Y، اكتشف العلماء أن جميع البشر اليوم يشتركون في أجداد عاشوا في أفريقيا منذ آلاف السنين.

في الثمانينيات، قامت العالمة آلان ويلسون وفريقها بتحليل الحامض النووي الميتوكوندري، وبدأوا برسم شجرة عائلية ضخمة تعود جذورها إلى أفريقيا. وبالمثل، أظهرت دراسات الكروموسوم Y أن جميع الرجال يعودون إلى أباء مشتركين من نفس القارة العريقة.

هناك دليل جديد يضيف إلى فهمنا لنشأة الإنسان. في إثيوبيا، اكتشف الباحثون جمجمة تعود إلى الأسلاف الأوائل للقردة الشبيهة بالانسان تقدر بنحو 3.8  مليون سنة. هذا الاكتشاف يتحدى النظريات السائدة حول كيفية تطور الإنسان الأول من أسلاف القردة وتشير إلى أن أسلافنا الأوائل قد عاشوا بالتزامن مع أنواع أخرى من القردة الشبيهة بالإنسان. هذه الجمجمة التي تمثل أحد أهم الاكتشافات في علم الأحياء التطوري ساعدت في إعادة رسم شجرة العائلة البشرية بطريقة بدأت بتغيير الكثير من الافتراضات السابقة حول كيفية ومكان تطور الإنسان العاقل.

لكن يبدو ان تاريخ البشرية لازال لغزا كبيرا، ولدينا قطعة جديدة تغير كل شيء! دراسة حديثة في مجلة Nature تقول لنا إن قصتنا ليست بسيطة كما كنا نظن. لم يأت الإنسان العاقل من مكان واحد فحسب، بل من عدة أماكن في إفريقيا، وذلك بعد مليون سنة من العيش المنفصل والتفاعلات المتقاطعة.

العلماء كانوا يتجادلون بصوت عالٍ حول من كان آخر سلف لنا، ولكن الأدلة الجديدة تظهر أن أجدادنا كانوا يتجولون في أماكن متعددة - من جبال المغرب إلى سهول إثيوبيا وحتى جنوب إفريقيا. والأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فقد كانت هناك موجات مختلفة من الهجرة خارج إفريقيا، وليس فقط الرحلة الكبيرة التي نعرفها.

والأكثر إثارة للدهشة؟ وجدوا جمجمة في اليونان تعود إلى 210,000 سنة مضت - وهذا يعني أن الإنسان العاقل كان يسافر حول العالم قبل الوقت الذي كنا نعتقد فيه!

وبينما كنا نتجول، كان هناك أنواع أخرى من البشر مثل النياندرتال، الذين كانوا يتحملون البرد في أوروبا، والدينيسوفان الغامضون في سيبيريا والتبت. يبدو أن قصتنا مليئة بالمغامرات والأسرار أكثر مما كنا نتخيل!

يبدو أن الإنسان العاقل كان لديه مجموعات أكبر وتنوع جيني أكبر، مما ساعده على البقاء. كانت لدينا شبكات اجتماعية أوسع، مما سمح بتبادل الأفكار والابتكارات.

تشير الدراسات إلى أن الإنسان العاقل ربما تفوق على النياندرتال، مما أدى إلى انقراضهم. وقد يكون لدينا مزايا صغيرة، مثل أدوات أفضل ومعدلات بقاء أعلى للأطفال، ساعدتنا على البقاء.

كشف البروفيسور أكسل تيمرمان عن لعبة البقاء القديمة بين الإنسان العاقل والنياندرتال. باستخدام نموذج رقمي، اقترح أن الإنسان العاقل لم يكتفِ بالتزاوج مع النياندرتال أو النجاة من كوارث مناخية، بل تفوق عليهم في الصراع من أجل الغذاء والمأوى.

لقاء الإنسان العاقل بالنياندرتال لم يكن مواجهة سريعة، بل صراع استمر لأكثر من 100 ألف عام. النياندرتال، بمعرفتهم العميقة بالتضاريس والبيئة، وبنيتهم العضلية القوية، قاوموا بشراسة، مستخدمين مهاراتهم في الرؤية الليلية لنصب الكمائن. الإنسان العاقل، رغم تطوره التكنولوجي وتقنيات الصيد المتقدمة، استغرق وقتا طويلا للتغلب على النياندرتال. الانتصار جاء تدريجيًا، ليس بالقوة الخام، بل بالتكتيكات والابتكارات مثل الأسلحة طويلة المدى والتفوق العددي، مما أدى إلى انقراض النياندرتال وبقاء الإنسان العاقل كالنوع البشري الوحيد المتبقي.

النياندرتال كانوا ماهرين، لكن الإنسان العاقل كان لديه حيل أكثر. الابتكارات البسيطة مثل إبر النسيج والخياطة، التي ظهرت منذ 35,000 سنة، ربما منحت الإنسان العاقل اليد العليا. هذه الأدوات الصغيرة ساعدت في صنع ملابس وخيام أفضل، مما ساعد على بقاء الأطفال دافئين وبالتالي البقاء على قيد الحياة.

الشبكات الاجتماعية الواسعة والقدرة على التكيف مع التغيير كانت حاسمة. الإنسان العاقل، بفضل هذه الشبكات، استطاع مشاركة الابتكارات والتعاون لمواجهة التحديات.

الدليل الوراثي يظهر أن الإنسان العاقل لم يقضِ فقط على النياندرتال، بل استوعب جيناتهم. اليوم، بعض الأشخاص في أوراسيا لديهم حتى 2% من DNA النياندرتال، وسكان أوقيانوسيا لديهم حتى 4% من DNA الدينيسوفان. وهناك أيضا لغز حول سلف بشري غير معروف أثر في سكان غرب إفريقيا الحاليين.

الختام: رحلة التطور المستمرة

في رحلة الحياة المتشابكة على كوكب الأرض، يعد التطور البيولوجي الراوي الأعظم لقصص البقاء والتغير. من الأحياء الدقيقة إلى الكائنات العملاقة، كل فصل من فصول التطور يكشف عن إبداع لا مثيل له في الطبيعة. ومع كل تحول جيني وكل انتقاء طبيعي، نجد أنفسنا نتأمل في مرآة الماضي، متسائلين عن مستقبلنا. هل سنكون شهودا على فصل جديد يكتب في كتاب الحياة، أم سنكون الكتّاب أنفسنا؟ الإجابة تكمن في الحمض النووي الذي يجري في عروقنا، وفي كل خيط من خيوط الحياة التي تنسج شبكة الوجود الباهرة. فلنتطلع إلى الأمام بحماس، مستعدين لاكتشاف الأسرار التي لم تكشف بعد، ولنكون جزءا من ملحمة التطور العظيمة التي لا تنتهي.

***

ا. د. محمد الربيعي

بروفيسور متمرس، كلية دبلن الجامعية

........................

المصادر

1- Darwin, C. (2019). On the origin of species by means of natural selection: Or the preservation of the favoured races in the struggle for life.. . https://doi.org/10.1037/14088-000.

2- Weiss, A. (2015). Lamarckian Illusions.. Trends in ecology & evolution, 30 10, 566-568 . https://doi.org/10.1016/j.tree.2015.08.003.

3- Grehan, J., & Ainsworth, R. (1985). Orthogenesis and Evolution. Systematic Biology, 34, 174-192. https://doi.org/10.2307/SYSBIO/34.2.174.

4- Stoltzfus, A. (2006). Mutationism and the dual causation of evolutionary change. Evolution & Development, 8. https://doi.org/10.1111/j.1525-142X.2006.00101.x.

5- Smith, M. C. (2011)  The Fact of Evolution. https://www.goodreads.com/book/show/11509642-the-fact-of-evolution

6- Engelhart, A., & Hud, N. (2010). Primitive genetic polymers.. Cold Spring Harbor perspectives in biology, 2 12, a002196 . https://doi.org/10.1101/cshperspect.a002196.

7- https//ar.wikipedia.org/wiki/اصطفاء_طبيعي

8- https://www.nature.com/scitable/knowledge/library/mutations-are-the-raw-materials-of-evolution-17395346/

9- https://butterfly-conservation.org/moths/why-moths-matter/amazing-moths/peppered-moth-and-natural-selection

10- https://www.bbc.co.uk/bitesize/guides/zpp74qt/revision/5

11- Varki, A., Geschwind, D., & Eichler, E. (2008). Human uniqueness: genome interactions with environment, behaviour and culture. Nature Reviews Genetics, 9, 749-763. https://doi.org/10.1038/nrg2428.

12- https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3185609/

13- https://www.theguardian.com/science/2023/nov/18/where-did-other-human-species-go-vanished-ancestors-homo-sapiens-neanderthals-denisovans

14- https://www.smithsonianmag.com/science-nature/essential-timeline-understanding-evolution-homo-sapiens-180976807/

*   نشرت في الثقافة الجديدة، عدد 446، تموز 2024

عند ألكسيس دو توكفيل

مقدمة: ألكسيس دو توكفيل هو فيلسوف فرنسي (1805-1859) انحدر من عائلة نبيلة نورماندية، وحصل على شهادة في القانون وتم تعيينه قاضيًا في محكمة فرساي. ذهب إلى الولايات المتحدة لدراسة نظام السجون الأمريكي. ولدى عودته أصبح محاميا ونشر كتاب الديمقراطية في أمريكا الذي حقق نجاحا كبيرا. تم انتخابه نائباً، ثم مستشاراً عاماً لولاية لامانش، وأخيراً وزيراً للخارجية. كان معاديًا للويس نابليون بونابرت، فاعتقل ثم ترك الحياة السياسية. ماهو رأي دو توكفيل في الثورة الفرنسية؟ كيف يمكننا تحليل هذا الحدث الذي يبدو أنه يتحدى كل شبكات القراءة؟ وكيف صاغ فكرة الديمقراطية من رحلته الى أمريكا؟ وهل تمكن من خلال هذه الصياغة المبتكرة من تخطي النظام السياسي القديم نحو نظام جديد؟

الثورة على النظام القديم

هذا هو المشروع الجريء الذي يقوم به ألكسيس دو توكفيل في هذا العمل، وهو عمل كلاسيكي عظيم في الفلسفة السياسية. وكما أكد هو نفسه في مقدمته، لا يقدم توكفيل في هذا العمل تاريخًا رسميًا للثورة الفرنسية، بل يقدم دراسة لأخلاق هذه الثورة وخاصة النظام القديم الذي سبقها، من خلال دراسة أرشيفات متباينة مكونة من سجلات التظلمات من آخر الولايات العامة، ومحاضر المجالس الإقليمية، والمراسلات من الوزارات والمحافظات، وهو يسعى إلى فهم، خارج سطح المؤسسات الرسمية، الطريقة التي تتم بها الأعمال، والممارسة الحقيقية للمؤسسات، والوضع الدقيق للطبقات تجاهها. - تجاه بعضهم البعض، الظروف والمشاعر التي كانت أصل الآراء والأخلاق التي أدت إلى سقوط شعب بأكمله في الثورة. يوضح توكفيل أن أفكار ومشاعر المجتمع الفرنسي، بعيدًا عن الخروج من الثورة، كانت في الواقع حاضرة بالفعل، بل إنها أصل هذا الحدث. وبعيدًا عن كتابة صفحة نظيفة من الماضي، قامت الثورة بتجديد أو إعادة صياغة عدد كبير من قوانين وعادات النظام القديم. ولتحقيق هدفها المتمثل في المساواة في الظروف، فإنها تعتمد على جهاز الدولة الذي بناه النظام الملكي القديم بصبر. وينقسم العمل إلى 25 فصلاً على شكل أسئلة كلها مفارقات وألغاز حلها توكفيل. إنه يفسر لماذا حدثت الثورة، التي نبتت في جميع أنحاء القارة الأوروبية بأكملها، أولاً في فرنسا وكيف يمكن لنظام ملكي واثق من نفسه أن ينهار بشكل كامل وبسرعة كبيرة. ورغم أن توكفيل اعتبر ذلك أمرًا لا مفر منه، فإنه لا يجهل الجانب المظلم من العملية الثورية التي، من خلال تدمير الهيئات الوسيطة التقليدية، تزيل عن المواطنين أي عاطفة مشتركة أو حاجة متبادلة، وتعزل الأفراد وتشجع الدفاع الوحيد عن مصالح معينة. يصبح البحث عن الثروة هو القيمة الوحيدة ويعزز عدم الاهتمام بالشؤون العامة ويفضل إنشاء أنظمة جديدة قاتلة للحرية، بعيدة كل البعد عن الطموحات الأولية للثورة. إن التعلق بالحرية يشكل بالنسبة للمؤلف الترياق الوحيد لهذا الميل الطبيعي للمجتمعات البشرية.

دين ثوري (الكتاب الأول - الفصلان الثاني والثالث والكتاب الثاني - الفصل 14)

يبدأ توكفيل بتوضيح أن الثورة، خلافًا للرأي العام، لم تكن في المقام الأول غير دينية. إذا كانت فلسفة التنوير التي تقوم عليها تهاجم المسيحية، فهي كمؤسسة سياسية، ككنيسة، أكثر من كونها عقيدة دينية. لقد صمم الكتاب نظامًا نظريًا للحكم النقي الذي تقف الكنيسة في طريقه، أيًا كان إنها تدين بالدين، بسبب ارتباطها بالتقاليد، وإيمانها بسلطة أعلى من العقل، وذوقها في التسلسل الهرمي.علاوة على ذلك، فإن لدى الفلاسفة أسبابا شخصية لمهاجمة هذه المؤسسة لأنها المسؤولة عن الرقابة التي تزعجهم يوميا، رغم أنها الأكثر تسامحا في أوروبا. وهكذا طور الكتاب الفرنسيون عقيدة مناهضة للدين، على عكس ما هو سائد في أمريكا وإنجلترا. كما يتم استبدال الإيمان الديني بإيمان غير محدود بقوة الإنسان وقدرته على تغيير المجتمع، وهو ما ميز مزاج الثورة. إن السمة الخاصة للثورة الفرنسية هي بعدها العالمي، مثل الثورات الدينية. يدعي الدين أنه ينظم علاقات الإنسان، بشكل مستقل عن قوانين وعادات وتقاليد بلده أو عصره، مع الله والناس الآخرين.وتفعل الثورة الشيء نفسه من خلال النظر إلى المواطن بطريقة مجردة، ومن خلال التحقق من حقوقه وواجباته في الأمور السياسية. وهذا النموذج الجديد يمكن تطبيقه على جميع البشر، وهو ما يلهم التبشير والدعاية، ويميل إلى أن يصبح ديناً جديداً.مع ذلك، أعرب توكفيل عن أسفه لأنه من خلال إلغاء القوانين المدنية والقوانين الدينية في نفس الوقت، شجعت الثورة التعصب في جزء من صفوفها.

لماذا اندلعت الثورة في فرنسا وليس في أي مكان آخر؟ (الكتاب الأول – الفصل الثالث والكتاب الثاني – الفصل الأول)

على الرغم من أن أوروبا مجزأة إلى دول متعددة منذ العصور الوسطى، إلا أن المؤسسات الأرستقراطية والإقطاعية لا تزال متجانسة للغاية، وفي القرن الثامن عشر، ضعفت أيضًا في القارة بعد ظهور القوى الجديدة للملكية المطلقة وإدارتها ظهور البرجوازية. لقد سرعت الثورة حركة التحلل هذه من خلال تدمير هذه المؤسسات واستبدالها بنظام اجتماعي وسياسي أكثر اتساقا وبساطة، على أساس المساواة في الظروف. يبدو من المفارقة أن الثورة حدثت أولاً في فرنسا، لأنها من بين جميع البلدان الأوروبية، كانت القيود التي يفرضها اللورد المحلي على السكان هي الأقل عبئًا. على وجه الخصوص، يمكن للفلاح الفرنسي أن يصبح مالكًا للأرض، على الرغم من أن هذه الملكية كانت محدودة بحقوق الإقطاع. إن ارتباط الفرنسيين العاطفي بملكية الأرض هذه وتقسيمها على الميراث هي سمات تميز فرنسا عن ألمانيا أو إنجلترا. وهكذا، فإن العبودية التي فرضها السيد، والتي كانت مرتبطة في معظمها باستغلال الأرض ومنتجاتها، كانت لا تطاق بالنسبة للفلاح الفرنسي لأنه كان في كثير من الأحيان مالك هذه الأرض نفسها. أصبحت العبودية أكثر لا تطاق منذ أن انسحب اللورد منذ فترة طويلة من الحكومة الملموسة في الريف، وتركها للمسؤولين الملكيين فقط، على عكس البلدان الأخرى، والشيء الوحيد الذي يميز اللورد الفرنسي، العلماني أو الكنسي، عن بقية السكان. وبقاء امتيازاتها، دون أي تعويض من الحكومة أو الإدارة، مما يؤدي في النهاية إلى تأجيج كراهية السكان.

كيف اخترع النظام القديم الدولة المركزية؟ (الكتاب الثاني – الفصول من 2 إلى 7)

المركزية الإدارية هي من صنع النظام القديم وليس من الثورة أو الإمبراطورية. وانتهى الأمر بمجلس الملك، وهو هيئة إدارية قريبة من العرش، والملك نفسه، إلى تركيز كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتجريد المؤسسات الإقطاعية القديمة من صلاحياتها تدريجيًا، دون إزالة هذه السلطات على ما يبدو. تعمل حكومة البلاد من خلال شبكة من المراقبين (بمساعدة مندوبين فرعيين محليين)، مستقلين عن النبلاء، الذين يعينهم ويفصلهم المجلس، والذين يتم توزيعهم في جميع المحافظات ويقدمون تقاريرهم إلى المراقب العام والوزراء. هذه السلسلة من الإدارة مسؤولة عن جميع الشؤون العامة: جمع الضرائب وزيادة الميليشيات، وصيانة الطرق، والأشغال العامة، والشرطة، والتعليم، وصيانة الكنائس، وإدارة نقص الغذاء، وتطوير الزراعة والعدالة العادية. لقد صادرت الملكية حكومة المدن بقدر ما صادرت حكومة الريف عن طريق بيع وظائف الإدارة البلدية لعدد قليل من البرجوازيين مع الاحتفاظ بمعظم السلطة عبر شبكتها من المراقبين. داخل الأبرشيات الريفية، يتم الحفاظ على مظاهر السلطة المحلية، ولكن حتى أصغر قرية صغيرة، فإن واقع السلطة هو في أيدي الإدارة الملكية. وبالإضافة إلى ذلك، يتمتع موظفو الخدمة المدنية بالحصانة القضائية الكاملة. لكي تتمكن من السيطرة على البلاد بأكملها حتى أصغر التفاصيل، تتحول الإدارة إلى بيروقراطية ثقيلة، سريعة الغضب، بطيئة وغيرة من أي قوة مستقلة. وينتهي الأمر بتشكيل طبقة في حد ذاتها، أرستقراطية جديدة طموحة في رغبتها في تطوير البلاد ولكنها غير منتجة بسبب افتقارها إلى المثابرة في الإصلاح وبسبب عدم الاستقرار التشريعي الذي يولده، وتقييد القوانين التي لم يتم تنفيذها أو تعاني من آلاف الاستثناءات. في تطبيقها العملي. وبما أنه تم إزالة جميع السلطات الوسيطة بحكم الأمر الواقع، فإن الناس لا ينظرون إلا إلى الدولة باعتبارها السبب والحلول لجميع المشاكل. وهكذا تجد الدولة نفسها غارقة في طلبات وطلبات الدعم من جميع السكان، من الأكثر تواضعا إلى الأكثر حظا، دفاعا عن مصالحهم الخاصة تحت غطاء الصالح العام. من خلال تدمير الطبقة الأرستقراطية، تكشف الثورة وتعزز المركزية الإدارية وتركيز السلطات الموجودين مسبقًا. إن القدرة المطلقة الباريسية لا يعود تاريخها إلى الثورة أيضًا. ويبدو أن كل طاقات الأمة السياسية والفكرية والاقتصادية والفنية تتركز هناك. وتغرق المحافظة في حالة من الجمود والصمت، مما يسهل التقسيم الإداري ليأتي في ظل الثورة.

الناس الذين لم يكونوا متشابهين أبدًا ولكنهم ظلوا منفصلين (الكتاب الثاني - الفصلان 8 و 9)

يؤكد توكفيل على أن مجتمع النظام القديم كان منقسمًا إلى مجموعات صغيرة متعددة ذات مصالح خاصة غير مبالية بالمصلحة المشتركة، وفي الوقت نفسه لم يكن جميع الرجال الذين ألفوه متشابهين على الإطلاق. وهذا التوحيد هو نتاج المركزية الإدارية التي أضعفت خصوصيات المقاطعات وتوحيد التشريعات في جميع أنحاء الإقليم، الأمر الذي انتهى به الأمر إلى الظهور بمظهر طبيعي للسكان. علاوة على ذلك، تتقاسم الفئتان العليا والمتوسطة من السكان نفس الأفكار، ونفس التعليم ونفس أسلوب الحياة، على الرغم من الفصل الذي تحافظ عليه امتيازات الطبقة الأرستقراطية. وهكذا، أصبح النبلاء فقراء مع ظهور طبقة برجوازية داخل الطبقة الثالثة. والمجتمع ليس أقل انقساما. وإذ تتخلى عن الشؤون العامة للحكومة، تصبح الطبقة الأرستقراطية طبقة تحرص على البقاء منفصلة عن بقية المجتمع، رغم أنها لم تعد تتميز عنه إلا بعلامة المولد وامتيازاتها المالية. من خلال الانسحاب من حكومة الرجال، ابتعد النبلاء عن الارتباط بأتباعهم، وهم غالبًا من العوام، والذين تقاسموا معهم إدارة الشؤون عبر المقاطعات والممتلكات العامة أو إدارة المحاكم. ولم يعد للبرجوازيين والنبلاء أي اتصال في الحياة العامة أو الخاصة. ومن المنافسين، تصبح هذه الطبقات أعداء. ويتميز البرجوازي أيضًا عن الشعب، خاصة أنه يعيش في المدينة هربًا من عداوة السيد في الريف. وبعد أن يفصله موطنه وأسلوب حياته واهتماماته، ينتهي به الأمر إلى أن يصبح غير مبال بمصير الفلاح. كان العداء بين البرجوازيين الحضريين والفلاحين الريفيين، بين المدن والضواحي، واضحًا جدًا في القرن الثامن عشر. إن البرجوازيين متحدون في رغبتهم في تمييز أنفسهم عن الشعب، لكنهم ينقسمون إلى أقسام لا حصر لها (الشركات، وما إلى ذلك). وبما أن أعمال الحياة البلدية أصبحت نادرة إلى جانب مركزية السلطة، لم تعد المجتمعات تتفاعل ولا تهتم إلا بمصالحها الخاصة. وهكذا يستحضر توكفيل النزعة الفردية الجماعية التي تتنبأ بالفردية الحقيقية في مرحلة ما بعد الثورة.

في أصول مركزية السلطة ونتائجها السياسية والاجتماعية (الكتاب الثاني – الفصول 10 و11 و12)

تقسيم إلى ضريبة أفضل (الأفقر): يصف توكفيل أصول مركزية السلطة في فرنسا وكيف تؤدي إلى إعادة هيكلة الحرية السياسية وزيادة الظلم المالي على حساب أفقر أفراد الطبقة الثالثة. بالنسبة إلى توكفيل، تعود الصدمة الأصلية إلى التفويض الذي منحه مجلس النواب لملك فرنسا في عام 1439 بفرض ضريبة مركزية دائمة من أجل تمويل الجيش الملكي (في سياق حرب المائة عام)، الأمر الذي حد في الواقع من قوة اللوردات وكرس السلطة المركزية. ولذلك يحق للملك رفع الحجم دون موافقة مسبقة من الولايات، وهو ما يمثل بداية عملية تحلل النظام القديم. قبل هذا التاريخ، كانت غالبية الضرائب الملكية غير مباشرة وتقع على جميع الأوامر الثلاثة باستثناء الضريبة التي أُعفي منها اللوردات مقابل خدمتهم العسكرية المجانية. بفضل سلطتها الجديدة المتاحة لها، اختارت العائلة المالكة زيادة معدل الضريبة بدلاً من أي ضريبة أخرى من أجل الحفاظ على طبقة النبلاء، وهي الطبقة الأكثر خطورة في ذلك الوقت، والذين لم يكونوا ليقبلوا أن هذه السلطة الجديدة كانت ضارة جدًا بهم. ومن هنا تبدأ بداية الظلم المالي: فالضريبة لا تصيب من هم أكثر قدرة على دفعها، بل أولئك الأقل قدرة على الدفاع عن أنفسهم ضدها، أي أفقر أفراد الطبقة الثالثة، وهذا ما سيشجع العملية الثورية. ومن هنا يبدأ أيضًا الخيال المالي اللامحدود للدولة، في تحدٍ لقوانينها والتزاماتها (الإلغاء المنتظم للامتيازات الضريبية، ومصادرة الخزائن الفائضة، وتجميد استثمارات الأبرشيات للحفاظ على القواعد الضريبية، ومضاعفة الوظائف العامة الفاسدة...). ومن ثم، فإن عملية مركزية السلطة ليس لها في البداية دافع سياسي بل دافع مالي. بمجرد وضع النظام الضريبي، كانت مصلحة الحكومة هي الحفاظ على تقسيم الأمة لمنعها من الاتحاد من أجل المطالبة بإلغائها وإضفاء الشرعية على تدخل السلطة المركزية، الضامن الوحيد الممكن للمصلحة العامة.

حكم اللاعدالة الظالمة

في القرن الثامن عشر، لم يعد الفلاح الفرنسي خاضعًا لقانون المستبد الإقطاعي. وهو لا يتعرض لعنف الحكومة، ويتمتع بالحرية المدنية وملكية جزء من الأرض، لكن جميع رجال الطبقات الأخرى نأوا بأنفسهم عنه، مما كان له عواقب وخيمة. لقد هجر النبلاء الريف باستثناء الأشخاص الأقل حظًا الذين يمارسون حقوقهم على رعاياهم بشراسة. يتم تشجيع هذا الهجر من قبل الملوك الذين يسعون خوفًا من النبلاء إلى إبعادهم عن الناس. يندفع البرجوازي، الذي غالبًا ما يكون فلاحًا أصبح ثريًا، بأسرع ما يمكن لشراء مكتب في المدينة لابنه لإجباره على ترك حياة الحقول. لن تحكم الفلاحين في الواقع إلا السلطة المركزية التي لا تضطهدهم، ولكنها، بعيدة، غير مبالية بمصيرهم وتسعى فقط إلى الاستفادة منه. وبالتالي فإن الفلاحين مثقلون بأعباء متعددة. تم فرض الضريبة على الشعب لتمويل جيش الملك وإعفاء النبلاء من الخدمة العسكرية. ومع ذلك، فقد أعيد فرض الخدمة العسكرية الإجبارية عبر الميليشيا، ولكنها الآن تنطبق فقط على الشعب. وعلى نحو مماثل، تتزايد أعمال السخرة التي تسمح للسلطة المركزية بتنفيذ الأشغال العامة بتكلفة قليلة. ويعيش الفلاحون في عزلة وفقر ولا يكادون يستفيدون، سواء في فنهم الزراعي أو في تعليمهم، من التقدم الحضاري الكبير في عصرهم. لقد أصبح النبلاء الفرنسيون أكثر فقرا مع زيادة امتيازاتهم وازدهار الطبقة البرجوازية. كما ابتعدت البرجوازية عن الشعب. داخل كل فئة من الفئات الثلاث، تم تشكيل أقسام فرعية متعددة من الاهتمامات. بالنسبة إلى توكفيل، أدى تكاثر المظالم وانقسام الطبقات إلى إضعاف المجتمع الفرنسي بقدر ما عزز التطلع إلى الثورة: لم يتم تنظيم أي شيء لعرقلة الحكومة، ولم يساعدها أيضًا. لدرجة أن صرح عظمة هؤلاء الأمراء بأكمله يمكن أن ينهار معًا وفي لحظة، بمجرد أن يضطرب المجتمع الذي كان أساسه.

برجوازية الدولة أم ولادة أرستقراطية جديدة

ومن المفارقات أن المقاومة للسلطة المركزية لا تزال قائمة. بدافع الجشع، باعت الدولة الوظائف العامة، وأنشأت قسراً سلطة جديدة، وهي الإدارة، التي لا تخضع لتعسفها وتبطئ تنفيذ قراراتها.هذه القوة الجديدة خجولة في نهجها وتظل ممنوعة من أدنى مقاومة، خاصة من النبلاء الذين يحتقرونها والمتأكدون من عدم القدرة على الإطاحة بها. على الرغم من أنه يحكم على ذلك بقسوة، إلا أن توكفيل يأسف لتدمير طبقة النبلاء كجزء من جوهر الأمة التي تسكنها عظمة معينة وقدرة على مقاومة السلطة المركزية مما يشجع الميل إلى الحرية المدنية للمجتمع بأكمله. وهو يرسم صورة تتسم بنفس القدر من الإطراء والوضوح بشأن أنانيتهم لرجال الدين الكاثوليك الفرنسيين والبرجوازية قبل الثورة في قدرتهم على معارضة السلطة المركزية. من بين جميع مؤسسات النظام القديم، فإن العدالة، على الرغم من تجريدها أساسًا من سلطتها في القضاء، هي التي تبدو لتوكفيل باعتبارها الأكثر تحررًا من السلطة المركزية في قدرتها المستمرة على تلقي الشكاوى والتعبير عن رأيها، وعدم التردد في إدانة التعسف. واستبداد العمليات الحكومية. كما كرّس توكفيل نفسه لدراسة أخلاق الفرنسيين في النظام القديم، الذين عملوا، مثل الطبقات العليا، أكثر لتزيين حياتهم، والتألق، بدلاً من مجرد البحث عن الرفاهية والمال. وهو يشيد بالحرية التي كانت أقوى في ظل النظام القديم مما كانت عليه بعد الثورة، على الرغم من أنها متقطعة وغير منتظمة، ومثمرة على الرغم من تقليصها إلى حدود الطبقات. الحرية غير الصحية التي ساعدت على تكوين النفوس الأكثر قدرة على إسقاط الاستبداد ومقاومة قوانين المستقبل.

الأنوار. في الأصول الفكرية للثورة (الكتاب الثاني – الفصل 13)

تعد فرنسا الدولة الأكثر أدبًا في أوروبا، لكن أهل الأدب فيها، على الرغم من أنهم بعيدون عن الشؤون العامة على عكس نظرائهم الإنجليز، إلا أنهم مهتمون بشكل خاص بالفلسفة السياسية. النقطة المشتركة في تفكيرهم هي الرغبة في استبدال القواعد البسيطة القائمة على العقل بالعادات المعقدة والتقليدية التي تحكم المجتمع في عصرهم. إن فكرة المساواة الطبيعية في الظروف تأتي إليهم من المشهد اليومي لمجتمع الامتيازات الذي أصبح مسيئا وسخيفا. إن ذوقهم في الأفكار والأنظمة العامة يأتي من الجهل التام بممارسة الشؤون العامة، والذي أصبح مستحيلاً بسبب مصادرة الإدارة الملكية لكل الحريات السياسية. إن حشود الشعب الفرنسي، الذين لم يعودوا يشاركون في حكومة البلاد، ولكنهم يعانون بشكل ملموس من مجتمع غير متكافئ إلى حد كبير، متحمسون لهذه المبادئ المجردة ومشروع مسح الماضي بشكل نظيف. والكتاب، الذين ملأوا فراغ الهيمنة الفكرية الذي تركه النبلاء، تولوا مسؤولية توجيه الرأي، الذي انتهى الأمر إلى التمسك به نفس النبلاء من خلال اللعب الفكري الخالص. من خلال قراءة دفاتر التظلمات، يخلص توكفيل إلى أنه عند النظر إلى النهاية، فإن مجموع التغييرات الصغيرة التي يطلبها كل من الأوامر الثلاثة سيؤدي حتماً إلى إلغاء جميع القوانين والعادات الحالية في البلاد. إن الاعتقاد بأن مثل هذا التحول الجذري يمكن أن يحدث بسلاسة، لأنه يسترشد فقط بقوة العقل، هو دليل على سذاجة مجتمع لا تحكمه مؤسسات حرة تعيش من جانبها في خوف دائم من الانتكاسات. أخيرًا أقنعت الثورة الأمريكية الجمهور بإمكانية تنفيذ مشروع المدينة المثالية. إن ذوق الأفكار العامة والأنظمة والكلمات الكبيرة ينتهي به الأمر إلى التغلغل في شخصية الفرنسيين إلى درجة أن ما وصفه توكفيل بالروح الفرنسية الوليدة. ستجري الثورة بنفس الانجذاب للنظريات العامة ونفس الازدراء للحقائق الواقعية كما في خيال الكتاب الذين سبقوها.

التفضيل الفرنسي للمساواة (الكتاب الثاني – الفصل 13)

ووفقا لتوكفيل، فإن الاقتصاديين أكثر تطرفا من الفلاسفة في رغبتهم في إلغاء مؤسسات الماضي. إنهم يعارضون أي قوة مضادة تسمح بتوازن السلطة المركزية: يقول كيسناي إن نظام القوى المضادة في الحكومة فكرة كارثية. والضمان الوحيد الذي يقدمونه ضد إساءة استخدام السلطة هو التعليم العام. لا يعتبر الاقتصاديون أن الحريات السياسية التي تسمح للسكان بحكم أنفسهم وسيلة موثوقة لتنفيذ نظام الإصلاح المثالي الذي يفكرون فيه، ويفضلون الاعتماد لهذا الغرض على الإدارة الملكية، التي يعجبون بسلطتها ويشاركونها الازدراء للمؤسسات الإقطاعية القديمة. ووفقا للاقتصاديين، لا يتعين على الدولة أن تقود الأمة فحسب، بل يجب عليها تشكيلها بطريقة معينة من خلال تشكيل عقول وقلوب المواطنين وفقا لنموذج محدد مسبقا. : إنه لا يصلح الناس فحسب، بل يحولهم؛ ربما سيكون الأمر متروكًا له ليصنع الآخرين!. يقول بودو: "الدولة تفعل مع الرجال ما تشاء". هذه الكلمة تلخص كل نظرياتهم. ومن ثم فإن الاقتصاديين يفضلون الاستبداد الديمقراطي، ويعترفون بالمجتمع باعتباره صاحب السيادة الشرعي الوحيد ولكنهم يحرمونه من أي قدرة تسمح له بتوجيه ومراقبة حكومته بنفسه من خلال إسناد كل السلطات إلى الدولة. والحكومة الصينية في ذلك الوقت، والتي وصفها توكفيل بالبلهاء والهمجية، هي نموذجهم. ويستشهد توكفيل بمدونة موريلي للطبيعة التي تروج لعقيدة اشتراكية تقوم على الدولة القادرة على كل شيء، وإلغاء الملكية الخاصة، والاستبداد التنظيمي، والاستيعاب الكامل لشخصية المواطنين في الجسم الاجتماعي على وجه الخصوص من خلال التعليم الجماعي للأطفال المأخوذ من عائلاتهم. وبهذه الطريقة، فهو يوضح تفضيل الاقتصاديين، ولكن أيضًا كل الشعب الفرنسي، للمساواة على الحرية. لقد طور الفرنسيون شغفًا بالحرية في وقت متأخر من حياتهم، ولكن عندما نفذوا ثورتهم، لم يكونوا مستعدين لها بشكل جيد وكانوا قد تصوروا بالفعل عادات في شؤون الحكم تتعارض تمامًا مع المؤسسات الحرة، من خلال قبول المجتمع كمثال أعلى. دون أي أرستقراطية أخرى غير تلك الخاصة بالموظفين العموميين، وتشكيل إدارة قوية، حارسة للأفراد. ومن ثم فإنهم يحاولون التوفيق بين هذه الفكرة والحرية السياسية من خلال المزج بين المركزية الإدارية المطلقة والهيئة التشريعية المهيمنة: إدارة البيروقراطية وحكومة الناخبين. إن الأمة ككل تتمتع بكل السلطات، ولكن من المتوقع من كل مواطن أن يتصرف كخادم. وهذا التوفيق المستحيل بين الأضداد يفسر صعوبة وجود حكومات حرة في فرنسا تؤدي بانتظام إلى الثورات.

كيف عجّل عهد لويس السادس عشر بالثورة بشكل متناقض؟ (الكتاب الثاني، الفصول 16 و17 و18 و19)

ازدهار ما قبل الثورة

قبل بضعة عقود من الثورة، كانت الرغبة في التغيير تغلب على الجسم الاجتماعي بأكمله، وحتى حكومته. إن احترام الحرية والحياة الإنسانية يتقدم، وكذلك الاهتمام بالأشخاص الأكثر فقرا. ويظهر بعض الازدهار الاقتصادي، على الرغم من أن الدولة تدمر نفسها لتمويل الحرب الأمريكية، مدعومة بحكومة تضمن النظام وتنشطها الطبقات العليا المستنيرة التي تحترم حقوق الملكية. للرأي العام تأثير كبير على الحكومة. ومن عجيب المفارقات هنا أن الفرنسيين، مع تطور هذا الازدهار، يتزايد شعورهم بالاستياء ويجدون أن وضعهم أصبح لا يطاق مع تحسنه، وذلك لأن الإيمان بمستقبل أفضل من أي وقت مضى يصبح ممكناً، الأمر الذي يجعلهم غير حساسين للخيرات التي حصلوا عليها بالفعل، ويعزز من عدم التسامح مع الظلم والظلم تعسف الدولة. وعلى وجه الخصوص، فإن الطبقات المميزة، التي تتحمل ديون الدولة، تخشى عدم سداد ديونها. إنهم يطالبون بإصلاح مالي عميق، دون أن يعتبروا أن ذلك سيؤدي إلى تدمير كامل للنظام القائم. كيف أيقظنا الناس بالرغبة في التخفيف عنهم؟

إن الحكومة الملكية، التي تلعب الشعب ضد منافسيها السياسيين (الإدارة والأرستقراطية، والأغنياء، والبرلمانات المحلية، وما إلى ذلك)، ترافق إصلاحاتها بخطاب قاس يدين المظالم التي ترغب في مكافحتها، الأمر الذي لا يؤدي فقط إلى تغذية الظلم. عداوة الشعب تجاه هذه الظلم. خاصة وأن العديد من الإصلاحات (إلغاء السخرة والشركات) لم تنجح. كل هذا يشجع في أذهان الناس فكرة أن رؤسائهم هم الذين يجب عليهم دائمًا إلقاء اللوم على أمراضهم. كان أصحاب الامتيازات أنفسهم، في العقد الذي سبق الثورة، يكنون مشاعر طيبة تجاه أكثر الناس بؤسًا ومارسوا الأعمال الخيرية السخية، لكنهم لم يذهبوا أبدًا إلى حد اقتراح قمع امتيازاتهم المالية، أو التخلي عن بعض الازدراء تجاههم. كل هذه الخطب هي موضوع منشور واسع النطاق، وإذا استقبلها الشعب، فإنها ستثير حسدهم وكراهيتهم للطبقات العليا، التي تشتعل في هدوء ظاهري. بعض الممارسات التي أكملت الحكومة بمساعدتها التثقيف الثوري للشعب. كانت سياسة الإصلاح التي اتبعها لويس الخامس عشر، والتي أظهرت القليل من الاحترام للحقوق المكتسبة، بمثابة تشجيع للحركة الثورية، كما تم التنازل عن عقيدة لويس. كما تشجع الإدارة ازدراء الملكية الخاصة أثناء الأشغال العامة مما يؤدي إلى مصادرة الأراضي بأسعار منخفضة، أو حتى عدم دفعها على الإطلاق، مما يضر بالعديد من صغار ملاك الأراضي.

وبالمثل، تقوم الحكومة بتحويل الأموال من المؤسسات الخاصة عن غرضها، باسم المصلحة العامة. وأخيرا، إذا كانت هناك ضمانات لحماية الفقراء من هجمات المواطنين الأكثر ثراء، فبمجرد رفع دعوى ضد الدولة، يتم إقامة صورة زائفة من العدالة. كما تقوم الحكومة كل يوم بتعليم الشعب قواعد التعليمات الجنائية الأكثر ملاءمة لزمن الثورة والأكثر ملاءمة للاستبداد. فكيف سبقت ثورة إدارية عظيمة الثورة السياسية؟

يصف توكفيل كيف أدى الإصلاح الإداري لعام 1787 إلى تعطيل الشؤون العامة عن طريق استبدال سلطة المراقب بسلطة المجلس الإقليمي، دون إلغاء وظيفة المراقب، الذي من المفترض أن يساعد ويراقب المجلس المذكور. كان استبدال سلطة شخص واحد بجمعية جماعية عديمة الخبرة مصدرًا لفوضى كبيرة، خاصة وأن المراقب فعل كل شيء لإيذائه، مما أدى إلى تعطيل سير الإدارة تمامًا.

في القرى، تتولى مجالس الأبرشيات مسؤولية الشؤون اليومية، بما في ذلك تحصيل الضرائب. يرأسهم اللوردات بالحق، لكن لا يمكنهم التصويت. وبعيدًا عن التقريب بين الرهبانيات الثلاثة، فإن هذه الاجتماعات تؤكد على الامتيازات والمصالح المتضاربة. وهكذا، قبل اندلاع ثورة 1789 وظهور دستور جديد، كانت جميع القواعد والعادات الإدارية قد تعطلت بالفعل، استعدادًا لانقلاب الحكومة المركزية.

كيف خرجت الثورة من ذاتها مما سبق؟ (الكتاب الثاني – الفصل العشرين)

يلخص توكفيل في هذا الفصل الأخير كيف يمكن للثورة أن تخرج من النظام القديم. وفي فرنسا فقد النظام الإقطاعي أكثر ما يمكن أن يحمي ويخدم السكان، دون الخروج عن نظام الامتيازات. لم تعد طبقة النبلاء تدير أي شيء، بل تم تعزيز امتيازاتها، مما يشعل العاطفة الديمقراطية لدى الشعب.

لقد امتصت حكومة الملك كل السلطات وباريس تقود البلاد بأكملها، مما جعل البلاد تحت رحمة أدنى أعمال شغب حيث لا شيء يمكن أن يعارض من يستولي على الإدارة المركزية.

إن قلة الخبرة في الحياة السياسية هي لدرجة أن لا أحد يدرك مخاطر الحركة الثورية، ونحن نتبنى رؤية الفلاسفة الذين لا يسعون إلى التمييز بين القوانين الجيدة والسيئة ولكنهم يرغبون في إنشاء نظام حكم جديد تمامًا، متحرر من التقاليد القديمة وخاصة من الكنيسة. وسرعان ما سادت كراهية عدم المساواة على حب الحرية، وقامت حكومة أكثر مطلقة من حكومة الملوك من جثة النظام القديم.

القسم الثاني: عن الديمقراطية والنظام الجديد

في كتابه "الديمقراطية في أمريكا"، يشاركنا توكفيل الملاحظات التي أبداها خلال رحلته. يحتوي هذا العمل، الذي نُشر عام 1835، على تأملات حول طبيعة الديمقراطية ومخاطرها، ومقارنة بين الأنظمة السياسية في الدول الأوروبية والأنظمة السياسية في الولايات المتحدة.  كتب توكفيل هذا الكتاب عقب رحلته إلى أمريكا، من أجل الكشف عن طبيعة وخصائص أسلوب الحكم في هذا البلد. وأكثر ما أذهله هو المساواة في الظروف. تؤثر هذه الحقيقة على كل شيء آخر: القوانين والأخلاق وما إلى ذلك. وبعد ملاحظة هذه الحركة نحو المساواة في جميع أنحاء أوروبا منذ الثورة الفرنسية، تصور فكرة هذا الكتاب. إن هذه المسيرة نحو المساواة، أو بعبارة أخرى، الثورة الديمقراطية، هي ظاهرة لا تقاوم، تأتي إلينا من بعيد جدا. في الواقع، إنها الحقيقة الأكثر استمرارية والأقدم والأكثر ديمومة التي عرفها التاريخ.  بالفعل، نرى هذا التقدم يحدث في العديد من الحقائق التاريخية: رجال الدين الذين يفتحون صفوفهم للجميع، الفقراء والأغنياء، والنبلاء الذين يدمرون أنفسهم في حروب خاصة، في حين أن العوام يثريون أنفسهم من خلال التجارة، والملوك الذين يشركون الطبقات الدنيا الدولة في الحكومة، من أجل خفض الطبقة الأرستقراطية، وما إلى ذلك. حتى الاختراعات مثل البنادق تعادل الشرير والنبيل في ساحة المعركة. من هذا المنطلق يلاحظ توكفيل أن كل نصف قرن يجعل النبلاء أقرب إلى عامة الناس. لدرجة أننا يجب أن نعقد العزم على إضفاء طابع العناية الإلهية على هذه المسيرة نحو الديمقراطية. وبعبارة أخرى: هذه إرادة إلهية، ومن هنا مصير البشرية: إن التطور التدريجي للمساواة في الظروف هو بالتالي حقيقة من العناية الإلهية، وله خصائص رئيسية: إنه عالمي، ودائم، ويفلت من قوة الإنسان كل يوم؛ فكل الأحداث، مثل كل البشر، تخدم تطوره . هذه الحتمية، التي أثارت إعجاب توكفيل بشكل كبير، تبطل جهود الرجعية للإطاحة بالديمقراطية واستعادة الملكية. ومن ناحية أخرى، إذا لم نتمكن من معارضة هذه الحركة الديمقراطية، فربما يكون من الممكن قيادتها. ولهذا نحن بحاجة إلى علم سياسي جديد لعالم جديد تماما. وطالما أننا لا نملك هذا العلم السياسي المتكيف مع العصر، فإننا لدينا الديمقراطية، إلا ما ينبغي أن يخفف من رذائلها ويبرز مزاياها. يُظهر توكفيل تناقضات الأوقات المضطربة التي كتب عنها، تلك التي أعقبت الثورة الفرنسية عن كثب، هذا القرن الفريد حيث لا شيء يبدو محظورًا، ولا مسموحًا به، ولا صادقًا، ولا مخزيًا، ولا صحيحًا ولا كاذبًا ، مثل رجال الدين المعارضين و الثوريين، بينما دافع المسيح أيضًا عن الحرية ضد العبودية. تتمتع أمريكا بميزة تنظيم نفسها كدولة ديمقراطية، دون الاضطرار إلى الخضوع للثورة: أعترف أنني رأيت في أمريكا أكثر من أمريكا؛ بحثت عن صورة للديمقراطية نفسها. لا يسعى توكفيل إلى إصدار أي حكم قيمي على هذه الظاهرة التاريخية التي هي الثورة. إنها ليست مسألة تحديد ما إذا كان لها طابع مفيد أو ضار. فهو يعتبرها حقيقة يجب تحليلها، بحيث تكون مربحة قدر الإمكان. عندما ندرس شعبًا ما، يجب علينا، بالنسبة إلى توكفيل، أولًا أن نحلل "حالتهم الاجتماعية". ويتم تعريف ذلك على أنه نتاج لحقيقة (على سبيل المثال الموقع الجغرافي للبلد، ومناخها، وما إلى ذلك) وقوانينها. وهذه الحالة الاجتماعية هي بدورها السبب الأساسي الذي يحدد قوانين الأمة وأخلاقها وأفكارها. إن الحالة الاجتماعية للأميركيين ديمقراطية إلى حد كبير، وذلك لأنها تتكون من مهاجرين من أوروبا، يقدمون، في حالتهم كمهاجرين، مساواة كبيرة. وهذه ظاهرة تاريخية نادرة (هجرة الأشخاص المستبعدين أو المغامرين)، والتي تولد وضعا سياسيا وحالة اجتماعية غير مسبوقة. لعب قانون الميراث الأمريكي أيضًا دورًا. في الواقع، بدلاً من تكليف الأكبر سناً بميراث الأرض (وهو ما أدى إلى نشوء الطبقة الأرستقراطية من الأرض)، أسست المساواة في التقاسم بين الأبناء، الأمر الذي أدى إلى تفكك العقارات الكبيرة. إن الوضع السياسي غير مسبوق بشكل خاص في الغرب الأمريكي: فالدول الغربية الجديدة لديها سكان بالفعل؛ المجتمع غير موجود بعد. ومن ثم فإن عناصر مختلفة تساهم في ضمان المساواة الفعلية في المجتمع الأمريكي، سواء في الثروة أو في العقول. في بداية القرن التاسع عشر، وجدنا عددًا قليلاً من الجهلة وعددًا قليلاً من العلماء هناك، لأنه على الرغم من أن التعليم الابتدائي كان في متناول الجميع، إلا أن التعليم الثانوي لم يكن متاحًا لأحد تقريبًا. إن مبدأ سيادة الشعب في أمريكا تعترف به الأخلاق وتعلنه القوانين. يحكم الشعب، وذلك في الدرجات الأربع للمجتمع السياسي الأمريكي: البلدية، والمقاطعة، والدولة، والاتحاد. قبل كل شيء، يلجأ الأمريكيون، أكثر من أي بلد آخر، إلى الجمعيات الخاصة، هذا الشكل من الاتحاد البديل للعلاقات السياسية، مع الدولة. يحتفظ الأمريكي دائمًا بقدر معين من عدم الثقة في الدولة (ربما بسبب أصوله كشخص مستبعد، مهاجر، في صراع مع دولة بلده الأصلي): يلقي الأمريكي فقط نظرة متحدية وقلقة على السلطة الاجتماعية، و لا يلجأ إلى قوته إلا عندما لا يستطيع الاستغناء عنها. علاوة على ذلك، سوف يلخص توكفيل عدم الثقة الأمريكي في السلطة العامة، وهو أصل ليبرالية المجتمع الأمريكي، على النحو التالي: في نظر الديمقراطية، الحكومة ليست خيرًا، إنها شر لا بد منه. هذه الجمعيات الخاصة لها أهداف متعددة (على سبيل المثال، جمعيات الفضيلة، ضد الشرب: في الولايات المتحدة، نجتمع لأغراض السلامة العامة والتجارة والصناعة والأخلاق والدين. ليس هناك ما تيأس الإرادة الإنسانية من تحقيقه من خلال العمل الحر للقوة الجماعية للأفراد.يشكل هذا العدد الكبير من الجمعيات قوة مضادة مفيدة ضد طغيان الأغلبية. عندما يصبح حزب سياسي مهيمناً، فإن كل السلطات العامة تنتقل إلى يديه. وبالتالي فإن الجمعيات، باعتبارها قوة مضادة، مفيدة للغاية. مع ذلك، يشير توكفيل إلى الخطر الذي يمكن أن تشكله هذه الجمعيات على الديمقراطية: ألا تستطيع وضع ثقل المجموعة على الفرد؟ ويجب أن يؤخذ في الاعتبار أن هدف الجمعيات هو توجيه الآراء وليس تقييدها، وتقديم المشورة للقانون، وليس وضعه. في أمريكا، حرية تكوين الجمعيات غير محدودة، مما يمثل خطرًا، وهو خطر الفوضى، ولكنه يجعل من الممكن تجنب خطر إنشاء جمعيات سرية: في أمريكا، هناك فصائل، ولكن لا يوجد متآمرون. بشكل عام، السياسيون الأمريكيون متواضعون. ويأتي هذا من الاقتراع العام، الذي يجعل الجهلاء يفضلون المشعوذين الجذابين، أو يرفضون، حسدا، انتخاب رجال تمكنوا، بسبب ثرواتهم، من الاستفادة من التعليم الجيد. وهكذا فإن ابتذال أعضاء مجلس النواب في واشنطن يثير دهشة الزائر الأوروبي. وهم في الغالب محامون أو تجار قرويون لا يعرفون دائمًا كيفية الكتابة. ومن ناحية أخرى، فإن أعضاء مجلس الشيوخ، لأنهم منتخبون بالاقتراع العام غير المباشر، يأتون من خلفية اجتماعية أعلى وأفضل تعليما. إنهم محامون وجنرالات ورجال دولة وما إلى ذلك. تقوم الديمقراطية على مبدأ قوة أكبر عدد. ولأن أغلبية الناخبين صوتوا لحزب معين، سيتم اعتماد قانون معين. وهذا يعتمد على مفهوم معين للذكاء: تعتمد الإمبراطورية الأخلاقية للأغلبية جزئيًا على هذه الفكرة القائلة بأن هناك المزيد من التنوير والحكمة لدى العديد من الناس مجتمعين أكثر من واحد، وفي عدد المشرعين أكثر من الاختيار. وبعبارة أخرى هي نظرية المساواة المطبقة على العقول. ونتيجة لذلك، تتمتع الأغلبية بالسلطة المطلقة في الديمقراطية: تتمتع الأغلبية في الولايات المتحدة بقوة حقيقة هائلة وقوة رأي تكاد تكون كبيرة، ولا توجد، إذا جاز التعبير، أي عقبات يمكن أن تؤخر مسيرتها. وامنحها الوقت للاستماع إلى شكاوى من تسحقهم بالمرور. ويشعر توكفيل بالقلق: فالعواقب المترتبة على هذا الوضع كارثية وخطيرة على المستقبل. هل يمكن لقدرة الأغلبية المطلقة أن تثير المخاوف من طغيان الأغلبية؟ هناك شيء واحد مؤكد: إن القدرة المطلقة لأي فاعل اجتماعي هي دائما أمر خطير، بالنسبة لتوكفيل باستثناء قدرة الله، لأن صلاحه وحكمته يتناسبان معها. وعلى هذا فإن الخطر الذي تواجهه أميركا لا يتمثل في الحرية المفرطة، بل في طغيان الأغلبية. وفي هذا الموضوع نجد هذا المقطع الشهير من كتاب الديمقراطي في أمريكا: عندما يعاني شخص أو حزب من الظلم في الولايات المتحدة، من تريدهم أن يخاطبوا؟ إلى الرأي العام؟ هي الأغلبية. إلى الهيئة التشريعية؟ إنه يمثل الأغلبية ويطيعها بشكل أعمى؛ إلى السلطة التنفيذية؟ يتم تعيينه من قبل الأغلبية. للقوة العامة؟ إنها ليست سوى أغلبية تحت السلاح. لذلك، مهما كان الإجراء الذي يضربك غير عادل أو غير معقول، يجب عليك الخضوع له. لتجنب ذلك، لا تزال هناك حلول. يجب أن تمثل السلطة التشريعية الأغلبية عن بعد، ومن ناحية أخرى، يجب أن يكون للسلطتين التنفيذية والقضائية قوة خاصة بهما. يميز لوك بين مفهومين يتم الخلط بينهما في بعض الأحيان: التعسف والطغيان. يمكن ممارسة التعسف لصالح المحكومين؛ وفي هذه الحالة لا يكون طاغية. بينما يمكن ممارسة الاستبداد عن طريق القانون نفسه، وفي هذه الحالة لا يكون تعسفياً. يمكن أن تصبح الديمقراطية طغيانًا حقيقيًا للأغلبية، خاصة عندما يتعلق الأمر بحرية الفكر. لقد اعتدنا على الربط الدائم بين الديمقراطية وحرية الفكر. بالنسبة لتوكفيل، هذا ليس هو الحال بالضرورة. ويشير إلى أنه في النظام الملكي، يمكن للملك بالتأكيد أن يمنع بعض الكتابات من التداول بحرية. لكنه لا يستطيع أن يمنع رعاياه من التفكير، داخل أنفسهم، فيما يرغبون فيه. بينما في الديمقراطية، تمارس الأغلبية أيضًا السيطرة على الأخلاق والآراء: نحن ندفع، في أعماقنا، إلى التفكير مثل الآخرين: الملك لديه فقط سلطة مادية تعمل بالأفعال ولا يمكنها الوصول إلى الإرادات، لكن الأغلبية ترتدي عباءة. القوة المادية والمعنوية، التي تؤثر على الإرادة بقدر تأثيرها على الأفعال، والتي في نفس الوقت تمنع الفعل والرغبة في الفعل. ويلخص توكفيل الأمر بهذه الطريقة: في أمريكا، الأغلبية ترسم دائرة هائلة حول الفكر. إذا تركها الكاتب، الصحفي، الفيلسوف، يواجهون الاضطهاد. يشير المؤلف إلى أن الاستبداد قد اكتمل بهذا الشكل: في السابق، كان يضرب الجسد في محاولة للوصول إلى الروح، والآن يترك الجسد ويذهب مباشرة إلى الروح. وإليكم كيف يستمر هذا الاستبداد الخفي، المنقوش في قلب الديمقراطية: لم يعد السيد يقول: سوف تفكر مثلي، أو سوف تموت؛ يقول: أنت حر في ألا تفكر مثلي؛ حياتك، ممتلكاتك، كل شيء يبقى معك؛ ولكن من اليوم أنت غريب بيننا. ستحتفظ بامتيازاتك في المدينة، لكنها ستصبح عديمة الفائدة بالنسبة لك عندما تقترب من أقرانك، سوف يهربون منك مثل كائن غير طاهر. لا يمكن لأي كاتب أن يتهرب من هذا الالتزام بمدح مواطنيه. ولذلك فإن الأغلبية تعيش في عبادة ذاتية دائمة. إنه تعميم لـ "روح البلاط" التي نشهدها في الديمقراطية، فهي تخترق الطبقات الاجتماعية المختلفة. ومن الممكن أن يؤدي طغيان الأغلبية هذا إلى توحيد العقول: فقد يعتقد المرء للوهلة الأولى أن العقول في أمريكا تشكلت جميعها على نفس النموذج. تنبأ توكفيل، بدافع رؤيوي، بأن أمريكا، وكذلك الروس، ستكون دولتين ستلعبان دورًا قياديًا، متجاوزين الإنجليز والفرنسيين الذين هيمنوا، في الوقت الذي كتب فيه هذه السطور: يوجد اليوم على الأرض شعبان عظيمان، ينطلقان من لا شيء، ويبدو أنهما يتحركان نحو نفس الهدف: إنهما الروس والأمريكيون الأنجلوأمريكيون . يبدو أن كل واحد منهم مدعو بموجب تصميم سري من العناية الإلهية إلى الإمساك بالمصير بين يديه يومًا ما من نصف العالم. ومع ذلك، فإن المؤلف لا يقترح أمريكا كنموذج يحتذى به بالنسبة للدول الأوروبية. إن السياق التاريخي والجغرافي والاجتماعي ليس هو نفسه، لذلك يجب أن نكون حريصين على عدم تطبيق نفس النموذج على هذه البلدان المختلفة: إنني لا أجهل التأثير الذي تمارسه طبيعة البلد والحقائق السابقة على الدساتير السياسية، وسأعتبرها مصيبة كبيرة للجنس البشري إذا تم إنتاج الحرية في جميع الأماكن تحت نفس الخصائص. وهذه فكرة نجدها بالفعل في روح القوانين لمونتسكيو. إن المساواة الخاصة بالديمقراطية تفضل أفكارًا معينة، على سبيل المثال فكرة التقدم. في الطبقة الأرستقراطية، يشغل الجميع مرتبة معينة في المجتمع: النبلاء، والأقنان، والفرسان... لذلك لا أحد يسعى للقتال ضد مصير لا مفر منه. ليس الأمر أننا نعتبر في الطبقة الأرستقراطية أن الإنسان لا يستطيع أن يتحسن أو يتغير. لكننا نعتبر أن هذا التغيير ليس لانهائيا، بل هو وارد في حدود معينة. نحن نتصور أن حالة الإنسان أفضل، ولكن ليس غير ذلك. ولذلك تتميز هذه المجتمعات بطابعها الثابت أو غير القابل للتغيير: حيث لا شيء يتحرك حولها، فإنها تتخيل بسهولة أن كل شيء في مكانه. يدعي المشرع إصدار القوانين الأبدية، وتقيم الشعوب والملوك الآثار العلمانية، الخ. ومع المساواة تتقارب الطبقات وتختلف العادات والقوانين. يتم اكتشاف حقائق جديدة. توضح هذه التغييرات أن لدى الإنسان قدرة غير محدودة على تحسين نفسه. من وجهة نظر أدبية، نشهد في مثل هذه المجتمعات تعميمًا للأدب، بمعنى مزدوج: فالناس، المتعلمون بشكل أفضل، يقرأون المزيد من الكتب، لكن الأدب يصبح شائعًا. وبالمثل، تفضل الديمقراطية مفاهيم معينة بين المؤرخين. ولم يعودوا، كما هو الحال في الطبقة الأرستقراطية، يعزون سبب الأحداث إلى قرارات الأشخاص العظماء، بل إلى ظواهر عامة عظيمة من العناية الإلهية؛ فهي تحدد مسار العالم دون أن تتمكن أي إرادة خاصة من فعل أي شيء حيال ذلك. وأشار السيد دو لافاييت في مذكراته إلى أن هذا المفهوم الحتمي يوفر عزاء كبير للسياسيين العاديين، لأنه يوفر لهم دائما العذر في حالة الفشل السياسي. من جانبه، يرى توكفيل أنه إذا كان جزء من الأحداث يرجع إلى حقائق عامة جدًا، فإن جزءًا آخر يرجع إلى أسباب خاصة. وبنفس الطريقة، فإن روح المساواة تفضل مفهوما ميتافيزيقيا آخر: الفردية. فالفردية الديمقراطية تجعل كل إنسان يوجه مشاعره نحو نفسه وحده. وهذه ظاهرة جديدة؛ الطبقة الأرستقراطية لا تعرف إلا الأنانية. وإذا كان هذا الأخير مجرد حب عاطفي ومبالغ فيه للذات، يتولد من غريزة عمياء، فإن الفردية هي شعور مدروس وسلمي يجعل كل مواطن يعزل نفسه عن جمهور أقرانه وينعزل عن أهله وأصدقائه ينبع من خطأ في الحكم وليس من شعور فاسد. في الطبقة الأرستقراطية، يرتبط الناس بطبقات؛ فكل يرى انساناً فوقه يحميه، وانساناً تحته ينصره. الجميع أيضًا جزء من العائلة. في ظل الديمقراطية، تعني مساواة الظروف أن الناس لم يعودوا يشغلون مرتبة معينة في الطبقة الاجتماعية. ويتفكك الشعور العائلي: فالديمقراطية تجعل الإنسان ينسى أسلافه، وتخفي عنه نسله، وتفصله عن معاصريه؛ إنها تعيده إليه باستمرار وحده. وتعتمد الديمقراطية الأمريكية أيضًا على الإنتاجية وتقسيم العمل كما تصورها آدم سميث في كتابه ثروة الأمم. ومن المؤكد أن تقسيم العمل يجعله أكثر كفاءة. كل عامل، من خلال القيام بمهمة واحدة فقط، ينتهي به الأمر إلى اكتساب البراعة التي تعمل على تحسين إنتاجه. لكن توكفيل لاحظ أن الإنسان فيه يتدهور مع تحسن العامل. ويسأل نفسه، في إشارة صريحة إلى آدم سميث: ماذا يمكن أن نتوقع من شخص قضى 20 عاما من حياته في صنع رؤوس الدبابيس؟

فيصبح العامل ضيق الأفق، ضعيفا، معتمدا، يركز على شيء واحد. يكتسب السيد، من جانبه، منظورًا عامًا بشكل متزايد: يتوسع عقله بما يتناسب مع تضييق عقل الآخر. يبدو أحدهما أكثر فأكثر وكأنه مسؤول إمبراطورية شاسعة، والآخر مثل الوحش. ومن المفارقة أن الإنتاجية، التي ولدت في قلب الديمقراطية، تبدو وكأنها تميل نحو نوع جديد من الأرستقراطية: لا يوجد شيء متشابه بين السيد والعامل هنا، ويختلفان أكثر كل يوم. يبدو أن المرء قد ولد ليطيع، مثل هذا الشخص ليأمر. ما هذا إن لم يكن الأرستقراطية؟ أو مرة أخرى: يبدو أننا نرى الأرستقراطية تنشأ من خلال حركة طبيعية من قلب الديمقراطية. لقد رأينا أن المساواة المكرسة في الديمقراطية، فضلاً عن طغيان الأغلبية، أدت إلى توحيد الرجال. ورأينا أيضًا أن الديمقراطية اتسمت بتغيرات كبيرة. ومن هاتين الظاهرتين تنشأ مفارقة: في الديمقراطية الأمريكية يتغير كل شيء، لكن هذا التغيير لا ينتج أي فرق، لأن الجميع يبدون متشابهين. على العكس من ذلك، في الطبقة الأرستقراطية، لا شيء يتغير، لكن الرجال يختلفون كثيرًا: لا شيء يتغير، كل شيء يختلف. ولذلك: فإن جانب المجتمع الأمريكي مضطرب، لأن الناس والأشياء في تغير مستمر؛ وهو رتيب، لأن كل التغييرات هي نفسها. كما يعرّف توكفيل الشرف بأنه مجموعة من القواعد الجزئية الخاصة بشعب ما تتميز عن الأخلاق، والقوانين الكونية: الشرف ليس سوى هذه القاعدة المحددة القائمة على دولة معينة، والتي يساعدها شعب أو طبقة في التمييز بين اللوم أو الثناء. والواقع أنه كلما اجتمع الناس في مجتمع معين، نشأ بينهم على الفور شرف، أي مجموعة من الآراء الخاصة بهم فيما ينبغي مدحه أو ذمته. إن القيم التي يدافع عنها الشعور بالشرف هي تلك التي تمكن المجتمع من ترسيخ نفسه بها. يمكن أن يكون هذا الولاء للنظام الملكي على سبيل المثال، لأن هذا النوع من النظام لا يمكن أن يستمر إذا لم يكن اللوردات والفرسان مخلصين. ومن ناحية أخرى، تشكلت الديمقراطية الأمريكية من خلال التجارة والصناعة. ونتيجة لذلك، فإن الشرف في هذه المجتمعات يتناسب بشكل جيد للغاية مع حب الثروة، بل إنه يرتكز على هذا الشعور الذي تدينه المجتمعات الأرستقراطية: يسمي الأمريكيون الطموح النبيل والمقدر ما أسماه آباؤنا في العصور الوسطى بالذليل الجشع. وبما أن كل شيء يتغير باستمرار في الديمقراطيات، فهل نتعرض لخطر الثورات المستمر؟ لا. تبدو الثورات عمومًا وكأنها تدمر عدم المساواة، لكن الديمقراطيات تتميز بمساواة كبيرة في الظروف. هناك عدد قليل من الأغنياء والفقراء، والعديد من المواطنين من الطبقة المتوسطة، الذين هم بطبيعتهم محافظون أو مؤيدون للإصلاحات البسيطة: الرجال في الديمقراطيات لا يرغبون بطبيعة الحال في الثورات ولكنهم يخشونها. والسبب بسيط: إن أي ثورة تهدد الملكية، وأغلب الناس في الأنظمة الديمقراطية هم من أصحاب الأملاك. وبالمثل، فإن الثورة عمومًا تدمر الشركات والصناعات. وبما أن هناك العديد من هذه الأخلاقيات في دولة ديمقراطية، فإن الاستقرار الاجتماعي هو شيء يرغب فيه الجميع: لا أعرف أي شيء أكثر معارضة للأخلاق الثورية من الأخلاق التجارية. إن التجارة بطبيعة الحال هي عدو كل المشاعر العنيفة. وفي الواقع فإن الخطر يكمن في مكان آخر. على العكس من ذلك، إنها تكمن في اختفاء أي قدرة على الثورة لدى الإنسان: هل أجرؤ على قول ذلك وسط الخراب الذي يحيط بي؟ إن أكثر ما أخشاه على الأجيال القادمة ليس الثورات. يخشى توكفيل من أن الرجال، في النظام الديمقراطي، المدفوعين بفرديتهم، سوف يسعون فقط إلى تحقيق مصالحهم الخاصة الصغيرة، وهدوءهم، ويرفضون أي نظرية جديدة، أو أي ابتكار باعتباره مصدرًا للمشاكل. يكمن خطر الديمقراطيات في حقيقة أنها تظل ثابتة دائمًا في نفس المؤسسات، ونفس الأحكام المسبقة، ونفس الأخلاق، بطريقة تجعل الجنس البشري يتوقف ويحد من نفسه؛ وأن العقل ينحني وينسحب إلى الأبد على نفسه دون أن ينتج أفكارًا جديدة؛ وأن الإنسان يرهق نفسه في حركات صغيرة منفردة وعقيمة، وأن البشرية، بينما تتحرك باستمرار، لا تعود تتقدم. هناك خطر ثانٍ يهدد. في ظل الديمقراطية، يظل الإنسان مستقلاً فرديًا وبالتالي ضعيفًا. ومن الطبيعي أن يوجه نظره نحو هذا الكائن الهائل الذي ينهض وحده وسط الانحطاط العالمي، ألا وهو الدولة. علاوة على ذلك، يميل المواطنون بطبيعة الحال إلى منح المزيد والمزيد من السلطات للدولة، لأن شغفهم بالمساواة يدفعهم إلى عدم التسامح مع أي سلطة لدى المواطنين الآخرين (حب المساواة ينمو دون توقف مع المساواة نفسها). إنهم يفضلون أن يعهدوا بهذه السلطة إلى الدولة. شيئاً فشيئاً، تركز الدولة كل السلطات. إنها الدولة التي تتولى تقديم الخبز للجائع، والمأوى للمرضى، والعمل للعاطلين. لقد أصبح التعليم والعمل الخيري شأنا وطنيا. في النظام الأرستقراطي، كانت السلطة مقتصرة على توجيه المواطنين فقط في الأمور المتعلقة بالمصلحة الوطنية. وتركهم أحرارا مثل الباقين. في الديمقراطية، تتعهد الحكومة، التي تعتبر نفسها مسؤولة عن تصرفات المواطنين ومصيرهم الفردي، بتوجيه وتنوير كل واحد منهم في مختلف أعمال حياتهم، وإذا لزم الأمر، لجعلهم سعداء على الرغم من أنفسهم. يبدو أن هاتين الثورتين تحدثان أمام أعين توكفيل، في اتجاهين متعاكسين: إحداهما تعمل على إضعاف السلطة بشكل مستمر، والأخرى تعمل على تقويتها بشكل مستمر. لم يبدو أبدًا ضعيفًا وقويًا جدًا في نفس الوقت. ونتيجة لهذا فإن الديمقراطيات من الممكن أن تولد نوعاً جديداً من الاستبداد، وهو ما وصفه توكفيل في نصه الشهير. سيكون استبدادًا "ناعمًا" (القادة ليسوا "طغاة"، بل "أوصياء") ولكنه أكثر اتساعًا بكثير مما هو عليه في حالة الاستبداد الكلاسيكي، لأنه سيتدخل في جميع مجالات حياة المواطنين، كما نحن لقد رأيت للتو. إن الأمر جديد جدًا بحيث يتعين علينا العثور على كلمات جديدة، أو وصفه بشكل أفضل: أريد أن أتخيل تحت أي سمات جديدة يمكن أن يحدث الاستبداد في العالم: أرى حشدًا لا يحصى من الرجال المتشابهين والمتساويين الذين يدورون دون راحة من أنفسهم للحصول على ملذات صغيرة ومبتذلة يملأون بها أرواحهم. كما يشير توكفيل إلى فرديتهم: فكل واحد منهم، المنعزل، يبدو غريبًا عن مصير الآخرين جميعًا: فأولاده وأصدقاؤه يشكلون بالنسبة له الجنس البشري بأكمله. وتشكل الدولة الرابط الوحيد بينهما: إذ تعلو فوقهم قوة وصاية هائلة مسؤولة وحدها عن ضمان تمتعهم ومراقبة مصيرهم. إنها مطلقة، ومفصلة، ومنتظمة، وتدبيرية، وخفيفة. هذه الدولة لها علاقة مع المواطنين تستحضر ما يفعله الأب مع أبنائه. لكن المقارنة لها حدودها: فهي تشبه السلطة الأبوية إذا كان هدفها، مثلها، هو إعداد الرجال للرجولة؛ ولكنه على العكس من ذلك، فهو لا يسعى إلا إلى إصلاحها بشكل لا رجعة فيه في مرحلة الطفولة: إنه يحب أن يفرح المواطنون، بشرط ألا يفكروا إلا في الفرح. على هذا النحو يؤكد توكفيل مرة أخرى على مدى سلطة الدولة: يعمل عن طيب خاطر من أجل سعادتهم. لكنه يريد أن يكون الوكيل الوحيد والحكم الوحيد، فهو يراقب أمنهم، ويدير صناعتهم، وينظم ميراثهم… ما الذي لا يستطيع أن يزيل عنهم عناء التفكير وآلام العيش بشكل كامل؟

فهو لا يكسر الإرادات، بل يلينها، ويثنيها، ويوجهها؛ إنه لا يستبد، إنه يعيق، يضغط، يزعج، يطفئ، يخدر، ويختزل كل أمة في النهاية إلى كونها مجرد قطيع من الحيوانات الخجولة والكادحة، التي تتولى الحكومة رعايتها. ويمكن تفسير ذلك على أنه إدانة ليبرالية لدولة الرفاهية العزيزة على الاشتراكية. يقاوم توكفيل فكرة الحكم على المجتمع الجديد الناشئ. هذا الرجل الأرستقراطي لا يريد أن يحكم على قيمة الأنظمة الديمقراطية التي يتم وضعها: يجب ألا نحكم على المجتمعات التي ولدت بأفكار استمدناها من تلك التي لم تعد موجودة. وهذا أمر غير عادل، لأن هذه المجتمعات تختلف عن بعضها البعض بشكل هائل ولا يمكن مقارنتها. إنها ببساطة مسألة الإشارة إلى المخاطر التي يمكن أن يشكلها حب المساواة على الديمقراطية؛ وأهمها قمع حرية المواطنين. في الواقع، لا يمكننا ضمان عدم وجود مساواة (أي فكرة رجعية عن العودة إلى الأرستقراطية هي فكرة عقيمة، لأن الانتقال إلى الديمقراطية هو ظاهرة العناية الإلهية، كما رأينا)، ولكن الأمر يعتمد علينا فيما إذا كانت المساواة ستقود أم لا إلى الحرية أو الاستبداد.

خاتمة

النظام القديم والثورة هو الكتاب الأول من عمل أكبر لم يتمكن توكفيل من إكماله قبل وفاته. وهو ما يفسر سبب تركيزه بشكل أساسي على وصف النظام القديم والتطرق فقط إلى الحدث الثوري. تكمن أهمية العمل في أنه يتعارض مع العديد من الأفكار المسبقة حول النظام القديم التي ينشرها "التعليم المسيحي الثوري". وفي حين أنه لا ينكر المظالم المتعددة التي يعاني منها الفلاحون، فإنه يؤكد أيضًا على أن فرنسا ما قبل الثورة كانت واحدة من أكثر البلدان ازدهارًا وأقلها قمعًا في أوروبا. ومن المفارقة أن هذا الازدهار النسبي والمشاعر الطيبة للطبقة الحاكمة هي التي ستشجع على ميلاد الثورة. لدى توكفيل ادعاء بالموضوعية وهو ما يتضح في طريقته في دراسة الأرشيف، كما تمكن من إظهار التباعد في وصفه لرذائل وفضائل الطبقات المختلفة التي تشكل النظام القديم. مع ذلك، ليس من الصعب أن يشعر بالحنين الذي يشعر به إلى المكانة التي احتلتها الطبقة الأرستقراطية في النظام القديم والحرية السياسية التي أساء الحكم المطلق الملكي والديمقراطي استخدامها. يتألق العمل في وصفه للعديد من العناصر التي لا تزال تميز "النموذج الفرنسي" حتى اليوم: المركزية الإدارية المفرطة وضعف الهيئات الوسيطة، والتضخم المالي، وتفضيل المساواة، وصعود النزعة الفردية، وتقسيم أرخبيل فرنسا إلى مجموعات متعددة. والميل إلى الأنظمة السياسية المجردة، والميل إلى إلقاء اللوم على الحكومة في كل الشرور مع السعي المستمر للحصول على مساعدتها...والتفسيرات للأصول المالية للحكم المطلق الملكي وكراهية التفاوت بين الناس، والتي لا تزال حية في فرنسا، مفيدة بشكل خاص. من المؤكد أن بعض الإصلاحات التي تم تنفيذها خلال العقود الأخيرة التي سبقت عام 1789 أدت إلى تسريع العملية، لكن الكتاب يصر على الأصول التاريخية البعيدة جدًا التي أدت، عن غير قصد، إلى التحول الثوري. وفقًا لتوكفيل، تسود الاستمرارية، أكثر بكثير من القطيعة، بين النظام القديم والثورة التي تجدد، بأشكال أخرى، هيمنة الدولة المركزية على المجتمع المدني والفرد. وبالطبع سيتناول فرانسوا فوريه هذه الأطروحة في دراسته للثورة. أخيرًا، من المهم أن نلاحظ أنه من حيث الشكل، فإن العمل مثير للإعجاب من خلال سلاسة الأسلوب، وحس الصيغ والفكاهة التي أظهرها توكفيل. نفكر في القرن العشرين في أطروحة ألتوسير في مونتسكيو السياسة والتاريخ والتي تؤكد أن الفيلسوف التنويري، الذي يدافع عن مصالح طبقته الاجتماعية من خلال التأكيد على تفوق النظام الأرستقراطي، يساهم في تقويض شرعية الملكية المطلقة وبالتالي يشجع عن غير قصد الثورة الديمقراطية.  فهل ساعدت فكرة الديمقراطية المبنية على المساواة التي جلبها توكفيل من امريكا الفكرة الثورية على تخطي النظام القديم وبناء الدولة القانونية العصرية؟.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.......................

المصادر

Alexis de Tocqueville , L'Ancien Régime et la Révolution, GF Flammarion, Paris, 1993

Alexis de Tocqueville , De la démocratie en Amérique, GF Flammarion, Paris, 2010

المراجع

Benoit J.L., Comprendre Tocqueville, Armand Colin, Paris, 2004

Boudon R., Tocqueville aujourd’hui, Odile Jacob, Paris, 2005

Boukerche A., De la fragilité de la démocratie : Une lecture de Tocqueville, Editions Apogée, Paris, 2015

Heimonet J.M, Tocqueville et le devenir de la démocratie : la perversion de l’idéal, l’Harmattan, Paris, 2000

 

يكثر الحديث عن فتاوى تتعلق بملكية المال الذي لا مالك له فما مصدر هذه الفتاوى في الشريعة والقانون؟ وماهو رأي السيد السيستاني دام ظله الشريف  حول الموضوع؟.

ابتداءاً ان أحكام ملكية المال الذي لامالك له موجودة حتى في القوانين الغربية والشرقية جمعاء ومتعارف عليه منذ قديم الزمان وموجود كذلك في كل  القوانين العربية وقبل كل ذلك في الشريعة الإسلامية الغراء  التي اعتبرت المال الذي لا مالك له حلال لمن يجده أولاً ويتملكه ملكية تامة حسب الأصل.

قيد: مالم ينص الشرع او الدستور او القانون على خلاف ذلك.

وكان المقصود من ذلك ابتداءاً الحق في:

*  احياء الأرض الموات:

إحياء الأرض الموات  (اي التي لامالك لها) في الشريعة الإسلامية، هو استصلاح الأراضي الموات البعيدة عن العامر وجعلها صالحة للزراعة، وحكمها لمن أحياها . لحديث النبي ﷺ: «مَن أحيا أرضًا ميتة، فهي له»، وقوله ﷺ: «مَن عمَّر أرضًا ليست لأحد، فهو أحق بها»، وقد اتَّفق الفقهاء على أن الأرض التي لم يملكها أحد، ولم يوجد فيها أثرُ عمارة وانتفاع تُملك بالإحياء.

* قطف الثمار البرية التي تنتجها الطبيعة.

* السمك في الانهار والبحار

* صيد الطيور والحيوانات البرية

* الكمأ في الصحاري

* الشرب والسقي من الانهار والجداول

* آبار المياه في الأراضي غير الملوكة.

* الرمل والحصى

وهذه يتملكها كل إنسان يجدها قانوناً وشرعاً ما لم ينص على خلافه بنص صريح لأن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد نص بتقيد هذا الأصل.

لان ملكية الدولة لهذه الأشياء  من قبيل الملكية السياسية لا من قبيل المال الخاص.

مع ملاحظة أن بعض الدول تمنح إجازات للصيد مثلاً  ولايعني ذلك ملكية المجاز لما يوجد في النهر او البحر من اسماك وانما هي رخصة تنظيمية لمنع المنافسة غير المشروعة في الصيد التجاري، وليس له ان يحتج على الصيادين الهواة ويطالب بمنعهم من الصيد في المنطقة محل إجازته، ولكن له ان يطلب منع الصيد التجاري .

* اما ملكية النفط والمعادن الطبيعية الموجودة في باطن الارض فتختلف حسب دستور كل دولة:

في الغرب فإن من وجد بئراً  نفطياً او معادن في ارضه فهي له ملكية خاصة يستثمرها بأي وجه يراه مناسباً ويدفع الضرائب عن مدخولاتها كأي مواطن عادي.

ومن اكتشف بئراً نفطياً له الحق والأولوية في استغلاله بعقد مع دفع الضرائب.

* اما في الدول الاشتراكية او الدول التي تدعي الاشتراكية فقد نصت في دساتيرها على إن الثروات الطبيعية ملك الشعب كل الشعب بغض النظر عن مكان تواجده. فنفط البصرة حسب الدستور العراقي هو ملك كل عراقي، ومن ثم لايعتبر مالاً لا مالك له.

بالنظر إلى نص الدستور العراقي لسنة 2005 في المادة 111 منه، على انه: (النفط والغاز هو ملك كل الشعب العراقي في كل الاقاليم والمحافظات).

فاذا وجد بئر نفطي او منجم ذهب في ارضك تستولي عليه الدولة وتعطيك ثمن الارض فقط حسب سعر السوق.

* بعض الدول الإسلامية تعتبر الثروات الطبيعية ملك للعائلة المالكة ..

القانون المدني العراقي

نصت المادة 1158 منه على انه:

(1 - من حاز منقولاً او عقاراً غير مسجل في دائرة التسجيل العقاري باعتباره ملكاً او حاز حقاً عينياً على منقول او حقاً عينياً غير مسجل على عقار واستمرت حيازته دون انقطاع خمس عشرة سنة فلا تسمع عليه عند الانكار دعوى الملك او دعوى الحق العيني من احد ليس بذي

عذر شرعي. 2 - واذا وقعت الحيازة على عقار او حق عيني عقاري، وكان غير مسجل في دائرة التسجيل العقاري، واقترنت الحيازة بحسن النية واستندت في الوقت ذاته الى سبب صحيح فان المدة تمنع من سماع الدعوى تكون خمس سنوات، ولا يشترط توافر حسن النية، الا وقت تلقي الحق.

3 - والسبب الصحيح هو سند او حادث يثبت حيازة العقار بإحدى الوسائل التالية:

أ - الاستيلاء على الاراضي الموات.

ب- انتقال الملك بالارث والوصية.

ج - الهبة.

د - البيع او الفراغ).

وجاء في حكم محكمة النقض المصرية

(إن الأراضى غير المزروعة التى ذكرتها المادة 57 من التقنين المدنى القديم المقابلة للمادة 874 من القانون المدنى الحالى هى كل أرض غير مزروعة لا تكون مملوكة لأحد من الأفراد ولا تدخل فى الأموال العامة ولا فى أموال الدولة الخاصة، فهى الأراضى الموات التى لا مالك لها، كالأراضى المتروكة والصحارى والجبال، أى أنها الأراضى التى لا تدخل فى زمام المدن والقرى ولم تكن بمنزلة الأراضى الداخلة فى الزمام والتى تملكها الدولة ملكية خاصة، بل هى أرض مباحة يملكها من يستولى عليها ويعمرها، وقبل أن يستولى عليها أحد كانت مملوكة ملكية ضعيفة للدولة، وهى بهذا الوصف أقرب إلى السيادة منها إلى الملكية الحقيقية).

منشور في بوابة نقابة المحامين القضائية والقانونية - مصر

https://www.laweg.net/Default.aspx?action=DisplayNews&ID=5612

فتوى السيد السيستاني دام ظله الشريف

عن سؤال حول الموضوع

الجواب: ملكية المعادن للإمام (ع) وجواز استخراجها لكل مسلم مع دفع خمس المستخرج منها إنما هو حكم شرعي أوّلي ـ كجملة أخرى من الأحكام ومنها كون الأراضي الموات من الأنفال وجواز إحيائها لكل مسلم ـ ومعنى ذلك: أنه إنما يجوز العمل به وتطبيقه ما لم يصدر المنع الشرعي في مورده، وقد صدر المنع من سماحة السيد (دام ظله) من خلال الفتوى الواضحة التي جرى التأكيد عليها مراراً واشتهرت عن سماحته منذ بدء تصديه للمرجعية من (عدم الترخيص في مخالفة القوانين النافذة في البلد) فإن من المعلوم أن الدستور العراقي ينص على أن (النفط والغاز ملك لجميع الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات) وأن الحكومة العراقية هي التي تقوم بإدارة استخراجهما وتوزيع وارداتهما على العراقيين بشكل منصف.

وبذلك يتضح أولاً: إن النفط والغاز وغيرهما من الثروات الطبيعية الموجودة في العراق تختص بالعراقيين وليس لغيرهم التصرف في شيء منها.

وثانياً: أنه ليس لأي شخص التصرف في وارد النفط والغاز وغيرهما من أموال الدولة العراقية كالأراضي ونحوها على خلاف القوانين النافذة، ومن خالف فإنما يأكل حراماً ولا تحل له بدفع الخمس بل هو له ضامن.

***

فارس حامد عبد الكريم

ترجمة: د. زهير الخويلدي

مقدمة: "سيكون القرن الحادي والعشرين روحانيًا أو لن يكون كذلك." يبدو أن الصيغة الشهيرة المنسوبة زورا إلى أندريه مالرو صحيحة: الأديان ليست مدفونة ومنسية في عالم يهيمن عليه التقدم، بل إنها تتكيف بل وتتكاثر. ولكن لماذا لا يكتفي الله برفض الموت، ويفعل هذا جيدًا؟ "لقد مات الله (توقيع: نيتشه)." إلى صيغة الفيلسوف الشهيرة، التي تكررت مرات عديدة على مدى قرن من الزمان، سعد شخص ماكر مجهول بإضافة هذا التصحيح: "لقد مات نيتشه (توقيع: الله)." ومنها الفعل: إن إعلان موت الله كان سابقًا لأوانه إلى حد كبير. لقد كان من المعتقد، لمدة قرن من الزمان، أن التاريخ يدين الدين. لقد اتفق علماء الاجتماع والمؤرخون والفلاسفة، من ماكس فيبر إلى مارسيل غوشيه ، على تشخيص "تحرر العالم من الوهم"، على الكسوف الذي لا رجعة فيه للحضور الإلهي في العالم المعاصر. منذ القرن التاسع عشر، كان يُعتقد أن العلم سيحل محل الخرافات بشكل لا يمكن علاجه، وأن التكنولوجيا ستحل محل السحر، وأن الطب سوف يطيح بالصلاة، وأن السياسة سوف تكون لها الأسبقية على المسيحية، وما إلى ذلك. يبدو أن كل شيء يدين الدين. وتميل الحقائق إلى تأكيد التشخيص: ففي معظم البلدان الغربية، كنا نشهد تراجعاً مستمراً في المشاركة الدينية وعلمنة الدول التدريجية. باختصار: الدين لا يستطيع مقاومة الحداثة. بل إن نظرية "العلمنة" شارك فيها معظم المتخصصين، وهو أمر نادر في العلوم الإنسانية. ومع ذلك، لمدة ثلاثين عامًا على الأقل، كان على علماء الاجتماع مواجهة الحقائق: لقد كانوا مخطئين. ويتجلى ذلك في الانبعاث العالمي لجميع أشكال التدين: صحوة الإسلام وصعود الإنجيلية البروتستانتية في جميع أنحاء العالم ، وإحياء المسيحية وانتشار الديانات الجديدة في أوروبا من الشرق. ، انبعاث الأديان في الصين ، وتكاثر الكنائس في أفريقيا، وظهور الشامانية الجديدة بين الأمريكيين الأصليين... في كل مكان، في آسيا، في أفريقيا، في أمريكا اللاتينية أو في الشمال، بقدر ما وتكثر في أوروبا الطوائف والحركات الدينية الجديدة. بينما تكافح الكنيسة الكاثوليكية للعثور على الدعوات الكهنوتية، على الأقل في أوروبا القديمة، يظهر المعلمون والوعاظ والقساوسة في كل مكان... رجال الأعمال في مجال الخلاص يحققون ثروات في جميع خطوط العرض.

لماذا عاد الله؟

يعترف بيتر ل. بيرغر بهذا بصراحة: "إن فكرة أننا نعيش في عالم علماني هي فكرة خاطئة. إن العالم اليوم متدين بشدة كما كان دائمًا." بالنسبة لهذه الشخصية العظيمة في علم اجتماع الأديان، فإن نظرية العلمنة - التي ساهم فيها إلى حد كبير من خلال أبحاثه السابقة - "خاطئة في الأساس". ولذلك بقي معالجة المشكلة من الأعلى إلى الأسفل. لقد شكلت صحوة الدين تحديا للفكر بشكل عام، ولعلم الاجتماع بشكل خاص. في كتابه "خلع السحر عن العالم"(1)، جمع بيرغر مجموعة من المتخصصين لدراسة التجديد الديني: من التأثير السياسي للإنجيلية البروتستانتية إلى ديناميكيات الإسلام، ومن الأهمية المتزايدة للدبلوماسية البابوية إلى يوحنا بولس الثاني (انتخب عام 1978) لانتشار الأديان في الصين. وفي الخلفية هذا السؤال: لماذا عاد الله؟

هذا العمل الجماعي هو مجرد واحد من العديد من الأعمال التي تراكمت على مدى السنوات القليلة الماضية حول مكانة الدين في الولايات المتحدة، وحول انتشار الإسلام الراديكالي، وحول التقدم العالمي للطوائف. كل هذه الأدبيات، بمجرد وضعها في منظورها الصحيح، تقترح بعض الإجابات المحتملة على سؤال "عودة الله". إذا كانت الأديان تولد من جديد وتتجدد باستمرار، وإذا بدت وكأنها تمتزج بشكل جيد مع الحداثة، فذلك لأنها تستجيب للتوقعات الفردية والاحتياجات الجماعية التي لم يعرفها أي مجتمع حتى الآن. وهذه التطلعات ذات عدة مستويات: أيديولوجية سياسية، وأخلاقية، واجتماعية، وهوية، ومجتمعية، ووجودية، ومادية، وحتى علاجية. لاحظ بشكل عابر أن هذه التوقعات غالبًا ما تكون متشابكة مثل قطع اللغز، مما يجعل أي تصنيف خطيرًا.

إعادة تقديس العالم

كان كتاب جيل كيبل "انتقام الله" (2) الصادر في يناير 1991، من أوائل من طرحوا السؤال عن أسباب عودة الدين (3). ركز هذا العمل على عودة ظهور ثلاثة أنواع من الأصولية: انتشار الإسلام المتطرف في البلدان الإسلامية؛ كان النشاط البروتستانتي يعود من جديد، لا سيما مع الإنجيلية الأمريكية المحافظة. وكانت حركة التشوفا (العودة إلى اليهودية والالتزام الكامل بقانون الكتاب المقدس) واضحة في المجتمعات اليهودية حول العالم. لقد جاء إحياء الإسلام بعد الفشل الواضح للبدائل الماركسية والقومية، وبعد أن قدمت الأصولية الإسلامية نفسها باعتبارها ديناً سياسياً. لقد استبدلت الأيديولوجيات القومية العربية أو الماركسية كشكل من أشكال التعبئة السياسية. كان لها أنبياؤها، وعقائدها، ووعدها الألفي بالتأسيس الوشيك لمجتمع من المؤمنين يتجاوز الحدود التي فرضتها الإمبريالية الغربية "الشيطانية". في الوقت نفسه، أعادت الإنجيلية الأمريكية تنشيط "الدين المدني" - وهو المفهوم الذي جعل الأمة الأمريكية الوعاء، والتجسيد التوافقي للأديان الكبرى التي تمارس في الولايات المتحدة - تحت شكل "علاج" اجتماعي. "يهدف إلى علاج المجتمع والأفراد من متاعب الحداثة: الشذوذ، والفردية، والمادية...وأظهرت دراسات أخرى، ركزت على أفريقيا أو آسيا، في الوقت نفسه أن ظهور النبوة في أفريقيا أو آسيا كان أيضًا جزءًا من "سياسة الأرواح" الجديدة. هكذا بدأ الأنبياء الذين أطلق عليهم اسم "المسحاء السود" في أفريقيا، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، حركات التعبئة ضد الاستعمار والمبشرين الكاثوليك. وأعربت معظم هذه الحركات، إلى جانب رفض الإمبريالية السياسية والثقافية، عن طموح أعمق. وانتقدوا المجتمع بسبب تشظيه، وغياب المشروع الشامل الذي يجب الالتزام به. لقد كانت تشير إلى نوع من الثورة الأخلاقية ضد الفردية والمادية. وأعربوا عن الحاجة إلى شكل آخر من أشكال الحياة، حيث يلعب التضامن المجتمعي دوراً كاملاً. نجد هنا أيضًا موضوعًا لجميع الأديان واليوتوبيا الناشئة، بدءًا من المسيحية المبكرة وحتى الاشتراكية في القرن التاسع عشر، بما في ذلك الإصلاح البروتستانتي. يعارض السكان عالمًا لا يمكنهم الوصول إليه. ثم يأتي وقت الأنبياء والمسيح الذين يعلنون عن عالم جديد. تم العثور على هذا المسعى في كل من النبوة الأفريقية وفي الإنجيلية في أمريكا الشمالية. من خلال وعظهم، يُظهر الدعاة طريق الخلاص، الشخصي أو الجماعي، الأرضي أو السماوي، للسكان المهمشين. الشخصيات الكاريزمية، تمكنوا في البداية من إغواء عدد قليل من الأصدقاء المقربين، والعديد من الرسل المقهورين. ثم، بالاعتماد على السخط الاجتماعي الموجود مسبقًا، يقومون بإخضاع حشود من المنبوذين الذين يشعرون بالرفض والإذلال. أسست الإنجيلية الأمريكية نفسها لأول مرة في حزام الكتاب المقدس الأمريكي، جنوب أولئك الذين تركوا وراءهم. كما أنه يعبر عن رد فعل أخلاقي ضد النزعة الاستهلاكية والفساد السياسي: "المحافظون على الوعد" في الولايات المتحدة يعتزمون إعادة قدسية العالم من خلال تجديد التحالف الكتابي، ويريدون أن يكونوا حاملين وأدوات لوعد الله الذي سيقيمهم. مثل الشعب المختار وعلى نحو مماثل، يدعو المرتدون المسلمون المنتمون إلى الحركة السياسية الأميركية "أمة الإسلام" إلى التجديد الأخلاقي بين السود المستبعدين من المجتمع، في الأحياء الفقيرة والسجون. تقدم الأديان تضامنًا جديدًا، عندما دمرت الحداثة هياكل المساعدة المتبادلة، الحقيقية أو الخيالية، لمجتمعات الأمس. هل الدين بديل عن السياسة؟ ولا ينبغي أن يُفهم هذا التأكيد بالمعنى الضيق للغاية. ومن المؤكد أنه بين الإسلاميين المتطرفين، واليهود الأرثوذكس، أو المسيحين الأفارقة الجدد، فإن الرسالة الدينية تشبه إلى حد كبير الأيديولوجية السياسية. لكن دعم الناس لخطاب الخلاص لا يمكن تفسيره فقط بالوعود بعالم أفضل، سواء على الأرض أو في السماء. وإذا قامت الأديان وانتشرت وانتشرت بهذه السهولة، فذلك أيضًا لأنها تعود على أتباعها بفوائد حقيقية - اجتماعية ورمزية ونفسية وأحيانًا مادية.

تجربة وجودية للتجديد

وفقًا لعالم الاجتماع ديفيد مارتن (4)، فإن إحدى القوى الدافعة وراء الدفع الإنجيلي (وخاصة العنصرة) تكمن في قدرتها على إعطاء صوت "لأولئك الذين لا قيمة لهم في العالم" والذين يجدون أنفسهم فجأة "معتبرين". كأشخاص قادرين على اتخاذ المبادرات ولعب الدور”. وتشكل هذه المجموعات نفسها في ثقافات فرعية، وتجمع عدة مئات الملايين من المؤمنين حول العالم، من جميع الطوائف مجتمعة (من كوريا الجنوبية إلى الولايات المتحدة، بما في ذلك البرازيل وجنوب أفريقيا). أحد مفاتيح نجاحهم هو معارضة ثقافة الأولوية الممنوحة للرجال على النساء. في هذه المجتمعات الفرعية التي تم إنشاؤها من الصفر في مجموعات ثقافية ذكورية إلى حد ما، تعتبر المرأة مساوية للرجل. كما أنها تلعب دورًا قياديًا في توسيع وتعزيز هذه الحركات. في أرض الله، وهي قصة رحلة في قلب حزام الكتاب المقدس الأمريكي، يُظهر الكاتب دوجلاس كينيدي (5) بوضوح كيف يتردد صدى الكرازة لدى الأفراد والسكان الذين يعانون من الضيق، والذين تتميز رحلتهم بالكحول والأزمات العائلية والمخدرات والشعور بالوحدة. . بالنسبة لهؤلاء، يجلب خطاب الوعاظ أكثر من مجرد عزاء: إن اهتداء "المولودين من جديد" - أولئك الذين يختبرون ولادة جديدة أخلاقية واجتماعية من خلال "اللقاء مع يسوع" - يتوافق جيدًا مع تجربة تجديد وجودية. يتم الاعتراف بالفرد من قبل المجتمع، وتوفر له العناية الإلهية طريقًا فرديًا للخلاص من خلال نوع من التجديد الأخلاقي. ومن وجهة النظر هذه، فإن الدين يتعلق بالتنمية الشخصية. إن الإنجيليين المولودين من جديد، الذين صورهم د. كينيدي، لا يطلبون الحياة الأبدية. إنهم يسعون إلى استعادة المعنى لوجودهم، ويريدون المساعدة في محاربة هذا الشيطان الداخلي أو ذاك: الكحول أو النشاط الجنسي خارج نطاق الزواج. إن التشجيع على تغيير وجودك، والسيطرة على حياتك، ليس مجرد مسألة التماس لفظي. تقدم المجتمعات مساعدة ملموسة من خلال مجموعات دعم صغيرة، من خلال اللجوء إلى أعمال الشفاء "المعجزة"... ويمكن أن يأخذ الدعم الاجتماعي أيضًا شكل المساعدات المادية المباشرة: مثل المنظمات غير الحكومية الخيرية الإنجيلية والإسلامية. والأكثر أهمية، إلى جانب الرؤية العالمية البروتستانتية، هي مؤسسة الإغاثة الإسلامية العالمية (المملكة العربية السعودية) ومؤسسة المحرومين (إيران). وهذه التنظيمات الثلاث(6)، تمتلك ميزانيات تقارب المليار دولار، متجاوزة نظيراتها العلمانية من حيث الحجم المالي.

إعادة بناء الأخويات الصغيرة

على المستوى الفردي، نلاحظ كيف ينتشر الدين من خلال الاتصالات الشخصية، من خلال إنشاء مجتمعات صغيرة توفر للفرد مكانًا للاستماع والدعم المعنوي والدعم الاجتماعي. يظهر التضامن الفعال والدفء الإنساني بشكل خاص بين عمال الثعابين - وهم مجتمع خمسيني يترجمون حرفيًا مقطعًا من الإنجيل بحسب مرقس، ويتعاملون مع الثعابين السامة بأيديهم العارية - كما وصفهم دينيس كوفينجتون (7). تشير جميع أوصاف هذا النوع من الظاهرة إلى نفس المواضيع: هذا التدين، الذي يتم اختباره عاطفيًا، يقدم صورة ذاتية إيجابية جديدة، ونموذجًا للسلوك نظريته دانييل هيرفيو ليجر وفرانسواز تشامبيون (8). هكذا يصف عالم الاجتماع سيباستيان فتح (9 سنوات) خطبة حضرها في أتلانتا، الولايات المتحدة. في حظيرة مهجورة، موسومة ومتدهورة، يتولى قساوسة كنيسة الدم والنار الخمسينية مهامهم. ويحضر هذه الخدمة البروتستانتية أكثر من 200 قطيع من أصول عرقية متنوعة. "إن الوعظ، المملوء بمراجع كتابية، يتمحور حول الشهادة الشخصية للواعظ.  قادمًا من بطن أتلانتا، عانى، كما يوضح، من إدمان الكحول، والجنس الجامح، والسرقة. حتى كلمه الله. ومن خلال الاستماع "بالصدفة" إلى جوقة الشارع، بدأ طريقه الروحي. ثم دعاه بعض المسيحيين. لقد نقرت ... وهنا يعلن أن يسوع المسيح قد حول حياته من خلال تشكيل "مولود من جديد" من سفاح من أتلانتا والذي يسير الآن "مباشرة مع الرب". » يقدم كل دين مجتمعًا خياليًا جديدًا كبيرًا إلى حد ما: اجتماع الإخوة والأخوات، الكنيسة، دعم الهوية الجماعية. تتميز الاحتفالات الكبرى، مثل رحلات الحج والتجمعات الدولية، بمجتمعات يمكن أن تشعر بأنها على قيد الحياة. لقد تم العثور على إعادة تشكيل المجتمعات الجديدة في النبوءة الأفريقية، على سبيل المثال بين الفانغ: "أنبياء قرى فانغ أو أحياء فانغ في ليبرفيل هم رؤساء العائلات الذين قرروا أن يصبحوا يومًا ما رواد أعمال في سلع الخلاص بالاعتماد أولاً على موارد الأقارب، يشرح أندريه ماري (10). كان هذا الهيكل الاجتماعي الرمزي يهدف في المقام الأول إلى تشجيع إعادة تأصيل عشيرة رجل الفانغ وتعزيز تجمع العشائر وإعادة الاستيلاء على تقاليد النسب وتعلم سلاسل الأنساب، على طريقة حركة آلار أيونج السياسية. » تحاول هذه الحركات إعادة تشكيل مجتمعات جديدة، حيث كانت المجتمعات القديمة غير منظمة، حول معتقدات جديدة مجمعة. كان هذا هو الحال مع الدعاة الأمريكيين من بين المستوطنين الأوائل. إنه يوفر مكانًا لخلايا صغيرة للاجتماعات بين الأفراد، والجماهير والاحتفالات الجماعية الأخرى، ورسالة أمل (مقابل التزام شخصي)، وهوية مجزية، وقراءة جديدة للعالم، وفي بعض الأحيان، إعادة تشكيل شخصية حقيقية. مُعَالَجَة. لذا فإن القراءة المستعرضة (والأنثروبولوجية) للحركات الدينية المعاصرة تدعونا إلى إعادة النظر في الانقسامات المعتادة: اليهود، والمسلمون، والمسيحيون، والبوذيون، والأرواحيون، وما إلى ذلك، لصالح تصنيف يعتمد على أنماط الانتماء. هناك شيء واحد واضح: الديانات الشعبية وطوائف القديسين والآلهة المحليين متشابهة جدًا. من معابد الشنتو في اليابان إلى المعابد البالية، ومن المصليات المسيحية إلى مقابر الأجداد الأفارقة، يتم تنظيم حياة المجتمعات حول احتفالات جماعية وطلبات إلى القوى العليا (الأرواح والقديسين وما إلى ذلك) وطقوس استرضائية، وخاصة الشفاء. ومن خلال الاعتماد على هذه التوقعات العالمية، يمكن للكرازة الإنجيلية (التي يعتبرها الكثيرون "ديناً سريعاً"، والتي قد تمثل في الديانة التقليدية ما تمثله الوجبات السريعة في فن الطهي الراسخ) أن تترسخ بنجاح في مجتمعات مختلفة مثل مجتمعات الجنوب كوريا أو أفريقيا السوداء أو الدول الشرقية أو الولايات المتحدة... في عالم يتسم منذ الثمانينات بزيادة التحرير والانسحاب الهائل لدولة الرفاهية، ترك مليارات الأشخاص وراءهم، وكان بعضهم يتمتع سابقًا بإمكانية الوصول إلى الخدمات الصحية المجانية ( في الاتحاد السوفييتي السابق، والصين، وما إلى ذلك) والذين لا يستطيعون الوصول إلى الرعاية اليوم، يستمعون باهتمام شديد إلى تجار الخلاص الذين يعدونهم بالشفاء الجسدي والروحي.

التعايش بين الحداثة والدين

إذا كان للدين مثل هذه القدرة الهائلة على البقاء والتكيف في المجتمع الحديث، فذلك لأنه لا يمكن اعتباره عقيدة قديمة. ولا يمكننا اختزاله في مجرد "الحاجة إلى الإيمان" أو في استجابة وهمية للقلق من الموت، كما يؤكد ميشيل أونفراي في مقالته عن اللاهوت(11). تظهر لنا الدراسات أن الأديان تخدم مواجهة الحياة أكثر من تحمل الموت. عندما يستمر القرويون في جنوب الهند في اللجوء إلى الشامان أو الكهنة لطلب الخصوبة أو استعادة الصحة، يتوافد الشباب الكاثوليك من جميع البلدان على يوم الشباب العالمي ليشعروا بشكل أفضل "بالحياة معًا". في جميع أنحاء العالم، من النطاق الأكثر محلية إلى البعد الأكثر عالمية، يستمر الدين، في أشكال شديدة التنوع، في التغلغل في الحياة اليومية لأغلبية معاصرينا. في مواجهة هذا الفوران الديني، يتعهد علماء الاجتماع الديني بمراجعة شبكاتهم التحليلية. بالنسبة لهم، فإن التعارض الجذري بين الحداثة والدين عفا عليه الزمن. لا ينبغي لحيوية التدين أن تجعلنا ننسى أن الإنسانية منقسمة بين أقليتين صغيرتين متعارضتين (الملحدين والممارسين العاديين) وأغلبية كبيرة من الناس، ليسوا غير مؤمنين ولا ملتزمين بشدة بدين معين. وتتأرجح هذه الأغلبية بين الإيمان واللاأدرية، بما يتفق مع شكوكية مونتين - الإيمان، ولكن دون يقين. "إن الحداثة والدين في تعايش حقيقي"، يشرح فريديريك لينوار (12 سنة)، "إنهما يشملان بعضهما البعض أكثر مما يستبعد أحدهما الآخر." لم يختفي الدين قط في الحداثة، فهو يتحول من خلال الاتصال بالحداثة، كما ساعد في تشكيلها." العديد من علماء الاجتماع، مثل ف. لينوار، ود. هيرفيو ليجر، وإيف لامبرت، وجان بول ويليام، وما إلى ذلك، تعهدوا بتمييز الحداثة الدينية: مفاهيم مثل عولمة الدين (النتيجة الطبيعية للعولمة الاقتصادية) تجعل من الممكن من أجل حساب أفضل لهذه العمليات التي تسمح للأفراد بالتلاعب بإيمانهم وفقًا لعرض روحي عالمي الآن. التجديد الديني يفرض حكم المعتقدات الزائلة. التجربة الشخصية لها الأسبقية على العضوية القسرية في الكنائس المؤسسية. العاطفة تسود على العقل. من المرجح أن يشهد القرن الحادي والعشرين انتشارًا للمعتقدات على مستوى الكوكب. بالنسبة لأغلبية الناس، فإن الحقائق المطلقة التي تطالب بها الكنائس قد تم محوها بالفعل لصالح نسبية الإيمان. يقوم الإنسان المعاصر بتأليف قائمته: نكهة البوذية، ولمحة من الباطنية، وإشارة إلى يسوع لربط الصلصة... ويقال إن هذا الطبق الديني، "الانتقائي"، لديه ميل "ناعم". لقد تم تصوره مسبقًا بشكل خاص من خلال العصر الجديد. يتحقق الفرد من صحة معتقداته من خلال الانضمام إلى الشبكات التي تشاركها. مثل هذا النظام لا يمكن أن يرتكز إلا على مسلمة نسبية المعتقدات (الجميع متساوون، وليس لأي منهم سلطة مطلقة)، مما يسمح بالتنقل وفقًا للتجارب الشخصية. وفي المعارضة، يبرز النظام "الصارم". بالنسبة للشخص الذي ينوي تعميق سعيه نحو السمو، تنفتح مجتمعات أكثر تنظيمًا، يسيطر عليها قادة كاريزميون، يفرضون حقائق جاهزة على المجتمعات المُستغلة. وكما يوضح هـ. كوكس (13)، أصبح الأمر الآن مسألة “أخيرًا وضع حد للنقاش الممل والعقيم حول أطروحة ما يسمى بـ”العلمنة” والانتقال إلى مصطلحات أكثر إثمارًا لفهم الدين في العالم المعاصر”. الفئة الأكثر فائدة لهذا الفهم ليست "العودة" ولا "إعادة القداسة"، بل "التحول". الأديان، على الأقل تلك التي بقيت على قيد الحياة، هي كائنات حية ذات قدرة مذهلة على التكيف تكاد تكون "داروينية". ومن أجل البقاء، يجب عليهم تزويد أتباعهم بالقدرات التي تسمح لهم بمواجهة عالم متغير، ولكن دون إبعادهم عن العوالم الرمزية التي هي مصادر معانيهم وقيمهم. يجب أن تغنى الأغاني الجديدة على الألحان القديمة."

نظريات العلمنة

- يرى أوغست كونت أن مسيرة البشرية إلى الأمام يجب أن تنتقل من "العصر اللاهوتي" للمجتمعات القديمة إلى "العصر الإيجابي" في العصر الحديث. كان على العقل أن يحل محل المعتقدات، وحلت قوة العلماء محل قوة رجال الدين. ومن هنا جاء مصطلح "العلمنة" ويعني بالمعنى الأول نقل السلطة من الديني إلى "العلماني".

- سيتحدث ماكس فيبر عن "تحرر العالم" ليصف التوجه نحو ترشيد الفكر والممارسات الاجتماعية. كان الهدف من هذه العملية هو وضع حد لحكم الآلهة، الذين "يفتنون" عقول الرجال التقليديين.

- بحلول سبعينيات القرن العشرين، كان معظم علماء الاجتماع الديني قد تبنى بشكل أو بآخر أطروحة العلمنة، من بريان ر. ويلسون (الدين في المجتمع العلماني، 1966) إلى روبرت إن. بيلا (ما وراء الإيمان: مقالات عن الدين في عالم ما بعد التقليدي) ، 1970)، حتى بيتر ل. بيرغر (الدين في الوعي الحديث، 1971).

- مارسيل غوشيه (خيبة أمل العالم، 1985)، يقدم المسيحية على أنها "دين الخروج عن الأديان" الذي كان من شأنه أن يضع أسس مجتمع علماني من خلال تعزيز قيم المجتمع الحديث.

- مع ملاحظة النهضة الدينية، جاء معظم المتخصصين إلى صقل المفهوم. وهكذا يؤكد ستيف بروس (الدين في العالم الحديث: من الكاتدرائيات إلى الطوائف، 1996) أن العلمنة تتعلق بتراجع التأثير المؤسسي للكنائس، ولكن ليس بالضرورة المعتقدات الشخصية، حيث يصبح الدين خيارًا خاصًا أكثر فأكثر.

- بالنسبة لخوسيه كازانوفا (الأديان العامة في العالم الحديث، 1994)، فإن مفهوم العلمنة يخفي ثلاثة اتجاهات مفككة في بعض الأحيان: 1) الفصل بين المجالين الديني والعلماني؛ 2) تراجع الممارسات والمعتقدات الدينية؛ 3) حصر الدين في المجال الخاص.

من العصر الجديد إلى العصر التالي

يقدم العصر الجديد نفسه على أنه شبكة شبه دينية. فهو يدمج العديد من المساهمات، بدءًا من الثقافة الأمريكية المضادة في الستينيات وحتى أطروحات الجمعية الثيوصوفية (دائرة السحر والتنجيم التي أسستها هيلينا ب. بلافاتسكي في عام 1875)، ومن الباطنية الغربية (وخاصة المسيحية) إلى التقليدية (الشامانية، والتانترا...) أعيد تأليفها ونشرها من قبل الكتاب الناجحين. منذ ولادتها في عام 1962 (تاريخ تأسيس المراكز الأولى، في فيندهورن، اسكتلندا، وفي إيسالين، كاليفورنيا)، جلبت مجتمعات تفاعلية تتقاسم عددًا معينًا من المسلمات: العودة الضرورية إلى الطبيعة؛ الحاجة إلى روحانية العالم؛ المشاركة في المجتمعات المحلية؛ التحرر الجسدي والروحي من تأثير العقائد التي تدافع عنها الأديان القائمة؛ والأمل في عالم أفضل وشيك، والذي يجب أن يتحقق من خلال الوعي العالمي بالضرر الذي تلحقه الحداثة الصناعية بكوكبنا...لقد حل العصر التالي، وهو شبكة أكثر فردية وأقل طوباوية، محل العصر الجديد تدريجيا منذ عام 1992 (اللحظة التي تعطي فيها أعمال مؤلفي العصر الجديد الأولوية لفكرة التطوير الذاتي على المشاركة المجتمعية). هذه هي الأطروحة التي دافع عنها بشكل خاص عالم اجتماع الأديان ماسيمو إنتروفيني. مع ملاحظة أن العالم الأفضل لم يصل بعد، يتخلى العصر التالي عن المثل الأعلى للوعي المجتمعي لصالح التحول الذاتي من خلال التنمية الشخصية. من خلال العصر التالي، يمكن للإنسان أن يحقق حالة شخصية من الرخاء والصحة والرضا... وربما يتجه المجتمع نحو الكارثة، ويعتبر العصر التالي أنه يدخل عصره الخاص على أي حال.

ما هو الدين الجديد؟

لقد مر ما يقرب من 2000 عام مضت عندما بدأ يهودي اسمه يسوع بالتبشير. واليوم لا يمكن لأحد أن يقول إن الكنائس التي تدعي أنها تتبع تعاليمه هي فروع لليهودية. على مر الزمن، أثرت الإصلاحات أو التوفيق على المجال الديني. ولكن ما هي معايير تحديد ما هو الدين الجديد؟

- هل كنيسة التوحيد (التي يتراوح عدد أتباعها من 150 ألف إلى 200 ألف حول العالم) التابعة لـ”القس مون” ديانة جديدة أم فرع من المسيحية؟ إن ادعاء زعيمها بتقديم نفسه وزوجته على أنهما "مسيحان"، ناهيك عن عناده في تقديم "حق جديد" له الأسبقية على النص الكتابي، يمنع أي اعتراف من قبل الكنائس المسيحية.

- يبدو أن طائفة المورمون (11 مليون نسمة) تبدو مشابهة لهذه الحالة. كانوا يعتبرون في البداية مسيحيين منشقين. ومع ذلك، بالنسبة لأغلبية المؤلفين، كانوا جزءًا من الطوائف البروتستانتية منذ عام 1890 (تاريخ إلغاء تعدد الزوجات).

- ولدت الديانة الكاوية (7 ملايين فيتنامي مؤمن) في فيتنام عام 1926. وعلى خلفية التقاليد الدينية الصينية، تهدف إلى تجميع كل الأساطير والفلسفات في العالم. هذه الحركة الألفية التي ولدت كرد فعل على الاحتلال الفرنسي تقدم نفسها بشكل لا لبس فيه على أنها دين جديد.

لذلك يمكننا التمييز بين ثلاث حالات: 1) الحركة الانشقاقية التي يتم تضمينها دائمًا في تقليد ديني معين (المورمون)؛ 2) الحركة الانشقاقية المستبعدة، التي تشكل نفسها ككيان ديني مستقل (كنيسة التوحيد)؛ 3) الحركة التوفيقية التي تخلق تقليدًا دينيًا محددًا (الكاودية).

كلها حركات دينية جديدة، ولكن فقط أولئك الذين ينتمون إلى الفئتين الثانية والثالثة يشكلون ديانات جديدة حقًا. على الرغم من أنه في فرنسا، يمكن بسهولة دفع الفئة الثانية إلى الطوائف. سؤال المنهجية...

بالنسبة لريندر كرانينبورغ، يتم تعريف الدين الجديد من خلال 4 معايير: المحتوى العقائدي الجديد؛ انحراف ملحوظ عن العقيدة الأصلية؛ انقطاع يعتبره الدين الجديد والدين الذي ولده نهائيا؛ برنامج يحكم جميع جوانب الحياة." بقلم جان فرانسوا دورتييه ولوران تيستوت

***

.........................

الاحالات والهوامش

(1) ب.ل. بيرغر (اشراف)، إعادة سحر العالم، بايارد، 2001.

(2) ج. كيبيل، انتقام الله. المسيحيون واليهود والمسلمون في إعادة فتح العالم، سيويل، 1991.

(3) الأول هو ما كتبه عالم الاجتماع الأمريكي هارفي كوكس، المدينة العلمانية، 1968، والذي شخّص أنه إذا كان إلغاء قدسية المجتمعات الحديثة قد أدى إلى تراجع الأديان القائمة، فإن المقدس يستمر في إعادة خلق نفسه، على سبيل المثال من خلال الدين. انتشار الكنائس الخمسينية.

(4) د. مارتن، "الدفع الإنجيلي وآثاره السياسية"، في ب.ل. بيرغر (دير)، إعادة سحر العالم، مرجع سابق. سيتي.

(5) د. كينيدي، في بلد الله، بلفوند، 2004.

(6) أ.-ر. غندور، الجهاد الإنساني. مسوحات حول المنظمات غير الحكومية الإسلامية، فلاماريون، 2002.

(7) د. كوفينجتون، كنيسة الثعابين. الغموض والفداء في جنوب الولايات المتحدة، ألبين ميشيل، 2003.

(8) د. هيرفيو-ليجر وإف. شامبيون (دير)، عن العاطفة في الدين، سنتوريون، 1990.

(9) س. فتح، نشطاء الكتاب المقدس في الولايات المتحدة. الإنجيليون الجنوبيون والأصوليون، بخلاف ذلك، 2004.

(10) أ. ماري، الكتاب الأفريقي للأبطال المسيحيين، سيرف، 2000.

(11) م. أونفراي، رسالة في اللالاهوت ، جراسيت وفاسكويل ، 2005.

(12) ف. لينوار، تحولات الله. الروحانية الغربية الجديدة، بلون، 2003.

(13) هـ. كوكس، "مقدمة"، في أ. كورتن، ج.-ب دوزون وأ.ب. أورو (محرران)، الفاتحون الجدد للإيمان. الكنيسة العالمية لملكوت الله (البرازيل)، كارتالا، 2003.

المصدر

مجلة العلوم الإنسانية عدد 160 – مايو 2005

في المفهوم: تناولنا في دراستنا السابقة من مناهج النقد الأدبي، (الأسلوب). حيث تطرقنا إلى طبيعة وأهميّة المفهوم، وتاريخه، والعديد من الآراء التي تناولته قديماً وحديثاً لدى نقاد الغرب والنقاد العرب. كما بينا أهميّة الأسلوب ليس في نقد الدراسات الأدبيّة فحسب، بل وفي الدراسات الفكريّة والفلسفيّة عامة، على اعتباره يمثل الكاتب أو الأديب بما يحمل من مخزون ثقافي أو أدبي أو فني، ومدى قدرته على توظيف هذا المخزون في نصوص  ترسل للمتلقي لتترك أثرها عند هذا المتلقي، عقلياً وجمالياً ونفسياً وأخلاقياً وغير ذلك من مجالات التأثير.

أما في دراستنا الثانية هذه، فسنتطرق إلى (الأسلوبيّة) لأهميتها في الدراسات النقديّة الأدبيّة بشكل خاص، والفلسفيّة والفكريّة بشكل عام أيضاً.

نقول: إذا كان الأسلوب - كما تبين معنا عند دراستنا له – أنه طريقة في  التعبير أو الإنشاء أو الكتابة، مثلما هو طريقة اختيار الألفاظ والجمل والعبارات والصور والتخيل والانزياحات اللغويّة وجماليات البلاغة من تشبيه واستعارة وجناس وطباق وغيرها، وتأليفها والتعبير بها عن الأفكار والمعاني قصدًا للإيضاح والتأثير بالمتلقي. أو هو بتعبير آخر العنصر اللفظي في النص، يقابله العناصر المعنويّة كالأفكار والخيال والعاطفة. فإن "الأسلوبيّة " مصطلح لغوي، ظهر مع البدايات الأولى من القرن التاسع عشر ميلادي، بعدما زُحْزِحَ المنهج التاريخي عن مكانه، حيث عدّت الأسلوبيّة منهجاً وصفيّاً يعتمد على التراكم المعرفي الكمي والمعاينة المباشرة، وذلك بتسجيل الملاحظات عن الأشياء والوقائع، وإدراك ما بينها من علاقات متبادلة، وتصنيف خصائصها وترتيبها. ويعود الفضل في ظهوره إلى العالم السويسري "فيرديناند دي سوسير – (عالم لغوي سويسري)، "ومن بعده "شارل بالي – (عالم لغوي سويسري)، "و"ريفاتير" – (ناقد أدبي فرنسي) -، وغيرهم من النقاد الغربيين. وقد عرّفها "جاكبسون" – (ناقد أدبي روسي) -: بأنّها (البحث عمّا يتميّز به الكلام الفني عن بقيّة مستويات الخطاب أولًا، وعن سائر أصناف الفنون الإنسانيّة ثانيًا، فيرى أنّها فنٌّ من فنون شجرة اللسانيّات.). (1). ثم تلقف مفهوم "الأسلوبيّة" النقاد العرب، أمثال "صلاح فضل"، "عبد السلام المسدي"، و"نور الدين السد" وغيرهم. (2). حيث اعتبرت "الأسلوبيّة" اليوم عند بعض النقاد، منهجاً من مناهج النقد الأدبي الحديث والمعاصر، أوّ من مناهج الحداثة... متفرّع من شجرة اللسانيات، يقوم بدراسة الأسلوب في اللغة حين يمارسه الإنسان كلامًا يَنْطُقٌ به أو يَكْتُبُهُ. وبالتالي فهي تدرس كما أشرنا قبل قليل، كلَّ ما يتّصل بمظاهر الانحراف الجمالي والانزياح، أو ما يسمى العدول في النصّ الأدبي، وتهتمّ كذلك بكلّ ما يتصل باللغة من أصوات وكلمات وصيغ وتراكيب ونحو وصرف ودلالة، وكذلك فإنّ "الأسلوبيّة" تخرج عن نظام اللغة من حيث الترتيب في التراكيب، وحذفها وذكرها وغيرها من الأساليب اللغويّة كالتقديم والتأخير وغير ذلك. يقول الدكتور "عدنان علي رضا النحوي": (والأسلوبيّة هي علم كما يراها بعض الدارسين الغربيين، أو هي نقد أو فلسفة أو نهج كما يراها آخرون تقترن دائماً بالأسلوب، فحيثما وجد أحدهما، وجد الآخر، فإذن الأسلوب والأسلوبيّة متلازمان).(3).

هذا وقد أخذت التحليلات الأسلوبيّة – اليوم - تحتل مكانـة مهمة في عالم الأدب، وصارت موضوعاتها الأسلوبيّة تستهوي عدداً كبيراً من الباحثين الذين تأثروا بها، وراحوا يجدون في المحاولات التي تبذل في إنصافها هداية تسهم في اكتشاف حقيقة الإبداع الأدبي من جهة، وحقيقة المنهجيّة العلميّة للتحليل الأسلوبي للأدب ولغيره من العلوم الفلسفيّة والاجتماعيّة من جهة ثانية. وللأنساق الثقافيّة وما هو مضمر فيها من جهة ثالثة.

نشأة الأسلوبيّة:

يرى الناقد والأديب "رابح بوحوش" أن العالم الفرنسي "جوستاف كوبرتنج" هو من بشر بأهمية الأسلوب في العصر الحديث سنة 1887م،  من خلال انتباهه إلى طريقة الأسلوب الفرنسي  القديم في تعامله مع الرسائل الجامعيّة تلك الفترة. إذ تبين له (أن واضعي الرسائل الجامعيّة يقتصرون على وضع تصنيف وقائع الأسلوب التي تلفت أنظارهم طبقا للمناهج التقليديّة. وهو بهذا يذهب إلى أن الهدف الحقيقي لهذا النوع من البحوث من الأحسن أن يتوجه للبحث في أصالة التعبير الأسلوبي، أو خصائص النتاج الأدبي، التي تكشف عن أوضاعها الأسلوبيّة في الصناعة الأدبيّة، وتكشف بالطريقة نفسها عن التأثير الذي مارسته هذه الأوضاع.). (4).

لا شك بأنه في تلك الفترة بالذات، لم تتضح بعد معالم وملامح الأسلوبيّة، وظلت على هذا الحال بين مد وجزر، (حتى تبلورت الأفكار اللسانيّة كما بينا قبل قليل لدى العالم السويسري "فيرديناند ديسوسير" في كتابه الشهير «محاضرات في اللسانيات العامة» الذي كان له الفضل في إرساء قواعد الأسلوبيّة بفضل الأفكار التي طرحها في كتابه، لكن الفضل الأكبر يعود إلى تلميذه "شارل بالي" خصوصا عندما نشر كتاب «محاضرات في اللسانيات العامة» بعد وفاة أستاذه "دي سوسير" بثلاث سنوات، لأنه بعد أن أتقن فكر أستاذه الذي كان صاحب نظريّة ومنهج...ابتكر ما سمي بالأسلوبيات التعبيريّة.). (5).

اتّجاهات الأسلوبيّة:

اتجاهات الدراسات الأسلوبيّة:

لقد اتجهت الدراسات الأسلوبية في تاريخنا الحديث والمعاصر إلى اتجاهات عدّة أهمها:

1- الأسلوبيّة التعبيريّة: ورائدها "شارل بالي"، وتهتم بأثر الجانب الوجداني في تشكيل السمات الأسلوبيّة للغة، وبعَمَلُ الناقد الذي يبين مدى الارتباط بين التعبير اللغوي والشعور النفسي.

2- الأسلوبيّة الأدبيّة: ورائدها "ليو سبيتزر- ناقد أدبي نمساوي"، ويطلق عليها التكوينيّة، أو أسلوبيّة الفرد، لأنها ترصد علاقات التعبير بالمؤلف. وتهتم بتفسير السمات الأسلوبيّة في العمل الأدبي. وتهتم بالنص. وتنطلق من معرفة الاستعمال الفعلي للغة.

وكلا الأسلوبين "التعبيري و الأدبي" سنوضحمها أكثر ونبين دلالاتهما في موقع آخر من هذه الدراسة لا حقاً.

3- أسلوبيّة المتلقي: ورائدها "ريفاتير"، وتركز على العلاقة بين النص والمتلقي، أكثر من علاقة المبدع بالمتلقي. وتسعى إلى البحث عن القارئ النموذجي، واكتشاف مغزى النص، وتتبع المزايا المؤثرة في القارئ. وهدف تحليل الأسلوب عند "ريفاتير" يتمثل في « الإيهام الذي يخلقه النص في ذهن القارئ». وهنا ربط بين الأسلوبيّة ونظريّة التلقي، التي تعتبر التفكيكيّة برأيي تجليات لهذه الأسلوبيّة.

4- الأسلوبيّة الإحصائيّة: تعتمد على الأرقام والإحصاءات، وتجمع المعلومات اللغويّة وتصنفها وتنظمها، وتدرس معدلات التكرار، تدرس الأسلوب رأسيّا وأفقيّاً. ولا يمكن الاعتماد عليها كليّاً أو الاقتصار عليها، ومن المهتمين بهذا الاتجاه الدكتور سعد مصلوح.

5- والأسلوبيّة البنيويّة: وهي التي تهتم بالبنى الرئيسة المكونة للنص، ومن أوجه التشابه بين البنيويّة والأسلوبيّة الاهتمام بالعناصر المهيمنة على النص، وأحياناً بالعناصر الفرديّة.(6).

هذا ويرتكز حقل الأسلوبيّة على (ثنائية تكامليّة هي من مواضعات التفكير الألسني، وهما: ظاهرة اللغة، وظاهرة العبارة. وتتمثل في تفكيك مفهوم الظاهرة الألسنيّة. وقد أحكم استغلالها علميّا "دي سوسير"، وقد اعتمد معظم الألسنيين بعد "دي سوسير" هذا الثنائي فحاولوا تركيزهما في التحليل، وتدقيقه بمصطلحات تتلون بسمات اتجاهاتهم الألسنيّة).(7).

وبحسب هذه الفكرة فقد أفادت الأسلوبيّة من علم اللغة الحديث فكرتين مهمتين:

الأولى: التمييز بين "اللغة" و"القول" التي قال بها العالم "دي سوسير"، إذ ميز بينهما تمييزاً دقيقاً، فـ (القول) عنده نظام متعارف عليه من الرموز التي يتفاهم بها الناس في علاقاتهم اليوميّة المباشرة، أما (اللغة) فهي صورة اللغة المتحققة في الواقع، أي في استعمال فرد معين لهذه الصورة في حالة معينة كاستخدام الشاعر أو الأديب لها، وهذا الاستعمال يطابق النظام العام للغة في صفاته الأساسيّة، ولكنه يختلف في تفصيلاته من فرد إلى آخر، ومن حالة إلى حالة، فلكل فرد من المتكلمين أو المبدعين طريقته الخاصة. وهذه الفكرة قادت إلى نشوء علم الأسلوب، لأنها شخصت السمات التي تتخذها اللغة في الاستعمال، وهي التي تكوّن ما سمّاه أهل الأدب "الأسلوب".

الثانية: إن الاختلافات اللغويّة ترجع في الغالب إلى اختلاف المواقف، فاللغة بوصفها نظاماّ اجتماعيّاّ تأخذ أشكالاً متعددةً، وهو ما يجعل لكل فئة من الناس طريقتها الخاصة في استعمال اللغة ومن أبرز عوامل الاختلاف:

1- الجنس: فكثير من الكلمات تشيع بين النساء ولا تشيع بين الرجال.

2- العمر: فالشباب يختلفون عن الأطفال، وكذا الشيوخ في استعمالهم اللغة.

3- المهنة: فالطبيب يستعمل طريقة في التحدث تختلف عن طريقة القضاة مثلا.

4- البيئة الاجتماعيّة: فالبادية تختلف عن الحاضرة في أدائها اللغوي.

5- إن المناسبات الاجتماعيّة والمواقف تتطلب في بعض الأحيان أداءً لغوياً مناسباً لها. (8).

إن هذه الاختلافات في التعبير وغيرها تشترك في تكوين الموقف الذي يحاول القائل أن يراعيه، فيما يختار من طرق التعبير، حتى يستطيع أن يوصل ما يريده إلى شخص آخر أو جماعة من الناس، فهو لهذا يتخيّر طريقة التعبير المناسبة للموقف.

أما عند "شارل بالي" فقد أخذت الأسلوبيّة تتسع، وتتحدد معالمها بشكل أوسع، إذ وجّه اهتمامه إلى دراسة اللغة عامة، غاضاً نظره أو اهتمامه عن كل توسع في أشكالها الأدبيّة، حتى يمكن القول إنه اهتم بدراسة اللغة مفردات وقواعد، ولم يهتم بدراستها استعمالاً خاصاً، أو لم يهتم بما يستطيع الفرد أن يفعله بها في ظروف معينة، وغايات محددة، وقد صنف "بالي" الواقع اللغوي (فجعل الخطاب نوعين: نوع حامل لذاته غير مشحون، وآخر حامل للعواطف والخلجات وكل الانفعالات لدى المتكلم. فبحسب رأيه  "قد يضفي المتكلم على معطيات الفكر ثوباً موضوعيًّاً وعقليّاً مطابقاً جهد المستطاع للواقع، ولكنه في أغلب الأحيان، يضيف إليها – بكثافات متنوعة - عناصر عاطفيّة قد تكشف الأنا في صفائها الكامل، وقد تغيرها ظروف اجتماعيّة مردها حضور أشخاص آخرين، أو استحضار خيال المتكلم لهم..). (9).

وعليه فإن هناك - بحسب فكرة "شارل بالي" – نوعين من الأسلوب:

الأول: الأسلوب التعبيري: وهو ذو وظيفة أبلاغيّة، وغايتها إثبات إرادة المتكلم بالألفاظ، ومنهجه دراسة الوسائل التعبيريّة في المجال اللغوي الذي تلتقي فيه اللغة بالحياة، وقد أشار إلى هذا النوع (شارل بالي)، فقال:"( إن اللغة الطبيعية كالتي نتكلمها جميعاً ليست في خدمة التفكير الصرف، ولا في خدمة الفن، ولا تأخذ في اعتبارها المنطق الأعلى، ولا المثل الأدبي الأعلى، وليست إقامة القياسات المنطقيّة واختتام الجمل وفق التفاعيل الشعريّة. إنما وظيفتها الأوليّة والثابتة وبكل بساطة، تأتي في خدمة الحياة، لا حياة الأقليّة بل حياة الكل، وبكل مظاهرها. ووظيفتها اجتماعية). (10).

الثاني: الأسلوب الأدبي: وهو ذو وظيفة فنيّة تجعل للعمل الأدبي خصائص ومميزات تميزه عن غيره، ومن أبرز رواده (ليوسبتزر)، الذي قال في توضيح هذا الأسلوب: (يجب أن يبدأ في الحقيقة أي تحليل للنص، وأيّة دراسة في فقه اللغة، بنقد الجمال، مع الاعتبار بأن كمال العمل المدروس أمراً مفروغاً منه، وبرغبة كاملة في المشاركة الوجدانيّة، ويجب أن يكون دفاعاً وتبريراً موجزاً...). (11)، وهكذا يبدو أن الأسلوب الأدبي أسمى من الأسلوب التعبيري، وأجل  شأنا، وهو مدار الدراسات الأسلوبيّة ولبنة النصوص الإبداعيّة.

إن المتأمل لتعريفات الأسلوبيّة التي جئنا عليها يرى:

أولا: عجز هذه التعريفات عن بيان معنى واضح يجلي الغبار عن ما يحيط بها من غموض، ولعل ذلك ناتج عن اختلاف المنطلقات التي حددّها لها أصحابها من جهة، واختلاف المناهج المطبقة لنمط معين من الأسلوبيات لدى هذا الناقد أو ذاك من جهة ثانية.

ثانيا: لقد حاول بعض أصحاب الأسلوبيّة جعل دراسة الأسلوبيّة تقوم على أسس موضوعيّة تقرّبها من الدراسة العلميّة، وتنأى بها عن الانطباعات الذاتيّة، والآراء الشخصيّة، التي كانت سائدة منذ القدم، وهذا ما حدا بهم إلى محاولة إكساء هذا الفن ثوب العلميّة والابتعاد التدريجي عن التذوق الأدبي، وربما كان تباين وجهات النظر التي انطلق منها الباحثون أو النقاد عاملا مهما في صعوبة تحديد تلك الأسس. أو بكلمة أدق صعوبة تحديد المسار الموجه الذي يمكن الاعتماد عليه في تحديد اتجاهات الدراسة الأسلوبيّة، والنتائج المستخلصة منها، حتى حدا ببعضهم إلى اعتماد الأسلوبيّة منهجاّ يناهض المناهج القديمة ويهدمها بوصف الأسلوبيّة "الوريث الشرعي للبلاغة"، بينما يرى بعضهم عكس ذلك ومن بين هؤلاء الناقد المغربيّ "عبد السلام المسدي"، الذي يقول:  (إنّ البلاغة علم معياري؛ أي أنـّها تـخضع إلى قواعد وقوانين معينة على المتكلم أن يلتزم بـها، أمّا الأسلوبيــّة فــهي علم وصفي يـستقرئ الـظاهرة الإبداعيّـــة ضمن منهج يــتتبع الأحداث و الــظواهر الـمشتتة لتنتهي إلى خصائص مشتركة.). (12).

غير أنّ "محمد عبد الـمطلب" يرى بأنه: (من الـمؤكد قد حدث تداخل بين اختصاصات البلاغة القديـمة والأسلوبيّة الحديثة، غير أنّ البلاغة لـم تعد قادرة على الاحتفاظ بكل حقوقها القديـمة، التّي كانت تناسب فترة معينة من ماضينا، والتّي يـجب على الباحث في الأسلوبيّة أن يضعها في اعتباره، وأن يـحاول تعميقها على ضوء الـمناهج الـجديدة، وبـهذا يـمكن للنقد أن يتصل بالأسلوبيّة في مـحاولة الكشف عن الـمظاهر الـمتعددة للنّص الأدبيّ).(13). في حين سار آخرون في خط معتدل، ورأوا فيها من مكملات الدرس البلاغي القديم، (أو أنّ الدرس البلاغيّ العربيّ لم يكن إلاّ درسًا أسلوبيًّاً، وذلك بالنّظر إلى معظم التعريفات البلاغيّة عند العرب ومقارنتها بالتعريفات البلاغيّة للبلاغة القديـمة، أو أنّـها البديل و الوريث الوحيد لـها...).(14).

ويبدو لي إن عدم وجود منهج واضح يحدد المنطلقات الأساسيّة للدراسة الأسلوبيّة، بل إن الأسلوبيّة ذاتها راحت تخضع للمناهج الأدبيّة الحديثة والمعاصرة، من بنيويّة وتفكيكيّ وشكلانيّة وواقعيّة وبنيويّة تكوينية وانعكاسيّة وغيرها، ثم غياب الأصول التي تعنى بالكشف عن قيمة النصوص الأدبيّة، ثم تفرّد الأدباء في تطبيقاتها قد جعل منها عرضة للنقد، وموضعا للاتهام بعدم قدرتها على حل مشكلات النقد. (ولكن في مطلع القرن الماضي ظهر للأسلوبيّة مفهومان:

الأول: دراسة الصلة بين الشكل والفكرة. والثاني: الطريقة الفرديّة في الأسلوب، أو في دراسة النقد الأسلوبي، وهي تتمثل في بحث الصلات التي تربط بين التعبيرات الأدبية الفرديّة والوجدانيّة.). (15). وكان هذا المفهوم أساس الخلاف بين الأسلوبيين، وتعدّد اتجاهاتهم، وكان من نتائج ذلك تعدد الأسلوبيات كما بينا في موقف سابق من هذه الدراسة، فظهرت الأسلوبيّة التعبيريّة (الوصفيّة)، والأسلوبية البنيويّة، والأسلوبيّة التكوينيّة (أسلوبيّة الفرد)، وأسلوبيّة الانزياح، وأسلوبيّة السياق،  والأسلوبيّة الإحصائيّة. وتبعا لهذا الخلاف تعددت المدارس المطبقة لهذه الأسلوبيات، فكان هناك المدرسة الفرنسيّة، والألمانيّة والإيطاليّة، ومدرسة الشكلانيين الروس. (16).

أهم سمات الأسلوبيّة:

إن من أهم السمات التي يمكن أن تميز الدراسة الأسلوبيّة إذا ما تخلت أو ابتعدت برأيي عن المناهج النقديّة، عليها أن (تبدأ من النص نفسه، الأدبي أو غيره، ومن الكلمات والطريقة التي ترتبط في القطعة الكتابيّة الخاصة، ولكن عليع أن يبدأ على الأقل من نقطة إيجابية يمكن تحديدها. بمعنى إن الأسلوبيّة ليس من شأنها أن تتعرض إلى رسالة الأدب أو مذاهبه، كما ليس من شأنها التمييز بين مذاهب الأدب المختلفة كتلك التي ترى في الأدب تمثيلا لتجربة بشرية’ أو تلك التي ترى فيه نقدا للحياة، أو تلك التي ترى فيه وسيلة للتعبير عن ذات الإنسان أو تعكس شخصيته، كما أنها لا تتدخل في تقييم الأدب، فذلك مجاله اتجاهات نقديّة أخرى تتعلق بالذوق الشخصي أو مبنية على اتجاهات جماليّة معينة(17).

خطوات التحليل الأسلوبي:

1- الاقتناع بأن النص جدير بالدراسة، وهذه العلاقة تبدأ باستحسان الناقد للنص، وتنتهي حين الشروع في التحليل والدراسة، حتى نتجنب الأحكام المسبقة.

2- ملاحظة التجاوزات النصيّة، كالانزياح وتكرار لفظ، أو قلب نظام الكلمات، أو التقديم والتأخير وغير ذلك. وتسجيلها بهدف الوقوف على مدى شيوع الظاهرة الأسلوبيّة أو ندرتها، ويكون ذلك بتجزيئ النص إلى عناصر، ثم تفكيك هذه العناصر إلى جزئيات صغيرة، وتحليلها لغويّاً. فالتحليل الأسلوبي يقوم على مراقبة الانحرافات.

3- الوصول إلى تحديد السمات التي يتسم بها أسلوب الكاتب من خلال النص المدروس، ويتم ذلك بتجميع الخصائص الجزئيّة التي نتجت عن التحليل السابق، واستخلاص النتائج العامة منها. وهذه العملية تشبه التجميع بعد التفكيك، والوصول إلى الكليات، انطلاقاً من الجزئيات. (18).

ملاك القول: يمكننا القول هنا: إن الأسلوبيّة تمثل منهجاً علميّاً في طريقة صياغة النص الأدبي بشكل خاص، والفكري بشكل عام. وإنها نظرة شموليّة تقتضي مقاييس محدّدة يدرك من خلالها قوام الإبداع الأدبي. ويمكن القول أيضاً من جهة أخرى إن الأسلوبيّة في أبسط معطياتها تعدُّ حلقة وصل بين علم اللغة والدراسات النقديّة، فتنطلق إلى النص الأدبي مستعينة بالدراسات اللغويّة المعنيّة ببنية اللغة. وأهمية التحليل الأسلوبي تبدو لنا في عملية الكشف عن المدلولات الجماليّة في النص، وذلك عن طريق النفاذ إلى مضمونه وتقسيم عناصره. والتحليل بهذا يمهد الطريق للناقد ويمده بمعايير موضوعيّة تمكنه من ممارسة عمله النقدي وترشيد أحكامه، ومن ثم قيامها على أسس منضبطة. (ويستند الباحث الأسلوبي إلى: التحليل الصوتي للنص، والصرفي، والنحوي (التركيبي)، والمعجمي، والدلالي (التصويري). فيقوم بفحص العناصر النحويّة/ التركيبيّة للعبارات المختارة ويفسرها بوصفها إشارات لمقاصد المؤلف، وبمعنى أدق للمغزى الأعمق لما يكتبه. (كتكرار لفظ، أو قلب نظام الكلمات، وغير ذلك. (19). أي التركيز على شكل النص الأدبي ومدى توافقه مع علم البلاغة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سورية

......................

الهوامش:

1- (الأسلوبية: المفاهيم والإجراءات - موقع الجزيرة). بتصرف.  وهدف الأسلوب هو تحقيق غايتين هما " الإقناع و الإمتاع ".

2- (الأسلوبيّة- مفاهيمها عند النقاد الغربيين والعرب - أ. مداني علاء - و أ.د عبد الحميد هيمه. مجلة الأمر - جامعة الشهيد حمه لخضر بالوادي.(الجزائر).https://dspace.univ-

ouargla.dz/jspui/bitstream/123456789/17948/3/T3025.pdf).

3- (علي حاجي خاني، إضاءات نقدية فصلية محكمة، صفحة 84. بتصرّف.

4- (بيير جيرو:الأسلوبية ،ترجمة: منذر عياشي، مركز الانماء الحضاري،ط2، 1994،ص54.).

5- (نشأة الأسلوبية.( e-leerning-universite-dem،sila).

6- (الأسلوبية: المفاهيم والإجراءات - موقع الجزيرة). بتصرف. ويراجع أيضاً. ( في الاسلوب والاسلوبيّة موقع جامعة آل البيت - الباحث: محمد حسين عبد الله المهداوي). بتصرف.

7- ( في الاسلوب والاسلوبية موقع جامعة آل البيت - الباحث: محمد حسين عبد الله المهداوي). بتصرف.

8- المرجع نفسه. بتصرف.

9-  المرجع نفسه. بتصرف.

10- (مجلة فكر – العلاقة بين الأسلوبيات والبلاغة العربية بين القديم والحديث -      د. خديجة أسماء لرجاني - الجزائر).

11- المرجع نفسه.

12- المرجع نفسه.

13- (في الاسلوب والاسلوبية موقع جامعة آل البيت - الباحث: محمد حسين عبد الله المهداوي).

14- المرجع نفسه.  يتصرف.

15- المرجع نفسه. بتصرف.

16- المرجع نفسه. بتصرف.

17- (الأسلوبية: المفاهيم والإجراءات - موقع الجزيرة). بتصرف.

18- ( في الاسلوب والاسلوبية موقع جامعة آل البيت - الباحث: محمد حسين عبد الله المهداوي). بتصرف.

19-  المرجع نفسه. بتصرف.

الكلاسيكية حركة فنية وأدبية ظهرت في أواخر القرن الثامن عشر واستمرت حتى القرن التاسع عشر. تتميز بالعودة إلى مبادئ الفن والأدب اليوناني والروماني القديم، مع التركيز على النظام والانسجام والتوازن. تسعى الكلاسيكية إلى محاكاة مُثُل الحضارات القديمة في كل من الشكل والمضمون، مستلهمة من أعمال فنانين مثل مايكل أنجلو ورافائيل وفيرجيل.

أحد المبادئ الرئيسية للكلاسيكية هو الإيمان بعالمية الجمال والحقيقة. يعتقد الكلاسيكيون أن هناك معايير خالدة للجمال والأخلاق يمكن العثور عليها في أعمال الحضارات القديمة، وأن هذه المعايير يجب أن يتم الحفاظ عليها والاحتفال بها في الفن والأدب. هذا التركيز على القيم والمبادئ الدائمة يمنح الكلاسيكية شعورا بالخلود ويتجاوز الاتجاهات العابرة للعالم المعاصر.

كما تقدر الكلاسيكية الوضوح والبساطة وضبط النفس في التعبير الفني. يسعى الكلاسيكيون إلى نقل أفكارهم وعواطفهم بطريقة واضحة ومباشرة، دون الزخارف أو الزخرفة المفرطة التي ميزت أسلوبي الباروك والروكوكو التي سبقتهما. هذا التركيز على النقاء والبساطة يسمح للجمال المتأصل وقوة العمل بالتألق، دون تشتيت أو زخارف غير ضرورية.

ومن السمات المميزة للكلاسيكية أيضا التركيز على النظام والبنية. غالبا ما تتميز الأعمال الكلاسيكية باستخدامها للتناظر والتوازن والتناسب، مما يعكس الاعتقاد بأن هذه الصفات ضرورية لخلق شعور بالانسجام والتماسك في العمل الفني. يعمل هذا الاهتمام بالدقة والتنظيم على خلق شعور بالوحدة والكمال في العمل، وجذب المشاهد أو القارئ وخلق شعور بالكمال.

كما يضع الكلاسيكيون تأكيدا قويا على مُثُل العقل والمنطق والعقلانية. يعتقد الكلاسيكيون أن السعي وراء المعرفة والفهم يجب أن يسترشد بمبادئ المنطق والعقل وليس العاطفة أو الحدس. إن هذا التفاني في الفكر العقلاني والدقة الفكرية يمكن أن يُرى في الطبيعة المنظمة والمنظمة للأعمال الكلاسيكية، والتي غالبا ما تتميز بتكوينها الدقيق والاهتمام الدقيق بالتفاصيل.

بالإضافة إلى تركيزها على الجمال والحقيقة والنظام والعقل، فإن الكلاسيكية لها أيضا بعد أخلاقي. غالبًا ما سعى الفنانون والكتاب الكلاسيكيون إلى تثقيف ورفع مستوى جماهيرهم من خلال نقل الدروس الأخلاقية أو إلهام الفضيلة من خلال أعمالهم. يعكس هذا التركيز على القيم الأخلاقية والقيم الاعتقاد بأن الفن والأدب لديهما القدرة على تشكيل المجتمع والتأثير عليه، وأن الفنانين لديهم مسؤولية استخدام مواهبهم من أجل الصالح العام.

بلغت الكلاسيكية ذروتها خلال الفترة الكلاسيكية الجديدة في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، عندما سعى الفنانون والكتاب إلى إحياء المثل العليا لليونان القديمة وروما ردًا على التجاوزات والانحطاط الملحوظين لأساليب الباروك والروكوكو التي هيمنت على القرن السابق. يمكن رؤية الكلاسيكية الجديدة في أعمال فنانين مثل جاك لويس ديفيد، الذي سعى إلى محاكاة عظمة وبطولة العصور القديمة الكلاسيكية في لوحاته عن فرنسا الثورية والنابليونية.

بينما تراجعت شعبية الكلاسيكية في القرنين التاسع عشر والعشرين مع ظهور حركات فنية جديدة، لا يزال من الممكن رؤية تأثيرها في أعمال الفنانين المعاصرين الذين يواصلون استلهام المبادئ والمثل العليا الخالدة للحضارات القديمة. يخدم إرث الكلاسيكية الدائم كتذكير بالقوة الدائمة وجمال الفن الذي يسعى إلى تجسيد أعلى المثل العليا للحضارة الإنسانية.

الكلاسيكية هي حركة فنية وأدبية تسعى إلى محاكاة المثل العليا لليونان القديمة وروما في سعيها إلى الجمال والحقيقة والنظام والعقل والأخلاق. من خلال الاستلهام من أعمال العصور القديمة الكلاسيكية، تسعى الكلاسيكية إلى إنشاء أعمال خالدة وعالمية ودائمة. رغم أن الكلاسيكية ربما تراجعت شعبيتها في العصر الحديث، إلا أن تأثيرها لا يزال واضحا في أعمال الفنانين المعاصرين الذين يواصلون التمسك بمبادئها ومثلها العليا.

تؤكد الكلاسيكية على مبادئ النظام والتوازن والانسجام في الفن والأدب. وتستند النظرية وراء الكلاسيكية إلى الاعتقاد بأن الفن يجب أن يلتزم بمعايير معينة من الشكل والأسلوب، مستمدة ذلك من التقاليد الكلاسيكية لليونان القديمة وروما. ويتجلى هذا التأكيد على الوضوح والضبط في أعمال فنانين سعوا إلى التقاط الجمال والأناقة الخالدة للفن الكلاسيكي في إبداعاتهم الخاصة.

في الممارسة العملية، يمكن رؤية الكلاسيكية في الأساليب المعمارية للمباني مثل البارثينون في أثينا والبانثيون في روما. يجسد كلا الهيكلين مبادئ الكلاسيكية في التناسق والتناسب، حيث تعكس أعمدتهما وأقواسهما النظام والانسجام في العمارة اليونانية والرومانية القديمة. وعلى نحو مماثل، أثرت الكلاسيكية على تطور الفن الكلاسيكي الجديد في القرن الثامن عشر، حيث أنشأ فنانون مثل جاك لويس ديفيد ويوهان يواكيم وينكلمان أعمالا احتفلت بمُثُل العقل والفضيلة في تقليد الفن الكلاسيكي.

إلى اليوم ، لا تزال الكلاسيكية بمثابة مصدر إلهام للفنانين والكتاب الساعين إلى خلق أعمال ذات جمال وأهمية دائمة. من خلال التركيز على مبادئ النظام والتوازن والانسجام، توفر الكلاسيكية إطارا خالدا للتعبير الفني يتجاوز اتجاهات وأزياء اليوم. من خلال دراسة وممارسة الكلاسيكية، يمكن للفنانين والكتاب الاستفادة من الإرث الغني للفن الكلاسيكي لخلق أعمال تصمد أمام اختبار الزمن، وتجسد القيم والمثل العليا الدائمة للتقاليد الكلاسيكية.

الكلاسيكية في الدراما:

تشير الكلاسيكية في الدراما إلى أسلوب مسرحي ازدهر في اليونان القديمة وروما، مع التركيز على ضبط النفس والنظام والاعتدال في جميع جوانب الإنتاج. تميز هذا الأسلوب بالتركيز على البنية الرسمية واللياقة والالتزام بقواعد صارمة للتأليف الأدبي. تتضمن الكلاسيكية في الدراما استخدام شخصيات محددة جيدا ورسالة أخلاقية واضحة وحبكة منظمة ذات بداية ووسط ونهاية. ستستكشف هذه المقالة العناصر الرئيسية للكلاسيكية في الدراما وتقدم أمثلة لمسرحيات كلاسيكية تجسد هذا الأسلوب.

تتمثل إحدى السمات الرئيسية للكلاسيكية في الدراما في التأكيد على وحدة الزمان والمكان والفعل. يملي هذا المبدأ، المعروف باسم الوحدات الثلاث، أن المسرحية يجب أن تدور في مكان واحد، وتتكشف في وقت مستمر، وتركز على حبكة واحدة. ومن الأمثلة الرئيسية على المسرحية الكلاسيكية التي تلتزم بهذه المبادئ مسرحية "أوديب ريكس" لسوفوكليس. تدور أحداث المسرحية في طيبة، على مدار يوم واحد، وتتبع القصة المأساوية لأوديب وهو يكتشف حقيقة أبويه.

إن إحدى السمات المميزة للكلاسيكية في الدراما هي استخدام شخصيات محددة جيدا تلتزم بالنماذج الأصلية الراسخة. في المسرحيات الكلاسيكية، غالبا ما تكون الشخصيات إما بطولية وفاضلة أو شريرة وغير أخلاقية، مع وجود مساحة صغيرة للظلال الرمادية. أحد الأمثلة على ذلك هو شخصية ميديا في مسرحية يوربيديس "ميديا". ميديا ساحرة قوية تستهلكها الغيرة والانتقام، مما يدفعها إلى ارتكاب أفعال لا توصف في ملاحقة أهدافها.

غالبا ما تتميز المسرحيات الكلاسيكية أيضا برسالة أخلاقية واضحة أو درس للجمهور. يتم تحقيق هذا الغرض الأخلاقي عادةً من خلال تصوير عواقب الأفعال واستكشاف الموضوعات العالمية مثل الحب والعدالة وطبيعة البشرية. في مأساة إسخيلوس "أجاممنون"، على سبيل المثال، تدرس المسرحية القوة المدمرة للغرور وعواقب السعي إلى الانتقام. يُترك للجمهور أن يتأمل النتيجة المأساوية لكبرياء أجاممنون وتأثيره على عائلته ومملكته.

بالإضافة إلى هذه العناصر الموضوعية، تتضمن الكلاسيكية في الدراما أيضا حبكة منظمة ذات بداية ووسط ونهاية محددة جيدًا. تتبع المسرحيات الكلاسيكية عادة مسارا سرديا خطيًا، مع عرض واضح، وتصاعد الأحداث، وذروة الأحداث، وحلها. ومن الأمثلة الرئيسية على ذلك الكوميديا "ليسستراتا" لأريستوفانيس، والتي تتبع جهود مجموعة من النساء لإنهاء الحرب البيلوبونيسية من خلال حجب الجنس عن أزواجهن. تتكشف المسرحية في سلسلة من الصراعات المتصاعدة وسوء الفهم، والتي تتوج بحل يجلب السلام.

تقدر الكلاسيكية في الدراما أيضا استخدام اللغة الرسمية والمقياس الشعري لرفع مستوى النص وتعزيز جاذبيته للجمهور. غالبا ما تتميز المسرحيات الكلاسيكية باللغة المرتفعة، واللعب بالألفاظ المعقدة، والأدوات البلاغية مثل الاستعارة والتشبيه والسخرية. إن أحد الأمثلة على ذلك يمكن أن نراه في أعمال الكاتب المسرحي الروماني تيرينس، الذي اشتهرت مسرحياته الكوميدية مثل "الأخوة" و"حماة الأم" بلغتها الأنيقة وذكائها.

ومن الجوانب الرئيسية الأخرى للكلاسيكية في الدراما استخدام الاتفاقيات الدرامية مثل الجوقة، التي تعمل كصوت للتعليق والتأمل في أحداث المسرحية. تقدم الجوقة وجهة نظر جماعية للأحداث التي تتكشف على المسرح، وتقدم نظرة ثاقبة للتداعيات الأخلاقية لأفعال الشخصيات. في مسرحية سوفوكليس "أنتيجون"، على سبيل المثال، تعمل الجوقة كوسيط بين الجمهور والشخصيات، وتوفر منظورا أوسع حول موضوعات الواجب والشرف والتمرد.

كما تقدر الكلاسيكية في الدراما استخدام المشهد والموسيقى والرقص لتعزيز التأثير العاطفي للأداء. غالبا ما تضمنت المسرحيات الكلاسيكية أزياء وأقنعة ودعائم معقدة لخلق شعور بالعظمة والمسرحية. في المأساة الرومانية "ثييستس" لسينيكا، على سبيل المثال، أضاف استخدام المؤثرات الخاصة مثل الرعد والبرق إلى الجو العام للمسرحية وزاد من حدة التوتر في الحبكة.

غالبا ما تتضمن الكلاسيكية في الدراما عناصر الأسطورة والخرافة والتاريخ لتوفير شعور بالاستمرارية مع الماضي واستكشاف الموضوعات والنماذج الأصلية الخالدة. تستعين العديد من المسرحيات الكلاسيكية بقصص وشخصيات معروفة من الأساطير والتاريخ القديم، وإعادة تفسيرها لتعكس المخاوف والقيم المعاصرة. ومن الأمثلة على ذلك المأساة "إلكترا" لسينيكا.

الكلاسيكية في الشعر:

الكلاسيكية في الشعر حركة أدبية تقدر النظام والانسجام وضبط النفس في التعبير الشعري. إنها عودة إلى التقاليد الأسلوبية في اليونان القديمة وروما، مع التركيز على البنية الشكلية والالتزام بقواعد التكوين الراسخة. غالبًا ما تركز الكلاسيكية في الشعر على موضوعات الجمال والطبيعة والأخلاق، مستلهمة من أعمال الشعراء الكلاسيكيين مثل فيرجيل وهوراس وأوفيد. ستستكشف هذه المقالة خصائص الكلاسيكية في الشعر، مع أمثلة من شعراء مشهورين تبنوا هذا الأسلوب الأدبي.

تتمثل إحدى الخصائص الرئيسية للكلاسيكية في الشعر في استخدام الأشكال الشعرية التقليدية، مثل السوناتات والقصائد الغنائية والمراثي. هذه الأشكال لها قواعد صارمة فيما يتعلق بنظام القافية والوزن وبنية المقطع، والتي يجب على الشعراء اتباعها من أجل إنشاء تكوين متناغم ومتوازن. يمكن رؤية مثال على الكلاسيكية في الشعر في قصيدة جون كيتس "قصيدة على جرة يونانية"، حيث يستخدم شكل القصيدة لاستكشاف موضوعات الجمال والدوام من خلال تصوير عمل فني خالٍ من الزمن.

إن من السمات المميزة الأخرى للكلاسيكية في الشعر استخدام اللغة الراقية والأسلوب الرسمي. فالشعراء الذين يلتزمون بالمبادئ الكلاسيكية يستخدمون غالبا مفردات متطورة وقواعد نحوية دقيقة لنقل أفكارهم بوضوح ودقة. ويعد ألكسندر بوب مثالا بارزا لشاعر برع في هذا الصدد، كما يتضح في قصيدته الساخرة "اغتصاب الخصلة"، حيث يستخدم لغة أنيقة ولعبًا لغويًا بارعًا لانتقاد عبث المجتمع الراقي.

وتؤكد الكلاسيكية في الشعر أيضًا على الشعور بالنظام والتوازن في تأليف الأبيات. ويسعى الشعراء الذين يتبعون الاتفاقيات الكلاسيكية إلى تحقيق التناسق والانسجام في أعمالهم، وغالبًا ما يستخدمون تقنيات مثل التوازي والتناقض لخلق شعور بالوحدة والتماسك. وفي قصيدته الملحمية "الفردوس المفقود"، يوضح جون ميلتون هذه المبادئ من خلال ترتيبه الدقيق للأسطر والمقاطع، مما يخلق سردا منظما ومتماسكا.

إن أحد الموضوعات الرئيسية للكلاسيكية في الشعر هو استكشاف الحقائق العالمية والقيم الخالدة. غالبا ما يسعى الشعراء الذين يلتزمون بالمبادئ الكلاسيكية إلى نقل الرؤى الأخلاقية والفلسفية من خلال أعمالهم، مستمدين من الأساطير والخرافات القديمة لإلقاء الضوء على الحالة الإنسانية. يمكن العثور على مثال على ذلك في قصيدة تي إس إليوت الحداثية "الأرض الخراب"، والتي تشير إلى الأدب الكلاسيكي لاستكشاف موضوعات خيبة الأمل والفراغ الروحي في مجتمع ما بعد الحرب العالمية الأولى.

كما تقدر الكلاسيكية في الشعر استخدام الإشارات والإشارات إلى الأساطير والأدب الكلاسيكي. غالبا ما يستعين الشعراء الذين يعتنقون هذا التقليد بالنسيج الغني للقصص والشخصيات الكلاسيكية لإثراء أعمالهم الخاصة وغرسها بعمق ومعنى أكبر. في قصيدتها "دادي"، تشير سيلفيا بلاث إلى الأساطير اليونانية، مشيرة إلى شخصيات مثل زيوس وإلكترا لاستكشاف موضوعات ديناميكيات القوة والعلاقات الأسرية.

كما تضع الكلاسيكية في الشعر تأكيدا قويا على الانضباط والحرفية المشاركة في عملية الكتابة. إن الشعراء الذين يلتزمون بالتقاليد الكلاسيكية دقيقون في اختيارهم للكلمات والصور، ويسعون إلى خلق عمل فني مصقول ومُحسَّن. في سلسلة السوناتات الخاصة به "سوناتات من البرتغاليين"، توضح إليزابيث باريت براوننج هذا الاهتمام بالتفاصيل، حيث تصوغ كل سطر بدقة وعناية لنقل مشاعرها العميقة وتأملاتها حول الحب.

إن السمة المميزة الأخرى للكلاسيكية في الشعر هي الاحتفال بالجمال والطبيعة كمصدر للإلهام. غالبًا ما يستعين الشعراء الذين يتبعون التقاليد الكلاسيكية بالعالم الطبيعي وعجائبه لخلق صور حية ومثيرة في أعمالهم. يجسد الشعر الغنائي لويليام وردزوورث، مثل "أسطر مؤلفة على بعد أميال قليلة فوق دير تينترن"، هذا الارتباط بالطبيعة، حيث يستخدم أوصافًا للمناظر الطبيعية لاستحضار شعور بالتسامي والتجديد الروحي.

بالإضافة إلى تركيزها على الجمال والطبيعة، تؤكد الكلاسيكية في الشعر أيضا على أهمية ضبط النفس العاطفي والاعتدال في التعبير الشعري. يسعى الشعراء الذين يعتنقون هذا التقليد إلى إيجاد شعور بالتوازن واللياقة في أعمالهم، وتجنب العاطفية المفرطة أو الدراما. في قصيدته الرثائية "أدونيس"، أظهر بيرسي بيش شيلي هذا الضبط، حيث حزن على وفاة زميله الشاعر جون كيتس بمزيج من الجدية والرشاقة الشعرية.

تعتبر الكلاسيكية في الشعر حركة أدبية تقدر التقاليد والنظام وضبط النفس في التعبير الشعري. يستعين الشعراء الذين يلتزمون بالتقاليد الكلاسيكية بالنماذج والأشكال القديمة لإنشاء أعمال فنية لا تتعارض مع التقاليد.

الكلاسيكية في الفن:

تشير الكلاسيكية في الفن إلى المبادئ الجمالية والأسلوب الفني الذي نشأ في اليونان القديمة وروما. وتتميز بالتركيز على النظام والانسجام والوضوح والتناسب. كان للكلاسيكية في الفن تأثير كبير على كل من الرسم والنحت عبر التاريخ، حيث استلهم الفنانون الإلهام من الموضوعات والموضوعات والتقنيات الكلاسيكية. وهنا سنستكشف كيف تجلت الكلاسيكية في الفن من خلال أمثلة مختلفة من اللوحات والمنحوتات.

أحد أشهر الأمثلة على الكلاسيكية في الرسم هو "مدرسة أثينا" للفنان عصر النهضة رافائيل. تم رسم هذه التحفة الفنية بين عامي 1509 و1511، وتصور مجموعة من الفلاسفة والعلماء المشهورين من العصور القديمة مجتمعين في إطار معماري كبير. يعكس تكوين وتناسق وتوازن الشخصيات في اللوحة مبادئ الفن والعمارة الكلاسيكية.

في عالم النحت، يعد تمثال "داود" لمايكل أنجلو مثالا رئيسيا للكلاسيكية. تم إنشاء هذا التمثال بين عامي 1501 و1504، وهو يصور البطل التوراتي داود في وضعية مضادة، وهي وضعية شائعة في النحت الكلاسيكي. تُظهر النسب المثالية والدقة التشريحية للشكل إتقان مايكل أنجلو للكلاسيكية في النحت.

ثمة لوحة شهيرة أخرى تجسد الكلاسيكية هي "موت سقراط" لجاك لويس ديفيد. تم رسم هذه التحفة الكلاسيكية الجديدة عام 1787، وتصور الفيلسوف سقراط قبل لحظات من وفاته محاطًا بتلاميذه الحزينين. ينقل التكوين والستائر والتعبير عن الشخصيات في اللوحة شعورًا بالكرامة والرزانة التي تميز الفن الكلاسيكي.

في النحت، يعد "دوريفوروس" أو "حامل الرمح" لبوليكليتوس مثالا مشهورا للنحت الكلاسيكي من اليونان القديمة. تم إنشاء هذا التمثال في القرن الخامس قبل الميلاد، ويمثل الشكل الذكوري المثالي في تركيبة متناغمة ومتوازنة. تعكس وضعية التمثال المعاكس والتركيز على التفاصيل التشريحية المبادئ الكلاسيكية للجمال والتوازن.

بالانتقال إلى فترة الباروك، تُظهِر لوحة "تحول القديس بولس" لكارافاجيو اندماجا بين الكلاسيكية والطبيعية الدرامية. تُظهِر هذه التحفة الفنية، التي رُسمت عام 1601، لحظة تحول القديس بولس على الطريق إلى دمشق بتأثيرات ضوئية وظلال مكثفة، مع الحفاظ على إحساس بالتكوين والنظام مستوحى من الفن الكلاسيكي.

في عالم النحت، يُعد "أبولو بلفيدير" نسخة رومانية شهيرة من تمثال يوناني كلاسيكي يصور الإله أبولو. تم إنشاء هذا التمثال في القرن الثاني الميلادي، ويجسد الجمال المثالي والرشاقة للنحت الكلاسيكي، مع تصوير أبولو في وضعية مضادة وستائر متدفقة.

في القرن الثامن عشر، تُجسِّد لوحة "قسم هوراتي" لجاك لويس ديفيد الرسم الكلاسيكي الجديد مع التركيز على الموضوعات البطولية والزخارف الكلاسيكية. تُصوِّر هذه التحفة الفنية، التي رُسمت عام 1784، مشهدًا دراميًا من التاريخ الروماني مع شخصيات قوية ومثالية وعناصر معمارية، تُظهِر التزام ديفيد بالمثل الكلاسيكية.

تُعَد "النفس المنتعشة نتيجة قبلة كيوبد" للنحات أنطونيو كانوفا تحفة فنية أخرى من الطراز الكلاسيكي الجديد تُجسِّد الكلاسيكية في النحت. يُصوِّر هذا التمثال، الذي أُنشِئ عام 1787، الشخصية الأسطورية "النفس" التي أُعيد إحياؤها بقبلة الإله كيوبيد، مع أوضاع رشيقة وتفاصيل دقيقة مستوحاة من الفن الكلاسيكي.

في القرن التاسع عشر، تُظهِر لوحة "موت ساردانابالوس" التي رسمها يوجين ديلاكروا تفسيرا رومانسيا للكلاسيكية من خلال تصويرها الدرامي والعاطفي لوفاة الملك الآشوري القديم. تُعَد هذه التحفة الفنية، التي رُسمت عام 1827، مزيجا بين الموضوعات الكلاسيكية والحساسية الرومانسية، مما يعكس انحرافا عن الأعراف الكلاسيكية الصارمة.

في عالم الفن الحديث، يعد تمثال "عصر البرونز" للنحات أوغست رودان مثالا رائعا للكلاسيكية مع لمسة معاصرة. تم إنشاء هذا التمثال في عام 1877، ويصور شخصية رجل عارٍ في وضع ديناميكي، يلتقط جوهر الجمال والمثل الكلاسيكية بإحساس بالواقعية والعاطفة التي تتجاوز الفن الكلاسيكي التقليدي.

كان للكلاسيكية في الفن تأثير دائم على كل من الرسم والنحت عبر التاريخ، مما أثر على الفنانين لتبني مبادئ النظام والانسجام والوضوح والتناسب المستمدة من اليونان القديمة وروما. توضح الأمثلة المذكورة أعلاه كيف استلهم الفنانون الإلهام من الموضوعات والموضوعات والتقنيات الكلاسيكية لإنشاء أعمال فنية خالدة

الكلاسيكية في المسرح:

الكلاسيكية في المسرح أسلوب يؤكد على النظام والانسجام والبساطة في سرد القصص وتطوير الشخصية والإخراج. وهي مستوحاة من الإغريق والرومان القدماء، وخاصة أعمال كتاب المسرح مثل سوفوكليس ويوربيديس وتيرينس. تسعى الكلاسيكية في المسرح إلى خلق شعور بالتوازن والتناسب في عرض الأعمال الدرامية، وغالبا ما تستخدم الالتزام الصارم بالوحدات الثلاث للزمان والمكان والفعل. كان هذا الأسلوب شائعا بشكل خاص خلال عصر النهضة والعصر الكلاسيكي الجديد، حيث اتبع كتاب المسرح البارزون مثل موليير وراسين مبادئه في أعمالهم.

يمكن رؤية أحد أمثلة الكلاسيكية في المسرح في مسرحية موليير "طرطوف". يتبع هذا العمل الكوميدي قصة متعصب ديني منافق يتلاعب برجل ثري وعائلته لتحقيق مكاسبه الخاصة. تلتزم المسرحية بالوحدات الكلاسيكية من خلال وقوعها في مكان واحد (منزل الرجل الثري)، على مدى فترة قصيرة من الزمن، والتركيز على حدث مركزي واحد (فضح خداع طرطوف). تلتزم الشخصيات في المسرحية بالأنماط التقليدية، حيث يمثل طرطوف الشرير المخادع ويمثل الرجل الثري الضحية الساذجة.

مثال آخر على الكلاسيكية في المسرح هو مأساة راسين "فيدر". تتبع هذه المسرحية الشخصية الرئيسية، فيدر، وهي تناضل مع حبها المحرم لابن زوجها، هيبوليتوس. النهاية المأساوية للمسرحية هي السمة المميزة للدراما الكلاسيكية، والتي غالبا ما تستكشف موضوعات القدر والعاطفة والغموض الأخلاقي. اللغة في "فيدر" هي أيضًا منظمة للغاية وشاعرية، وتلتزم باتفاقيات الأسلوب الكلاسيكي.

تؤكد الكلاسيكية في المسرح أيضا على استخدام الهياكل الرسمية في سرد القصص. على سبيل المثال، تتبع المسرحيات الكلاسيكية غالبًا بنية صارمة من خمسة فصول، حيث يخدم كل فصل غرضا محددا في تطوير الحبكة والشخصيات. يمكن رؤية ذلك في مسرحية شكسبير "هاملت"، التي تتبع البنية التقليدية للعرض، والفعل الصاعد، والذروة، والفعل الهابط، والحل. تلتزم المسرحية أيضا بالوحدات الكلاسيكية، حيث تجري في مكان واحد (قلعة إلسينور) وعلى مدى فترة زمنية قصيرة نسبيا.

تتمثل إحدى السمات الرئيسية للكلاسيكية في المسرح في التركيز على العقلانية والعقلانية في سرد القصص. يمكن رؤية ذلك في أعمال كتاب مسرحيين مثل كورنيل، الذي غالبا ما تستكشف مآسيه عواقب العاطفة المفرطة. في مسرحيته "السيد"، على سبيل المثال، يدفع شعور البطل بالشرف والواجب عمل المسرحية، مما يؤدي إلى عواقب مأساوية لنفسه ومن حوله. تقدر الكلاسيكية في المسرح فكرة ضبط النفس والمسؤولية الأخلاقية، والتي غالبا ما تنعكس في تصرفات وقرارات الشخصيات.

غالبا ما تتميز الكلاسيكية في المسرح بالتركيز على التصوير المثالي للشخصيات والمواقف. يمكن ملاحظة ذلك في أعمال كتاب مسرحيين مثل راسين، الذين تركز مآسيهم غالبا على شخصيات تكافح مع عواطف وصراعات أكبر من الحياة. في مسرحية راسين "أندروماك"، على سبيل المثال، تتمزق الشخصية الرئيسية بين حبها لابنها وواجبها تجاه زوجها المتوفى. تستكشف المسرحية موضوعات التضحية والولاء والشرف بطريقة مثالية ومنمقة للغاية.

كما تقدر الكلاسيكية في المسرح استخدام اللغة الرسمية والبلاغة المشددة في سرد القصص. يمكن ملاحظة ذلك في أعمال كتاب مسرحيين مثل كالديرون دي لا باركا، الذي غالبا ما تتميز مسرحياته بمونولوجات وخطب متقنة تعمل على رفع الدراما وزيادة التأثير العاطفي لسرد القصص. في مسرحية كالديرون "الحياة حلم"، على سبيل المثال، تتحدث الشخصيات بلغة شعرية ومنمقة للغاية، تعكس استكشاف المسرحية لموضوعات القدر والمصير والإرادة الحرة.

الكلاسيكية في النقد:

الكلاسيكية في النقد مصطلح يستخدم لوصف أسلوب نقدي يقدر الأشكال الأدبية التقليدية ويؤكد على الالتزام بالقواعد والأعراف الراسخة. غالبا ما ينظر هذا النهج في النقد إلى الماضي بحثًا عن نماذج للتميز ويسعى إلى دعم هذه المعايير في تقييم الأعمال الفنية المعاصرة. تتجذر الكلاسيكية في النقد في الاعتقاد بأن الفن يجب أن يطمح إلى صفات معينة من التوازن والانسجام والجمال، وأن هذه الصفات يمكن العثور عليها في أعمال أساتذة الماضي العظماء.

يمكن رؤية أحد أمثلة الكلاسيكية في النقد في كتابات الفيلسوف اليوناني القديم أرسطو. في عمله "الشعر"، وضع أرسطو مجموعة من المبادئ التوجيهية لإنشاء أعمال درامية ناجحة، مؤكدًا على أهمية الحبكة والشخصية والمشهد. لقد أثرت هذه المبادئ على النقاد والفنانين لقرون ولا تزال قيد الدراسة والمناقشة من قبل علماء الأدب والمسرح.

يمكن رؤية الكلاسيكية في النقد أيضا في عمل ألكسندر بوب، الشاعر والناقد الإنجليزي في القرن الثامن عشر. دعا البابا إلى العودة إلى الأشكال والقيم الكلاسيكية في الشعر، مجادلاً بأن قواعد الشعراء اليونانيين والرومان القدماء يجب أن تكون بمثابة دليل للكتاب المعاصرين. وأكدت أعماله النقدية، مثل "مقال عن النقد"، على أهمية الحرفية والوضوح وضبط النفس في الإبداع الأدبي.

وهناك مثال آخر للكلاسيكية في النقد في كتابات الناقد الفرنسي تشارلز أوغستين سانت بوف. كان سانت بوف يعتقد أن مهمة الناقد هي تقييم العمل الفني على أساس التزامه بالمعايير والتقاليد الراسخة، وليس على أساس الذوق الشخصي أو التفضيل. وزعم أن كلاسيكيات الأدب يجب أن تكون بمثابة معيار يمكن من خلاله الحكم على جميع الأعمال الجديدة.

في القرن العشرين، استمرت الكلاسيكية في النقد في كونها قوة مهيمنة في الدراسات الأدبية. وأكد النقاد الجدد، وهم مجموعة من النقاد الأدبيين الأمريكيين الذين ظهروا في منتصف القرن العشرين، على القراءة الدقيقة والتحليل الرسمي للنصوص، مستمدين من المبادئ الكلاسيكية للوحدة والتماسك والتعقيد. لقد زعم علماء مثل كلينث بروكس وروبرت بن وارن أهمية البنية والأسلوب والرمزية في تفسير الأعمال الأدبية.

ومن أشهر الأمثلة على الكلاسيكية في النقد في القرن العشرين مقال تي. إس. إليوت "التقاليد والموهبة الفردية". في هذا المقال، يزعم إليوت أن الفنانين يجب أن يكونوا على دراية بالتقاليد الأدبية التي يعملون بها وأن يسعوا إلى التعامل معها بطريقة ذات مغزى. ويقترح أن الكتاب يجب أن يستفيدوا من إنجازات الماضي من أجل خلق أعمال جديدة مبتكرة ومحترمة للتقاليد الكلاسيكية.

لا تزال الكلاسيكية في النقد تمثل نهجًا ذا صلة ومؤثرا في الدراسات الأدبية المعاصرة. وقد زعم نقاد مثل هارولد بلوم أهمية التعامل مع الكلاسيكيات من أجل فهم وتقدير الثراء الكامل للتقاليد الأدبية. وتشير نظرية بلوم حول "قلق التأثير" إلى أن الكتاب يجب أن يتعاملوا مع أعمال أسلافهم من أجل خلق فن ذي مغزى وأصلي.

الكلاسيكية في النقد نهج قيم ودائم لتقييم الأعمال الفنية. ومن خلال التأكيد على أهمية التقاليد والتوازن والجمال، تعمل الكلاسيكية كدليل للفنانين والنقاد الذين يسعون إلى خلق وتقييم أعمال ذات قيمة وأهمية دائمة. وتوضح أمثلة الكلاسيكية في النقد التي ناقشناها أعلاه التأثير الدائم للمبادئ الكلاسيكية في النظرية والممارسة الأدبية.

الكلاسيكية في الفلسفة:

الكلاسيكية في الفلسفة مدرسة فكرية تؤكد على أهمية تبني وفهم تعاليم الفلاسفة القدماء، وخاصة أولئك الذين عاشوا في اليونان القديمة وروما. يشير هذا النهج الخاص للفلسفة إلى أن حكمة ومعرفة هؤلاء المفكرين الموقرين يمكن أن توفر رؤى قيمة في القضايا والمشاكل المعاصرة. تتجذر الكلاسيكية في الفلسفة في الاعتقاد بأن أعمال الفلاسفة مثل أفلاطون وأرسطو وسينيكا صمدت أمام اختبار الزمن ولا تزال ذات صلة وقابلة للتطبيق في المجتمع الحديث.

إن أحد الأمثلة البارزة على الكلاسيكية في الفلسفة واضح في تعاليم أفلاطون. على سبيل المثال، كان لمبدأ أفلاطون للأشكال تأثير كبير على الفلسفة الغربية ولا يزال الفلاسفة المعاصرون يدرسونه ويناقشونه. يظل تأكيد أفلاطون على الطبيعة المتعالية للواقع واستكشافه للفضائل والأخلاق البشرية موضوعات خالدة ومثيرة للتفكير لا تزال تُدرس في الخطاب الفلسفي اليوم.

أرسطو، فيلسوف كلاسيكي آخر محترم، هو أيضًا شخصية رئيسية في الفلسفة الكلاسيكية. لقد كان لإسهاماته في المنطق والميتافيزيقا والأخلاق تأثير دائم على الفكر الفلسفي. إن استكشاف أرسطو للسببية وأخلاق الفضيلة ومفهوم الوسط الذهبي ليست سوى أمثلة قليلة على تأثيره الدائم على الفلسفة المعاصرة.

في عالم الأخلاق، تعد فلسفة الرواقية الكلاسيكية مثالا آخر على الكلاسيكية في الفلسفة. تؤكد الرواقية، كما عبر عنها شخصيات مثل إبيكتيتوس وسينيكا، على أهمية ضبط النفس والفضيلة والعيش وفقا للطبيعة. لا تزال تعاليم الرواقيين مؤثرة في المناقشات المعاصرة حول الأخلاق والفلسفة الأخلاقية.

تمتد الكلاسيكية في الفلسفة أيضا إلى ما هو أبعد من المفكرين اليونانيين والرومان القدماء. على سبيل المثال، غالبا ما يتم الاستشهاد بأعمال كونفوشيوس في الفلسفة الصينية كأمثلة للفكر الكلاسيكي الذي صمد أمام اختبار الزمن. لا تزال مبادئ كونفوشيوس للتقوى الأبوية واللياقة والتناغم قيد الدراسة والتبجيل في فلسفة شرق آسيا.

إن أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل الكلاسيكية في الفلسفة لا تزال ذات أهمية هو تركيزها على الحقائق الخالدة والمبادئ العالمية. غالبا ما سعى الفلاسفة الكلاسيكيون إلى الكشف عن الحقائق العالمية التي تنطبق على جميع الناس، بغض النظر عن الزمان أو المكان. وقد سمح هذا التركيز على الحقائق الدائمة للفلسفة الكلاسيكية بالبقاء ذات صلة وتأثير على مر القرون.

وهناك سبب آخر لاستمرار أهمية الكلاسيكية في الفلسفة وهو تركيزها على المبادئ الأساسية والمفاهيم الأساسية. من خلال دراسة أعمال الفلاسفة القدماء، يمكن للمفكرين المعاصرين اكتساب رؤى حول الأفكار الأساسية التي شكلت الفكر الغربي. يسمح هذا الاستكشاف للمفاهيم الأساسية بفهم أعمق لتاريخ وتطور الأفكار الفلسفية.

وعلاوة على ذلك، تشجع الكلاسيكية في الفلسفة الحوار بين المفكرين في الماضي والحاضر. من خلال الانخراط في أعمال الفلاسفة القدماء، يتمكن المفكرون المعاصرون من الدخول في محادثة مع العقول العظيمة في الماضي. لا يثري هذا الحوار فهمنا للأفكار الفلسفية فحسب، بل يسمح لنا أيضا بالنظر في كيفية تطبيق هذه الأفكار على القضايا والمشاكل المعاصرة.

تمثل الكلاسيكية في الفلسفة نهجا قيما لفهم الحكمة الدائمة للمفكرين القدماء. فمن خلال دراسة أعمال الفلاسفة الكلاسيكيين مثل أفلاطون وأرسطو والرواقيين، يمكن للمفكرين المعاصرين اكتساب رؤى ثاقبة حول الحقائق الخالدة والمبادئ الأساسية والمفاهيم العالمية. ويمكن رؤية تأثير الفلسفة الكلاسيكية في مجموعة واسعة من المناقشات والمناظرات الفلسفية، مما يدل على أهميتها المستمرة في مجال الفلسفة.

الكلاسيكية في الموسيقى:

تشير الكلاسيكية في الموسيقى إلى أسلوب محدد ظهر في أواخر القرن الثامن عشر والذي أكد على النظام والوضوح والتوازن في التكوين. يتميز هذا العصر، المعروف أيضا باسم الفترة الكلاسيكية، باستخدامه للنسيج المتجانس والأشكال البسيطة ووضوح اللحن. يُنظر إلى الملحنين الكلاسيكيين مثل هايدن وموتسارت وبيتهوفن على نطاق واسع على أنهم يجسدون مُثُل الكلاسيكية في أعمالهم.

أحد الأمثلة على الكلاسيكية في الموسيقى هي السيمفونية رقم 40 لموتسارت في صول الصغرى. تجسد هذه القطعة التوازن وضبط النفس اللذين هما السمتان المميزتان للأسلوب الكلاسيكي. تتبع السيمفونية بنية شكل سوناتا واضحة وتتميز بلحن محدد جيدا يتم تطويره طوال القطعة. يؤكد استخدام العبارات المتوازنة والعلاقات اللونية الواضحة على كلاسيكية هذا العمل.

مثال آخر على الكلاسيكية في الموسيقى هو الرباعية الوترية لهايدن في دو ماجور، أوب. 76، رقم 3. تُظهر هذه القطعة الوضوح والنظام اللذين يتميز بهما الأسلوب الكلاسيكي. تتكون الرباعية من أربع حركات، كل منها لها شكل ومزاج مميزان. يسلط استخدام هايدن للتطور الموضوعي والقوام المتوازن الضوء على المثل العليا الكلاسيكية للبنية والضبط.

سوناتا البيانو رقم 14 لبيتهوفن في دو شارب الصغرى، أوب. 27، رقم 2، والمعروفة أيضا باسم "سوناتا ضوء القمر"، هي مثال رئيسي للكلاسيكية في الموسيقى. على الرغم من عمقها العاطفي وتعبيرها، لا تزال هذه السوناتا تلتزم بمبادئ الوضوح والتوازن التي تحدد الأسلوب الكلاسيكي. يوضح استخدام بيتهوفن للدوافع المتكررة والبنية الشكلية الدقيقة إتقانه للكلاسيكية في التأليف.

يمكن رؤية الكلاسيكية في الموسيقى أيضًا في أعمال الملحنين الأقل شهرة، مثل لويجي بوكيريني. تعد خماسية الوتريات في مي ماجور، أوب. 11، رقم 5، مثالا رئيسيا للأسلوب الكلاسيكي. تتميز الخماسية بخطوط لحنية واضحة وعبارات متوازنة وبنية توافقية محددة جيدًا وهي سمة من سمات الكلاسيكية في الموسيقى.

بالإضافة إلى الموسيقى الآلية، أثرت الكلاسيكية أيضًا على الموسيقى الصوتية خلال الفترة الكلاسيكية. تعد أوبرا موتسارت "الناي السحري" مثالاً رئيسيًا للكلاسيكية في الأوبرا. تتميز الأوبرا ببنية واضحة ومتوازنة، حيث تساهم كل آريا ومجموعة في التماسك العام للعمل. يؤكد استخدام موتسارت للتقدم التوافقي البسيط والخطوط اللحنية الواضحة على المثل الكلاسيكية للنظام والتوازن.

امتدت الكلاسيكية في الموسيقى أيضا إلى عالم موسيقى الحجرة، والتي أصبحت شائعة بشكل متزايد خلال الفترة الكلاسيكية. تعد سباعية بيتهوفن في مي بيمول الكبرى، أوب. 20، مثالاً رئيسيًا للكلاسيكية في موسيقى الحجرة. تتميز السباعية ببنية رسمية واضحة، وقوام متوازن، وطاقة إيقاعية حيوية تميز الأسلوب الكلاسيكي.

لم تقتصر الكلاسيكية في الموسيقى على موسيقى الفن الغربي، بل امتدت أيضا إلى أنواع أخرى مثل الموسيقى الشعبية. يمكن رؤية التأثيرات الكلاسيكية في أعمال ملحنين مثل فيفالدي، الذين أدرجوا عناصر الموسيقى الشعبية في مؤلفاتهم. تُعَد مقطوعة "الفصول الأربعة" لفيفالدي مثالا بارزا على الكلاسيكية في الموسيقى الشعبية، بخطوطها اللحنية الواضحة وبنيتها التوافقية البسيطة.

إن الكلاسيكية في الموسيقى أسلوب نشأ خلال أواخر القرن الثامن عشر والذي أكد على النظام والوضوح والتوازن في التأليف. وقد جسد ملحنون مثل هايدن وموتسارت وبيتهوفن مُثُل الكلاسيكية في أعمالهم، والتي تميزت بهياكل واضحة وقوام متوازن وأشكال بسيطة. ويمكن رؤية أمثلة الكلاسيكية في الموسيقى في الأعمال الموسيقية الآلية مثل السيمفونيات ورباعيات الأوتار وسوناتات البيانو، وكذلك في الموسيقى الصوتية والأوبرا والموسيقى الحجرة. كما امتد تأثير الكلاسيكية إلى الموسيقى الشعبية، حيث أدرج ملحنون مثل فيفالدي عناصر من الموسيقى الشعبية في مؤلفاتهم. وبشكل عام، تمثل الكلاسيكية في الموسيقى جمالية خالدة لا تزال تلهم الملحنين والموسيقيين حتى يومنا هذا.

الكلاسيكية والوحدات الثلاثة:

ركزت الكلاسيكية على العودة إلى المبادئ الأدبية التي أسسها الكتاب اليونانيون والرومان القدماء. أحد هذه المبادئ هو مفهوم الوحدات الثلاث، وهي مجموعة من المبادئ التوجيهية لإنشاء مسرحيات منظمة ومتكاملة. تشمل الوحدات الثلاث وحدة الفعل ووحدة الزمان ووحدة المكان، والتي كان يُعتقد أنها تعزز تماسك وفعالية العمل الدرامي.

تنص وحدة الفعل على أن المسرحية يجب أن تحتوي على حبكة رئيسية واحدة بدون حبكات فرعية لا علاقة لها بالقصة الرئيسية. وهذا يضمن أن يتمكن الجمهور من التركيز على الصراع المركزي وحله دون تشتيت انتباهه بعناصر خارجية. يمكن رؤية مثال على هذا المبدأ في مأساة ويليام شكسبير "هاملت". على الرغم من وجود العديد من الحبكات الفرعية والشخصيات المعقدة، فإن الحدث الرئيسي يدور حول سعي هاملت للانتقام من عمه، كلوديوس، لقتله والده.

تتطلب وحدة الزمن أن تجري أحداث المسرحية في غضون فترة زمنية مدتها 24 ساعة، مما يعطي إحساسا بالإلحاح والفورية في سرد القصة. ومن أشهر الأمثلة على هذه الوحدة مأساة سوفوكليس "أوديب ريكس". تتكشف أحداث المسرحية على مدار يوم واحد، حيث يكشف أوديب لغز هويته ويكتشف الحقيقة المروعة عن ماضيه.

تنص وحدة المكان على أن أحداث المسرحية يجب أن تحدث في مكان واحد، مما يخلق شعورا بالخوف من الأماكن المغلقة ويزيد من حدة التوتر الدرامي. يمكن العثور على مثال على هذا المبدأ في مسرحية جان بول سارتر الوجودية "لا مخرج". تدور أحداث المسرحية بأكملها في غرفة واحدة في الجحيم، حيث يواجه ثلاثة شخصيات خطاياهم وشياطينهم الداخلية.

من خلال الالتزام بالوحدات الثلاث، تمكن كتاب المسرح من إنشاء أعمال ذات بنية محكمة ومركزة، مما يسمح بتجربة سرد قصصية أكثر تماسكًا وتأثيرًا. في حين تم ترويج هذه المبادئ التوجيهية في البداية من قبل أرسطو في كتابه "فن الشعر"، فقد تم صياغتها رسميا لاحقا من قبل نقاد عصر النهضة الإيطاليين وتبناها كتاب المسرحيات الكلاسيكية الجديدة الفرنسيون مثل كورناي وراسين.

ومع ذلك، لم تكن الوحدات الثلاث خالية من منتقديها، حيث تجنب العديد من الكتاب المسرحيين اللاحقين، مثل شكسبير والرومانسيين، هذه الاتفاقيات لصالح سرد القصص الأكثر توسعا وحرية. وعلى الرغم من ذلك، لا تزال مبادئ الدراما الكلاسيكية تؤثر على كتاب المسرح المعاصرين وتستمر دراستها وتحليلها في الأوساط الأكاديمية.

يظل مفهوم الوحدات الثلاث - وحدة الفعل ووحدة الزمان ووحدة المكان - مبدأ أساسيا للدراما الكلاسيكية ويظل نقطة خلاف ومناقشة بين العلماء والممارسين الأدبيين. بينما ينظر البعض إلى هذه المبادئ التوجيهية على أنها مقيدة ومحدودة، يراها آخرون ضرورية لإنشاء أعمال فنية منضبطة ومحكمة البناء. وفي نهاية المطاف، تعمل الوحدات الثلاث كتذكير بالتأثير الدائم للأدب الكلاسيكي على القصص الحديثة، وتستمر في تشكيل الطريقة التي نفهم بها ونقدر الأعمال الدرامية.

الكلاسيكية والتطهير:

الكلاسيكية والتطهير مفهومان أساسيان في الأدب والفن، وكانا محوريين لفهم وتقدير الأعمال الإبداعية لقرون من الزمان. تشير الكلاسيكية إلى أسلوب جمالي وفني تقليدي يؤكد على النظام والوضوح والانسجام، مستوحى من فن وأدب اليونان القديمة وروما. من ناحية أخرى، فإن التطهير هو مفهوم طوره الفيلسوف اليوناني القديم أرسطو يشير إلى التحرر العاطفي أو التطهير الذي يختبره الجمهور عند مشاهدة مأساة، مما يؤدي إلى الشعور بالتجديد العاطفي والروحي.

ثمة إحدى أشهر الأمثلة على الكلاسيكية والتطهير في الأدب في أعمال ويليام شكسبير. تعتبر مسرحيات شكسبير، مثل "هاملت" و"الملك لير"، من كلاسيكيات الأدب الغربي بسبب التزامها بالمبادئ الجمالية الكلاسيكية مثل وحدة الزمان والمكان والفعل. تقدم هذه المسرحيات أيضا أمثلة قوية على التطهير، حيث يتم نقل الجمهور في رحلة عاطفية مليئة بالأحداث المأساوية التي عاشها الشخصيات، مما يؤدي في النهاية إلى الشعور بالتحرر العاطفي والتجديد.

يمكن العثور على مثال آخر للكلاسيكية والتطهير في لوحات الفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي في عصر النهضة. تُجسد أعمال دافنشي، مثل "الموناليزا" و"العشاء الأخير"، المثل الكلاسيكية للتوازن والتناسب والانسجام، بينما تُحرك مشاعر المشاهدين أيضا من خلال تصويرها للعواطف الإنسانية والدراما. عند تجربة هذه اللوحات، قد يخضع المشاهدون لتجربة تطهيرية حيث ينجذبون إلى العوالم العاطفية للموضوعات ويشعرون بإحساس بالتحرر والتجديد من خلال انخراطهم في الفن.

تتجلى الكلاسيكية والتطهير أيضا في موسيقى الملحنين مثل لودفيج فان بيتهوفن ويوهان سيباستيان باخ. تُعتبر سيمفونيات بيتهوفن وسوناتات البيانو أعمالا نموذجية للموسيقى الكلاسيكية التي تلتزم بمبادئ الشكل والبنية والانسجام، بينما تثير أيضا استجابات عاطفية قوية من المستمعين. وبالمثل، تجمع الأعمال الكورالية لباخ، مثل "آلام القديس ماثيو"، بين الدقة الكلاسيكية والعمق العاطفي، مما يوفر للجمهور تجربة تطهيرية من خلال جمال وتعقيد مؤلفاته الموسيقية.

في الأدب والفن المعاصرين، لا تزال الكلاسيكية والتطهير تلعب دورا مهما في تشكيل الأعمال الإبداعية. على سبيل المثال، تعتبر روايات توني موريسون، مثل "الحبيبة" و"أغنية سليمان"، كلاسيكيات حديثة توفر للقراء تجربة عاطفية وفكرية غنية. تستعين أعمال موريسون بالأشكال والتقنيات الأدبية الكلاسيكية بينما تستكشف أيضا موضوعات معقدة وعميقة تتردد صداها لدى القراء على مستوى عاطفي عميق، مما يؤدي إلى تجربة تطهيرية من البصيرة والفهم.

وبالمثل، تجسد أفلام المخرجين مثل بيدرو ألمودوفار وأكيرا كوروساوا مبادئ الكلاسيكية والتطهير في مجال السينما. إن أفلام ألمودوفار الميلودرامية والمذهلة بصريًا، مثل "كل شيء عن أمي" و"تحدث معها"، تجسد المثل الكلاسيكية لسرد القصص والجماليات، في حين تستثير أيضا استجابات عاطفية قوية من المشاهدين من خلال استكشافها للحب والخسارة والفداء. وبالمثل، تستعين أفلام كوروساوا الملحمية والمشحونة عاطفيًا، مثل "راشومون" و"الساموراي السبعة"، بتقنيات وموضوعات سرد القصص الكلاسيكية، في حين تقدم للجمهور تجربة تطهيرية من التعقيد العاطفي والأخلاقي.

الكلاسيكية والتراجيديا والكوميديا:

تشير الكلاسيكية في المأساة والكوميديا إلى الالتزام بالمبادئ والهياكل التي تأسست في الأدب اليوناني والروماني القديم. تتميز هذه المبادئ بإحساس بالنظام والوحدة والتوازن في كل من الشكل والمضمون. وفي هذه الفقرة، نستكشف تأثير الكلاسيكية على المأساة والكوميديا، باستخدام أمثلة من الأعمال القديمة والحديثة.

في المأساة الكلاسيكية، نرى تأثير الكلاسيكية في مسرحيات مثل "أوديب ريكس" لسوفوكليس. تتبع هذه المسرحية البنية التقليدية للبطل المأساوي الذي يعاني من السقوط بسبب عيب قاتل. أوديب، البطل، هو ملك يقتل والده عن غير قصد ويتزوج والدته، محققا نبوءة تؤدي إلى مصيره المأساوي. تلتزم المسرحية بوحدة الزمان والمكان والفعل، حيث يحدث سقوط أوديب في غضون يوم واحد وفي مكان واحد.

وبالمثل، في الكوميديا، يمكن رؤية الكلاسيكية في أعمال مثل مسرحيات بلاوتوس وتيرينس، كاتبي المسرح الرومانيين الذين قاموا بتكييف وترجمة الكوميديا اليونانية لجمهور روماني. غالبًا ما تتميز هذه الكوميديا بشخصيات نمطية مثل الخادم الذكي والسيد الأحمق، وتتبع بنية من الهويات الخاطئة وسوء الفهم والحلول النهائية. غالبا ما تكون المؤامرات الكوميدية مدفوعة بالمصادفات وسوء الفهم، مما يؤدي إلى شعور بالنظام والحل بحلول نهاية المسرحية.

أحد المبادئ الأساسية للكلاسيكية في المأساة والكوميديا هو فكرة التطهير، أو تطهير المشاعر من خلال التجربة البديلة لنضالات وصراعات الشخصيات. في المأساة، يشعر الجمهور بالشفقة والخوف على البطل المأساوي، بينما في الكوميديا، يشعر الجمهور بالتسلية والبهجة في حل سوء فهم الشخصيات وصراعاتها. تعمل هذه التجربة التطهيرية على زيادة التأثير العاطفي للمسرحية وخلق شعور بالارتباط بين الجمهور والشخصيات على المسرح.

جانب آخر من جوانب الكلاسيكية في المأساة والكوميديا هو استخدام اللغة والأسلوب. في المأساة الكلاسيكية، غالبا ما تكون اللغة راقية وشاعرية، تعكس عظمة ونبل نضالات الشخصيات. في الكوميديا، تكون اللغة أكثر صراحة وعامية، وتعكس التفاعلات اليومية وسوء الفهم بين الشخصيات. ويعمل كلا الأسلوبين على تعزيز التأثير العاطفي للمسرحية وخلق شعور بالواقعية والأصالة في كلمات وأفعال الشخصيات.

كما تؤكد الكلاسيكية في المأساة والكوميديا على أهمية الدروس الأخلاقية في المسرحيات. غالبا ما تستكشف المآسي عواقب الغطرسة، أو الكبرياء المفرط، ومخاطر تجاهل القدر أو الآلهة. من ناحية أخرى، غالبًا ما تسلط الكوميديا الضوء على نقاط الضعف والنقائص في الطبيعة البشرية، لكنها تنتهي في النهاية إلى حلول ومصالحات تؤكد على قيم الصداقة والحب والوئام.

في الأعمال الحديثة، لا يزال تأثير الكلاسيكية واضحا في مسرحيات مثل "موت بائع متجول" لأرثر ميلر و"الزوجان الغريبان" لنيل سيمون. في "موت بائع متجول"، يكافح البطل المأساوي ويلي لومان مشاعر الفشل وعدم الكفاءة في مواجهة عالم متغير. تتناول المسرحية موضوعات الأسرة والهوية والحلم الأمريكي، وتلتزم بمبادئ البنية المأساوية والحل.

في "الزوجان الغريبان"، تعكس الكوميديا التي تدور حول الأخطاء وسوء الفهم بين زميلين غير متوافقين في الغرفة، فيليكس وأوسكار، البنية التقليدية للحبكات والحلول الكوميدية. تستكشف المسرحية موضوعات الصداقة والولاء والقبول، وتنتهي في النهاية بحل يؤكد قيم التفاهم والتسوية.

تتميز الكلاسيكية في المأساة والكوميديا بالالتزام بالهياكل والموضوعات والأساليب التقليدية التي تخلق شعورا بالنظام والوحدة والتوازن في المسرحيات. ويمكن رؤية تأثير الكلاسيكية في كل من الأعمال القديمة والحديثة، حيث يواصل الكتاب المسرحيون الاعتماد على المبادئ التي أسستها الأدبيات اليونانية والرومانية القديمة لخلق أعمال مسرحية قوية ودائمة. ومن خلال استكشاف الموضوعات والشخصيات والصراعات المأساوية والكوميدية، تستمر الكلاسيكية في التعاطف مع الجماهير وإشراكنا في الصراعات والانتصارات الخالدة للتجربة الإنسانية.

هل ماتت الكلاسيكية؟

الكلاسيكية، التي تشير إلى مبادئ وأساليب الفن والأدب والعمارة المستوحاة من الحضارات القديمة في اليونان وروما، كانت قوة مهيمنة في الثقافة الغربية لقرون. ومع ذلك، مع مرور الوقت، نشأت أسئلة حول ما إذا كانت الكلاسيكية لا تزال ذات صلة بالعالم الحديث أم أنها انقرضت تماما. سننظر في هذه الفقرة فيما إذا كانت قد ماتت حقً.

كانت الكلاسيكية أكثر بروزا خلال عصر النهضة، عندما سعى الفنانون والكتاب إلى محاكاة مُثُل الثقافة اليونانية والرومانية القديمة. كان إحياء الأساليب والموضوعات الكلاسيكية في الفن والأدب والعمارة بمثابة رد فعل ضد الجماليات السائدة في العصور الوسطى في ذلك الوقت. أدى هذا الإحياء الكلاسيكي إلى عصر ذهبي للإبداع والابتكار كان له تأثير دائم على الحضارة الغربية.

ومع دخول العالم إلى العصر الحديث، ظهرت حركات وأيديولوجيات جديدة تحدت هيمنة الكلاسيكية. أعطى صعود الرومانسية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الأولوية للعاطفة والتعبير الفردي على الشكلية وضبط النفس في الكلاسيكية. وقد أدى هذا التحول في القيم إلى تراجع شعبية الفن والأدب الكلاسيكي.

في القرن العشرين، عملت الحداثة وما بعد الحداثة على تهميش الكلاسيكية بشكل أكبر حيث سعى الفنانون والكتاب إلى الانفصال عن الأشكال والأعراف التقليدية. وكان رفض المثل الكلاسيكية لصالح الأساليب التجريبية والطليعية بمثابة إشارة إلى اتجاه جديد في الفنون، وهو الاتجاه الذي بدا وكأنه يترك الكلاسيكية في الماضي.

على الرغم من هذه التحديات، لم تنقرض الكلاسيكية تماما. لا يزال هناك فنانون وكتاب ومهندسون معماريون يستلهمون من التقاليد الكلاسيكية ويدمجون مبادئها في أعمالهم. تستمر الزخارف والموضوعات الكلاسيكية في الظهور في الفن والأدب المعاصرين، وغالبا ما يتم إعادة تفسيرها بطرق جديدة ومبتكرة.

في مجال الهندسة المعمارية، شهدت الكلاسيكية أيضا إحياء في السنوات الأخيرة، حيث عاد العديد من المهندسين المعماريين إلى الأشكال والنسب الكلاسيكية في تصميماتهم. يمكن رؤية تأثير العمارة الكلاسيكية في المباني في جميع أنحاء العالم، من المباني الحكومية إلى المساكن الخاصة.

في حين أن الكلاسيكية قد لا تكون مهيمنة كما كانت في السابق، إلا أن تأثيرها لا يزال محسوسا في جوانب مختلفة من الثقافة والمجتمع. إن الجاذبية الدائمة للجماليات والموضوعات الكلاسيكية تتحدث عن الجودة الخالدة لهذا التقليد وقدرته على التكيف مع الأوقات المتغيرة.

ربما تطورت الكلاسيكية وتغيرت على مر القرون، لكنها لم تمت. ولا تزال مبادئها وأساليبها تلهم الفنانين والكتاب والمهندسين المعماريين حتى يومنا هذا، مما يثبت أن إرث الحضارة الكلاسيكية لا يزال حيا للغاية. وطالما أن هناك أفرادا يقدرون جمال وأهمية الفن والأدب الكلاسيكي، فإن الكلاسيكية ستظل قوة حيوية وذات صلة في المشهد الثقافي.

الكلاسيكية في عصر الذكاء الصناعي:

تستكشف الكلاسيكية في عصر الذكاء الاصطناعي تقاطع المبادئ الجمالية التقليدية مع التكنولوجيا الحديثة. لطالما تم تبجيل الكلاسيكية، مع التركيز على النظام والتوازن والانسجام، كأسلوب فني خالد ودائم. ومع ذلك، مع التقدم السريع في الذكاء الاصطناعي، تم التشكيك في دور الكلاسيكية في المجتمع المعاصر. هل يمكن لمبادئ الكلاسيكية أن تتعايش مع القدرات الإبداعية للذكاء الاصطناعي، أم أنها تمثل فلسفات غير متوافقة؟ ستستكشف هذه المقالة هذه الأسئلة وتفحص كيف يمكن للكلاسيكية أن تستمر في الازدهار في عصر الذكاء الاصطناعي.

أحد المبادئ الأساسية للكلاسيكية هو التركيز على الواقعية وتمثيل الشكل البشري. لقد أحدث الذكاء الاصطناعي ثورة في الطريقة التي يمكن بها للفنانين إنشاء صور واقعية وحتى توليد أشكال جديدة من الفن. من خلال خوارزميات التعلم الآلي، يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي تحليل وتقليد خصائص أنماط الفن الكلاسيكي، مثل أعمال أساتذة عصر النهضة. أدى هذا الاندماج بين الكلاسيكية وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي إلى إنشاء أشكال فنية جديدة تطمس الخطوط الفاصلة بين التقليد والابتكار.

إن جانبا آخر من جوانب الكلاسيكية هو تركيزها على التناسق والدقة الهندسية. تتمتع تقنية الذكاء الاصطناعي بالقدرة على توليد أنماط وهياكل هندسية معقدة تتوافق مع المثل الكلاسيكية للنظام والتوازن. على سبيل المثال، يمكن أن تتضمن تصميمات العمارة التي تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي عناصر كلاسيكية مثل الأعمدة والأقواس والقباب بطريقة وفية للتقاليد والتفكير المستقبلي في تنفيذها. يوضح هذا الاندماج بين الكلاسيكية وتقنية الذكاء الاصطناعي إمكانية الإبداعات المبتكرة والمتناغمة في العصر الحديث.

كما تضع الكلاسيكية أيضا تركيزا قويا على السرد ورواية القصص في الفن. تتمتع تقنية الذكاء الاصطناعي بإمكانية تعزيز قدرات سرد القصص هذه من خلال تقنيات مثل معالجة اللغة الطبيعية والتعرف على الصور. من خلال تحليل كميات هائلة من البيانات وتوليد سرديات جديدة بناءً على الأنماط والموضوعات، يمكن للذكاء الاصطناعي مساعدة الفنانين على إنشاء أعمال فنية مقنعة ومتماسكة تتردد صداها مع المشاهدين على مستوى أعمق. يمكن أن يرفع هذا التوليف بين الكلاسيكية وتقنية الذكاء الاصطناعي إمكانات سرد القصص في الفن إلى آفاق جديدة.

أحد الانتقادات الموجهة إلى الكلاسيكية هو ارتباطها بالنخبوية والممارسات الإقصائية. إن الذكاء الاصطناعي قادر على المساعدة في إضفاء الطابع الديمقراطي على تقدير الكلاسيكية من خلال جعلها أكثر سهولة في الوصول إليها من قبل جمهور أوسع. ومن خلال محاكاة الواقع الافتراضي والتجارب التفاعلية، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يجلب الفن والعمارة الكلاسيكية إلى الحياة بطرق جذابة وغامرة للأشخاص من جميع الخلفيات. ويمكن لهذا النهج الشامل للكلاسيكية أن يعزز التقدير الأكبر لجمال وتعقيد الجمالية الكلاسيكية في عصر الذكاء الاصطناعي.

على الرغم من الفوائد المحتملة لدمج الكلاسيكية مع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، إلا أن هناك أيضا تحديات واعتبارات أخلاقية يجب أخذها في الاعتبار. على سبيل المثال، يثير استخدام الذكاء الاصطناعي في إنتاج الفن تساؤلات حول التأليف والأصالة. كيف يمكن للفنانين الحفاظ على استقلاليتهم الإبداعية ونزاهتهم الفنية في عالم حيث يمكن للذكاء الاصطناعي توليد الفن بسرعة ودقة غير مسبوقة؟ هذا التوتر بين الوكالة البشرية والحتمية التكنولوجية هو قضية أساسية يجب معالجتها في عصر الكلاسيكية الذكاء الاصطناعي.

وعلاوة على ذلك، فإن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في إنتاج الفن يمكن أن يؤدي أيضا إلى تجانس وتوحيد الأساليب الفنية. ومع تطور خوارزميات الذكاء الاصطناعي واستخدامها على نطاق واسع، هناك خطر يتمثل في أن الفن الذي تم إنشاؤه باستخدام هذه الأدوات سوف يفتقر إلى الفردية والتعبير الضروريين للتقاليد الكلاسيكية. يتعين على الفنانين إيجاد التوازن بين الاستفادة من تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي من أجل الابتكار والحفاظ على الخصائص الفريدة التي تحدد الكلاسيكية كأسلوب فني مميز.

وهناك مصدر قلق آخر يتمثل في تأثير الذكاء الاصطناعي على سوق الفن وتسليع الفن. ومع انتشار الفن الناتج عن الذكاء الاصطناعي، هناك خطر يتمثل في أن القيم الفنية التقليدية والمبادئ الجمالية قد تطغى عليها المصالح التجارية ومتطلبات السوق. ويتعين على عالم الفن أن يظل يقظا في حماية سلامة وأصالة الأعمال الكلاسيكية في مواجهة الاضطرابات التكنولوجية والضغوط الاقتصادية.

تمثل الكلاسيكية في عصر الذكاء الاصطناعي علاقة ديناميكية ومتطورة بين التقليد والابتكار. ومن خلال تسخير قوة تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، يمكن للفنانين استكشاف إمكانيات جديدة للإبداع والتعبير تتحدى وتوسع حدود الكلاسيكية. والمفتاح هو إيجاد التوازن بين تبني إمكانات الذكاء الاصطناعي كأداة للاستكشاف الفني والحفاظ على القيم والمبادئ الخالدة التي تحدد الكلاسيكية كأسلوب فني عزيز. وفقط من خلال التعامل مع هذه التعقيدات بالتفكير والاهتمام يمكن للكلاسيكية أن تستمر في الازدهار في عصر الذكاء الاصطناعي.

الخاتمة:

تبقى الكلاسيكية مدرسة أمدت البشرية بالكثير من القيم والمعارف الفلسفية التي لولاها لما تقدمت واستفاقت على قيمها الجديدة .

***

محمد عبد الكريم يوسف

.................................

مراجع مع ملخص:

1. "The Classical Tradition" by Gilbert Highet - This comprehensive study provides a detailed overview of classical literature and its influence on Western culture. Highet explores the works of Greek and Roman authors, as well as their impact on later writers and thinkers.

2. "Classical Mythology" by Morford and Lenardon - This book offers a comprehensive overview of Greek and Roman mythology, tracing its origins and development through ancient literature. The authors provide detailed analyses of key myths and their significance in classical literature.

3. "The Norton Anthology of Classical Literature" edited by Bernard Knox - This anthology presents a wide selection of ancient Greek and Roman texts, including works by Homer, Virgil, Ovid, and Sophocles. Knox's insightful commentary provides context and interpretation of these classic works.

4. "The Birth of Tragedy" by Friedrich Nietzsche - In this seminal work, Nietzsche explores the origins and evolution of Greek tragedy, arguing that it emerged from the tension between Apollonian and Dionysian forces. The book offers a provocative interpretation of classical aesthetics.

5. "The Classical World" by Robin Lane Fox - This book provides a comprehensive overview of ancient Greece and Rome, covering their history, culture, and literature. Lane Fox offers a detailed analysis of key texts and authors from classical antiquity.

6. "Classical Literary Criticism" edited by T.S. Dorsch - This collection of essays features critical writings by ancient Greek and Roman authors, including Aristotle, Horace, and Longinus. The book offers valuable insights into the principles of classical literary theory.

7. "The Oxford Dictionary of Classical Myth and Religion" by Simon Price and Emily Kearns - This comprehensive reference work provides detailed information on Greek and Roman mythology, religion, and culture. The book offers concise entries on key figures, events, and concepts from classical antiquity.

8. "The Poetics of Aristotle" translated by Malcolm Heath - Aristotle's "Poetics" is a foundational text in classical literary theory. Heath's translation provides a clear and accessible rendition of this influential work, which examines the principles of drama and poetry.

9. "Classical Literature: An Introduction" by Michael Grant - This introductory textbook offers a comprehensive survey of classical literature, covering major authors, genres, and themes. Grant provides a concise overview of key works from ancient Greece and Rome.

10. "The Cambridge Companion to Classical Literature" edited by Helen Morales - This collection of essays offers a diverse range of perspectives on classical literature, covering topics such as epic poetry, tragedy, and satire. The contributors highlight the enduring relevance of classical texts in contemporary literary studies.

1) إن أهمية الشعور وحضوره الفعلي الحقيقي لدى المؤمنين بالله ورسوله يمثل المرتع الخصب لتأسيس المنهج السليم لمعرفة النفس معرفة دقيقة وحيوية، وسيستنبط من خلاله ما ورد في السيرة النبوية، من ممارسة للرسول صلى الله عليه وسلم، ميدانية، عن طريق التزكية والتربية لأصحابه، قصد الحفاظ على توازنهم الشعوري والإدراكي المستنير ومراقبتهم الذاتية ومراجعتهم إياه عندما يحدث طارئ على شعورهم.

يقول الله تعالى: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم"[1]، "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم"[2]، "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا"[3].

كما نجد هذه الآيات الخاصة بالتعامل مع الرسول صلى الله عليه وسلم والمنبهة على بعض السلوكيات التي توقع صاحبها في مرحلة غير شعورية قد لا يستفيد عندها من التزكية النبوية وآثارها، يقول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم.يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون.إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم".[4]

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على طبيعة التربية النبوية وطرق الاستجابة من طرف الصحابة حتى يتحقق لديهم الشعور المطابق لمقتضيات الحقيقة الشرعية والوجودية.

2) هذه الممارسة النبوية للتربية والتزكية كانت تأخذ عدة صور: منها ذات الطابع التمثيلي والبياني ومنها ذات البعد الإلقائي والإيحائي المباشر وغيره.

ففيما يخص التمثيل والرسم البياني سنجد أعظم خطاطة ورسم بياني لطبيعة النفس الإنسانية يحددها النبي صلى الله عليه وسلم حسا في وصف حالتها بين الشعور وغير الشعور ووضعية الإنسان بين العالم المرئي وغير المرئي، وذلك لكي يكون دائما على أهبة وصحوة نفسية شعورية لتقبل هذا العارض أو ذاك.

وهذا البيان سنجده في كتب الحديث صيغة ورسما كما روى البخاري عن عبد الله رضي الله عنه قال: "خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعا وخط خططا في الوسط خارجا منه، وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط وقال: هذا الإنسان وهذا أجله محيط به أوقد أحاط به، وهذا الذي خارج أمله. وهذه الخطط الصغار الأعراض.فإن أخطأه هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا "[5].وعن أنس بن مالك قال : خط النبي صلى الله عليه وسلم خطوطا فقال: هذا الأمل وهذا أجله فبينما هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب"[6]. وقد رسم ابن التين هذه الخطط على الشكل البياني التالي:

أما البيانات التي قد تأخذ صورة الإلقاء المحض مع تحديد طرقه وأبعاده السلوكية فنجد الرسول صلى الله عليه وسلم في أسلوبه التربوي والتوجيهي لإيقاظ النفوس وتزكيتها يوظف عدة طرق كلها تهدف إلى ترسيخ الشعور النفسي عند الإنسان وهي مرتكزة على عدة قواعد أذكر من بينها: قاعدة التكرار، والتخوُّل بالموعظة، والتفاؤل، والملاحظة الخارجية وغيرها.

فعن قاعدة التكرار نجد حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه" كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه وإذا أتى على قوم سلم عليهم ثلاثا"[7]. وهذا التكرار قد يكون محدودا حتى يؤدي وظيفته وأثره النفسي وإلا كان التفاعل معه من باب الملل والسآمة.

لهذا فقد نجد النبي صلى الله عليه وسلم يؤسس قاعدة أخرى ضابطة للقاعدة الأولى وهي التخوُّل بالموعظة، أي الوعظ على فترات منفصلة نسبيا من حيث الزمن حتى يبقى أثر التكرار راسخا ولا يعرض المتلقي إلى الملل والسآمة، وهذا ما يمكن فهمه من الحديث عن ابن مسعود قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم. يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السامة علينا "[8].ولقد اقتدى الصحابة بهذا المنهج فكان بعضهم لا يعظ إلا مرة في الأسبوع .

أما القاعدة الأخرى فهي قاعدة الأمل والتفاؤل، وهي ذات مغزى نفسي كبير قد تحد من القلق والتوقعات الوهمية عند الإنسان، إذ الأصل المطلوب هو التيسير والسكينة والاطمئنان كما جاء في القرآن والحديث الدلالة على ذلك وترسيخه.

ففي القرآن نجد قول الله تعالى: "يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين استجابوا لله والرسول من بعدما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم. الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضل عظيم، إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين"[9].

كما نجد عدة أحاديث تؤسس لقاعدة السكينة والاستبشار والتفاؤل وذلك إما بواسطة الوعظ أو بواسطة الرؤى أو الاختيارات الاسمية واللقبية وما إلى ذلك .

ففي الوعظ مثلا نجد حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا"[10].

أما الاستبشار بالرؤى والتفاؤل بها، فعن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره"[11].

إذ ستصبح الرؤى ممثلة لمدرسة نفسية في حد ذاتها ومرشدا سلوكيا قد يدرك الشخص من خلالها مستواه الشعوري ومدى مطابقة تصرفاته لمقتضيات الحق. كما أن عالم الرؤى ستكون له أبعاد توقعية على عدة مستويات منها الحالة النفسية ووضعية القلوب، ومنها ذات البعد الاجتماعي والاقتصادي وحتى السياسي، وسيؤدي الاهتمام بها إلى سلوك منهج تحليلي عند المسلمين[12]، هو في حد ذاته تحليل نفسي راقي سيصطلح عليه بتعبير الرؤى.

إذ نجد نماذج لهذه الأبعاد في قول الله تعالى: "إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور، وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وإلى الله ترجع الأمور"[13]، "وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا"[14].

***

الدكتور محمد بنيعيش - أستاذ الفكر والعقيدة

وجدة المغرب

............................

[1] سورة التوبة آية 103

[2] سورة الجمعة آية 2

[3] سورة الأحزاب آية

[4] سورة الحجرات آية 1-3

[5] رواه البخاري في كتاب الرقاق

[6] رواه البخاري في كتاب الرقاق

[7] رواه البخاري في كتاب الإيمان

[8] رواه البخاري في كتاب الإيمان

[9] سورة آل عمران آية 171-175

[10] رواه البخاري في كتاب الأدب

[11] رواه البخاري

[12] محمد عثمان نجاتي: القرآن وعلم النفس ص 206

[13] سورة الأنفال آية 44-45

[14] سورة الإسراء آية 60

 

مقدمة: أولا وقبل كل شيء، ما هي المشكلة التي تثيرها العلاقة القائمة والممكنة بين الانسانية وارتكاب الشر للأغيار؟ لأن الشر أنواع: في البداية هناك الشر الميتافيزيقي: ويتعلق بتكوين العالم وترتيب الأشياء والأحداث في العالم. في هذه الحالة، نحن نتحدث عن النقص في العالم. بعد ذلك هناك الشر الأخلاقي: فهو يصف تصرفات البشر، وبشكل أكثر تحديدًا، الفعل الذي لا يتوافق مع ما "يُحسن" القيام به (الفعل الذي لا يتوافق مع "القانون الأخلاقي"). الخطيئة، الجريمة. في حين أن الشر الجسدي في مستوى ثالث: يصف مشاعر الإنسان في مواجهة الشر الأخلاقي والشر الميتافيزيقي: المعاناة والحزن والبؤس...سؤالنا بالطبع يتعلق بالشر بالمعنى الأخلاقي، لأنه يتعلق بفعل الإنسان. الشر هو ما يعارض الخير الأخلاقي، وهو ما يقتضيه القانون الأخلاقي. ولفظ "أريد" يشير إلى الإرادة، وإلى مبدأ العمل و/أو اختيار هذه المبادئ. ويفترض الضمير والحرية. إذا كنت أريد شيئًا فذلك لأنني أقرر بحرية، لا شيء أي: لا العواطف، ولا اللاوعي، ولا الجهل يمكن أن يكون الأصل ولا أي شخص ينمو هناك. إن السؤال عما إذا كنا قادرين على إرادة الشر يعني بالتالي: هل يمكننا أن نفعل الشر عن علم، وبحرية، مع العلم أن ما نفعله هو شر؟ أم أننا لا نفعل الشر إلا بسبب العمى، أو بسبب أهوائنا، أو بسبب تاريخنا الماضي، من خلال عدم إدراكنا حقًا لفعل الشر؟ وهي تشير ضمنًا إلى أنه يبدو من المستحيل أن ترغب في فعل الشر، أو فعل الشر مع العلم أنه شر، أو فعل الشر من أجل فعل الشر. ومن الواضح أنها لا تزال تفترض مسبقًا أن الفرضية التي بموجبها يمكن للمرء أن يرغب في فعل الشر هي فرضية غير مفهومة وغير محتملة، لأن المخاطر مهمة، لأنه اعتمادًا على إجابة السؤال، سنقود إلى الاعتراف بوجود اناس غير إنسانيين أو أن ذلك الانسان ليس كما كنا نظن. هل نفعل الشر لأننا في الأساس "انسان سيء"، منحرف، وحش، وشيطان؟ هل هناك إرادة شريرة؟ أم يجب أن نقول إن هناك بشرا ليسوا بشرًا، وبالتالي فإن حقيقة الشر تعني الاعتقاد بوجود كائنات غير إنسانية؟

أولا- الجهل سبب فعل الشر

لا يمكننا أن نفعل الشر إلا إذا كنا جاهلين: لقد رأينا أن طريقة طرح السؤال تعني أننا لا نستطيع أن نريد أن نفعل الشر، أي أننا لا نستطيع أن نريد أن نفعل الشر من أجل الشر. ومن أجل معرفة الأسباب التي يمكن أن نقدمها لهذه الاستحالة، سندرس الحجج الأكثر كلاسيكية لصالح هذه الأطروحة. نجد نوعين من الحلول "غير الإرادية": 1) الأطروحة الأفلاطونية: من يفعل الشر لا يعرف ماذا يفعل، وهو مخطئ: يريد أن يفعل الخير، لكنه يخطئ في الشر بالخير ظاهريًا جدًا بوضوح في نصين لأفلاطون: بروتاجوراس، 352ب-357أ؛ مينون، 77ب-78أ. بالنسبة لأفلاطون، من يعرف الخير يفعله بالضرورة، ويتجنب الشر. لذلك نحن لا نفعل الشر طوعا أبدا. ملاحظة: تشير أطروحة أفلاطون إلى التعاليم السقراطية، التي تسمى "الفكر الأخلاقي" (الأطروحة التي بموجبها لا يمكن للمرء أن يعرف الخير ولا يفعله). ولكن ماذا يعني "لا إرادياً"؟ وسوف نميز بين ثلاث حالات: أضع السيانيد في قهوة زوجي معتقداً أنها سكر: طوعاً يعني هنا لا عمداً، بسبب الجهل. أدفع وأكسر مزهرية عندما أسقط: لا إراديًا يعني هنا أيضًا غير عمد، حتى لو لم يكن هناك جهل. أضع السيانيد في قهوة زوجي تحت تهديد السلاح: هنا، قسرا يعني دون جهل، عمدا، ولكن، دون إرادة حرة. ما يقوله أفلاطون في محاورة مينون، 78 أ هو أننا يمكن أن نفعل الشر دون قصد. فمن الواضح أن الذين يجهلون ذلك لا يرغبون في الشر، بل يرغبون في الأشياء التي ظنوا أنها خير والتي هي شر، حتى أن الذين لا يعرفون أن الأمر شرير والذين يؤمنون به، كن جيدًا، من الواضح أنك ترغب في الخير، أليس كذلك؟

مسار البرهنة على الدعوى:

إذا أراد أحد شيئًا سيئًا، فهو إما أن يعرف أنه سيئ أو يعرف أنه جيد؛

فإن اعتقد أنه خير، فإنه لا يرغب في شر؛

فإن اعتقد أنه أمر سيء، فإن رغبته هي الرغبة في الحصول على شيء سيء؛

فالشرور تضر من يحصل عليها وتجعله بائسا؛

إذا اعتقد شخص ما أن شيئًا سيئًا، فإنه يعتقد أن الحصول عليه سيجعله بائسًا؛

لا أحد يريد أن يكون بائسا (الجميع يريد السعادة)؛

لذلك لا أحد يرغب في ما يظنه سيئًا.

نجد هذه الحجة عند بروتاغوراس، في شكل أكثر تطورًا (352ب-357أ): يبدأ أفلاطون هنا من المبدأ الذي بموجبه تعتبر المتعة خيرًا. هذه الأطروحة في حد ذاتها ليست أفلاطونية، لأنها لا تدخل نظرية الأفكار في الإشكالية الأخلاقية. ما يهم أفلاطون هنا هو دحض الجمهور. ومن الواضح أن الفكر السقراطي يرتبط بشكل مباشر بشكل من أشكال النخبوية. وترتكز الحجة على نقطتين أساسيتين:

استيعاب الخير باللطيف والشر بالكريه، وهو ما يسمح لأفلاطون بإظهار أنه من السخافة أن نقول إننا نفعل الشر بينما نسعى للخير (ما لم يكن ذلك غير ارادي)؛

فكرة حساب الملذات والآلام: يجب ألا نعتبر الممتع أو المزعج فقط في لحظة معينة، بل مع مرور الوقت. من "تغلب عليه اللذات" لا يفعل الشر وهو يعلم أنه يفعله، لأنه لم يتمكن من حساب العلاقة بين اللذة والألم، أي بين الخير والشر.

عند أفلاطون، من يفعل الشر لا يريده، بل هو ضحية الوهم: يريد الخير، خيره، سواء فُهم على أنه متعة أو سعادة، فهو يفعل الشر، ويأخذه من أجل الخير. لا نستطيع أن نريد الشر، بل الخير فقط. هذا التفسير للشر الأخلاقي يعني القول بأن أصله موجود في الدوافع، في اللاوعي، في العاطفة. ليس في العقل، أو في الجزء الانعكاسي الذكي من روحنا. على سبيل المثال، إنها رغبة مفاجئة، دافع غير متحكم فيه، من شأنه أن يدفع المجرم إلى الاغتصاب، ويمنعه من التفكير في طبيعة فعله الجيدة أو السيئة. يريد ذلك، وهذه الرغبة تغلب العقل..

2  حجة الحتمية: المجرم مبرمج بيولوجيًا/وراثيًا لفعل الشر

هذه هي الأطروحة "العلمية" للأنثروبولوجيا الإجرامية في القرن التاسع عشر (لومبروسو، لو غال)، التي تؤكد ذلك. المجرم لديه عقل معيب. فهو يقتل بميل طبيعته. هناك مزاج إجرامي (وبالتالي: لقد ولدنا مجرمين). العواقب: سنقوم باستبدال القاضي بالعالم. تختفي فكرة العدالة (وما يرتبط بها من أفكار الحرية والمسؤولية) إذا لم يكن الإنسان حرًا في فعل الشر. المجرم هو شخص معيب وغير طبيعي – وحش أو شخص غير إنساني.

3) المراجعات: قد يعترض أفلاطون على أنه لا يوجد شيء يثبت أن الإنسان يفعل الخير بشكل أساسي، ولا يمكنه إلا أن يفعل الخير - أي أن إرادة الإنسان "خير في حد ذاته". بادئ ذي بدء، هذا غير قابل للإثبات. ثم تفترض أن الإنسان عازم على فعل الخير، وبالتالي فهو ضد الحرية. وأخيرًا، ألا يعني القول بأننا لا نفعل الشر إلا عذرًا مقدمًا لكل السلوك السيئ، وكل الجرائم، وبالتالي إعفاء المجرم من المسؤولية؟ لماذا لا يكون الإنسان حراً في الاختيار عن علم بين الخير والشر؟

ثانيا- احتمال سوء النية كواجب

لأنه من المريح للغاية، والمطمئن للغاية، أن نصدق أننا، البشر "الطبيعيون"، الذين لا نفعل الشر أبدًا، لن نفعل الشر أبدًا. لأن الوحوش والمجانين وما إلى ذلك هم فقط من يفعلون الشر. وعلينا بعد ذلك أن نسأل أنفسنا سؤالين:هل يمكن أن تكون هناك رغبة في فعل الشر من أجل الشر؟ أي هل يمكننا أن نفعل الشر بحرية وعن علم؟ فهل هذا الشر سوف يكون شيطانيا بالضرورة؟ هل يعني ذلك أن الإنسان "الشرير" هو شيطان، وحش، وشخص غير إنساني؟

للإجابة على هذه الأسئلة، سنناقش مع كانط وأرندت.

أ- فرضية إرادة الشر ضرورية لكي نتمكن من الحديث عن الشر الأخلاقي (كانط)

يساعدنا كانط في كتابه الدين في حدود العقل البسيط (الفصل الأول، 1 إلى 3)، على الإجابة على هذين السؤالين، ويأخذ في الاعتبار الصعوبات التي يطرحها الحل الكلاسيكي. كيف يمكن حساب الشر الأخلاقي؟ بوضع أصله في الميول الحساسة أم في الحرية؟ إنها مسألة معرفة ما هو مطلوب حتى يتمكن المرء من التحدث عن الشر "الأخلاقي" وليس فهم كيف يمكن للإنسان بحرية أن يرتكب الشر.

1) ما هو الشر الأخلاقي؟

سيسعى كانط إلى تحليل مفهوم "الشر الأخلاقي" في حد ذاته من أجل حل مشكلة أصله/إسناده. للإجابة عليه، يجب علينا أولا أن نسأل أنفسنا ما هي الأخلاق، وما هي شروطها التي لا بد منها. يكون الفعل أخلاقيًا إذا لم يتم فرضه: فالأخلاق تفترض حرية اتخاذ القرار بفعل شيء ما، وقبل كل شيء تحدد النية، وليس الفعل. لذلك، إذا قتلت شخصًا عن غير قصد، دون أن أقصد قتله، وبسبب ظروف خارجية (سواء كانت عرضية بحتة أو أكثر أو أقل، مثل الحالة التي تلي تناول الكحول وما إلى ذلك)، فلا يمكننا أن نتحدث عن فعل أخلاقي، ولا حتى، وبالتالي، ، من الشر الأخلاقي. هذا الشر ليس أخلاقيا، لأنه لا يعتمد علينا. ولا ينسب إلينا. يمكننا بالأحرى أن نتحدث عن شر ميتافيزيقي، إذا استخدمنا مصطلح لايبنتز. لذلك: إذا كان الشر يسمى أخلاقيًا، فلا يمكن أن يكون أصله ميولًا حساسة ورغبات وما إلى ذلك. في الواقع، تفترض الأخلاق الحرية، التي تتعارض مع الطبيعة. لكن الميول الحساسة تشير إلى الجانب الطبيعي/الحيواني/الغريزي في كياننا، وليس إلى الحرية! نحن لسنا المؤلفين، وبالتالي لسنا مسؤولين عن وجودها. لكي نتمكن من الحديث عن الشر الأخلاقي، يجب أن يكون أصل الشر هو الحرية. يتم تضمين هذا في المفهوم ذاته. لذلك فإن الشر الأخلاقي يصف الفعل الذي لا يتعارض مع القانون فحسب، بل أيضًا وقبل كل شيء، والذي يقوم على مبدأ شرير أي: القرار بالتصرف بشكل مخالف للقانون الأخلاقي، وانحراف القانون الأخلاقي. وقول: "الانسان سيء"، لا يمكن أن يعني إلا: "أنه عالم بالقانون الأخلاقي، ومع ذلك فقد اعترف في مبدأه بالانحراف عنه في هذه المناسبة". هذا يعني أن من يفعل الشر دون أن يعرفه/يريده حقًا، الشرير الأفلاطوني، ليس شريرًا حقًا. مبدأ أفعاله لا ينحرف.

2)  إذا كان الشر الأخلاقي يفترض الحرية، فهل هناك إرادة شيطانية؟ هل الإنسان شيطان؟

لذلك، لتوفير أساس للشر الأخلاقي في الإنسان، فإن الحساسية تحتوي على القليل جدًا؛ لأنها، بإزالة الدوافع التي يمكن أن تنشأ عن الحرية، تجعل الإنسان حيوانًا محضًا؛ ولكن من ناحية أخرى، فإن السبب الذي يحرر من القانون الأخلاقي، الخبيث بطريقة ما (إرادة سيئة للغاية) يحتوي على الكثير من العكس، لأنه بهذا سترتفع معارضة القانون إلى مرتبة الدافع (لأنه وبدون دافع (لا يمكن تحديد المحكم) ويصبح الموضوع بالتالي كائنًا شيطانيًا. ولا تنطبق أي من الحالتين على البشر. إذا كان كانط يساعدنا على التفكير في مشكلة الشر الأخلاقي، فذلك لأنه يوضح لنا أنه ليس لدينا الحق في القول إن الإنسان لا يستطيع أن يريد الشر، أي أنه لا يستطيع أن يفعل الشر طوعًا، وحرية، وعن علم؛ ولكن أيضًا، لم يعد يحق لنا أن نقول إن الإنسان الذي يفعل الشر لديه إرادة شريرة تمامًا. من شأن الإرادة السيئة تمامًا أن تتجاهل كل القوانين الأخلاقية، لكننا لا نستطيع أن نفترض غيابها لدى أي إنسان. إن الإرادة الشريرة تمامًا ستكون من عمل الشيطان، وليس من عمل رجل موهوب بالعقل. يمكننا أن نعتقد أنه إذا كانت الفرضية الأولى تؤدي إلى إضعاف الإنسان، فإن الثانية تقع في نفس الخطأ، لأن الإنسان لن يكون حرًا في فعل الشر: سيكون سيئًا، هذا كل شيء. وهكذا يسمح لنا كانط بعدم إعفاء أنفسنا مرة أخرى من مسؤوليتنا/حريتنا، بالقول إن من يرتكب الشر الأخلاقي هو فاسد، وحش، وشيطان. باختصار ليس انسانا. ومع ذلك، فإنه لا يسمح لنا بالذهاب أبعد من ذلك. بالنسبة له، في الواقع، أصل الشر لا يمكن فهمه. ويظل الشر الأخلاقي لغزا لا يمكن للعقل الوصول إليه. نود أن نفهم بشكل أفضل طريقة عمل الشر الأخلاقي، أي أن نحاول فهم ما يمكن أن يقود "الإنسان" إلى ارتكاب الشر. لأنه إذا كان مرتكب الشر ليس أقل من إنسان ولا "غير إنسان" حيوان/شيطان، أفليس هناك إنسان يستطيع أن يرتكب الشر؟ (على عكس ما يوحي به التفسيران الكلاسيكيان للشر.

ب- تفاهة الشرعند حنة أرندت

سننتقل الآن، للإجابة عليه، إلى الشخص الذي فكر أكثر من غيره في الشر في قرننا، والذي أثار جدلًا كبيرًا: إنها أرندت. من هي حنة أرندت؟ ولدت عام 1906 في هانوفر لعائلة يهودية، وتوفيت عام 1975. وكانت تفكر بشكل أساسي في السياسة، وفي العمل الإنساني بشكل عام (المفاهيم الأساسية: السلطة، والتعليم، والحرية، والديمقراطية، وما إلى ذلك). في تفكيرها السياسي، تستمد الكثير من الإلهام من القدماء (وخاصة أرسطو). وهي مشهورة بشكل خاص بعملها "أصول الشمولية" الذي يحكم جميع أعمالها. إنها تتأمل في آلية الشمولية، التي ترى أنها منقوشة في عمل مجتمعاتنا. في القرن العشرين، عادت مسألة الشر إلى الظهور بطريقة جعلت فكرة الشر ضرورة أخلاقية عمليا. لقد اتخذ الشر في الواقع شكل فضيحة، شكل ما لا يمكن إصلاحه، ولكنه أيضًا، على ما يبدو، شكل ما لا يمكن تصوره: فهو متطابق تمامًا مع المحرقة، مع إبادة الشعب اليهودي (أو "الحل النهائي"). كيف حقا أن نفكر في المحرقة؟ كيف نفهم ونفسر القتل الجماعي، الجريمة ضد الإنسانية؟ شر غير مسبوق، شر أعلى، شر غير مفهوم؟ ردت أرندت على هذا التأكيد، في مقالتها التي تحمل عنوان "أيخمان في القدس"، بأطروحة تسببت في سكب الكثير من الحبر: الشر، الذي يجب أن نفكر فيه الآن تحت صورة الجريمة ضد الإنسانية، هو "عادي". إنها أطروحته وانتقاداته التي سنستكشفها الآن.

1) قضية" أيخمان

أ) من هو أيخمان؟

أيخمان هو مقدم في قوات الأمن الخاصة، "متخصص في المسألة اليهودية". كان مسؤولاً عن طرد اليهود من الرايخ بين عامي 1938 و1941؛ ومن عام 1941 إلى عام 1945، قام بتنظيم ترحيل اليهود من أوروبا إلى معسكرات الاعتقال. وهو يطلق على نفسه اسم "الخبير المسؤول عن المسائل الفنية المتعلقة بالنقل" (وسائل النقل المعنية بالطبع هي وسائل النقل لليهود في معسكرات الاعتقال ...). اعتقلته المخابرات الإسرائيلية في بوينس آيرس عام 1960، وحوكم في القدس عام 1961، ثم حكم عليه بالإعدام. عن ماذا يسألنا؟ والسؤال هو ما إذا كان أيخمان، الذي يؤخذ هنا على أنه "عينة" للرجل الذي يرتكب الشر الأعظم، كان واعيًا بارتكاب الشر. وقبل كل شيء، يتعلق الأمر بالإجابة على سؤال ما إذا كان أيخمان انساناً "عاديًا" أم وحشًا. هذان هما السؤالان الكبيران اللذان تثيرهما مشكلتنا الأولية، كما رأينا أعلاه. كيف يمكن لأيخمان أن يصل إلى هذا؟ هذا ما تسعى حنة أرندت إلى معرفته/فهمه في عملها. بهذه الطريقة، تتناول أرندت الأسئلة الكلاسيكية وسوف تسمح لنا بلا شك بالإجابة على مشكلتنا.

ب) أيخمان، وحش: تفسير توافقي

أولاً، يجب التوضيح أن التفسير الذي تمكنا من تقديمه لسلوكه، أثناء محاكمته، يندرج في البديل الذي استنكره كانط، وبشكل أكثر دقة، ينضم إلى أحد التفسيرات الرئيسية للفعل السيئ أخلاقياً: وهكذا، فإن المدعي العام قدمه على أنه تجسيد للشيطان: سيناريو فيلم متخصص: "المدعي العام هاوزنر: سيداتي وسادتي، حضرة المحكمة الموقرة، أمامكم يقف مدمر شعب، وعدو للبشرية. لقد ولد رجلاً، لكنه عاش مثل الوحش في الغابة. لقد ارتكب أفعالاً شنيعة. أفعال مثل أولئك الذين يرتكبونها لم تعد تستحق أن تسمى رجلاً. لأن هناك أفعالاً خارجة عن التصور، وهي على الجانب الآخر من الحدود التي تفصل الإنسان عن الحيوان. وأطلب من المحكمة أن تعتبر أنه تصرف بمحض إرادته، بحماسة ولهفة وعاطفة، حتى النهاية! ولهذا أطلب منك الحكم على هذا الرجل بالإعدام. فيما يتعلق بمشكلتنا، وهي معرفة ما إذا كنا قادرين على إرادة الشر، نرى هنا أنه نعم، يمكننا إرادة الشر، لكن هذا يضعك في مستوى وحش، أو وحش. أي: من يريد الشر من أجل الشر، وهو قادر على الاستمتاع به، فهو "إنسان" غير إنساني. وهذا يرتبط إذن بالفرضية الثانية التي دحضها كانط أعلاه (وهي الإرادة الشريرة/الشيطانية المطلقة). دعونا نحدد أن هذا التفسير الكلاسيكي لقضية أيخمان يتوافق مع التفسير الكلاسيكي المماثل لـ "الحل النهائي": تم جعل هذا الحدث غير المسبوق مقدسًا، تحت اسم "المحرقة"، وأعلن أنه لا يمكن تصوره، ولا يوصف، وباختصار، يهرب بطبيعته. من كل فهم. إن الرغبة في فهم المحرقة هي بمثابة التقليل من شأن الشر، إنها فضيحة. في الواقع، أن نفهم يعني أن نضع أنفسنا في مكان ما نريد أن نفهمه، وهذا من شأنه أن يرقى إلى وضع الشر الذي نسعى لفهمه في داخلنا.

2) أيخمان، شخص عادي: تفسير حنة أرندت

أرندت، المتوافقة إلى حد ما مع كانط، تضع نفسها على خلاف مع هذا الموقف الذي يتم الدفاع عنه بشكل شائع. في الواقع، مثل كانط، تؤكد أن أيخمان لم يكن ضحية المشاعر الشريرة، وأنه لم يكن "رجلًا سيئًا"، أو شيطانًا، أو وحشًا، أو حتى "كائنًا غير إنساني"، بل كان رجلاً عاديًا "طبيعيًا". ، مثلي ومثلك. وهكذا ترسم لنا، عبر عملها، صورة رجل عادي، يتميز بغياب الفكر (التأمل) وبالاستخدام المستمر للغة النمطية، والكليشيهات المعيارية. لقد كان أيضًا موظفًا نموذجيًا، وبيروقراطيًا دقيقًا. وهناك بالتحديد تكتشف أرندت "مصدر" تصرفات أيخمان. إنه شخص عادي ضحية نظام... الذي هو أساس عمل مجتمعنا (البيروقراطية، السلطة المطلقة للدولة - على الرغم من حقوق الإنسان لدينا... -، المجتمع الجماهيري، حيث يأخذ الإنتاج والكفاءة الأسبقية على الفرد، وإنزالها إلى مرتبة الوسيلة). إن كل هذه الخصائص التي تتميز بها حضارتنا تساهم في الواقع في إبادة ضمير الإنسان، حيث يُفهم الضمير كمبدأ للتفكير وكمبدأ للتفكير في الخير والشر. التوافق مع المجموعة، والعمل بشكل جيد ولكن كل واحد في مكتبه، والطاعة للأوامر ضمن التسلسل الهرمي (وما إلى ذلك): وفقًا لأرندت، كل هذه الخصائص هي التي كان من الممكن أن تجعل الرجال، وخاصة أيخمان، يرتكبون ما لا يمكن إصلاحه. "لقد غزا نمط تنظيم المجتمع الصناعي المجتمع بأكمله: حياة مجزأة، ومهام مجزأة، ووعي مجزأ". هناك رابط وثيق يوحد العقلانية التقنية مع الفصام الاجتماعي والأخلاقي للقتلة، أيخمان وستانجل والآخرين، الذين كانوا حلقات في سلسلة من جرائم القتل، لكنهم في أغلب الأحيان لم يعتبروا مهمتهم مشكلة فنية بحتة التخصص البيروقراطي هو أساس غياب الشعور بالمسؤولية الذي يميز الكثير من القتلة والمتواطئين معهم، ويعطل الضمير الأخلاقي. لكن كن حذرا، فإن أرندت لا تعذرهم، بعيدا عما تعرضت لانتقادات بسببه. في الواقع، إنها تلومهم لأنهم لم يعرفوا كيف يفكرون حتى أنهم توقفوا عن التفكير حرفيًا. وهذه هي الجريمة التي تكمن في أصل الجريمة ضد الإنسانية. إن فهم ذلك يسمح للأجيال القادمة بعدم القيام بنفس الشيء مرة أخرى. دعونا نفكر! دعونا نمارس ضميرنا! دعونا نحذر من المجموعة! هذه هي الرسالة التي أرادت ح. أرندت أن تقدمها لنا. الدرس المستفاد من التاريخ: يمكننا جميعًا أن نفعل الشيء نفسه، فنحن جميعًا أيخمان محتملون...

ب) تجارب ميلجرام: إلى أي مدى يمكن أن يأخذنا الخضوع للسلطة؟

هذا ما تظهره لنا تجارب علم النفس الاجتماعي الشهيرة، التي أجراها في الخمسينيات أستاذ علم النفس الأمريكي ستانلي ميلجرام. الغرض من هذه التجارب: دراسة كيفية الخضوع لسلطة معترف بها كسلطة شرعية، وهي في هذه الحالة السلطة العلمية. مما تتكون هذه التجارب؟ تحت ستار التحقيق في التعلم والذاكرة، طلب ميلجرام وفريقه من الرجال والنساء تطبيق صدمات كهربائية ذات شدة متزايدة على الأشخاص الذين من المفترض أن يتم اختبار قدراتهم على الحفظ. كان على هؤلاء الأشخاص، المقيدين على كرسي، مع قطب كهربائي متصل بذراعهم، أن يعيدوا إنتاج قوائم من الذاكرة لأزواج الكلمات التي تمت قراءتها لهم. كل خطأ جديد يرتكبه الشخص يعاقب عليه بصدمة كهربائية أقوى من سابقتها. في الواقع، كانت التجربة مزورة: تمت محاكاة الصدمات الكهربائية، وذلك بفضل آلة رائعة تضم 30 رافعة تتراوح من 15 إلى 435 فولتًا، وكانت مصحوبة بكلمات تتراوح بين "صدمة خفيفة" إلى "تحذير: صدمات خطيرة"؛ كان الأشخاص على دراية بالألم وقاموا بتقليده. وبالتالي فإن ما كان يتعلق بالاختبار لم يكن في الواقع قدرات التعلم لدى المشاركين، بل طاعة "السادة" أو حتى لسلطة معترف بها كشرعية، هنا، العلماء. النتائج: ثلثا الأشخاص الذين تم اختبارهم تعاونوا حتى النهاية، أي حتى أعلى مستوى من الصدمة، حتى لو فعلوا ذلك في حالة من القلق وحتى الاحتجاج. ماذا يمكن أن نتعلم من هذه التجارب؟ أن "الناس العاديين، الخاليين من كل عداء، يمكنهم ببساطة، من خلال القيام بمهمتهم، أن يصبحوا عملاء لعملية تدمير مروعة". الأشخاص الحقيقيون الذين شاركوا في تجربة ميلجرام لم يمارسوا التعذيب فعليًا، لكنهم اعتقدوا أنهم فعلوا ذلك. كان هذا العنف منفرًا لديهم، وقالوا ذلك، لكن غالبيتهم وافقوا على أن يكونوا عملاء له، وأن يفوضوا مسؤوليتهم الشخصية إلى الجامعة. وفي صراع القيم الذي وضعوا فيه، وضعوا الشرعية التي تمنحها السلطة العلمية قبل المبادئ الأخلاقية التي كانوا على علم بخيانتها.

3) ما هو الاستخفاف الحقيقي بالشر؟ هل يكمن في تحريم فهمه ، أم في البحث عن تفسيره؟

هل تستهين أرندت بالشر، وهل تنكره، كما تعرضت للانتقادات؟ على العكس من ذلك، فإن الذين يتهمونه بالتقليل من شأن الشر هم الذين يرتكبون جريمة الفكر، من خلال اختزال واجب الذاكرة في كونها مجرد مشهد، وليس تفكيرا. راجع السطور الأخيرة من "في مديح العصيان": "عندما يتحول الحدث السياسي إلى خبر مثير للشفقة، تشل الشفقة الفكر، ويتحول التطلع إلى العدالة إلى عزاء إنساني. وهنا يكمن استخفاف الشر". ومن الخطر أن نقول، مثل لانزمان، إننا لا ينبغي لنا أن نفهم الشر، بحجة أن الرغبة في فهمه تضع أنفسنا في مكان المجرمين. في الواقع، أليس من المطمئن أن نعتقد أن المجرمين يحملون في داخلهم شرا فطريا نحن مستثنى منه مسبقا؟ أليس هذا في نهاية المطاف، بالإضافة إلى الشعور بالأمان، خطرًا، لأنه أيضًا فقدان اليقظة تجاه ما يمكن أن يقودنا إلى فعل الشر؟

خاتمة

"هل يمكننا أن نفعل الشر؟" على هذا السؤال، قادنا للإجابة بنعم. إنه يزعجنا، هذا صحيح. ولكننا رأينا أن قول العكس يؤدي إلى إضعاف صاحب الأفعال السيئة. وأنا أصر على أن فرضية أرندت، التي تدعم تفاهة الشر، لا ترقى إلى مستوى تبرير أيخمان، بل على العكس من ذلك. تتهمه بالتوقف عن التفكير. اذا كان الجريمة ضد الانسانية شر لا يمكن نسيانه وغير قابل للتقادم والصفح فلماذا تستمر الدول الاستعمارية الامبريالية في ارتكابها ضد الشعوب التي تناضل من اجل تقرير مصيرها بنفسها؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.....................

المصادر والمراجع:

Arendt, Eichmann à Jérusalem, rapport sur la banalité du mal, Folio Essais, 1966 (écrit après le procès d’Eichmann)

G. Bensoussan, Auschwitz en héritage ? -D’un bon usage de la mémoire, 1001 Nuits, Les Petits Libres, 1998

R. Brauman et E. Sivan, Eloge de la désobéissance –A propos d’un " spécialiste " Adolf Eichmann, Le Pommier, 1999 (contient le script du documentaire Un spécialiste, sorti en salles en 1999)

Kant, La religion dans les limites de la simple raison, Chapitre I, Vrin

C. Lanzmann, Shoah, Folio Essais (tiré du film, sorti en 1985)

Leibniz, Essais de théodicée, Folio

P. Levi, Si c’est un homme

S. Milgram, Soumission à l’autorité, Calman Levy, 1974

Platon, Ménon ; Protagoras ; La République ; Phèdre

Revault D’Allonnes, Ce que l’homme fait à l’homme, Essai sur le mal politique, Champs Flammarion, 1999

Shoah (article), in Encyclopédie universelle.

الصفحة 1 من 6

في المثقف اليوم