دراسات وبحوث
علي أسعد وطفة: المثقف الطائفي
1- مقدمة:
في غضون الأحداث الدامية المأساوية التي تقضّ مضاجع المنطقة العربية وتهدد مصير الأمة وكيانها الوجودي، ظهرت أسراب متنوعة من "المثقفين" الطائفيين الذين خطفوا الأضواء وتقدموا الصفوف فضجت بهم الأرجاء. وقد عرف هؤلاء "المثقفون" بحمولتهم الطائفية الثقيلة، فنصّبوا أنفسهم حماة لطوائفهم زائدين عنها أو مهاجمين للطوائف الأخرى على مبدأ الهجوم الطائفي خير وسيلة للدفاع. وقد تميّز هؤلاء الدعاة الجدد بقدرة هائلة على إثارة التعصب الطائفي، وتأجيج الكراهية المذهبية، وبثّ الفرقة والحقد بين أبناء الوطن الواحد، ومن ثمّ الدعوة إلى تكفير الآخر، الذي يشكل منطلق دعوتهم إلى سفك الدماء والإبادة المذهبية والإقصاء.
وقد انتشرت السموم الفكرية لهؤلاء الدعاة عبر محطات التلفزيون وصفحات المواقع الإليكترونية الصفراء انتشار النار في الهشيم، وتدفقت همجية دعوتهم في مختلف الأرجاء والأنحاء. وبعبارة أخرى، ظهرت هذه الطائفة "السوفسطائية الجديدة" من أجل تأجيج الفتن والحضّ على الكراهية الطائفية والتحريض على مختلف منازع التعصب بلونيه المذهبي والطائفي، فاحتلت أسماؤهم عرض الصفحات في المواقع الإلكترونية ومقام الأولويات في "مانشيستات" الصحافة المرذولة الصفراء.
وفي هذا الزمن المفجع المحزن، الذي هزمته غوائل الطائفية، وعصفت بأركانه أمواج الحقد المذهبي، أصبحت الثقافة الطائفية التي يبثها هؤلاء الدعاة موضة ثقافية رائجة تستهوي القلوب وتنتعش لها النفوس اليائسة والقلوب البريئة. وفي أرداف هذا التعسف الإنساني والبؤس الأخلاقي، وعلى إيقاعات هذا الواقع المأساوي استطاع فرسان الثقافة الطائفية، وركّاب أمواجها، أن يصبحوا من المعروفين في ميدان الثقافة الطائفية، وأن يأخذوا مكان الشهرة في أروقتها وتضاريس حضورها! وقد امتهن هؤلاء الطامحون موجة الحقد الطائفي كوسيلة للارتقاء الثقافي والتألق الفكري والصعود السياسي. وكما يقول المثل: لكل عصر دولة ورجال وقد انبرى هؤلاء ليمثلوا هذا العصر الطائفي بدولتهم الفكرية ورجولتهم الطائفية فأصبحوا بامتياز أبطال هذا العصر وفرسان زمانه.
وتتمثل وظيفة هؤلاء "المثقفين" الطائفيين الجدد في صب الزيت على النار الطائفية وإذكاء توقدها ونشاطها، فهم يذرعون في نفوس الناس الخوف والكراهية والحقد والنزعة إلى الثأر الطائفي عبر مقولاتهم وأفكارهم وتصوراتهم الجهنمية، ثم يختلقون القصص والروايات ويزورون التاريخ والحوادث ويؤججون المشاعر ثم يدعون إلى القتل والاقتتال تحت عنوان الكراهية الطائفية والحقد المذهبي الأرعن اللعين.
ومن المؤكد أن خطاب الحقد الطائفي والدعوة إلى الفتنة والاحتراب أصبحت تستهوي شرائح واسعة من أبناء المجتمع كنتاج طبيعي للقهر والظلم والمعاناة والتصفية التي تتعرض لها جموع كثيرة من البشر في عصر مجنون أرعن لا يرحم فيه الطغاة ولا يلينون.
2- تكوين المثقف الطائفي:
لا نستطيع أن ننكر اليوم أن هذا النوع من المثقفين الطائفيين الجدد يشكلون ظاهرة ثقافية اجتماعية جديدة لها أبعادها في الساحة الفكرية، وهذه الظاهرة تحتاج إلى تحليل سوسيولوجي معمق من أجل الكشف عن الحقيقة التائهة في أغوار الظروف الاجتماعية التي تحيط بهم فتفعم إلى مستنقع التعصب والتمذهب.
وإذا انطلقنا من المنطلق الثقافي لمعنى المثقف ودلالته فإنه لمن البداهة بمكان أن نقول: لا يمكن للمثقف الحقيقي أن يكون طائفيا؟ فالثقافة الحقيقة تتنافر كليا مع الفكر المذهبي والطائفي وأي فكر معادي للإنسانية. ويمكن أن نطلق على دعاة الثقافة من هذا النمط الطائفي "المثقفين" الطائفيين ولطالما وضعنا كلمة المثقف بهذا المعني ضمن مزدوجتين للدلالة على التحفظ في إسقاط هذه الكلمة على جماعة من المهووسين والساقطين دعاة الطائفية والمذهبية والحقد والكراهية.
ومن الطبيعي أننا عندما نتأمل في بنية المثقفين الطائفيين، وفي تكوينهم سنجد بأن هؤلاء الدعاة أبعد ما يكونون عن أي دلالة للثقافة بمعناها الإنساني، فهم أجهل الناس بأبجديات الثقافة الحقيقية، ومسلمات التفكير الصحيح، ومع ذلك استطاعوا أن يغرقوا الساحة الفكرية بسمومهم الفكرية ليحتلوا مكانا هاما في الساحة الثقافية بين مثقفي الطائفة والمذهب.
فهؤلاء المثقفين يمثلون في جوهر أمرهم نمطا من "المثقفين" الذين تصلبوا ضمن قوالب الفكر الطائفي المتعصب الذي يتصف بأنه ذاتي التوليد ذاتي الاكتفاء، والذي ينبثق من صلب مسلمات موروثة عمياء تعلو فوق النقد والنقض والتشكيك والتجريب. ويمكن أن نصف فكرهم وما يصدر عنه بأنه فكر واليقين والتصلب والجمود. وهو فكر الرفض للآخر لكل، وضمن هذا التصور المخيف لا يملك هؤلاء إلا القدرة على تطوير أدوات الدفاع عن الذات الطائفية بهمجيتهم المعروفة، أو بناء أسلحة الهجوم الطائفي والمذهبي للقضاء على الآخر الطائفي أو المذهبي واستئصال وجوده، إنهم يرفعون طوائفهم وعقائدهم إلى درجة المقدس ويطهمون هذا المقدس بكل أدوات المنع والقطع والتحريم، ويجعلون من المساس بالطائفة التي عنها ينافحون مساسا لا يغتفر بالمقدس، وهكذا فإن الهجوم على الطوائف الأخرى يعد أمرا مقدسا وضرورة شرعية مشروعة يقتضيها الدين وتفرضها الأخلاق وينادي بها الوجدان. وهم في سياق ذلك يدعون إلى استئصال الآخر وتدميره وإفنائه واجتثاث وجوده بناء على تصورهم المقدس للجهاد الطائفي المقدس ضد الآخر ووجوده.
ومن الطبعي أنك عندما تقرأ فيما يكتبون، وفيما إليه يذهبون تجد درجة طاغية من الجهل وفقدان العقلانية والمنطق والقيمة الأخلاقية، وتلمس بوضوح غياب أي ثقل ثقافي أو فكري يدل على أبسط أبجديات الفكر والثقافة والعقلنة.
وليس غريبا أن هؤلاء ظهروا في ظل الأحداث الدموية الأخيرة في سوريا والعراق ولبنان، كما أنهم نبتوا كالفطر البري في ميدان الثقافة الطائفية تحديدا لا بعدها ولا قبلها. وهذا يعني أنك لن تجد لهم أي أثر من قبل في المستوى الثقافي والفكري ما قبل الأحداث أو خارج ميدان الطائفية التي برعوا فيها. ومن الطبيعي أنك لن تجد لهم أثرا في عصر ما بعد الطائفية لأنهم ولدوا ضمن هذه المشروعية الطائفية وهم أبناؤها الشرعيون وستسقط مشروعيتهم مع سقوط المشروع الطائفي في المنطقة.
وعندما تأملنا في أحوال هؤلاء "المثقفين" الطائفيين الجديد وجدنا أمورا كثيرة تسترعي الانتباه ومنها:
- معظم هؤلاء المثقفين لم يسبق لهم أن قاموا بأي إنتاج علمي وثقافي خارج حدود التحريض الطائفي. وهذا يعني البداية الفكرية انطلقت من منصات الفكر الطائفية تحريضا على المذهبية الطائفية.
- معظم هذه الأسماء (المتألقة طائفيا) لم يكن لها حضور فكري أو ثقافي سابق وإنما ارتهن ظهورهم إلى هذه المرحلة البائسة من الحرب الأهلية التي اتخذت أبعادا طائفية ومذهبية.
ولو بحثنا عن السبب في هذا كله لوجدنا كامنا فيما يلي:
-أن هؤلاء "المثقفين" كانوا ضحية تربية طائفية مذهبية رعناء رسخت فيهم هذا الإحساس المتعاظم بالحقد والكراهية المذهبية.
- ضعف الثقافة الفكرية وهشاشتها فهؤلاء غالبا لا يملكون أي ثقافة حقيقية تتصل بالإنسانيات بصورة عامة (تاريخ فلسفة جغرافية أدب).
- تعرض أغلب هؤلاء " المثقفين" لمعاناة اجتماعية تتمثل بالتهميش والظلم والدونية ولم تتوفر لهم فرص موضوعية في المشاركة الحقيقية في الحياة الاجتماعية.
- أثناء الأحداث الأخيرة تعرض بعض هؤلاء "المثقفين" إلى ظروف مؤلمة بعضهم فقد أحبته وتضرر بعضهم الآخر إنسانيا وماديا.
وباختصار لا تتوافر في دعاة الثقافة الطائفيين أي شرط من شروط الثقافة الحقيقية في مجال الإنتاج والإبداع والتراكم الثقافي المعروف في المثقفين الحقيقيين.
3- سمات "المثقف" الطائفي الجديد:
المسألة ليست صعبة على الإطلاق أن يكون المرء مثقفا طائفيا! كل ما يحتاج إليه المرء أن يصعد مراكب الطائفية والعنصرية التي تنتشر اليوم في عرض البحار وفي مجرى الأنهار. فالمؤسسات الثقافية والإعلامية التي تقوم بتصنيع الطائفية والطائفيين تبحث لها عن زبائن بصورة مستمرة ودائمة وبأرخص الأزمان،
يحتاج المثقف الطائفي إلى عشرة شروط أساسية:
1- أن يمتلك مشاعر طاغية من الحقد والتعصب والكراهية الطائفية.
2- أن يكون راغبا في ركوب الموجة الطائفية من أجل الشهرة.
3- أن يمتلك القدرة على تأجيج المشاعر الطائفية والنفخ في نار الفتنة.
4- أن يمتلك قليلا من الثقافة المهنية والقدرة المبدئية على الكتابة.
5- أن يجد الوسيلة الإعلامية التي تأخذ بيده إلى الشهرة والمجد وتشجعه على المضي في هذا الاتجاه.
6- أن يكون على درجة عالية من الجهل في قضايا الحياة الفكرية والاجتماعية. أم يكون شرسا مسعورا في مواجهة الخصوم وأن يكون قادرا على إثارة الحقد الطائفي والمذهبي.
7- ألا يكون قادرا على التأمل عقلانيا أو موضوعيا في أي قضية من قضايا الحياة الفكرية والاجتماعية.
8- أن يكون بلا وازع أو ضمير أخلاقي، وأن يمتلك القدرة الهائلة على السباب والشتم واللعن والتجريح والتسفيه واحتقار الآخر والطعن في معتقداته، وتكفيره، وصب اللعنة عليه والدعوة إلى استئصاله وتجريمه ونبذه ورفضه وقتله وإبادته.
9-أن ينتحل لقبا علميا وكثير من هذه الألقاب غالبا ما تكون مزيفة فهناك عشرات الألوف اليوم من الشهادات المزيفة والمنحلة.
10- أن يرى نفسه ممثلا لطائفته ومذهبه وأن ينفرد بهذا الشعور دون خلق الله أجمعين وأن يمتلك في الوقت نفسه القدرة على الهجوم والتضليل الأخلاقي والفكري.
هذه هي الشروط الأساسية للمفكر الطائفي الجديد في عصر الانفجارات الطائفية الجديدة في المنطقة.
ومن المؤكد أن ما لا يحتاج ليه هذا النوع من المثقفين هي أمور مثل: المنطق العقلانية الإحساس الوطني القيمة الإنسانية الاطلاع أو الثقافة الحقيقية.
4- التصنيع الإعلامي للمثقف الطائفي:
عادة ما يكون الإعلام الإليكتروني مسحورا بالفتنة الطائفية والمذهبية، وهذا النوع من الإعلام الرخيص يعمل على تلبية مطالب الجموح الطائفي من أجل المزيد من الانتشار والحضور والإقبال الجماهيري. وضمن هذا التوجه الإعلامي دأبت بعض محطات التلفزة والمواقع الإليكترونية الجديدة على نشر الإثارات والفتن والفضائح والسموم دون أدنى درجة من درجات الحياء والخجل. وهذه المواقع - وحالها كما هو حال المثقفين المتعطشين للشهرة – تبحث لها عن الحضور والشهرة في عالم متمرد غير عقلاني عالم فقد القدرة على التمييز والنظر في عالم محمل بالويلات والمصائب والهموم.
وكما هو معروف، هذا الزمن هو زمن الانفعالات والغرائز والميول والتعصب، وخير وسيلة إلى ميدان الشهرة والمجد يكون في نشر هذه السموم التي تأخذ شكل فضائح وتحريض وصراعات طائفية وعرقية وتخويف. وباختصار تعتمد هذه المواقع والصحف الإليكترونية الصفراء والإذاعات ومحطات التلفزة على الإثارة في عالم الميديا. والفكر الطائفي والمذهبي يشكل اليوم موضة غنية بالإثارة والإقبال. ومن هذه الزاوية تنشط هذه المحطات التلفزيونية والصحف وهذه المواقع في هذا الميدان الطائفي المذهبي. وأصحابها أي أصحاب هذه المواقع يبحثون عن هؤلاء المأفونين أصحاب الفكر الطائفي ويعملون على صقلهم وترويجهم وتقديمهم للقراء بوصفهم أبطالا وفرسانا للمرحلة الجديدة.
ومهما بلغت التسفيف عند هؤلاء "المثقفين" وضعف المنهجية، وحضور الجهالة في كتاباتهم، وغياب أدنى جرعة من المنطق الصحفي أو الأخلاقي أو الثقافي، يسارع أصحاب هذه المواقع إلى نشرها مهما كانت رخيصة وتافهة وعفنة وصدئة دون أي تردد.
ومما لا شك فيه أننا نعتقد تماما بأن هذه المواقع وهذه الصحف ممولة جيدا لجهات أمنية وسياسية هدفها ترويج الطائفية والمذهبية في بلادنا بصورة واضحة وهذا لا يخفى على بشر إذ سرعان ما أصبح أصحاب هذه المواقع والمحطات التلفزيونية من أكثر الناس ثراء وقوة ونفوذا في المرحلة.
إذن هذه الوسائل الإعلامية تنشر الفوضى الطائفية وتعزز المذهبية وهي إن لم تجد طلابا لها بحثت عنهم وبدأت بتصنيعهم. حتى أنها تعتمد أسلوب التحريض وتصدم بها بعض المثقفين من أبناء الطوائف.
وتعتمد هذه المحطات الإعلامية منهجية مضللة عبر دينامية إغراق الدسم بالسم في مختلف نشاطاتها التحريضية التي تدعو للتحريض المذهبي. وكم يشتكي بعض المفكرين من لجوء هذه الصحف والمواقع إلى إظهار بعض المثقفين الأخلاقيين بمظهر طائفي، إذ يمكن لمجلة أن تأخذ رأيا لمفكر في قضية سياسية ما ولكنها ودون مسبق علم للمفكر تضمن هذه المادة طابعا مذهبيا وتأخذ هذه المادة دعاية طائفية أو إعلامية. كأن تشهر الصفة الطائفية لهذا المفكر دون أن يؤخذ رأيه بدون وجه حق وفي ذلك يكون المثقف قد وقع في المصيدة الطائفية لا حول له ولا قوة في ذلك.
في إحدى المرات تواصلت مع رئيس تحرير مجلة إليكترونية وقلت له: أنتم تنشرون لكاتب متسلق مقالات طائفية بغيضة وهي لا تمتلك أي قيمة علمية أو فكرية فلما تفعلون ذلك؟ فأجابني بصراحة هذا الرجل يريد مكانا تحت الشمس ونحن نقدم له الفرصة في أن يكون فما المانع؟ وكنت قد أجبته أين هي المهنية والأخلاق فعادة مثل هذه المقالات يجب أن تخضع للمراجعة والنقد والمساءلة الأخلاقية. أجابني صديقي اليوم نحن في عالم اللاعقلانية في عالم الغرائز والميول البدائية. وقال لي بالحرف الواحد: " هذا المعتوه اللي مو عاجبك عدد متابعيه يعادل متابعي وقراء كل من كتبه المفكرون العرب منذ عصر النهضة حتى اليوم". وأنا على ثقة بأن هؤلاء المثقفين الطائفيين يجدون التشجيع والتحفيز المستمر من قبل هذه المجموعات الإعلامية الباحثة أيضا عن الضوء والشهرة والإثارة.
نعم يا سادتي لقد وصلنا إلى الزمن القبيح.. الزمن الذي تم فيه تدمير القيم الإنسانية، زمن مخيف مرعب تم فيه تغييب الأخلاق وتسطيح العقل وتسخيف الجمال والحق والخير، وتهميش الإنسان.. إنه الزمن الاغترابي، الذي قال فيه المتنبي يوما شاكيا:
أذُمُّ إلى هذا الزمانِ أُهَيلَهُ
فأعلمُهُم فَدمٌ وأحزمُهم وغدُ
وأَكرَمُهم كلبٌ وأَبصرُهم عَمٍ
وأَسهدُهم فهدٌ وأَشجعُهم قِردُ
ومن نَكدِ الدنيا على الحرِّ أن يرى
عدوّاً لهُ ما من صداقتِهِ بُدُّ.
5- خلاصة:
تلك هي أحوال المحنة في عصر التعصب والمحن، إذ يغيب فيه العقل وتنتفض الغرائز، ويختفي المنطق، وتنطلق الانفعالات، وينفلت شيطان الكراهية، إنه في زمن الاستلاب والاغتراب، وهو الزمن الذي يغيّب فيه العقل، وتُدّك الثقافة الحقيقية بمياسم العتاة والطغاة، وتنتشر الفوضى الأخلاقية، إنه الزمن الذي انطلقت فيه شياطين المذهبية المجنونة والطائفية الحمقاء، ولا أحد يستطيع أن يقف في وجه التيار الجارف الذي يأخذنا جميعا إلى الجحيم. في هذا الزمن الذي تولت زمام أمره جموع كبيرة كثيرة من "المثقفين" المزيفين والمفكرين المزعومين ورجال الإعلام ورجال الثقافة والفكر الذين يؤججون النار المذهبية ويقذفون كل القيم في جحيم الانحدار الطائفي والتصدع المذهبي. ورحم الله الزهاوي حين استشعر الأمر فقال:
ويحسب قوم في التعصب رشدهم..
... ما أهلك الأقوام غير التعصب
ومن يتأمل في لحظة صفو وعقلنة، سيجد بأن هذا الفكر الطائفي العنصري المذهبي، يمثل الطاقة الكبرى التي تنذر بهلاك الأمة وذوبانها واندحارها، إنه الأداة الجهنمية الذي تدمر بها الأوطان وتطحن وجودها، إنه جحيم هذه الأمة وجمرة تدميرها. ونحن نقول في دعاة الفتنة التي غابت ضمائرهم طلبا للشهوة والمجد والشهرة نقول فيهم جميعهم كما وصفهم أبو العيناء رحمه الله:
تَعِسَ الزمانُ لقد أتى بعجاب
ومحا رسـوم الظرف والآداب
وافى بكتاب لو انبسطت يدي فيهم
رددتهم إلى الكتّاب.
لا يعرفون الجريدة جردت
ما بين عتاب إلى عيّاب
جيـل من الأنـــــعام إلا أنهم
من بينها خلقـوا بلا أذناب
لا يعرفون إذا الجريدة جُرّدت
ما بين عيّاب إلى عتّاب
وسمعت من غثِّ الكلام ورثّه
وقبيحه باللحن والإعراب
ثكِلتك أمُّك هبْك من بقر الفلا
ما كنت تغلط مرة بصواب!
واسمحوا لي أن أختتم مقالتي بتجربة الألمان في رفض الجنون المدجن بالثأر والموت والهزيمة والبحث عن منهج الحياة والتسامح والكمال أن أورد هذه المقطوعة المأثورة التي تتعلق بتجربة الألمان في الخروج من جحيم الحرب والثأر، وخلاصة هذه التجربة الإجابة عن سؤال يطرح على عموم الألمان فيما بعد الحرب العالمية الثانية، الألمان الذي أبدعوا من جديد وشيدوا حضارة جديدة تقوم على التسامح ونسيان أحقاد الماضي، وهذا هو الحال إذ عندما يُسأل الألمان: لماذا بلدكم جميل وعظيم؟.. يجيبون قائلين: خرجنا من الحرب لنتعلّم كيف ندفن الثارات، ونجعل بلادنا وطناً حدوده السماء.. تعلّمنا كيف نغادر عصر البكاء على الأطلال، ونبني خراب الحروب، ونستبدل الثكنات بناطحات السحاب.
فهل نستطيع يوما أن نفعل ما فعله الألمان وغيرهم من الأوربيين، هل نستطيع دفن الثارات الطائفية والمذهبية؟ هل نستطيع أن نجعل بلداننا موطنا للحب التسامح تاركين عصر البكاء على الماضي والأضرحة والآباء والأجداد؟ هل يستطيع المثقفون الأحرار أن يجمعوا كلمتهم في مواجهة هذا الجنون الطائفي الفتاك اليوم؟ هل يستطيعون مواجهة هؤلاء الأقزام الذين اتخذوا صورة عمالقة فتكا بالناس وتدميرا للقيم والأخلاق؟ هل تعود الكلمة لأصحابها إلى هؤلاء الذين تمرسوا بالفضيلة والقيمة الأخلاقية العليا من أجل بناء المواطنة والإنسان ؟
ودعنا نقول في اختتامية هذه المقالة مع سعد الدين كليب تنديدا بالطائفية وأهلها قولا جميلا جدير بأن يكتب بخلجات الروح والنفس الإنسانية : "
"كلّما لوّثتَ فمك بالكلام الطائفي، لوّثتَ أيدي سواك بالدمّ.
كلّما طالبتَ بالثأر الطائفيّ، جززتَ رقبةَ طفلٍ، أو بقرتَ بطن امرأة.
قبل أن تدعو إلى الثأر الطائفيّ، تذكّر أنك ارتجفتَ من مشهد المذبحة.
ثمنُ الكلمة الطائفية قتلُ أخيك أو اغتصاب أختك الآن أو غداً.
مشهد المذبحة يدعوك إلى ألاّ تكون وحشاً أو مجرماً أو داعية دماء.
اختر مستقبل السلام لا مستقبل المذابح الوحشية "
وسلام الله عليكم .
***
بقلم: علي أسعد وطفة