دراسات وبحوث
أياد الزهيري: الإسلام ومجال أشتغالاته في السياسة (4)
أشرنا في الحلقات السابقة الى المصدر الرئيسي والتأسيسي للقواعد والضوابط الكلية للفقه السياسي الإسلامي، وفي هذه الحلقة من الدراسة نُشير الى مصدر ثالث بعد القرآن والسنة، وهو العقل، والذي يعتبر مصدر من المصادر التأسيسية للقواعد الكلية العامة في التشريع الإسلامي، والذي ينسحب بدوره الى الدائرة الخاصة أيضاً في التأسيس للقواعد الكلية في الفقه السياسي . العقل عند أكثر المدارس الإسلامية السنية منها والشيعية يُعتبر أحد مصادر التشريع، فهو أداة تستنبط الحكم الشرعي من النص المقدس، وهو أداة لبناء قاعدة كلية يُشرع من خلالها أحكام شرعية في منطقة الفراغ التشريعي، وقد أشارت أحد رسائل البحث المقدمة الى جامعة بغداد في تعريف للقاعدة العقلية كما عرفها الشهيد محمد باقر الصدر (بأنها كل قضية يدركها العقل، ويمكن أن يستنبط منها حكم شرعي)(رسالة القواعد العقلية وأثرها في أصول الفقه عند الأمامية السيد محمد باقر الصدر إنموذجا:حسين علي جاسم) . إن العقل يساهم في أتساع عدد القواعد الكلية في الفقه العام والسياسي بالخصوص، وهذا يفتح المجال واسعاً، ويعطي فضاءً كبيراً للفاعل السياسي بأن هناك أدوات يمكنه الأستعانه بها في كل الحالات والمجالات، أي يعطيه الأفق الأوسع والقابلية الأكبر في التعامل مع كل الأحداث في الواقع الحياتي المتغير دوماً، فالشارع المقدس منح العقل فرصة ملء الفراغ المتروك من قِبل الشارع المقدس لأسباب لها علاقة بطبيعة الحياة ذات الطابع المتغير والمتحول، أعتقاداً بالعقل بما يحمل من آليات منطقية، وهذا العقل أيضاً كما يقول الدكتور محمد عمارة في مقابلة له في برنامج الشريعة والحياة حيث يقول إن الرؤية الإسلامية للفقه السياسي مربوطه بمقاصد الشريعة، بالأضافة الى أن الأصوليون يقولون بصحة الملازمة بين العقل والشرع، وهي(كل ما حكم به الشرع حكم به العقل، وهذا معناه أن كل فعلٍ حكم به الشرع بوجوبه لأشتماله على المصلحة الملزمة أو حكم بحرمته لأشتماله على المفسدة الملزمة، لو أدرك العقل ذلك الملاك فلا جرم يحكم بحسن الأول وقبح الثاني وهذا ظاهر)(أصطلاحات الأصول ص280 : المشكيني الأردبيلي).
أذن الكليات المستنده على النص بمفردها لا تستوفي كل الوقائع العديدة والمتغيرة، وذلك بدليل ترك الشارع للفقيه منطقة فراغ يمارس فيها العقل نشاطه، ولم يترك للعقل وحده حرية أطلاق الأحكام لقصوره في تناول وفهم كل أبعاد الأنسان، أضافة للنزعات البشرية التي تتنازعه، وما يحمله من أفكار مسبقة، ونسبية فهم، حيث يركز غلادمير على أن الأفق الذهني للمفسر يتحوّل ويتطور ويتبدل دائماً طيلة حياة الأخير (الهرمينوطيقا وإشكالية التغير: د. مصطفى عزيزي ص77)، كما أن الميول المكنونة في اللاوعي الإنساني تلعب دور في أحكامه، وهذا ما حدى بديورانت بالقول (بأن العقل ليس المرجع النهائي في الحكم على الأمور) كما أن روسو يقول بأسبقية الشعور على العقل)(جريدة الرياض العقل عند كانط:يوسف أبا الخيل:18 نوفبر 2015). أذن يتضح لنا إن الإنسان لايمكن أن يصل الى الحياد التام، وهذا ما أكدته الهرمينوطيقا الفلسفية، التي أكدت نسبية الفهم، وتعدديته، ولتوضيح أمر العقل وأرتباط حكمه بالجذر الأخلاقي لأحكام الشريعة، نقتبس مما جاء في مقالة لماجد الغرباوي في القدس العربي تحت عنوان (العقل الأخلاقي وعلاقته بالتشريع الصادرة في 14 نوفبر 2023 م (أن العقل وفقاً للأتجاه الأخلاقي قادر علىى أكتشاف الجذر الأخلاقي لأحكام الشريعة، ومباديء تشريعها، بل حتى ملاكاتها ...ويمكنه التشريع في ضوئها لملء الفراغ التشريعي الذي يشمل جميع مناحي الحياة ماعدا العلاقات التي تنظمّ علاقة الفرد بخالقه)، يضيف الغرباوي في نفس المقال قائلاً (بل تبقى أحكامه أحكام بشرية تتأثر بقبليات المجتهد والخبير التشريعي، وتغيرات الواقع وحاجات الأنسان والمجتمع) وهذه الخاصية تعطيه مرونة عالية ومجال واسع في تقديم الأحكام والقواعد العامة في مجالات الحياة المختلفة ومنها السياسة، وهنا كذلك يمكنني بالأشارة الى ما يقول به الدكتور قاسم شُعيب في كتابه (العقل السياسي الإسلامي ص84)(لاشك أن حاجات المجتمع وبنيته ليس ثابته، بل هي متغيرة ومتطورة بأستمرار، ولم تغب هذه النقطة عن الإسلام، فترك منطقة فراغ تشريعي تتولى السلطة السياسية أو المجتمع المدني ملأها بما يتلائم مع الخطوط العامة للتشريع الإسلامي)، فلا دين من دون عقل، بل هو شرط من شروط التكليف.
من المعروف إن العقل يمثل المحور في فكر المعتزلة، وله مرتبة عالية، والجزء الكبير من الشيعة يقيمون للعقل مقام كبير في فهم وأستنباط الأحكام، حتى أن الشيخ المفيد يقول (بعدم صحة جميع الأحاديث المنسوبة الى الأئمة، ويرى أن كثيراً من الأحاديث نُسبت زوراً إليهم، ولذا يرى عدم الأخذ بالأحاديث التي تنتسب الى الأئمة أذا خالفت أحكام العقل لأن العقل يحكم بفسادها)(تصحيح الأعتقاد ج5 ص147 : الشيخ المفيد)، فالعقل له دور فعال ونامي في التفاعل مع الواقع، كل الواقع بتفاصيله العلمية والأجتماعية والأقتصادية والسياسية، ومن خلاله يتم تعين المصالح المرسلة، والعمل بما فيه مصلحة الناس، وخاصة أذا تحصن بمناعة أخلاقية عالية، ويترشح من خلاله أليات كل ما يحقق مقاصد الشريعة في تحقيق مصالح الناس (فالأحكام العقلية من غير الممكن تقاطعها مع النص الديني لأنه يتركز على آليات منطقية لا يتقاطع معها العقل، بل للعقل أهمية كبرى في التعميق التأسيسي والتأصيلي والتفريغي للفقه الإسلامي) (ملامح البنية الأساسية للتفكير الإسلامي: طارق البشري).
بعد أن تطرقنا للعقل ومساهمته في أنشاء وأستنباط القواعد الكلية، نعود الى متابعة تعداد هذه القواعد أضافة لما سبق :
7- قاعدة أولوية السلم: (يا أيها الذين آمنوا أدخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان...) (البقرة:208) و (وأن جنحوا للسلم فأجنح لها وتوكل على الله). الأصل في العلاقة سواء بين الأفراد والمجموعات القبلية والقومية والدينية والحزبية في داخل البلد أو بين الشعوب والأديان والقوميات والبلدان الأخرى هو السلم، والآيات المذكورة واضحة في هذا المعنى . إن حرص الإسلام على السلام ينبع من كينونة الإسلام ونزعته للسلام، لأن الله هو السلام، وبالسلام يتحقق الأمن والحرية للإنسان، التي هي من الأهداف التي يحرص عليها الإسلام، فالرسول (ص) حريص على أفشاء السلام، وفي حديث له خرَّجه مسلم (أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام...)، فالإسلام حرص على كل القيم السامية ومنها السلام، قال تعالى (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام)(المائدة:16)، حتى الحرب التي يقوم بها هي لأجل السلام، وللدفاع عن النفس (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا)(البقرة190).
8-قاعدة الوسطية (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس..)(البقرة:142)
الوسطية تعني الأعتدال، والعدل والخير، والتوازن، وهو عكس التطرف، وهو موقف عقلاني، ومظهر حضاري رفيع، وتمثل الوسطية موقف معتدل، يبتعد عن التحيز والتطرف، لأنه توسط بين طرفين، والنظام السياسي الذي يتسم بالوسطية والأعتدال، يكون نظام يبتعد عن التجاذبات الدولية سواء كانت شرقية أم غربية، ويبتعد عن كل المواقف المتحيزة، ولا تقف بجانب الأنظمة السياسية المعتدية، وتأخذ موقف عدم الأنحياز، وهو موقف يصب في تخفيف التوترات على المستوى الوطني والدولي . فالوسطية الإسلامية، هي صمام امان للمجتمع ضد أي حالة تطرف على المستوى الأجتماعي والسياسي، والنظام الذي يكون مبدأه الوسطية يتصدى لكل حالة تطرف، ولا يتعاون، ولا يشجع كل الحركات والأحزاب والأنظمة السياسية المتطرفة لأنها لا تتوافق مع مبدأ أساسي في فقهه العام والسياسي معاً.
9-قاعدة وجوب رفع الظلم (ان الله لا يحب الظالمين)، (ولاتركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار) وهي قاعدة في غاية الأهمية لأنها تساهم في ألزام من يلتزم بها بأن لا يكون طرفاً في أي حالة أعتداء تحدث سواء على مستوى الداخل، ضد مواطن أو أقلية قومية أو دينية، أو ضد أي دولة في المحيط الأقليمي والدولي، وهذا مايجعل هذا المبدأ يعزز الأستقرار والسلام على مستو ى الداخل الوطني، والأمن وعدم الأعتداء على الساحة الدولية، ومن أمثلة رفع الظلم في عالم السياسة هو أعانة كل الشعوب المضطهدة والمحتلة من خلال الوقوف الى جانب حقوقها المشروعة، وقضاياها المحقة والعادلة.
10-قاعدة درء المفاسد أولى من جلب المصالح :، هي قاعدة مهمة وأساسية خاصة في أدارة الحكم، والتي تفترض على السلطة السياسية العمل على حماية مصالح الشعب، ورعايتها من كل أنتهاك، بل الحرص على تحقيقها، والعمل بكل جد على دفع كل ما يقف بالضد منها، وهذه القاعدة لها مصاديق كثيرة جداً في السياسة الداخلية وكذلك الخارجية، فمثلاً لايمكن للنظام السياسي أن يعقد تحالف مع دولة أخرى يكون ضررها أكبر من منفعتها على الشعب، فدفع المخاطر أولى من كسب بعض المغانم. يتبع
***
أياد الزهيري