دراسات وبحوث

عبد الأمير كاظم زاهد: جدليات الدين والحضارة

قراءة مقارنه بين الحضارة الغربية والعالم الإسلامي

يشكل الدين عاملا مهما في اعراف المجتمعات وثقافتها، وخياراتها الاجتماعية والسياسية، ويحتل مكانة في القلوب والضمائر، وفي ذات الوقت يمكن استغلاله للهيمنة والتسلط وفرض نمط من القراءة على الاخرين، ان الذي تركز علية هذه الورقة، هو العلاقة السببية المتبادلة بين الدين والحضارة، وهي قراءة علمية مقارنة للمشهد التأسيسي لكلا الحضارتين في العالم العربي والإسلامي (كمراجعة تاريخية تحليلية) واثارهما في معضلات راهنة مثل تقبل المواطنة والديمقراطية والعلمنة

أولا: تعد الحضارة الغربية أقدم زمنيا من الحضارة الإسلامية وقد بدأت بفعل ثقافي تولد من بوابة الفلسفة، وبالاستعانة بمنهجية تنظيم الفكر البشري من خلال اختراع (المنطق) لان الإشكالية المركزية فيها كانت تعدد اختلاف وجهات نظر البشر حول الظواهر الكونية والمشكلات الفكرية لاسيما مع ظهور السفسطائيين الذين لا يجابهون الا بمنهج ضابط للتفكير فكانت التعددية والبرهانية من لوازم الاختلاف الفطري في الآراء التي ليس لبعضها تمييزا على البعض الاخر

لقد بدأت حضارة الغرب من نشأة المدينة (أثينا)، والمدينة تعني تكون مجتمع له كيانه وقوانينه و تحدياته وتطلعاته بحسب ظروفه وله احتياجاته ألتي ينظمها القانون وهو مشروعها الحقوق والاستحقاقات، وتتمتع بمدار فلسفي للجهد الإنساني الفردي والاجتماعي لذلك اهتمت تلك (المدينة) المتحضرة الاوربية بإنتاج الفلسفة لبناء التصورات والقيم والبرهان، واهتمت بإنتاج لائحة الحقوق الخاصة والعامة، وصار المدار والمعيار هو (المصلحة البشرية)، وتنامى التفكير في اليات السلطة حتى وصلوا الى مفهوم العقد الاجتماعي وكان الجهد المدني للحضارة جهدا تراكميا أفرزته (المدينة الاوربية) مقابل المجتمع الرعوى، او البدوي،او الزراعي الذي تخطته التجربة الغربية فيما بعد للمجتمع المعرفي

 ولما جاءت المسيحية الى اوربا، وقام القديس بولس بتشكيل نسختها الاوربية، بقت المدينة هي مرجعية النهضة، مع منافسة الدين لها وعادة فان (المدينة) تزيح الأديان، اذ في تصورها ان الدين رؤيه ماضويه لا يتسع للحداثة، لذلك سعى الغربيون الى التعامل مع الدين في اضيق مهماته وهي ترصين الشأن الشخصي وتم الغاء أي دور له في دورة التحولات الاجتماعية واستجاب الدين المسيحي الى ثنائيه (الله \ القيصر) بعد نزاع طويل مع قوى المجابهة مع الكنيسة ورغم ان المسيحية كانت السبب في سقوط الامبراطورية الرومانية الا انها لم تهتم بالفلسفة والعلوم والقانون، ماعدا القانون الكنيسي الذي تأثر كثيرا بالقانون الاقطاعي، لكن الانصاف يقتضي الاعتراف بان المسيحية سعت الى تشكيل القيم الروحية والاخلاقية، بينما كانت حضارة المدينة وراء اكتشافات الفنون والعلوم والآداب ووراء التحولات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية واخيرا فقد رست اوربا في المفاهيم المسيطرة على التطور الاجتماعي الاوربي على قيم الفردانية والديمقراطية وحريات (المعتقد، والرأي، والتعبير،) واختارت العقلانية مقابل حاكميه النصوص الدينية في فهم الظواهر الكونية والاجتماعية لكنها لم تطهر نفسها من (الاستعمار والظلم الاجتماعي للشعوب المستضعفة والتحيز العرقي، ونهب ثروات الشعوب، وحروب الابادة المتوحشة)

ويظن باحثون ان السبب في تناقص مكانة الدين التي كانت محدودة، فلان الدين لم يؤسس حضارة الغرب ويلاحظ ان التاريخ الغربي ارتبط بتيارات من الاصلاح السياسي والديني لان الفكر الغربي فكر مرحلي اجتهادي قابل للنقد وتجاوز الظروف له فاحتاج الى موجات من حملات الاصلاح والتعديل، ولم تكن غير (المصلحة العامة المتغيرة) والتي لا ضابط لها هي المدار والمعيار

 لقد دخلت اوروبا عصر الحداثة في القرون الثلاثة من القرن (17 _19) وبها ألغت تماما اي دور مركزي للدين، حتى اجبرت الكنيسة على الاعتراف بالثنائية (الدنيوية/ والدينية) فلم تكن الكنيسة عند اذن مؤسسة موازية للدولة، فكان الدين امرا عرضيا، ومرت اوروبا بعصور اتسمت دائما في تحدي للدين، ولم تدع له الفرصة في ان يشكل حضارتها، سواء في عصور ما قبل الحداثة او عصور ما بعد الحداثة

 ثانيا : اما في جانب الحضارة الاسلامية، فان المسلمين زحفوا الى يثرب لتحويلها الى (المدينة المؤسسة للحضارة) التي تعني البدء بإقامة حضارة، فكانت التأسيسات الاولى دينية ب (وثيقة المواطنة المشتركة المسماة: وثيقة المدينة)واجراء المؤاخاة بين المهاجرين والانصار، وبناء المسجد، وتأسيس المجتمع المتجانس، وتأسيس الحكومة، والدستور، والمنهج السياسي، فكانت المدينة الدينية هي التي شكلت الحضارة، في عالم كان يخلو من منهج حضاري (بديل) او منافس بحيث لم يحدث تدافع بين منهجين حضاريين، فلم تحصل علاقة عكسية بين المدينة ذات (المجتمع المتنوع) وبين الدين، واغلب الظن ان الترتيبات الاساسية لحضارة (مدينة يثرب) لن تكن دينية محضه انما كان برنامج يثرب دعوة مدنية تعتمد على المواطنة والشورى والثقة بين عموم الناس من جهة وبين الحكومة والمحكومين من جهة اخرى ولم تتأثر (نظرية المدينة) بالنمط الاقتصادي سواء في مكة (كونها المركز التجاري) ولا في المدينة كونها بيئة زراعية وصيرفيه والمشروع الحضاري في (المدينة يثرب) لم يغلق الباب على نفسه إنما تطلع للاطلاع والإفادة من الحضارات المعاصرة له فكان نمط تطلع لحضارة (أثيوبيا : فكرة العدل) والفرس، والروم، وقد تعامل مشروع يثرب معها إيجابيا، وهكذا يسعى المشروع إلى تكوين نظام اجتماعي، وليس هناك نص صريح ينص على أن مشروع المدينة الحضاري التأسيسي، هو الذي يجب أن يتبع في تأسيس المدن الحضارية الأخرى في مرحلة تطور الحضارة الإسلامية وازدهارها (البصرة، الكوفة، دمشق، مصر)وقد تمازج الوحي مع السياق الثقافي الجديد الذي إنشاته هذه الحضارة بل شكل الوحي المرتكز والمعيار العابر للأزمنة وموجات الحداثة، ولأنه مقبول ومتقبل من كل المسلمين فقد صار عاملا أساسيا في وحدة المسلمين على اختلاف تنوعاتهم وثقافاتهم وبيئاتهم الاجتماعية

 وإذا كانت بعض المفردات الثقافية الموجودة في بيئة نشأة الحضارة الإسلامية الجديدة غير ملائمة لبرنامجه فإن الإسلام غيًر ما لا يتفق مع القيم النبيلة التي جاء بها، وأوجد نسقا جديدا، ثم احتوى حضارة الفرس والمسلك العرفان فيها، وحضارة الروم والمسلك التجريبي العقلي، وجعلهما ضمن تصوره الحضاري لذلك: فإنه لما كانت تتصف به أوروبا من اعتياد ثقافة السؤال، فكان لابد للفلسفة ان تكون عاملا من عوامل مكوناتها وصيرورتها بينما العالم الإسلامي تلقى التكوين الحضاري من نص ديني مقدس ذات مضامين مدنية، فصار يلزم للسؤال تقديم مسوغات لان الاصل التلقي، وزاد في ذلك أن موقف النخبة الدينية الإسلامية قد وقفت من الفلسفة مواقف متعددة أغلبها متشدد وسلبي، ووصفت بأنها تعارض الإيمان، فخضع السؤال والنقد لضرورة تقديم المبررات التي يجب يقدمها الناقد قبل الممارسة الفعلية

ولأن ثقافة الغرب - ثقافة بشرية - فكان التعدد والتنوع ينطلق في مستوى واحد للشرعية، فلا ميزة لرأي على أخر وعليه فالتعددية حالة أساسية، في حين حضارة الإسلام ميالة إلى ثقافة النمط، وما تجاوز النمط يحتاج الى تسبيب ومبررات ولأن الآراء لها مستوى واحد من الاعتبار فاعتمدت البرهانية كمعيار للتفاضل والترجيح، بينما في الغرب نجد تدافعا بين معطيات الحضارة المدنية والحضارة الدينية وعلى مستوى واحد في حين ان للشرع في حضارتنا هناك أعلوية للمقولات الدينية على المفاهيم والأفكار المدنية ولعل رؤى الغرب للحاضر وللمستقبل أكثر من الماضي بينما الحضارة الدينية في العالم الإسلامي يشكل التاريخ مكونا أساسيا

وما تقدم يفسر لنا صعوبة تطبيق الديمقراطية بنسختها الأوروبية في جغرافيا العالم العربي والاسلامي الذي حكمته (هيمنة بيعة الخليفة) الذي يمسك بيده كل السلطات المدنية والدينية، فصار تطبيق الديمقراطية فيه صعب صعوبة بالغة ويفسر لنا: الموقف الصارم ضد العلمنة بكل أشكالها حتى (العلمانية المؤمنة لأن الأصل في العلمانية طبيعة دنيوية، ومكون الحضارة الإسلامية مكون ديني ويفسر: صعوبة تقبل مفهوم المواطنة وأولوياتها على أممية الاعتقاد، لأن مفهوم الأمة في تطور هذه الحضارة مفهوما عقائديا. ويفسر لنا: الدور الذي تمنحه حضارتنا للتاريخ ومشكلاته وللدين واختلاف قراءاته، أكثر من الدور الذي يجب أن يمنح للتقدم والرفاه، ويفسر: لنا أن الحريات في حضارتنا مقيدة بالدين والنظام العام لكل ذلك:

فأن أي محاولة لاجراء التحولات الجذرية في حياتنا ستكون مرتبطة بالمكونات التي أسهمت في نشأة حضارتنا. وعلينا أن نجد حلولا لهذه المعضلة.

***

ا. د. عبد الأمير كاظم زاهد

 

في المثقف اليوم