دراسات وبحوث

عبد الأمير كاظم زاهد: وثاقة المختلف معنا بالراي

قراءة في مباديء منهجية للتعددية

في المجتمعات المتخلفة معرفيا يتحول الخلاف في الراي الى عداء وخصومة واسقاط للاخر وسحب الثقة منه تجد صعوبات بالغة في تطور الفرد والمجتمع وتجده عاملا من عوامل عدم التكامل المعرفي الى جانب الضرر الاجتماعي البالغ الذي يصيب القدرة على الإفادة من العلم ولكننا لم نتلقى درسا من التاريخ المشرق في تراثنا

وكان علينا ان نتدبر في قصة ذلك السؤال الموجه للامام الحسن العسكري ع عن مرويات بني فَضّال في القرن الثّالث الذي وضع في جوابه احد المباديء الكبرى في التعامل مع المختلف فاستمر العمل فيه حتّى نهاية القرن الخامس

لقد ضمّت الكوفة أسرة علميّة تسمى ال فضال وهي اسرة شيعيّة كبيرة، تعجّ كتب حديث الإثنا عشريّة برواياتها ومصنّفاتها، و كان هناك شبه إجماع على وثاقة رجالها، بل كانت لبعضهم الزّعامة العامّة والمرجعيّة العليا للشّيعة ممثلة بالحسن بن عليّ بن فضّال المتوفّى سنة: 244هـ”، وأولاده الثّلاثة: محمّد، وأحمد، وعلي الذي كان المرجع العامّ في عصر. لكنّ المشكلة في هذه الأسرة هي فطحيّتها

والفطحيّة: فرقة آمنت بمرجعيّة أو إمامة عبد الله بن جعفر الصّادق “ع” بعد رحيل الأخيرين، الصادق وابنه ـ أعني عبد الله المعروف في الأوساط الإثني عشريّة بالأفطح ـ ثم عاد معظم معتنقيها إلى الإيمان بإمامة أخيه غير الشّقيق موسى بالكاظم “ع” وذلك لمجموعة نصوص وسياقات أكّدت تصويب موقفهم خلافا لما ظهر من انسياق مع فكرة أنّ الإمامة أو المرجعيّة الدّينيّة يمكن أن تنتقل بشكل عرضي ما بين الأخوين ولا ضرورة لحصر انتقالها بطريقة طوليّة بعد الحسن والحسين “ع” كما هو الرأي المشهور لدى المذهب الإثني عشريّ. لقد عمل الشيعة بمدونات ال فضال قرابة قرنين وفي الرّبع الأوّل من القرن الرّابع الهجري ظهرسؤال في بغداد والكوفة عن مشروعية العمل بمروياتهم فظهرت رواية تُنسب للامام العسكري “ع” أجاب فيها عن سؤال كان قد وجّه إليه يستفسر عن حكم التّعامل مع كتب آل فضّال من النّاحية الشّرعيّة؛ بوصفهم فقهاء كبار ولديهم فتاوى وكتب على الرغم من انهم كانوا يُعدّون من كبار الفطحيّة، ومع ذلك كانّ الامام العسكريّ “ع” قد أجاب عن هذا الاستفسار فاوصى بالتّفريق بين عقيدتهم وبين نقولاتهم ومرويّاتهم، وطلب من السّائلين: أن يذروا آراءهم، ويأخذوا برواياتهم. لان هناك روايات وكتب عديدة نسبت إلى بني فضال علما ان الشيخ الطوسي، والكشي والسيد ابن طاووس والنجاشي قد صرحوا بمدحهم ورفض المامقاني نسبة الكفر والانحراف اليهم قد ذكروا الحسن وأبنائه أحمد وعلي ومحمد وعدد من عائلة بني فضال ومكانتهم

لكن ابن إدريس 595 ه كان يعتبر بني فضال كافرين وملعونين" ومنحرفين ومعه من يعتقد أن بني فضال فطحيين فبينما يعتقد الاغلب ان الحسن بن علي بن فضال (ت: 224 هـ) من خواص أصحاب الإمام الرضا، كما يرى بعض العلماء المعاصرين من رجالي الشيعة كالسيد أبي القاسم الخوئي و أنه من أصحاب الإجماع بينما يرى الكشي أن الحسن بن علي بن فضال فطحي، رغم ان أحمد بن الحسن بن علي بن فضال من أصحاب الإمام الهادي والإمام العسكري . ويعد علي بن الحسن بن علي بن فضال فقيه أهل الكوفة ومن أصحاب الإمام الهادي، والإمام العسكري وقد ذكر السيد الخوئي نقلا عن الكشي أنه هاجر إلى العراق وخراسان، ولم يكن فيهما من هو أفقه وأفضل منه، وكان عنده العديد من روايات الأئمة، كما أنه كان يحفظ منها أكثر من سائر الناس. لكن السيد الخوئي لم يصرح بوثاقته

روايتهم للحديث

لقد روى بنو فضال روايات عديدة وصنفوا كتب كثيرة في مختلف الموضوعات،[١٩] وقد ورد اسم الحسن بن علي بن فضال في اسناد أكثر من مائتين وسبع وتسعين رواية،[٢٠] وذكر لأحمد بن الحسن بن علي بن فضال روايات في باب الغسل، فضيلة المسجد، والبيع، والنكاح، والخمس، وشروط لباس المصلي، والذبح، وصلاة الميت.[٢١] ونسب إلى الحسن بن علي كتاب البشارات، والرد على الغلاة والزيارات، والنوادر، والناسخ والمنسوخ،[٢٢] ومن مؤلفات علي بن الحسن كتاب الوضوء، وكتاب الصلاة، وكتاب الزكاة، وكتاب التنزيل من القرآن والتحريف، وكتاب الفرائض، وكتاب المواعظ، وكتاب التفسير، وكتاب وفاة النبي،[٢٣][ملاحظة ١]وذكر له كتاب تحت عنوان أصفياء أمير المؤمنين،وقد ادعي علاوة على وثاقتهم في أنفسهم وثاقة مشايخهم ومن يروي عنهم اكراما لهم فجاءت الرواية عن الإمام الحسن العسكري التي يرويها الشيخ الطوسي، في معرض الإجابة على تساؤل الشيعة حول بني فضال بقوله ع : اعملوا بالروايات الواردة عنهم، ولا تأخذوا بمعتقداتهم، ٢]وبناء عليه يرى بعض المحققين أن من مصاديق توثيق الروايات هو أن يرد رواة بني فضال في سندها،[٢٥] وقد اعتمد الأنصاري "رحمه الله" على هذه الرواية وحكم بصحة روايات بني فضال وقال في أول كتاب الصلاة بعد ذكره مرسلة داود بن فرقد قال ( والرواية وإن كانت مرسلة إلا أن سندها إلى الحسن بن فضال صحيح وبنو فضال ممن أمرنا بالأخذ بكتبهم ورواياتهم اعتمادا على الرواية المتقدمة[2] و ذكر الشيخ الأنصاري "رحمه الله" نظير هذا الكلام في مسألة الاحتكار من خاتمة كتاب البيع صفحة 212 وقد اشكل السيد الخوئي "رحمه الله على الانصاري لان في الرواية سندا ودلالة عدة اشكالات أما من حيث السند فمن جهتين:

ففيه أبو محمد المحمدي قال حدثني أبو الحسين بن تمام قال حدثني عبد الله الكوفي، قال حدثني عبد الله الكوفي خادم الشيخ الحسين بن روح رضي الله عنه وهو السفير الثالث للإمام المهدي قال سئل الشيخ يعني أبا القاسم رضي الله عنه ـالسفير الثالث الحسين بن روح النوبختي السمان عن كتب أبن أبي العزاقر ـابن الشلمغاني صاحب كتاب التكليف ـ بعد ما ذم وخرجت فيه اللعنة من الناحية المقدسة فقيل له فكيف نعمل بكتبه وبيوتنا منها ملاء قال أقول فيها ما قاله أبو محمد الحسن بن علي العسكري "صلوات الله عليهما" وقد سئل عن كتب بني فضال وكانت كتب ابن الشلمغاني منتشرة في زمن السفير الثالث ).[3]

وكان إشكال للسيد الخوئي في عبد الله الكوفي فإنه لم يترجم في الكتب الرجالية ولم تعلم حاله فلا يمكن الركون إلى هذا الخبر للجهالة في سنده.

الإشكال الثاني هو أبو الحسين بن تمام فإنه لم يذكر بشيء ولم يوثق، ويناقش السيد الخوئي بان النجاشي قد ذكر ان محمّد بن عليّ بن الفضل‏ بن تمام الدهقان الكوفيّ المكنّى بأبي الحسين، بـقوله: «ثقة، عيناً، صحيح الاعتقاد، جيّد التصنيف»، أمّا حال النّقيب أبي محمّد المحمّدي فهو شيخ من شيوخ الطّوسي في نقل الرّواية فقد وصفه النّجاشي بعبارة: “سيد في هذه الطائفة”، [رجال النّجاشي: ص65

وأما من ناحية الدلالة فالإمام “عليه السلام” في مقام بيان أن فساد عقيدة الراوي لا يمنع من الأخذ بروايته فالمدار على الوثاقة فما دام هو ثقة فحتى لو كان فاسقا المهم إنه ثقة لا يتعمد الكذب وإن كان مذهبه فاسدا فنحن لا نقول بحجية قول العدل الإمامي بل يكفي أن يكون ثقة لا يتعمد الكذب فالإمام “عليه السلام” في مقام بيان أن وثاقة الراوي لا يضرها فساد عقيدة الراوي لكونهم ثقات في أنفسهم وأما أنهم لا يروون إلا عن الثقات وأن كل رواياتهم صحيحة فلا دلالة للرواية عليه[4]

يقول السيد الخوئي ـ « الحديث في مقام بيان أنّ فساد العقيدة بعد الاستقامة لا يضرّ بحجيّة الرّواية المتقدّمة على الفساد، وليس في مقام بيان أنه يؤخذ بروايته حتّى فيما إذا روى عن ضعيفٍ أو مجهولٍ، فكما أنّه قبل ضلاله لم يكن يؤخذ بروايته فيما إذا روى عن ضعيف أو مجهول، كذلك لا يؤخذ بتلك الرّواية بعد ضلاله»، وعلى هذا الأساس أفاد بأنّ ما «ذكره الشّيخ الأنصاري وغيره من حجيّة كلّ رواية أيا كانت صحيحة باسناد بني فضال كلام لا أساس لهمعجم رجال الحديث: ج1، ص71، ط4

وافاد الشّبيري الزّنجاني قال أنّ العبارة ناظرة إلى عقيدة الفطحيّة، مقرّراً: أنّ المعنى المراد يحتمل فيه إمّا: إقبلوا حديثهم ودعوا عقيدتهم، أو: أنّ عقيدتهم لا تمنع من الأخذ بحديثهم.

ويذكر الشيخ الداوري احتمالا ثالثا وهو أن ابن الشلمغاني لما كتب كتاب التكليف كان صحيح العقيدة فلا يضر فساد عقيدته بعد ذلك وادعاءه السفارة من الأخذ بكتابه السابق وكذلك بنو فضال حينما كتبوا الروايات كانت عقيدتهم صحيحة ثم بعد ذلك وأصبحوا من الفطحية ولا يضر الأخذ برواياتهم أيام كتابتهم للروايات وهم على نهج الحق لكن الإنصاف هذا الاحتمال بعيد جدا لأن احمد بن الحسن بن فضال كان من الفطحية ويقال إنه في أواخر عمره عدل إلى مذهب الحق وأما أولاده احمد بن فضال وعلي بن الحسن بن فضال فهم على مسار أبيهم.

فإذا أردنا أن نحقق وندقق في عبارة خذوا ما رووا وذروا ما رأوا يمكن استظهار ثلاثة مبان:

المبنى الأول تصحيح الراوي وتوثيق كل راو رووا عنه بنو فضال وهذه الثمرة رجالية،

المبنى الثاني تصحيح الرواية فكل ما رواه بنو فضال صحيح ويعامل معاملة الصحيح حتى لو كان فيها إرسال أو كان فيها رواة ضعاف فإن جميع رواياتهم صحيحة وهذه ثمرة روائية وليست ثمرة رجالية.

المبنى الثالث بيان أن فساد عقيدة الراوي لا يضر بصحة روايته ما دام ثقة وهذا ليس فيه ثمرة رجالية أو ثمرة روائية وإنما بيان لنكتة رجالية وهي أن المدار في قبول رواية الراوي على الوثاقة وليس سلامة العقيدة.وتبنى السيد الخوئي "رحمه الله" المعنى الثالث اما الشيخ الأنصاري "رحمه الله" فتبنى المعنى الثاني .

قال الشيخ الطوسي في العدة في بحث حجية خبر الثقة (المدار كل المدار على الوثاقة ومن هنا عمل الأصحاب بروايات العامة وروايات الفطحية وروايات منحرفي العقيدة لأنهم كانوا من الثقات ويذكر أمثلة كالسكوني ويذكر أمثلة ومنهم بنو فضال وإخبار الواقفة مثل سماعة بن مهران وعلي بن أبي حمزة وعثمان بن عيسى  وبنو سماعة والطأطريون وغيرهم[5] فكلام الشيخ الطوسي مؤيد لمنهج الوثاقة لأن فساد عقيدة الراوي لا يقدح في الأخذ برواية الراوي ما دام ثقة.

و بما قرره الشيخ الطوسي في العدة من مبدأ وثاقة الراوي عملت الطائفة بإخبار الفطحية مثل عبد الله بن بكير وغيره وإنما عملت الطائفة بإخبار هؤلاء لأنهم ثقات لا أن جميع رواياتهم صحيحة والذي يمكن استظهاره من قول الإمام “عليه السلام” هو ما اشرنا إليه من قوله “عليه السلام” (خذوا ما رووا وذروا ما رأوا)

ويقال أن هذا لا ربط له باستقامة بني فضال وعدمها وإنما ورد السؤال عن الكتب بما هي كتب وليس السؤال عن الأشخاص فأجاب “عليه السلام” بأن كتبهم معتمدة وهو الصحيح ويؤيده أمران:

الأمر الأول نفس المورد والمقيس عليه وهو الشلمغاني فإن الكلام عن فساد عقيدته، سؤال عن فاسد العقيدة والأمر الثاني ما ذكره الشيخ الطوسي "رحمه الله" في العدة فالرواية ـ رواية بني فضال ـ ظاهرة في الأخير وهو أن فساد العقيدة والانحراف بعد الاستقامة لا يضر بالوثاقة.

فنستفيد أن فساد العقيدة لا يضر بالأخذ بالراوي هذا أولا ونستفيد أن كتب وروايات بني فضال صحيحة

يقول وعلى أي تقدير فلو افترضنا تمامية دلالة الرواية على المدعى فالرواية مختصة بكتب بني فضال ورواياتهم

ونستفيد مما تقدم ان الخلاف في الراي والاجتهاد المسوغ في مجال الفقه او الأصول او الاعتقاد فيما هو غير معلوم بالضرورة لا يسقط اعتبار صاحب الراي وليس لجهة أيا كانت ان تحكم عليه بالاقصاء.

***

ا. د. عبد الأمير كاظم زاهد

 

في المثقف اليوم