دراسات وبحوث

زهير الخويلدي: فكرة التاريخ عند هشام جعيط

بين المدينة العربية الاسلامية وتاريخية الدعوة المحمدية

مقدمة: يُمثل هشام جعيط (1935-2021) أحد أبرز المؤرخين والمفكرين العرب في القرن العشرين، حيث قدم إسهامات فكرية عميقة في دراسة التاريخ الإسلامي، متميزًا بمنهجه النقدي الذي يجمع بين التحليل التاريخي والأنثروبولوجي والفلسفي. تتمحور أعماله حول فهم الظواهر التاريخية الإسلامية، لا سيما في سياق نشأة المدينة العربية الإسلامية وتاريخية الدعوة المحمدية، كما يتضح في مؤلفاته مثل الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية وثلاثيته عن السيرة النبوية، وخاصة الجزء الثاني تاريخية الدعوة المحمدية في مكة. يهدف هذا المقال إلى تحليل فكرة التاريخ عند جعيط من خلال مقارنة رؤيته لنشأة المدينة العربية الإسلامية وتاريخية الدعوة المحمدية، مع التركيز على منهجه النقدي وتأثيره على فهم التاريخ الإسلامي. الإطار النظري: فكرة التاريخ عند هشام جعيط

يرى هشام جعيط أن التاريخ ليس مجرد سرد للأحداث، بل هو عملية استقراء وفهم عميق للديناميكيات الاجتماعية والثقافية والدينية التي شكلت المجتمعات. في كتابه الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية، يقدم جعيط رؤية شاملة لنشأة المدينة الإسلامية كنتاج لتفاعل الحضارة العربية مع الحضارات السابقة مثل البابلية والفارسية والهلنستية. يعتمد جعيط على منهج تاريخي تفهمي يسعى إلى فهم المناخ الذهني والعقلي للعصر، مع التركيز على القيم والأفكار التي هيمنت على المجتمع .  في سياق تاريخية الدعوة المحمدية، يتبنى جعيط منهجًا نقديًا يعتمد على فحص المصادر التاريخية بعين عقلانية، متجنبًا الروايات الأسطورية أو غير المثبتة. في الجزء الثاني من ثلاثيته عن السيرة النبوية، تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، يركز على تحليل السياق الاجتماعي والثقافي لمكة قبل وبعد الإسلام، معتبرًا أن الدعوة المحمدية لم تكن مجرد ظاهرة دينية، بل نتاج تفاعل معقد بين الفرد (النبي محمد) والمجتمع .  يتميز منهج جعيط بالجمع بين التحليل التاريخي والأنثروبولوجي، حيث يرى أن التاريخ يجب أن يُفهم من خلال البنى الاجتماعية والثقافية التي تحكم سلوك الأفراد والجماعات. هذا المنهج يتضح في مقاربته للمدينة العربية الإسلامية كنموذج حضاري، وللدعوة المحمدية كظاهرة تاريخية متجذرة في سياقها الاجتماعي.

نشأة المدينة العربية الإسلامية: رؤية جعيط

في كتابه الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية، يقدم جعيط تحليلًا معمقًا لنشأة المدن الإسلامية مثل الكوفة والبصرة، معتبرًا إياها نتاجًا لتحولات اجتماعية واقتصادية عميقة في المجتمع العربي بعد ظهور الإسلام. يرى جعيط أن المدينة الإسلامية لم تكن مجرد تجمع سكاني، بل فضاءً حضاريًا يعكس تفاعل العرب مع الحضارات المجاورة. على سبيل المثال، يشير إلى أن الكوفة كانت مركزًا فكريًا أنتج شعراء ومفكرين كبار مثل المتنبي، مما يعكس دورها كحاضنة للثقافة والفكر.  يؤكد جعيط أن المدينة الإسلامية تمثل نقطة تحول في مفهوم الاجتماع العربي، حيث انتقلت من هيكلية القبيلة إلى هيكلية مدنية تحكمها مؤسسات دينية وسياسية. في هذا السياق، يرى أن الإسلام لعب دورًا محوريًا في توحيد القبائل تحت راية الأمة، مما ساهم في بناء مدن مثل الكوفة والبصرة كمراكز للإدارة والثقافة. يعتمد جعيط في تحليله على مقارنة المدينة الإسلامية مع الحضارات السابقة، مثل البابلية والرومانية، لإبراز خصوصية النموذج الإسلامي الذي جمع بين الدين والسياسة والثقافة في إطار واحد .

تاريخية الدعوة المحمدية: منهج نقدي

في كتابه تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، يتبنى جعيط منهجًا نقديًا صارمًا في التعامل مع المصادر التاريخية، حيث يسعى إلى تخليص السيرة النبوية من الروايات الأسطورية والمبالغات. يرى جعيط أن مكة، كمركز تجاري وديني، شكلت بيئة فريدة لظهور الدعوة المحمدية، حيث كانت التجارة قد غيرت قيم المجتمع من الشرف القبلي إلى الثروة والنفوذ . يشير إلى أن مكة، على الرغم من أهميتها، لم تصل إلى مستوى التحضر العالي مثل أثينا اليونانية، حيث ظلت القبيلة هي المحدد الأساسي للهوية الاجتماعية.  يؤكد جعيط أن الدعوة المحمدية لم تكن مجرد حدث ديني، بل كانت استجابة للتحديات الاجتماعية والثقافية في مكة. يعتمد في تحليله على القرآن كمصدر رئيسي، مستخدمًا ترتيب نزول السور لفهم تطور الدعوة من مرحلة أخلاقية إلى مرحلة توحيدية صارمة، ثم إلى مرحلة المواجهة والاضطهاد. هذا التقسيم يعكس رؤية جعيط للتاريخ كعملية ديناميكية تتفاعل فيها الأفكار الدينية مع السياق الاجتماعي. ومع ذلك، أثار منهج جعيط النقدي جدلًا بين الباحثين. فقد اتهمه البعض بتأثره بالمقاربات الاستشراقية التي تشكك في المصادر الإسلامية التقليدية. في المقابل، يرى آخرون، أن جعيط اختار موقفًا عقائديًا ينطلق من الإسلام نفسه، لكنه يسعى إلى إعادة قراءته بعقلانية .

مقارنة بين المدينة الإسلامية والدعوة المحمدية

تتجلى فكرة التاريخ عند جعيط في مقاربته المزدوجة للمدينة العربية الإسلامية والدعوة المحمدية، حيث يرى أن كلاهما يمثلان وجهين لعملية حضارية واحدة. المدينة الإسلامية، كما يراها جعيط، هي نتاج التحولات التي أحدثتها الدعوة المحمدية، حيث شكل الإسلام إطارًا موحدًا للقبائل العربية، مما أتاح نشوء مدن مركزية مثل الكوفة والبصرة. في الوقت ذاته، يرى أن الدعوة المحمدية لم تكن مجرد حدث ديني، بل كانت عملية اجتماعية وسياسية أعادت تشكيل الهوية العربية.  من الناحية المنهجية، يعتمد جعيط في دراسته للمدينة الإسلامية على تحليل البنى الاجتماعية والاقتصادية، بينما يركز في تاريخية الدعوة المحمدية على نقد النصوص والمصادر. هذا الاختلاف في المنهج يعكس مرونة جعيط في التعامل مع الظواهر التاريخية، حيث يجمع بين التحليل الكلي (للمدينة) والتحليل الجزئي (للدعوة).  على سبيل المثال، في دراسته للكوفة، يركز جعيط على كيفية تحولها إلى مركز فكري وحضاري، بينما في دراسته للدعوة المحمدية، يركز على دور النبي محمد كفرد مبدع تجاوز سياقه الاجتماعي.هذا التكامل بين البعدين الفردي والجماعي يعكس رؤية جعيط للتاريخ كحركة ديناميكية تجمع بين الإرادة الفردية والسياق الاجتماعي.

النقد والجدل حول منهج جعيط

أثار منهج جعيط النقدي جدلًا واسعًا بين الباحثين. فقد اتهمه البعض بالتأثر بالمناهج الاستشراقية، خاصة في تشكيكه بالروايات التقليدية واعتماده على القرآن كمصدر رئيسي دون الاعتماد الكلي على الأحاديث والسير . يرى هؤلاء أن جعيط يميل إلى تفكيك الصورة التقليدية للنبي محمد، مما قد يُنظر إليه كمحاولة لتقويض المخيال الإسلامي.  في المقابل، يدافع آخرون عن جعيط، معتبرين أن منهجه يمثل محاولة لإعادة قراءة التاريخ الإسلامي بعقلانية وموضوعية.  أن جعيط ينطلق من موقف إسلامي، لكنه يسعى إلى فهم التاريخ بعيدًا عن المقدسات التي قد تحجب الرؤية العلمية . كما يرى البعض أن جعيط نجح في تحويل التاريخ إلى مادة فكرية جذابة، بعيدًا عن السرد الإخباري التقليدي .

خاتمة

تُعد فكرة التاريخ عند هشام جعيط نموذجًا فريدًا للتعامل مع الظواهر الإسلامية، حيث يجمع بين التحليل التاريخي النقدي والفهم الأنثروبولوجي للسياقات الاجتماعية. من خلال دراسته للمدينة العربية الإسلامية وتاريخية الدعوة المحمدية، يقدم جعيط رؤية شاملة ترى التاريخ الإسلامي كعملية ديناميكية تجمع بين الدين والسياسة والثقافة. منهجه النقدي، رغم الجدل الذي أثاره، يمثل إسهامًا مهمًا في إعادة قراءة التاريخ الإسلامي بعيون عصرية، بعيدًا عن التقديس أو التشكيك غير المبرر. في النهاية، تظل أعمال جعيط مرجعًا أساسيًا لفهم التاريخ الإسلامي، سواء في سياق نشأة المدن أو تطور الدعوة المحمدية، مما يجعله أحد رواد الفكر التاريخي العربي المعاصر.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.......................

المصادر والمراجع:

جعيط، هشام. (1986). الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية. بيروت: دار الطليعة.

جعيط، هشام. (2007). في السيرة النبوية: تاريخية الدعوة المحمدية في مكة. بيروت: دار الطليعة.

جعيط، هشام. (2004). تأسيس الغرب الإسلامي. بيروت: دار الطليعة.

جعيط، هشام. (2014). في السيرة النبوية: مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام. بيروت: دار الطليعة.

 

في المثقف اليوم