دراسات وبحوث
محمد تقي جون: أغاليط مصطفى جواد
الخلاصة: كان الدكتور مصطفى جواد أحد اعلام اللغة المبرزين، وكانت له جهود لغوية تصحيحية كتبها على غرار كتب تصحيح اللغويين القدماء كالمبرد والحريري، وكانت تلك الكتب تعالج ما طرأ على العربية من اضافات وتغييرات طفيفة. أما في عصرنا فان العربية عانت اضافات وتغييرات جذرية غيرت مسارها القديم وجعلتها شبه محتلة من الانجليزية، فكثير من الفاظها ومعانيها استبدل به اللفظ والمعنى الانجليزي، بل وصل الامر الى القواعد وهي اركان اللغة فحركت الى قواعد انجليزية في كثير من مفاصلها. وامام هذه الحقيقة ستكون جهود مصطفى جواد في كتابه (قل ولا تقل) غير مواكبه، وهو كمن يصلح امورا خارجية طفيفة والمشكلة صارت في العمق، ففاته الكثير، وصار على الجهود اللغوية التصحيحية الاتجاه نحو التصحيح الشامل وليس الجزئي، وهو ما تناولته بالتفصيل في كتابي (اللغة العربية الشاملة – الفصحى الهجينة) وفي هذا البحث ساقف على بعض ملاحظات مصطفى الجواد التي تعد أغاليط وفق الفهم الجديد للتصحيح اللغوي.
المقدمة
(قل ولا تقل) جملة تصحيحية، لعل اول ورودها في القرآن الكريم (فلا تقل لهما اُفّ ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما (الإسراء: 23). وقد أخذها أهل اللغة واستعملوها في تصحيح اللغة بعد أن انحرفت. قال ابن السكيت في (وتقول ضفرت المرأة شعرها، ولها ضفيرتان ولها ضفران، ولا تقل ظفيرتان)( ترتيب اصلاح المنطق، 1412هـ): 23). واستعمل اللغوي الانكليزي (T.J. Fitikides) في كتابه ( الأخطاء الشائعة في اللغة الانكليزية =in English Common Mistakes) الذي صدرت الطبعة الاولى منه عام 1936عبارتي: (Don’t say) (say) = (لا تقل) و(قل). واشتهر هذا الاستعمال اكثر حين اختاره العلامة الدكتور مصطفى جواد عنواناً لبرنامجه الاذاعي ولكتابه (قل ولا تقل). ولعل مصطفى جواد تأثر باللغوي الانكليزي أو نقله من التراث العربي، والثاني الارجح.
كان الفساد قد دبَّ في اللغة العربية مبكراً بسبب اختلاط الاعاجم بالعرب وتزايد ثقلهم، وفي درجة أقل جاء الخطأ من الترجمة في العصر العباسي، التي فرضت عبارات وصيغا دخيلة. وقد انبرى العلماء الغيورون يصححون ما انحرف ويحاولون اعادة اللغة الى نصابها. وهذا التصحيح هو داخلي أو جزئي أو ترميمي، بمعنى أن اللغة سليمة بمجملها وكمالها ولكن هناك بعض الوهن الممكن اصلاحه، بالضبط كترميم بناية قائمة على اسسها وقواعدها وشكلها العام، وان زاد الفساد والانحراف مع الوقت.
وفي العصر الحديث، وبتأثير الترجمة وهيمنة الغرب والتكنولوجيا أنشئت (لغة عربية جديدة) صارت تتسع على حساب العربية المتوارثة، وهذه اللغة تتكون من الفاظ دخيلة هي ألفاظ وعبارات اكثر العلوم التي لم يعرفها العرب، واذا لم ينقلوا اللفظ الاجنبي اخترعوا لفظا غير موجود في العربية ليقابله مثل (Sterilization) ابتدعوا له لفظة (التعقيم) وهو غير موجود في العربية. أو يأتون بلفظ منسي في زماننا فيضعونه امام اللفظ الاجنبي مثل (Microbe) وضعوا ازاءه لفظ (الجراثيم) و(جُرْثُومة كل شيء أَصلُه ومُجْتَمَعُه، والارتفاع)، ونقلوا معاني وعبارات تفوق ما اضافوا من الفاظ نقلا ومسخا وخلقا مشوها، بل تعدت هذه اللغة، التي اسميتها الخامسة، ذلك الي تبني القواعد الانكليزية، وهذا أخطر شيء؛ لانه يعني اجتثاث لغة العرب من القواعد.
وما قام به الدكتور مصطفى جواد استصلاح واهم وموهوم، لانه عاش في زمن اجتثاث العربية وليس زمن الاخطاء التي يمكن اصلاحها. وقد كان عمله من النوع الذي اشتغلت عليه كتب التصحيح القديمة كإصلاح المنطق ودرة الغواص والكامل للمبرد وغيرها.
لست أحب الظهور والشهرة على حساب الطعن بالكبار بالباطل، ولكني أروم الحقيقة التي انكشفت لي عن لغتنا المعاصرة بأنها لم تعد عربية حقا، بل صارت هجينة مفترسة مهيمنا عليها من قبل اللغة الانكليزية بدرجة فوق الكبيرة وقريبة من الكاملة. فاذا نجح ابن السكيت وسواه في تقويمه الداخلي الجزئي الترميمي لان اللغة العربية تضررت ولكنها لم تنتهب ويهيمن عليها، فإن الدكتور مصطفى جواد لم ينجح في عمله الذي صار قاصرا بعدما اتسع الخرق على الراقع، ولم يعد الترميم يكفي فالبناء تداعى او سوف يتداعى بالكامل. ولا كان علاجه الداخلي الجزئي مفيدا وقد بليت اللغة بالانحراف الخارجي الكلي، ونهر العربية برمته انحرف مجراه بعيدا عن لغة العرب الجاهلية بل حتى العباسية المثقلة بالدخيل والمعرّب والمترجم، ولغة القرون الوسطى المثقلة بالعاميات وشتى الانحرافات.
قرأت كتاب الدكتور مصطفى جواد (قل ولا تقل) أول مرة قراءة المتعلم المتزود، وقرأته ثاني مرة فلم اجده الا كتابا قاصراً قد فات صاحبه أن تصحيحه جزئي وان اللغة كلها قد هدمت وان الترميم ما عاد يصلحها، فهو كمن يريد رصد الكوكب وهو على سطحه. لأنه لم ينتبه على حقيقة أن الاغاليط في زماننا ليس مرجعها انحراف اللغة العربية نفسها وانما خلق لغة جديدة من قبل المترجمين تبدو انها لغتنا العربية وليست هي.
وهكذا جاء كتابه مفيدا في الجانب الذي فيه انحراف فعلا عن بنية اللغة العربية، وبعيدا جدا في الجانب الذي يخص تلك اللغة البديلة الهجينة التي هي عبارة عن مسخ ترجمات عن الانكليزية. على الرغم من الدكتور مصطفى جواد صرح في المقدمة بما يظن انه متنبه على هذه الحقيقة (أفتتح الجزء الاول من كتابي (قل ولا تقل) وأقدمه الى محبي اللغة العربية، في مختلف البلاد التائقين الى بقائها كريمة الضرائب، مسعفة بالطالب، رائقة المشارب، نقية من الشوائب، سليمة من لحن المتهاونين، بريئة من غلط المترجمين، ناجية من عبث المستهزئين، سائرة في سبيل التطور الطبيعي البارع، آخذة بالاقتباس المفيد والقياس النافع، مستمدة اشتقاقها الجليل من مركبها الاصيل ومجازها العريض الطويل، مضيفة الجديد الصحيح الى تراثها النبيل) (قل ولا تقل، ، بلا معلومات: 21).
سنجد أن أخطاء الدكتور مصطفى جواد (الفاحشة أحيانا) سببها أن كثيرا من الاخطاء التي أشرها أعتقد انها انحراف عن اللغة العربية نفسها، والحقيقة هي ترجمات غير موفقة عن الانكليزية. و(هذه الأخطاء) ألفاظ وضعها المترجمون لمعان جديدة على العربية، فظنها الدكتور مصطفى جواد (أخطاء عربية) ونادرا ما تنبه على هذه الحقيقة دون التيقن. فبينما نجده يدقق في الجذور والاستعمال العربي، اذا به يغفل عن انقطاع معنى اللفظة المعاصر عن معناها العربي، فيأخذ بالمعنى المعاصر الهجين مسلما به وكأنه عربي قح.
أخطاء مصطفى جواد في كتابه (قل ولا تقل)
* قال الدكتور مصطفى جواد: (قل الجُمهور والجُمهورية، ولا تقل: الجَمهور والجَمهورية) (قل ولا تقل: 33). فضبط نطق اللفظة الجُمهور والجُمهورية، وفاته أن (الجمهورية) لا علاقة لها بـ(الجمهور) وان كانت منسوبة اليه. ففي اللغة العربية لم يستعمل قبل العصر الحديث (جمهورية – جمهوريات)، واستعمل (الجمهور – الجماهير – الجماهر). ومعناه (الرمل الكثير، والشيء الكثير، وصفوة الشيء). ذكر ابن سيده (جَمهرتُ الشَّيء: أخذتُ خِيارَه) (المخصص، بيروت، دار احياء التراث العربي: 64). وقالوا: (جمهور العلماء) و(جمهور الناس) وغيرها، وكلها تعني (الغالبية والنخبة). ولم يفهم العرب معنى الجمهورية أو (حكم الشعب) فترجم الفلاسفة كتاب افلاطون الجمهورية إلى (المدينة الفاضلة).
مصطلح (الجمهورية) جاءنا من الانگليز مع حزمة من المصطلحات السياسية ذات العلاقة مثل: ديمقراطية (Democracy)، دكتاتورية (Dictatorship) ملكية (Property)، لبرالية (Liberalism)، تكنوقراطية (Technocratic)... الخ.
والمصطلح ترجمة لـ (Republic). وترجمة كتاب (جمهورية أفلاطون) (Platonis Republica ). وقد فضَّل المترجمون العرب اسم النظام الجمهوري على (النظام الشعبي) و(النظام العامي) لان الشعبي والعامي يمثلان (طبقة العامة) غير المثقفة التي يقابلها (طبقة الخاصة) المثقفة. بينما الجمهورية بأصلها الأجنبي تعني كل الطبقات وهو ما يجسده مصطلح (Republic) فهو مأخوذ من الشعب كافة (Public) بمعنى حكومة العامة (الشعب) وليس الخاصة (طبقة النبلاء) (اللغة العربية الخامسة، 2022: 253).
وقد اعترض الدكتور مصطفى جواد على (الدكتاتورية) في قوله: قل: كان الحاكم جباراً، ذا حكم جبَّاري، ولا تقل: كان دكتاتوريا وكان حكمه دكتاتوريا (قل ولا تقل: 60)؛ لكون الكلمة غير عربية. وكذلك قوله: قل جواز السفر وأجوزة السفر وجوازاته، ولا تقل: پاسپورت (قل ولا تقل: 88). فمن المؤكد ان الدكتور مصطفى جواد ظن ان الجمهورية ليس من جنس الدكتاتورية، وذلك لوجود تصريف عربي لها، واذا كان يتتبع المستعمل والمعروف فهل وجد العرب استعملوا (الجمهورية)؟ وهذا يدل على عدم التحلي بالعمق والدقة.
قال الدكتور مصطفى جواد: (قل: فلان مُؤامر، ولا تقل: مُتآمر. لأن حق الواحد المفاعلة أي (المؤامرة) (قل ولا تقل، 34). فالدكتور صحح متآمر الى مؤامر، وصحح المؤامرة، ولم يدرك انها لا تعطي معنى المؤامرة المعاصر. فالمؤامرة في العربية تعني المشاورة: (الائْتِمارُ والاستئْمارُ: المشاورة. وكذلك التَآمُرُ) (لسان العرب: 4/ 30) (يُقسَم فيها الفّيْءُ والصَّدَقات من غير مُؤامَرة الخليفة) (كتاب العين (مؤسسة دار الهجرة، 1410): 7/ 123). ولا علاقة بين معنى (التآمر = المشاورة) والتآمر بالمفهوم المعاصر، ولم تذكره المعجمات العربية التي آخرها (تاج العروس). والمعجمات الحديثة استوعبت اللغة الهجينة فلا يعتد بها كالذي جاء في المعجم الوسيط (تآمروا عليه: تشاوروا في ايذائه) (المعجم الوسيط (دار الدعوة، 1989): 26).
والصحيح أن المؤامرة والتآمر بالمعنى المعاصر ترجمة لـ(Conspiracy = مؤامرة) (conspirator = متآمر). جاء في قاموس أكسفورد:
Conspiracy: planning sth, especially a crime, together with other people (Oxford word: 159).
(التآمر: التخطيط لشيء معين، وخاصة الجريمة، مع أشخاص آخرين). وهذا المعنى جديد، وضع له المترجمون لفظ (التآمر والمؤمرة) خطأ. فصحح الدكتور مصطفى جواد العبارة تصحيحا جزئيا وفاته ان المفردة برمتها خطأ، وكان عليه ان يرفعها ويضع مكانها (الكيد والمكيدة). قال تعالى (قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا(يوسف: 5).
* قال الدكتور مصطفى جواد: (قل: هذا رجل رُجعي ورجوعي، ولا تقل: رَجعي) (قل ولا تقل: 40). وهذا خطأ فاحش؛ فلفظة رجعي ورجوعي مصدر والمصدر لا ينسب اليه. وهذا خلل يؤكد ان الدكتور مصطفى جواد اختلط عليه الامر فروّج أقبح انواع الأخطاء وهو ما يتعلق بالقواعد. اذ ان كل الاخطاء اللغوية في الازمان السابقة كانت في الالفاظ وقليل منها في المعاني، ثم جاء العصر الحديث بأخطاء اجتثت القواعد لتسقط العربية في مهوى خطير أو مثوى أخير. ومثلها تدريسي، فدائي، قيادي، انتاجي، ارهابي.. الخ.) بـ(اشتقاق اسم الفاعل من المصدر الملحقة به ياء النسب). وفي اللغة العربية يشتق اسم الفاعل من الفعل مثل: عمل = عامل، كتب = كاتب. والأمثلة السابقة أسماء فاعل مشتقة من المصدر الملحقة به ياء النسب: فـ(التدريس مصدر درس، وبالنسبة اليه = تدريسي)، و(الفداء مصدر فدى، وبالنسبة اليه = فدائي)، و(القيادة مصدر قاد، وبالنسبة اليه = قيادي)، و(الإنتاج مصدر أنتج، وبالنسبة اليه = انتاجي)، و(الإرهاب مصدر أرهب، وبالنسبة اليه = إرهابي)، ويقتضي القياس العربي للجمل السابقة أن تكون: (هذا مدرس) و(أخي فادي) (هو قائد) (المعمل منتج) و(الرجل رهيب) (اللغة العربية الخامسة: 329).
والرجعي والرجعية ترجمة غير موفقة للمصطلح الانكليزي (Reactionary)، لأنه لا توجد كلمة تعبر عن هذا المعنى: ناكص ومتراجع ورجعي كلها تعني الرجوع الى الخلف لا اكثر. واللفظة الانكليزية بمعنى:
A person or entity who holds political views in favor of returning to a previous political state of society believed to have characteristics absent from the contemporary status quo of society. The word reactionary describes the views and policies aimed at restoring the status quo of the past (The New Fontana Dictionary, 1999: 729)
(شخص أو كيان يحمل وجهات نظر سياسية تحبذ العودة إلى حالة سياسية سابقة للمجتمع يعتقد أنها تتمتع بخصائص غائبة عن الوضع الراهن المعاصر للمجتمع. تصف كلمة رجعية وجهات النظر والسياسات الرامية إلى استعادة الوضع الراهن في الماضي). والاصح القول: ناكص، نكوص، ومتراجع، تراجع.
* قال الدكتور مصطفى جواد قل: الموظفون ونقلاتهم ولا تقل: تنقلاتهم (قل ولا تقل: 46). وقال في مكان آخر، قل: هو موظف فشل وفشيل، ولا تقل: هو فاشل (قل ولا تقل: 182). أقول: ان الدكتور ترك لفظة الموظف وبها المشكلة اللغوية الاكبر وراح الى النقل والتنقل. ففي لغة العرب (الوَظيفة من كل شيء ما يُقَدَّرُ له كل يوم من رزق أو طعام أو علف أو شراب، وجمعها الوظائف والوظفُ) (لسان العرب: 9/ 358). فالوظيفة تقابل الاجر او المقدر من الرزق، والموظَّف يعني (المال) وليس الشخص الذي يُعطى المال. فالوظيفة عربيا ليست العمل المخصص، بل (مقدار الراتب) لذا يقولون (له وظيفة من رزق. أي مقدار مبلغ يصرف له جراء العمل) ولا يقولون (هو موظف) بل (هو موظَّفٌ عليه = يُجرى عليه مبلغ) (اللغة العربية الخامسة: 234). أما المعنى المعاصر للموظف فلم يرد الا في المعجمات الحديث جاء في تكملة المعاجم العربية (توظف: تولى منصبا) (تكملة المعاجم العربية: 170). وهو ترجمة لـ(employee).
* قال الدكتور مصطفى جواد قل: فلان يكافح الاستعمار ويحاربه، ولا تقل: يكافح ضد الاستعمار ويكافح ضده (قل ولا تقل: 56). والصحيح يكافح المحتل والاحتلال، وليس الاستعمار. فان القوى العالمية احتلت دولنا وشعوبنا وأرادت تلطيف عملها الشنيع فروجت عن طريق المترجمين لفظ الاستعمار الدال على العمار وليس الخراب، وانطلت اللفظة حتى على المختصين كالدكتور مصطفى جواد. فـ(عَمَرَ النّاس الأرض يَعْمُرُونَها عِمارةً، وهي عامرة معمورة ومنها العُمْران. واستعمر الله النّاسَ ليَعْمُروها. والله أعمر الدّنيا عمْراناً فجعلها تعمر ثمُ يُخَرِّبُها) (العين: 2/ 137). فعلى هذا يكون المحتل جاء ليعمّر بلداننا لا يخربها الى الابد.
* قال الدكتور مصطفى جواد قل: الانتكاس أو الانتكاس النوعي، ولا تقل: الشذوذ الجنسي ولا الانحراف الجنسي. وقل: فلان منتكس، ولا تقل: فلان شاذ جنسيا، ولا منحرف جنسيا (قل ولا تقل: 83). الصحيح القول: شذوذ النكاح، وشاذ في النكاح، لان شاذ وشذوذ مقبولة، ولكن الجنس لا تعطي معنى النكاح والمضاجعة. إن الدكتور مصطفى جواد أخذ لفظة الجنس وراح يبحث في جذورها العربية، فلم يجد ولن يجد غير (النوع) فقال (قل الانتكاس النوعي) ولا يوجد ترابط بين الانتكاس النوعي ومعنى (الشذوذ الجنسي). وقد اوقع الدكتور في الخطأ أنه ظن نفسه يصحح ما روجته العامة كأخطاء القرون السابقة، وفاته ان الجنس ترجمة لـ(Sex) التي لها معنيان في الانكليزية: (المضاجعة) و(النوع) فخلط وغلط بهما الدكتور. والشذوذ الجنسي ترجمة لـ(homosexuality).
وغلط الدكتور باختياره الانتكاس بدل الشذوذ، فالانتكاس هو رجوع المرض ثانية؛ جاء في الوافي بالوفيات (ووفاته بدمشق في داره بالعادلية الصغيرة بعد مرضة طويلة عوفي في أثنائها ثم انتكس) (الوافي بالوفيات، دار إحياء التراث، 2000): 4/ 159). ولفظة شاذ اقرب الى الصحة جاء في الصحاح (شَذَّ عنه يَشُذُّ ويَشِذُّ شُذوذاً: انفرد عن الجمهور، فهو شَاذٌّ) (الصحاح، دار العلم للملايين، 1407هـ: 2/ 565). فالشاذ مختلف منحرف عن الجمهور ومنه (الافعال الشاذة) و(الشاذ عن القياس) والشاذ من الرجال والنساء منهم ولا يشبههم. ولم يوصف الشاذ في العربية، ففي القرآن الكريم وصفهم سبحانه بـ(قوم لوط (هود: 74). وقالت العرب (لوطي). وتسميهم الانكليزية (sodomy = سدومي) نسبة الى سدوم قوم لوط، وهي اصح من تسمية العرب لأنها تنسبهم الى قوم النبي، ونسبهم العرب الى النبي وهو منهم بريء.
* قال الدكتور مصطفى جواد قل: أسست المدرسة وأسس المسجد، ولا تقل: تأسست المدرسة وتأسس المسجد (قل ولا تقل: 87). والسبب كما يراه الدكتور (أن المدرسة واشباهها من العمارات، والمسجد وامثاله من البنيان لا تقوم بأنفسها). والصحيح ان العربية تقول: (شُيّدت كلية العلوم) و(بُني المسجد) و(المشيدات والمباني). وإذا قرأنا في اللغة العربية لفظة (أسس، تأسس) نجدها لا تعطي معنى (بنى، وشيّد) بل تعني (الاساس) وليس اكتمال البناء. لذا فهي لا تعطي معنى البناء وحدها، فاذا قلت لعربي (تأسست او أسست كلية العلوم) سيقول لك: (على ماذا أسست؟) فهم يقولون: (أسس البيت على قواعد متينة) (تأسست صداقته على المكر والخديعة). وجاء في الذكر الحكيم: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ(التوبة: 109).
* قال الدكتور مصطفى جواد قل: هذا هُوي طوابع، وهؤلاء هوو طوابع، وهو الهٌوي، وهم الهوون، ولم يكونوا هوين من قبل. ولا تقل: هذا هاوي طوابع، ولا هم الهواة) (قل ولا تقل: 95). واذا رجعنا الى المعجمات والكتب العربية لا نجد لـ(هوو، هوون، هوين) ذكرا. ولعل الدكتور اجتهد في القياس فأخطأ لانه خالف لغة العرب. والهوى تعني الحب، والشهوة جاء في كتاب الله العزيز (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (النازعات: 40). فالصحيح القول: (الوَلُوع) (أُولِع بكذا وَلُوعاً وإيلاعاً إذا لجّ، وتقول: وَلِعَ يَوْلَعُ وَلَعاً) (العين: 2/ 250). أما قولهم (الهاوي في مقابل المحترف) فممكن اقتراح (المتدرب والمحترف). وذوقا، ليس فيما اقترحه الدكتور مصطفى جواد (هوو، هوون، هوين) أي جمالية. ولم يقف الدكتور عند لفظة الطوابع، ولا تحرى معناها في لغة العرب، وهل يوجد لها معنى يطابق معناها المستعمل في ايامنا. فالمعجمات تذكر من معاني الطوابع (الطبيعة، الفطرة) يقولون (له طابعٌ حسن، بكسر الباء، أي طبيعة) (لسان العرب، أدب الحوزة، 1405هـ): 8/ 323). وكذلك (الختم، والذي يقوم بالختم) لذا قالوا (رأيت الطابع في يد الطابع) (اللغة العربية الخامسة: 236). والاصح استعمال الملصق والملصقات بدل الطوابع، والملصق البريدي بدل الطابع البريدي.
* قال الدكتور مصطفى جواد قل: هذا تلميذ مستتم، وهذه تلميذة مستتمة، وهذا تلميذ إكمالي، وهذه تلميذة إكمالية، ولا تقل هو مكمل ولا إكمال ولا مستكمل (قل ولا تقل: 97). الدكتور لم يحرر ذهنه من دائرة لفظة (الاكمالية) وراح يتحرى صورة صحيحة لها. فاقترح (تلميذ اكمالي) وخطَّأ (مكمل وإكمال ومستكمل). وهذه الالفاظ أصح من إكمالي؛ لان اكمالي نسبة الى المصدر، والعرب لا تنسب الى المصدر، والخطأ في القواعد أفحش الاخطاء على الاطلاق. وسبب اضطراب الدكتور انه تقيد بلفظة الاكمالية ولم يدر انها ترجمة حرفية لـ(complementary student = طالب مكمل) و(complementary) تأتي بمعنى (تكملة، مجموعة كاملة، متتم). وكان على الدكتور أن يقترح لفظة خارجة عن هذا السياق المترجم، مثل: (مُطالب) مثل: (مطالب بمادة او مادتين) (اللغة العربية الخامسة: 278).
* قال الدكتور مصطفى جواد قل: الخُطة الاقتصادية، ولا تقل: الخِطة الاقتصادية (قل ولا تقل: 99). ركز الدكتور على حركة الخاء للفظة خطة، وراح يستشهد بالمصادر المختلفة ليثبت انها الضمة وليس الكسرة، ولم يبحث في تلك المصادر عن صحة لفظة الاقتصاد! فكان ان تعامل مع اللغة المعاصرة بأسلوب قديم لا ينفع أو ينجع.
والاقتصاد ترجمة للمصطلح الانكليزي (Economy) واختياره غير موفق وقاصر عن تأدية المعنى الحضاري للمصطلح. ففي اللغة العربية (الاقتصاد: نقيض الإسراف) والفعل منه (اقتصد يقتصد). وجاء في مختار الصحاح (الاقتصاد: القصد بين الإسراف والتقتير. يقال: فلان مقتصد في النفقة، أي وسط في الإنفاق بين البخل والتبذير) (مختار الصحاح، دار الكتب العلمية، 1994): 277). ويأتي الاقتصاد بمعنى الوسطية كقوله تعالى ( مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ(المائدة: 66). فمن الواضح أن معنى الاقتصاد في اللغة العربية لا يغطي معناه المعاصر. وكان العرب يسمونه (علم المعاش) فترك المترجمون هذه التسمية العربية مع أنها اقرب إلى الحقيقة (اللغة العربية الخامسة: 16). وكان على الدكتور مصطفى جواد الذي نصب نفسه قيما على اللغة العربية ان يعيدها الى نصابها ما استطاع الى ذلك سبيلا، ولكننا وجدناه يترك هذه المصطلحات الكبيرة الخطأ منشغلا بأخطاء أقل خطراً.
* قال الدكتور مصطفى جواد قل: بالأَصالة عن نفسي، ولا تقل: بالإصالة (قل ولا تقل: 115). وراح يقلب الكتب القديمة ليثبت صحة أصالة (بالفتح) وليس بالكسر. ولم يبحث وما كان سيجد لفظة (بالأصالة) لانها تأتي حالا، وفي العربية لا يجر الحال، فالصحيح (اصالة عني ونيابة عن عائلتي) وهذه العبارة ترجمة من الانكليزية (On my own behalf and on behalf of my family) (اللغة العربية الخامسة: 166). فضحى الدكتور مصطفى جواد بالقواعد ليثبت ان الاصالة بالفتح وليس الكسر، ولم نسمع احدا يكسر همزة الاصالة. فضلا عن أن هذا التصرف يجعل عمله المضخّم هيناً، بل انه روج للغة الخاطئة. ولا ينكر جهده الباقي، الا انه كصحف المقتطف والاهرام، وقواميس المعجم الوسيط ومحيط المحيط والمنجد وغيرها روجت لهذه اللغة الخامسة الهجينة واعطتها جواز المرور لتحطيم لغة العرب الفصيحة.
* قال الدكتور مصطفى جواد قل: فعل ذلك على الرغم من أنف فلان، وبرغم أنف فلان، ولا تقل: فعله رغم أنف فلان. ثم قال: قل على الرغم من أنفه، وبالرغم منه، ولا تقل: رغم أنفه الا في الشعر (قل ولا تقل: 119). فالدكتور مصطفى جواد يريد القول: يجوز على الرغم، وبالرغم، ولا يجوز رغم. ولكنه جوّز رغم في الشعر من باب الضرورة الشعرية.
الحقيقة ان الخطأ الذي أشره الدكتور مصطفى جواد طفيف هنا؛ لان كل الالفاظ التي ذكرها بما فيها رغم هي بمعنى الرغم فعلا. ان الخطأ المعاصر في استعمال هذه الالفاظ (الرغمية) استعمالا في غير معنى الرغم مثل (كان مريضاً، ولكنه عمل بجد برغم ذلك) وهذه العبارات غير الرغمية بألفاظ الرغم خطأ فاحش، وهو ترجمة من الانكليزية (He was ill, but he worked hard all the same) والصحيح ترجمتها الى (كان مريضا، ومع ذلك عمل بجد).
* قال الدكتور مصطفى جواد قل: أحيل فلان على معاش التقاعد، وأحال عليه بحوالة، وأحال على الكتاب المذكور، ولا تقل: أحال اليه بهذا المعنى (قل ولا تقل: 157). وهذا خطأ، لعدم مناقشة الدكتور مصطفى جواد الالفاظ المترجمة غير الموفقة في الترجمة، والتي فرضت على اللغة العربية فتبنتها وكأنها منها. أقصد لفظة (التقاعد). ففي اللغة العربية (التقاعد: التراخي والقعود عن الشيء) (لسان العرب: 14/ 315) جاء في الأثر (تقاعد الناس عن مبايعته = تراخوا، قعدوا) (قعد عن الجهاد = لم يجاهد). فالتقاعد في العربية لا يعطي معنى الجمل السالفة. ولنا أن نعذر العربية على عدم وجود لفظة دقيقة لهذه الحالة، لان العرب لم يألفوا الوظائف، واللغة لن تجد اسماً دون أن يوجد المسمى. وأرى الاصوب القول (القعود) و(فلان قعد عن العمل) و(بلغ السن القانونية) و(بلغ سن القعود) و(قانون القعود في العمل).
والتقاعد وما يتصل به جاء ترجمة من الانگليزية لألفاظ:
التقاعد = (Retirement)
قانون التقاعد = (Retirement law, Pensions law)
تقاعد، أحيل الى التقاعدَ = (Retire, Pensioned off)
المعاش التقاعدي = (Pension)
والغريب إن المتحذلقين يجادلون في أيهما أصح (أحيل إلى التقاعد أم أحيل على التقاعد) والمشكلة ليست في إلى وعلى، بل في التقاعد نفسه. وهو اصطلاح خاطئ لا يدل على الحالة، وسببه محاولة المترجمين إيجاد لفظة واحدة تكون إزاء اللفظة الانگليزية، وهو لا يمكن في كثير من الأحوال لفقر العربية الحالية، وكان عليهم ايجاد مصطلح عربي من أكثر من لفظة للترجمة الدقيقة (اللغة العربية الخامسة: 252).
* قال الدكتور مصطفى جواد قل: الدأب والديدن والشاكلة والطريقة والسنة والجديلة، ولا تقل: الروتين (قل ولا تقل: 169). فالدكتور حاول ايجاد لفظة عربية لمصطلح انكليزي. ولو انه كرَّس جهده ومعرفته الضخمة بالعربية في ايجاد كلمات عربية للمصطلحات، فقد يفلح في وضع الكثير، ويسن سنة لمصححي اللغة العربية في هذا الاتجاه وهو الاكثر والافحش أخطاء. وفي مكان آخر يقول : قل ما أجمله وما أجملها، وما كان أجملهما، ولا تقل: كم هو جميل وكم هي جميلة (قل ولا تقل: 180). وهذا خطأ قواعدي مهم، ويدل على ان الدكتور تنبه على هذا النوع، الا انه لم يوله اهتمامه غفلة وليس تغافلا.
الا انه مع ذلك لم يوفق فيما اقترحه لمعنى الروتين وهو طبيعة العمل الاداري بوضع خطوات ثابتة ومحددة لاستكمال المعاملات في الدوائر والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية. واشتق من الروتين كل عمل يجري على نسق واحد، فيقولون (إجراء روتيني)، (روتين يومي). والروتين يقترن بالعمل الإداري. وكلمة روتين انگليزية (Routine) وممكن وضع اقتراحات افضل من اقتراحات الدكتور مصطفى جواد وهي:(نمط، رتابة، عمل يومي، ابتذال، فقرة مكررة) (اللغة العربية الخامسة: 28).
الخاتمة
هذه عينة من أخطاء الدكتور مصطفى جواد. نكتفي بها في قراءة كتابه (قل ولا تقل) لبيان ان هذا الكتاب وكل كتب التصحيح المعاصرة وضعت جهدها في التصحيح الجزئي، وتركت التصحيح الشامل الذي سببته الترجمة والعوملة، التي مسخت اللغة العربية وبنت الى جانب بنائها لغة اخرى هجينة، وقد تناولنا ذلك في كتابنا (اللغة العربية الخامسة – الفصحى الهجينة).
***
الأستاذ الدكتور محمد تقي جون
......................
قائمة المصادر والمراجع بالعربية
* اصلاح المنطق، ابن السكيت (ت 244هـ)، تحقيق: الشيخ محمد حسن بكائي (مشهد، مجمع البحوث الاسلامية، 1412هـ).
* تكملة المعاجم العربية، رينهارت دوزي، عربه جمال الخياط (بغداد، دار الشؤون، 2001).
* الصحاح، الجوهري (ت 393هـ)، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، ط4 (بيروت، دار العلم للملايين، 1407هـ).
* قل ولا تقل، مصطفى جواد، قدم له عبد المطلب صالح (بلا معلومات).
* كتاب العين، الخليل بن احمد الفراهيدي (ت 175هـ)، تحقيق: د. مهدي المخزومي ود. ابراهيم السامرائي (مؤسسة دار الهجرة، 1410).
* لسان العرب، ابن منظور (ت 711هـ)، نشر أدب الحوزة، 1405هـ.
* اللغة العربية الخامسة، الاستاذ الدكتور محمد تقي جون (بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة.
* مختار الصحاح، محمد بن أبي بكر الرازي (ت 721هـ)، تحقيق: أحمد شمس الدين (بيروت، دار الكتب العلمية، 1994).
* المخصص، ابن سيده (ت 458هـ)، تحقيق: لجنة احياء التراث العربي (بيروت، دار احياء التراث العربي).
* المعجم الوسيط (دار الدعوة، 1989).
* الوافي بالوفيات، الصفدي (764هـ)، تحقيق: أحمد الارناؤوط وزكي مصطفى، (بيروت، دار إحياء التراث، 2000).
* وفيات الاعيان وأنباء أبناء الزمان، ابن خلكان (ت 681هـ)، تحقيق: احسان عباس (لبنان، دار الثقافة).
* Oxford word power, first published, University press 1999
* The New Fontana Dictionary of Modern Thought Third Edition, (1999) p. 729.>