دراسات وبحوث

دراسات وبحوث

(أيّها الأثينيّون لقد حكمتم عليّ بالإعدام وهذا لا يحزنني بل يُسعدني لأنني انتصرت على أعدائي. أفضل أن أموت حراً على أن أعيش عبداً...).. سقراط.

1- مقدمة:

يطرح التفكير في واقع الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية منظومة معقدة من القضايا والإشكاليات التي تأخذ طابع التنوع بأبعادها الفكرية والاجتماعية. ففي أحضان الجامعات نمت الحركات الديمقراطية، وتفتق العقل البشري عن طاقاته الإبداعية في مختلف الميادين والاتجاهات. وهذا هو المنطلق الذي دفع عددا كبيرا من الباحثين والمفكرين إلى الاعتقاد بأن مستوى تطور مجتمع ما مرهون إلى حد كبير بمستوى تطور جامعاته. وتلك هي الحقيقة التي انطلق منها بعض المفكرين لتفسير حتى الانتصارات والهزائم العسكرية لبلدانهم. ألم يعلن الكاتب المشهور الفرنسي أرنست رينان، في أعقاب الحرب الطاحنة التي دارت رحاها بين فرنسا وألمانيا في عام 1870، والتي انتصر فيها الألمان بأن " الجامعات الألمانية هي التي انتصرت (1). أولم ينادي أيضا الفيلسوف الألماني فيخته بعد هزيمة ألمانيا عام 1806 أمام جيوش نابليون إلى إصلاح التعليم والتربية لإنقاذ البلاد. ألم تدعو الولايات المتحدة الأمريكية وبلدان أوروبا الغربية إلى إصلاح التعليم بعد إطلاق الاتحاد السوفييتي السابق لقمره الصناعي الأول سبوتنيك عام 1957. فالجامعات كانت ومازالت تشكل معقل الفكر الحر ومنطلق التجديد والابتكار في مختلف ميادين الوجود الاجتماعي، وقد ارتبط تاريخ هذه الجامعات بتاريخ نماء الفكر الديمقراطي بكل ما ينطوي عليه هذا الفكر من أصالة وقيمة إنسانية.

كانت الجامعات عبر تاريخها الطويل موطنا للحرية وحاضنا طبيعيا للقيم الديمقراطية، وهي في سياق هذه الوضعية كانت مصدر إشعاع حضاري وينبوعا للقيم الديمقراطية ومستنبتا لهذه القيم في البيئة الاجتماعية التي وجدت فيه.

وإذا كان نماء الفكر الديمقراطي رهينا بتطور الأبعاد الديمقراطية للحياة الاجتماعية بصورة عامة فإن الجامعات كانت ومازالت تشكل الحلقات الأكثر أهمية وخصوصية في عملية هذا النماء، فالعلم لا ينمو إلا بالإبداع والابتكار، وبالتالي فإن قيم الحرية والديمقراطية هي البوتقة التي تتشكل في معارجها أسس الإبداع والتجديد والابتكار. ومن هنا فإن الجامعة كمؤسسة علمية لا يمكنها أن تؤدي دورها التاريخي إلا في أجواء الحرية والمعاني الديمقراطية. فالجامعة كما يشهد تاريخها الطويل كانت المرآة الأولى التي ترتسم فيها أبجديات الإبداع والحرية في المجتمع الذي يحتضنها، ويتأسس على ذلك بالضرورة أن الفكر الديمقراطي بكل ما ينطوي عليه من قيم وعطاءات يجد نفسه في أحضان المؤسسات الأكاديمية العليا أولا، ومن ثم تبدأ دورته الاجتماعي ليأخذ أبعاده في مدار الحياة الاجتماعية بمختلف مؤسساتها وحلقاتها.

والجامعة في هذا السياق، كما تؤكد أدبيات علم الاجتماع - لا يمكن أن تؤدي وظائفها إلا على نحو متكامل وفي نسق روح واحدة وهوية موحدة. وهي على هذا الأساس التكاملي لا يمكنها أن تكون مؤسسة علمية ما لم تكن مؤسسة ديمقراطية، ولا يمكنها أن تمارس دورا اجتماعيا حضاريا ما لم تؤد وظيفتها العلمية والديمقراطية. وهذه الرؤية الموضوعية لدور الجامعة ووظائفها التي تتمثل في العلم والديمقراطية تطرح قضية إشكالية معاصرة تتعلق بدور الجامعة ووظيفتها.

فالجامعة نسيج من العلاقات الاجتماعية والثقافية التي تقوم بين مكونات وجودها، ويمكن للعلاقات الاجتماعية أن تأخذ اتجاهين مختلفين، فهي إما أن تكون علاقات عمودية، وإما أن تكون علاقات أفقية، وبتعبير آخر إما أن تأخذ هذه العلاقات اتجاها يتميز بالمرونة أو طابعا يتصف بالتصلب. وهذا يعني أن هذه العلاقات قد تأخذ صورة علاقات ديمقراطية أو علاقات تسلط تتميز بطابع التصلب والجمود. ويتأسس على ذلك أن غياب العلاقات الديمقراطية في الجامعة يفسح المجال لنماء علاقات التسلط والاستبداد، وعلى خلاف ذلك فإن غياب علاقات التسلط والإكراه يعني بالضرورة حضور القيم الديمقراطية في الجامعة.

إن دراسة أبعاد الحياة الديمقراطية والحريات الأكاديمية الجامعية تشكل منطلقا حيويا لدراسة الروح الداخلية للجامعة. فالأداء الديمقراطي للجامعة يشكل في نهاية الأمر الدورة الدموية للحياة في الجامعة، كما يمثل في الوقت نفسه صورة مصغرة للحياة الديمقراطية في المجتمع بصورة عامة، وذلك انطلاقا من أهمية العلاقات الوشيجة بين الجامعة والمجتمع، فالمجتمع يشكل الإطار العام لدورة الحياة الجامعية وهي تمثل الصورة المستقبلية التي سيكون عليه هذا المجتمع في معارج نمائه وتطوره الداخلي.

وإذا كانت الجامعات الغربية قد أدت دورها وتكونت لديها تقاليد علمية وديمقراطية راسخة، فإن الجامعات العربية مدعوة لأداء دور تاريخي بالغ الأهمية والخطورة في مجتمعات مازالت فيها قيم التعصب والقبلية والعشائرية والطائفية تسود وتنخر عظام الوجود الاجتماعي.

فالقيم السابقة لوجود المجتمع المدني والمناهضة له تستشري في أوصال الثقافة العربية وهذا يفرض على الجامعة أن تؤدي دورا حضاريا بالغ الأهمية والخطورة. وفي هذه الدائرة تبرز أهمية الوظيفة الديمقراطية للجامعة وتنهض ضرورتها التاريخية، ومن هذا المنطلق تأتي أهمية الدراسة الحالية التي تحاول أن تستجلي معالم هذه الوظيفة في التعليم الجامعي العربي بصورة عامة.

فالمسألة الديمقراطية في التربية تشكل اليوم جوهر المشروع التربوي للنهضة العربية، وهي بالتالي تشكل منطلق الطموحات العربية نحو مجتمع تغمره عطاءات الحياة الإنسانية الديمقراطية. إذ لم يعد دور الجامعة في إطار المجتمع المعاصر تقديم معرفة أو ثقافة إنسانية عامة وشاملة وتلقين هذه المعرفة كفاية بذاتها، بل أصبح هذا الدور معنيا بأداء مهمات جديدة تستجيب لحاجات متجددة أبرزها بناء الخصائص الحضارية للإنسان الذي يمكنه أن يتجاوب مع طابع تطور الحياة على نحو يأخذ فيه الذكاء الاجتماعي أهمية متزايدة ومتنامية. وهذا يعني أن المهمة الأساسية للجامعة والمؤسسات التربوية بصورة عامة تتمحور حول بناء الإنسان المواطن الذي يستطيع أن يتجاوب مع معطيات الحضارة وقيمها المتجددة.

وفي هذا السياق تتبدى الضرورة التاريخية اليوم لدراسة وتحليل وضعية الجامعات العربية وتقصي دورها الحضاري في تعزيز الوجود الديمقراطي للشعوب العربية في مختلف أقطارها. فالمجتمعات العربية تعاني اليوم من حالة قهر حضاري يتمثل في غياب القيم الديمقراطية وهيمنة القيم السابقة لوجود المجتمع المدني، ولا سيما قيم التعصب والقبلية والطائفية السياسية والدينية، كما تعاني هذه المجتمعات من انحدار الوعي الديمقراطي وقيمه في مختلف تقاطعات الزمان والمكان والصيرورة. وهذه الوضعية المقهورة تقتضي من الجامعات بوصفها مؤسسات العلم والديمقراطية أداء دور تاريخي متزايد ومتعاظم في اتجاه بناء المجتمعات العربية على أسس ديمقراطية في مواجهة المدّ العنصري الخانق لقيم التسلط والإكراه.

وانطلاقا من هذه الرؤية والإقرار بهذه الوضعية التاريخية للجامعات العربية تتبدى الضرورة التاريخية اليوم لدراسة طبيعة التفاعلات الداخلية لهذه الجامعة وتحديد دورها الديمقراطي في تأكيد ذاتها ووجودها. وسعيا نحو هذا الهدف تأتي هذه الدراسة الراصدة للأداء الديمقراطي الداخلي للجامعات العربية لتستجوب مجموعة من الرؤى المنهجية ومنظومة من التساؤلات العلمية حول دور الجامعات وأدائها وفعالياتها الديمقراطية. ونحن في مساعينا هذه نحو تقديم صورة علمية لواقع التفاعلات والفعاليات الديمقراطية في الجامعات العربية نريد أن نحدد وقع الأدوار الجديدة التي يمكن أن تؤديها هذه الجامعات في خدمة قضايا الحق والعدالة والإنسان، وهي قضايا تصب في صلب النماء الحضاري للمجتمعات العربية المعاصرة.

2- مفهوم الحرية الأكاديمية:

شغلت قضية الحريات الأكاديمية علماء الاجتماع على اختلاف مذاهبهم وتياراتهم. وتعد مشكلة الحرية الأكاديمية Academic Freedomمن القضايا الأساسية التي عالجها ماكس فيبر بمزيد من الاهتمام، حيث يعتقد بأن مختلف المشكلات والقضايا الجامعية ترتبط بها جوهريا. وهذا يعني أن الحرية الأكاديمية تشكل عمق الحياة الجامعية وجوهرها بكل ما تنطوي عليه هذه الحياة وهذه الوظائف من اعتبارات اجتماعية وإنسانية وقيمية(2). وقد وصف فيبر طبيعة الحياة الأكاديمية " بأنها تعكس جوهر المشكلة الثقافية والفكرية التي توضح العلاقة بين النظام التعليمي في ألمانيا وخاصة نظام التعليم الجامعي(3).

يعد مفهوم الحرية الأكاديمية من المفاهيم الإشكالية التي تنطوي على نسق معقد من الأفكار والاتجاهات المختلفة. ويتجسد البعد الإشكالي لهذا المفهوم ما وصل إليه رؤساء خمسة وعشرين جامعة أمريكية في اجتماعهم الشهير في فبراير عام 1953 لمناقشة الحرية الأكاديمية، إذ حسبما تقول شريكر: "كانوا كلما أمعنوا في مناقشة المسألة، ازدادت غموضا(4).

وفي خضم هذا التنوع الكبير في دلالات المفهوم، يوجد إجماع على أن مفهوم الحرية الأكاديمية بمعنى حرية التعليم والتعلم، انطلق من ألمانيا، مع إنشاء جامعة برلين عام 1810، بإشراف الفيلسوف الألماني الشهير يوهان غوتليب فيخته Fichte Gottlieb Johan،، ومن ثم شهد هذا المفهوم نماءه وتطوره في ظل الجامعات الأمريكية وفي أروقتها(5).

ومع ذلك يمكن أن نتلمس ظلال هذا المفهوم في الجامعات الغربية في العصور الوسطى. حيث كان المفهوم يشير إلى أمرين هما: اعتراف السلطة الدينية أو المدنية بالاستقلال الذاتي للجامعة والحقوق الخاصة والامتيازات التي يتمتع بها الأساتذة والطلبة في الجامعة، مثل: حرية السفر والتنقل الآمن، ومحاكمة الخارجين على قوانين الجامعة وأنظمتها، وحق الجامعة في وقف التدريس فيها أو نقل مكانها عند تعرضها للخطر، وقد شملت هذه الحقوق إعفاء ممتلكات الأساتذة والطلبة من الضرائب وإعفائهم من الخدمة العسكرية. وبموجب هذا الاستقلال الذاتي تمتعت الجامعة بحرية تنظيم إدارتها الذاتية فيما يتعلق بكلياتها وإداراتها وتحديد شروط العضوية في هيئتها التدريسية. وكانت المراسيم البابوية والمواثيق الملكية في أوروبا تؤكد هذا الاستقلال الذاتي للجامعات التابعة للكنائس والأديرة والممالك (6).

ولم تقف الحرية الأكاديمية عند حدود أعضاء الهيئة التدريسية بل شملت الطلاب أيضا، وتعني الحرية الأكاديمية للطلاب حقهم في الحصول على التعليم الذي يناسبهم، وحقهم في بناء تصوراتهم والتعبير عن آرائهم ومعتقداتهم بحرية وجرأة دون ضغوط أو إكراهات خارجية. ويركز التراث الجامعي الألماني على ازدواجية مفهوم الحرية الأكاديمية، فهناك الحرية التي تخص الأساتذة ويعكس ما يسمى بحرية التعليم، والآخر يخص الطلاب ويسمى حرية التعلم. وتؤكد المقولات الألمانية في هذا السياق على أهمية حرية التعلم عند الطلاب وأن هذه الحرية لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال حرية التعليم أي حرية أساتذة الجامعة. وهذا يعني أن حرية الطالب رهينة بحرية الأستاذ في التعليم. فحرية التعلم تعني حقوق الطالب في الالتحاق بالجامعة، وحرية اختيار الفروع التي يرغبها وهو المطلب الأول، أما المطلب الثاني فهو حرية الطلاب في الاعتراض والمناقشة والخروج على آراء الغير(7).

وكان أبرز من بشر بالنجاح الثاني للحرية الأكاديمية، أي لحرية الطلاب هو جارلس ايليوت C.W.ELIOT الذي استمرت ولايته لجامعة هارفارد أربعين عاما من (1909- 1869) حيث أكد ضرورة ممارسة الطالب لحريته في التعليم والبحث واختيار المنهج والأستاذ المعلم (8). " وقد بدأ بعض أعلام التعليم الجامعي في الغرب عامة وفي الولايات المتحدة خاصة منذ أواخر القرن الماضي يتنبهون إلى أن الحرية الأكاديمية للجامعة ينبغي أن تمتد مظلتها لتشمل الطلاب كذلك، فبرز ما سمي بنظام الاختيار للمقررات الذي سارعت جامعات عربية إلى اقتباسه منذ أواسط السبعينات(9).

إن البحث في جوهر مفهوم الحريات الأكاديمية يؤكد وجود منظومة من المفاهيم والقيم الداخلية لهذا المفهوم. ومن هنا يذهب بعض المفكرين إلى التمييز بين جوانب هذه الحرية حيث يتم النظر إلى ثلاثة جوانب أساسية في منظومة الحريات الأكاديمية وهي: الجانب الأول ويعبر عن حرية العلم والبحث العلمي. أما الجانب الثاني فيجسد حرية الأفراد المشتغلين بالعلم والبحث العلمي ويشمل حقوق وواجبات مهنة العمل الأكاديمي. أما الجانب الثالث فيرمز إلى الحرية الداخلية للجامعات والمؤسسات الجامعية العليا (10).

وبعض الباحثين يؤكدون على جوانب محددة في مفهوم الحريات الأكاديمية ويبرزون عناصر الحرية يتنوع تجلياتها ووفقا لهذا المنظور فإن الحرية الجامعية تتمثل في ثلاثة مستويات كما يرى أحد المفكرين وهي:

1- حرية الرأي العلمي بالقول

2- حرية الرأي العلمي بالفعل

3- حرية الرأي العلمي بالتحريض والإثارة كما هو حاصل في مجال التعليم والخطابة والكتابة…(11).

وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى التعريف الإجرائي الذي ينظمه جون ديكنسون للحرية الأكاديمية فالحرية الأكاديمية تتكون من أربعة عناصر يمكن قياسها والتأكد من تحققها على أرض الواقع. هذه العناصر هي:

- الاستقلال الداخلي للمؤسسات الجامعية والبحثية: فالاستقلالية الداخلية للجامعة هي العنصر الأول من عناصر الحرية الأكاديمية.

- تنوع وتعدد مصادر تمويل الجامعات بما في ذلك تعدد تمويل البحوث الأساسية والتطبيقية

- التأكيد على الأمن الوظيفي للباحثين والأكاديميين.

وجود هيئة أو جمعية مهنية تتولى تمثيل الباحثين والأكاديميين وتدافع عن مصالحهم بصورة فردية أو جماعية. (12)

وإذا كانت الحرية الأكاديمية تعني صورة من صور الحرية الفكرية والحرية.. وإذا كانت أيضا تنطوي على رفض لكل أشكال الإكراه والتقييد على البحث والتدريس داخل المؤسسات الجامعية والعلمية والبحثية، " فإن هدفها الأعم الارتقاء بواقع العطاء العلمي وإزالة كافة أشكال المعوقات التي تحد من النشاط العلمي والبحثي الحر وتحد من انتشار العلم والتفكير العلمي وتغلغلهما في الحياة" (13).

ويؤكد أغلب الباحثين المشتغلين بقضايا الحرية الأكاديمية أن مفهوم الحرية الأكاديمية يرتبط ارتباطا وثيقا بالحريات السياسية السائدة في المجتمع ويرتهن بها. فالحرية الأكاديمية، كما يعتقد أغلب المفكرين شديدة الارتباط بالبيئة الاجتماعية والسياسية التي تحدد مستوى تطور هذه الحرية وطابعها. " فالمعطيات والظروف الاجتماعية والسياسية هي التي تتحكم في وجود أو غياب الحرية الأكاديمية والأشكال الأخرى من الحريات والحقوق، خاصة في مجال التطبيق والممارسة" (14). ويمكن في هذا السياق تحديد مظاهر الحرية الأكاديمية في عدد من الجوانب الإجرائية وهي (15):1- اختيار الإداريين الأكاديميين في الجامعة وفي مختلف كلياتها وأقسامها. 2- اختيار أعضاء هيئة التدريس.3- اختيار الطلاب 4- اختيار المقررات ونظام التقويم 5- المشاركة في وضع اللوائح المنظمة للعم الجامعي6- حرية التعبير عن الرأي في القضايا المجتمعية العامة

وفي مجرى الحديث عن الحريات الأكاديمية في الجامعة والمؤسسات العلمية فإن كثيرا من الباحثين يلجمون هذا المفهوم بمبدأ المسؤولية والالتزام إلى حد يكاد يفقد فيه مفهوم الحرية الأكاديمية معناه وجوهره الحقيقي. ومن هذه الزاوية يؤكد كثير من الباحثين والمفكرين على ثانوية القيد والالتزام تأكيدا منهم على جوهر وأهمية المفهوم وحرصا على معانيه التاريخية ومن هذا المنطلق يقول عبد الخالق عبد الله "إن الإقرار بمبدأ المسؤولية والالتزام في مجال العمل العلمي والأكاديمي لا يعني مطلقا التسليم بالقيود على الحريات الأكاديمية، فالحريات الأكاديمية تظل هي القاعدة، أما القيود، بما في ذلك القيود الذاتية والداخلية، فهي باستمرار الاستثناء، بل إن الحرية الأكاديمية ليست سوى السعي من أجل التقليل إلى أقصى حد من القيود المفروضة على نشاط الأكاديميين والباحثين والمشتغلين بالعلم" (16). إن الحرية الأكاديمية، و مهما تباينت الآراء حول تحديد مفهومها و أبعادها، تقوم على سلطان العلم و لا يبرر إلا به وفي حدوده، بحيث أن كل تحول في طبيعة هذا السلطان يؤول إلى زيغ عن الحرية الأكاديمية و انقلاب عليها، فينزلق بها إلى مستوى التغييرات التي تجعلها تسخر لخدمة التصورات الأيديولوجيا و المصالح الفئوية والحزبية(17).

لقد أصبحت الحرية الأكاديمية بوصفها المنطلق الحقيقي لاكتشاف الحقيقية العلمية، مسلمة من المسلمات الحياتية والفكرية في المجتمعات الغربية وفي أكثر بلدان العالم المتحضر وهي قضية تجاوزت حدود الاختلاف والجدل في هذه البلدان. ولكن هذا المفهوم مازال يخوض غمار ولادة مريرة وآثمة في أغلب البلدان العربية. فالأنظمة السياسية ترفض مضامين هذا المفهوم وتصنفه بين المفاهيم الخطرة التي يجب أن تحارب. وبعض المفكرين العرب يخوضون غمار تجربة شاقة ومريرة لتأكيد الحضور الخلاق لهذا المفهوم الذي يبرر شرعية البحث عن المعرفة والحقيقية وتأكيد العلم والتفكير العلمي الحر في الحياة والمؤسسات الجامعية.

3- الحريات الأكاديمية والإبداع العلمي والمعرفي:

يعلن الفيلسوف الشهير برتراند رسل عن وحدة الإبداع والحرية كما يؤكد وضعية التلازم الحيوي بين الحرية الأكاديمية والابتكار إذ يقول بلغة بليغة ومقنعة بأن الأكاديمي: " شأنه شأن الفيلسوف والفنان ورجال الأدب، لا يمكنه القيام بعمله بكيفية مرضية إلا إذا شعر بأنه موجه من قبل دوافعه الداخلية الخلاقة، وأنه ليس مهيمن عليه من طرف سلطة خارجية " (18).

يقول أسامة عبد الرحمن في هذا الخصوص مؤكدا على العلاقة الجوهرية بين الإبداع والحريات الأكاديمية " إن الحرية الأكاديمية والمناخ الملائم للبحث والإبداع لا يصدران بقانون أو نظام، ولكنهما محصلة قيم اجتماعية وسياسية وثقافية راسخة الجذور، ولا يمكن في ظل التقوقع وعدم الشعور بالأمان أن يكون هناك بحث علمي حقيقي وإن رصدت الملايين باسم البحث العلمي (…) لأن العلماء هم نتاج وثمرة الجو الفكري الحر ومثل هذا الجو غير متوافر في واقع الحياة العربية الراهنة. فإذا نبغ عالم بين ظهرانينا فإن ذلك يكون في العادة بالرغم من الظروف المحيطة به وليس بفضلها (19).

لقد أجمع أهل الفكر والفلسفة عبر التاريخ أن العقل والعبودية لا يجتمعان، وأن العقل توأم الحرية فحيثما يوجد أحدهما يزدهر الآخر، كما يمتنع حضور أحدهما دون الآخر. وانطلاقا من هذه الحقيقة حاول الطغاة عبر مراحل التاريخ الإنساني استئصال شأفة التفكير والإبداع في كل مكان وزمان. فالمفكرون يجمعون على هذه الحقيقة التي تتمثل في أهمية العلاقة بين الإبداع والحرية ويؤكدون على تلازم هذين الحدين في مختلف مراحل تطور المجتمعات الإنسانية. وهذا التلازم المشهود بين الحرية والعطاء العلمي مشهود له في تجربة الحضارات الإنسانية، فأغلب الحضارات المتقدمة في التاريخ كانت وليدة أجواء الحرية والديموقراطية في مستويات مختلفة. وقد تتجلى هذه الحريات في أنظمة للعدالة الاجتماعية تغطي جوانب الحياة الاجتماعية. وهذا ما تسجله الحضارات المتقدمة كالحضارة الإغريقية والحضارة العربية الإسلامية في عهود ازدهارها. ويؤكد محمد جواد رضا هذه الحقيقة عندما يتحرى منطق الحضارة العربية وأسس نهضتها فيقول " استطاع المجتمع العربي الإسلامي في عصر المأمون – بمقياس نسبي - تحقيق مبدأين اجتماعيين كانا سبب ازدهاره، مبدأ العقلانية Rationalisme في فهم الكون والتعامل معه وتقرير موقع الإنسان فيه، ومبدأ العدل الاجتماعي La justice . فلم مضى المأمون وأفل نجم عصره ووقع العدوان على هذين المبدأين كان ما نعرفه جميعا من سقوط حضارة العرب سياسيا وخروجهم من مركز دائرة الفعل في حركة التاريخ إلى " محيط " الانفعال (20) ).

" إن العلاقة بين الإبداع العلمي والحرية وثيقة "فالإبداع عطاء خيال حر وعقل تنفتح له الآفاق، وإرادة تمتلك الاختيار، ولذلك كثيرا ما يخرج الإبداع من رحم الحرية، وينمو في ظلها، فالطاقات المبدعة "لا يمكن أن تستنبت في أجواء القمع والإرهاب، والاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي وغياب الحرية وحقوق الإنسان(21).

وفي مستوى المؤسسات التربوية كما هو الحال في مستوى المجتمع تلعب الحرية دورها التاريخي فالحريات الأكاديمية في الجامعة والأجواء الديمقراطية هي الرهان التاريخي لتطور العلم والمعرفة والإنسان المبدع الحر. إن الإبداع في مجال التعليم يعتمد على الحرية، فقد أظهر تقرير أعدته لجنة تطوير المناهج الأمريكية، أن من العوامل التي تعيق الإبداع في المدرسة الامتثال للأوامر والتركيز المبالغ فيه على السلطة وإهمال التلاميذ داخل الغرف الصفية وتركيز الإدارة على القواعد والقوانين والتعليمات وإهمالها للطلاب كأفراد(22).

وقد سجلت هذه الحقيقة جوهر وجودها في أعمال كبار المفكرين والفلاسفة أمثال روسو وديوي وكانط وبستالوتزي وغيرهم، فالحرية في عرف كانط وفي نهاية كل أمر هي المبتدأ والخبر في العملية التربوية(23). وهي تتجلى صنّوا للعقل في منظور المفكر العربي عبد الرحمن الكواكبي وهذه هي الحقيقة التي عاش ومات من أجلها(24). فالحرية كما يراها الكواكبي هي الشيء الذي يحقق معنى الحياة الإنسانية، حيث يقول " الحرية أعز شيء على الإنسان إذ بفقدها نفقد الآمال، وتموت النفوس، وتتعطل الشرائع وتختل القوانين فالحرية هي أن يكون الإنسان مختارا في قوله وفعلة لا يعترضه مانع ظالم(25). فالديمقراطية " لم تعد ترفا ثقافيا أو موضوعيا يهم المثقفين، بل هي ضرورة حيوية لنهضة الأمة والخروج بها من أزمتها(26).

يؤكد عبد الخالق عبد الله على الضرورة التاريخية لمطالب الحرية الأكاديمية في الوطن العربي إذ يقول:" إن الحرية الأكاديمية هي مطلب مهم من مطالب استمرار المشتغلين بالعلم والبحث والتدريس الجامعي في نشاطهم بمأمن من أي نوع من أنواع الإزعاج من قبل السلطات أو الزملاء أو المؤسسات أو المجتمع ككل. من حق هؤلاء ممارسة نشاطهم في البحث والتدريس دون قيود، ما عدا قيود ضمير وفكر وحس العالم والباحث نفسه، كما أن من حقهم التعبير عن آرائهم ولإعلان عن نتائج بحوثهم وتأملاتهم مهما كانت غير تقليدية وغير شائعة، بل حتى لو تعارضت مع التصورات والقناعات السائدة دون أن يتعرض أحدهم للعقاب أو الإساءة ودون أن يؤدي ذلك إلى فقدانه لوظيفته في المؤسسات الجامعية والبحثية(27). وفي هذا الخصوص أيضا يقول سعيد إسماعيل علي "ليست الحرية الأكاديمية بالنسبة للتعليم الجامعي حلية يتزين بها وليست ترفا يريد به الأساتذة أن يستكملوا به مظاهر(تميز) و(انفراد)، وإنما تقوم على مجموعة من الأسس التي تجعل منها ضرورة وحتمية اجتماعية ووجوبا دينيا وفريضة فلسفية"(28). وتتضح هذه الحقيقية فيما تذهب إليه جوستين بي ثورنز إذ تقول: "الحرية الأكاديمية ليست ميزة للأقلية بل هي لتمكين أعضاء المجتمع الأكاديمي من تنفيذ وتحقيق مهمتهم العلمية (29). وتلح ثرورنز على أهمية الدفاع عن هذه الحقوق كضرورة تاريخية حيث تقول: " إن الدفاع عن الحريات الأكاديمية يعد ضروريا في المجتمعات السلطوية كما هو ضروري في المجتمعات الحرة والديمقراطية. إن الحرية الأكاديمية ليست حقا فحسب بل هي واجب مفروض على المجتمع الذي ينتمي إليه الأفراد (30).

ويؤكد تالكوت بارسونز في هذا الصدد أن الحرية الأكاديمية ليست مجرد حقوق طبيعة وإنسانية أو نظامية فحسب، بل هي فوق ذلك حقوق أساسية تكفل لأساتذة الجامعات أهم مظاهر المساواة الاجتماعية التي تجسد جوهر الحقوق الليبرالية الطبيعية، وتكفل تحقيق مفهوم الحرية بكل معانيها. وهذا يعني أن الحرية الأكاديمية تعطي الجامعات مزيدا من العمل والكفاية والإنجاز (...) ولا يستطيع أساتذة الجامعات القيام بمهامهم الوظيفية والمهنية دون تحقيق الحرية الأكاديمية التامة(31).

4- التقاليد الأكاديمية في الجامعات العربية:

ينوه فؤاد زكريا في كتابه التفكير العلمي إلى غياب التقاليد العلمية الديمقراطية والجامعية في الوطن العربي، وهو في هذا السياق إذ يقارن بين العالم المتقدم وعالمنا المتخلف فيما يتعلق بالتراث العلمي ينتهي إلى القول " في الوقت الذي افلح فيه العالم المتقدم في تكوين تراث علمي راسخ امتد في العصر الحديث طوال أربعة قرون وأصبح يمثل في حياة هذه المجتمعات اتجاها ثابتا يستحيل العدول عنه أو الرجوع فيه، في هذا الوقت ذاته يخوض المفكرون في عالمنا العربي معركة ضارية في سبيل إقرار أبسط مبادئ التفكير العلمي(32)." ففي الوقت الذي خلق فيه الغرب جامعة عصرية وزودها بالاحترام، المتمثل موضوعيا في استقلالية الجامعة وحرية الأستاذ الجامعي، فإننا نحن هنا، أخذنا النظام التعليمي والمناهج التعليمية عن الغرب، ولكن أهملنا أن نأخذ معها الاعتبار الذي يعطى للعلم والعلماء والمواقف الإيجابية منهم. فقافلتنا تسير سيرا أعمى دون توقف. ومساهمتنا التاريخية في بناء الجامعة العصرية هو إحداثنا تنظيما من البوليس " البوليس الأكاديمي" ومهمة هذا البوليس هو مراقبة الطلبة والأكاديميين ومنعهم من التعبير عن أفكارهم في القضايا الاجتماعية(33).

نشأ الجيل الأول من الجامعات العربية الحديثة في ظل الهيمنة الاستعمارية ولا سيما هذه التي نشأت في مصر وسوريا ولبنان وتونس الجزائر والمغرب وقد حملت تحت تأثير نشأتها هذه سمات وخصائص الجامعات الغربية بمناهجها وأساليب عملها وتوجهاتها الأيديولوجية. ومن ثم تنامت هذه الجامعات وتوالدت في مرحلة الاستقلال على منوال الصورة التي بدأت بها. وفي هذا السياق يصف محمد جواد رضا نشأة هذه الجامعات في ظل الهيمنة الأجنبية بقوله: " " ليس بيننا من يماري بأن الجامعة العربية المعاصرة – أي جامعة – هي استعارة ثقافية من الغرب، وقد صيغت على غرار جامعات الغرب بدءا من المناهج الدراسية وطرائق البحث والتدريس وانتهاء بالطيلسان (الروب) والقبعة والوشاح. ومن هنا كان أحد مصادر الأزمات المزمنة في الحياة الجامعية العربية مطالبتها بتكييف نفسها للخصائص الثقافية الموروثة في المجتمع العربي(34).

ويقول نادر فرجاني في هذا الخصوص " إن غالبية مؤسسات التعليم العالي الحديثة قامت في كنف المستعمر الأوروبي، كنسخ من مؤسساته، خدمة التحديث، في منظوره. فقد كانت هذه المؤسسات وسيلة لطبع المجتمعات العربية بثقافة المستعمر، من ثم تحولت إلى ساحة صراع مع العناصر الوطنية (35). ويضيف بأن " ثلاثة أرباع الجامعات العربية أنشئت في الربع الأخير من القرن، ولا يتعدى عمر غالبيتها (75 بالمئة) الخمسة عشر عاما (36).

ومن ينظر في طبيعة الجامعات العربية سيجد بأن هذه الجامعات ما زالت بصورة عامة حديثة العهد ولم تتبلور فيها التقاليد الجامعية المعروفة وأن هذه الجامعات لم تأت تعبيرا عن طبيعة التطور التاريخي للمجتمعات العربية التي تعاني من التخلف والتبعية والتجزئة بل جاءت تعبيرا عن مد استعماري من جهة وتعبيرا عن توجهات سياسية عربية جعلت من الجامعة حاملا لأيديولوجيات سياسية متنوعة.

وتأسيسا على هذه الحقيقة يرى عدد من المفكرين العرب أن الجامعات العربية هي ظواهر جامعية أكثر منها جامعات حقيقية، وذلك لأسباب تتعلق بنشأتها وبحداثة وجودها وأبعادها السياسية ووظائفها وأدائها العلمي والديمقراطي. يقول عبد الخالق عبد الله مؤكدا هذه الحقيقية في الخليج:" جامعة الإمارات، وربما معظم الجامعات الخليجية الأخرى، هي جامعات في طور التشكيل والصيرورة، وهي أقرب إلى " الظاهرة الجامعية " (37).

إذا كان الشيء يعرف بوظيفته، فإن الجامعات العربية بصورة نسبية لم تؤد وظيفتيها الأساسيتين في مستوى الإبداع العلمي والمعرفي وفي مستوى ممارسة دورها الديمقراطي. ومن هنا يصر كثير من المفكرين العرب على وصف الجامعات العربية بالظاهرة الجامعية. فالجامعات العربية " لم تعد أكثر من مؤسسات لتخرج الموظفين، الذين " لا يستطيعون سوى التنفيذ لا التفكير(38). وهذا يعني أن الجامعات العربية أصبحت مؤسسات لإنتاج الموظفين والعاملين في خدمة الدولة، وهذه الوظيفة هي أدنى مستويات العمل الجامعي. فالجامعات وعلى خلاف ذلك معنية بالاكتشاف والإبداع وبناء المعرفة العلمية وإحداث تغيرات عميقة وجوهرية في بنية الحياة الاجتماعية العربية بصورة عامة.

لقد جاءت عملية تسييس الجامعات العربية كجزء من المد الثوري الذي اجتاح الوطن العربي منذ بداية الستينات. فالعوامل السياسية هي القاسم المشترك لتأسيس أغلب الجامعات العربية. ومع فإن الدوافع السياسية مهما يكن شأنها يمكن أن تكون إيجابية وذلك عندما يكون الهدف بناء جامعات حرة حقيقية تعنى بالحقيقة العلمية وتؤدي دورها الديمقراطي والاجتماعي وتأخذ بأسباب الوظائف الجامعية الحقيقية.

ومع ذلك يمكن القول بأن الجامعات العربية تكونت لتكون مؤسسات حكومية تدعو إلى تعزيز وجود الفئات الحاكمة ولتكرس أيديولوجيا السلطات المتعاقبة ولتعمل على تكريس ثقافة غير ديمقراطية قائمة على أساس التسلط والاستلاب. وبعبارة واحدة الجامعات العربية ليست جامعات بالمعنى المحدد للكلمة إذا أخذنا بعين الاعتبار الدور والوظائف التي تؤديها داخليا وخارجيا. لقد تحولت هذه الجامعات على حد تعبير محمد جواد رضا إلى مؤسسات بيروقراطية تخاف الحرية، وتخشى التجديد وتتطير منه(39).

لقد تطورت جامعاتنا بتأثير الفعل السياسي أي وفقا للقرارات السياسية بإنشائها، وغالبا ما يحدث أن الأنظمة السياسية تقرر وجود هذه الجامعات ليس وفقا لمبدأ الحاجة إليها، ولكن من أجل غايات أخرى أبرزها إرضاء الرأي العام، وتحقيق سياسة القبول الجامعية، وبالتالي فإن ديناميات هذه الجامعات تأخذ بعدا سياسيا، فالسياسة هي التي تحدد أبعاد وحدود واتجاهات هذه الجامعات، وذلك غالبا ما يتم بطريقة ساذجة وعفوية وارتجالية في أغلب الأحيان.

ووفقا لمقومات وجودها وأسس نشأتها تحولت الجامعات العربية ربما إلى مؤسسات سياسية تعكس إلى حد كبير ما يحدث في عالم السياسة، وبدقة أكبر الرؤية الأيديولوجية للأنظمة السياسية، فتعمل (في إطار السيطرة السياسية) على دعم وتعزيز النشاط السياسي السائد: لقد تحولت الجامعة إلى مؤسسة إعلامية تعزز الرأي العام السياسي وتصنعه بالطريقة التي يحددها رجال السياسة. كما تطورت على صورة قوة سياسية حليفة بالضرورة للأنظمة السياسية القائمة وذلك في إطار مهرجاناتها وطقوس مواسمها وفعالياتها ومظاهراتها. إن التعليم العالي في البلدان العربية كما يقول نادر فرجاني: " شديد البعد عن نظيره في البلدان المتقدمة، في المضمون وفي الدور الاجتماعي، وإن تشبه به شكلا، إلى درجة تلقي شكوكا قوية على إمكان لحاق الأول بالثاني على صراط مستقيم"(40).

5- حقوق إنسانية أم حريات أكاديمية؟

تشكل الحرية منطلقا حيويا لوجود الإنسان وغاية من غاياته العليا. وإذا كانت الحرية تشكل المنطلق العام لوجود الإنسان فإن حرية الكلمة تشكل جوهر كل حرية إنسانية أصيلة. ويعبر ديموستين عن جوهر هذه الحقيقة بقوله: إن أفظع كارثة تحل بالشعب هي حرمانه حرية الكلمة(41). وهذا يعني أن حرمان الشعب من حرية الكلمة هو الصورة الأولى لحرمانه من حق الحرية. فحق الإنسان في حرية الكلمة والتعبير قد نال اعتراف كثير من المجتمعات الإنسانية في مختلف العصور، وشكل غاية كل حق إنساني وجوهره، فقانون كازاخ في إقليم السّهوب قرر: أنه يجوز لك أن تقطع رأس الإنسان، ولكن لا يجوز لك أن تقطع لسانه(42). فحرية الكلمة هي المدخل المنهجي إلى مختلف الحريات وهي البوابة الأساسية إلى منظومة الحقوق الإنسانية.

لقد أدرك الطغاة عبر التاريخ هذه الحقيقة فأعلنوا حربا لا رحمة فيها ضد كافة أشكال حرية الكلمة والتعبير. وبقيت حرية الكلمة هي الشيء الذي ترتعد له فرائص الطغاة. وفيما يقوله الملك الفرعوني (خيتي) لابنه (مريكارع) حوالي (2000ق.م) مثال واضح لإرهاب الكلمة وإرهاب الحرية في التعبير، حيث يقول هذا الفرعون: " إذا وجدت في المدينة رجلا خطرا يتكلم أكثر من اللازم ومثيرا للاضطراب فاقض عليه، واقتله، وامح اسمه، وأزل جنسه وذكراه وأنصاره، فرجل يتكلم أكثر من اللازم خطر على المدينة"(43). وفي هذا القول ما يدل على أن الحرية هي أسّ الحريات العامة وجوهر حقوق الإنسان وغاياتها. فأين هي الجامعات العربية المعاصرة من هذه الحقيقة القديمة قدم التاريخ؟

عندما يجري الحديث عن أعضاء الهيئة التدريسية غالبا ما يتمحور الحديث حول الحقوق الأكاديمية التي تتمثل بحريات عديدة وثيقة الصلة بحرية البحث عن الحقيقية، وحرية التعليم، وحرية نشر نتائج البحوث والدراسات، ومدى المشاركة في اتخاذ القرار داخل المؤسسات الجامعية. ولكن أليس حري بنا عندما نتحدث عن حقوق أساتذة الجامعات وحرياتهم في عدد كبير من جامعات العالم العربي أن نتحدث بداية عن الحقوق الإنسانية لهؤلاء الأساتذة؟ إن السؤال الذي يأخذ أهمية كبيرة اليوم هو هل يتمتع أعضاء هيئة التدريس في كثير من جامعات الوطن العربي بحقوقهم الإنسانية أولا؟ وإذا كان الأستاذ الجامعي يتمتع بحقوقه الإنسانية فيحق لنا أن نطرح السؤال الثاني الذي يتعلق بمدى تمتع أعضاء هيئة التدريس بحقوقهم الأكاديمية التي تتصل بواقع البحث العلمي والمعرفي؟

الحقيقة هي أن غالبية كبيرة من أساتذة الجامعة يناهضون في عالم الضرورة وهم في هذا العالم يبحثون اليوم عن حقهم في الرغيف أولا، وفي الحصول على السكن ثانيا، وفي الحصول على أداة للمواصلات، وفي مدى حصولهم على ثمن الدورية العلمية لاحقا(44). وبعبارة أخرى ما زال الأستاذ الجامعي في بعض الجامعات العربية يبحث عن الشروط الأولى للوجود، وما زال سعيه نحو الحقيقة العلمية والبحث العلمي والحريات الأكاديمية قضية قابلة للتفكير والمناقشة. ويمكن لنا في هذا السياق أن نستعرض بعض الملامح الأساسية التي تتعلق بالحقوق الإنسانية لأعضاء الهيئة التدريسية.

وهنا تبرز المفارقة الكبيرة في مجال ما يسمى بالحريات الأكاديمية وهي حقيقة كثيرا ما يتجاهلها كثير من المفكرين وهي: كيف يمكن لأستاذ جامعي أن ينصرف إلى الفعل الإبداعي والعمل العلمي الجاد وهي يعاني من إكراهات الضرورة الأولى التي تتمثل في البحث عن شروط الوجود التي تتصل بتأمين الحياة المادية وما تصل بها؟ فرجال العلم والأكاديميون العرب في أيامنا كما يقول أحد أساتذة القانون في القانون " يصارعون من أجل البقاء في مجتمع يسود فيه المال والاستهلاك (45). وفي هذا المسار يعبر أستاذ آخر عن هذه الوضعية بقوله " نعم أنا أستاذ، ثم ماذا وراء ذلك؟ فأنا إنسان لا حول لي ولا قوة، فلا معرفتي ولا شهاداتي تمنعني من عنف البيروقراطية وخشونتها، ولا هي تضمن لي حياة فكرية ومادية سليمة. فالناس مثلي مرغمون بحكم ظروفهم أن يتجرعوا مرارة الإهانات التي تسقيهم إياها ظروف وجودهم (46).

ولو حاولنا أن نبحث في شروط الحرية الأكاديمية لوجدنا أن هذه الحريات مرهونة على الأقل بالحريات الأولى. فالمجتمع الذي لا يستطيع أن يمنح أعضاء هيئة التدريس شروط الوجود لا يستطيع أبدا أن يمنحهم ما يسمى بالحريات الأكاديمية.

والسؤال الهام الذي يطرح هنا هو تعود أسباب الحصار والقهر التي يعانيها أستاذ الجامعة إلى فعل سياسي ممنهج ومنظم؟ يهدف إلى تذويب إمكانيات هذه الطبقة الأكاديمية ودفعها إلى دوائر الهامشية، وبالتالي تحويل المؤسسة الجامعية إلى مكان لإنتاج وإعادة إنتاج التسلط والقهر؟ فالأجيال الجديدة من أعضاء الهيئة التدريسية تجد نفسها أمام شبكة جامدة من المعوقات الحياتية والأكاديمية والعلمية. وفي هذا السياق يصف عدنان مصطفى الحالة الصعبة لأوضاع المدرسين الشباب وهمومهم بقول: " فإدارة الجامعة التي شكلت بقرارات أتت من عل، لم تفكر البتة بالحد الأدنى من مقومات استقرار الأساتذة الشباب وبدء حياتهم الأكاديمية على أرضية تسمح لهم بمتابعة بحوثهم العلمية والتحضير لمحاضراتهم والإشراف الفعال على الطلاب الذين يناط إليهم أمر تدريبهم" (47).

وفي هذا السياق يذكر رضوان السيد في مقالة له حول الحريات الأكاديمية في بعض الجامعات العربية أن مرتبات الأساتذة الجامعيين قد انخفضت بتأثير التضخم من حوالي 2000 دولار في مطلع عقد الثمانينات كحد وسط إلى حوالي 300 دولار عام 1990(48). لقد أصبحت طوابير أساتذة الجامعة على بوابات وشبابيك السفارات العربية والأجنبية طلبا للعمل ظاهرة مألوفة في بعض العواصم العربية . فما أن يعلن في جريدة عن إعلان لطلب توظيف أعضاء الهيئة التدريسية حتى نجد أعدادا كبيرة من أساتذة الجامعة المعنيين وتحت ضغط العوز قد سارعوا إلى الوقوف بصورة صفوف طويلة ليتقدموا بطلباتهم ملتمسين وظيفة أو عملا خارج وطنهم مهما تدنت شروط هذا العمل.

ومن المشكلات التي يعانيها أعضاء الهيئة التدريسية عدم مشاركتهم في تعيين رؤساء الأقسام والعمداء والإدارات الجامعية في أغلب البلدان العربية حيث يأتي تعيين هذه الإدارات بقرارات سياسية من خارج الجامعة وهذا يعني أن الأستاذ الجامعي لا يشارك أبدا في هذا الحق التاريخي الذي قامت على أساسه الجامعات القديمة والحديثة من حق مشاركة أعضاء الهيئة التدريسية في اختيار رؤساء الأقسام والإداريين في الجامعة. وهذا يعني أن هذه الجامعات قد فرض عليها أن تتخلى عن أبسط الحقوق التاريخية للأستاذ الجامعي، وهو الشرط الأول لأية حرية أكاديمية في الجامعة: انتخاب رؤساء الأقسام وعمداء الكليات ورؤساء الجامعات.

وما يلاحظ في هذا الخصوص تقليص حقوق الأستاذ الجامعي إلى الحدود الدنيا، وإلغاء كثير من الحقوق التي حصل عليها في الماضي. ففي أغلب جامعات العالم توجد مؤسسات نقابية لأعضاء هيئة التدريس وهذه النقابات والجمعيات تقوم على أسس ديمقراطية وتتمتع بالاستقلالية الذاتية. ومع الأسف الشديد فإن اغلب الجامعات العربية ترهب هذه الجمعيات ولا تسمح بحضورها بصورة ديمقراطية. أما في بعض البلدان فقد شكلت هذه النقابات بإرادة الدولة والمعنيين بالأمر ولكن ما هو دورها: دورها كما يعرف أكثر المتخصصين هو ممارسة القمع ضد الأستاذ الجامعي ومراقبته ومعاقبته والتحجير على سلوكه وإرهابه. هذه النقابات التي تسمى أحيانا " نقابات معلمين " أو " جمعيات أعضاء هيئة التدريس " تمارس دور "العريف" وهي أكثر استعدادا للتنكيل بأعضاء الهيئة التدريسية .

وفي بعض الجامعات العربية يوضع أعضاء الهيئة التدريسية في قفص اتهام دائم، فهم يراقبون بشكل منظم من قبل الأجهزة الأمنية المتعددة التي تراقب كل حركة لديهم على مستوى السلوك والعمل داخل الجامعة وخارجها، فأي معيار هنا للحرية الأكاديمية. لقد فاخر أحد المؤتمرين في مؤتمر نظمه اتحاد الجامعات العربية بأن النظام التربوي للبلد الذي يمثله استطاع أن يحقق تقدما تربويا وتكنولوجيا هائلا جدا، ولكن كم هي المفاجأة كبيرة إذ عرفنا بأن هذا التقدم الذي كان يتحدث عنه هو إدارة الجامعة المعنية استطاعت أن تضع كاميرات خفية لمراقبة سلوك أعضاء الهيئة التدريسية وهم في قاعة المحاضرة!! والأغرب من ذلك كله أن الأستاذ المشارك في المؤتمر يفاخر لدولته بهذا الإنجاز!! فأي إنجاز هذا الذي يحاصر أستاذ الجامعة في كل حركة من حركاته وسكنة من سكناته حتى في قاعة المحاضرة.

ويضاف إلى ذلك كله أنه يترتب على أعضاء الهيئة التدريسية أن يعلنوا في كل مناسبة سياسية أو وطنية عن ولائهم للأنظمة السياسية القائمة في الوطن العربي، ويجب على هذا الولاء أن يأخذ صيغا صريحة واضحة (خطابات- ندوات- لقاءات)، حتى أن هذا قد أصبح تقليدا يندفع إليه عدد كبير من أعضاء الهيئة التدريسية تجنبا لسيف المعنز إن لم يكن طمعا في ذهبه. فهم يساجلون في الصحف ووسائل الإعلام حبا بالنظام الحاكم، ويخوضون الندوات الفكرية ولاء له وتوجدا به. والحق يقال أن الصيغة الانتهازية بلغت أوجهها عند أعضاء الهيئة التدريسية، وأصبحت ظاهرة منتشرة بين صفوف المدرسين" مكره أخوك لا بطل ". فالأكاديميون أصبحوا اليوم عرضة لأن يكونوا سلاحا في يد السلطة السياسية تنشر بهم مفاهيمها وتفرضها وتضعف به الضمير الحي عند فئة الأكاديميين وفئات أخرى"(49).

وإذا كان هذا الحيف يقع على أعضاء الهيئة التدريسية مرة فإنه ينال من الطلاب ألف مرة. وفي هذا السياق يمكن القول وبصورة عامة أن الطلاب في الجامعات العربية يعانون من استلاب واغتراب أكاديمي لا حدود له، وكما يقال "حدث ولا حرج". فالطالب محروم من حرية المشاركة واتخاذ القرار ومن النقابات الحقيقية للدفاع عن وجوده ومصالحه ومن جميع مصادر التشجيع والاحترام والتقدير فهو مستلب في عالم يفيض بالاستلاب، ومقهور في عالم يضج بالقهر، ومحروم في عالم لا يعرف إلا الحرمان. وهذه نتيجة طبيعة لحرمان الأستاذ الجامعي من أبسط حقوقه الأكاديمية والإنسانية.

6- طبيعة الأداء الأكاديمي للجامعات العربية.

يتمثل الأداء الديمقراطي للجامعة في ضمان شروط الحريات الأكاديمية للطلاب والمدرسين في آن واحد. كما يتبلور هذا الأداء في توفير منظومة من القيم والحريات والعلاقات التربوية القائمة على روح التعاون والمشاركة والإيمان بالاختلاف وقبول الآخر على مبدأ المساواة والقيم الديمقراطية. وفي هذا الصدد يقول رياض قاسم مؤكدا أهمية الخبرات الأكاديمية في الجامعات العربية: إن قيمة التعليم الجامعي وعظم شأنه يتوقف على مبلغ نجاحنا في إرساء الحرية الأكاديمية وترسيخها كتقليد جامعي(50). والسؤال هنا هو ما مدى توافر الحريات الأكاديمية هذه في مجال الحياة الجامعية العربية المعاصرة؟

تشهد الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية غيابا يتسم بطابع الشمول والعمق في مستوى التحديدات الدستورية وفي مستوى الممارسة الواقعية. فالتعريف الدستوري للحريات الأكاديمية ما زال يشهد غيابه في الساحة العربية. ويتضح هذا الغياب في تأكيد عبد الفتاح عمر لغياب إذ يقول: " لا وجود في تونس، وشأنها في ذلك شأن عديد من الدول الأخرى، لتعريف دستوري أو قانوني للحركة الأكاديمية. كما أن التجربة الجامعية التونسية لم تفرز بصورة واضحة وجلية اتفاقا حول مفهوم الحرية الأكاديمية، ولا حول حدودها (51). ونحن نضيف أن هذا التعريف لا وجود له على حد علمنا في أية جامعة عربية.

وتتأكد حقيقة هذا الغياب فيما تذهب إليه الدكتورة منى مكرم عبيد التي تقول: إن التعرض للأساتذة المخالفين في الرأي، ومنع بعض الفنون والأنشطة الجامعية، وتهديد بعض الأساتذة، هي مظاهر للتعبير عن الفكر بالعنف شهدتها ساحة الجامعة المصرية في العقدتين الماضيين(52). وهذا بدوره يؤكد انتفاء الحريات الأكاديمية بصورة مجحفة ومأساوية.

لقد تحولت الجامعات العربية كما يقول محمد جواد رضا " إلى مؤسسات بيروقراطية تخاف الحرية وتخشى التجديد (53). فالحريات الأكاديمية في الجامعات العربية كما تفيد الدراسات الجارية " تسجل غيابا ملحوظا ومتناميا عبر الزمن، وتشهد مع فجر كل يوم جديد حصارا جديدا ومتجددا (54). ويضيف فاخر عاقل بأن الجامعات العربية تعاني من انعدام الحياة الجامعية الصحيحة وتفتقر إلى التقاليد الأكاديمية الحرة (55).

فالحريات الأكاديمية التي عرفتها الجامعات العربية نسبيا تتناقص تدريجيا مع انتقال إدارة هذه الجامعات إلى الحكومات الوطنية. وبدأ هذه الحريات تتآكل مع دورة الزمن وانحسار الحياة الديمقراطية العربية التي شهدت بعض الحضور في الخمسينات والستينات. لقد صبغت الجامعات العربية بالصبغة الحكومية وفقدت هذه الجامعات استقلالها بصورة واضحة تحت ضغط الممارسات التي توجهها الحكومات العربية. فالحكومات العربية تمول هذه الجامعات، وتعين إدارييها في الغالب الأعم، وتحدد وظائفها، وتقرر مناهجها، وتراقب سير عملها وآليات وجودها اليومي بصورة أدت إلى إفراغ هذه الجامعات من مضامينها الأكاديمية والديمقراطية. وفي بعض البلدان العربية إن لم يكن في أغلبها تحولت هذه الجامعات إلى مؤسسات صارمة يخضع العاملون فيها لقوانين صارمة ومتصلبة دون مراعاة لأبسط قوانين الوجود الأكاديمي.

في كثير من هذه الجامعات يتم تعيين الإداريين من عمداء ورؤساء جامعات وأقسام من قبل القيادات السياسية أو الأحزاب دون أية مراعاة لأصول التقاليد الجامعية التي تقوم على أساس انتخاب هذه القيادات الجامعية. حتى أعضاء الهيئة التدريسية يتم تعيينهم بناء على مراسيم تعد في مكاتب الأحزاب السياسية ولا يسمح للجامعة أبدا أن تتخذ قرارات بهذا الشأن إطلاقا. حتى أن النقابات الطلابية وجمعيات أعضاء هيئة التدريس تنظم بصورة سياسية (دون انتخابات) حيث تمارس هذه النقابات دورا مخالفا لطبيعتها فهي تمارس دورا يتمثل في تكريس التسلط والقهر وإلغاء إرادة الطلاب وأعضاء الهيئة التدريسية بصورة واعية ومنظمة.

وبصورة عامة لا يمتلك أعضاء هيئة التدريس، في كثير من الجامعات العربية، الحقوق الأكاديمية فيما يتعلق بحرية القول والكتابة والتعبير عن الرأي والبحث العلمي. ويضاف إلى ذلك أن أعضاء هيئة التدريس يوضعون في دائرة القهر المادية إذ تضيق عليهم أسباب الحياة المادية والاجتماعية بصورة يجعل منهم أشلاء جامعية مقهورة.

وحتى في الجامعات التي عرفت بهامش كبير من الحريات الأكاديمية كجامعات الخليج العربي تعاني أيضا من تراجع الحريات الأكاديمية في داخل الحرم الجامعي. "فجامعة الإمارات التي تتمتع بمعظم مظاهر الاستقلالية الداخلية، هي من المؤسسات الجامعية التي أخذت تعاني أشد المعاناة من التسلط الإداري الداخلي المعيق للعمل الأكاديمي، لقد أصبح التضخم الإداري البيروقراطي سمة من السمات الملازمة للجامعات الخليجية ككل. وأخذ هذا التضخم الإداري يزحف إلى الأقسام العلمية وينهك أعضاء هيئة التدريس في العمل الورقي اليومي والروتيني والبعيد كل البعد عن الاهتمام الأكاديمي والبحثي المباشر. ويعتقد الدكتور حسن الإبراهيم أن الجامعات الخليجية، ومنها جامعة الإمارات، قد أصيبت بداء " البيروباثولوجي " والذي يعني البيروقراطية المزمنة "(56).

ففي جامعة الإمارات العربية (57) تميل الإدارة إلى معاملة أعضاء هيئة التدريس معاملة صارمة ومقيدة … لقد أدت الممارسات الفوقية للإدارة الجامعية إلى انكماش أعضاء هيئة التدريس على وظيفة التدريس، ولجوئهم إلى الأسلوب التلقيني والملتزم بالكتاب الجامعي. " كما أدت هذه الممارسات التقييدية إلى تفشي الرقابة الذاتية، التي تتنافى مع حرية الأستاذ الجامعي في تدريسه وبحثه والتعبير عن آرائه ونظرياته وقناعاته، وهي جميعا من مسلمات الحرية الأكاديمية … وربما كان المطلوب بالنسبة لهذه الجامعة والجامعات الأخرى في الوطن العربي عموما إحداث ثورة ديموقراطية" (58). فالبيئة التي نعيشها في جامعاتنا لا يمكن - في الحدود التي نتعامل معها- أن تحقق أي تقدم كبير في مفهوم الحرية الأكاديمية أو الحرية الجامعية وحرية البحث والتأليف والترجمة والإبداع(59).

وغالبا ما يعامل أستاذ الجامعة كموظف من وجهة نظر السلطة السياسية. وإذا كانت الوظيفة السياسية للجامعة هي تخريج علماء ومفكرين فإن أصحاب القدر السياسي يريدون أن يخرجوا موظفين وكتبة(60).

لقد أدركت الأنظمة السياسية القائمة في بعض أقطار الوطن العربي الخطر الكبير الذي تمثله أية نهضة علمية وفكرية تتم في إطار المجتمع، ولا سيما هذه التي تتم في داخل الجامعات، فلجأت إلى التنكيل بكل المحاولات العلمية والمعرفية التي تقوم على أسس نقدية، وقد شمل هذا التنكيل مختلف مظاهر الحياة الثقافية من نشر وندوات علمية وتظاهرات فكرية ولا سيما هذه النشاطات التي توجهها الجامعات والتي تتم بمبادرات بعض المتنورين في الجامعة من أساتذة ومفكرين يحملون ضمائر حية وقلوب عامرة بالحب للحرية والمعرفة. حتى أن تناول هذه القضية، كما يرى المفكر العربي سعيد إسماعيل يمكنها " أن تجر الباحث إلى تلك المنطقة الخطيرة.. إلى أرض السلطة … بما تحتكره من قوة القانون وما تحظى به من مال وما تمتلكه من سجون ومعتقلات وما يبرق في يديها من سيوف ! (61).

لقد أدركت بعض القوى السياسية المهيمنة المعادلة الصعبة التي تقوم بين مقومات وجدها وتنامي لحريات الفكرية والأكاديمية في الجامعة التي تشكل خطرا يهدد الأسس التي يقوم عليها الوجود السياسي المتسلط. فالعلاقة بين وجود هذه القوى والمعرفة النقدية علاقة يحكمها التناقض والتنافر والعدمية. ومن هذا المنطلق فإن إطلاق حرية التعبير أو حتى النشاطات العلمية البسيطة أصبحت من المحظورات في بعض الجامعات العربية. والأمثلة على ذلك أكثر من تحصى (62).

فبعض الأنظمة ترى في الحوار والنقد وحرية الرأي في أي صيغة تأخذها هذه القيم إنذارا بالخطر، ودرءا لهذا الخطر تعتمد هذه القوى مختلف الضوابط التي يمكنها أن تخنق أية محاولة لنهوض الرأي وحريته في داخل الجامعات وفي خارجها. ويعتمد الحصار الذي تؤديه هذه القوى على منظومة معقدة من الفعاليات الإدارية والمالية والاجتماعية تشكل مجموعها القضبان التي تتشكل منها أقفاص الوجود الأكاديمي حيث يحاصر الأستاذ الجامعي حتى الاختناق.

7- الجامعات العربية: إعادة الإنتاج والمحافظة على الأيديولوجيا السائدة:

يتحدد الدور الاجتماعي والعلمي للجامعة تاريخيا بمبدأ التجديد والابتكار في مستويات الحياة الاجتماعية والثقافية والعلمية. فالجامعة يفترض أن توجه الحياة من حولها وأن تؤثر فيها على الأقل، وإذا كان هذا الأمر صحيحا مرة بالنسبة للجامعات في البلاد المتقدمة فإنه يجب أن يكون صحيحا ألف مرة بالنسبة للمجتمعات المتخلفة أو المجتمعات الآخذة بالنماء من البلاد العربية(63).

فالجامعات يمكنها بحكم رسالتها وأهدافها أن تقوم بدور فعال في تطوير المجتمع، وذلك بخلق الإنسان العقلاني الذي يتفاعل مع الآخرين بطرق عقلانية ومنطقية بدلا من الطرق التقليدية السائدة في مجتمعنا العربي (64). فوظيفة الجامعة الإبداعية تتمثل في حالة من الانفتاح على الحياة الاجتماعية، وفي حالة تواصل على أداء دور الخلق والإبداع والتجديد والتأثير الاجتماعي، وهنا يتأصل الرفض لمقولة " جامعة الأبراج العاجية "، وتقوم حقيقة قوامها أن الجامعة يمكنها أن تتوغل في المجتمع دون أن تفقد شخصيتها بوصفها مؤسسة اجتماعية علمية رائدة تغني في اتصالها المجتمع وتطوره في آن واحد.

فأين هي الجامعات العربية من هذه الحقيقية؟ وفي سياق الإجابة عن هذا السؤال الكبير، وفي ظل الظروف الاجتماعية والسياسية التي تحيط بالجامعات العربية، وفي فناء الديناميات الداخلية المتصلبة للحياة الأكاديمية في الجامعات العربية يمكننا أن نراهن على غياب الدور الإبداعي للجامعات العربية. إن " التربية السائدة في الجامعات العربية بوضعها الراهن تتنافى مع مبدأ العطاء والإبداع العلمي(65). هذه هي الحقيقة التي يلح في تأكيدها المفكرون العرب، وقد لا نغلو إن قلنا مع عبد الله عبد الدايم " بأن مهمة التعليم العالي في عصرنا وفي العصر المقبل لا ترتد إلى أن " يصور العالم " ويستنسخه ويستجيب له على نحو ما هو عليه، بل تتجاوز ذلك إلى الإسهام في " صنع العالم وابتكاره " (66).

فالجامعة " ليست مصنعا للشهادات كما يخيل للبعض أحيانا، ولا مركزا للامتحانات ولا مركزا لتخريج المواطنين بل هي صورة للمجتمع المثالي المطلوب إحداثه، وهنا تكمن مسؤولية الجامعيين" (67).

ومن هنا يمكن القول بأن " الجامعة لا يمكنها أن تحقق سيادة العقل مثلا في وطنها إذا لم تكفل سيادته في داخلها أولا، ولا أن تبعث القوى الخيرة في مجتمعها إذا لم تكن هي قد حققت هذه القوى في صميمها، ولأن تسهم في بناء حياة وطنها على المبادئ والقيم، إذا لم تشد هي بنيانها ذاته على نفس هذه الأسس والقواعد " تلك هي وظيفة الجامعة" (68).

" لقد أكدت الدراسات التي أجريت على حركة الإصلاح الجامعي خلال السبعينات حقيقة مقلقة وهي أن الجامعات العربية هي أكثر المؤسسات الاجتماعية محافظة، وهي بطيئة في تغيير مناهجها الدراسية، وبناها الإدارية(69). وبالتالي فإن " الجامعات العربية باتت اليوم رهينة انحسار واضح في سموها العلمي، مما أوصلها إلى مقام سبات يكاد يقارب صمت القبور(70). وفي هذا الصدد يقول " يقول أحمد بشارة واصفا الجمود الذي تعانيه الجامعات العربية مع تشديد منه على واقع التعليم العالي في الكويت بقوله: " إن وظيفة الجامعة في المجتمعات هي وظيفة وعاء الإبداع والإنتاج المعرفي الذي يسهم في بناء المجتمع وتطويره وتقدمه، والجامعة في مجتمعنا لا تقوم بهذا الدور، فهي مؤسسة للتلقين ونقل المعرفة، وبالتالي فالمجتمع بالإضافة إلى أنه غير متسامح بطبيعته، ولا يقبل الحرية فمن غير المعقول أن يعطي هذا الحق لمؤسسة لديه شكوك حولها ولا يجد ما يبرر أن يعطيها الحرية، ولا يستفيد منها استفادة ملموسة. ومن هذا المنطلق فالسلطة الأكاديمية أو الحرية داخل الجامعة ستظل لفترة طويلة منقوصة ومحدودة لأن المجتمع لم يتقبل تبعة الحرية، ومع الأسف فالشواهد العامة وخصوصا في الكويت تدل على تداخل المجتمع في الجامعة(71). فأغلب الجامعات العربية " تتبنى نظاما منهجيا وتعليما يرسخ في ذهن الطالب حفظ المادة العلمية دون تمكينه من الإبداع (72).

لقد أكد رضوان السيد هذا التراجع الكبير في مجال البحوث العلمية في لبنان وفي سوريا، في العلوم الاجتماعية والإنسانية، والعلوم البحتة والتطبيقية طبعا، كما وكفيا. فحتى الأساتذة الجامعيون كما يقول السيد " يقبلون على الكتابة الروائية والشعر وكتب الخواطر، تاركين الحديث في حقول تخصصهم(73).

وفي هذا الصدد يقول ف. كومبز (74) ) " إن أي نظام تعليمي يمكن أن يفقد القدرة على رؤية ذاته بوضوح إذا تمسك بالممارسات التقليدية لا لشيء إلا لأنه قد جرى العرف عليها. وربط نفسه بحبال التعاليم المتوارثة لكي يبقى طافيا في بحر الحيرة، وأضفى على الأساطير الشعبية قيمة العلم ومكانته، وفضل الجمود وعدم التغيير، لكان مثل هذا النظام تهكم واستهزاء بالتعليم ذاته (75) ).

عندما تفقد مؤسسة ما دورها في الإبداع والتجديد فإنها تمارس دورا محافظا تقليديا تعيد من خلاله ما هو قائم وسائد في دوائر الحياة الاجتماعية. وهذا يعني أن المؤسسات الجامعية يمكنها أن تمارس دورا بحدين فهي إما أن تكون فاعلة اجتماعيا وإما أن تكون منفعلة. وينبني على ذلك أن القوى الاجتماعية التي تهيمين قد تفرض على الجامعة أدوارا أيديولوجية قوامها تعزيز قيم واتجاهات وأيديولوجيا الطبقة التي تسود اجتماعيا. فالجامعات العربية تعيش مفارقات صعبة، فهي في الوقت الذي تدعو فيه إلى البحث عن الحقيقة، والكشف عن كل جديد، وتغيير المجتمع ليستجيب للتطورات في مجال العلم والثقافة فإنها تعاني من مختلف ضروب التسلط والقهر والممارسات التي تجعلها تابعة مغلوبة على أمرها تسير في ركاب الأنظمة السياسية الحاكمة في الوطن العربي، وقد أصبح من تقاليدها الراسخة اليوم تدريب الأجيال على قيم التبعية والخضوع.

وبعيدا عن النظريات النقدية المعاصرة التي ترى بأن دور المؤسسات التربوية مرهون بطبيعة ومستوى تطور المجتمع. فإن الجامعات العربية وبصورة عامة قد تحولت إلى مؤسسات للتسلط والقهر. وهذا التحول لا يتبع من طبيعة المؤسسة الجامعية ولكنه يتأتى عبر منظومة من عمليات القهر التي تمارسه بعض القيادات السياسية والتي تحاول أن تجعل من الجامعة مؤسسة منتجة لكل مقومات القهر والتسلط. لقد أفرغت الجامعات العربية من مختلف مضامينها العلمية والديمقراطية وتحولت بتأثير التخطيط المنظم لقوى القمع الاجتماعي إلى مؤسسة لترويض الشباب والعلماء على الإذعان والخضوع وتمجيد السلطة. فالجامعة تشكل بالنسبة إلى " صانعي القرار مؤسسة منضبطة ومنظمة تنظيما محكما ومسيرة تسييرا حسنا أكثر مما تمثل بالنسبة لهم مؤسسة لممارسة المعرفة. وهذه الأخيرة (المعرفة) تتطلب مناخا تسود فيه الاستقلالية والحيرة والمرونة بحيث يمكن الباحثين أن يقولوا فيه رأيهم حول أنشطتهم. فالجامعة لا يمكن أن تسير كما يسير المعمل، ومع الأسف الشديد الكثير من الأكاديميين، لا يميزون في تسييرهم بين المعمل والجامعة"(76).

وهناك شهادات عربية أخرى لا حصر لها على هذا الواقع المر والمروع الذي تعيشه الجامعات العربية المعاصرة. ومن مظاهر هذا القهر ما يلاحظ في كثير من الجامعات العربية إذ يترتب أن يحتفل الطلاب وأعضاء الهيئة التدريسية بمختلف الطقوس السياسية . ويتوجب على الجامعيين أن يعلنوا الولاء في مختلف المناسبات السياسية كما عليهم أن يجددوا هذا الولاء في كل موقف ومناسبة.

يقول امحمد صبور: " في بعض البلدان ذات الحزب الواحد المهيمن على كل شيء، يكون وجود الأكاديمي في الجامعة مرتبطا في الغالب باندماجه في النمط الأيديولوجي السائد فيها، لأن في ابتعاده عنه لن يكون في منأى عن الخطر، حتى بدعوى الحيادية. ففي الواقع لا تعترف الثقافة العربية بالحياد (…) فالحياد غالبا ما يعني نقصانا في المبادئ، أو أن الشخص المحايد مشكوك فيه يعمل في الخفاء ليتجاوز الآخرين (77). ولذلك فإن " الأكاديمي في وضع الحياد يعرض نفسه للمخاطر، وأقل ما يمكنه أن يفعله بدلا عن الحياد هو الاندماج السلبي في النظام. وما نعنيه الاندماج السلبي هو الالتحاق بالنمط السائد دون مشاركة نشيطة فيه أو قيام بأعمال من شأنها أن تعزز قوته وسلطته. أما في الواقع المعاش فإن هذا يتسبب في وضع الأكاديمي في وضع محنة تكون فيه كرامته عرضة للاستهزاء والإهانة(78)

فالأنظمة التربوية العربية توظف التعليم في تمجيد السلطة وتقديس مظاهر القمع والتسلط، وما زالت هذه الأنظمة التربوية تعلم الناشئة آداب الطاعة ومراسم الخضوع، والسلطات السياسية ما زالت تعمل على صرف المتعلمين في المدارس عن هموم الوجود " في التحصيل البنكي للمعلومات والمعارف وتدفع بهم إلى دوامات التحصيل لما في بطون الكتب وشحن الذاكرة بداء الاستظهار، وقتل العقل بالروتين التلقيني والأساليب التربوية الخانقة (79)." إن الواقع التربوي للجامعات العربية" يشير إلى أن المناخ السلطوي الذي يسود بعض جوانبه أدى إلى زيادة التخلف وتعطيل طاقات العقل" وخنق كل إمكانية للإبداع (80)."

فالتربية الديمقراطية تدعو إلى تكوين "إنسان" لا إلى تكوين مجرد "علامة " يحمل هامة ضخمة من المعارف فوق جسم هزيل وعاطفة ضامرة وإحساس فني متبلد وخلق مضطرب وقدرات مهنية وفنية مقتولة (81). وهذه هي التربية التي تسعى إلى بناء الإنسان الحر المتكامل وتلك هي التربية القمينة بإخراج الإنسان من دائرة اغترابه. فالتربية الاغترابية هي هذه التي تسعى إلى قتل أعظم المشاعر الإنسانية التي تتمثل في مشاعر الحرية والثقة والانتماء والتكامل.

8- الخلفيات الاجتماعية لغياب الأداء الديمقراطي في الجامعة:

تتمثل الأزمة التي نعيشها اليوم برأي حسن حنفي في غياب الحوار في حياتنا المعاصرة (...) فنحن لسنا أحرارا في تفكيرنا ولا نسلم بحق الآخر في الحرية والتفكير، إذ نواجه الفكرة بالسيف، والرأي بالاعتقال، والعقل بالعضلات، ونرفع سلاح التكفير على كل من يعارض (82). فالمآسي والنكبات " كانت نتيجة طبيعية لاستمرار حرمان المواطن العربي من حقوقه وحرياته الأساسية بأساليب جديدة ومتطورة قامت على سياسة (الإلهاء) و(الترهيب والترغيب) أو (العصا والجزرة) واستهدفت تدجين المواطن وتطويعه وصولا إلى تعطيل اهتماماته العامة ومن ثم تقزيم أهدافه الوطنية والقومية(83).

من أجل أن ندرك واقع وطبيعة الأداء الديمقراطي للجامعات العربية تقتضي الضرورة تقديم قراءة منهجية للشروط الاجتماعية والتاريخية التي تحيط بالمؤسسة الجامعية في الوطن العربي. فاغلب الباحثين يعتقدون أن غياب الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية مسألة تعود إلى غياب الديمقراطية في المجتمع. فالجامعة مؤسسة اجتماعية تربوية وهي لا تنفصل عن البيئة التي توجد فيها. وهذا يعني أن معطيات البيئة الاجتماعية تتغلغل في بنية الوجود القيمي للجامعة وأن الجامعة كما ينظر إليها هي صورة مصغرة للمجتمع الذي يحتضنها. وإذا كانت الجامعة فعلا هي صورة راقية للمجتمع الذي يحتضنها فإن الجامعات العربية لا تحسد على حالها. وذلك لأن المجتمعات العربية متشبعة بقيم التعصب والقيم السابقة للمجتمع المدني، وبالتالي فإن الثقافة التقليدية السائدة تشمل كل معايير الانتماءات القبلية والعشائرية وكل خرافات وأساطير العهد القديم. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا كيف يمكن للجامعة أن تمارس وظيفتها الديمقراطية في ظل ثقافة تقليدية وفي سيق أنظمة سياسية مستبدة وغير ديمقراطية؟

لقد ارتبـط اسـم المؤسسة الجامعية تاريخيـا بالعدالة الاجتماعية، فالجامعة في تصور النـاس كـانت ومازالت حتى اليوم مملكة العدالة والمساواة والحريـة، فيهـا ومـن خلالهـا يستطيع الشباب خوض معركة الحياة دون إكراه التمييز الاجتماعي والعنصري. وهكذا تتبدى الجامعة كعـالم مستقل ومنفصل عن الحياة الاجتماعية والسياسية وهي إذ ذاك مـوطن العدالـة والأمان مهمـا بلغت حدة المظالم الاجتماعية في ذلك العالم الذي يحيط بها ويحتضنها. ويكـفي أن نفتح أبواب الجامعة أمام جميع الشباب لكي يتاح لكل منهم تحصيل المعرفة والعلوم بما ينسـجم مع طاقاته العقلية والفكرية، وهنا تكمن العدالة التربوية وتتجسد ديمقراطية التعليم وتلك هي إحدى أهم المغالطات الأيديولوجية ربما في تاريخ التربية.

لقد سبق لدوركهايم E.Durkheim. أن شدد على الطابع الاجتماعي للمؤسسات التربوية بصورة عامة. فهو يؤكد دوركهـايم فـي كتابـه التربيـة والمجـتمع Education et sociologie إلى الهويـة الاجتماعيـة للمؤسسـات التربويـة. ويقول في معرض ذلك إن »الأنظمة التربوية ترتبط ارتباطا عميقا بالأنظمة الاجتماعية»(84). وهو بذلك ينطلق مـن مقولتـه الشـهيرة التـي ينظـر مـن خلالهـا إلى التربية بوصفها «ظاهرة اجتماعيـة فـي بنيتهـا وفـي وظيفتها»(85). يقول دوركهايم في هذا الخصوص إن التربيـة « هـي قبـل كـل شـيء الوسـيلة التـي يعتمدها المجتمع في تجديده المستمر لشروط وجوده الخاصة»(86).

لقـد كـان لآراء دوركهـايم، فـي تحـديد طبيعة الصلة بين الظاهرة التربوية والظـاهرة الاجتماعية، اثر كبير في ولادة اتجاه فكري يرى أن المؤسسات التربوية تؤدي دورها في سياق الحتمية الاجتماعية (87). وفـي سـياق ذلك الاتجاه الفكري يرى كريستوفير جينكس Christopher Jenkis أن قدرة المؤسسات التربوية على المساهمة في تحـقيق المسـاواة والديمقراطية مرهـون إلى حـد كبـير بمدى التحولات العميقة التي تحدث في البنى الاقتصادية والسياسـية القائمـة. وتجـد آراء كريسـتوفير تعزيـزا لها في فلسفة المفكر الفرنسـي جـورج سـنيدر Snyders George الــذي يــرى أن «اللامســاواة الاجتماعيـة مصـدر لكافـة أشكال اللامساواة التربوية »(88). وهو ينطلـق فـي مقولتـه هـذه مـن الأطروحة الماركسـية المعروفة التي ترى» أن المدرسـة فـي مجتمع طبقي لن تكون ولا يمكن أن تكون إلا مدرسة طبقية « (89).

ويميـل سـنيدر إلى الاعتقاد باستحالة وجود المدرسة التي تنفصل عن السياسية الاجتماعية فالمدرسة ترتبط بمصـالح طبقـة محددة. وهذا يعني أن المدرسة غير المسيسة هي في نهاية الأمر أكذوبة برجوازية هدفها خداع الجمـاهير « (90). وآراء سنيدر تتجاوب إلى حد كبير مع ما رأي لينين في خطابه الذي ألقاه في المؤتمر الأول لرجال التربية والتعليم في الاتحاد السوفيتي حيث أكد في خطابه هذا بأن " انفصال المدارس عن الحياة وعن السياسة كذب وبهتان ورياء.

ينضوي فريق كبير من المفكرين العرب تحت لواء الحتمية الاجتماعية فيما يتعلق بالدور الاجتماعي والثقافي للجامعة والمؤسسات الاجتماعية بعامة. ويرجع كثير من هؤلاء المفكرين غياب القيم الديمقراطية في الجامعة إلى بغياب هذه القيم في دوائر الحياة الثقافية العربية. فالثقافة العربية التقليدية التي توصف بالثقافة الأبوية البطرياركية تحكم كثير من مجالات الحياة الثقافية العربية. وهي بالتالي تمارس نفوذا واسعا وتضرب جذورها في الثقافة العربية بدءا من العائلة ووصولا إلى المؤسسات التربوية. وهذه العلاقات كما يصفها أحمد الأمين لا تقف عند حدود الأسرة بل تجد حضورها في المدرسة والجامعة حيث تبدأ عملية ثقافية وقيمية مضادة للقيم الديمقراطية. وغالبا ما تؤدي هذه العملية إلى بناء الشخصية المهزومة وغياب الشخصية الفاعلة والعقلية المبدعة، وهذا بدوره يؤدي إلى توفير " التربة الخصبة لنشوء حكم استبدادي سلطوي وظهور زعماء أفراد، طغاة يتمتعون بسلطات شخصية هائلة يرفضون التخلي عنها مهما كانت الأسباب، بل يعمدون إلى تغذية وتنمية الانتماءات الدينية والمذهبية والقبلية على حساب الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية المدنية" (91).

ولكي يتضح واقع الثقافة العربية بوصفها محددة لدور المؤسسات التربوية والجامعية حيث يميز الباحثين بين نوعين من الوعي وعي التخلف وتخلف الوعي، فالتخلف يصد عن بنية فكرية اجتماعية اقتصادية متخلفة. أما الوعي المتخلف فهو الوعي الذي يوجد في كل العينات المتقدمة والمتخلفة على السواء فقد نجد في السويد واليابان وعياً متخلفا يظهر على شكل الجمعيات العنصرية وعصابات السطو وتصريف المخدرات. أما وعي التخلف فهو وعي قائم بذاته يحمل علامات المجتمع الذي أفرزه ثم يطبع هذا المجتمع بطابعه لأنه وعي بطابعه لأنه وعي بنيوي يتخلل كل البنى في المجتمع. والثقافة العربية غالبا ما توصف بأنها ثقافة التخلف أو وعي التخلف بكل ما ينطوي عليه هذا الوعي من قيم واتجاهات ومعايير سلوكية تمجد القهر والتسلط والظلم والعبودية وكل القيم السابقة للمدنية والحضارة.

فالمجتمعات العربية تعاني من هيمنة ثقافة سياسية وأوضاع اجتماعية متردية في مستوى العمق والشمول والمجتمعات العربية تعاني من التاءات الثلاث: التبعية والتخلف والتجزئة، والوطن العربي وطن تتحرق شعوبه إلى الوحدة بينما تكرس أنظمته الانفصال، وطن تتشوق فيه شعوبه إلى الديمقراطية ولكن أنظمته تكرس كل قيم الاستبداد (92) ). وتأسيسا على هذه الرؤية، يبرر بعض المفكرين العرب غياب الحرية الجامعية تأسيسا على غياب هذه الحرية في المجتمع. يقول بشارة في هذا الخصوص: " المجتمع بالإضافة إلى أنه غير متسامح بطبيعته ولا يقبل الحرية، فمن غير المعقول أن يعطي هذا الحق لمؤسسة تأخذه فيها الشكوك ولا يجد ما يبرر أن يعطيها الحرية، ولا يستفيد منها استفادة ملموسة، ومن هذا المنطلق فالسلطة الأكاديمية أو الحرية داخل الجامعة ستظل لفترة طويلة منقوصة ومحدودة لأن المجتمع لم يتقبل الحرية(93). وفي سياق آخر يؤكد بشارة أن طلاب الجامعة تحكمهم رؤى سياسية خارجية: " الطلاب داخل القاعة مسيّسون أي أنهم يمثلون تيارات خارج الجامعة، وهذا يمثل نوعا من القهر أو من الحجز على الحرية الفكرية والأكاديمية في داخل الجامعة"(94). فالمشكلة كما يطرحها الربعي تتمثل في تلازم غياب الديمقراطية في مستوييها الاجتماعي والأكاديمي وهو يربط بصورة مضمرة بين الحريتين يقول: " نحن أمام مشكلتين: مشكلة غياب تقاليد ديمقراطية في حياتنا، ومشكلة غياب تقاليد أكاديمية أيضا في هذه الحياة(95).

هذا ويضج المجتمع العربي بتركيبات اجتماعية ثقافية منافية لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويأتي في مقدمة هذه التركيبات مفاهيم الطائفة والعائلة والعشيرة والعصبيات المحلية وأساطيرها المختلفة، والتي تتساند وتتفاعل في ديناميكية فريدة مع مفهوم الأبوية "البطريركية" التقليدية، أو الحديثة الممثلة في الدولة، وهذه التركيبات والوضعيات الثقافية تمثل عقبات بنائية ضد نظم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي تجد صداها في داخل المؤسسات التربوية والتعليمية (96). ولعل أخطر هذه التحديات التي تواجه الثقافة العربية يتمثل في هيمنة العقل المنغلق والماضوية الفكرية لدى غالب القوى السياسية والثقافية والحزبية – حيث يعاد إنتاج مصادر الأفكار داخل كل جماعة دونما تجديد أو اجتهاد(97). فالثقافة العربية التقليدية تكرس قيم التسلط والإكراه وتبرر قيم الهيمنة والنفوذ الاجتماعي غير المحدود للسلطات القائمة، وهي تكسب هذه القيم ثوبا دينيا، فعلى سبيل المثال، استخدمت ولا تزال تستخدم بعض الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية لتبرير طاعة الحاكم وتأكيد الطاعة له كواجب ديني، كذلك هناك الكثير من المقولات التقليدية التي تستخدم لإقناع المسلمين بضرورة تأييد الحاكم حتى ولو كان ظالما، بحجة أن ذلك خير من الفتنة وانحلال المجتمع، فمن هذه المقولات مثلا "أمام عادل خير من مطر وابل وإمام غشوم خير من فتنة تدوم " وأن الحكام" هم وسائل الله في عمله" وأن "الحاكم الظالم خير من انعدامه أصلا" وأن " السلطة من الله، ويجب أن تطاع" وأن الحاكم ظل الله على الأرض" وأن "الطاعة واجبة.. خوفا من انقسام الأمة.. واضطراب الأمور"، وأن "الحاكم ولو كان ظالما، لخير من الفتنة وانحلال المجتمع"، وأنه "على الرعايا طاعة الحكام أدوا إليهم حقهم واسألوا الله حقكم . إن السلطوية هي السمة الأساسية لعدد من الأنظمة السياسية العربية، حيث يتسم بناؤها السياسي بتركيز السلطة في يد قلة تتحكم في المجتمع، وكثيرا ما تعمل تلك القلة على حرمان مواطنيها من المشاركة ومصادرة حقوقهم الأساسية وحريتهم .

يقول خالد الناصر في هذا السياق: " إن المتأمل في حال الإنسان العربي في المرحلة الراهنة يستطيع أن يلمس بسهولة أن هذا الإنسان يعاني حالة حرمان من أهم حقوقه الأساسية كإنسان، فهو محروم من حرية إبداء الرأي والتعبير في شؤون مجتمعه ووطنه وأمته وهو مغلول عن المشاركة في تقرير مصيره ومصير بلده ومكبل بقيود القهر والخوف والحاجة "

فالثقافة العربية يغلب على ممارستها وبنيتها الطابع القمعي والنزوع إلى القهر والتحكم، وعادة لا يشعر الأفراد بأنهم مقهورون بل يفتقدون الرؤية الصحيحة في تحديد سمات القهر، وهم أيضا لا ينتبهون بأنهم يسلكون سلوك المقهورين فيتوهمون أنهم يمتلكون إرادتهم الحرة (...) إن القهر قد اصبح سمة سياسية سلوكية في المجتمعات العربية في نظم الحكم والإدارة وفي الحياة الاجتماعية وفي السرة والتربية والتعليم(98).

يقول عبد المالك التميمي مؤكدا الحتمية الاجتماعية للفعل التربوي التي تتمثل في هذه الوضعيات والتركيبات المنافية للقيم الديمقراطية: إذا لم تكن هناك حرية بمعناها الصحيح في المجتمع فلن تكون هناك حرية في الجامعة، لكن المجتمع الجامعي بإمكانه توفير ضمانات توفر الحد الأدنى من القيم والسلوك الذي يستطيع فيه المجتمع الجامعي أن يفرض رأيه حتى لو لم تتوفر الحرية الكاملة في المجتمع(99).

لم يصل المجتمع العربي إلى مرحلة المجتمع العقلاني ولم يستطع العقل أن يتحرر وينطلق ليتجاوز حدود التقاليد. وإذا كانت الأزمة عند الغربيين هي أزمة ما بعد العقل وما بعد الحرية فإننا لا زلنا نمر بأزمة ما قبل العقل وما قبل الحرية. فالغربيون تجاوزوا نطاق التفكير العقلي التقليدي بعد أن تشبعوا بالعلم والمنطق والفلسفة، وأصبحوا يتطلعون إلى عقل يتجاوز نطاق العقل الذي ألغوه. أما عندنا فلا زال العقل يعمل جاهزا من أجل اكتشاف ذاته وتحقيق أبسط مطالبه(100).

وفي هذا السياق يؤكد أغلب المفكرين العرب بأن الواقع العربي يعاني في المقام الأول من حرمانه وافتقاره إلى الحرية الفعلية، حرية المعرفة بلا خوف وحرية التعبير بأمان(101)." ووفقا لهذا المنظور فإن غياب هذه الحريات يجد ترجمة له في مؤسسات التعليم بعامة والتعليم الجامعي على نحو الخصوص.

وفي هذا السياق يعلن نفر من هؤلاء المفكرين بأن الواقع الثقافي محمل بمخاطر النزعات المتصلبة، وأن هذا التصلب يؤدي إلى تصلب البنى التعليمية والمؤسسات التربوية بصورة عامة. ويذهب بعضهم إلى القول في هذا الخصوص إلى القول: إن أكثر القوى تنظيما وتطورا هي القوى الغير متنورة، بل هي على العكس القوى التي تريد أن تعود بالمجتمع إلى الوراء، فالذين يطلق عليهم "متنورون" هم مشكلة الحرية(102). فالمجتمع العربي يعاني من غياب النضج سياسي وغياب الثقافة الديمقراطية ويترتب على هذا غياب حرية الخلاف والاختلاف (103). ويضاف إلى ذلك كما يقول رضوان السيد " إن مفهوم الوطن غير متبلور فهناك عشيرة، وهناك قبيلة وهناك عائلة وبالتالي فإن مفهوم الوطن بالمفهوم العصري غير موجود إلا بشكل ضئيل(104). وهكذا يستحيل علينا كما يذهب أحمد الربعي " أن نقيم واحة من الحرية في صحراء قاحلة من غياب الحرية"(105).

"إن تحرير الجامعة لتقوم بأدوارها الحقيقية، من تفتيش عن الحقيقة إلى تحرير نفوس تلاميذها من كل شوائب العبودية والخوف والتقليد، يمر فقط عبر ساحة معارك الحرية والعدالة والحق (…) باختصار، إن إصلاح التعليم العالي، كما هو إصلاح المجتمع، موضوع قابع في قلب السياسة، أي جزء من لعبة القوى المجتمعية المتصارعة. من هذا المنظور فإنه مرتبط إيجابا وسلبا بعوامل خارجية كحقوق الإنسان والديمقراطية وتوزيع الثروة والعولمة ومقدار قوة أو ضعف الدولة أو المؤسسات المدنية والأنواع الجديدة من الاستعمار السياسي والعسكري والثقافي(106).

وفي هذا السياق يبـدو لنـا ضروريـا أن نبرز بعض النقاط المشتركة التي تمثل حصادنا الفكري لطبيعة العلاقة بين المؤسسات التربوية والمجتمع:

- الجامعة لا تمثـل عالما منفصلا عن الحياة الاجتماعية، وهي في كافة أحوالها مؤسسـة تربوية تخـضع لجـدل العلاقات القائمة بين المؤسسات الاجتماعية وبين المجتمع.

- وإذا كـانت وظيفـة وبنيـة المؤسسـة الجامعية مرهونـة بالشروط الاجتماعية القائمـة، فإن ذلك لا يتعارض مع هامش من الاستقلال النسبي الذي تتمتع به هذه المؤسسـة التربويـة، ويبقى مثل ذلك مرهونا بمستوى وعي العاملين في الحقل التربوي وطبيعة انتماءاتهم الاجتماعية وخلفياتهم الثقافية.

- هـذا ويمكـن للجامعة أن تلعـب أدوارا متعددة ومتباينة، فهي قادرة على تكـريس الديمقراطية التربويـة كمـا يمكـنها وعلى خلاف ذلك أن تسهم في تعزيز القيم التسلطية المنافية للقيم الديمقراطية، ولكن هذه الإمكانية مرهونة بجملة من الظروف الاجتماعية والسياسية القائمة.

فالجامعة لا تستطيع أن تضمن استقلالها وحريتها في طلب الحقيقة، ونشرها ما لم تتمتع بتأييد واضح من القوى الاجتماعية خارج جدرانها وبعبارة أخرى، يجب على الجامعة أن تجعل أحد أهدافها الرئيسية تربية الأجيال المتلاحقة من خريجيها على تمتين مفاهيم الحرية الأكاديمية ليكونوا عونها الفكري والبشري إذا أزفت الأزمة حاقت بالجامعة قوى الردة الحضارية تريد مصادرة حقها في طلب الحقيقة، وإشاعتها بين الناس(107).

وأخيرا فإن دور الجامعة الإبداعي يتحدد بدرجة الاستقلالية الذاتية أو النسبية التي تتمتع بها الجامعة وبطبيعة المجتمع الجامعي والقوى الاجتماعية التي يتحدر منها المجتمع بمختلف فصائله واتجاهاته وتياراته. وهذا يعني أنه كلما تنامت درجة الاستقلال الذاتي للمؤسسة الجامعية وكلما تنامت فيها القوى الاجتماعية الليبرالية استطاعت هذه المؤسسة أن تتسنم أدوارا اجتماعية تحمل طابع الابتكار والتجديد.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا الاتجاه بدأ يشهد حالة كبيرة من التراجع ولا سيما في النصف الثاني من القرن العشرين وذلك تحت تأثير نمو الفكر السوسيولوجي الذي استطاع أن يكشف عن الأبعاد الاجتماعية للعملية التربوية وعن الروابط الأيديولوجية للعلاقة بين التربية والمجتمع. فالمؤسسات التربوية كما تظهرها هذه الدراسات تمارس وظيفتها وفقا لمعايير اجتماعية تتحدد في نسق الحياة الاجتماعية السياسية.

9- موقف الأكاديميين من وضعية القهر وغياب الحريات الأكاديمية:

تتوقف ردود فعل الأكاديميين العرب على منظومة من الوضعيات الاجتماعية والأكاديمية التي يعيشون فيها. فأغلب الفئات الأكاديمية التي تعاني من الأوضاع السيئة والمتردية هي الأجيال الجديدة من المدرسين والأكاديميين الذين عادوا من الإيفاد وأنهوا دراستهم في الثمانينات وما بعد ذلك. وأغلب هذه الفئات الأكاديمية تنتمي إلى الطبقة الوسطى في مختلف البلدان العربية. وهذا يعني أن هذه الفئات تتحدر غالبا من فئات اجتماعية تعاني في الأصل من أصول اجتماعية متواضعة جدا. ويمكن التمييز في نسق هذه الفئات الأكاديمية بين الفئات الأكاديمية التي تأهلت علميا في الاختصاصات العلمية الدقيقة مثل الطب والهندسة والصيدلة والعلوم وبين الفئات التي تأهلت علميا في مجال العلوم الإنسانية.

وكما وضحنا في السابق فإن هاجس الأكاديميين الجدد هو التحرر من عالم الضرورة ويلاحظ في هذا السياق أن الصراع من أجل الرغيف والوجود (تأمين سكن – هاتف – الزواج وبناء أسرة) يشكل جوهر حياة هذه الفئة فالبحث هنا يجري عن خلاص وهذا الخلاص يبدو بالنسبة إلى أغلبهم كالسراب.

ويبدو أن الأكاديميين من ذوي الاختصاصات العلمية (طب وهندسة) أوفر حظا من زملائهم في مجال العلوم الإنسانية حيث يجدون فرصا للعمل في القطاع الخاص وأحيانا يدخلون في نسق من العلاقات التي تضمن لهم ماء الوجه والحد الأدنى من الكرامة الإنسانية. أما الطامة الكبرى فتقع على أصحاب الاختصاصات الإنسانية الذي يجدون أنفسهم في حصار مادي واجتماعي خانق لا يرحم. وتبعا لوضعية هذه الفئات الاجتماعية تتحدد وضعية الاستجابة تجاه الوضعية المأساوية التي تعيشها شريحة واسعة من هؤلاء الأكاديميين.

فالأجيال القديمة من الأكاديميين استطاعوا الاستفادة من النظام الأكاديمي القديم الذي منحهم فرصة أكبر لتكوين حياتهم المادية والفكرية والدخول في نسق من العلاقات التي ضمنت لهم نوعا من الاستمرارية والحضور والقدرة على المواظبة سواء في خارج بلدانهم أو في داخلها. وأغلب عناصر هذه الفئة انكفأ على امتيازاته النسبية وابتعد حتى عن أبسط المطالبات الأساسية لتحسين أوضاعهم وأوضاع زملائهم. فالخلاص الفردي لهذه الفئة شكل لها المخرج الأساسي من أزمة التدهور التي يعانيها المجتمع الأكاديمي ولا سيما شريحة الأجيال الجديدة.

ويلاحظ في هذا السياق الصمت الذي سجله عدد كبير من المفكرين الذي عرفوا بجرأتهم وقدرتهم الأكاديمية وحضورهم الاجتماعي الكبير في أوطانهم. هذه الفئة من الأكاديميين التي تسجل حضورها في كثير من المحافل الثقافية والفكرية لم تحرك ساكنا أو قلما للحديث عن الأوضاع المتردية للمجتمع الأكاديمي بصورة عامة. والغريب في الأمر أن أغلب المفكرين الكبار في أوروبا وأمريكا قد خصصوا دراسات وأبحاث حول الحرية الأكاديمية في جامعاتهم ومؤسساتهم إلا أن كثيرا من المفكرين العرب البارزين قد تغافلوا هذه القضية وأغفلوها لاعتبارات غير واضحة. فعلى سبيل المثال كان يمكن لهؤلاء المفكرين أن بما يمتلكون عليه من القدرة والاقتدار الأكاديمي أن يثيروا هذه القضية في مستواها العلمي على الأقل ولكنهم آثروا الصمت حول هذه القضية علما بأنها من أهم القضايا التي يمكن أن تثار وتطرح في الساحة الفكرية والسياسية.

وفيما يتعلق بالفئة الأكاديمية المؤهلة بالعلوم الدقيقة والتطبيقية بقيت آمالهم في خلاص فردي يقوم على أساس الخبرات التي يمتلكون عليه في مجال الطب والهندسة وغير ذلك من العلوم النادرة والمنتجة ماديا.

أما فيما يتعلق بأوضاع الفئة الأكاديمية الوسطى والتي تأهلت في مجال العلوم الإنسانية بقيت استجاباتها في حدود الترجي والأمل في أن تجد خلاصا ماديا يقوم على أساس عناية القيادة السياسية: فالآمال عند هؤلاء كبيرة جدا في أن تلتفت إليهم السلطة السياسية في لحظة ما لتعيد لهذه الطبقة بعض الاعتبار ولا سيما فيما يتعلق بالسكن والسيارة وتحسين الأوضاع بصورة عامة. وتتحدد استجابات الأكاديميين في ثلاثة مستويات: فئة أكاديمية استطاعت أن تجد الخلاص في مراحل سابقة وهي غير معنية فيما يحدث بالنسبة لزملائهم من الشرائح الأكاديمية الأخرى. فئة ثانية وهي فئة الأكاديميين من ذوي الاختصاصات العلمية تعول على أهمية رأس المال العلمي الذي تمتلكه وعلى القدرات والمهارات التي يمكن الاستفادة منها مباشرة في سوق العمل. أما الفئة الثالثة فهي الفئة التي تحمل تأهيلا في مجال العلوم الإنسانية وهذه الفئة ما زالت تعتمد أسلوبا في النضال يقوم على أساس لفت الانتباه والترجي والأمل … إلخ.

وهناك شريحة من الأكاديميين الذي يوجدون في سدة الحكم من وزراء ورؤساء جامعات ونقابيين وغير ذلك من المسؤوليات الكبيرة ولكن هذه الفئة تعمل وعلى خلاف ما هو مرجو منها على تكريس معاناة أعضاء هيئة التدريس وعلى تضييق الحصار عليهم بصورة مستمرة عبر قوانين جديدة ومراسيم إدارية جديدة تكرس بؤس الأستاذ الجامعي ومعاناته. طبعا الأمثلة على هذه الوضعية لا حدود لها ويمكن أن نسرد آلاف المؤشرات والحوادث التي تدل على هذه الوضعية .

في تحليل سوسيولوجي أكثر عمقا من هذا الذي صورناه يقدم امحمد صبور رؤية علمية لردود أفعال الأكاديميين إزاء وضعية القهر وتحليله هذا قد ينسحب على كثير من أوضاع الأكاديميين في الوطن العربي حيث يقول " يؤدي الطغيان والقهر الذي يتعرض له الأكاديميون إلى ردود فعل مختلفة إزاء النظام السائد " فمنهم من يندمج، ومنهم من ينسحب، ومنهم من يكيف نفسه، ومنهم من يتمرد ويثور. وبعبارة أخرى هناك من يندمجون لأسباب شخصية (كالمنفعة والمصلحة والتطلعات الإدارية) وباندماجهم يصبحون أعضاء مهيمنين لتأييد الأيديولوجيا المهيمنة. أما المنسحبون فلا يعتبرون أنفسهم جزءا من النظام ويغتربون عنه، وفي هذه الحالة، يعرضون أنفسهم بكيفية آلية لعمليات الانتقام(108). أما المجموعة التي تكيف نفسها مع النظام، فإنها تلبس جلد الحرباء وتتلون مع المواقف كما تلونت. وأعضاء هذه الجماعة مرنون ومتعاونون وموافقون ومستعدون للجلوس في أي مقعد يقدم لهم، والاندفاع في أي خطاب يعرض عليهم. وبعبارة أخرى فهم على استعداد، على أساس أن عملهم عمل علمي وليس سياسيا. وهم في الواقع يحاولون إخفاء انتهازيتهم تحت ستار عدم الانتماء السياسي وتلبيس ضياعهم الثقافي قناع الأيديولوجيا البرغماتية الحادة(109).

10- خلاصة:

الأكاديميون العرب (مع الاحتراز ضد التعميم) يعيشون حالة اغتراب تتمثل في غياب الحريات وتآكل الحقوق والأكاديمية بكل المقاييس. وبما أن الجامعة هي حرم العقل والحرية فإنه يترتب على الجامعيين اليوم وأكثر من أي وقت مضى أن يتحرروا من نزعة الخلاص الفردي. الأكاديميون يملكون الكلمة والقلم على الأقل وهم يستطيعون أن يقدموا صورة واقعية للمأساة عبر أبحاثهم ومناقشاتهم وهمساتهم. وهذا يعني أن الصمت ليس الأداة الأفضل للنضال من أجل تغيير الواقع . وهذا يعني أنه يجب على الأكاديميين الخروج من دائرة الصمت والمطالبة بالحوار والتأكيد على أهمية الخلاص الحقيقي للأكاديميين من دائرة الصعوبات لأن خلاصهم ضروري من أجل تقدم المجتمع والجامعة والحياة الاجتماعية برمتها.

فالحريات الأكاديمية كما تلح دراستنا هذه لم تعد ترفا ثقافيا أو موضوعيا يهم المثقفين، بل هي ضرورة حيوية لنهضة الأمة والخروج بها من أزمتها(110). وأنى لهذه الحرية أن تتأتى إذ كان الأكاديميون يعيشون في صراع مع شروط البقاء والمقدمات الأساسية للوجود. فالحرية " ليست شيئا يودع في عقول الرجال بل هي ممارسة أو استجابة واعية نحو العالم(111). وهذا يعني أن الحرية والحقوق لا تأتي على طباق فضية بل يجب على المعنيين أن يناضلوا من أجلها وأن يمارسوها بعيدا عن وضعيات التوسل والرجاء.

وذلك لأن "قيمة التعليم الجامعي وعظم شأنه يتوقف على مبلغ نجاحنا في إرساء الحرية الأكاديمية " وترسيخها كتقليد جامعي(112). وهذه الحرية قمينة إذ توفرت أن تمكن الجامعة نفسها من الاستمرار ومن امتلاك ناصية العمل على إعادة بناء العقلية العربية انطلاقا من مقدمات ديمقراطية لمواكبة العصر بصيرورته وتطوراته. فالحرية مطلب تاريخي للإنسان والشعوب وإذا كانت مطلبا عاما للإنسان فإن هذه الحرية تطرح نفسها بإلحاح لا حدود له في مجال الحياة والأكاديمية. لأن الحرية الأكاديمية تمثل عصب وشريان الوجود بالنسبة لوظيفة الجامعة وأدائها.

***

علي أسعد وطفة

جامعة الكويت – كلية التربية

...........................

مراجع الدراسة:

(1) - إلياس الزين: الجامعة اللبنانية وإعادة بناء لبنان وتطويره، دراسات عربية، عدد2، كانون الأول 1977،ص45.

(2) - عبد الله محمد عبد الرحمن: سوسيولوجيا التعليم الجامعي: دراسة في علم الاجتماع التربوي، دار المعرفة الجامعية، 1991، ص 101.

(3) - عبد الله محمد عبد الرحمن: سوسيولوجيا التعليم الجامعي: المرجع السابق، ص104.

(4) - رضوان السيد: الحريات الأكاديمية في جامعات سوريا ولبنان، ضمن الحرية الأكاديمية في الجامعات العربية، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي عقدها منتدى الفكر العربي، 27- 28 سبتمبر أيلول عمان، 1994، (صص 73- 91) ص 83.

(5) - علي محافظة: الحرية الأكاديمية في الجامعات الأردنية، ضمن الحرية الأكاديمية في الجامعات العربية، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي عقدها منتدى الفكر العربي، 27- 28 سبتمبر أيلول عمان، 1994، (صص 23- 38) ص 24.

(6) - علي محافظة: الحرية الأكاديمية في الجامعات الأردنية، المرجع السابق، ص 24.

(7) - رياض قاسم: مسؤولية المجتمع العلمي العربي منظور الجامعة العصرية وأفق الحرية الديمقراطية داخل الحرم الجامعي العربي، المستقبل العربي، عدد 193، آذار /مارس1995، صص(76- 94)، ص86.

(8) - محمد جواد رضا: الاصطلاح الجامعي في الخليج العربي، الكويت، شركة الربيعان للنشر والتوزيع، 1984،ص109.

(9) - سعيد إسماعيل علي: الحرية الأكاديمية للتعليم العالي العربي لمواجهة تحديات مطلع القرن القادم، ضمن المؤتمر التربوي الثاني لقسم التربية حول التعليم العالي العربي وتحديات مطلع القرن الحادي والعشرين، الكويت، هوليدي إن،(17 - 20) إبريل 1994،ص10.

(10) - عبد الخالق عبد الله: حالة جامعة الإمارات العربية المتحدة، ضمن الحرية الأكاديمية في الجامعات العربية، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي عقدها منتدى الفكر العربي، 27 - 28 سبتمبر أيلول عمان، 1994، (صص 93 - 112)، ص97.

(11) - مداخلة حسن جميل طه: حوار حول الحرية الأكاديمية بين المفهوم والممارسة، المجلة التربوية، المجلد1، السنة الأولى، العدد الأول، يونيو1984، صص(63 - 102)ص78.

4 - جون ديكنسون: العلم والمشتغلون بالبحث العلمي في المجتمع الحديث، سلسلة كتب عالم المعرفة، 112، الكويت 1987، ص 189

(13) - عبد الخالق عبد الله: حالة جامعة الإمارات العربية المتحدة، مرجع سابق، ص95.

(14) - عبد الخالق عبد الله: حالة جامعة الإمارات العربية المتحدة، مرجع سابق، ص95.

(15) - سعيد إسماعيل علي: الحرية الأكاديمية للتعليم العالي العربي مرجع سابق، ص24.

(16) - عبد الخالق عبد الله: حالة جامعة الإمارات العربية المتحدة، مرجع سابق، ص96.

(17) - عبد الفتاح عمر: الحريات الأكاديمية في الجامعات التونسية، ضمن الحرية الأكاديمية في الجامعات العربية، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي عقدها منتدى الفكر العربي، 27 - 28 سبتمبر أيلول عمان، 1994، (صص 55 - 72) ص 56.

(18) - امحمد صبور: المعرفة والسلطة في المجتمع العربي: الأكاديميون العرب والسلطة، مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة اطروحات الدكتوراه (18)، بيروت، 1992، ص 203.

(19) - أسامة عبد الرحمن: البيروقراطية النفطية ومعضلة التنمية، دار الشباب للنشر والترجمة والتوزيع، قبرص، 1987، ص 238.

(20) - لدكتور محمد جواد رضا: أزمات الحقيقة والحرية والضرورة، الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية، سلسلة الدراسات العلمية والموسمية المتخصصة، العدد 22، يناير، الكويت 1991، ص 46.

(21) - عمر عبيد حسنة: مراجعات في الفكر والدعوة والحركة، الرياض، الدار العالمية للكتاب الإسلامي، 1994، ص38.

(22) - يزيد عيسى سورطي: السلطوية في التربية العربية المظاهر والأسباب والنتائج، المجلة التربوية، العدد47، المجلد12، الكويت، شتاء1998،صص(235 - 285)،ص274.

(23) - عبد الرحمن بدوي: فلسفة الدين والتربية عند كنت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1980، ص 128.

(24) - عبد الرحمن الكواكبي (1854 - 1902) مصلح سوري أصيل مدينة حلب، هاجر وطنه في آخر حياته إلى مصر عام 1899 فرارا من الاضطهاد العثماني وعرف بمؤلفيه: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد 1899، وأمَ القرى 1901.

(25) - محمد إبراهيم المنوفي: نحو فلسفة تربوية لمواجهة ظاهرة الاستبداد السياسي، دراسات تربوية، صادرة عن رابطة التربية الحديثة، المجلد العاشر، جزء79، صص(97 - 176)،ص109.

(26) - علي الدين هلال: الديمقراطية وهموم الإنسان العربي المعاصر، ضمن مركز دراسات الوحدة العربية، الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي، بيروت،1986،(صص7 - 21)ص 8.

(27) - عبد الخالق عبد الله: حالة جامعة الإمارات العربية المتحدة، مرجع سابق، ص98.

(28) - سعيد إسماعيل علي: الحرية الأكاديمية للتعليم مرجع سابق،ص12.

(29) - جوستن بي ثورنز: الحرية الأكاديمية واستقلال الجامعات، مستقبليات، المجلد 28، العدد 3، سبتمبر 1998، (صص 401 - 407)، ص403.

(30) - جوستن بي ثورنز: الحرية الأكاديمية، مرجع سابق، ص403.

(31) - عبد الله محمد عبد الرحمن: سوسيولوجيا التعليم الجامعي، مرجع سابق.

(32) - فؤاد ذكريا: التفكير العلمي، سلسلة كتب عالم المعرفة، رقم3، الكويت 1978، ص8.

(33) - امحمد صبور: المعرفة والسلطة في المجتمع العربي: الأكاديميون العرب والسلطة، مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة اطروحات الدكتوراه (18)، بيروت، 1992، ص 174.

(34) - محمد جواد رضا: الثقافة الثالثة: الجامعات العربية وتحدي العبور من برزخ الثقافتين، المستقبل العربي، العدد 237، السنة 21، تشرين الثاني / نوفمبر 1998، (صص 109 - 120)، ص 119.

(35) - نادر فرجاني: التعليم العالي والتنمية في البلدان العربية،، مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، السنة الحادية والعشرون، العدد237،تشرين الثاني/نوفمبر، 1998،صص(83 - 108)،ص90

(36) - نادر فرجاني: التعليم العالي المرجع السابق، ص90

(37) - عبد الخالق عبد الله: حالة جامعة الإمارات العربية المتحدة، مرجع السابق، ص101.

(38) - عبد الخالق عبد الله: حالة جامعة الإمارات العربية المتحدة، مرجع السابق، ص102.

(39) - محمد جواد رضا: الجامعات العربية من الغربة إلى الاغتراب، المستقبل العربي، عدد 182، نيسان/إبريل، 1994،ص25.

(40) - نادر فرجاني: التعليم العالي والتنمية في البلدان العربية، مرجع سابق، ص86

(41) - هيلين دار بشير: حرية الكلمة الحرية الرئيسية، رسالة اليونسكو، مارس (صص14_24) 1994،ص14.

(42) هيلين دار بشير: حرية الكلمة الحرية الرئيسية، المرجع السابق، ص14.

(43) - عبد الهادي عباس، حقوق الإنسان، الجزء الأول، دار الفاضل، دمشق 1995، ص 60.

(44) - نحن على وعي كامل بمخاطر التعميم فالوضع يختلف بين جامعة عربية وأخرى وبين قطر عربي وآخر.

(45) - امحمد صبور: المعرفة والسلطة في المجتمع العربي، مرجع سابق ص 185.

(46) - امحمد صبور: المعرفة والسلطة في المجتمع العربي، مرجع سابق، ص 15.

(47) - عدنان مصطفى: مسألة الجامعات العربية منظور القبور الحية، عالم الفكر، المجلد24، العددان1/2، يوليو/سبتمبر /أكتوبر/ ديسمبر،1995،صص(15 - 34)،ص28.

(48) - رضوان السيد: الحريات الأكاديمية في جامعات سوريا ولبنان، ضمن الحرية الأكاديمية في الجامعات العربية، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي عقدها منتدى الفكر العربي، 27 - 28 سبتمبر أيلول عمان، 1994، (صص 73 - 91) ص 79.

(49) - امحمد صبور: المعرفة والسلطة في المجتمع العربي، مرجع سابق، ص 128.

(50) - رياض قاسم: مسؤولية المجتمع العلمي العربي منظور الجامعة العصرية وأفق الحرية الديمقراطية داخل الحرم الجامعي العربي، المستقبل العربي، عدد 193، آذار /مارس1995، صص(76 - 94)، ص85.

(51) - عبد الفتاح عمر: الحريات الأكاديمية في الجامعات التونسية، ضمن الحرية الأكاديمية في الجامعات العربية، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي عقدها منتدى الفكر العربي، 27 - 28 سبتمبر أيلول عمان، 1994، (صص 55 - 72) ص 55.

(52) - منى مكرم عبيد: الحريات الأكاديمية في مصر بين الأمس واليوم، ضمن الحرية الأكاديمية في الجامعات العربية، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي عقدها منتدى الفكر العربي، 27 - 28 سبتمبر أيلول عمان، 1994، (صص 39 - 54) ص 45.

(53) - رضا محمد جواد: الجامعات العربية من الغربة إلى الاغتراب، المستقبل العربي، عدد 182، نيسان /أبريل، 1994. (صص:4 - 20)

(54) - سعيد إسماعيل علي: الحرية الأكاديمية للتعليم العالي العربي مرجع سابق، ص2.

(55) - عاقل فاخر: التربية قديمها وحديثا، دار العلم للملايين، بيروت، 1977. (ص: 434).

(56) - عبد الخالق عبد الله: حالة جامعة الإمارات العربية المتحدة، مرجع سابق، ص103.

(57) - لا يمكن لأصحاب القلم الحر أن يكتبوا عن موضوع الحريات الأكاديمية في بعض الجامعات العربية ولذلك فإننا نعتقد بأن الجامعات التي كتب فيها وبوضوح عن الحريات الأكاديمية هي جامعات حرة نسبيا.

(58) - عبد الخالق عبد الله: حالة جامعة الإمارات العربية المتحدة، مرجع سابق، ص104.

(59) - مداخلة أحمد بشارة: في ندوة: الحرية الجامعية والهوية الثقافية، المجلة العربية للعلوم لإنسانية، عدد58، السنة 15، ربيع 1997، صص(222 - 258)،ص231.

(60) - مداخلة عبد الملك التميمي: في ندوة الحرية الجامعية والهوية الثقافية، مرجع سابق، ص242.

(61) - سعيد إسماعيل علي: الحرية الأكاديمية للتعليم العالي العربي مرجع سابق، ص3.

(62) - لقد شهدت إحدى الأقسام في إحدى الجامعات العربية نشاطا معرفيا يحمل طابعا فكريا فلسفيا يتميز بطابع الشمولية وذلك في ندواته الثقافية السنوية وعلى أثر النجاح الكبير التي حققه هذا القسم بتظاهراته الثقافية (ودون أية ممارسة فكرية سياسية معارضة أو مناوئة) تم تغيير رئيس القسم وتعطيل هذا النشاط.

(63) - فاخر عاقل: التربية قديمها وحديثها، دار العلم للملايين، بيروت 1977، ص433.

(64) - أحمد خضر أبو هلال: دراسة أنتروبولوجية لدور الجامعات العربية في تطوير المجتمع العربي: المؤتمر العام الثاني لاتحاد الجامعات العربية: الجامعات العربية والمجتمع العربي المعاصر 7 - 4 شباط 1973، صص(113 - 141)،ص134.

(65) - انظر: خليل محشي: التربية المدرسية والعطاء العلمي في البلدان العربية، ندوة تهيئة الإنسان العربي للعطاء العلمي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1985، (ص 219 - 268)، ص 256.

(66) - عبد الله عبد الدايم: التعليم العالي وتحديات اليوم والغد، المستقبل العربي، العدد 237، السنة 21، تشرين الثاني / نوفمبر 1998، (صص 121 - 131)، ص131.

(67) - شكري نجار: الجامعة ووظيفتها الاجتماعية والعلمية، الفكر العربي، عدد20، آذار - نيسان1981،ص149.

(68) - شكري نجار: الجامعة ووظيفتها الاجتماعية والعلمية، المرجع السابق، ص149.

(69) - محمد جواد رضا: الإصلاح الجامعي في الخليج العربي، الندوة الفكرية الثانية لرؤساء ومديري جامعات الدول الأعضاء، جامعة الملك عبد العزيز، جدة 1984، ص71.

(70) - عدنان مصطفى: مسألة الجامعات العربية منظور القبور الحية، عالم الفكر، المجلد24، العددان1/2، يوليو/سبتمبر /أكتوبر/ديسمبر،1995،صص(15 - 34)،ص19.

(71) - مداخلة أحمد بشارة: في ندوة الحرية الجامعية والهوية الثقافية، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، عدد58، السنة 15، ربيع 1997، صص(222 - 258)،ص229.

(72) - زكي حنوش: نحو منطلقات مشتركة لفلسفة وأهداف مناهج التعليم الجامعي العربي في المرحلة الراهنة، شؤون عربية، عدد91،سبتمبر، 1997،ص137.

(73) - رضوان السيد: الحريات الأكاديمية في جامعات سوريا ولبنان،، مرجع سابق، ص 80.

(74) - ف.كومبز: أزمة التربية في عالمنا المعاصر، ترجمة أحمد خيري كاظم وجابر عبد الحميد، دار النهضة المصرية، القاهرة، 1971.

(75) - آلفين توفلر: صدمة المستقبل أو المتغيرات في عالم الغد، ترجمة محمد علي ناصيف، نهضة مصر، القاهرة 1990(ص:203)

(76) - امحمد صبور: المعرفة والسلطة في المجتمع العربي، مرجع سابق، ص 173.

(77) - امحمد صبور: المعرفة والسلطة في المجتمع العربي، مرجع سابق، ص 174.

(78) - امحمد صبور: المعرفة والسلطة في المجتمع العربي، مرجع سابق، ص 175.

(79) - انظر: محمود قنبر: التربية وترقية المجتمع، دار سعاد الصباح، مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، ط1، الكويت، 1992.

(80) - فيليب أديب سالم: الحواجز الحضارية أمام التقدم العلمي العربي، مجلة المستقبل العربي، العدد2، 1978.

(81) - عبد الله عبد الدايم، التربية عبر التاريخ، دار العلم للملايين، بيروت، ط3، 1978، ص 505.

(82) - حسن حنفي: الجذور التاريخية لأزمة الديمقراطية في وجداننا المعاصر، ضمن مركز دراسات الوحدة العربية، الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي، بيروت،1986،(صص 175 - 190)، ص 177.

(83) - منذر عنبتاوي: دور النخبة المثقفة في تعزيز حقوق الإنسان، ضمن مركز دراسات الوحدة العربية، الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي، بيروت،1986،(صص 277 - 312)، ص 279.

(84) - Durkhein (E.), Education et sociologie, Paris, . U.F.(1966),(P.86)

(85) - Męme source:,P.87

(86) - Męme source, P.82.

(87) - Christophy (J.) et Mary J.B., School and inquility saturday Revît et Washington post,17 avril (1972),In Gras (A.), Sociologie de l'éducation: Textes fondamentaux, Paris, Larousse,(1974),(p.311).

(88) - Voir: Snyders (G.), Ecole classe et lutte des classes, ibid.

(89) - Snyders (G.), Ecole classe et lutte des classes,ibid,p.29

(90) - Snyders (G.), Męme source, pp(30 - 31).

(91) - أحمد الأمين: إعادة بناء العقلية العربية: مقدمات من أجل بناء المجتمع المدني وإقامة الديمقراطية، دراسات عربية، العدد 1/2، نوفمبر/ ديسمبر، دار الطليعة، بيروت، 1998، صص(2 - 12). ص 11.

(92) - المعهد العربي للتخطيط وثيقة تعليم الأمة العربية في القرن العشرين " الكارثة والأمل " التقرير التلخيصي لمشروع مستقبل التعليم في الوطن العربي " تحرير سعد الدين إبراهيم، القاهرة - 18 - 30 - نيسان (أبريل) 1992.

(93) - أحمد بشارة: ضمن: ندوة الحرية الجامعية والهوية الثقافية،، مرجع سابق، ص229.

(94) - أحمد بشارة: ضمن: ندوة الحرية الجامعية والهوية الثقافية،، مرجع سابق، ص234.

(95) - أحمد الربعي: ضمن: ندوة الحرية الجامعية والهوية الثقافية،، مرجع سابق، ص229.

(96) - زكي حنوش: مستقبل حقوق الإنسان والشعوب في ظل النظام العالمي الجديد، مرجع سابق، ص239.

(97) - زكي حنوش: مستقبل حقوق الإنسان والشعوب في ظل النظام العالمي الجديد،، مرجع سابق، ص239.

(98) - انظر محمد نبيل نوفل: دراسات في الفكر التربوي المعاصر، مكتبة الأنجلو مصرية، القاهرة 1986، ص52.

(99) - مداخلة عبد المالك التميمي: في ندوة الحرية الجامعية والهوية الثقافية،، مرجع سابق، ص242.

(100) - أحمد خضر أبو هلال: دراسة أنتروبولوجية لدور الجامعات العربية في تطوير المجتمع العربي: المؤتمر العام الثاني لاتحاد الجامعات العربية: الجامعات العربية والمجتمع العربي المعاصر 7 - 4 شباط 1973، صص(113 - 141)،ص122 - 123.

(101) - سلامة الخليفي: تربية التسامح الفكري: صيغة تربوية مقترحة لمواجهة التطرف، التربية المعاصر، عدد 26، مارس1991، صص(77 - 109)،ص83.

(102) - مداخلة أحمد الربعي: في ندوة الحرية الجامعية والهوية الثقافية،، مرجع سابق، ص240.

(103) - منى مكرم عبيد: الحريات الأكاديمية في مصر بين الأمس واليوم،، مرجع سابق، ص 50.

(104) - رضوان السيد: الحريات الأكاديمية في جامعات سوريا ولبنان، مرجع سابق، ص 91.

(105) - مداخلة أحمد الربعي: في ندوة الحرية الجامعية والهوية الثقافية،، مرجع سابق، ص238.

(106) - علي فخرو: متطلبات تطوير التعليم العالي، المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، السنة الحادية والعشرون، العدد237،تشرين الثاني/نوفمبر، 1998،صص(81 - 82)،ص82.

(107) - محمد جواد رضا: الجامعات العربية من الغربة إلى الاغتراب، مرجع سابق، ص8.

(108) - امحمد صبور: المعرفة والسلطة في المجتمع العربي، مرجع سابق، ص 174.

(109) - امحمد صبور: المعرفة والسلطة في المجتمع العربي، مرجع سابق، ص 174.

(110) - علي الدين هلال: الديمقراطية وهموم الإنسان العربي المعاصر، ضمن مركز دراسات الوحدة العربية، الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي، بيروت،1986،(صص7 - 21)ص 8.

(111) - باولو فرايري: تعليم المقهورين، مرجع سابق، ص58.

(112) - رياض قاسم: مسؤولية المجتمع العلمي العربي منظور الجامعة، مرجع سابق، ص85.

(صمت قبل الولادة وصمت بعد الموت، والحياة مجرد صخب بين صمتين لا قرار لهما)... الروائية التشيلية إيزابيل الليندي.

(نحن نعيش في زمان شديد الغرابة، أصبحنا نلاحظ فيه وباستغراب أن التقدم قد عقد تحالفا أبديا مع النزعة الهمجية البربرية)(1)... سيغموند فرويد .

1- مقدمة تمهيدية:

في أصل العدوانية يكمن فيض أسرار لا يتناهى تنوعه ولا ينقطع تدفقه. وفي البحث عن خفايا هذه القضية وأسرارها يشدّ علماء النفس الرحال ويعقد علماء الاجتماع العزم. فالعدوانية حقيقة بيولوجية - نفسية -اجتماعية (بيوسيكوسوسيولوجية) تضرب جذورها في أعماق الكائنات الإنسانية وفي صلب فطرتها على امتداد تنوعها واختلاف صورها وتجلياتها، وهي حقيقية مبهمة تشتد غموضا كلما اشتد الطلب في الكشف عن ماهيتها واستجلاء خفاياها.

شكلت هذه القضية -منذ بداية التاريخ الإنساني- هاجسا يقض مضاجع المفكرين والفلاسفة، وما زال العقل الإنساني حتى اليوم يكدّ ويجد في البحث عن ماهية العدوانية، وفي الكشف عن أسرارها وخفاياها وضروب تجلياتها في أعماق الإنسان. ويضج تاريخ الفكر اليوم بعظيم المحاولات الفكرية التي تسعى دون انقطاع إلى استجلاء هذه الحقيقية التي ما زالت في دوائر المتاهات الغامضة. ويأتي هذا السعي الإنساني المستمر تكثيفا لإرادة إنسانية تريد أن تهتك حجب الحقيقية دون أن تقف عند حدود التفسيرات الأحادية الجانب التي تنأى عن القصد وتَقْصُر عن اللحاق بالغاية المعرفية لخفايا هذه الظاهرة بأبعادها الكونية وأسرارها الخفية. وفي نسق هذا القصد فإن الكشف عن ماهية هذه الظاهرة وجوهرها أمر يتجاوز حدود القناطر والتخوم العلمية المعروفة. فالعنف ليس حقيقة سوسيولوجية أو نفسية أو بيولوجية فحسب بل هو حقيقة تتكون من هذه الأبعاد وتتجاوزها في الآن الواحد.

فالعدوانية تأخذ بأبعادها المختلفة صورة مشّفرة لتكوينات نفسية واجتماعية بالغة التنوع، وبالتالي فإن هذه الصورة بما تنطوي عليه من رموز خفية تتحدى الجهود العلمية وتشكل حتى اليوم رهانا علميا يشد العقل الإنساني ويشتدّ في طلبه. ويضاف إلى هذا كله طابع التغير الدائم في طبيعة الأشياء الذي يجعل من اللحاق بالحقيقة الغامضة لهذه الظاهرة أمرا في غاية الصعوبة والتعقيد. وإذا كانت الحقيقة المطلقة أمر يتنافى مع الروح العلمية يبقى على العارفين أن يقلصوا المسافة بين الأوهام والحقيقة إلى ابعد حدّ ممكن، وأن يعملوا على تحطيم أسرار الأشياء وخفايا الظواهر بصورة مستمرة وبطرق مختلفة وبأساليب منهجية متنوعة. وانطلاقا من هذه الروح العلمية يأتي البحث الدائم عن حقيقة العنف وماهية العدوان وذلك لما لهذه الظاهرة من أهمية كونية في عالم الإنسان القديم والمعاصر.

وإذا كانت العناصر الاجتماعية للعنف قد أخذت بعضا من تجلياتها الواضحة في مجال السوسيولوجيا، فإن هذه الحقيقة ما زالت في أطوارها الجنينية في مستوى علم النفس، وما زال هذا الجانب يحتاج إلى مزيد من الجهود العلمية التي يمكنها أن تجعلنا نقف على تضاريس هذه الظاهرة من الناحية السيكولوجية. ولا بد لنا في هذا السياق من الإشارة إلى وجود عدد هام من الأعمال السيكولوجية التي تناولت هذه القضية وحاولت استجلاء معانيها، إلا أنها ما زالت قاصرة عن تفسير السلوك العدواني عند الإنسان وتحديد أبعاده وإسقاطاتها الإنسانية.

فالعنف يتجذر في أعماقنا الإنسانية والعدوانية تتأصل في مظاهر وجودنا الاجتماعي، ويتجلى كلاهما في ظواهر تفاعلنا مع الكون، في أحاديثنا وأفعالنا، وفي نسق علاقاتنا الاجتماعية بالأنا والآخر. فأحاديثنا غالبا مشبعة بالعنف الذي لا يتوقف عند حدود معلومة أو تخوم مرسومة. ويتخذ هذا العنف أشكالا متعددة يتمثل بعضها في ازدراء الأغنياء للفقراء، وفي تبخيس الكبار للصغار، واحتقار الراشدين للمراهقين، ورفض أبناء المدينة لأبناء الريف، وفي التعصب ضد الآخر طائفيا ومذهبيا وعرقيا. وفي كل هذا وذاك يجري الاعتقاد سوسيولوجيا بأن المجتمع يشكل مصدر العنف وحاضنه، وأن أسباب العنف والعدوان تكمن في الشروط الاقتصادية والاجتماعية وفي تنافس الطبقات الاجتماعية.

ونحن، في دائرة حياتنا اليومية، غالبا ما نبحث عن إشباع حاجاتنا المادية، كما أننا في الوقت نفسه نعمل على إشباع رغباتنا وكبريائنا وأنويتنا. فهناك الرأي المتصلب المأخوذ بقدرته، وهناك الألم الذي تفرضه ممارسات القهر والازدراء، وهناك البحث عن الانتقام والحب والحرب. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا كيف يمكن للحياة الاجتماعية أن تجعل الإنسان عنيفا وعدوانيا؟ ألا يمكن للعنف أن يكون تعبيرا عن طبيعة الفرد ذاته أكثر من كونه تعبيرا اجتماعيا؟ هل يوجد أصل العنف حقا في الحياة الاجتماعية أم أنه راسخ في فطرتنا وجبلّتنا ؟ وما هي أشكال العنف الاجتماعي؟

فالإنسان العدواني العنيف هو الإنسان الذي يرفض احترام الآخرين لأنه ينطلق من مبدأ القوة والغلبة. وهو ذات الإنسان الذي يتلذذ بالعنف ويمارس العدوانية، ويلجأ إلى كل أشكال القوة في تفاعله مع الآخر. وهو بذلك يدير ظهره لكل معاني الحق والعدالة والقانون والقيم. والإنسان العدواني يستسلم لقدر العنف في أفعاله وممارساته ويتفانى من أجل الهيمنة والسيطرة. وهو في مسار تحقيق نشوة القوة ولذة الانتصار يزيل كل العقبات التي تقف في طريق نواياه ورغباته. وهو في كل الأحوال يعمل على إطلاق نزعاته العدوانية وتحريرها لأنه يريد أن يتماهى كليا بهوس السلطة والقوة. وهو في سياق حركته هذه لا يستطيع أن يقبل أو أن يحتمل من يعترض طريقه أو يقف في وجه إرادته ولذا فإنه يجتاح كل العقبات الاجتماعية فيتخذ موقفا عدائيا كليا من المجتمع في كليته لأن المجتمع ككل يمثل عقبة في طريق إشباع رغباته العدوانية ونزواته السادية.

والسؤال الذي نطرحه في هذه المقالة في محاولة للإجابة عنه ما حدود مفهوم العدوانية وما هي أبعاده وكيف يتجلى فيما يداخله من مفاهيم وقضايا وأسباب؟

2- العدوانية بوصفها ظاهرة إشكالية:

ما زالت الدراسات النفسية النقدية التي أجريت حول العدوانية في طور البداية والندرة، ويأتي ذلك تعبيرا عن صعوبة البحث النقدي في هذه القضية وخطورته وتشعب مسالكه . وغني عن البيان أن فرويد كان المغامر الأكبر الذي عرك هذه القضية وتمرس في الكشف عن أسرارها المذهلة.

حاول فرويد جاهدا أن يكتشف منابع السلوك الإنساني وأن يحدد المخازن الكبرى لطاقته النفسية، فالعنف والعدوان كما يراه فرويد هو من أهم مظاهر السلوك الإنساني ومن مطلق هذه الأهمية ينطلق فرويد بعبقريته المعروفة ليرسم الخطوط العريضة لاستراتيجية العدوان والعنف. وعلى هذا النحو استطاع أن يقدم تصورات علمية متنامية ومتكاملة في محاولة الكشف عن ماهية هذه الظاهرة وتحديد أبعادها.

تأخذ مسألة العنف والعدوانية اليوم قطبا مركزيا في فعاليات الحياة الإنسانية المعاصرة. وتعد هذه الظاهرة من أكثر الظواهر الإنسانية التي تفيض بالغموض والضبابية، وهي تشكل في الوقت نفسه واحدة من أهم التحديات التي واجهت العقل الإنساني وتواجهه في سعيه الدائم للكشف عن ماهية الظواهر ورصد معطياتها واستجلاء هويتها. وعلى الرغم من الجهود الكبرى التي سطرها العقل الإنساني في ميدان الكشف عن أصول العنف والعدوانية ومظاهرهما، فإن حصاد هذه الجهود ما زال في طوره الأول، وما زال العنف يطرح نفسه كإشكالية فلسفية واجتماعية في قلب الحياة الإنسانية المعاصرة.

لقد شهدت الحياة الإنسانية منذ القدم صورا أسطورية تفوق إمكانيات الخيال لإرادة القتل والتدمير وحروب الإبادة الجماعية والعرقية. وهناك فيض من الشواهد التاريخية التي لا تخفى على أحد ومن أهم شواهد التاريخ تتمثل في إبادة الهنود الحمر في القارة الأمريكية والإبادة المستمرة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني منذ النصف الثاني للقرن العشرين على مشهد ومرأى من العالم.

ويرى كثير من المؤرخين بأن تاريخ الإنسانية يتحرك على عجلات العنف والعدوانية حيث تُشير الأرقام أنه “وخلال 5500 سنة الماضية وقع في الأرض ما يقارب 15 ألف حرب قتل فيها أكثر من 3540 مليون إنسان ولم تعش البشرية في حالة وئام وسلام إلاَّ في غضون ثلاثمائة سنة ليس أكثر. ففي القرن السابع عشر هلك 3.3 مليون إنسان، وفي القرن الثامن عشر قضت الحروب المدمرة على 5.2مليون، أما في القرن التاسع عشر فقد زادت نسبة الهالكين في الحروب على 5.5 مليون إنسان(2). وتقول روز لوكسمبورغ 1871-1919 في هذا الخصوص: ” إن التاريخ لم يثبت لنا أكثر من أن جميع الحروب والحضارات التي قامت حتى الآن كان عمادها دم الفقراء وجماجمهم بدءاً من الملايين التي سُحقت تحت حجارة الفراعنة، ووصولاً إلى الملايين الإفريقية التي شرب فراعنة رأس المال في أوروبا وأمريكا نخب حضارتهم المزيفة في أسواق النخاسة والتي ستبقى جرحاً غائراً في ضمير البشرية(3). لقد عرفت أوربا في القرن العشرين الذي ننتمي إليه سجلاً حافلاً للسياسات المجنونة والمرعبة، إذ يشار في هذا الخصوص إلى الحركة النازية والنزعة الفاشية والستالينية، وإلى مآسي العنف التي عرفتها أوروبا والعالم في الحربين العالميتين الأولى والثانية.

واليوم كما هو الحال بالأمس فإن الصراعات الدموية تشكل جزءاً من صورة الحياة اليومية للعالم. وفي هذا الخصوص تعلق مؤسسة آنتي أنترناسيونال (Amnetcy International) وهي مؤسسة للدفاع عن حقوق السجناء السياسيين: ” أنه لم يسبق أبداً للعنف بصورته أن شهد هذه الفصول الدموية في أي مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني.

فهناك اليوم اختصاصيون بالتعذيب يتنقلون من بلد لآخر، لتدريب الجلادين على أحدث فنون الإرهاب والتعذيب. وخبراء التعذيب هؤلاء لا يحتاجون أبداً إلى ما يتعلمونه من محققي محكمة التفتيش في العصور الوسطى، أو من الجلادين الهتلريين. وهناك دائما من يشهد على فظاعة ما يستطيعونه من إيقاع الرعب والتعذيب بسجنائهم، وهنا يمكن هنا استعراض شهادات السجناء السياسيين البرتغاليين الذين حصلوا على حريتهم في 25 ابريل 1972، وشهادات السجناء الذين ينتمون إلى منظمة الشباب المسيحي البرازيلي، أو السجناء الفيتناميين الذين سجنوا داخل الأقفاص الرهيبة الأمريكية الملقبة بأقفاص النمور. ولا ننسى اليوم سجون “الغواتيمالا” الرهيبة التي تشكل أكثر أقفاص هذا العالم رعبا وفتكا بأبناء الشعوب المقهورة والمغلوبة على أمرها.

ويبدو اليوم أن الأنظمة الفاشية لا تحتكر بمفردها التقنيات المتطورة للتعذيب. فعلى سبيل المثال احتل الاتحاد السوفيتي سابقا مكان الصدارة في المرحلة الستالينية وفيما بعدها في تطوير طرق التعذيب وأساليبه. وتشير الشهادات التي تزداد تدريجياً على أن الرؤوس العنيدة – الأشخاص الذين يرفعون أصواتهم مطالبين باحترام حقوق الإنسان- تُعذَّب بتوسط اختصاصين في مجال علم النفس(4). وبالتالي فإن رجال البوليس -هؤلاء الذين يرتدون الجبة البيضاء- يعذبون وبطريقة علمية فئة المرضى العقليين هؤلاء الذين يطورون أفكارهم حول مفاهيم التحرر والاستقلال.

إن تطور القوى العسكرية يجعل من الصراع بين الأمم أكثر قدرة على الدمار والموت والإفناء. لقد ارتفع عدد ضحايا الحرب، وفقاً لدراسة أجراها أحد الباحثين الروس، خلال السنوات العشر للحربين العالميتين إلى 65 مليون شخص، على أن عدد الأشخاص الذين ذهبوا ضحية الحروب التي دارت خلال القرون الثلاثة الماضية لم يتجاوز 25 مليون شخص. لقد أدى وجود الأسلحة الإلكترونية والذرية والبيولوجية والكيميائية إلى تغيرات راديكالية في معطيات هذه القضية. فالصراعات التي تنشب في مكان ما من الكرة الأرضية يمكن أن تمتد إلى أمكنة أخرى ولذا فإن اللجوء إلى الحرب اليوم هو أشبه بعملية انتحار جماعية فاعلة.

كتب موريس (D.morris) وهو عالم حيوانات شهير يقول: إن أقل ما يمكن أن يقال اليوم هو إننا أصبحنا في ورطة رهيبة، وأنه لمن المحتمل جداً، بدءاً من هذه اللحظة نفسها حتى نهاية القرن الحالي أن نفني بعضنا البعض (5)وفي محاضرة له بعنوان: زمن نهاية العالم، يعلن ايمانويل مونييه(Immanuel Monier) "أن الإنسانية قد وصلت إلى مرحلة نضجها اليوم، وكانت الإنسانية قبل هيروشيما محكومة بالمستقبل، أما اليوم وبعد ظهور الأسلحة الهيدروجينية، فإن الإنسانية تجد نفسها أمام خيارين هما العدم أو الحياة، وهو خيار يفرض على الإنسان أن يصبح أكثر إنسانية.

ويعلم الجميع اليوم أن العدوان والتعذيب ليسا حكراً على الطغاة والدول والأنظمة الشمولية بل يأخذ صورة عامة. فالتكنولوجيا الحديثة التي توجد اليوم مع عصابة من القتلة والمجرمين هي أكثر فعالية وقوة تدميرية من هذه الأدوات الحربية التي يمتلكها أبطال الأساطير.

فصور العنف اليومية التي تطالعنا في كل يوم عديدة ولا حصر لها مثل: العنف في الجزائر، حرب البوسنة، الحرب الأهلية في أفغانستان والحرب على أفغانستان، والجرائم التي تفوق حدود الخيال التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني الذي يهدد بالإبادة الحقيقية على مرأى ومسمع من العالم. والرعب الذي يسود بعض المدن الكبرى (المواطن الذي يسكن في نيويورك أو واشنطن لا يجرؤ على الخروج من مسكنه بهدوء فيما بعد الساعة العاشرة مساءً). والحق يقال انه لا يمكن لنا أن نحصي الأشكال الجديدة للعنف نظرا لاتساعها وشمولها. فمشكلة العنف تشهد نموا كبيرا، وتعاظما مستمرا في المستوى الإنساني، فهناك ملايين الأفراد الذين يجدون مصرعهم تحت تأثير الغارات والإبادة الجماعية والحروب والطائفية والمجازر السياسية. وفي هذا الصدد تقدم أعمال كاستون بوتول (Gaston Bouthoul) وهو عالم اجتماع الحرب، صورة مروعة لهذه الشهية الخاصة بالتدمير عند الإنسان. وما هو مثير للدهشة هو أن المجتمعات الأكثر تطوراً هي المجتمعات أكثر نزوعا للتدمير في كل المستويات وذلك بدءاً من القياديين حتى أبسط المواطنين.

تبين الإحصائيات عام 1980 أن مخزون السلاح النووي قد بلغ أكثر من خمسين ألف شحنة نووية تفوق قدرتها التفجيرية الإجمالية خمسة آلاف مرة قدرة المواد المتفجرات التي استخدمت خلال مجمل تاريخ الحروب على الأرض، وهذا يعني أن كارثة نووية افتراضية، "ستحول نصف البشرية إلى عصف مأكول، وسيقعد النصف الآخر كسيحا يتلظى بآثارها. فلكل فرد منا أربعة أطنان من المتفجرات الذرية، وهي تحمل طاقة تكفي لإرسال كل واحد من سكان الأرض في رحلة فضائية خارج كوكبنا (6) ". وإذا كانت هذه الإحصائية النووية المرعبة في هذا الحجم فكيف لنا أن نتصور هذه الكميات المذهلة بعد مرور ربع قرن على هذه الإحصائية. وليس خافيا اليوم على أحد دخول عدد كبير من الدول في النادي النووي ولا سيما إسرائيل والهند وباكستان.

فالأنظمة الاستبدادية، والفوضى السياسية العدمية، واستمرارية الحروب المحلية، وخطر التدمير الجاثم على صدر الإنسانية، مسائل تطرح نفسها في مركزية التفكير الإنساني المعاصر. ومن المدهش اليوم أن نجد بان هذه المشكلات تمنع عدداً من الفلاسفة ورجال الدين من الاستمرارية في صفائهم الفكري من اجل التخطيط لما بعد هذه الحروب والصراعات. في هذه الاتجاه يعلن رومانو (كياردينيRomano Guardini): بأن جوهر عصرنا ومهمته الأساسية تكمن في تنظيم القوة الكامنة فيه بطريقة يستطيع فيها المرء أن يستخدمها بعقلانية وموضوعية(7)

وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى أعمال علمية هامة تناولت قضية العنف وأكدت على أهمية عقلنة هذه الإشكالية على نحو موضوعي ومن هذه الأعمال يشار إلى: ميرلو بونني، في كتابه الإنسانية والرعب (Humanisme et Terreur)، و سارتر (Sartre)في كتابه الأيدي القذرة (Les mains sales)، وميشيل فوكو (Michel Foucaut) في كتابه تمجيد الخطاب الممنوع (Eloge des Discours interdit)

وتشهد اليوم الساحة العلمية تزايد الأبحاث والمؤتمرات والكتب المكرسة لدراسة العنف ولا سيما خلال السنوات الأخيرة بوصفه أحد الموضوعات المعاصرة الهامة. فالأطباء والبيولوجيون وعلماء النفس ينكبون اليوم على دراسة مسألة الشر والعنف وتفرعاته المعاصرة. ويشهد المرء في هذا السياق نوعا من التوجه إلى دراسة الخلفية السيكولوجية والبيولوجية لهذه المشكلات القديمة. وفي هذا السياق يذهب لورنز (Lorenenz) في كتابه: العدوانية: تاريخ طبيعي للشر، وبعض الباحثين الذين يدرسون هذه المسألة من خلال العمليات الفيزيائية والبيولوجية، إلى الاعتقاد بأن العدوان نشاط لا يمكن تفاديه، وأنه فعل سوي وطبيعي. وهذه هي الفكرة التي يجليها كتاب ستور (A.storr) الذي يأخذ العنوان التالي: العدوان ضرورة (L’Agressivité nécessaire.)

ويمكن للبحث العلمي في هذا السياق أن يشكل منطلقا أخلاقيا لتبريرات أخلاقية جديدة. فإرجاع المشكلة إلى عوامل طبيعية خالصة يؤدي إلى إسقاط بعض الاعتبارات الأخلاقية. ولكن مهما يكن الأمر فالعنف بشكل مسألة أخلاقية وسياسية، وهذا يعني أن العلم وحده لا يستطيع أن يوجد لهذه المسألة الحلول الكاملة، وهذا ينسحب على كثير من المشكلات النفسية والاجتماعية الأخرى التي تحمل وجها أخلاقيا.

فالأبحاث الاجتماعية معنية بأن تبرز أهمية العنف وخطورته، ويجب ألا تُفوت فرصة أبدا في الإلحاح على هذه الأهمية والخطورة. وتأسيسا على ذلك يجب أن تأخذ هذه القضية مركزية خاصة في مجال الأبحاث النفسية والاجتماعية والأنتروبولوجية.

وانه لمن المؤكد أن الأعمال الجارية في هذا السياق لا تستطيع وليس لها أن تقدم حلولا لمشكلة الحرب والفاشية والإرهاب السياسي. ولكن يمكن لهذه المبادرات السيكولوجية والسوسيولوجية أن تكشف عن العلاقات التي تسود هذه الظاهرة، كما يمكنها أن تقدمها في خلفياتها التاريخية وأن تحدد العوامل والمتغيرات التاريخية الكامنة في أصل حدوثها.

3- مفهوم العدوانية:

تفيض اللغة العربية بالمفردات الدالة على العدوانية والعنف والإرهاب، ومن يستقرئ اللغة العربية يجد فيها مدّا أدبيا غامرا من الكلمات والمفردات التي تشير إلى ظاهرة العدوان مثل: الاضطهاد، والتعصب، والتطرف، والعنف، والتغالب، والعدوان، والإرهاب، والقهر، والإكراه، والتسلط، والاستبداد"(8). وهذا الغنى اللفظي والاشتقاقي الكبير في اللغة العربية مصحوب بفقر كبير في مستويات التحديد الإبيستيمولوجي لهذه الكلمات. وبعبارة أخرى بقيت هذه المفردات كلمات وألفاظ ولم تتحول إلى مفاهيم سوسيولوجية واضحة الدلالة والمعنى. وهذا الضعف في التحديد السوسيولوجي والإبستيمولوجيا لهذه المفاهيم في لغة الضاد يشكل اليوم تحديا فكريا كبيرا يفرض على المفكرين العرب العاملين في العلوم الإنسانية بذل جهود كبيرة في تحديد هذه المفاهيم والانتقال بها إلى مستوى المفاهيم المحددة التي يمكنها أن تشكل منطلقا فكريا يمهد لتطوير التفكير الاجتماعي العربي في مختلف المستويات المعرفية المعاصرة.

ومع تنوع دلالة ومقاصد كل مفهوم من المفاهيم التي تدخل في دائرة العنف يلاحظ غالبا في الاستخدام الجاري أن كل مفهوم من هذه المفاهيم قد يوظف في مكان الآخر لأن الخط الفاصل بين هذه المفاهيم لم يحدد علميا أو اصطلاحيا في اللغة العربية(9). ومن يتابع الأدبيات الاجتماعية والسياسية سيجد أنه لا يوجد حدّ فاصل بين هذه المفاهيم لأن الاستخدام الجاري لا يميز بين هذه المفاهيم إلا باعتبارات الموضة العلمية أو الثقافية الجارية التي تفرضها أحداث سياسية وثقافية معينة. فمفهوم الإرهاب مثلا لم يكن شائع الاستخدام كما هو الحال اليوم حيث أصبح موضة سياسية وفكرية وإعلامية يستخدمه الجميع دونما تمييز بين دلالته المعرفية ودون تحديد الأبعاد التي تفصله عن غيره من المفاهيم الأخرى السائدة التي تنتمي إلى العائلة نفسها.

ومن أجل أن نكون موضوعيين في تناولنا لهذه المفاهيم يمكن لنا أن نقول بأن أي منها يمكن أن يوظف عمليا في مكان الآخر، ولاسيما مثل كلمات: القمع العدوان الإرهاب التسلط والعنف. فهذه الكلمات تستخدم في مستوى واحد تقريبا. ولا نعتقد بوجود محاولات سوسيولوجية عربية متطورة للفصل بين هذه المفاهيم وتحديدها "(10). فمفاهيم القهر والإرهاب والعنف والاعتداء والقمع تدخل في بنية مفهوم العدوانية التي تتمثل في ممارسة البطش والقوة والإكراه والإرهاب والقمع(11).

لقد ظهرت الكلمة الفرنسية العدوان Agression منذ القرن الرابع عشر، بينما شاع حديثا استخدام مفهوم العدوانية Agressivité، وهذه الكلمة لم تذكر في الطبعة الثامنة القاموس الأكاديمي لعام 1932. ولكن خزائن اللغة الفرنسية تشير إلى استخدام هذا المفهوم في عام 1873 وذلك في جريدة الكونور(Journal Conaurt) .

أما في اللغة الإنكليزية فقد ظهرت كلمة: عدوان (Agression) في القرن السابع عشر، وان هذه الكلمة اشتقت من اللغة الفرنسية. وانه لمن الطريف في الأمر أن نلاحظ في القاموس الإنكليزي (The Oxfords English Dictionary) أن الاستخدام الأول لكلمة (Aggressiveness) بدأ في عام 1859، وذلك في مرحلة محاولة إنقاذ أوروبا من العدوان الفرنسية.

ونلاحظ الشيء نفسه أيضاً في اللغة الألمانية فمفهومي العدوان (Agression) والعدوانية (Agressivité) حديثا العهد، إذ يلاحظ غياب هذين المفهومين في أكثرية المعاجم اللغوية الألمانية.

هذا ويبيّن التقصي اللغوي لكلمة اعتدى الفرنسية (Agresser) أنها مشتقة من اللاتينية(Adgradi) والتي تعني: يسير نحو، أو يسير ضد، يباشر. ومع ذلك فإن المعنى الاشتقاقي لا يكفي أبدا لتحديد معنى المفهوم ولا بد من اختبار التوظيفات اللغوية الجارية للمفهوم والتجارب المعاشة التي يمكن إرجاع المفهوم إليها.

ومن هذا المنطلق تنهض أسئلة جوهرية حول طبيعة العدوان والدلالة التي يحملها: فهل يمكن أن يعد الطفل الغيور الذي يهاجم أخاه الأصغر عدوانيا؟ هل تعد لعبة الشطرنج من اجل الانتصار، أو منع أحد الناس من تسميم نفسه، أو قتل حيوان في مسلخ، هل تعد هذه الأنماط السلوكية نوعا من السلوك العدواني؟ ماذا نعني إذن بكلمة يعتدي Agresser؟ فهذه الكلمة كما يبدو غامضة الدلالة ويجب أن تصقل في ضوء المعاينات الفكرية النقدية لهذا المفهوم.

ومن أجل مقاربة هذه المسألة بصورة موضوعية يمكن العودة إلى تجارب عالم النفس الألماني هيربرت سيلج (Herbert Selg) الذي طلب إلى عينة تتكون من ثلاثين طالباً الحكم على ستة مواقف منها، على سبيل المثال: بيير يمزق صورة خطيبته التي فسخ خطبته منها. وكان المطلوب من الطلاب أفراد العينة تقدير إذا كان بيير عدوانيا أو غير عدواني. وقد خرجت الدراسة بنتائج هامة منها: أن هناك تعارضا كبير بين آراء الطلاب فيما يخص جميع جوانب الأسئلة المطروحة. ومنها إجابتهم عن سؤال هل يعد تمزيق صورة الخطيبة عدوانيا؟ حيث أجاب 14 طالبا بان هذا السلوك ليس عدوانيا وذلك مقابل 17 اعتبروه سلوكيا عدوانيا.

ومن أجل تطوير ملامح هذه الإشكالية يمكن لنا أن نستعرض الموقف المعجمي من مفهوم العدوانية، ويمكن استعراض موقف القاموس الفرنسي Littré الذي قارب هذا المفهوم وقدم بعض التحديدات الخاصة للفصل بين مفهوم العدوان Agression ومفهوم الهجوم Attaque. يبين القاموس أن كلمة هجوم تنطوي على فكرة المعركة والصراع والمقاتلة، وهو صراع يبدأ من جهة واحدة. ولكن كلمة Agression(العدوان) تنطوي على مبدأ الصراع. ولكن كلمة العدوانية يمكن أن تكون شيئا آخر غير الهجوم وهذا يعني أن العدوانية تتمثل في نزعة كامنة قائمة في العمق عن حالة كمون وهذه النزعة عندما تتحول إلى واقع تتحول إلى عدوان، فالعدوان هنا ينبع من النزعة العدوانية. فالإنسان الهادئ الساكن قد يبدو مسالما ولم لا نعرف إذا كان يمتلك نزعة عدوانية. وهذا يعني أن كل عدوان يرتبط بعدوانية ولكن النزعة العدوانية لا ترتبط بالعدوان بالضرورة.

لقد أكد كونارد لورنز - وهو واحد من علماء النفس الذين شغلوا بقضية العدوانية والعنف- "أن الناس المفطورين على التسامح والذين لا يستطيعون حتى معاقبة طفل شرير يمكنهم إطلاق الصواريخ وإلقاء الأكداس المكدسة من القنابل المدمرة على المدن والناس والأطفال وقتل مئات وآلاف الأطفال في أفران اللهب ". ويضيف لورنز " إن كون الناس العاديين الطيبين هم الذين يفعلون ذلك تحمل من الغرابة والهول ما تحمله أية فظاعة شيطانية من فظاعات الحرب"(12). وهذا قد يعني بأن النزعة العدوانية قد كامنة في أعماق الإنسان وهي قد تتحرك عندما يستوجب الموقف مثل هذا التحرك.

وكما يتضح يركز القاموس ليتريه الفرنسي هنا على البعد الأخلاقي والقانوني لكلمة العدوان. وتأسيسا على ذلك يمكن القول بأن بعض النشاطات قد تأخذ طابعا عدوانيا مثل إحداث ضجة ما. وهذا بالضرورة يعني أن العدوان يتحدد وفقاً للمعايير المستخدمة والدلالة الشخصية لمن يحدده. فهناك من ينظر إلى المدرس الذي يتسبب لطلابه بالإخفاق، أثناء الامتحان، بأنه عدواني، وبالتالي فإنه يمكن أن نلمس الطابع العدواني للمدرسين إزاء النظام التربوي عندما يعطي هؤلاء درجات امتحانيه مرضية لجميع الطلاب. وتأسيسا على هذا التحليل يمكن القول بأن تحديد معنى العدوانية ومدى حضور هذه النزعة في السلوك أمر لا يسهل تحقيقه وهو مرهون بالطابع الأخلاقي والخلفية القيمية التي تحدد هذه السلوك.

ويمكن هنا الإشارة إلى العمل الضخم لمؤلفه ارونونو Aroneanu الذي يشتمل على أعمال اللجنة التنظيمية للأمم المتحدة المكلفة بإيجاد تعريف للعدوانية في مجال القانون الدولي. والمسألة هنا تجسد قضية هامة تتعلق بشروط تحديد مفهوم الجريمة الدولية وذلك لبناء قانون جزائي دولي. ومن هذا المنطلق استطاع أعضاء اللجنة الحقوقيين التمييز بين أشكال متعددة للعدوان ولا سيما العدوان غير المباشر(على سبيل المثال: التهديد باستخدام القوة أو تعزيز بعض الحركات السياسية). ولقد أشار بعض أعضاء اللجنة إلى أن العدوان يمكن أن يتم عن طريق الإهمال أو التجاهل. وبعد سبع سنوات من الجدل والبحث(من 1950 حتى 1957) لم يستطيع الخبراء الوصول إلى تعريف دقيق يشمل مختلف جوانب المفهوم وتنتظم فيه آراء جميع المتخصصين. ويختتم ارونونو Aroneanu في خاتمة هذا الكتاب الضخم الذي يتألف من 400 صفحة قائلا: "كيف يمكن لنا أن نعرّف العدوان؟ ويجيب إن الشخص الذي نطلب منه تعريف الفيل سيجيب: لا أستطيع أن أعرّفه ولكنني أعرف بأنه شيء ضخم" (13).

لنذهب الآن باتجاه علماء النفس، لنرى ما إذا كان لديهم اتفاق حول تعريف العدوان. يشار في هذا السياق إلى كل من دولارد Dollerd وميلر Miller في كتابهما المشهور الإحباط والعدوان Frustration and agression(14) حيث يعرفان العدوان بأنه " فعل هدفه إيقاع الأذى والضرر بكيان ما(15). ويمكن أن نجد هذا التصور المجانس عند أرنولد بوس Arnald Buss الذي يتجنب أن يتحدث عن هدف أو غاية حيث يعرف العدوان انه استجابة تطلق العنان لمتغيرات مؤذية موجهة ضد شخص آخر، ويعرفها في مساق آخر بأنها عادة الهجوم(16).

وحديثا يمكن الإشارة إلى تعريف سيلج H.Selg في كتابه الهام تشخيص العدوانية Diagnostic de l` agressivité والذي يأخذ فيه الاتجاه نفسه وذلك حين يعلن بان " العدوانية هي الفعل الذي يطلق النزعات المدمرة ضد كيان ما أو شيء ما". وفي هذا السياق يعرّف دانيال لاكاش Daniel lagache في مقالة له عن العدوانية عام 1960 العدوان بأنه" فعل أو توجه نحو الفعل هدفه التدمير الكلي أو الجزئي الأدبي أو الصوري لموضوع ما"(17). أما العدوانية Agressivité فهي بالنسبة للعدوان كالحالة الكمونية بالنسبة للفعل.

ويعرف كل من لابلانش Lapalanche وبونتاليس Pontalis في قاموسهما "مفردات التحليل النفسي" “Vocabulaire de la psychanalyse” أن العدوانية "نزعة أو مجموعة نزعات كتنظيم في سلوك حقيقي أو هوامي(18) يؤدي إلى تدمير الآخر وإيذائه ومعارضته وإهماله "(19).

ويجري الاتفاق بين المفكرين على التمييز بين مفهومي العدوان Agression والعدوانية Agressivité، فالمفهوم الأول يشير إلى فعل واقعي، بينما يشير الثاني إلى نزعة عدوانية. ولأن الأمر يتعلق بتحديد دقيق لكل من المفهومين يمكن أن نلاحظ وجود اختلافات في التشديد أو في التصور الخاص بهما. وإذا كان بعض علماء النفس قد نجحوا في الوصول إلى تعريف مشترك فإنه ليس مؤكدا بأنهم يتفقون بسهولة كما يلاحظ عند رجال القانون ولا سيما قانونيو منظمة الأمم المتحدة.

لا تبدو لنا هذه التعريفات التي سقناها حتى هذه اللحظة كافية، وذلك باستثناء تعريف لابلانش وبونتاليك. وفي هذا الخصوص فإننا لا نلاحظ مثل هذا التماسك في تعريف بوس Buss، إذ كيف يمكن الحديث عن عدوان دون نية في العدوان؟ فالفعل الذي يتم سهوا أو اتفاقا - على الأقل إذا لم يكن فعلاً ناقصاً بالمعنى الفرويدي - ليس عدواناً بل هو حادث. فالترتيب على ظهر شخص ما يبدو أمراً عدوانيا أو فعلاً توددياً وذلك وفقا لنية الشخص الذي يقوم بالفعل، ووفقاً لدرجة العلاقة التي تربط بين الشخصين، أو وفقاً للوسط الاجتماعي الذي يعيشان به. فالتأثير الناجم عن فعل ما لا يعد كافيا لتحديد هوية الفعل إذ لا يمكن أبداً الاستغناء عن العودة إلى المحرض أو السبب.

على الرغم من انتماء كل من سيلج Selg ودولار Dollard إلى المدرسة السلوكية فإنهما لا يستطيعان الاستغناء عن مفهوم الغاية والهدف في تناولهما لمسألة العدوانية. وعلى الرغم من أهمية ما ذهبا إليه في هذا المسار فإننا لا نستطيع أن نكتفي بتعريفهما وذلك لأن حالات العدوان لا تهدف جميعها إلى التدمير. فالأب المتعب الذي يرسل ابنه إلى صالة اللعب لا يعبر عن نزعة عدوانية مدمرة، فسلوكه يهدف فقط إلى المحافظة على هدوئه وإكراه المتطفلين على الخروج من المكان. ومع ذلك يمكن تقويم سلوكه بأنه عدواني بالمعنى الخاص للكلمة.

ولا يبدو لنا أيضاً إن تعريف لاكاش Lagache كاملا أيضاً. فهناك أفعال تهدف إلى التدمير دون أن تكون أفعالاً عدوانية. ومن هذا القبيل عندما يتم حرق الأوراق القديمة التي فقدت قيمتها. وكما ذكرنا منذ قليل فإن بعض السلوك الذي يبدو عدوانيا لا يتضمن نية التدمير أو أحداث ألم للآخرين.

وهنا لا يمكن لنا بسهولة أن نفصل بين العدوانية ومحرضاتها من جهة، وبين الأشكال الأخرى للسلوك من جهة أخرى، إذ يمكن للفرد أن يكون عدوانيا بطرق مختلفة، حيث تأخذ هذه السلوكيات العدوانية أشكالا مختلفة بدءا من نسيان موعد ما، أو رفض مساعدة، أو القيام بفعل السرقة، حتى إلى حد قتل الآخرين. ومن جهة أخرى فإن السلوك نفسه الذي يوصف بأنه عدواني يمكن أن يكشف عن غايات مختلفة جداً مثل: الانتقام، أو إبعاد أحد المنافسين، أو تعويض مشاعر العدوانية، أو إبعاد أحد الشهود المزعجين وحماية النفس، أو الدفاع عن الوطن.... الخ. وحتى عندما تكون النتيجة الوضعية واحدة يمكن الإشارة إلى عمليات نفسية متمايزة وفقاً للأشخاص والظروف. وذلك كله يعني أنه لا يمكن إعطاء تعريف واضح ودقيق لمفهومي العدوان والعدوانية، وهي مفاهيم تنطوي على سمات خادعة. ولن يدهشنا بعد ذلك كله أن نجد بعض علماء النفس الذين يتمنعون عن إعطاء تعريف محدد للعدوانية.

كتب جونسون R.Johnson، وهو من كبار الباحثين الذي عرف بإنتاجه الكبير والنوعي حول هذه المسألة يقول: " لا يوجد هناك أبداً أي نوع من السلوك لا يمكن أن يعد سلوكاً عدوانيا، ولا توجد أيضاً عملية سيكولوجية واحدة غير ممثله للعدوان"(20). وهذا هو الشيء الأكثر أهمية في مسألة العدوان، حيث يقتضي الأمر أن يعمل الباحث على إدراك العدوان وتحليله في مستويات عديدة(21).). ويضيف جونسون وهو مختص في علم نفس الحيوان أن هذه الحالة قابلة للملاحظة التجريبية. فالباحث العلمي يمكنه في الواقع أن يكتفي بتقديم تعريفات إجرائية، وهي تعريفات تتصل بسلوكيات محددة وقابلة للصياغة الكمية مثل: الهجمات أو الزمن الكموني لهجوم ما.

لنحاول في البداية أن نعرف السلوك، ما السلوك؟ إنه طريقة في الوجود أو ردود فعل فاعل ما في حالة ما. والسلوك يتطلب اتجاهات وإجراءات غائية، وذلك مهما تكون التغايرات التي تتعرض لها هذه المفاهيم بدءاً من التحليل النفسي إلى مختلف التقصيات الفلسفية المعاصرة. وهذا الاقتراح مشروع حتى فيما يتعلق بانفجارات الغضب وغضب التدمير(الأعمى)، والمهم هنا هو أن نتساءل بخصوص العدوانية كالتالي: من هو العدواني؟ بالقياس إلى من؟ ولماذا؟

إذ لا يمكن للملاحظ إدراك دلالة سلوك ما دفعة واحدة، وينسحب ذلك على إدراك الفاعل أيضا. فالمعنى المعاش غالباً ما يكون شمولياً، وغني عن البيان أن الدلالة الواضحة يمكنها أن تتعارض كليا أو جزئيا مع الغاية الخفية للسلوك. إذ لا يمكن أن نصدق الأحاديث والمظاهر العدوانية المرئية للعدوان والحب، فالسلوك الودي قد يخفي أحيانا مشاعر عدوانية. وكما سنرى لاحقاً يمكن للسلوك العدواني لفرد ما أن يكون مجرد دفاع عن حبه الخاص. ويجب علينا هنا أن نأخذ بعين الاعتبار الغايات الشعورية، والغايات التي تتسلط على الفرد دون علم منه(لاشعورية).

في النهاية لا بد أن نتساءل عن المعنى الخاص لمفهوم الغاية من العدوانية؟ إنه بالضرورة نوع من الحماية للذات أو امتدادها، وهي إجراء يتم بالتعارض مع الوسط الذي يوجد فيه الفرد. فالعدوانية بالتعريف هنا هي استعداد يهدف إلى تحقيق الحماية وتأكيد الذات وذلك في مواجهة أحد ما أو شيء ما. وهنا يمكننا أن نميز بين فئتين من العدوانية: العدوانية الدفاعية وهي التي تعمل على المحافظة على الذات وخصوصياتها، ثم فئة العدوانية الهجومية وهي عدوانية ذات طابع نرجسي.

فالعدوانية تمارس بطرق مختلفة، وتؤدي إلى مشاعر مختلفة أيضا ً(حب القتال - الغضب - والأسف - وغياب الخوف) وفي كل الحالات والأحوال فإن العدوانية تتضمن معارضة إن لم تتضمن نوعاً من الحقد والضغينة، ومع ذلك يمكن الاستناد دائما إلى الاشتقاق اللغوي للكلمة والاعتماد على المعنى الواسع لها وذلك دون التركيز على مضامين التعارض. ونحن نفضل هنا وفي هذا السياق الحديث عن النشاط والاستقصاء والكشف والعنف والتأكيد على الذات وذلك وفقاً للحالات، وأن نبتعد إلى حدّ ما عن استخدام مفهوم العنف نفسه. ومن أجل استجلاء هذه المفاهيم بشكل أفضل لنحاول أن تعود إلى الأشياء نفسها.

فالشاب الذي يسدد جيداً ويضرب الكرة في المرمى بدقة ليس عدوانياً. ولكن هذا السلوك في كليته ليس تعبيراً عن الذات فحسب بل هو فعل قد يتم على حساب الآخر. ولكن يمكن القول إن هذا الفتى يؤكد نفسه بفضل لعبة الكرة. ونحن لا نستطيع أن نقوّم سلوكه على أنه عدواني ما لم يدفع زملائه من أجل احتكار الكرة بمفرده ليسجل أهدافا خاصة به، وهذا ينسحب على أي ردود فعل دفاعية لأنها غير عدوانية، فالفعل العدواني لا يتم إلا عندما يتصرف الشخص بصورة تنطوي على مضمون حاقد يهدف إلى إلحاق الأذى بالآخرين.

ويمكن في هذا السياق أن نستعرض رؤية جان بول سارتر (J.P.Sartre) التي تطرح تحليلاً أخاذاً لطابع العنف في النظرة. فالاهتمام الذي يوليه الشريك لشريكه قد يأخذ طابعا تطفليا جارحا، ولكن بعض النظرات يعبر عن مودة وانفتاح واستفهام بعيدا عن الامتهان العدواني. فالنظرة والاهتمام الإدراكي تعنيان " التوجه نحو" ولكننا نعتقد أن العدوانية هنا ليست مشروعة إلا إذا كانت النظرة أو الاهتمام يتجهان بشكل معارض "التوجه ضد" وذلك على حساب الآخر.

تأخذ هذه الملاحظات أيضا أهمية مشروعة بالنسبة لستور A.Storr، وذلك عندما يعلن أن العمل الذهني يوجد في علاقة مع القدرة على العدوان. وهو يستند هنا إلى تعابير مستخدمة في التفكير والمناقشة مثل: "يتصدى لمشكلة(S’attaquer á un problème) أو الانتصار على مشكلة وهذه المفاهيم ليست حججاً مقنعة بالتأكيد.

وإزاء هذه الإشكاليات التي يطرحها المفهوم تتبدى ضرورة بناء تعريف محدد له وليس من السهل مع ذلك أن نستنتج سريعاً السمة العدوانية عن غير العدوانية في واقع الممارسة الحقيقية.

فالسلوك الواحد لا يعبر عن غاية واحدة، فلكل سلوك بالضرورة غاية كما يعتقد فرويد وهذه نقطة يتفق عليها المؤرخون وعلماء النفس كلياً: لا توجد هناك دلالة وحيدة للأحداث ولا يوجد هناك سلوك يمثل اتجاها وحيداً. فالذهاني هو الوحيد الذي يعتقد بقدرته على كشف الخلفية المطلقة للأشياء. إن مبدأ تعدد المعاني الخاص بكل فعل لا يعني استحالة بناء اتجاهات رئيسية محورية. ويجب الاحتراس من الاستنتاج المتعجل إذ لا يمكن بسهولة تحديد الدلالة التي قد لا تظهر للنظرة الأولى.

لا تختلف معايير التفسير في المستوى الوجودي، أو في مجال التحليل النفسي بدرجة كبيرة عن نماذج التحليل الأخرى وخاصة في مجال علم الدلالة. وينسحب ذلك على المؤشرات المعتمدة، واكتشاف الروابط، وعمليات التكامل، وطريقة التفكير الجديدة، وخصوبة التفكير. فمن أجل اكتساب القدرة على اتخاذ القرار لتحديد سلوك ما بأنه عدواني يجب على المرء أولا أن يدرك النقاط التالية:

1 - الغاية والهدف من السلوك واتجاهه.

2 - خلفيات السلوك وأصوله وأحداثه وبداياته - وهنا لا بد من الحذر ذلك لأن بعض أنماط السلوك ليس لها علاقة كلية مع أصولها.

3 - صيغة السلوك ووحدته الواقعية وبنيته المحسوسة.

4 - سياقه العام وعلاقاته مع المظاهر الأخرى للحياة النفسية، وينطوي ذلك على الحالات التي خبرها الفرد صاحب السلوك..

وهنا يمكن لنا من حيث المبدأ الاعتقاد بأن البحث المجسد أو النظري حول دلالة نموذج سلوكي ما أمر قابل دائماً للشك، أو على الأقل للمناقشة. وأنه لمن الأهمية بمكان أن يبقى المرء على حيطة وحذر من حيث المبدأ بخصوص التفسيرات والشروح العامة. ويجب أيضاً على المرء أن يحترس من محاولة التفسير الكلي لخصوصية الوجود، أو من بناء نسق مزعوم وبشكل مسبق. وإذا كان صحيحاً أن لكل سلوك هامشاً غير شخصي أو عام، فإنه لمن المناسب مع ذلك أن ننظر إلى الأمر بروية وتمعن.

ويمكن القول في هذا الصدد إن بحثاً كبحثنا هذا، وبعيدا عن هدفه النظري يجد مبرراته استناداً إلى فرضيات عمل تشكلت في إطار الاتجاه الإكلينيكي وفي سياق التجريبية المنظمة.

ويمكن لنا في هذا السياق وعلى عجالة أن نحدد بعض المفاهيم التي توجد في إطار علاقة مع مفهوم العدوانية ولكنها مع ذلك لا تشكل مفاهيم مرادفة لها.

فالكراهية (La haine) إحساس يتجه إلى إيذاء الآخر أو بالأحرى تدميره. ويعرفها بول روبيرت Paul Robert بأنها:

1- إحساس عنيف يدفع المرء إلى الرغبة في إيذاء أحد ما والحصول على السعادة عبر إنزال الأذى به.

2 - هي بغض شديد ونفور من شيء ما.

فالكراهية تتضمن بعداً عدوانياً ومع ذلك فهي ليست واضحة. فالإنسان قد يمارس عملاً عدوانياً ضد آخر، دون أن تكون لديه مشاعر كراهية ضده أي بمعنى انه لا يرغب في نهاية الأمر أن يسبب له الشقاء أو الزوال. وهذا المفهوم يجب ألا يستخدم إلا إذا كانت هناك نية في إزالة الآخر أو على الأقل في إيذائه. فالخشونة أو الفظاظة Cruauté عدوان دائم بطريقة شعورية ومنظمة وذلك من أجل إحداث الألم للآخرين.

فالسادية Sadisme(22) سلوك ذو طبيعة لبيدية تأخذ صورة عدوان ويمكن التمييز بين أشكال مختلفة منها:

1 - السادية الأخلاقية: استبعاد الآخر وإخضاعه وتؤدي إلى لذة نرجسية.

2 - السادية الذكورية: وترتبط بالضرورة البيولوجية للعدوانية الذكورية. وهي أداة لإشباع الرغبة الجنسية أو كما يقول فرويد لتحقيق الهدف الجنسي الأولي.

3 - سادية الإثارة الجنسية: وهي لذة لبيدية بالدرجة الأولى ترتبط بممارسة القوة العضلية وملاحظة الألم عند الآخرين.

4- العنف والعدوانية:

يصعب على الباحثين التمييز بين هذين المفهومين ويوظف أحدهما في مكان الآخر، وهذا التوظيف يأخذ مشروعيته في أغلب الدراسات الأنثروبولوجية والسوسيولوجية والسياسية. ومن الضرورة بمكان هنا أن نبحث في ماهية مفهوم العنف وفصله عن مفهوم العدوانية.

جاء في اللغة العربية حول العنف: العنف: وهو الشدة والقوة. وهو الخرق بالأمر وقلة الرفق به وهو ضد الرفق، أعنف الشيء أي أخذه بشدة(23). عنَفَ(عَنَف، يَعْنف عنفاً) الرجل بغلامه أخذه بالشدة ولم يرفق به، فهو عانف والغلام معنوف. عَنفَ(عنف يعنف، عنافة) الرجل كان شديدا قاسيا فهو عنيف، وعنف الرجل بغلامه، أي كان عنيفا معه(24). هذا ويعني العنف من حيث الجذر اللغوي " ممارسة للقوة على شيء ما"(25).

وعلى هذا الأساس يقترح روبرت أودي تعريفا للعنف قوامه: مهاجمة الأشخاص أو استغلالهم على نحو جسماني أو نفسي شديد، ولكن الآراء الأكثر شيوعا في المستوى الفلسفي هي: أن العنف هو الإيذاء بطريق استخدام القوة المادية الشديدة(26). هذا ويحدد قاموس ويبستر سبعة معان لمفهوم العنف Violence أهمها أن العنف هو " القوة الجسدية أو النفسية التي تستخدم للإيذاء أو للإضرار"(27). ومن الناحية التاريخية فإن كلمة العنف Violence مشتقة من الكلمة اللاتينية vis أي القوة وهي تعني في سياقها التاريخي اللاتيني القديم حمل القوة تجاه شخص أو شيء ما(28).

فالعنف هو استخدام القوة المادية لإلحاق الأذى والضرر بالأشخاص والممتلكات. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى تعريف(تشارلز ريفيرا) Charles Rivera و(كينيث سويتزر) Kinneth Switzer حول العنف وهو: العنف هو الاستخدام غير العادل للقوة من قبل الأفراد لإلحاق الأذى بالآخرين والضرر بممتلكاتهم(29). فالعنف هو كافة الأعمال التي تتمثل في استخدام القوة أو القسر أو الإكراه بوجه عام ومثالها أعمال الهدم والإتلاف والتدمير والتخريب وكذلك أعمال القتل والفتك والتعذيب وما شابه(30).

ويمكن القول أيضا في تعريف العنف بأنه: استخدام القوة المادية أو التهديد باستخدامها. ويمكن أيضا استعراض: تعريف ساندرا بول روكيرج: Sandra.J.Ball-Rokearch ومفاده أن العنف " هو الاستخدام غير الشرعي للقوة أو التهديد باستخدامها لإلحاق الأذى والضرر بالآخرين(31). ويـأتي في هذا السياق تعريف بيير فيو: "الذي نظر إلى العنف بأنه ضغط جسدي أو معنوي ذو طابع فردي أو جماعي ينزله الإنسان بالإنسان"(32).

ومن خلال هذا التعريف للعنف في مستوياته المختلفة يمكن القول بأن العنف هو بعد رئيسي من أبعاد العدوان وبلورة له. فالعدواني رجل عنيف وهو يلجأ إلى العنف في كل مناسبة من مناسبات فعالياته العدوانية. فالعنف ممارسة للقوة، والتسلط هو ممارسة للعنف في أقصى درجاته ومختلف اتجاهاته. وهذا يعني أنه لا يمكن لفكرة التسلط أن تقوم من غير العنف بكل ما يتضمن عليه هذا المفهوم الأخير من نزعة إلى القهر والأذى والعدوان.

ويمكن لنا في هذا السياق أن نقدم بعض التعريفات التي تعطي للعنف صورة واضحة لمعنى العدوان والعدوانية. فالعنف هو استخدام القوة المادية لإلحاق الأذى والضرر بالأشخاص والممتلكات. ويشار هنا إلى تعريف (تشارلز ريفيرا) Charles Rivera و(كينيث سويتزر) Kinneth Switzer للعنف بأنه " الاستخدام غير العادل للقوة من قبل الأفراد لإلحاق الأذى بالآخرين والضرر بممتلكاتهم(33). ويعرف بكر القباني العنف بأنه كافة الأعمال التي تتمثل في استخدام القوة أو القسر أو الإكراه بوجه عام ومثالها أعمال الهدم والإتلاف والتدمير والتخريب وكذلك أعمال القتل والفتك والتعذيب وما شابه ذلك(34). وتعرف ساندرا بول روكيرج Sandra.J.Ball-Rokearch العنف بأنه الاستخدام غير الشرعي للقوة أو التهديد باستخدامها لإلحاق الأذى والضرر بالآخرين(35) وتتبلور هذه التعريفات في رؤية تعريف بيير فيو للعنف حيث ينظر إليه بوصفه ضغط جسدي أو معنوي ذو طابع فردي أو جماعي ينزله الإنسان بالإنسان(36).

والعنف Violence الذي عرّف في القاموس بأنه " قوة قهرية غير شرعية" لا يشكل مفهوماً ترادفياً للعدوانية على الرغم من أن الاستخدام الخاص بالمفهومين لم يحدد بعد. جرت عادة الكتاب الألمان والهولنديين على استخدام مفهوم العدوانية بالحدود الواسعة للكلمة وذلك بالقياس إلى مفهوم العنف كتب هاكير F.Hacker في هذا الخصوص يقول: " إن العنف الخام هو الشكل المرئي والحر للعدوان ولا يأخذ كل عدوان صورة العنف"(37). وفي الفرنسية يوجد العكس تماماً: العدوان هو دائماً عنف ولكن لا يأخذ أي عنف إرادة العدوان. فطبيب الأسنان يلجأ إلى العنف، وبالتالي فإنه مهنته يمكنها أن تكون بالنسبة له طريقة عدوانية، أو فرصة لتأكيد نزعة سادية، ولكن هذه ليست حالة الطبيب بالضرورة. والشيء نفسه ينسحب على المرء الذي يفرض بعض قواعد السلوك على الطفل ويمارس بعض العنف ضده، ولكن سلوكه هذا ليس عدوانياً بالضرورة. إذ لا يمكن الحديث عن عدوان أو عنف عدواني إلا عندما يؤكد المرء على إيذاء الطفل وضرره(38).

فالعنف المستبطن داخل المؤسسات أو الأنظمة السياسية - الرأسمالية الحرة أو رأسمالية الدولة على سبيل المثال - لا يفسر أبداً من خلال الشهوة إلى السلطة، أو من خلال نزعة الحكام إلى العدوانية. فالعدوان والعنف البنيوي أو الرمزي حقيقتان متمايزتان حتى لو كان يمكنهما التداخل.

ويمكن القول في هذا الخصوص أن العنف لا يمكن أن يحدث آلياً وهو لا يشير إلى صورة سلبية دائما. فالحدود القائمة بين الخير والشر هي دائماً صعبة على التحديد، ويمكنها أن تتغاير وفقاُ لتباين وجهات النظر التي تحكم. " فنحن لا نستطيع أن نؤدي شيئا في واقع الأمر دون قليل من الإجرام" هذا ما كتبه فرويد في رسالته إلى باستور فيستر Pasteur Pfister وذلك في 5 حزيران 1910. فالنشاطات الإنسانية، حتى هذه الأكثر خصوبة تتطلب نوعا من السلطة والعنف. فالدافع إلى رفض العنف يعمل على إكراه الشعور الأخلاقي لصاحب السلطة السياسية أو البوليسية. فكل تطور يتطلب خسارة ما وتضحيات. وكل خلق لعمل ما يتطلب الابتعاد إلى حد ما عن المعطيات المباشرة الخاصة بالحزن على الماضي والاعتداء. فهناك عوامل بين العنف ومجموعة النشاطات الإنسانية. وعندما نحاول أن نصف الطبيعة الإنسانية فإننا سنعثر على تعارضات منها: التعارضات بين الطبيعة والثقافة، بين الفرد والمجتمع، بين الرغبة والمنع، بين العقل واللاعقلانية، بين الهوية والغيرية... الخ. ففي كل مكان يوجد المفهوم وضده. وبالتالي فإن العنف بأخذ مكان الهيمنة والصدارة، كما يقول بول ليفي Paul Levey: " السلام الكلي لا يسود إلا داخل المقابر(39).

5- العدوانية والقمع:

ويعد القمع أيضا صورة من صور العدوانية، ونموذجا من نماذجها وبعدا من أبعادها. »فالقمع في عمقه وهدفه هو أي قسر، ترغيبي أو ترهيبي، يفرض على الإنسان إما القيام بفعل أو الامتناع عنه، سواء في التفكير أو في القول أو السلوك أو العمل، أي أنه نقيض الحرية المطلقة التي هي انعدام القسر«(40). وفي اللغة العربية: القَمْع: مصدر قمع، والرجل يقمع قمعا، وأقمعه أي قهره وذله فذل، والقمع الذل. وقمعه قمعا: ردعه وكفه(41). وجاء أيضا قَمَع: قَمَع، يقمع قمعاً(الشيء في الشيء دخل واستكن، وقمع الرجل في بيته دخل متخفيا، وقمع الرجل غلامه، أي ضربه بالمقمعة، وقمع الأمير الفتنة أي أخمدها، وقمع الأمير فلانا أي ضربه على رأسه حتى يذل، وقمع البرد النبات أي رده عن النمو(42).

فالقمع يتمثل في " كل نظرة دونية لأي إنسان، وكل تعصب قبلي أو عائلي أو ديني أو قومي أو طائفي أو مذهبي أو سياسي، وكل تزوير وتضليل في كل الميادين الحياتية، وكل نقد تجريبي غير موضوعي، وكل رفض للحوار والتعاون والتنسيق والتوحيد، وكل استهتار بالأخلاق والحريات والقوانين، الخادمة للإنسان، وهذه المظاهر ما هي إلا بعض معطيات ومظاهر قمع الآخر(43).

ويتضمن مفهوم القمع ثلاثة عناصر أساسية وهي:

أ) فكرة الشدة (كما في العاصفة أو الإعصار)

ب) فكرة الإيذاء (كما في الوفاة بحادثة)

ج) فكرة القوة العضوية أو المادية(44).

وفي كل الأحوال ما نعنيه بالقمع هو استخدام أقصى درجات الشدة والقوة ضد الآخر لإخضاعه وإلغاء وجوده المعنوي والشخصي ماديا أو معنويا بصورة جزئية أو كلية(45).. والقمع قد يكون نفسيا أو رمزيا أو ماديا وقد يشتمل على جميع هذه الجوانب دفعة واحدة(46).

6- الإرهاب والعدوانية:

يعود مصدر كلمة الإرهاب Terror في اللغة الإنكليزية إلى الفعل اللاتيني Ters والذي يعني إثارة الخوف والرعب الشديد(47). ويعود الأصل اللغوي لكلمة إرهاب Terreur في اللغة الفرنسية إلى الفعل السنكريتي Tras وهو يعني رجف وفي ذلك إشارة إلى حالة من الخوف الشديد الذي يستثير حالة من الارتعاد والرجفان والرعب عند الإنسان(48).

وجاء في المعجم الرائد أن الإرهاب هو رعب تحدثه أعمال العنف مثل القتل والتفجير والتخريب. وتعني كلمة إرهاب التي شاع استخدامها مؤخرا نوعا معينا من الجرائم التي تقع تحت تأثير العنف والتهديد والقتل، حيث يستهدف مرتكبو هذه الجرائم إرغام السلطات أو الهيئات ذات الشأن على القيام بعمل أو الامتناع عن عمل وهم بفعالية إرهابهم هذه يضعون حياة الأبرياء وأموالهم تحت الخطر.

ويرى وولتر أن الإرهاب عملية تتكون من ثلاثة عناصر فعل العنف، أو التهديد باستخدامه، ومن ثم ردود الفعل التي تنجم عن الخوف الشديد الذي ينجم عن ممارسة الإرهاب(49). ويمكن القول بأن الإرهاب هو الممارسة المنهجية المنظمة للرعب الذي يؤدي إلى فقدان مشاعر الأمن وتوليد مشاعر التوتر والقلق.

هذا ويمكن تعريف الإرهاب بأنه: "استخدام متعمد للعنف أو التهديد باستخدام العنف من قبل بعض الدول أو من قبل بعض الجماعات تشجعها وتساندها دول معينة لتحقيق أهداف استراتيجية وسياسية، وذلك من خلال أفعال خارجة على القانون، تستهدف خلق حالة من الذعر الشامل في المجتمع غير مقتصرة على ضحايا مدنيين أو عسكريين من يتم مهاجمتهم أو تهديدهم(50). " وتعرف وزارة الخارجية الأمريكية الإرهاب "بأنه نوع من العنف المتعمد تدفعه دوافع سياسية، موجه نحو أهداف غير حربية، تمارسه جماعات معينة أو عملاء سريّون لإحدى الدول"(51). ويعرف بعض الباحثين الإرهاب بأنه: "القتل العمد المنظم الذي يهدد الأبرياء ويلحق الأذى بهم، بهدف خلق حالة من الذعر من شانها أن تعمل على تحقيق غايات سياسية"(52).

"ويعرف مكتب المباحث الفيدرالي FBI في الولايات المتحدة الإرهاب بأنه: "استخدام غير مشروع للقوة أو العنف، ضد الأشخاص أو الممتلكات كي يسيء إلى الحكومة، أو المدنيين، أو قطاع من المجتمع، وذلك لتحقيق أهداف سياسية، أو اجتماعية"(53).

من أهم ما يمكن ملاحظته على تعريف الإرهاب ما يلي:

-أن الإرهاب لا يتبع أية قواعد أو أصولا أخلاقية في ممارسته لأفعاله.

-يستخدم الإرهاب العنف أو يهدد باستخدامه، موجها له في الأغلب نحو الأبرياء لا علاقة لهم بأية قضايا يدعي الإرهابيين اهتمامهم بها.

-أن ذلك العنف هو بمثابة نوع من الحرب النفسية تستهدف خلق حالة من الذعر بين المواطنين وفقدان الثقة في السلطة القائمة(54).

وهناك بعض الباحثين الذين يعتقدون بأن الإرهاب ينبع أساسا من الإحباط الذي يحدثه عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأنه بالتالي استجابة منطقية لمثل هذا الواقع القائم، فالإرهاب نتاج لكل عوامل الظلم، ولطبيعة النظام القائم وللعلاقات الدولية(55).

ويتبنى البعض الآخر من الباحثين نفس الاتجاه بتقرير أن الجماعات الإرهابية كانت نفسها ضحايا بريئة لعنف جائر مارسه عليها الآخرون، وأنه من غير العدل إدانتهم، إذ إن العنف والظلم الأساسي الموجه نحوهم لم يتم إدانته وعلاجه، كما أنه لم يكن لأفراد هذه الجماعات خيار فيما يفعلونه، فهم ضعاف جدا في مواجهة أعدائهم، ومن ثم كان عليهم إثارة اهتمامات العالم بحقوقهم الشرعية(56).

هذا ويسجل التاريخ أن اليهود كانوا أول من مارس الإرهاب ونظمه حيث يقول غلاتهم أن السيف والتوراة قد نزلا من السماء. وقد كانت أول منظمة إرهابية عرفها التاريخ هي منظمة السيكاري Sicarrii التي شكلها بعض المتطرفين من اليهود في فلسطين وهم اليهود الذين وفدوا إلى فلسطين في نهاية القرن الأول قبل الميلاد بعد أن كان البابليون قد شتتوهم عام 586 ق.م. وكان هدف الوافدين إعادة بناء الهيكل الذي سمي بالمعبد الثاني(57).).

ويعد مفهوم الإرهاب من المفاهيم الأساسية التي تعبر عن مفهوم العدوانية أيضا. فالإرهاب صورة من صور العدوان ونتيجة من نتائجه. والإرهاب بالتعريف هو: »نسـق الفعاليات والخبرات السلبية العنيفة التي يخضع لها ويعانيها من يقع عليه العدوان: كالعقوبات الجسدية، والاستهزاء، والسـخرية، والتهكـم، وأحكام التبخـيس، وغير ذلك من الإحباطات النفسية والمعنويـة التـي تشكل المناخ العام لحالة من الخوف والتوتر والقلق التـي يعانيهـا ضحايا العدوان والتـي تستمر عبر الزمن وتؤدي إلى نوع من العطالـة النفسـية والفكريـة وإلى حالة من الاستلاب وعدم القدرة على التكيف والمبادرة«(58)، فالإرهاب هو ممارسة للعنف والتسلط والإكراه والقسر والعدوانية، وهذا يعني بالضرورة أن هذا المفهوم هو صورة من هذه الصور وهو في النهاية بعد أساسي ونتيجة أساسية من نتائج مفهوم العدوانية.

ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أنه يمكن لنا أن نستعرض عددا كبيرا من المفاهيم المتاخمة لمفهوم العدوان والإرهاب والعنف وغير ذلك من المفاهيم المتجانسة والمترادفة. ومع ذلك نعتقد بكفاية ما أدرجناه من مفاهيم متقاربة، إننا نستطيع بالنتيجة أن نخرج بتصنيف أساسي قوامه: أن مفهوم العدوانية يأخذ في نسق دراستنا هذه صورة مركزية لمنظومة مفاهيم التسلط وأبعاده المحورية والتي تتمثل في العنف والإرهاب والقمع والتسلط. فالعدوان والعدواني بالنتيجة هو ممارسة سيكولوجية أو مادية للعنف والقمع والإكراه والإرهاب والعدوان. وبالتالي فإن هذه المظاهر هي مظاهر ونتائج لفعل التسلط الذي يستجمع في ذاته مقومات هذه المفاهيم ويستخدمها.

7- خاتمة - الحرب بوصفها عدوانا:

العدوانية تقودنا في النهاية إلى الرب ولاسيما عندما تتوفر شروط الاحتراب ومقدماته الأساسية. والحرب بين البشر هي المشجب الذي تعلق عليه أسباب العنف أو للقول بأن مصدر العنف اجتماعي وليس فرديا. فالحرب هي مواجهة عسكرية بين إرادات دول أو جماعات متغالبة. ويمكن أن نسوق مثالا بسيطا على دلالة الحرب كسبب في تفجير العنف وتوليده، إذ يمكن لفلاحين متجاورين على الحدود لدولتين مختلفتين أن يصبحا أعداء لمجرد أن تنشب الحرب ين دولتيهما. وهما في هذه الحالة يجدان نفسيهما مدفوعين لمثل هذه العداوة ليس بإرادتهما بل بحكم الصراع بين دوليتيهما وليس برغبة منهما أبدا. فالحرب هنا توجد في أصل هذه العداوة الفردية بين فردين لا حول لهما ولا قوة ولا رغبة في هذه الحرب. فالحرب صراع فوق الأفراد وإرادتها تتجاوز إرادتهم، ومع ذلك فإنها تمثل صراعا وعنفا بين إرادتين ترغب إحداهما في إخضاع الأخرى.

ما هدف الحرب؟ إنه الانتصار والغلبة، والانتصار مفهوم متغير عبر العصور. ففي بلاد الإغريق القديمة الغالب هو الذي يسود الميدان في المعركة. والانتصار يعني الهيمنة في ميدان المعارك، والمنتصر هو القادر على أن يدفن موتاه ويعالج جرحاه، وان يقيم تمثالا يرمز إلى انتصاره ويخلده في الآن الواحد. ولكن مفهوم الانتصار تغير في التاريخ المعاصر وفقد بعضا من دلالته التاريخية التي تتعلق بالفروسية والشجاعة والقوة وأصبح يحمل دلالة القدرة على القتل وقتل العدد الأكبر الممكن من الأعداء.

إن الجوهري في الصراع هو أن يفرض المنتصر على الخصم إرادته وهيمنته. والحرب هي فعل القوة التي تمكن من قهر العدو ووضعه في دائرة الخضوع والانصياع لإرادة المنتصر. والمهزوم دائما هو الذي يخضع للمنتصر الأقوى حيث هزمت إرادته وغلب على أمره في ميدان الصراع والنزال.

فالقوة هي العنصر الأساسي في الحرب، وهي التي توّلد العنف ضد الأعداء في مواجهة الأعداء جسدا بجسد وروحا بروح. وتبقى القوة الجسدية في الجوهر هي العنصر الأساسي في ممارسة العنف، ولكن العنصر الأكثر أهمية وخطورة هو الخدعة والدهاء.

ولكن العنف يأخذ في عالمنا المعاصر هيئة أخرى تعتمد على القدرات التقنية والقوة التكنولوجية التي توجد في أيدي العسكريين .لقد أصبحت الحرب في القرن العشرين أشبه ما تكون بلعبة الفيديو التي تسمح للقادة العسكريين أن يوجهوا قواهم وقدراتهم العسكرية عن بعد يصل إلى آلاف الأميال عن ساحة المعركة، إنها لعبة عنيفة ولكنها حقيقية في جوهرها. فالحرب تقوم في لعبتها هذه على قاسم مشترك وهو تبني استراتيجية من أجل الانتصار. والاستراتيجية هي طريقة تسمح للمحاربين استخدام كل مصادر القوة الممكنة وكل الوسائل المتاحة الضرورية لتحقيق النصر. والعدو يصبح مهزوما عندما يدفع خارج دائرة القدرة على التأثير حيث تشل قدرته وتضعف إرادته ولا يبقى أمامه غير الخضوع والانصياع لإرادة المنتصر. فالحرب فعل عنيف حيث يتم فيها توظيف القوة غير المحدودة وفي دائرة المعارك يحاول كل خصم أن يفرض على الآخر القانون الذي يراه والإرادة التي يمتلكها.

فما هو رهان الحرب وما هي لعبتها الحقيقية؟ فهل تختلف رهاناتها وعواملها عن رهانات الصراع الذي يدور بين الأفراد وعوامله؟ فالعداوة في الحرب لا تكون إلا بين الدول التي تمتلك القوى المسلحة التي توضع في خدمة المصالح السياسية .وهي أي الحرب محاولة للاستمرار في السياسة بوسائل أخرى. والعامل الأكثر أهمية في الحرب هو الأراضي والحدود. فالدولة غالبا ما تدافع عن أراضيها أو تعتدي على أراضي الغير وتحاول امتلاكها والسيطرة عليها. وهنا يجب أن ندرك بأن إرادة الدولة قد لا تتقاطع أبدا مع إرادة الأفراد الذين ينتسبون إليها. وهنا بالتالي يمكن أن نميز ما بين الصراع الذي يقع بين الأفراد وهذا الذي يقع بين الدول. ففي مستوى الأفراد لا يعني أبدا وقوع الخلاف بين فردين وجود حرب، وهم مع ذلك قد يختلفون حول حدود حقولهم كما يحدث في حالة الفلاحين والمزارعين المتجاورين في الحقول. هؤلاء الذين اعتادوا وبحكم الجوار أن يتبادلوا العون والمواد والعمل في جماعة لمواجهة مخاطر الوجود. وإذا ما حدث خلاف بينهم فإنهم في الغالب يلجؤون إلى حلّه عبر القانون، وهنا يمكن القول بأن التجاور في المكان بين فردين لا يمكن أن يشعرهما بالعداوة إلا إذا فكرا بمنطق الدولة. فالتمجيد القومي يؤدي إلى الحمية والإثارة والتنافر. وهذا التمجيد إرادة أمتين في حالة تنافر وتأهب وتغيب قدرتهما على التبصر وتمنعهما من رؤية الآخر في صورته الإنسانية. وبالتالي فإن المواطن في دولة ما قد يجد نفسه جنديا في الجيش وفي مواجهة جندي آخر في دولة أخرى وحينها يفقد كل منهما الشعور بإنسانية الآخر. فالعداوة الوقتية العابرة بين الناس لا تأخذ مداها في ودورها حيث لا تكون الحرب وفقا لهذه المشاعر العابرة من وجهة نظر قانونية دولية إلا إذا اجتمعت فيها شرطان أساسيان هما:

1- عندما تستمر العداوة فترة من الزمن والتي تسمح للمتخاصمين الترويج للحرب والمبادرة إليها.

2- عندما يجري الصراع من أجل إصلاح الضرر الجماعي فإن استمرار العداوة ووصولها إلى مستوى المواجهة السياسية.

فالمشاكسة قد تنتهي ببساطة عندما يعلن كل فرد قليلا من الإرادة الطيبة. وهنا نجد بأن الحرب قد تندلع بتأثير السلطة التي لا تريد نهاية بسيطة للأحداث. ففي أغلب الأحيان تكون الدوافع السياسية في أصل الحرب التي تندلع من أجل الاستحواذ على منطقة محددة بما فيها خيرات. إذ يبدو مهما جدا بالنسبة لدولة ما السيطرة على أرض غنية بالبترول. وفي هذا الصدد يقول روسو بأن الحرب تقوم بإرادة السيطرة على الأرض حيث تكون هذه الأرض لدولة أخرى. والحرب هي فعل سياسي تستنهض شعبا باسم الدولة وهذه هي علاقة بين الأشياء وليس بين الناس الذي يخوضون الحرب. وهي ليست في أي حال من أحوالها علاقة بين فرد وآخر بين إنسان ولآخر ـ وبين جندي وآخر إنها علاقة بين دولة وأخرى بين إرادة سياسية وأخرى.

والجندي هنا هو من يدافع عن الدولة ولهذا فهو يتحول أثناء الحرب إلى عدو وخصم للآخرين. وهنا نجد عهود الحرب ومواثيقها فالرجل غير المسلح ليس عدوا أي لا ينظر إليه كعدو لأنه ليس جنديا في الجيش المعادي ولكنه مواطن في الدولة المعادية والذي يمكن اعتقاله وسجنه. ولأنه إنسان كالآخرين فإنه من حقه أن يحظى باحترام إنساني.

إنه لمن الواضح بمكان أن الحرب تتجاوز البعد الفردي للإنسان، فالإنسان محمول على الحرب مكره أخوك لا بطل، إذ يجد نفسه في دوامتها غير قادر على الخروج والانتصار لذاته. ولنفكر في الحرب الأولى 1914-1918 كم هو عدد هؤلاء الذين رفضوا المشاركة في المعارك لاعتبارات أخلاقية وإنسانية.

ولكن هذا لا يكفي أبدا. إنه لمن السهولة بمكان أن نلقي بمسؤولية العنف على الآخرين، وأن نقول بأن المجتمع هو المسؤول عن كل أشكال العنف. وهذا لن يكون في حال من الأحوال إلا تبريرا وهو تبرير لا يمتلك القدرة على التغيير في حقيقة الأشياء، فالعنف فردي في كثير من جوانبه، وفردي في كثير من معانيه ودلالاته الإنسانية. فالمتسلط كالمتمرد يقدم تبريرات للعنف ويقدم الحجج والبراهين على صواب ما يقدم عليه إنه جاهز دائما لتبرير عنفه باسم العدالة والحق والقانون. إن جذور العنف فردية في الغالب، فالمجتمع الذي يكون أفراده عنيفون لا يمكنه أن يكون مسالما في جوهره. وهنا لا يمكن لأي إنسان أن يخرج من هذه المعضلة فنحن في مجموعنا مسؤولين عن هذا العالم، وأنه لا يمكننا أن نعزي إلى أنفسنا صفة الكمال فنسقط عنفنا على المجتمع الذي هو مجتمعنا وننسى أنفسنا لأن عنف المجتمع هو بالتأكيد عنفنا الخاص بل عدوانيتنا الخاصة.

***

علي أسعد وطفة

جامعة الكويت – كلية التربية

...................

مراجع الدراسة وهوامشها:

(1) - Sigmund FREUD, Moïse et le monothéisme, traduit par Anne Berman, Paris. Gallimard. P 75.

(2) - سهيل العروسي، العنف مقدمات ونتائج، الفكر السياسي (اتحاد الكتاب العرب)، العدد الثالث عشر و الرابع عشر ربيع و صيف 2001، (موقع اتحاد الكتاب العرب- مجلة الفكر السياسي http://www.awu-dam.org/politic/ind-fkr13-14.htm)

(3) - -نقلا عن: سهيل العروسي، العنف مقدمات ونتائج، الفكر السياسي المرجع السابق

(4) -توماس بلاس، ستانلي ميلجرام، ليونارد بيركوتز، ريتشارد جوارنسن: العنف والإنسان، أربع دراسات حول العنف والعدوان،ترجمة عبد الهادي عبد الرحمن،بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، ط1، شباط 1990،ص7.

(5) Morris. D., Le signe nu , Livre de Poche , Crasset ,1968 , P.182

(6) - توماس بلاس، ستانلي ميلجرام، ليونارد بيركوتز، ريتشارد جوارنسن: العنف والإنسان، مرجع سابق،ص7.

(7) - Guirdini. R.: La puissance , Seuil , Paris, 1954, p.9

(8) - علي أسعد وطفة، بنية السلطة وإشكالية التسلط التربوي في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2000، ص 122.

-(9) انظر: المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية: ظاهرة العنف، العدد 132، اليونيسكو، مركز مطبوعات اليونيسكو، القاهرة، 1989.

(10) - علي أسعد وطفة، بنية السلطة وإشكالية التسلط التربوي في الوطن العربي، مرجع سابق، ص 122.

-(11) لم نجد في القواميس العربية التقليدية(العين، والقاموس المحيط، ولسان العرب، والمصباح المنير، والمغرب، ومختار الصحاح، ومعجم البلدان، ومعجم ما استعجم) كلمة " عدوانية " وهي الكلمة التي تترجم الكلمة الفرنسية Agressivité وهي الكلمة التي وظفها جبور عبد النور و سهيل إدريس في قاموسهما المنهل. انظر في هذا الصدد: جبور عبد النور، سهيل إدريس، المنهل، قاموس فرنسي عربي، دار العلم للملايين، ودار الآداب، بيروت 1986، ص 29.

(12)- علاء اللامي، خرافة العنف الدموي في ضوء العلوم الحديثة: رؤية تحليلية في غرائز التدمير والانتقام والحروب، مجلة الزمان الجديد، العدد 36، ديسمبر/كانون الأول، 2002، صص 68-81، ص70.

(13)- Augene Aroneanu, La définition de l’ agression, Les Ed. Internationales, Paris,1982 ,p 405.

(14) - الإحباط Frustration مفهوم يتداخل مع مفهوم الكبت Refoulement ومن أجل الدقة العلمية يجب التمييز بين الكبت والإحباط فبينما يشير الكبت إلى العملية التي يتم بموجبها دفع الرغبات التي لا يمكن إشباعها إلى ساحة اللاشعور Inconscient فإن الإحباط مفهوم يشير إلى الحيلولة بين الفرد وتحقيق رغباته دون أن تصبح هذه الرغبات لا شعورية، أي أنها تبقى ماثلة في ساحة الشعور مع ما يرافقها من أحاسيس الخيبة والحسرة.

(15)- Dollardj., Doob L, Miller N.,Mowrer Q., SEAR R.,, Frustration and Agression, Yale University Press, 1947.p11.

(16)- Buss A.H. The Psychologie of Agression, J.Wiley,n.Y.Buytendijk, F.J.J., 1961.p1.

(17)- Lagache Daniel, Situation de l’agressivité, Bulletin de Psychologie ,Xiv(1) 1960 ,PP 99-112, p 100.

(18)- الهوام Fantasme هو نوع من السيناريو الحسي البصري أو الحركي الذي يخترق المجال الإدراكي بسرعة خاطفة تماما كومضة برق وهو يمثل وضعيات ومشاهد ومخاوف تبدو دخيلة على الذهن وكأنها ليست نابعة منه. راجع في هذا الخصوص: مصطفى حجازي، سيكولوجية الإنسان المقهور، معهد الإنماء العربي بيروت، 1989، ص 280.

(19)- Labalanche J. et Pontalis J.B.., Vocabulaire de la psychanalyse ,P.U.F.,1967.

(20) -Augene Aroneanu, La définition de l’ agression, Les Ed. Internationales, Paris,1982, p120.

Buss A.H. The Psychologie of Agression, J.Wiley,n.Y.Buytendijk, F.J.J., 1961.

(21)- Johnson R., Agression in man and animals ,Saunders, Phildelphia, 1972.p8.

(22)- السادية Le Sadisme: يشير هذا المفهوم إلى فعل الحصول على اللذة الجنسية عبر إنزال الأذى البدني أو النفسي بشخص آخر. وتأخذ السادية الآن صيغة حب الأذى وتعذيب الآخر عموما.

(23)- لسان العرب، ج9.

(24)- حسن سعيد الكرمي، الهادي، ج3، دار لبنان للطباعة والنشر بيروت،1993، ص279.

(25)- روبرت ف.لتكة العنف والقدرة، ترجمة شريف بهلول، ضمن: المجلة الدولية لعلوم الاجتماعية، ظاهرة العنف: منظورات من خلال الفلسفة وعلم الاجتماع، عدد 132،(صص5-15)ص5.

(26)- روبرت ف.لتكة، العنف والقدرة، المرجع السابق، ص 5.

(27)- توماس بلات، مفهوم العنف: وصفه وتفنيده، ضمن: المجلة الدولية لعلوم الاجتماعية، ظاهرة العنف: منظورات من خلال الفلسفة وعلم الاجتماع، عدد 132،(صص17-25)ص17.

(28)- توماس بلات، مفهوم العنف: وصفه وتفنيده، المرجع السابق، ص 18.

(29)- حسين توفيق إبراهيم، ظاهرة العنف السياسي في النظم العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1992، ص42.

(30)- بكر القباني، ثورة يوليو أصول العمل الثوري المصري، دار النهضة القاهرة، 1970، ص 109.

(31) حسين توفيق إبراهيم، ظاهرة العنف السياسي في النظم العربية، مرجع سابق، ص43.

(32)- بير فيو، العنف والوضع الإنساني، في كتاب المجتمع والعنف: مجموعة من الاختصاصين، ترجمة الياس زحلاوي، المؤسسة الجامعية للنشر، بيروت، 1985،(ص 148-149).

(33)- حسين توفيق إبراهيم، ظاهرة العنف السياسي في النظم العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1992، ص42.

--(34) بكر القباني، ثورة يوليو وأصول العمل الثوري المصري، دار النهضة القاهرة، 1970، ص 109.

(35)- حسين توفيق إبراهيم، ظاهرة العنف السياسي في النظم العربية، مرجع سابق، ص43.

-(36) بير فيو، العنف والوضع الإنساني، في كتاب المجتمع والعنف: مجموعة من الاختصاصين، ترجمة الياس زحلاوي، المؤسسة الجامعية للنشر، بيروت، 1985،(ص 148-149).

(37)- Hacker.F., Agression -violence dans le monde moderne, Calmman-Lévy, Paris,1954,130.

(38)- علي أسعد وطفة، التربية إزاء تحديات التعصب والعنف في العالم العربي، مركز دراسات استراتيجية، أبو ظبي، 2002، صص 21-25.

(39)- Paul Lévey, Présentation académique de G.Bouthoul lors de la remise du doctorat Honoris Causa de l’Un. Catholique de Louvain,13 Mars,1971, p230..

(40) - زكريا إبراهيم مشكلة الحرية، مكتبة مصر، القاهرة، 1972، ص 18.

(41)- لسان العرب، ج8.

(42) - حسن سعيد الكرمي، الهادي، ج3، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت،1993.

-(43) نجاح محمد، العقل العربي والقمع، المعرفة السورية، السنة 33 العدد 366، آذار/مارس، 1974،(صص 46-73) ص 4.

(44)- روبرت ف.لتكة، العنف والقدرة، المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية: ظاهرة العنف، العدد 132، اليونيسكو، مركز مطبوعات اليونيسكو، القاهرة، 1989.(صص 5-15)ص 5.

- (45) انظر: محمد الجوّة، مفهوم القمع عند فرويد وماركوز، ترجمة فتحي الرقيق، الفارابي، 1994.

(46)- انظر عبد الإله بلقيز، العنف السياسي في الوطن العربي، المستقبل العربي، عدد 9،1996(صص68-101).

-(47) أحمد جلال عز الدين، الإرهاب والعنف السياسي، دار الحرية، القاهرة، 1986.

(48)- Guirdini. R., La puissance, Seuil, Paris, 1954, p60.

(49) -محمد يسري إبراهيم دعبس، الإرهاب والشباب، دار الندوة، الإسكندرية، 1994، صص (4-5).

(50)- عزت سيد إسماعيل، سيكولوجيا التطرف والإرهاب، الرسالة 110، حوليات كلية الآداب، الكويت، الحولية 16، 1996، صص8-89، ص17.

(51) - عزت سيد إسماعيل، سيكولوجيا التطرف والإرهاب، المرجع السابق، ص17.

(52) - عزت سيد إسماعيل، سيكولوجيا التطرف والإرهاب، المرجع السابق، ص17.

(53)- عزت سيد إسماعيل، سيكولوجيا التطرف والإرهاب، المرجع السابق، ص 18.

(54) عزت سيد إسماعيل، سيكولوجيا التطرف والإرهاب، المرجع السابق، ص 18.

(55) عزت سيد إسماعيل، سيكولوجيا التطرف والإرهاب، المرجع السابق، ص 20.

-(56) عزت سيد إسماعيل، سيكولوجيا التطرف والإرهاب، المرجع السابق، ص 20.

(57)- انظر لمزيد من التفاصيل السياسية للإرهاب: زيد بن محمد بن هادي المدخلي، الإرهاب وأثاره على الأفراد والأمم، مكتبة الفرقان، عجمان، 2000.

(58)- انظر: علي أسعد وطفة، الإرهاب التربوي، العربي الكويتية، عدد 460، مارس/آذار 1997.

(إنني مهتم ومعني أساساً بوظائف الصراع الاجتماعي أكثر من اهتمامي بوظائفه السلبية أو اللا وظيفية، إنني معني بتلك النتائج المترتبة على الصراع الاجتماعي، التي تزيد وتنمي تكيف وتوافق علاقات اجتماعية ما أو جماعات معينة). لويس كوزر

- تمهيد: يضم مصطلح " الصراع الاجتماعي " في أكثر مستوياته عمومية، مجموعة من الظواهر تتراوح بين الخلافات والمشاحنات الشخصية إلى الصراع الطبقي، وهو يضم المنافسات والصراعات الدولية والحروب.

يعترف لويس كوزر Lewis A. Coser عالم اجتماع أمريكي (1913- 2003) بأنه ليس ثمة نظرية قائمة في الصراع الاجتماعي تستوعب هذه الظواهر كافة. كما أنه ليس معنياً ببناء مثل هذه النظرية الغامضة، بل إنه يعتبر عمله مجهوداً فكرياً لتوضيح مفهوم الصراع الاجتماعي ومحاولة لتوحيد الأطر التصورية الوثيقة الصلة بمعطيات الصراع الاجتماعي. أما عن منهجه فيتمثل في تطوير وتوضيح الأفكار والرؤى الثاقبة المستمدة من كتابات "جورج زيمل"*.

تناول كوزر مشكلات الصراع الاجتماعي. في كتابين: " وظائف الصراع الاجتماعي " 1956، و " الاتصالات الفكرية في دراسة الصراع الاجتماعي " 1967، وهو يشير إلى أن اهتمامه بفكرة الصراع ينصب على الكشف عن الوظائف الإيجابية التي يقوم بها الصراع الاجتماعي أكثر مما يحاول إظهار المعوقات الوظيفية له، ويعني ذلك إبراز النتائج المترتبة على وجود الصراع، والتي تؤدي إلى زيادة قدرة العلاقات الاجتماعية أو الجماعات على تحقيق التكيف أو التلاؤم في المجتمع بدلاً من إظهار تلك النتائج التي تقلل من قدرة هذه العلاقات الاجتماعية والجماعات على القيام بهذا التكيف. ذلك أنه بدلاً من أن يكون الصراع عاملاً سلبياً يفرق المجتمع ويمزق أوصاله، يمكن أن يحقق هذا الصراع عدداً من الوظائف المحددة بالنسبة للجماعات أو لغيرها من العلاقات الجماعية فهو يسهم مثلاً في المحافظة على حدود الجماعة ويمنع انسحاب أعضائها منها.

أولاً- أحداث السياق الاجتماعي وتفاعلاته في تأسيس مفهوم الصراع الاجتماعي عند كوزر: لقد جمع لويس كوزر(2000-1913) Lewis Coser، كغيره من منظري الصراع بين مهنة أكاديمية مميزة واهتمام قوي وانخراط في السياسة الاجتماعية والسياسة. ولد في برلين لعائلة يهودية، وكان والده مصرفياً تربطه به علاقة عدائية، وبسبب انخراطه في الحركة الطلابية الاشتراكية، غادر ألمانيا عندما تسلم هتلر السلطة، وتبع ذلك سنوات تعيسة قضاها في باريس حيث كان دون تصريح عمل. وعاش كوزر فوق مستوى الكفاف تماماً، ورغم ذلك فإن التسجيل في جامعة السوربون كان مجاناً، ودرس كوزر فيها الأدب المقارن وقدم عنواناً لأطروحة يقارن فيها بين روايات القرن التاسع عشر في كل من فرنسا وبريطانيا، وألمانيا بالاستناد إلى البناءات الاجتماعية المختلفة لتلك البلدان، لكن أستاذه صرح برهبة " هذا علم اجتماع وليس أدب مقارن " ولذلك، يوضح كوزر " لقد تحولت إلى علم الاجتماع، والتحقت به منذ ذلك الحين ".

وإيان نشوب الحرب اعتقل كوزر كعدو أجنبي، لكن أفرج عنه بمساعدة محافظ اشتراكي محلي. سعى كوزر للحصول على الفيزا كلاجئ سياسي، ووصل بعد ذلك إلى نيويورك عن طريق إسبانيا والبرتغال، وبعد الحرب، درس في جامعة شيكاغو لفترة وجيزة، قبل أن يحصل على درجة الدكتوراه من جامعة كولومبيا، قضى تقريباً عشرين عاماً في جامعة برانديس، ومن عام 1968-1988 كان أستاذاً مميزاً لعلم الاجتماع في جامعة نيويورك الحكومية، في ستوني بروك. ومنذ أن تقاعد في عام 1988، بقي أستاذاً فخرياً لعلم الاجتماع في جامعة نيويورك الحكومية في ستوني بروك، وأستاذاً لعلم الاجتماع في كلية يوستون.

ظل كوزر اشتراكياً، مع أنه لم يكن ماركسياً، وقد عكست كتاباته دائماً اهتمامه بالسياسة والربط بين الأفكار وطبيعة المجتمع، وأسس بالاشتراك مع إرفنج هاو Irving Howe‏ معارضة خلال السنوات المظلمة لكابوس المكارثية(1) McCarthy لينشق عن تعصب وجبن العديد من المفكرين الناطقين باسم المكارثية والذين يميزون تلك السلسلة من الأحداث الموحشة. اشترك كوزر كذلك بصورة متكررة في مجلات جادة أخرى غير متخصصة، كما اشترك في مؤلف مشترك حول تاريخ الحزب الشيوعي الأمريكي والذي أهداه إلى ميلوفان جيلاس Milovan Djilas .

ومن الأعمال المتأخرة لكوزر، عمله حول " المؤسسات الجشعة "Greedy Institutions، التي تطلب من أعضائها انهماكاً كلياً فيها. يقول كوزر ذلك في وجه الإدانات المشوشة لخاصية الحياة الحديثة المتمايزة والمجزأة والمغتربة. لقد شعر بأنه ملتزم أدبياً للإشارة إلى تهديد الحرية الإنسانية الملازم للانهماك والاستخدام الكلي. ويكتب: " أرغب بأن يكون مفهوماً بوضوح، بأنني اعتبر من الضروري الحفاظ على المجتمع المفتوح فوق كل ذلك ".

ومن بين المنظرين المحدثين، يعتبر كوزر الأقرب إلى جورج زيمل. إنه الأكثر اهتماماً بـ " شبكة الصراع "، أو الولاءات المتعارضة، والتي يمكن أن تؤدي التحام المجتمع ببعضه، وكذلك تولد الصراعات والتعارضات. إن الكتاب الأساسي لكوزر في نظرية الصراع هو " وظائف الصراع الاجتماعي"، وهو شرح وتطوير لرؤى زيمل المبعثرة، ويؤكد كوزر بأنه على الرغم من أهمية الصراع، إلا أنه يمثل فقط جانباً واحداً من الحياة الاجتماعية كما أنه لا يزيد في أهميته وجوهره عن الإجماع.

إن إسهامات كوزر في نظرية الصراع تتميز كذلك في ناحيتين: الأولى، إنه يناقش الصراع الاجتماعي باعتباره نتيجة لعوامل أخرى غير جماعات المصالح المتعارضة. الثانية، أنه مهتم بنتائج الصراع. وكما رأينا في المقال السابق " نظرية الصراع الاجتماعي المعاصرة عند رالف داهرندورف (دراسة تحليلية - نقدية) " كيف انصب اهتمام داهرندورف الأساسي حول أصول الصراع التي تنتج التغير الاجتماعي. نجد أن كوزر يمتلك القليل مما يقوله حول العوامل الجوهرية المسببة للصراع، لكنه يميز بين نتائجه المحتملة المختلفة، والتي تتضمن استقراراً اجتماعياً كبيراً كما تتضمن التغير. إن مناقشته للشروط التي يحتمل أن يكون الصراع من خلالها انقسامياً أو تماسكياً تضيف الشيء الكثير لتحليل داهرندورف المتعلق بخصائص الصراع.

ثانياً- الصراع الاجتماع عند لويس كوزر: يعرّف كوزر مفهوم الصراع الاجتماعي بوصفه " نضالاً حول القيم، وأحقية المصادر والقوة والمكانة النادرة، وحيث يستهدف الفرقاء المتخاصمين من خلاله، تحييد منافسيهم أو الأضرار بهم أو التخلص منهم ". كما أنه يتمثل في تلك الحالة التي يكون فيها هدف الجماعات المتصارعة التخفيف من حدّة الضرر أو الإصابة أو التخلص من منافسيهم. كما قام كوزر بدراسة كل من وظائف الصراع والأضرار أو المعوقات أو الخلل الوظيفي Dysfunction الناجم عن الصراع.

بمعنى آخر، يذهب كوزر إلى أن الصراع يسهم داخل الجماعة في إقامة الوحدة والاتساق عندما تكون الجماعة مهددة بالمشاعر العدائية والمتعارضة بين أعضائها. وتتوقف فائدة الصراع في تحقيق التكيف الداخلي على نمط المسائل المتصارع عليها ونمط البناء الاجتماعي الذي يظهر داخله الصراع. كما بين كوزر أن الصراع يمكن أن يزيد من التوافق والتكيف والاحتفاظ بالحدود بين الجماعات ولا يؤدي إلى التفكك والانحلال الاجتماعي. أي إن الصراع يؤدي وظيفة إيجابية كما يؤدي إلى الإحباط الوظيفي، حيث إن الصراع يعمل على زيادة التوافق والتكيف داخل المجموعة أو الجماعة الواحدة، وبالتالي يؤدي إلى وظائف إيجابية. وفي هذا الصدد يقول كوزر " إنني مهتم ومعني أساساً بوظائف الصراع الاجتماعي أكثر من اهتمامي بوظائفه السلبية أو اللا وظيفية، إنني معني بتلك النتائج المترتبة على الصراع الاجتماعي، التي تزيد وتنمي تكيف وتوافق علاقات اجتماعية ما أو جماعات معينة ".

نظر كوزر إلى المجتمع كوحدة نسقية يتكون من أجزاء مترابطة، ولكن يختلف عن الوظيفيين بقوله بإمكانية اللا مساواة والتباين في البناء الاجتماعي، حيث أراد بذلك أن يلفت نظر معاصريه من الباحثين في علم الاجتماع بما تقوم به الصراعات من دور حاسم في الحياة الاجتماعية عن طريق إبرازه للإسهامات التي تقوم بها هذه الصراعات في تحقيق التكامل وتعني هذه المحاولة من جانبه رؤية جديدة للصراع الاجتماعي دون التخلي عن الإطار التصوري للوظيفة.

وقد أرجع كوزر مصادر الصراع ومنابعه إلى الطموحات الفردية بدلاً من أن يرد منابع الصراع إلى الخواص المميزة للبناء الاجتماعي. وكان مهتماً بأن يبرز أثر الصراعات الاجتماعية في البناء الاجتماعي أكثر من اهتمامه بالكشف عن أثر البناء الاجتماعي في خلق الصراع كما يفعل ماركس، وهو يرى أن البناء الاجتماعي يحدد الشكل أو المظهر الذي تتبدى فيه الصراعات الاجتماعية، كما يحدد شكل الحلول التي تتخذ لوضع حد لتلك الصراعات، ولكن منبع الصراع الاجتماعي لا يكمن في بناء المجتمع بل في مصادر أخرى. كما أنه لم يفرد أهمية كبيرة لفكرة التعارض بين مصالح الجماعات المتصارعة رغم أن هذه الفكرة تلعب دوراً حاسماً في الاتجاهات الصراعية الأخرى. ويبدو أنه قد استلهم تحليله للصراع كصورة من صور التفاعل بين الأفراد من فكر جورج زيمل، أكثر مما استلهم هذا التحليل من أفكار ماركس أو جمبلوفتش.

وعموماً يمكن إجمال إسهامات كوزر حول نظرية الصراع الاجتماعي في نقطتين أساسيتين، الأولى: مناقشته للصراع الاجتماعي Social conflict، باعتباره نتاجاً لمجموعة من العوامل، أكثر منه ارتباطاً ونتاجاً لمصالح الجماعات المتصارعة interests of conflicting groups، أما الثانية: اهتمامه بدراسة نتائج الصراع the consequences of conflict. ومن هذا المنطلق وضع كوزر تصور للمجتمع يؤكد على ما يلي:

1- يمكن النظر إلى العالم الاجتماعي كنظام أو نسق من الأجزاء المترابطة بشكل مختلف.

2- في كافة الأنساق (المنظومات الاجتماعية) يظهر اختلال التوازن والتوترات والصراعات المصلحية بين مختلف الأجزاء المترابطة.

3- العلميات داخل وبين مختلف الأجزاء التي يتألف منها النظام تعمل في ظل ظروف من أجل صيانة وتغيير وزيادة أو تقليل تكامل وتوافق النظام.

4- كثير من العمليات كالعنف والتفكك والانحراف والصراع والتي تعتبر مفككة للنظام يمكن اعتبارها في ظل ظروف معينة معززة لأسس التكامل في النظام وأيضاً لقدرة النظام على التوافق مع البيئة.

رابعاً- أصل الصراع الاجتماعي عند كوزر: اهتم كوزر ضمن مناقشته لمصدر الصراع الاجتماعي، بالدور الذي تلعبه عواطف الناس People Emotions في ظهور الصراع الاجتماعي. فلقد أكد على آراء زيمل حول مدى تأثير عواطف الناس على ظهور الصراع العدائي وخاصةً بين الأفراد الذين تجمعهم علاقات اجتماعية قوية، حيث تظهر مظاهر الحب والكراهية بصورة واضحة، ضمن إطار هذه العلاقات والتي تنتج عن نوعية العواطف، وتأثيرها على طبيعة علاقاتهم الحياتية، كما حاول كوزر أن يوضح طبيعة تكوين الصراع الاجتماعي، الذي يتغير ويتطور بصورة سريعة نسبة لعواطف الناس، والذي يظهر في العديد من مظاهر الحياة البشرية والعلاقات الاجتماعية، والتي قد تزيد قوة الروابط والعلاقات، وليس من الضروري أن تصبح هذه العواطف مؤشراً لوجود الصراع وعدم الاستقرار فقط. أما فيما يتعلق بالفروض الخاصة بوظائف الصراع بالنسبة للأطراف المتصارعة يعتقد كوزر بأنها تنحصر فيما يلي:

الفرض الأول: كلما اشتد الصراع، كلما كانت حدود كل طرف في الصراع واضحة.

الفرض الثاني: كلما اشتد الصراع، كلما كان عمل كل طرف فيه متمايزاً، كلما زاد احتمال مركزية اتخاذ القرار لكل طرف.

أ- كلما اشتد الصراع قل التمايز في البناء، كلما كان البناء والتماسك الداخلي أقل استقراراً، زاد احتمال أن تكون المركزية استبدادية.

الفرض الثالث: كلما اشتد الصراع، كلما زاد الإدراك أنه سيؤثر على جميع القطاعات لكل جماعة، كلما عزز الصراع التماسك البنائي والإيديولوجي بين أعضاء كل جماعة مشتركة في الصراع.

الفرض الرابع: كلما كانت العلاقات أولية بين أعضاء جماعات الصراع، كلما أدى الصراع إلى قمع الانشقاق والانحراف داخل كل جماعة وفرض الامتثال للمعايير والقيم.

أ- كلما أدى الصراع بين الجماعات إلى الامتثال الإجباري أو القسري، زاد تراكم العداوات، زاد احتمال الصراع الداخلي بين الجماعة في الأمد الطويل.

في هذه الفروض يرى كوزر أن شدة الصراع - أي اشتراك الناس فيه والالتزام بمواصلته تزيد من قوة الحدود الفاصلة ومركزية السلطة والتماسك الإيديولوجي وقمع الانشقاق والانحراف داخل كل طرف من أطراف الصراع. ويفترض أن شدة الصراع وظيفية لأنها تعزز وتقوي التكامل. إلا أن المركزية المستبدة وقمع الانحراف والانشقاق تنتج في الأجل الطويل ضغوطاً سيئة على التكامل، وهكذا يبدو أن هناك جدلاً متأصلاً في توحيد جماعة الصراع مما يخلق ضغوطاً نحو التفكك. ولسوء الحظ فإن كوزر لا يحدد الظروف التي في ظلها يمكن أن تطفو على السطح الضغوط التفكيكية. وفي تركيزه على الوظائف – أي القوى المعززة للتكامل لم يكن تحليله واعداً بالبحث، بل إن هذا الإنجاز يصبح أكثر وضوحاً عندما ينقل كوزر اهتمامه إلى وظائف الصراع بالنسبة للكل النظامي الذي يحدث داخله الصراع.

الفرض الخامس: كلما كان البناء الاجتماعي الذي يحدث فيه الصراع بين الجماعات أقل صرامة وجموداً، كلما تكرر الصراع وأصبح أقل شدة، وكلما زاد احتمال أن يؤدي الصراع إلى تعزيز النظام بوسائل تعزز القابلية للتوافق والتكامل.

1- كلما كان النظام أقل صرامة زاد احتمال تعزيز الصراع للابتكار والإبداع في النظام.

2- كلما كلن النظام أقل صرامة وجموداً قل احتمال أن ينطوي الصراع على إزاحة العداوات إلى أشياء بديلة وزاد احتمال مواجهة الصراع لمصادر واقعية للتوتر.

3- كلما كان النظام قائماً على الاعتماد الوظيفي المتبادل تكرر الصراع وكان أقل عنفاً وزاد احتمال إعاقته للتوترات بدون استقطاب النظام.

4- كلما كانت العلاقات الأولية أكثر استقراراً في النظام تكرر الصراع وكان أقل شدة وزاد احتمال إطلاق التوترات بدون حدوث استقطاب في النظام.

5- كلما كان النظام أقل صرامة وتصلباً زاد احتمال إدراك الصراع من جانب الذين يتولون السلطة والقوة كمؤشر لسوء التوافق الذي يحتاج إلى إصلاح.

الفرض السادس: كلما تكرر الصراع، كلما قل احتمال اعتباره انعكاساً للاختلاف والانقسام حول قيم صميمة، وكلما كان الصراع وظيفياً لصيانة توازن النظام.

1- كلما كان في مقدور جماعة الصراع الالتجاء إلى القيم الصميمة للنظام، قل احتمال أن يؤدي الصراع إلى الانقسام والاختلاف حول تلك القيم وزاد احتمال تعزيز الصراع لتكامل النظام.

2- كلما كانت جماعة الصراع لا تدافع عن تفسيرات متطرفة للقيم الصميمة قل احتمال تكوين جماعة صراع وقادة وكان الصراع أقل تمزيقاً للنظام.

الفرض السابع: كلما تكرر الصراع وكان أقل شدة، زاد احتمال تعزيزه للتنظيم المعياري للصراع.

1- كلما كان النظام أقل صرامة وتصلباً، تكرر الصراع وكان أقل شدة.

2- كلما كان النظام أقل صرامة وتصلباً، زاد احتمال إحياء الصراع للقيم والمعايير السائدة.

3- كلما قلت صرامة وجمود النظام، زاد احتمال أن يؤدي الصراع إلى معايير جديدة.

4- كلما تكرر حدوث الصراع وكان أقل شدة زاد احتمال تمركز الجماعات في محاولة لتعزيز امتثال أعضاء كل جماعة للمعايير التي تحكم الصراع.

5- كلما كانت قوة جماعات الصراع متعادلة، زاد احتمال أن يؤدي الصراع إلى المركزية التي تقوى وتعزز الامتثال المعياري والقيمي.

الفرض الثامن: كلما كان النظام أقل صرامة وتصلباً، كلما زاد احتمال تحقيق وتوطيد الصراع لتوازنات السلطة والتسلسل الهرمي لها في النظام.

1- كلما قل مستوى معرفة جوانب القوة لدى الخضم وقلت مؤشرات تلك القوة، زاد احتمال حدوث الصراع بين جماعتين تتسابقان على القوة لتعزيز توازن العلاقات في النظام.

الفرض التاسع : كلما كان النظام أقل صرامة وجموداً، كلما زاد من احتمال أن يؤدي الصراع إلى تكوين تحالفات ترابطية تزيد من تماسك وتكامل النظام.

1- كلما كان الأطراف الآخرين في النظام مهددين من تحالفات الأطراف الآخرين، زاد احتمال تكوينهم لتحالفات ترابطية.

2- كلما كان النظام مبنياً على الاعتماد الوظيفي المتبادل، زاد احتمال أن تكون التحالفات وسيلة وأقل استمرارية.

أ- كلما كُشف النظام، زاد احتمال أن يكون للجماعات المنضمة إلى تحالف صراعات المصالح الخاصة بها وكلما زاد احتمال أن يكون التحالف وسيلياً.

ب- كلما كان التخالف مؤلفاً لأغراض دفاعية، زاد احتمال أن يكون وسيلياً.

3- كلما كانت العلاقات أولية ومُحكمة البناء في النظام، زاد احتمال طرح التحالفات لمعايير وقيم مشتركة وتكوين جماعات دائمة.

أ- كلما كانت التحالف مكون من أفراد أو بصفة عامة، كلما كانت الوحدات المكونة للتحالف صغيرة زاد احتمال تطورها إلى جماعة دائمة.

ب- كلما زاد التفاعل المتبادل المطلوب بين أطراف التحالف، زاد احتمال تكوينهم لجماعة دائمة.

خامساً- نتائج ووظائف الصراع عند كوزر: يشير كوزر إلى أن الصراع الاجتماعي قد تكرر إهماله وتجاهله، وحين كان علماء الاجتماع يعالجونه، فقد كان تركيزهم ينصب على جانبه " السلبي " وكيف يقوض النظام والاستقرار والوحدة. إنه يمزقها باختصار. يريد كوزر إذن أن يجدد التوازن بتأكيده على الجانب " الإيجابي " للصراع، وكيف يسهم في استمرارية الجماعات الاجتماعية والعلاقات والأنساق الاجتماعية و" تكيفها " إن لغة الوظيفة مستخدمة هنا كما لو كانت منسجمة ومتناغمة مع تعريف كوزر الخاص للصراع الاجتماعي على الرغم من أن هذا التعريف يركز على الفرقاء المتصارعين، على القيم النادرة، والذين يسعى كل منهم جاهداً إلى تحقيق المزيد من مصالحه على حساب الآخرين. وعلاوة على ذلك، فإنه في توضيحاته وتعليقاته التفسيرية يتحدث عن الصراع بوصفه وظيفياً، أي حسن وإيجابي أو " لا وظيفي " أي سيء، وذلك بالنسبة للعلاقات والبناءات بما فيها النسق الاجتماعي ككل.

وإذا كان نموذج الصراع في أكثر مستوياته عمومية - يفهم المجتمع بوصفه ينطوي على العديد من المجموعات ذات القيم والمصالح المتصارعة، وإذا كان يفهم المجموعات المكونة للمجتمع بوصفها مكونة من فردين أو أكثر، فإن المرء يستطيع أن يحدد ما إذا كانت أفعالاً معينة تفيد البعض عن الآخر وتحقق بالتالي مصالحهم - مع أن ذلك ليس ميسراً دائماً - لكنه لن يستطيع على الاطلاق أن يقرر ما إذا كانت أفعالاً مفيدة للنسق ككل، وإن استطاع أن يقول كذلك، فإن قوله سوف يأتي مضللاً.

فإذا أخذنا الأسرة كنسق - على سبيل المثال - وفي حالة تكرار المشاجرات بين الزوج وزوجته وتعمق الخلافات بينهما ولجوؤهما إلى حل الصراعات دون الوصول إلى مرحلة الطلاق. فإن كل ما نستطيع أن نقوله حول نسق الأسرة ككل هنا أنه مستمر ولم يتعرض للانهيار، لكننا لا نستطيع أن نقول شيئاً حول ما إذا كان الصراع وظيفياً أو لا وظيفياً (حسن أو سيء) بالنسبة لذلك النسق إننا لن نعرف ذلك إطلاقاً ولا يمكن أن نعرفه. إن كل ما نستطيع أن نعرفه عن هذا الصراع هو ما يترتب عليه بالنسبة للزوج والزوجة والأطفال، هل انتصرت وجهة نظر الزوج أم الزوجة أم حدث نوع من التوفيق بين وجهتي النظر؟ ما الثمن الذي دفعه كل عضو من الأسرة من أجل استمرارها؟ ... إلخ. أما في حالة الأنساق الاجتماعية الأكبر، التي تتكون من مجموعات عديدة ذات مصالح مختلفة ومتصارعة فإن من العبث، ومن قبيل اللغو أن نتحدث عن " وظائف " و " لا وظائف " بالنسبة للنسق ككل. وفي معرض إعادة صياغة أفكار (زيمل) في مصطلحات وظيفية لا يكون (كوزر) أميناً مع النصوص الأصلية في أغلب الأحيان، ففي الفقرة الأولى من الفصل الثالث، على سبيل المثال، يذهب زيمل إلى أن معارضة (زميل أو شريك) تكون غالباً بمثابة الوسيلة الوحيدة لجعل التعايش ممكناً مع أناس لا يمكن تحملهم فعلاً ويواصل حديثه قائلاً أنه في حالة غياب وانعدام هذه المعارضة فإن عضواً أعضاء الجماعة قد يتخذ خطوات انفصالية وينهي علاقته من بالجماعة.

لذا سعى كوزر ضمن نظريته عن الصراع الاجتماعي، إلى تحليل طبيعة النتائج ووظائف الصراع التي غالباً ما تؤدي إلى حدوث التغير والتطور الاجتماعي، وإن كان الهدف الأساسي الذي سعى عن طريقه كوزر لتحليل الدور الوظيفي للصراع في المحافظة على تماسك الجماعة Group cohesion، كأحد أهم النتائج الهامة لحدوث الصراع الذي يرى أن له مظاهر ونتائج محددة، ولقد ميز كوزر بين الصراع الخارجي والداخلي بالنسبة للجماعة، ويوضح بأن كلاً من النوعين المهيمن، يمكن أن يعرف الجماعة ويؤسس هويتها ويحفظ استقرارها ويزيد بتماسكها، ويمكن توضيح ذلك من خلال ما يلي:

1- الصراع الخارجي External conflict: يؤكد كوزر على ضرورة الصراع الخارجي في تأسيس هوية الجماعة، وتقوية الروابط والعلاقات داخل الجماعة، ولا سيما أنه يحث الأفراد نحو تماسك جماعتهم وزيادة وعيهم الجمعي حول مصالحهم وأهدافهم ومتطلباتهم داخل البناءات الاجتماعية، مؤكدا النتائج السلبية التي قد تظهر نتيجة وجود عناصر التفكيك بينهم، كالشعور العدائي والصراع الحقيقي يعتبر عنصراً هاماً لزيادة تكتل الجماعة وتكوينها، متبعاً بذلك خطى كل من زيمل وماركس الذي يصور أن الصراع وحده فقط يمكن أن يخلق الوعي الذاتي الطبقي.

وهكذا يوضح كوزر بأن الصراع الخارجي يمكن أن يؤدي غالباً إلى تقوية وتدعيم الجماعة. إنه يجعل أعضاء الجماعة مدركين لهويتهم بواسطة تقديم " جماعة مرجعية سلبية " قوية، والتي يقارنون أنفسهم بها. كما يعمل على زيادة مشاركتهم، ومع ذلك فإن العملية ليست محتومة. فإذا كان التماسك الداخلي قبل نشوب الصراع متديناً كثيراً، فإنه يجعل اللا تكامل يعمل بسرعة بسيطة. وفي هذا الصدد يقارن كوزر النتائج التمزيقية للحرب العالمية الثانية على المجتمع الفرنسي مع نتائجها الموحدة لبريطانيا.

2- الصراع الداخلي Internal conflict: يتبع كوزر دوركايم وماركس وميد عندما نظروا إلى الصراع جميعاً، بأنه يعكس مظاهر الانحلال والانحراف، الذي يظهر بين أعضاء الجماعة، ومن ثم فإن الجماعة تحرص على ضرورة تماسكها، وذلك عن طريق وجود عدد من المعايير Norms، التي تقوم بتقويم وتصحيح السلوك الفردي لأعضاء الجماعة، وإن كان كوزر يضيف إلى ذلك الرأي، بأن الصراع الداخلي من شأنه أن يزيد تماسك وبقاء الجماعة والاستقرار، كما يؤكد على رأي زيمل خاصةً، بأن الصراع الداخلي يعتبر صمام أمن وهام، ويحول دون حدوث مظاهر الإحباط، ونجاح حدوث العداءات التي تؤدي إلى انهيار الجماعة كبناء. وفي هذا الصدد يقول كوزر: " إن الصراعات الاجتماعية الداخلية التي تتعلق بالأهداف والقيم والمصالح التي لا تتناقض مع القضايا الأساسية التي قامت العلاقات على أساسها تميل إلى أن تكون ذات وظائف إيجابية بالنسبة للبناءات الاجتماعية ".

إلا أن كوزر لم يشرح لنا إطلاقاً ما يعنيه من أن الصراع " إيجابي وظيفياً بالنسبة للبناء الاجتماعي ". فإذا كانت هذه العبارة تشير إلى الوحدة المدعمة أو التماسك الذي يفترض أنه ينتج عن الصراع فإن كوزر لم يطرح إطلاقاً أي محك مستقل لقياس هذه الوحدة أو ذلك التماسك. وكل ما يتبقى آنئذ استمرار المجموعة. لكن العبارة تصبح حينئذ من قبيل اللغو. إن الطريقة الوحيدة للحكم على أن الصراعات الداخلية لا تتناقض مع القضايا الأساسية التي قامت عليها العلاقات هي استمرار تلك العلاقات فاستمرار المجموعة هو برهان على عدم وجود تناقضات أساسية، والبرهان على عدم وجود تناقضات أساسية، يتمثل في استمرار المجموعة.

علاوةً على ذلك فإن القول بأن الوحدة والتماسك أفضل دائماً من التفكك والانحلال هو قول ضعيف لا يصمد أمام النقد. فما إذا كان الارتباط بالجماعة أفضل لها من انسحاب بعض أو كل أعضائها إنما يعتمد على مجموعة متنوعة من الظروف والأحكام القيمية والمصالح. فقد تستمر الوحدة في ظروف لا تهدر فقط مصالح أعضاء المجموعة بل قد تهدد حياتهم أيضاً.

ولكل هذه الأسباب فإن الصياغة الوظيفية لنتائج كوزر هي صياغة غير مرضية ولا مقنعة. فهو يتحدث عن الصراع في عبارته الأخيرة على سبيل المثال بوصفه لا وظيفياً بالنسبة للبناء الاجتماعي الذي لا ينطوي على تسامح بالنسبة للصراع أو على تأسيس وتنظيم له، أو لا ينطوي إلا على قدر ضئيل منهما. إن كثافة الصراع الذي يهدد بالتمزيق، والذي يهاجم أساس الاجماع لنسق اجتماعي يرتبط بجمود البناء، وما يهدد توازن مثل هذا البناء ليس الصراع في حد ذاته، ولكنه الجمود نفسه الذي يسمح بتراكم العداوات ونقلها عبر خط رئيسي واحد للنزاع والتي تنفجر في شكل صراع. إن هذه الصياغة تتجاهل الواقع وتخفيه، كما تفعل الوظيفية التقليدية تماماً.

إن أي قدر من الحديث عن اللا وظيفية بالنسبة للبناء الاجتماعي أو عن جموده لا يستطيع أن يكشف عن الصراعات الفعلية بين المصالح داخل الجماعة والتنظيم والمجتمع، ولن يستطيع أن يميط اللثام عن علاقات السيطرة التي تميزها.

والحقيقة أن الأفكار الثاقبة التي أستمدها كوزر من زيمل ودعمها من مصادر أخرى لا تفتقر تماماً إلى الأهمية والإثارة لكن حين تترجم هذه الأفكار الأصلية إلى صياغة وظيفية فإنها لا تحقق شيئاً بل تفتقد دقتها ووضوحها. إلا أن كوزر بالمقابل حاول الجمع بين أوجه التكامل والصراع باعتبار مفهوم الصراع مفهوماً وظيفياً يعمل على تقوية التضامن داخل الجماعة وبذلك يكون وظيفياً للنسق الاجتماعي أو بعض أجزائه لكنه لم يكن موفقاً إلى حدٍ كبير.

سادساً- تقييم نظرية لويس كوزر حول الصراع الاجتماعي: حاول كوزر من خلال نتاجه الفكري التعامل مع الصراع الاجتماعي من داخل رؤية وظيفية بنيوية للعالم، ورغم أنه من المفيد النظر إلى وظائف الصراع، فإن هناك في دراسة الصراع ما هو أكثر من تحليل وظائفه الإيجابية بكثير. ويرى داهرندورف أن عمل كوزر ركز على دور الصراع في الحفاظ على الوضع الراهن. ومع ذلك أدرك داهرندورف بأن الوظيفة المحافظة للصراع ليست سوى جزء واحد من الواقع الاجتماعي. فالصراع يؤدي أيضاً إلى التغيير والتنمية.

كما هو معروف لنا، أن جورج زيمل قدم المساهمات الأساسية فيما يتعلق بوظائف الصراع الاجتماعي، ولكن عمل كوزر على توسيع نطاقها، الذي جادل بأن الصراع قد يعمل على تماسك المجموعة ذات البناء المتفكك. ففي مجتمع متفكك، قد يعيد الصراع مع مجتمع آخر جوهر التكامل. قد يُعزى تماسك الكيان الصهيوني، جزئياً على الأقل، إلى الصراع طويل الأمد مع الدول العربية به في الشرق الأوسط. وقد تؤدي النهاية المحتملة للصراع إلى تفاقم التوترات الكامنة في هذا المجتمع. لقد أدرك المختصون في الدعاية أن الصراع يعد عاملاً لترسيخ المجتمع منذ أمد بعيد، حيث قد يبنون عدواً غير موجود أو يسعون إلى إثارة عداوات تجاه خصم غير نشط.

وقد يؤدي الصراع مع مجموعة إلى التماسك من خلال التوصل إلى سلسلة من التحالفات مع مجموعات أخرى. على سبيل المثال، أدى الصراع مع العرب إلى تحالف بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وعلى هذا قد يقلل الصراع في الشرق الأوسط من إضعاف الروابط بين إسرائيل والولايات المتحدة.

كما يمكن للصراع داخل المجتمع أن يُمكن بعض الأفراد المعزولين من اتخاذ دور نشط، حيث دفعت الاحتجاجات على حرب فيتنام العديد من الشباب إلى الاضطلاع بأدوار قوية في الحياة السياسية الأمريكية لأول مرة، ومع نهاية هذا الصراع، ظهرت الروح اللامبالية مرة أخرى بين الشباب الأمريكيين. وهذا ما في معظم المجتمعات الغربية خلال الحرب على أفغانستان والعراق.

يوفر الصراع وظيفة الاتصال كذلك قبل الصراع، قد تكون المجموعات غير متأكدة من موقف خصمها، ولكن نتيجة للصراع، غالباً ما تتضح المواقف والحدود بين المجموعات. ولهذا يكون الأفراد أكثر قدرة على اتخاذ قرار بشأن مسار العمل المناسب فيما يتعلق بالخصم. كما يسمح الصراع للأطراف بالحصول على فكرة أفضل عن نقاط قوتها النسبية. وقد يزيد كذلك من إمكانية التقارب أو التوافق السلمي.

وهكذا نجد على الصعيد النظري أنه من الممكن التزاوج بين النظرية الوظيفية ونظرية الصراع من خلال النظر إلى وظائف الصراع الاجتماعي، ومع ذلك، يجب الاعتراف بأن للصراع أوجه خلل كذلك. في حين سعى عدد من المنظرين إلى دمج نظرية الصراع والبنائية الوظيفية، لم يرغب البعض الآخر في وجود أي جزء من نظرية الصراع أو (البنائية الوظيفية). على سبيل المثال، رفض الماركسي أندريه جوندر فرانك (1966-1974) نظرية الصراع لأنها تمثل صورة غير ملائمة من النظرية الماركسية. ورغم أن نظرية الصراع تحمل بعض العناصر الماركسية، فإنها ليست الوريث الحقيقي لنظرية ماركس الأصلية. وهذا ما سوف يجعلنا في المستقبل القريب أن نتفحص مجموعة من النظريات التي تعد ورثة شرعية للماركسية بالمقارنة. لكن قبل أن نفعل ذلك علينا الاطلاع على نوع متكامل بصورة أنجح لنظرية الصراع.

إن أهمية نظرية كوزر في الصراع تكمن في إيضاحها بأن الصراع قد لا يكون غالباً مسبباً للشقاق من الناحية الاجتماعية ولا مصدراً للتغير كذلك. وهذا واضح بشكل خاص في مقارنته بين المجتمعات التي تتضمن أو لا تتضمن العديد من الجماعات المستقلة والمتداخلة ومقارنته لطبيعة ونتائج الصراع المختلفة فيها. ورغم ذلك، فإن تفسير كوزر ليس مقنعاً تماماً. إن المجتمعات المعقدة وذات الاعتمادية المتبادلة والتي هي بشكل محدد ليست " صلبة " ربما تشهد صراعات مسببة للشقاق إلى حدٍ كبيرٍ، بينما المجتمعات الصلبة الهيراركية (تراتبية السلطة) قد تدوم وتعيش لقرون دون صراع تدميري. وإن الخاصية المجردة التي يشترك فيها عمل كوزر مع عمل زيمل والطريقة التي يتجاهل بها طبيعة ومرتكزات مصادر الجماعة تعني بالنسبة له أنها تفسر القليل جداً حول مواقف اجتماعية فعلية.

وأخيراً، يؤكد كوزر على وظائف الصراع، على الرغم من أن الصراع التصحيحي المفيد أحادي الجانب. وفي بداية عمله يصف كوزر الصراع الاجتماعي بأنه نضال يحاول فيه الفرقاء أن " يحيدوا خصومهم، أو يعملوا على الإضرار بهم، أو القضاء عليهم ". وبعد ذلك ينظر إليه المرء باستهزاء، لأنه يهتم كثيراً بمثل هذا السلوك، أو لأنه يدرك بأن استقرار العديد من المواقف يرتكز على القوة والاضطهاد. وهكذا نجد أنه بالرغم من الانتشار الكبير الذي حققته نظرية كوزر للصراع الاجتماعي وإسهامها في فهم جديد للصراع بعيداً عن نظرية ماركس ذات النهج الأحادي. إلا أنها قد وجهت إليها مجموعة من الانتقادات أهمها أفراط كوزر في تبسيط منابع الصراع الاجتماعي، كما يمكن اعتبار القضايا التي طرحها كوزر قضايا عامة حتى أنه يصعب استخدامها لفهم مواقف معينة. وعلى الصعيد السوسيولوجي تصنف نظرية كوزر حول مفهوم الصراع الاجتماعي بأنها نظرية وظيفية بامتياز أكثر منها نظرية في الصراع الاجتماعي من حيث الأسس الابستمولوجية.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

........................

* جورج زيمل George Simmel(1858 – 1918) فيلسوف، وعالم اجتماع، وأستاذ جامعي ألماني. يعتبر جورج زيمل من وجهة نظر علماء الاجتماع الزعيم الفعلي للمدرسة الألمانية في علم الاجتماع، فقد كان من بين العلماء الذين انتقلوا بهذا العلم من التقليد الكلاسيكي إلى عصر النهضة في أواخر القرن التاسع عشر، وذلك في مجال النظرية والبحث السوسيولوجي على حد سواء، وفضلاً عن ذلك فإنه ينظر إليه على أنه زعيم الاتجاه الصوري أو المدرسة الشكلية في علم الاجتماع، وقد كان فيلسوفاً بالدرجة الأولى، فقد اهتم بمشكلات المجتمع إلى جانب التاريخ، والفنون الجميلة، والأدب، وقد ترجمت كتاباته إلى كثير من اللغات الغربية الأمر الذي أكسبه شهرة كبيرة. لا يتفق زيمل مع القول بأن علم الاجتماع هو العلم الذي يقوم بدراسة جميع الحقائق الاجتماعية، أو جميع ما هو إنساني، فذلك يوسع نطاقة ولا يمكن الباحثين من الإحاطة بكل جوانبه، ولكنه يرى أن علم الاجتماع يجب أن ينفصل عن العلوم الخاصة التي يدرس كل منها موضوعاً اجتماعياً محدداً. ويرى أن العلوم الاجتماعية التي تقوم حديثاً يجب أن تعتمد على التجريد، بمعنى أن تجرد حقائقها وموضوعاتها مما تنطوي عليه من مادة، وذلك من أجل الوصول إلى مبادئها الجوهرية والشكلية. ويطبق هذه النظرة على علم الاجتماع، فهو عنده علم نظري مجرد موضوعة دراسة العلاقات الاجتماعية في صورها الخالصة، أي دراسة أشكال التفاعلات الاجتماعية المتبادلة التي تحدث في كل ميادين الحياة الاجتماعية، ولا يدرس هذا العلم الحقائق المادية التي تنطوي عليها الظواهر، فهذه متروكه أو يجب أن تترك للعلوم الاجتماعية الخالصة التي تعالج مختلف ميادين النشاط الاجتماعي، أما مهمة علم الاجتماع فهي مهمة تجريدية مقصورة على الوصول إلى أشكال العلاقات الاجتماعية.

وتركز نظرية جورج زيمل على التمييز بين طبيعة العلاقات الاجتماعية من ناحية الشكل أو الصورة، وما تنطوي عليه مضمون اجتماعي، ﻷن العلاقات التي تنشأ بين الأفراد في المجتمع كالصراع والتنافس والخضوع وتقسيم العمل والتقسيم الطبقي وغيرها موجودة في مختلف ميادين الحياة الاجتماعية، ووظيفة علم الاجتماع هي تحليل هذه المظاهر المختلفة للعلاقات الاجتماعية حتى تصل إلى مقوماتها الأساسية، وخصائصها الذاتية، ثم تحاول تفسيرها في صورها المجردة بعيداً عن تجسداتها أي مادتها في المجتمع. من أهم أعمال زيمل الأكثر شهرة، هي ما يلي: مشاكل فلسفة التاريخ 1892، وفلسفة النقود 1900، والمدن الكبرى والحياة الفكرية 1903، وكتابه علم الاجتماع 1908 الذي يضم مجموعة من المقالات (الغريب، الحدود الاجتماعية، علم اجتماع الحواس، علم اجتماع الفضاء، الاسقاطات المكانية للأشكال الاجتماعية)، في التمايز الاجتماعي 1890، والمسائل الأساسية لعلم الاجتماع 1917. بالإضافة إلى ذلك كتبه عن فلسفة شوبنهاور ونيتشه 1907، وفي مجال الفن يعتبر كتابه ريمبراندت: مقال في فلسفة الفن 1916 الأبرز في هذا المجال.

* المكارثية (McCarthyism)‏ هو سلوك يقوم بتوجيه الاتهامات بالتآمر والخيانة دون الاهتمام بالأدلة. ينسب هذا الاتجاه إلى عضو بمجلس الشيوخ الأمريكي اسمه جوزيف مكارثي. كان رئيساً لإحدى اللجان الفرعية بالمجلس واتهم عدداً من موظفي الحكومة وبخاصة وزارة الخارجية، وقاد إلى حبس بعضهم بتهمة أنهم شيوعيون يعملون لمصلحة الاتحاد السوفيتي. وقد تبين فيما بعد أن معظم اتهاماته كانت على غير أساس قانوني. وأصدر المجلس في عام 1954 قراراً بتوجيه اللوم عليه. ويستخدم هذا المصطلح للتعبير عن الإرهاب الثقافي الموجه ضد المثقفين. بذلك دخلت " المكارثية " قاموس السياسة لتعني الاضطهاد والملاحقة من قبل الدولة لمن يعتنق فكراً مناوئاً لها، وذلك على الرغم من وجود مُسميات مشابهة مختلفة أدرجها التاريخ في طياته، لعل أشهرها ما عُرف باسم " محاكم التفتيش " Inquisition التي قادتها الكنيسة الكاثوليكية ضد كل من كانت تشك فيهم بما في ذلك العلماء، وعلى رأسهم العالم جاليليو جاليليي لأنه آمن وأعلن أن الأرض ليست مركز الكون. ولقد اضطرت الكنيسة لأن تعتذر له بعد مرور قرون من الزمن.

- المراجع المعتمدة:

1- جورج ريتزر، جيفري ستيبنسكي: النظريات الحديثة في علم الاجتماع، دققه وراجعه علمياً: ذيب محمد الدوسري وآخرون، مكتبة جرير والجمعية السعودية للدراسات الاجتماعية، الرياض، ط1، 2021.

2- إرفنج زايتلن: النظرية المعاصر في علم الاجتماع، ترجمة: محمود عودة وإبراهيم عثمان، منشورات ذات السلاسل، الكويت، ط1، 1989.

3- رث والاس، ألسون وولف: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع – تمدد آفاق النظرية الكلاسيكية، ترجمة: محمد عبد الكريم الحوراني، دار مجدلاوي، عمان، ط1 (العربية)، 2011-2012.

4- عبد العزيز الغريب: نظريات علم الاجتماع – تصنيفاتها، اتجاهاتها، وبعض نماذجها التطبيقية من النظرية الوضعية إلى ما بعد الحداثة، دار الزهراء، الرياض، ط1، 2012.

5- علي ليلة: النظرية الاجتماعية الحديثة (الأنساق الكلاسيكية)، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، الكتاب الثالث، بدون تاريخ.

6- محمد عبد الكريم الحوراني: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع – التوازن التفاضلي صيغة توليفية بين الوظيفية والصراع، دار مجدلاوي، عمان، ط1، 2008.

7- أحمد زايد: علم الاجتماع (النظريات الكلاسيكية والنقدية)، دار المعارف، القاهرة، ط1، 1984.

8- طلعت إبراهيم لطفي، وكمال عبد الحميد الزيات: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع، دار غريب، القاهرة، ط1، 1999.

9- نيقولا تيماشيف: نظرية علم الاجتماع (طبيعتها وتطورها)، ترجمة: محمود عودة وآخرون، مراجعة: محمد عاطف غيث، دار المعارف، القاهرة، ط5، 1978.

10- إحسان محمد الحسن: النظريات الاجتماعية المتقدمة – دراسة تحليلية في النظرية الاجتماعية المعاصرة، دار وائل للنشر، عمان، ط3، 2015.

11- إبراهيم عيسى عثمان: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2008.

12- فيصل زيات، محمد مخطار ديدويش: نظرية الصراع الاجتماعي (من منطق كارل ماركس إلى منطق داهرندورف)، مجلة دراسات في علوم الإنسان والمجتمع، جامعة جيجل، الجزائر، المجلد: 02، العدد: 01، مارس 2019.

13- جوناثان ه. تيرنر: علم الاجتماع النظري – مقدمة موجزة لاثنتي عشرة نظرية اجتماعية، ترجمة: موضي مطني الشمري، دار جامعة الملك سعود، ط1، 2019.

14- محمد عبد الكريم الحوراني: تأويل الاستغلال في نظرية علم الاجتماع – العناصر التكميلية لنظرية سوسيولوجية في الاستغلال، مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2010- 2011.

د. حسام الدين فياض

(اللاعنف) ضد العنف منهجا ثوريا

(سنكسب معركتنا لا بمقدار ما نقتل من خصومنا، ولكن بمقدار ما نقتل في نفوسنا الرغبة في القتل)... المهاتما غاندي

1- مقدمة:

قد يبدو مفهوم الثورة السلمية للوهلة الأولى مفهوما كلاسيكيا لا يختلف كثيرا عن غيره من المفاهيم التي تجاوره في المكان وتجانسه في الدلالة. ولكن ما أن يـتأمل المرء فيه ويتمعن في تجلياته حتى يجد نفسه في فضاء فكري مترامي الأبعاد والأطراف، وفي خضم التمعن والنظر، يدرك المتأمل أن مفهوم اللاعنف مفهوم في فلسفة وفلسفة في مفهوم.

وليس من المصادفة أن يرتبط هذا المفهوم ارتباطا عميقا بالحكمة الإنسانية الشرقية، بما تشتمل عليه هذه الحكمة من إشراقات إنسانية، وشطحات صوفية كانت وما زالت قادرة على التوغل في أعمق مناطق الوعي الأخلاقي والوجداني في الإنسان؛ وليس غريبا أن يتعانق جمال هذا التسامح الصوفي المتضوّع بالحكمة الشرقية، مع سمو الحكمة المسيحية القديمة، وليس من العجب أيضا أن يخفق بين هاتين الحكمتين قلب المهاتما غاندي الكبير، الذي مَتحَ رحيق المحبة والتسامح من معين الحكمة الهندية القديمة، ونهل من معين الحضارة الغربية المتدفقة، فجاء عطاؤه غمرا إنسانيا مصقولا في منهج فكري فلسفي أصيل، فأخذ المفكرون من ذلك العطاء يرتحقون ومن هذا الفكر ينهلون في سبيل بناء فلسفة إنسانية للسلام قادرة على أن تنير دروب الشعوب المظلومة والمغلوبة على أمرها في نضالها من أجل الحق والحرية والسلام.

لقد استلهم المهاتما غاندي(1) حكمتي الشرق والغرب، فأخصب ما بينهما ليشيّد فلسفة جديدة كان لها أثر كبير في توجيه النضال الإنساني من أجل الحرية والسلام. ولكن حبه للسلام ونضاله من الحرية لم يحصناه ضد الشهادة التي كان يطلبها (2). فكان على موعد من الشهادة وكان له ما أراد، حيث منحه أحد الهندوس المتعصبين شرف الشهادة فنهض بها رمزا للحرية وعنوانا لفلسفة النضال السلمي من أجل الحرية والسلام (3). رحل غاندي ولكن أنساقه الفكرية مازالت تشكل طاقة إنسانية حيوية تعتمدها الشعوب في النضال ويعتمدها المفكرون في تأجيج هذا النضال وعقلنته فكريا ونظريا مستلهمين روح غاندي وفلسفته(4).

2- مؤثرات غاندي:

تشكل الحكمة الهندية القديمة (التاوية والبوذية والبرهمانية) المصدر الأساسي لفلسفة غاندي التسامحية. ويمكن القول بأن تأثير البوذية كان واضح المعالم في فكر وسلوك غاندي. ومن يتمعن جيدا سيجد بأن بوذا كان بمثابة المثل الأعلى لغاندي، وذلك نظرا للتجانس الكبير في السلوك والتفكير والعقيدة. وقد تبين لنا بعد قراءة متأنية لسيرة الرجلين وجود تأثير كبير لبوذا في غاندي، علما بأن الدراسات الجارية حول غاندي لا تتضمن الإشارة إلى هذا الأمر على الرغم من أهميته، وقد يعود ذلك إلى أن غاندي لم يُلحّ على هذا الجانب لأسباب قد تكون عقائدية. ومع ذلك فإنه تجب الإشارة إلى أن البوذية من أكثر العقائد تأكيدا على قيم التسامح، وأكثرها رفضا لكل أشكال العنف والإكراه والظلم، وهذا ما تقتضيه بالضرورة عقيدة التناسخ التي تشكل الصمام العقائدي للبوذية.

ومن أجل أن ندلل على أهمية التأثير الكبير للبوذية في فكر غاندي التسامحي يمكننا أن نورد نموذجا فكريا حول قيمة التسامح البوذي في حوار يجرى بين بوذا وبورنا (أحد مريديه)، لقد أراد بوذا لمريده بورنا هذا أن يذهب إلى قبيلة (سرونا بارانتا) لنشر دعوته، وكان بوذا يعلم أن هذه القبيلة معروفة بالشراسة والخشونة ولا ينجح معها إلا الرجل الحكيم الصبور، فأراد بوذا أن يعرف مدى استعداد بورنا هذا لتحمل مشقة الدعوة وعناء المواجهة عبر الحوار التالي بينهما:

بوذا: إن رجال هذه القبيلة قساة القلوب سريعو الغضب، فإذا وجهوا إليك ألفاظا بذيئة خشنة ،ثم غضبوا عليك وسبّوك، فماذا أنت فاعل؟

بورنا: أقول لا شك إن هؤلاء قوم طيبون لينو العريكة لأنهم لم يضربوني بأيديهم ولم يرجموني بالحجارة

بوذا: فإن ضربوك بأيديهم ورجموك بالحجارة فماذا أنت فاعل؟

بورنا: أقول بأنهم قوم طيبون لينون إذ لم يضربوني بالعصي ولا بالسيوف .

بوذا: فإن ضربوك بالعصي والسيوف؟

بورنا: أقول بأنهم قوم طيبون ورائعون لأنهم لم يحرموني من الحياة نهائيا.

بوذا: فإن حرموك الحياة؟

بورنا: أقول بأنهم قوم طيبون إذ خلّصوا روحي من سجن هذا الجسد السيئ بلا ألم كبير.

بوذا: أحسنت يا بورنا أنك تستطيع بما أوتيته من الصبر والثبات أن تسكن في بلاد قبيلة سرونا فاذهب إليهم وخلصهم مما هم فيه.

وهذا الحوار يدلل بصورة واضحة على عظمة فكرة التسامح في البوذية ورفضها للعنف بصورة مطلقة. كما يدل من جهة أخرى على أهمية تطهير النفس من مطلق الشرور التي تتصل بالقلب الإنساني مثل الكراهية والبغضاء والحقد والخوف. فبورنا في هذه الصورة لا يخاف ولا يوجد في قلبه إلا مطلق الحب والتسامح. وذلكم جوهر التسامح الذي يشكل صميم الفكرة الغاندية لمفهوم اللاعنف.

وما لا شك فيه أيضا أن غاندي قد تأثر بصورة كبيرة جدا بالحكمة المسيحية القديمة التي تتجانس مع جوهر البوذية في رفض العنف وطلب المحبة والسلام الأبدي. فاللاعنف يأخذ صورة حكمة إنسانية خلاقة في المسيحية الأولى دين المحبة والسلام. لقد أفاض السيد المسيح عليه السلام في دعوته الإنسانية الشاملة إلى المحبة والخير والإخاء الإنساني وإلى الرفض المطلق للعنف طلبا للمحبة والتسامح والسلام؛ وتكمن هذه الحكمة كليا في قوله المقدس "أحب أعداءك وأحسن إليهم". وفي قداسه الشهير أو عظة الجبل حيث يقول:" لا تناهض الشر، فمن ضربك على خدك الأيمن قدم له الأيسر (...) افعل الخير لمبغضيك وصلي من أجل ظالميك"(5). وتلك هي نماذج من الشهادات المسيحية الأولى على قيمة اللاعنف ودوره في الحياة الإنسانية. وقد شكلت مقولة السيد المسيح حكمة إنسانية ولكنها تجاوزت حدود الحكمة واتخذت لها صورة برنامج نضالي لمواجهة الأقوياء، وقد تجلت هذه الصورة الجديدة للمفهوم التي اتخذت من اللاعنف منهجا في مقاومة القهر الاستبداد، في ما سجله التاريخ من مقاومة البابا ليون pape Léon Le السلمية لاجتياح أتيلا Attila، عندما قام هذا الأخير بمهاجمة روما، وقد دهش أتيلا(6) عندما لم يجد أي مدافع أو مقاتل على الأسوار، وكان الناس يصلون في الكنائس، وكان رجال الدين من كهنة وقساوسة يطوفون بالدعاء المسالم والتراتيل الدينية في أرجاء المدينة، واستطاع البابا بطريقته هذه إنقاذ المدينة من السلب والحرق والاجتياح. وهناك عدد من الطوائف المسيحية التي مارست مبدأ اللاعنف في مواجهة القضايا السياسية، واقتصر اعتراضهم على الجانب الأخلاقي مثل(المومونيتس Mennonites والأميش les Amish والمورمون les Mormons في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية؛ والدوكهوبورس Doukhobors في روسيا، والهيتريت Hutterites في مورافيا.

ولا يتنكر غاندي أبدا لتأثره بالفكر الإسلامي وإعجابه به، إذا كان لشخصية النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) تأثير كبير في التكوين الفكري عند غاندي، ولنترك غاندي بعبر عن هذا التأثير بنفسه حيث يقول" لقد أردت أن أتعرف على أفضل ما في حياة شخص تخفق له قلوب ملايين من بني البشر... ولقد اقتنعت أكثر من أي وقت مضى بحقيقة أن السيف لم يكن هو من فاز في تلك الأيام، بل كانت البساطة والحب والتسامح، والمحو الذاتي التام للنبي(ص)، والاحترام الدقيق للعهود، والتكريس العظيم تجاه أصدقائه وأتباعه، وجرأته، وقلة خوفه، وثقته التامة بالله وبرسالته. هذه القيم الإنسانية وليس السيف هي السلاح الذي اعتمده المسلمون الأوائل في انتصارهم الإنساني. يقول غاندي عندما قمت بإغلاق المجلد الثاني (من سيرة النبي)، قمت بذلك بأسف لأنه ليس هنالك المزيد لأقوم بقراءته عن هذه الحياة العظيمة. ليس هنالك طريق للسلام، بل أن السلام هو الطريق "(7) .ومما لا شك فيه أن تجربة انتشار الإسلام في الشرق الأقصى دون استخدام للقوة تجربة مثيرة للاهتمام ومن الضرورة بمكان لرجل في مقام غاندي أن يتلقف المعاني الأخلاقية التسامحية لهذه التجربة العظيمة.

كما يمكن الإشارة عدد من المفكرين الغربيين المحدثين الذين أثروا في فكر غاندي وفلسفته، مثل: الفيلسوف الإنكليزي النقدي جون راس كينغ John Ruskin، وليو تولستوي Léon Tolstoï في روسيا الذي تبادل الرسائل مع غاندي الشاب في نهاية حياته ما بين 1909-1910، في الوقت الذي كان فيه غاندي يناضل من أجل تحرير الهند والدعوة إلى الحقوق المدنية للهنود في جنوب إفريقيا(8). ويمكن الإشارة أيضا إلى الشاعر الأمريكي هنري دافيد تورو Henri David Thoreau (1817-1862) الذي ألف كتابا حول الحق في الرفض المدني (Civil Disobedience , 1849) وهو الكتاب الذي أثر في كل من غاندي وكينغ. لقد أسس تورو لأهمية الحكم الصادر عن الوعي الأخلاقي، حيث يرى أن الأحكام الأخلاقية الصادرة عن الوجدان الأخلاقي تكون عادلة بالضرورة وهي تعلي من شأن الكرامة أكثر من الخضوع للقانون. هذه النزعة التسامحية الفردية عند تورو أثرت في غاندي، واستطاعت أن توقظ فيه إحساسا متوقدا بالتقاليد الهندية القديمة المتعلقة باللاعنف والتسامح(9).

وباختصار، يمكن القول بأن غاندي قد تأثر بعدد من المؤثرات الفكرية التي كان لها دور كبير في بلورة فلسفته ومواقفه السياسية، لقد تأثر غاندي وأيما تأثير بـ "نشيد الطوباوي" وهي عبارة عن ملحمة شعرية هندوسية كتبت في القرن الثالث قبل الميلاد واعتبرها غاندي بمثابة قاموسه الروحي ومرجعا أساسيا يستلهم منه أفكاره. كما تأثر تأثيرا كبيرا بموعظة الجبل اليسوعية، وفوق ذلك كله بكتاب "حتى الرجل الأخير" للفيلسوف الإنجليزي جون راس كينغ الذي مجد فيه الروح الجماعية والعمل بكافة أشكاله، وكتاب الأديب الروسي تولستوي "الخلاص في أنفسكم" الذي زاده قناعة بمحاربة المبشرين المسيحيين، وأخيرا كتاب الشاعر الأميركي هنري ديفد تورو "العصيان المدني". ويبدو كذلك تأثر غاندي بالبراهمانية التي هي عبارة عن ممارسة يومية ودائمة تهدف إلى جعل الإنسان يتحكم بكل أهوائه وحواسه بواسطة الزهد والتنسك وعن طريق الطعام واللباس والصيام والطهارة والصلاة والخشوع والتزام الصمت يوم الاثنين من كل أسبوع. وعبر هذه الممارسة يتوصل الإنسان إلى تحرير ذاته قبل أن يستحق تحرير الآخرين(10).

3- في مفهوم اللاعنف عند غاندي: الأهيماسا والساتياغراها:

صقل غاندي مفهوم اللاعنف وقدمه للإنسانية منهجا أخلاقيا في النضال الإنساني من أجل الحرية والحقيقة. ويرتكز مفهوم اللاعنف عند غاندي على ركيزتين أساسيتين هما الأهيماسا والساتياغراها. ولا يمكننا فهم الدلالة الفكرية لمفهم اللاعنف عند غاندي من دون العودة إلى هذين المفهومين.

فاللاعنف ترجمة لكلمة A-himsa في اللغة السنسكريتية (لغة البراهمة القديمة في الهند). وهذه الكلمة موظفة في اللغة السنسكريتية وفي النصوص البوذية والهندوسية واليانية. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الديانة اليانية - إحدى ديانات الهند القديمة – كانت تعتمد منهجا في تطهير النفس الإنسانية باللاعنف. وهذه الكلمة كما هو مبين مركبة من كلمتين هما العنف ونفيه في السنسكريتية فكلمة Himsa تعني الرغبة في التدمير واستخدام العنف ضد كائن حي، وبالتالي فإن إضافة البادئة "a" تعطي الكلمة معنى النفي فتتحول الكلمة إلى صيغة a-himsa وهي هنا تعني العرفان والترويض والسيطرة على الرغبة والميول والعنف الذي يوجد في داخل الإنسان وهي الطاقة التي تدفع الإنسان إلى إقصاء الآخر وإيذائه وإبعاده ومن ثم إماتته.

ويعد مفهوم الساتياغراها الركيزة الثانية لمفهوم اللاعنف عند غاندي. لقد اتخذ غاندي مفهوم الساتياغراها شعارا لمسيرته النضالية، وعنوانا لفلسفته الأخلاقية، والساتاياغراها satyagraha كلمة سنسكريتية قديمة تعني قوة الحقيقة (saty  =قوة – agraha =الحقيقة). وهكذا قام غاندي بتسويق فكرة "الساتياغراها" المعتمدة على التزاوج ما بين الحقيقة (ساتيا) والحب (أغراها). ومن هذه الفكرة استنبط مبدأ المقاومة اللاعنفية، باذراً بذلك البذرة الأولى لحركة شعبية جماهيرية ستتوسع وتتعدد وسائلها السلمية وينحني لها العالم احتراماً(11).

وفي التصور الجديد لهذا المفهوم تأخذ الساتياغراها صورة القوة الأخلاقية في أسمى صورها، "إن الثبات على الحقيقة يحتاج إلى إرادة كبيرة لا تتوفر لأي كان، لأن هذا الثبات سيتعرض لامتحانات كثيرة، قد تجبر كثيرين على التراجع والتسليم. كما أن الثبات على الحقيقة يتطلب أن يكون الإنسان مستعداً للتضحية وتجشم عناء التعذيب والاضطهاد، وهذا كله يحتاج إلى قوة وإرادة واستعداد للبذل والتضحية" (12). والساتياغراها فوق ذلك كله تجسد مبدأ الحب، إذ لا تدعو أبدا إلى كراهية الخصوم والحقد عليهم، وهذا ما كان غاندي يحثّ أتباعه عليه ويحضهم على كره الإثم وليس الآثم، ووفقا لهذا التصور فإن الساتياغراها تعتمد الحب الإنساني وتركن إليه في مواجهة العنف والكراهية والانتقام.

ومن جديد يجب التأكيد أن الساتياغراها تحتاج إلى ضبط النفس والتحكم بالذات، والصبر وقوة الاحتمال، " فمن يتعرض للأذى بسبب موقفه الثابت على الحق، ولا يرد العنف بمثله، ولا يسمح للبغض أو الرغبة في الانتقام بالتسلل إلى نفسه إنسان قوي جداً، وليس ضعيفاً أبداً (13). والساتياغراها ليست حركة رفض غير واعي لمجرد الرفض، بل هي حركة واعية عاقلة تعرف ما تريد، وتعرف لماذا تقاوم، وبعبارة أخرى ليست حركة فوضى وشغب، بل حركة بناء وتصحيح(14).

لقد عمل غاندي على نشر مبدأ الساتياغراها وتوضيح معالمه، ووجد أن الشعب لن يفهم هذا المبدأ ما لم تقم فئة متنورة واعية من المفكرين والمناضلين باستخدامه بينهم بصورته السليمة الصحيحة، لذلك فقد توجه إلى العمل على إيجاد هذه النخبة المثقفة القادرة على فهم مبادئ الساتياغراها ونشرها بيم الناس بالصورة المثلى لمعانيها ودلالاتها(15).

إن إصرار غاندي على نشر مبدأ (الساتياغراها) يدل على إيمانه العميق بها منهجا للمقاومة، ولا ننسى أن غاندي استخدم الساتياغراها في جنوب إفريقيا حيث كانت حينها بلدا عنصريا، وعندما كان الهنود فيها جالية مهاجرة وهي على صغرها كانت متعددة الطوائف والأعراق والأديان. وعندما عاد غاندي للهند استمر في دعوته إلى فلسفة اللاعنف ومنهجه رغم أن الهند كانت بلداً محتلاً، عمل فيه الإنكليز على تفرقة الناس وإثارة النعرات الطائفية بينهم، وقد وجد غاندي أن العنف يؤدي إلى الخراب والتدمير، بينما يأخذ الثبات على الحقيقة إلى وحدة الشعب الهندي ويجعلهم قوة لا يستهان بها قادرة في النهاية على تحقيق النصر المنشود (16).

وهكذا ووفقا لهذه الصورة فإن اللاعنف الغاندوي يأخذ صورة مبدأ أخلاقي، يرسخه غاندي بقوله:" إنني أؤمن بمبدأ اللاعنف"(17). وهو إذ يؤمن به فلأنه وكما يراه غاندي يشكل المنهج الصحيح في البحث عن الحقيقة، ولذلك يعلن دون تراجع أو تردد بأن اللاعنف هو الطريق الذي يهتدي به الإنسان في بحثه عن الحقيقة، وأن اللاعنف والحقيقية مرتبطان برابطة لا ينفصم عراها أبدا، وكلاهما يشكلان وجهين غير متمايزين لحقيقة واحدة(18).

اللاعنف بين الحكمة والفلسفة:

يأخذ مفهوم اللاعنف كما أشرنا في البداية حضوره المميّز في الحكمة القديمة، حيث يتألق مضيئا في حكمة بوذا وفلسفته (19)، ويأخذ امتيازه الروحي في رسالة السيد المسيح ودعوته. وقد قدّر لهذا المفهوم أن ينتقل من صورته كحكمة إنسانية قديمة إلى هيئته كفلسفة إنسانية واعدة أومضها غاندي بعبقريته الأخلاقية في العصر الحديث.

ولكن حكمة اللاعنف الذي كان بالنسبة لأسلافه من المفكرين أداة فردية لتطهير النفس وتحسين أدائها الأخلاقي اتخذت على يد غاندي صورة منهج فكري وفلسفة للنضال السياسي والاجتماعي ضد الظلم والقهر الذي تعانيه الشعوب. وقد تعددت عوامل تطور هذا المفهوم من مقام الحكمة إلى وضعيته كفلسفة، وتنوعت دلالاته الوظيفية والفكرية، حيث اتخذ صورته الفكرية النضالية الأكثر سموا وتوقدا على يد المهاتما غانديGANDHI (Mohandas Karamchand) 1869-1948 الذي أسس له ليكون منهجا فكريا ونضاليا لتحرير الهند من الاستعمار البريطاني، وإلغاء نظام الطبقات الاجتماعية، وتحقيق المصالحة السياسية والمذهبية بين الهندوس والمسلمين. وقد استحق غاندي في نضاله الفكري السلمي احترام وتقدير الشعوب المناضلة والمفكرين الأحرار في مختلف أنحاء العالم، وقد تجلى هذا التقدير في قول المفكر الأمريكي مارتن لوثر كينغ King Martin Luther (1929-1968):" لقد أحيا المسيح الروح في أعماقنا فعلمنا غاندي كيف نعيشها" «Le Christ a fourni l’esprit, Gandhi a montré comment l’utiliser»(20).

لقد برهن غاندي عبر نضاله السلمي أن مفهوم اللاعنف بأبعاده الإنسانية يشكل أداة حقيقية في الصراع من أجل الحق والعدالة ونصرة المستضعفين والمظلومين، وبرهن أيضا أن هذا المفهوم يمتلك قدرة هائلة في تحقيق الأغراض السياسية والاجتماعية للشعوب المستضعفة في مختلف أنحاء العالم. وانطلاقا من النجاح الكبير الذي حققه غاندي في توظيفه النضالي لمفهوم اللاعنف، بدأ هذا المفهوم يُستخدم كأداة نضالية في عدد كبير من بلدان العالم في الأمس واليوم، لقد استخدمه الأيرلنديون في نضالهم من أجل الاستقلال، ووظفه السود في الولايات المتحدة الأمريكية من أجل حقوقهم السياسية والمدنية، وتبناه الشعب الفرنسي لتحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي، وما زال هذا المفهوم يطرح نفسه بأدواته الفاعلة مشروعا إنسانيا نضاليا تتبناه الشعوب المغلوبة على أمرها في مواجهة مختلف أشكال والظلم والقهر الإنساني(21).

فاللاعنف، وفقا لغاندي، برنامج نضال متكامل، إنه سلاح حقيقي فاعل يمكن للضعفاء والمقهورين أن يوظفوه في معاركهم الإنسانية من أجل الحق والخير والسلام، ويمكنهم أن يستلهموه قوة قادرة على إحياء الوعي الأخلاقي للجماهير، وتثوير الرأي العام، وفضح الجرائم الأخلاقية للظالمين، وإيقاظ الضمائر، وإحياء القلوب الميتة، وفتح العيون الهاجعة، وهو في النهاية، وعندما يحسن استخدامه، يؤدي إلى إضعاف عزيمة المعتدي وهزم إرادته، وكسر شوكته ودفعه إلى طاولة الحوار والبحث عن السلام.

4- جبروت اللاعنف وقوته: اللاعنف ليس ضعفا واستسلاما

يقول غاندي «يمكن لمجموعة صغيرة من الشجعان بعزيمتها وإيمانها أن تغيّر مجرى التاريخ»(22). وكان يؤكد دائما " بأن أعتى نظام سياسي يمكن إسقاطه بدون سفك قطرة دم واحدة" (23). ويتضح هذا الأمر في قول الفيلسوف البريطاني برتراند راسل الذي رفض الاشتراك في الحرب العالمية الأولى: "إذا استعمل شعب بأسره المقاومة السلبية بإصرار وإرادة عازمة وبنفس القدر من الشجاعة والانضباط اللذين يظهرهما الآن في الحرب، فبإمكانها أن تحقق حماية أكبر وأتم لكل ما هو جيد في الحياة العامة مما تستطيع أن تحققه القوات البرية والبحرية وبدون أي من تلك المجازر والخسائر ومشاهد القسوة التي ترتبط بالحرب الحديثة"(24).

لقد أوضح غاندي، في كثير من المواقف والرؤى والاتجاهات، أن اللاعنف ليس عجزا أو ضعفا أو استسلاما أو هزيمة بل هو كما يقول:" أعظم قوة متوفرة للبشرية، إنه أقوى من أقوى سلاح دمار تم تصميمه ببراعة الإنسان". وهو بذلك يوضح بأن اللجوء إلى العنف قد يكون مبررا ومشروعا في حالات معينة حيث يقول: "إنني قد ألجأ إلى العنف ألف مرة إذا كان البديل القضاء على عرق بشري بأكمله". فالهدف من سياسة اللاعنف في رأي غاندي هي إبراز ظلم المحتل من جهة وتأليب الرأي العام على هذا الظلم من جهة ثانية تمهيدا للقضاء عليه كلية أو على الأقل حصره والحيلولة دون تفشيه.

وفي هذا تقول سونيا غاندي رئيسة الائتلاف التقدمي الموحد في الهند: " يعتقد البعض أن اللاعنف هو دليل على الضعف أو الجبن، ولكن هذا بعيد تماما عن الحقيقة. إن اللاعنف يتعدى المقاومة السلبية أو العصيان المدني، فتتطلب ممارسته الحقيقية انضباطا صارما للعقل، وشجاعة لمواجهة العدوان، وقناعة أخلاقية لمواصلة المسيرة، والقوة لتنفيذ ذلك دون الشعور بأي حقد على الخصم"(25).

وغالبا ما يجري الخلط بين اللاعنف وبين السلبية والاستسلام، ولكن الأمر ليس على هذه الصورة أبدا، فاللاعنف شيء آخر مختلف تماما عن معنى السلبية والاستسلام، إنه وإن كان فعلا مسالما لاعنف فيه، فإنه نشاط حيوي فاعل ومؤثر، يمتلك طاقة حيوية من القوة والقدرة والاقتدار، ويتطلب في الوقت ذاته درجة عالية من السيطرة وضبط النفس، من أجل تحقيق مراميه الإنسانية. فالتمرد، ورفض الإذعان والخضوع، وعدم التعاون مع الظالم، والإضراب والمظاهرات، والاحتجاجات، والمسيرات، والاعتصامات، والندوات الفكرية المناهضة، هي في جوهرها صيغ من الممارسات التي يقتضيها مفهوم اللاعنف بدلالاته الإنسانية.

ومما لا شك فيه أن اللاعنف يمارس القوة والضغط والإكراه، ولكن ممارسة هذه القوة تجري في سياق مسار إنساني يتحلى بالقيم الأخلاقية ويستلهم معانيها، إنه عنف أخلاقي يستهدف إحياء الضمائر وتحريك الوجدان؛ فاللاعنف يمتلك أدواته وقوته إنه سلاح، ولكنه سلاح إنساني بامتياز لأنه يجعل الآخر أكثر إنسانية ويحرّض فيه كل المعاني المفترضة في الإنسان. وهو بذلك يتميز بنبله وأصالته وتفوقه الأخلاقي حيث يتم استخدام المعايير الأخلاقية الأفضل في حركته وفعله وممارساته. وعندما يحدث أن يجري العمل وفقا للمبدأ الأنوي الذاتي بعيدا عن مبدأ الحوار مع الخصم فإن الأمر يتحول إلى سياسة وليس إلى ممارسة لمبدأ اللاعنف بتعيناته الحقيقية. ولكن هل حقا يمكن للعنف أن يكون حلا مثاليا لمختلف أشكال الصراعات؟ وهل يمكن لهذا المفهوم أن ينمي لدى الأفراد وعيا أخلاقيا ليس له وجود في الحالة الفطرية للإنسان؟

5- اللاعنف طاقة روحية:

يومض اللاعنف بطاقة روحية تكره الخصم على التفكير وتدفعه لمراجعة الذات ووضعها في موضع التساؤل. وتكمن قوة اللاعنف هنا في قوة الحقيقية والعدالة التي تفرض هيمنتها على الناس والأفراد. فالخصم كما يراه غاندي ليس عدوا يجب الانتصار عليه، بل رجلا ضالا غافلا يجب صدمة وإيقاظه من غفلته وغفوته. وهنا نجد غاندي لا يدعو إلى الحقد على الخصم أبدا، بل يدعوا إلى الشفقة عليه دائما. فاللاعنف يهدف إلى الكشف عن أخطاء الخصم وإصلاحها واستبعاد المفاهيم الخاطئة غير الأخلاقية لديه. وبالتالي فإن الإنسان الذي لا يجد في نفسه الكفاءة على تمثل هذه الرؤية لا يمكنه أن يتابع النضال من أجل العدالة والسلام. فالعنف غالبا ما يكون ردة فعل على عنف الخصم واحتمالاته، وهو العنف الذي يجد في العنف المضاد تبريرا له، ولكن عندما يصطدم هذا العنف بالفراغ فإنه يعقلن نفسه وتتبدد قوته. وهنا يمكن القول بأن قلب الإنسان هو ميدان اللاعنف ومجاله الحيوي. فاللاعنف يمارس قوته ولكنه يستهدف الجانب الإنساني والوجداني في الإنسان.

إذا جارينا ما يذهب إليه الفيلسوف الإنكليزي هوبس Hobbes (Thomas) 1588-1679 بقوله إن " الإنسان ذئب الإنسان" «l’homme est un loup pour l’homme» فإنه لا يوجد حلّ آخر سوى استخدام كل الوسائل المتاحة من أجل القضاء على هذا الذئب الذي يهددنا(26). ولكن مفهوم اللاعنف لدى غاندي وعلى خلاف رؤية هوبس يريد أن يثق بالمبدأ الأخلاقي، وقد يكون هذا المبدأ مدفونا غائرا غائبا ولكنه بالتأكيد موجود في قلب الخصم. ووفقا لهذا التصور فإن المعركة ليست معركة فيزيائية بين طرفين متعارضين: بل في صميم الصديق والخصم حيث يجب على الإنسان أن يتحرر من هيمنة الغرائز البدائية والأولية التي تمنعه من إطلاق الوجدانية الكامنة فيه.

فاللاعنف لا يهدف أبدا إلى سحق الخصم ومغالبته، بل إلى الانتصار على الشر الذي ينمو في قلبه مانعا إياه أن يكون كما يجب أن يكون الإنسان. وإذا كان الناس قد تورطوا في أعمال الشر واستخدموه، فإن فلسفة اللاعنف تدرك هذه الحقيقة وتدفع مريديها إلى العمل على تطهير النفس الإنسانية من أدرانها وأوجاعها الكامنة في الشر والحقد والكراهية. وهكذا تأخذ فلسفة اللاعنف صورة منهج أصيل يعمل على تحريض الخصم على الحوار والتأمل مع ذاته ومع خصومه. وهنا تكمن الوسيلة الوحيدة لكسر حلقة العنف وتكره ممارسيه على التراجع. وذلك لأن الرد على العنف بالعنف وعلى الشر بالشر يزيد العنف عنفا والشر شرا. ولكن وعلى خلاف ذلك فإن اللاعنف يدفع بقوته الروحية أنصاره إلى التماهي مع قيم السلام والخير والسلام. فالشر لا يوقفه الشر بل الخير هو الذي يستطيع أن يواجه نزعة الشر وطفرته كما يقول بوذا.

6- نوعية اللاعنف:

ينبع اللاعنف ينبع من قوة الحقيقة، ويعمل على تطوير العمق الداخلي للإنسان والارتقاء به. فاللاعنف لا يختزل إلى مجرد فعاليات آنية تكتيكية أو تقنية للصراع، بل هو تدفق روحي وانسياب وجداني داخلي يتجلى في طلب الحق والعدالة. ومع ذلك فإن اللاعنف يتطلب في الوقت نفسه تفكيرا وتأملا وتماسكا، وهو نتاج تخطيط بعيد المدى يأخذ في حساباته الأسباب والنتائج. فكل عدوان يولد ضغطا نفسيا وإحساسا بالإكراه وهنا يتوجب على الإنسان المسالم أن يضبط اندفاعاته المضادة للعدوان ويسيطر عليها، وهذا السلوك المنظم غالبا ما يأخذ طابعا اجتماعيا إذ يتجلى في نضال الطبقات الاجتماعية والأمم المغلوبة. وبالتالي فإن كبت الدوافع العدوانية يتطلب قدرة كبيرة على ضبط الأنا والسيطرة عليها. وهنا يجب تصحيح فكرة خاطئة: فاللاعنف لا يعني أبدا أن الإنسان المؤمن به هو كائن سلبي دائما، بل وعلى خلاف ذلك يتميز اللاعنفي بأنه مناضل شرس في البحث عن الحقيقة والكشف عن المظالم ومحاصرة الظالمين. ومن أجل ذلك يجب على المرء أن يحظى بالشجاعة والقدرة على التضحية الإنسانية التي تفوق تضحية الشهداء في ساحات الحرب.

وهنا يميز لانزا ديل فاستو بين البطولة في ساحة المعركة والبطولة الأخلاقية، ففي المجال الأخلاقي تتمّ مهاجمة الشر في النفس، بينما يهاجم الإنسان أخاه الإنسان في ساحة الوغى. فالإنسان الذي يؤمن بمبدأ اللاعنف يطلب العدالة من خلال القوة الداخلية الكامنة فيه، وإذا ما تعرض للموت فإنه يعي تماما بأنه قد أخذ على عاتقه بأن يتحّمل هذا الأمر بدلا من أعدائه وجلاديه. فاللاعنف مطهم بكل الدوافع الإيجابية الخلاقة المفعمة بالشجاعة والعزيمة والقوة. فاللاعنفي يقدم نفسه قربانا على مذابح الحرية والعدالة والحق والخير والجمال. إنه شهيد يَصفح لجلاده، ويعمل على بناء الخير المطلق في النفوس، وذلك عبر القوة الروحية التي تنطلق من القلب وتستقر في الوجدان. وفي الحقيقة فإن اللاعنفي(معتنق اللاعنف كصيغة للنضال) يمتلك قوة تربوية هائلة إنه يعلم ويربي ويضرب مثلا في معاني الحق والحرية والجمال.

إن الابتزاز العاطفي والأخلاقي شكل مرفوض في منهج اللاعنف، فالتهديد والوعيد والابتزاز عمليات لا قيمة لها ولا معنى في الصراع المسالم، لأن هذه الممارسات ليست ممارسة روحية بل هي نوع من الاحتيال الزائف لتحقيق المصالح الخاصة والأنانية. واللاعنف لا يهدف أبدا إلى تحقيق مصالح خاصة أنانية، إنه جهاد اجتماعي مكرس لتحقيق أهداف إنسانية تتميز بنبلها وسموها. وفي هذا الأمر يقول غاندي " يمكنني أن أصوم ضد أبي من أجل أن يشفى من مرض أو عيب ولكنني لا أستطيع أن افعل ذلك من أجل أن أحظى بتركته ". فالعنف الأخلاقي وسوء المعاملة ليست سلاحا مشرفا، إنه أداة تستخدم للقهر وليس لتحرير الإنسان ومخاطبة النزعة الإنسانية فيه. فاللاعنف دائما ما يجلجل نفسه بألوان النظام الروحي وشفافيته، وهو لا يمثل خطرا أبدا بل يدفع عن الإنسانية كل خطر ممكن وينمي في الإنسان قواه الإنسانية الخلاقة. وهكذا فإن اللاعنف يفقد سموه الأخلاقي وعمقه الفلسفي وطابعه الإنساني إذا لم يأخذ صورة غاية إنسانية عليا تتصف بسموها وصفائها.

لقد أوضح غاندي في كثير من محطاته المنيرة بأن النضال السلمي قد يخفق أحيانا إذا كان الخصم الذي يمتلك قوى قاهرة جبارة بلا ضمير أو أخلاق وهنا يجد أنصار اللاعنف أنفسهم أمام الموت المحتم. والسؤال هنا هل يجب على أنصار اللاعنف أن يتراجعوا ويتخلوا عن غايتهم الإنسانية إزاء هذه القوة الجبارة؟ وجواب غاندي هو لا وألف لا "بل يجب عليهم في هذه الحالة أن يتسلحوا ويقاوموا وإذا لم يكن هناك خيار أبدا إلا العنف فإنني أنصح بالعنف" ومع ذلك كله فإنه وفي مواجهة العنف المعاصر فإن غاندي ينصح بالعودة إلى قوة الروح.(27).

وهنا بالتحديد يؤكد جان ماري ميللر أن اللاعنف قوة حقيقية وليس مجرد حب مسالم، أنها قوة تمارس الضغط من غير عنف، وقد بينت التجارب أن اللاعنف قد أثمر نتائج غالبا ما كانت مجدية، وهذا ما برهن عليه سيزار شوفيرز، والمدافعون عن حقوق العمال المكسيك في كاليفورونيا، حيث نجحوا في حملة مقاطعتهم للعنب والخمور في تحقيق النتائج المرجوة وتغيير الوضعية القائمة. والوضع هنا يتعلق بوضعية من اللاعنف (المسلح) الذي يشكل أداة المجتمع من أجل الحصول على نتائج عاجلة: وبدلا من نداء القلب يمكن العمل على مخاطبة المصالح ومن أجل ذلك يتم تنظيم اللعبة، وبعدها يتم تحريض العدد الكبر من الناس من أجل التعاون والمشاركة.

7- تجارب غاندي النضالية:

لقد بدأ غاندي حركته النضالية في جنوب إفريقيا، حيث عمل محاميا مدافعا عن حقوق العمال الهنود المهاجرين ضحايا التمييز العرقي، واستمر نضاله الإنساني ضد الظلم والقهر حتى استشهاده في وطنه الهند 1948. لقد ناضل غاندي ضد الحكم البريطاني في الهند، ومن أجل حقوق المنبوذين وضد الحروب الدامية بين المسلمين والهندوس مناديا بالحرية والسلام، واستطاع عبر نضاله هذا أن يسجل أعظم سيرة نضالية في العصر الحديث.

8- مسيرة الملح:

تعد مسيرة الملح من أكثر التجارب النضالية أهمية وخطورة في العصر الحديث، لقد أصبحت هذه المسيرة ملحمة تاريخية من ملاحم النضال السلمي في العالم أجمع. ففي فبراير (شباط) 1930، أعلن حزب المؤتمر الهندي، بزعامة غاندي، العصيان المدني للحصول على الحكم الذاتي، عبر رفض دفع ضريبة الملح التي فرضها البريطانيون، والسير نحو مصنع الملح في داندي رفضا لاحتكار البريطانيين لصناعة الملح في البلاد، وتأكيدا لحق الهنود في القيام بتصنيع الملح بأنفسهم، بل واستعادة السيطرة على كل الصناعات الوطنية التي تحتكرها بريطانيا. وكتب غاندي، وكان يبلغ 61 من عمره في ذلك الحين، في جريدة «يانج انديان» (الهندي الشاب) الأسبوعية، التي كان أسسها قبل ذلك بسنة «ربما فكر البريطانيون في ظلم كل هندي بفرض ضريبة على الماء، ثم وجدوا أن ذلك مستحيلا. ولهذا فرضوا ضريبة على الملح، وبدؤوا ظلما قاسيا لمئات الملايين من الجوعى والضعفاء».

قبل المسيرة بشهر، أي في فبراير (شباط) 1930، أرسل غاندي خطابا إلى اللورد اروين، حاكم الهند البريطاني، قال فيه «صديقي العزيز، فكرت لسنوات كثيرة قبل أن أبدأ هذا العصيان المدني، لكني وجدت انه الطريق الوحيد حتى تبقى الهند كدولة، وحتى لا يموت الهنود من الجوع» (...)« إننا نريد الحرية نفسها التي يريد تشرشل من البريطانيين أن يموتوا في سبيلها».

وفي الشهر التالي، وعندما لم يتسلم غاندي ردا، اجتمع حزب المؤتمر الهندي، وقرر أن موضوع الملح يؤثر على كل الهنود تقريبا، وانه سيساعد على جمع عدد كبير من الناس. وكانت بريطانيا، كلما واجهت مشاكل مالية وعجزت عن الصرف على حكومتها في الهند، خاصة وقت الحروب، تزيد الضرائب على الهنود، وبالتالي عندما واجهت صعوبات مالية في العشرينات أصدرت قانونا يخول لها احتكار صناعة وبيع الملح، وتضمن القانون عقوبة بالسجن ستة شهور على كل من يصنع ملحا، وعلى كل من يذهب إلى البحر لصناعة الملح.

وفي أول خطاب، يوم بداية المسيرة من احمد آباد، خطب غاندي في المسيرة فقال انه «نقسم بأننا إما سننال استقلال الهند، أو ندخل السجون. ونقسم أن استقلال الهند سيتحقق بدون عنف». وفي ثاني يوم للمسيرة، في قرية ذابان، قال إن «في الهند ثلاثة أرباع مليون قرية، وإذا تطوع عشرة رجال من كل قرية لصناعة الملح لقريتهم، لن نحتاج إلى ملح البريطانيين». وفي رابع يوم، في قرية فاسانا قال «أعاهدكم بأن يوما سيأتي يعتذر فيه البريطانيون لنا على ما فعلوا بنا».

وفي سادس يوم، في قرية بوريافي، قال: «لن نؤذى أي مسؤول بريطاني. نعم، يحكموننا، لكنهم ضيوفنا». وفي اليوم الخامس والعشرين، في قرية تارسالا، قال انه سيقضي «هذه الليلة في منزل أخ مسلم بناء على دعوته». وقال: «يجب ألا نعطي البريطانيين الفرصة ليقسمونا إلى مسلمين وهندوس». واستمرت هذه المسيرة السلمية خمسة وعشرين يوما (من 12 مارس حتى 6 أبريل )، وعندما وصلت المسيرة إلى البحر، نزل غاندي البحر ورفع صخورا مالحة، رمزا لتحدي قانون الملح، وبداية لسبع عشرة سنة من العصيان المدني ضد الاختلال البريطاني. وخطب غاندي إمام إتباعه بأن الهدف «ليس فقط إعلان العصيان المدني في الهند، ولكن، أيضا، إقناع الشعب البريطاني نفسه بالعصيان المدني بعد أن يتضح لهم الظلم الذي يلحق بالشعب الهندي. واستطاع في النهاية عبر هذا النضال المسالم إلى خضوع السلطات البريطانية وتوقيع معاهدة دلهي(28).

9- الصيام حتى الموت:

ولاحقا في عام 1932 أبدع غاندي طريقة جديدة في النضال أطلق عليها الصيام حتى الموت، حيث قرر غاندي البدء بصيام حتى الموت احتجاجا على مشروع قانون يكرس التمييز في الانتخابات ضد المنبوذين الهنود، مما دفع بالزعماء السياسيين والدينيين إلى التفاوض والتوصل إلى "اتفاقية بونا" التي قضت بزيادة عدد النواب "المنبوذين" وإلغاء نظام التمييز الانتخابي.

وقد وجدت هذه المنهجية السلمية التي اعتمدها غاندي طريقها إلى كثير من بلدان العالم حيث تبناها كينغ في نضاله من أجل المساواة بين السود والبيض في وسائل النقل العام في عام 1955. وقد شكلت هذه الطريقة منهجية سياسية تعتمد المسالمة مبدأ أساسيا في الصراع من أجل المبادئ والحق والعدالة.

ومما لا شك فيه أن الرفض والتمرد وعدم وجود التعاون الجمعي يؤدي إلى اضطراب السلطة وخوفها. وعندما يشارك الشعب بقوة وحماسة في النشاط اللاعنفي السلمي فإن هذا يؤدي إلى شلل في الحياة العامة للبلاد. وماذا يمكن للسلطة أن تفعل إزاء أناس يتدافعون كالجحيم دون خوف من عصي رجال الأمن وهراواتهم، إزاء قوم ر يرهبون الموت أو السجون؟ والسلطة عندما تواجه جحافل المتدافعين إلى الموت من أجل حقوقهم تفقد صبرها وبرودة دمائها وتبدأ بتوظيف العنف المهين ولكنها في النهاية تضعف وتستكين وتخضع لإرادة الشعب الشاملة.

وعندما انفجر العنف بين الهندوس والمسلمين في «كلكتا»، وسالت الدماء، أعلن غاندي «الصيام». حتى إذا شارف على الموت، دخل عليه رجل مفجوع بولده وألقى إليه بقطعة خبز وقال له: كل حتى لا أكون سببا في موتك. تابع: هل تعلم ماذا فعلوا بابني؟ لقد قتلوه. وأنا قتلت من قتل ابني؟ نظر إليه غاندي برحمة وهو بالكاد يفتح عينيه من الإعياء وقال له: هل أدلك على ما هو أفضل مما فعلت فيأخذك إلى الجنة؟ عليك أن تأخذ الولد الذي قتلت أباه فتربيه على الدين الذي كان أبوه يريد أن ينشئه عليه. اغرورقت عينا الرجل بالدموع، وانكب على قدمي غاندي فقبلهما. وعندما توقفت مظاهر العنف في كلكتا، وهدأ الناس عن ذبح بعضهم بعضا، فقال غاندي لمن حوله: أعطوني كأسا من الليمون. بعدها بقليل، قرر غاندي أن يزور باكستان وهو يقول، "سوف أكشف عن الشيطان الموجود في قلوب الهندوس والمسلمين"(29).

10- العصيان المدني:

في عام 1922 قاد حركة عصيان مدني اشترك فيها المسلمون والسيخ والهندوس فتصاعد الغضب الشعبي إلى ذروته، فحدث الصدام الدموي بين الجماهير وقوات الأمن والشرطة البريطانية، وعندها أعلن غاندي الصيام احتجاجا على سفك الدماء ووقوع القتل، فجاءه نهرو وهو لا يصدق، وسأله هل تريد منا إيقاف المظاهرات وقد عمت كل البلد وليس بيننا وبين طرد بريطانيا إلا شعرة؟ قال غاندي ليس المهم طرد بريطانيا بل طرد الشيطان من قلوبكم، وليس المهم أن يتظاهر الناس، بل المهم كيف يتظاهرون سلميا بدون قتل؟ واعتبر (نهرو) يومها أن هذه سذاجة كبرى في علم السياسة. ولكن غاندي طلب من (نهرو) فك المظاهرات واستمر في الصيام حتى توقفت المظاهرات، ثم طلب (غاندي) أن يعتذر المتظاهرون علنا لمركز الشرطة وطلب الصفح وتقديم التعويض عما حدث!(30). ومع ذلك وجهت ضده تهمة الإثارة ضد الدولة والعصيان واعتقل وسجن وعذب في المعتقلات البريطانية لأربعة سنوات متتالية.

لقد وهب الزعيم الهندي المهاتما غاندي حياته لنشر سياسة المقاومة السلمية أو اللاعنف واستمر على مدى أكثر من خمسين عاما يبشر بها، وفي سنوات حياته الأخيرة زاد اهتمامه بالدفاع عن حقوق الأقلية المسلمة، وتألم لانفصال باكستان وحزن لأعمال العنف التي شهدتها كشمير، ودعا الهندوس إلى احترام حقوق المسلمين مما أثار حفيظة بعض متعصبيهم فأطلق أحدهم رصاصات قاتلة عليه أودت بحياته(31).

11- تأثير غاندي:

شكل فكر غاندي وعقيدته النضالية مدرسة فلسفية كبرى في مفهوم التسامح والنضال السلمي في العالم أجمع. وهناك إجماع فكري عالمي على سمو وعظمة الفلسفة التي أوقدها غاندي في مجال النضال السلمي لتحرير النفوس والأوطان. لقد ترك تأثيرا ينقطع نظيره في ميدان الفكر والممارسة. ويعد كل من رومان رولاند Romain Rolland ولانزا ديل فاستو Lanza del Vasto (32) ولوي ماسينيون Louis Massignon من أوائل المفكرين الفرنسيين الذين تأثروا بعقيدة غاندي ومنهجه الإنساني. وكان لأفكاره قبيل الحرب العالمية الأولى دور كبير في توجيه نشاط جان جيينو Jean Giono الذي تعرض للاعتقال مع رفاقه على أثر تمرده المدني في عام 1939.

وقد عَرف مفهوم اللاعنف صعودا جديدا مميزا في عام 1955 في مونتغومري في ألاباما Montgomery en Alabama في الولايات المتحدة ألأمريكية على يد المفكر الإنساني والقس المعروف مارتن لوثر كينغ Martin Luther King حيث ناضل من أجل المساواة والعدالة الاجتماعية للسود الأمريكيين في عصره. وقد لعب النجاح الكبير الذي حققه كينغ في مستوى الولايات المتحدة الأمريكية أن يعزز مسيرة كينغ وأنصاره في مسار النضال المسالم (اللاعنف)، وذلك على الرغم من معارضة قادة السود الذين انتصروا للعنف في نضالهم وصراعهم. ففي عام 1968 قتل كينغ في ممفيس Memphis على أثر مسيرة سلمية من أجل المطالبة بحقوق عمال النظافة في المدينة(33).

واستمر تأثير منهج غاندي المسالم في عدد من بلدان العالم ولاسيما في فرنسا حيث اتقدت المعارضة الشعبية السلمية ضد الاحتلال الفرنسي للجزائر. وقد تأثر فاستو Lanza Del Vasto بغاندي فقاد مظاهرات مسالمة على صورة مسيرات صامتة، وإضرابات عن الطعام، وإقامة مخيمات للمعارضة السلمية ..الخ. وقد ظهرت حركات مسالمة ضد الخدمة العسكرية والضرائب وضد كثير من مظاهر الحياة الاجتماعية في أوروبا وغيرها من البلدان الغربية .

وفي هذا السياق يشار إلى دانييلو دولسي Danielo Dolci الذي أسس عام 1952 حركة مسالمة (غير عنيفة) من أجل إرهاف الرأي في صقلية بأوضاع الأحياء الفقيرة في باليرم Palerme. وفي الهند قام تلميذ غاندي Vinoba Bhave بالمشاركة مع الشباب الهندي ورجال الدين بالنضال السلمي(غير العنيف) من أجل الحصول على ملكيات عقارية كبيرة لصالح الفلاحين الفقراء. وفي البرازيل قام هيلدر كاميرا Helder Camara بتأسيس رابطة من أجل العدالة والسلام في عام 1968 وكان هدفها تنمية الثقافة السلمية والأخلاقية عند الأغنياء والفقراء. وفي يوغسلافيا ظهرت صيغ متطورة ومتطرفة للنضال السلمي(الانتحار حرقا كما حدث لـ إيان بالاش Ian Palach ). وهذه الحركات النضالية المسالمة ظهرت في فيتنام وفي الولايات المتحدة الأمريكية ولاسيما ثورة الطلاب ضد الحرب على فيتنام وغير ذلك من أشكال النضال السلمي.

وباختصار يمكن القول بأن منهج غاندي للنضال السلمي قد تحول إلى أداة نضالية في متناول الشعوب المظلومة والمغلوبة على أمرها من أجل العدالة والحق والمساواة. وهكذا فإن مفهوم اللاعنف قد سجل حضوره في التاريخ الإنساني قوة هائلة تستلهمها الشعوب المظلومة كطاقة ثورية من أجل العدالة والحرية. لقد أطلق غاندي قوة فكرية إنسانية هائلة لتحرير الشعوب وهذا ما حدا بـ رومان رولاند بأن يشبه فكر غاندي بتسونامي هائلة انطلقت من أعماق الشرق ولكنها لن تسقط إلا عندما تغمر العالم برمته(34). لقد نجحت إستراتيجية اللاعنف في السنوات الأخيرة في شيلي وجنوب أفريقيا وبولونيا والمجر وبورما وأوكرانيا وجورجيا. وكذلك استعمل اللاعنف لإسقاط نظام الطاغية سلوبودان ميلوسوفيتش في صربيا. وقد مارست فلسفة اللاعنف تاريخيا دورا هائلا في نضال الشعوب ولاسيما عندما طُبقت ببراعة وذكاء ولم يكن أدل على قوتها إلا القمع الذي استخدمه الخصوم في مجابهتها ومواجهتها(35).

12- خاتمة:

رسخ غاندي منهجا عبقريا للنضال السلمي العالمي وشيد له مملكته الفلسفية. وأصبح اللاعنف عنوانا لفكر غاندي ورمزا لنضاله الإنساني. ومن البداهة اليوم أن اسم غاندي يرتبط برمزية السلام والكفاح من أجل الحق والحرية. وليس غريبا أن تخصص الأمم المتحدة إكراما لغاندي يوما احتفاليا للكفاح السلمي كل عام تحت شعار اللاعنف يصادف يوم ميلاده.

وإننا في حيّز هذا الاختتام الصعب نريد القول بأن فلسفة اللاعنف عند غاندي ليست مجرد فلسفة نضالية من أجل السلام والحرية بمعناها السياسي. لقد أراد غاندي فوق ذلك كله أن تكون فلسفته نداء داخليا لتطهير النفس الإنسانية وصقلها وتحريرها من كل أشكال الكراهية والحقد والتعصب. لا بل أن غاندي اشترط أن النضال من أجل الحرية الوطنية لا يمكن أن يكون إلا بتطهير القلوب وصفاء الضمائر وصقل الوجدان. وهذا يعني بأن فلسفته كانت تحريرا للذات والنفس قبل أن تكون تحريرا للمجتمع من الظلم والقهر والعدوان.

ومن أجل أن نختتم هذه الدراسة حول مفهوم اللاعنف وفلسفته النضالية عند غاندي وجدنا أنه لمن المناسب أن نستعرض بعضا من حكمته الإنسانية ومواقفه الفكرية إزاء الحق والعدالة والحرية. فأقوال غاندي كلماته وأفكاره تشكل اليوم ملحمة مضيئة من الحكمة الإنسانية.

وإذا كان من بداية للقول فإن ما يتقدم هو إعلانه عن إيمانه المطلق بمبدأ اللاعنف حيث يقول:" "إن اللاعنف هو البند الأول لإيماني والبند الأخير في مذهبي"(36). ولكم هي كلماته مثقلة بالمعاني الخفية والذكية عندما يقول "إن النصر الناتج عن العنف هو مساوي للهزيمة"، فالحرب دامية كان من كان المنتصر فيها وبالتالي فإن الانتقام والرد على العنف بالعنف كارثة إنسانية حيث يقول: "إن العين بالعين تجعل العالم بأكمله أعمى" .

وإذا كان يؤكد دائما وأبدا بأن العنف هو عملية تطهير للنفس وتنقية لها من أدران الحقد والكراهية والتعصب فما أجمل قوله في تمجيد القانون الأخلاقي القابع في النفس حيث يقول:" إنني أرفض الخضوع للقانون وذلك ليس لنقص في قدرتي على احترام القانون بل لأنني أخضع إلى القانون الأسمى وهو قانون العقل الإنساني". وهو في هذا المسار ومن أجل أن يؤكد هذه الطهارة النفسية وضرورتها يؤكد أهمية تحرر الإنسان من الخوف من الموت في صراعه من أجل الحياة يقول وكم هو رائع قوله: "أنا مستعد لان أموت، ولكن ليس لدي ولن يكون أبدا أي استعداد للقتل"، وهكذا يقرر بأن الحرية هي الاستعداد للموت لأن في هذا الاستعداد يستطيع الإنسان أن يتحرر من الخوف المطلق ويبلغ نشوة الانتصار على الذات الإنسانية. ولم ترهبه أشواك الموت وأشراكه بل كان دائما على أهبة الاستعداد لهذا الموت الذي خطفه في النهاية إلى قائمة شهداء العقل والفكر والحرية، فكانت شهادته تتويجا لرحلته النضالية المفعمة بالعناء والعطاء في سبيل الحق والحرية.

لقد أراد كما أراد (كانط) من قبله أن يكون القانون الأخلاقي كليا شاملا فالخير هو خير الإنسانية كلها والشر بأي صيغة هو شرها بالمطلق ومن هنا كان يعتقد بأن الجريمة أية جريمة هي إجرام ضد الإنسانية وفي هذا يقول " إن أية جريمة، أو إصابة بغض النظر عن القضية، ارتكبت أو سببت لشخص آخر هي جريمة ضد الإنسانية". وكم هو قوله هذا جميل ومجانس لقول ماوتسي نفسه" أن تقتل إنسانا من أجل خير العالم أمر يتناقض مع خير العالم، ولكن أن تتألم وتضحي بنفسك من أجل العالم ذلكم هو الخير كله"(37).

لقد حرر شعبه وبرهن لتشرشل حقيقة يجهلها وهي أن الحرية مطلب إنساني لكل الشعوب، وأن في طلب هذه الحرية تهون النفوس حيث يقول في رد له على تشرشل "إننا نريد الحرية نفسها التي يريد تشرشل من البريطانيين أن يموتوا في سبيلها». وتلك هي الحقيقة الصارخة، ألم يقض غاندي نفسه فداء للحرية التي كان يطلبها لشعبه ويضحي بحياته من أجل الكرامة الإنسانية؟

إن فكرة اللاعنف التي أسسها غاندي تزداد رسوخا وثباتا مع الأيام، وفلسفته المسالمة أصبحت اليوم مدرسة إنسانية وفكرية ينهل من عطائها الإنسان المعاصر في مختلف أنحاء المعمورة. إن نجاح أسلوب اللاعنف على امتداد الساحة العالمية يحرك يضع شعوبنا اليوم على المحك التاريخي في قدرتها على ابتداع أساليب سلمية لتجفيف أرض الوطن العربي من دماء الأبرياء وتطهير القلوب من داء الطائفية والتعصب.

***

علي أسعد وطفة

جامعة الكويت- كلية التربية

....................

مراجع الدراسة:

(1) - المهاتما لقب نسب إلى غاندي ويعني أي صاحب النفس العظيمة.

(2) - الموسوعة الحرة ويكيبيديا، مهاتما غاندي، http://ar.wikipedia.org/.

(3)- لم ترق دعوات غاندي للأغلبية الهندوسية باحترام حقوق الأقلية المسلمة، فأخذته بعض الفئات الهندوسية المتعصبة بالخيانة العظمى فقررت التخلص منه، حيث قام أحد الهندوس المتعصبين باغتياله فسقط شهيدا عن عمر يناهز 79 عاما في 30 يناير/كانون الثاني 1948

(4) - Regarde: W. BORMAN, Gandhi and Non-Violence , State Univ. of New York Press, 1986.

(5) - عظة الجبل أو الموعظة على الجبل، بحسب إنجيل متى: الإصحاحات الخامس والسادس والسابع، هي عظة استثنائية ألقاها يسوع حوالي عام 30م على تلاميذه وحشد كبير م الناس.

(6)- أتيلا الهوني (Attila The Hun) ملك وفاتح تركي قديم عاش ما بين (406-453 م) كان آخر وأقوى حكام الهون و الهون (Huns) هم أجداد الأتراك.

(7) - انظر: غاندي،موهندس كرمشاند (المهاتما)، موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، المجلد الرابع، الطبعة الأولى 1986،

(8) سافر غاندي وعائلته إلى جنوب إفريقيا عام 1893، وسكن ولاية "ناتال" الواقعة على المحيط الهندي، مقيماً في "دوربان" التي عُرفت بصناعة السكر والتبغ والفحم، وعمل محاميا مدافعاً عن حقوق عمال الزراعة الهنود والبوير العاملين في مزارع قصب السكر.

(9) - H. THOREAU, Du devoir de désobéissance civile (Civil Disobedience , 1849), trad. G. Brailion-Zeude, Seghers, Paris, 1965.

(10) - انظر: غاندي،موهندس كرمشاند (المهاتما)، موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1986، 31 – 32.

(11) - غاندي، موهندس كرمشاند (المهاتما)، موسوعة السياسة، المرجع السابق .

(12)- رغداء زيدان، غاندي والساتياغراها، http://www.grenc.com/a/Rzaydan/show_Myarticle.cfm?id=8991

(13) - رغداء زيدان، غاندي والساتياغراها، المرجع السابق .

(14) - رغداء زيدان، غاندي والساتياغراها، المرجع السابق .

(15) رغداء زيدان، غاندي والساتياغراها، المرجع السابق .

(16) رغداء زيدان، غاندي والساتياغراها، المرجع السابق .

(17)- Gandhi, The Collected Works of Mahatma Gandhi, Ahmedabad, The Publications Division, Ministry of Information and Broadcasting, Government of India, 1965, Vol. 18, p. 265.

(18)- Gandhi, All men are Brothers, Ahmedabad, Navajivan Publishing House, 1960, p. 119.

(19) - سيدهارتا بوذا Siddhartha Gautama (558 - 483 ق.م.)، وتعني كلمة بوذا Buddha حرفيا المستنير أو المتنور وهو لقب أطلق على جوتاما بوذا إقرارا له بالعبقرية والذكاء والقدرة على الكشف النوراني. أنظر: علي وطفة وسعد الشريع، التربية تاريخا والفكر التربوية تطورا: معاينات في جدل الواقع والنظرية، مطبعة دار الفيصل، الكويت 2005، ص 77-78.

(20)- Enumus Jean. la non-violence , dans Encyclopédie française, France S.A, Paris , 1999 , Encyclopédie sur C.D.

(21) - Regarde:A. Vinoba Bhave, La Révolution de la non-violence (Revolutionary Sarvodaya , 1955), trad. C. Andrieu, Albin Michel, Paris, 1958.

(22)- راجموهان غاندي فلسطين و إسرائيل: من أجل جدار من الحماية، جريدة الحياة اللندنية، 26/06/2005.

(23) - صبحي درويش، هل نحن بحاجة إلى غاندي جديد، موقع أشرعة: http://www.ashreah.net/vb/showthread.php?t=1156

(24) - صبحي درويش، المرجع السابق

(25)- راديو الأمم المتحدة، الثلاثاء 20 تشرين الأول/أكتوبر 2007: http://www.un.org/radio/ar/story.asp?NewsID=7029

(26) - انظر: بيير فرانسوا مورو، هوبس، ترجمة أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1993.

(27) - L. FISCHER, La Vie du Mahtm Gandhi (Life of Mahatma Gandhi , 1951), trad. E. Bertaux, Calmann-Lévy, Paris, 1952.

(28) انظر: محمد علي صالح، غاندي: مسيرة بدأت بالملح وانتهت بالاستقلال، الشرق الوسط، الجمعـة 15 صفـر 1426 هـ 25 مارس 2005 العدد 9614.

(29)- صبحي درويش ، داعية اللاعنف المهاتما غاندي، في مجلة المثقف، مجلة إليكترونية،.almothaqaf.com www .

(30)- صبحي درويش ، داعية اللاعنف المهاتما غاندي، في مجلة المثقف، مجلة إليكترونية ،.almothaqaf.com www.

(31) - أديسون هيدو، المهاتما غاندي داعية اللاعنف، شبكة زهريرا الإخبارية، http://www.zahrira.net/.

(32) - LANZA DEL VASTO, Les Quatre Fléaux , 1959, nouv. éd., 2 vol., Gonthier, Paris, 1977.

(33) - C. S. KING, Ma Vie avec Martin Luther King (My Life with Martin Luther King , 1969), trad. A. M. Soulac, Stock, 1970

(34) - M. K. GANDHI, La Jeune Inde (articles de Young India , 1919-1922), trad. H. Hart, Paris, 1924;

(35) - صبحي درويش، هل نحن بحاجة إلى غاندي جديد، موقع أشرعة: http://www.ashreah.net/vb/showthread.php?t=1156

(36) - راديو الأمم المتحدة، الثلاثاء 20 تشرين الأول/أكتوبر 2007: http://www.un.org/radio/ar/story.asp?NewsID=7029

(37) - Enumus Jean. la non-violence , dans Encyclopédie française, France S.A, Paris , 1999 , Encyclopédie sur C.D.

(السلام الكلي لا يسود إلا في داخل المقابر (1)

بول ليفي Paul Levey

1- مقدمة:

يتأصل الصراع بأشكاله المختلفة حضورا وتجذرا في مختلف مظاهر الوجود المادي والاجتماعي، ويتجلى في مختلف مظاهره على مبدأ تفاوت القوة وتكاملها ناموساً في الكون وقانوناً في الوجود. فالكون يقوم على معادلات التناقض والاستقطاب والتكامل وتوازنات القوى، بدءا من أكثر عناصر الوجود اللامتناهية في الصغر حتى أكثر عناصر الوجود اللامتناهية في العظمة والكبر. فالصراع يبدأ في قلب الذرة ولا يتوقف حتى في مختلف مدارات المجرة. ففي قلب الذرة تتفاعل الإلكترونات وتتفاضل في تضافرات القوة والحركة على صورة التفاعل الذري بين أصغر مكونات الذرة بين النترونات والفوتونات، وفي قلب العالم المظلم المضيء -عالم الأفلاك والنجوم - يجري التقاطب بين الذرات والمجرات والشموس والأقمار في دائرة من التجاذب والتنابذ الكوني الذي يشكل قانون الكون الأساسي في المادة والحركة والطاقة. وقد اقرّ علماء الفيزياء في معظمهم بأن الحركة تلازم المادة والطاقة التي تشكل القوة المحركة للوجود، ويتجلى الكون وفقا لعلم الفلك والنجوم والفيزياء الكونية على صورة عالم متحرك في معترك تفاعلات كونية لا متناهية تقاطباً وتجاذباً.

فكل شيء كما يقول نيوتن " يجري كما لو أن الأجسام تتجاذب بنسبة أحجامها وبنسبة معكوسة لمربع بعدها بعضها عن بعض " وهذا القانون النيوتني يتيح لنا أن نفهم الحركات الظاهرة في السماء، وتلك التي تدور على الأرض، لأن قوانين السماء تحاكي قوانين الأرض توغلا في ثنايا الوجود. فالتجاذب والتقاطب والدوران وتشاكلات المادة المتحركة تشكل محكم الأسرار الحقيقية للوجود الكوني والاجتماعي في آن واحد. فالكون يتحرك بالقوة، وكل وجود يَمتثل لمبدأ القوة المحركة له في دورانه وتقاطباته وتجاذباته. وهل يمكننا أن نتصور ما الذي يحدث لو افترضنا بأن الأرض توقفت لبرهة عن الدوران؟ والأكثر هولا أن نتصور وهما بأن الشمس قد توقفت عن الحركة في لحظة ما؟ وعلينا عندها أن نسأل حينذاك عن مصير الوجود في المجموعة الشمسية وما يجاورها من أفلاك وأكوان.

ترتسم نظرية الصراع الكونية في أرقى مظاهرها الفلكية في نظرية الانفجار العظيم (The Big Bang Theory)(2)، الذي يقدر حدوثه قبل 13,7 مليار سنة، وهي النظرية الأكثر أهمية وخطورة في علم الفيزياء الفلكية، فالانفجار تعبير صراعي يدل حلى حدوث تناقض كوني رهيب في العناصر التي تشكل منها الكون. والانفجار لا يكون إلا بقوة ضاغطة وصراع ما بين الأضداد وهو يمثل حالة انفلاق ذري كوني بدأ في لحظة صفرية حيث لم يكن هناك زمان أو مكان، وفي خضم هذا الانفجار العظيم تشكلت الذرات والنجوم وانبثقت الظواهر الكونية وولدت الأشياء. وتنبئنا النظريات الكونية بأن هذا العالم اللامتناهي ما زال يولد دائما ويتجدد وينمو ثم يلتهم نفسه ويدمر تكويناته ويعيد خلق نفسه من جديد(3).

وقديما قال هيرقليطس في وصف جميل للحركة: إن الإنسان لا يستطيع أن يستحم في ماء النهر الواحد مرتين لأن مياها جديدة تجري من حوله أبدا" . فالتغير يجري في حركة تفاعل وصراع وولادة وموت ، وفي أعماقه تنبثق الحياة في عالم من التفاعلات العميقة بين الأرض والسماء بين الشمس والشجر والحجر والنور والماء في حركة دائمة ، وصيرورة لامتناهية من التناقضات التي لا تكون إلا تبشيرا بالحياة انبثاقا من الموت وبالموت انبعاثا للحياة.

وإذا ما ألقينا النظر فيما يجري على الأرض وما فيها من حراك صراعي حاكم وجود الكائنات ، لوجدنا أن كل كائن في هذا الكون يصارع فيها من أجل الوجود، ويناضل فيها من أجل الحياة، محكوما بقوانين المادة والحركة، التي تأخذ صورة نضال وجودي بين الكائنات من أصغرها وجودا إلى أعظمها حجما وأهمها قدرة ونفوذا وسيطرة. وما السلسلة الغذائية الكبرى إلا حركة مستمرة تبدأ من أصغر الكائنات الذرية وجودا إلى أعلاها حجما وأكثرها ذكاء. ويقينا أن الانقطاع في سلسلة الصراع قد يؤدي إلى موت الكائنات وفنائها. فالكائنات العشبية ذوات الأخفاف والأظلاف تناضل في المرعى وتتصارع على الماء والكلأ، ثم يأتي دور الكواسر ذوات المخالب والأنياب التي تتصارع على الكائنات العشبية، ومنظومة الصراع يقينا تبدأ بالهوام والقوارض والحشرات وآكلات العشب والشجر ثم بالمفترسات الكبرى آكلات اللحم والشحم ذوات الأنياب وصولا إلى الإنسان الذي يتربع على عرش الكائنات الحية.

2- الصراع في المنظور الديني:

تنص الأديان في ديابيجها على مفهوم الصراع الذي بدأ مع بداية خلق الكون ويتجلى هذا الصراع في رفض قطعي أعلنه إبليس جهارا رافضا السجود لآدم وقد جاء في البيان الحكيم :" " وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)" وتلك هي أول مظاهر الصراع بين المولى عزّ وجل وأحد كبار ملائكته السابقين. ويحدثنا القرآن الكريم عن حيثيات هذا الصراع في صيغة التخاطب بين إبليس والمولى عزّ وجلّ إذ يقول تعالى: يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ } (الحجر: 32 – 44(ويتضح من خلال هذا الحوار الملائكي أن الله قد أوجد الصراع بين الخير والشر وقدر مساره على نحو أبدي فيما بين الناس. فالحياة وفق الإسلام تأخذ وضعية صراع دائم ومستمر ضد النفس وفي ممانعة لهمسات الشيطان ويأخذ هذا الصراع صورة حية للصراع النفسي الداخلي ما بين الهوى ومطالب العقل والدين.

ويتجلى هذا التوجه الصراعي في مختلف الأديان في البوذية والمسيحية والمزدكية وفي سائر الأديان فالحياة الإنسانية لا تعدو أن تكون صراع بين الخير والشر بين العقل والغريزة بين الروح والجسد بين الخير والشر بين الهوى والدين.

فالبوذية تقرّ هذا الصراع الأبدي في رحلة لا تتوقف من الصراع بين الخير والشر في الإنسان في رحلة قد تنتهي إلى النرفانا أو إلى الجحيم. ويتجلى هذا الموقف في الطاوية التي ترى بأن الحياة عباره عن طريق " تاو" أو معادلة من التوازن والانسجام بين الين واليانغ أي بين نقيضين أحدهما سالب والآخر موجب وهذا التوازن يقوم على وحدة الصراع بين الأضداد كما هي بين الظلام والنور، والسكون والحركة، والبرودة والحرارة، والأنوثة والذكورة...) (4). ولا يختلف الحال في الزرادشتية التي تقول بوجود إلهين متصارعين أحدهما إله للخير ويرمز له بإله النور والآخر إله الشر ويرمز له بإله "الظلام"، وبين الإلهين تدور الدوائر في حالة صراع أبدية لا تنتهي إلا بنهاية الزمان، وهذا يعني أن الزرادشتية تقول بالصراع مبدأً كليا وجوديا وميتافيزيائيا. وهذا هو حال المزدكية التي تأخذ بمثل هذه الثنائية التي تتمثل في الصراع بين الخير والشر. وقد أوضح مزدك بأن أسباب التباغض والصراع بين البشر تقوم على أساس تفاوت خظوط الناس من المال والنساء، و"بالتالي فان القضاء على هذا التباغض والصراع يتحقق عند قبام شيوعيه المال والنساء حسب تصوره"(5).

3- الصراع فلسفيا:

وقد أولى الفلاسفة مفهوم الصراع اهتماما كبيرا وأبدعوا في بناء تصوراتهم الفلسفية حول مآلاته وصيروراته. وتتمحور تصورات الفلاسفة منذ القدم حول ثنائية الصراع في العالم بين الخير والشر بين الحق والباطل بين العقل والهوى. ويعد هيرقليطس أقدم الفلاسفة القائلين بوجود الصراع في الكون الإنساني بوصفه قانونا كليا. وقد عرف عنه قوله المشهور بأن " الصراع مبدأ الأشياء"، وقدم لنا صورة للكون يَمتثل فيها الصراع لقانونية التناقض بين الأشياء وقد ابدى لنا بأن التغيير يتم بصراع المتناقضات. ويعد هيرقليطس حقيقة أول من قال بالصراع والتغير. والكون في فلسفته ليس إلا سلسلة من صراع المتناقضات الدائم.

ويرى فيثاغورث " أن كل شيء يولد من الصراع». لأن الصراع يتجذر في ماهية الأشياء ضمن جدلية الوحدة الكلية بين المتناقضات. فـ ـ«أنت تعيش موتك، وتموت حياتك» وهذا يعني أن الحياة موت والموت حياة وهما نقيضان متكاملان في المعنى والدلالة والصيرورة. ومن الخطأ أن نتصور أن الموت والحياة هما شيئان مختلفان، في الحقيقة، هما وجهان لعملة واحدة (6).

وقد جاءنا هيغل برؤية مبتكرة ابتدع فيها فكرة الصراع بين المتناقضات فأرساه قانونا كليا يفسر الوجود وفقل لقوانين الجدل التي تقوم على أساس وحدة وصراع الأضداد، وقانونية نفي النفي، وهي أكثر القوانين تعبيرا عن مفهوم الصراع ودوره في عملية تشكل الظواهر والأشياء. ومن ثم جاء ماركس فأوقف جدل هيغل على قدميه كما يحلو له أن يقول فجعل من الجدل الهيغلي المثالي جدلا ماديا يدور في فلك الأشياء وفي عالم المادة، وقد هيأ له ذلك ابتكار مفهوم صراع الطبقات فجعله قانونا كليا شاملا للوجود الاجتماعي.

وقد سبق لهوبز إقراره المتواتر بأن الصراع حالة طبعية في الوجود وأن الحرب متأصلة في الطبيعة البشرية. وقد اقر روسو هذه الوضعية ووجد بأن الصراع حالة دائمة في عالم الإنسان وأن الخروج منها لا يكون إلا بعقد اجتماعي يضمن للمجتمع سلامه وأمنه.

ولا يقف الفيلسوف الألماني نيتشه عند حدود الإقرار بوجود الصراع، بل انطلق ليؤكد على جوهريته وأهميته في الحياة، فهتف يمجد الحرب وإرادة القوة، وينادي بضرورة سيطرة الأقوياء على الضعفاء، في عالم لا يعرف الرحمة وهو العالم الذي لا يجب أن يكون فيه مكان للضعفاء. وقد أدرك كانط من بعد روسو حضور العنف والصراع في المجتمع ونادى بنظرية السلام لحماية الإنسانية من خطر الإبادة وويلات الحروب. ونجد أن معظم الفلاسفة الغربيين قد أقروا بوجود الصراع في المجتمع الإنساني بوصفه قانونا يحكم مسارات الحياة الإنسانية ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى هايدجر وسارتر الذي عرف بقوله المشهور "الآخرون هم الجحيم " وهو أبلغ تعبير عن عمق الصراع القائم بين الناس والبشر(7)..

ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى نظرية فرويد في علم النفس التي تقر بوجود الصراع عميقا في النفس الإنسانية وفي مسارات التفاعل الإنساني مع الوجود. وتتمحور النظرية الفرويدية في مسار دراسة التناقضات بين عالمي الشعور واللاشعور والصراعات السيكولوجية التي تأخذ مسارات مختلفة.

كان فرويد يرى أن النزوع إلى الحرب والدمار أمر فطري في طبيعة البشر. وقد أراد ألبيرت أنشاتين (A.Anstien) أن يحاوره في هذا الموضوع عبر رسالة أرسلها إليه في أعقاب الحرب العالمية الأولى ونذر الحرب العالمية الثانية تحوم في السماء، وقد كتب يقول قولا لا يخلو من سخرية مبطنة، سيد فرويد: ما الذي يمكن فعله لحماية الجنس البشري من الحرب ولعنتها؟ ثم يتابع ليسأل فرويد بعد ذلك: هل يمكن لنظريتك في التحليل النفسي أن تقدم شيئا لمنع أي حرب عالمية في المستقبل وتعمل على إيقاف التدمير والعنف في المجتمع الإنساني؟ وفي معرض الرد قدم فرويد إجابته المشهورة التي تتقطر تشاؤما قائلا: "للأسف هذا مستحيل لأن رأيت جذور الحرب في طبيعة الإنسان نفسه" (8).

4- الصراع سوسيولوجيا:

ومن عالم الفلسفة إلى عالم السوسيولوجيا تطالعنا نخبة من المفكرين الأفذاذ الذين صالوا وجالوا في ميدان الصراع الاجتماعي، فأبدعوا نظرياتهم وقدموا تصوراتهم المبتكرة التي قد تتجانس إلى حدّ كبير مع هذه التي استعرضناها في الجانب الفلسفي للصراع. فالحركة لا تتوقف في عالم الإنسان الاجتماعي ولا يستكين الصراع. والتاريخ الإنساني كما يرى علماء الاجتماع تاريخ صراع لا ينقطع أبدا فيما بين البشر وفيما بينهم وبين عوامل وجودهم: الصراع على الكلأ والماء والسلطة ومصادر الوجود والحياة، ليلحق بذلك الصراع على القيم والعقائد والميول. وفي حمأة هذا الصراع تتشكل الحياة وتنطلق شرارة الوجود.

ويعد ابن خلدون المفكر العربي الإسلامي أحد أقدم المفكرين الذي أسسوا لمفهوم الصراع وشيدوا نظريته. وهو الذي تناول هذه المسألة في مقدمته المشهورة ضمن ما يسميه فلسفة الحرب ليقرر بأن الصراع أصيل في الطبيعية الإنسانية مؤكدا أن الحرب جوهرية أي أنها أمر طبيعي حتمي في جبلّة البشر وليست أمرا عارضا على فطرتهم. وقد سبق علماء الاجتماع جميعا في النظر إلى الحرب بوصفها أساس لبناء الدول وتشكيل الحضارات. وقد بين أن العمران البشري يتم بالحرب والصراع بين العصبيات المتنافرة، ولا يمكن لحضارة أيا كانت أن تقوم دون حرب وضرب وصراع وهيمنة. فالصراع لديه يأخذ صورة قانون سياسي اجتماعي استنبطه عبر ملاحظاته السوسيولوجية حول قيام الدول وسقوطها.

وتتجذر فكرة الصراع بوضوح في أعمال مالتوس ودارون وسبنسر الذي شيدوا نظرياتهم في مجال الصراع وأكدوا أهميته في تطور المجتمعات الإنسانية، وقد أشادوا بوظائفه ورسخوا مقولاته التي تدور حول مفاهيم البقاء للأقوى والبقاء للأصلح، وعملوا على تبرير الحروب والصراعات والإبادات بين البشر بوصفها فعاليات طبيعية تؤدي إلى بناء الحياة وتطويرها إلى أكثر أشكالها رقيا ونضجا وتقدما. ويبدو" أنّ كلاّ من سبنسر ودارون استوحيا فكرة البقاء للأصلح من أعمال مالتوس ونظريّاته، ومع ذلك فإنّهما أضفيا على نظرية مالتوس السّكانيّة طابعا تقدّميا وإيجابيّا كان غائبا في نظرية مالتوس"(9). ومن المفارقات أنّ سبنسر كان قد اعترض بقوّة على القوانين التي وُضعت لمساعدة الفقراء، ورفض أيّ تدخل من قبل الدّولة في الشّؤون العامّة. وعلى هذه الصّورة بدا موقفه الأيديولوجي مُعادياً للفقراء وللطّبقات العاملة، والمسوّغ عنده أنّ قوانين مساعدة الضّعفاء يتناقض مع نظريّة البقاء للأصلح. ويعزّز فكرة بقاء الضّعفاء الذين يعتبرهم عبئا ثقيلا على المجتمع والإنسانية(10).

ومن أبرز المفكرين الاجتماعيين في مجال نظرية الصراع يشار إلى كارل ماركس وماكس فيبر ودارندورف وكوزر وعدد آخر من علماء الاجتماع الذين قدموا نظريات متماسكة وفعالة في الكشف عن المتاهات السوسيولوجية لمفهوم الصراع وتجلياته الاجتماعية (11).

وقد خلص هؤلاء المفكرين إلى أن المجتمع يدور في سديمية الحركة وتموجات المادة تجلياً في صورة صراع لا يتوقف وتناقض لا ينقطع في مجال استكمال شروط الحياة والوجود. فكل فرد في المجتمع يسعى ويناضل ويبذل الجهد والقوة ليصارع الظروف والأحوال والمرض والآخر بحثا عن مصادر الحياة والوجود. وننتهي إلى القول: إن الصراع بأشكاله التناقضية والتنافسية في صيغته التجاذبية والتقاطبية يشكل عنوان للوجود وسرا من أسرار الحياة التي لخصها ماركس وهيغل قبله في قانون وحدة وصراع الأضداد.

وباختصار نستنتج أن التاريخ الإنساني لا يكون إلا تاريخا للصراع: الصراع على الوجود، الصراع من أجل الحياة، الصراع بين الشرق والغرب، الصراع الديني، الصراع الطائفي، الصراع السياسي، الصراع الثقافي، الصراع الطبقي، والصراع في مختلف تجلياته يشكل دينامية وجودية تؤصل للحياة، فالفرد منذ ولادته يدخل في صراع مع الخوف بحثا عن الأمن والطمأنينة والغذاء، إذ تراه طفلا يبكي ويصرخ وينادي ويخاف ويرتجف في طلب الأمن والراحة والشبع، حتى في لحظة الرضاع من ثدي الأم يكون الأمر صراع من أجل الوجود والحياة. وتستمر رحلة الوجود في صراع مع البيئة والعالم الذي يعيش فيه طلبا لأسباب الوجود. فالحياة لا تعطى على نحو عفوي آلي بل تطلب وفي الطلب مشقة وعناء وقوة واجتهاد.

وقد عرف تاريخ الإنسان بالصراع مع البيئة التي يعيش فيها وقد حاول التغلب على مطالبها ودواهيها، ولم يمنعه صراعه الجائر مع الطبيعة أن ينأى عن الصراع مع أشباهه من البشر فتشكلت المجموعات البشرية على صورة قوميات وأعراق وقبائل وأمم وكان التاريخ الإنساني تاريخ حروب وقتال استمر منذ آلاف السنين وما زالت الحروب تهدد وجود البشر وحياتهم ومصيرهم. وهذا كله يأخذنا إلى القول بأن الصراع ناموس كوني وقانون كلي وجودي يحكم البشر والحجر والحيوان والشر.

5- عوامل الصراع ومظاهره:

تركز نظرية الصراع الاجتماعي على المنافسة بين المجموعات وذلك على خلاف أصحاب النظرية الوظيفية الذين يركزون على أهمية التوازن والاستقرار داخل النظام الاجتماعي، وعلى النقيض من التوجهات الوظيفية البنائية فإن منظري الصراع ينظرون إلى المجتمع على أنه تشكيل يقوم على التناقض والتنافس والصراع بين مكوناته ـ وأن الصراع يبدأ من التباين والاختلاف في الثروة والمال والخيرات والسلطة. وعلى هذا الأساسي يرى منظرو الصراع بأن الأفراد والجماعات يتنافسون على الموارد والطاقة والسلطة والقوة الموزعة بشكل غير متساوٍ، وفي حمأة هذا الصراع تسعى كل مجموعة لتحقيق مصالحها الخاصة واكتساب المزيد من الثروات والخيرات واحتكارها. وفي هذا السيناريو، تتحكم مجموعة واحدة أو مجموعات قليلة في هذه الموارد على حساب الآخرين. وهكذا، يبحث منظرو الصراع في الوضعيات الاجتماعية للثروة والقوة والسلطة ويستقصون الأوضاع التي تحيط بالتنافس بين القوى الاجتماعية ويرون بأن الصراع ذاته يؤدي إلى التغيير الاجتماعي. ويمكن القول إن نظريات الصراع لم تكن مجرد نظريات سوسيولوجية فحسب بل يمكن القول مع راندال كولينز أن تاريخ العالم هو تاريخ من الصراع، ومن هذا المنطلق بدأ علماء الاجتماع البحث في الكيفيات الاجتماعية التي يتجلى فيها هذا الصراع فبحثوا في أسبابه الكامنة وفي مقدماته ونتائجه ومحركاته وصيروراته وقد استقر راي معظمهم بأن الصراع يشكل قانون الوجود الاجتماعي وناموس التطور في مختلف ظواهره وتجلياته. (12)

وفي مواجهة معضلة الصراع لم يتوان علماء الاجتماع المعاصرين عن تناول دواعيه ومصادره ودواهيه فقاموا برصده وتحليله وتشكيل النظريات التي تؤسس لفهم هذه الظاهرة الاجتماعية وفق منظور موضوعي تتجلى فيها الأسباب والمسببات وترتسم فيه المتغيرات والضوابط والعلل والاتجاهات. واستطاع علماء الاجتماع مع بداية القرن العشرين تأسيس النظريات السوسيولوجية الفاحصة لظاهرة الصراع بأبعادها وتجلياتها وقد أدلى كل منهم دلوه في هذا الميدان ومن ابرز المنظرين يشار إلى ماركس وماكس فيبر ودوركهايم وكوزر ودارندورف وغيرهم من المفكرين وسنعمل في هذا البحث على استجلاء معالم هذه النظريات لدى ماركس وكوزر ودارندورف وكولينز وسنبحث في طبيعة هذه النظريات وفي مآلاتها الأيديولوجية والسياسية ونبين مقاصدها ومعالمها ونستجلي غاياتها ومناهج البحث التي اعتمدتها وبعضا من نتائجه وسنقوم بتحليل أوجه التباين والتفاضل والتكامل والتناقض بين مختلف جوانب هذه النظريات.

ويمكن القول تأسيسا على ما تقدم بأن جوهر نظرية الصراع ينطلق من حضور التناقض الجدلي في مختلف ظواهر الوجود الاجتماعي والإنساني دون استثناء، وينطلق أرباب هذه النظرية من الاعتقاد بأن عدم توازن القوة يشكل منبع التفاوت والصراع في ميدان الحياة الاجتماعية، ويبنى على ذلك أن التفاعل الاجتماعي لا يكون في أعمق معانيه إلا صراعا من أجل السيطرة والهيمنة، ويؤسس هذا الأمر إلى أن الصراع يوجد في أصل تشكل الهويات والأيديولوجيات والمعاني والدلالات والقيم والمعايير الاجتماعية المتشبعة الصراع الذي يأخذ صورة معادلة التفوق والهيمنة لجماعة دينية أو سياسية أو عرقية أو أيديولوجية على أخرى أو لطبقة اجتماعية ضد أخرى.

وأخير يمكن القول إن نظرية الصراع تشكل منظومة من الجهود الفكرية التي تبحث في مختلف جوانب الصراع الاجتماعي وتوظف في الاستكشاف المعرفي لمختلف تضاريس هذا الصراع والكشف عن بواعثه وتأثيراته وعوامله ومتغيراته. وهي تحاول أن تقدم تفسيرات موضوعية لعوامل نشأة الصراع وحركته ومآلاته وآثاره. وتحاول هذه النظريات أن تقدم إجابات واضحة حول منشأ الصراع وتنوعاته والآثار التي يتركها في المجتمع. وتركز نظريات الصراع على قضايا التوزيع غير المتكافئ للموارد والسلطة والقوة والمكانة. وتحتل قضايا التباين الطبقي والاجتماعي قضايا الصدارة في نظرية الصراع، ويرى منظرو الصراع الاجتماعي أن القوة هي السمة المركزية في المجتمع وهي العامل الحاسم في تأجيج الصراعات وإدارتها، وهم في كل الأحوال يرون أن المجتمع يضج بالصراعات التي تأخذ طابعا الاستمرار في المجتمع في مختلف مستوياته ويرفضون التصورات التي ترى بأن المجتمع يتميز بطابع الثبات والاستقرار وهي الفكرة الرئيسة للاتجاهات الوظيفية التي تتجلى في سوسيولوجيا دوركهايم وسبنسر ومونتسكيو وأوغست كونت.

وتدور نظريات الصراع جوهريا حول مبدأ تفاوت القوة بين الناس أفرادا وجماعات وتفاوت الثروات والخيرات المادية والمعنوية فيما بينهم. فالماركسية على سبيل المثال تنطلق من مبدأ اللامساواة الطبقية في الحصول على الموارد والخيرات المادية وترى بأن هذا التباين يشكل الخلل الأساسي في المجتمع، وعلى هذا الأساس يولد الصراع الأدبي بين الطبقات التي تملك وتلك التي تخضع وتعمل ووفقا لهذه الرؤية فإن الصراع بين طبقتي العمال والرأسماليين يشكل السِّيمَةُ الأساسية للمجتمع الرأسمالي، وهو الصراع الذي يتغلغل جميع أشكال ومظاهر الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الغرب الرأسمالي.

6- خاتمة:

وظفت نظرية الصراع وظفت في تفسير مجموعة واسعة من الظواهر الاجتماعية، بما في ذلك الحروب والثورات والفقر والتمييز والعنف. وتنحو هذه النظرية إلى أن معظم التطورات الأساسية في تاريخ البشرية، مثل الديمقراطية والحقوق المدنية، تقوم على مبدأ الصراع بين القوى الاجتماعية المتنافرة الساعية إلى الإمساك بمقاليد السلطة والثروة. ويمكن للمبادئ الأساسية لنظرية الصراع أن تفسر العديد من أنواع الصراعات المجتمعية عبر التاريخ. يعتقد بعض المنظرين، كما فعل ماركس، أن الصراع المجتمعي هو القوة التي تدفع في النهاية التغيير والتنمية في المجتمع.

وفي هذا السياق تظهر الوقائع أن نظريات الصراع قد تعددت وتطورت مع تطور الزمن وتغير الأحوال الحضارية في المجتمع الإنساني وقد اتخذت هذه النظريات لبوسا أيديولوجية مختلفة وانطلت لتفسر تطور المجتمع بتطور الصراع في مختلف مناحيه وتجلياته وتقاطعاته الاجتماعية. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى النظرية الماركسية بوصفها النظرية المركزية ثم إلى النظريات الفرعية مثل نظرية دارندورف وكوزر وكولينز التي تشكل أكثر النظريات الصراعية حضورا وتداولا في الساحة الفكرية المعاصرة.

***

ا. د. علي أسعد وطفة

أستاذ علم الاجتماع التربوي بجامعة الكويت

....................

مراجع المقالة:

(1)- Paul Lévey: Présentation académique de G.Bouthoul lors de la remise du doctorat Honoris Causa de l’Un. catholique de Louvain,13 Mars,1971.

(2) - أطلق على نظرية نشأة الكون مصطلح الانفجار العظيم (BigBang) في عام 1948 .

(3) - أيمن صلاح، العقيدة في نشأة الكون ونظرية الانفجار الكبير (1) مجلة الوعي، العدد 441-442، السنة 38، أيار – حزيران 2023. https://www.al-waie.org/archives/article/18825

(4) - صبري محمد خليل خيري - مفهوما الحرب والسلام في الفكر الفلسفي والديني المقارن . الأنطولوجيا ، مايو ، 2023 .

(5) - صبري محمد خليل خيري ، المرجع السابق .

(6) - صبري محمد خليل خيري المرجع السابق ,

(7) - صبري محمد خليل خيري المرجع السابق .

(8) - أنظر : علي وطفة ، العنف والعدوانية في التحليل النفسي، الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة السورية، دمشق، 2008.

(9) - ايغور سيميونوفيتش، مفاهيم هربرت سبنسر السوسيولوجية، ترجمة: مالك أبو عليا، الحوار المتمدن-العدد: 6526، 30/3/2020. http://bitly.ws/AeP5.

(10) - ايغور سيميونوفيتش، مفاهيم هربرت سبنسر السوسيولوجية، مرجع سابق.

(11) - سنستفيض في تناول هذه النظريات في مساق آخر وفي مقالات أخرى عن الصراع تناول فيها أهم النظريات الاجتماعية .

(12) - Kathy S. Stolley , THE BASICS OF SOCIOLOGY Basics of the Social Sciences , GREENWOOD PRESS Westport, Connecticut • London , 2005 . P 25-26.

خلاصة الدراسة: إن الدول في المجال العربي على نحوين: دول أيدلوجية تعمل بمختلف الوسائل بما فيها القهرية لتعميم أيدلوجيتها واقتحام مجتمعها بكل فئاته ومكوناته وشرائحه في بوتقة أيدلوجيتها.. وكل طرف أو مكون يرفض الانضمام إلى هذه الأيدلوجيا، فيمارس بحقه النبذ والإقصاء والعنف المادي والرمزي.. لهذا فإن صلة هذه الدولة بمواطنيها يتم عبر الأجهزة الأمنية، وإذا توفرت فيها بعض أشكال الديمقراطية، فهي شكلية وتمارس الاستبداد والقهر بقفازات ناعمة..

ودول تقليدية تعتمد في بنيتها الأساسية على حكم العائلة أو العشيرة أو أي شكل من أشكال الانتماءات التقليدية وهي أيضا بحكم بنيتها حاضنة للبعض وطاردة للبعض الآخر..

ولعل أحد الفروقات الأساسية بين الدولة الأيدلوجية والدولة التقليدية في التجربة العربية المعاصرة، هي أن كلا الدولتين وديكتاتوريتين واستبداديتين، واحدة باسم الأيدلوجيا الدينية أو الأيدلوجيا التقدمية، والأخرى باسم حكم العائلة وتقاليد المجتمع والحياة العامة في البلد..

فكلاهما ديكتاتوريتان تمارسان الاستبداد والإقصاء والنبذ بكل صنوفه.. ويضاف إلى هذا أن الدول الأيدلوجية هي بطبيعتها أيضا دولا قمعية.. بمعنى أن لأجهزتها الأمنية سطوة وصلاحيات هائلة لإدامة الاستقرار وحماية السلطة.. فهي دول ديكتاتورية وقمعية في آن.. وفي ظل هذه الدول فإن الأقليات الدينية تعاني العديد من المآزق والمشاكل المتعلقة بحريتها الدينية ومستوى مشاركة أبناءها في الحياة العامة..

وقناعة الدراسة الأساسية: أنه إذا لم تتغير بنية الدولة في المجال العربي من دولة أيدلوجية أو تقليدية إلى دولة مدنية – تشاركية – تعددية محايدة تجاه عقائد مواطنيها، فإن مشاكل الأقليات ستستمر وتزداد استفحالا..

والذي يزيد أزمة الأقليات في هذا السياق، هو طبيعة فكرها السياسي المحافظ، الذي يجعلها تحذر من الانخراط في مشروعات الإصلاح الوطني..

لهذا فإن الدراسة تعتقد: أن تطوير فكر الأقليات السياسي، ودفعه نحو الانخراط في مشروعات الإصلاح والتفاعل الخلاق مع قضايا التغيير السياسي، يساهم في معالجة مشكلة الأقليات في الدول العربية المعاصرة.. وتطوير الفكر السياسي للأقليات للخروج من نفق المحافظة إلى رحاب الإصلاح يعني النقاط التالية:

1- الانخراط في مشروعات سياسية وفكرية عابرة للمكونات التقليدية ومتجاوزة للانتماءات الطبيعية، والمساهمة في بناء كتل وطنية تطالب بالإصلاح وتعمل من أجله..

2- الانعتاق من ربقة الانكفاء والانزواء، وكسر حواجز الانطواء، والتفاعل الكامل مع شركاء الوطن..

لأننا نعتقد أن الطائفية في المجال العربي تمارس على نحوين أساسين وهما: النحو الأول: الطائفية الغالبة وهي تمارس طائفيتها بتبني سياسات النبذ والتهميش والإقصاء للآخر المختلف والاستمرار في دفعه عبر وسائل قسرية وناعمة للمزيد من الانكفاء وبناء الحواجز النفسية والاجتماعية والسياسية مع الآخر المختلف الديني أو المذهبي أو القومي..

والنحو الآخر: هي الطائفية المغلوبة وهي طائفية معكوسة تبرر انكفاء الذات وتسوغ المفاصلة الشعورية والعملية.. فإذا كانت الطائفية الغالبة تمعن في سياسات الإقصاء والتمييز، فإن الطائفية المغلوبة تمعن في سياسات الانعزال والنظرة النرجسية للذات.. والتحرر من النزعة المحافظة في الفكر والسياسة، يقتضي العمل على نقد وتفكيك أسس ومتواليات الطائفية المعكوسة المتعشعشة في نفوس وعقول الكثير من أبناء الأقليات الدينية والمذهبية والقومية في المجال العربي..

3- بناء العلاقة ونظام الحقوق والواجبات على أساس المواطنة المتساوية مع الاحترام التام لخصوصيات المواطنين الدينية والمذهبية..

والمواطنة بحمولتها القانونية والدستورية، هي بوابة الانتقال بمجتمعاتنا من حالة السديم البشري إلى المجتمع التعاقدي الذي يضمن حقوق الجميع، ويفتح المجال القانوني للجميع للمشاركة في بناء الأوطان واستقرارها السياسي والاجتماعي..

مفتتح:

ثمة مسائل وقضايا شائكة وحيوية في آن، تثيرها التطورات الإقليمية والدولية اليوم.. حيث مستويات التفتيت ودرجات التشظي. حيث الكيانات السياسية الكبيرة وما تسمى بالإمبراطوريات، التي قامت بالقوة واستمرت بالقهر والغصب والإرهاب. هذه الكيانات والتي تمتلك ترسانات عسكرية ضخمة بدأت بالتلاشي. حيث استيقظت كل الوطنيات والأثنيات والقوميات المقموعة خلال السنين المنصرمة وبدأت تبحث عن ذاتها وكيانها وخصوصياتها.

والذي يزيد المشهد قساوة ورعبا، هو تكاثر بؤر العنف الكامنة والصريحة والمفتوحة على كل احتمالات الفوضى وهوس استخدام القوة بلا وعي وبصيرة وعقل.

ولا نبالغ حين القول: أن تسعير التوترات وإشعال بؤر العنف بكل أصنافه وأشكاله، واستيقاظ كل التنوعات والخصوصيات، كل هذا من جراء العقلية الاستبدادية والعنفية، التي سادت في مناطق عديدة من العالم، واستخدمت كل قوتها وجبروتها وغطرستها لمحو خصوصيات الأمم والمجتمعات، ولطمس حقائق تاريخية ومجتمعية متجذرة في العمق الحضاري للأمم والأوطان.

الاستبداد جذر الأزمة:

فالعنف والقهر والاستبداد، هو الذي أيقظ الخصوصيات بنحو سلبي، كما أن إرهاب الدولة وغطرستها وتغّولها وسعيها المحموم لدحر ما عداها، هو الذي أدى إلى تسعير التوترات وتفجير الاحتقانات في مواضع ومناطق عديدة من العالم.

وعلى هدى هذا نستطيع القول: أن كل الكيانات والوجودات، التي تأسست على قاعدة الوحدة القسرية والقهرية لتنوعاتها وتعدداتها، فإن مآلها الأخير هو التشظي والتفتت، والإمبراطوريتين السوفيتية واليوغسلافية نموذجان صريحان لذلك.

فالوحدة القهرية لا تفضي إلى استقرار مستديم، بل تؤسس لاحتقانات وانفجارات ونزاعات جديدة محورها التداعي والتآكل الوحدوي، واليقظة العنيفة لكل الخصوصيات والهويات المقموعة.

ولا ريب إننا بحاجة إلى حياة سياسية سليمة، تفسح المجال لكل التعبيرات والقوى بدل إقصائها وقمعها، وإلى فضاء عام حر، يساءل الواقع، وينقد الممارسات، ويحاسب المقصرين والمستهترين بالقانون. ونحتاج أيضا إلى مواطنة نشطة تعبر عن آمالها ومصالحها ونفسها بمشاركة سياسية وديمقراطية فاعلة، لبلورة الخيارات والرهانات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الوطنية.

والتمييز بكل صوره وأشكاله، والتهميش بمجالاته وآلياته، لا يفضيان إلى الوحدة والاستقرار السياسي والمجتمعي، وإنما يؤسسان الظروف الذاتية والموضوعية معا لتشظي الواقع، واستيقاظ العصبيات بكل زخمها وعنفها وعنفوانها.

وإن منطق الاستبداد يؤبد الأنظمة، ولا يفضي إلى الاستقرار، وإنما يفاقم العيوب، ويعمق التوترات، ويفجر الخصوصيات.

وإننا بحاجة إلى تحول نوعي وتطور استراتيجي في فكرنا السياسي والاستراتيجي، يعمق خيار الديمقراطية في واقعنا، ويسعى نحو صناعة حقائقه ووقائعه، ويحارب كل موجبات الاستبداد وحالات التهميش والتمييز، ومواقع النبذ والإقصاء.

لهذا نحن بحاجة أن نعيد قراءة مسألة الأقليات والخصوصيات الذاتية في المجالين العربي والإسلامي.. وهذا ما نحاوله في السطور القادمة..

مفهوم الأقليات:

بعيدا عن المضاربات الأيــدلوجية والسياسية، بإمكاننا أن نحدد معنى الأقليات بأنها: التكوين البشري، الذي يتمايز مع جماعته الوطنية في أحد العناصر التالية (الدين ـ المذهب ـ اللغة ـ السلالة). وهذا التمايز تعبير عن التنوع الطبيعي بين البشر.

فالأقليات هي " أي مجموعة بشرية تختلف عن الأغلبية في واحد أو أكثر من المتغيرات التالية: الدين أو اللغة أو الثقافة أو السلالة. ولا يعني ذلك كل من يختلف عن الأغلبية في أحد هذه المتغيرات هو مناوئ للقومية العربية أو لمطلب الوحدة. فهناك من بين أفراد بعض هذه الأقليات من ناضلوا في سبيل قضية الوحدة، وأسهموا مساهمات رائدة في الفكر القومي العربي. لذلك فإن توصيف جماعة معينة كأقلية لا يعني بالضرورة أي حكم مسبق على اتجاهاتها نحو مسألة الوحدة. والعبرة كما قلنا هي ما إذا كان أي من هذه المتغيرات (الدين ـ اللغة ـ الثقافة ـ السلالة) يضفي على مجموعة بشرية معينة قسمات اجتماعية ـ اقتصادية ـ حضارية تلون سلوكها ومواقفها السياسية في مسائل مجتمعية رئيسية " (1).

" والجماعة الأثنية تستخدم في العلوم الاجتماعية، لتشير إلى أي جماعة بشرية يشترك أفرادها في العادات والتقاليد واللغة والدين وأي سمات أخرى متميزة بما في ذلك الأصل والملامح الفيزيقية والجسمانية " (2).

وبالتالي فإن الحديث سيتجه إلى الأقليات الأقوامية والدينية والمذهبية.. " ففي أفريقيا السوداء، التي يناهز تعداد سكانها اليوم (750) مليون نسمة، توجد (54) دولة، وتوجد في مقابلها (2200) أثنية تتكلم بمثل هذا العدد من اللغات. وفي آسيا أكبر قارات العالم من حيث تعداد السكان، يعيش اليوم (5ر3) مليار نسمة، يتوزعون بدورهم على أكثر من (2000) أثنية وينطقون بأكثر من (2000) لغة ويعتنقون ديانات شتى.

فاندونيسيا مثلا، وهي رابع أكبر دولة في العالم، ويقطنها (215) مليون نسمة، يتوزعون على (300) أثنية وينطقون بـ (365) لغة. والفليبين، بلد الـ (100) أثنية ولغة. ويصل تعداد الأثنيات والأقليات الأثنية في لاوس إلى (70)، وفيتنام إلى (55)، وتركيا إلى (66)، وإيران إلى (21) وبنغلاديش إلى (52) والنيبال إلى (30) .

وفي العالم اليوم (188) دولـــة أعضاء في منظمة الأمم المتحدة، ولكن هناك في المقابل (8000) أثنية و (6700) لغة.

ولقد أقرت كندا في عام (1988م) لسكانهـــا الهنــــود (850) ألفا يتوزعون بين (600) قبيلة بوضعية ثقافية خاصة، وأفــــردت بندا خـــاصا من قانــــونها الاتحادي (البند 27) لتكريس حق الأفراد الذين ينتمون إلى أقلية أثنية أو لغوية أو دينية في التمتع بتقاليدهم الثقافية الخاصة وبممارسة شعائرهم الدينية والتكلم بلغاتهم الخاصة وتعليمها . ولقد أنشأت كندا أخيرا للهنود المعروفين باسم (الأينويت) من سكانها منطقة مستقلة ذاتيا لها برلمانها الخاص وعاصمتها الــخاصة ومدارسها الخاصة، وحتى شــركة طيرانها الخاصة، مع أن تعداد الهنود الأينويت لا يزيد عن (35) ألف نسمة. والسويد أباحت تعليم (265) لغة في مدارسها، بما فيها لغات الجاليات المهاجرة كالعربية والسريانية والتركية. وأقرت ايطاليا في عام (1999م) قانونا تشريعيا لحماية الأقليات اللغوية، ومنحت وضعية إدارية وثقافية خصوصا لخمس من محافظاتها في جزيرتي صقلية وساردينيا وفي جبال الألب والتيرول " (3).

وإن درجة التميز وحدته وعمقه الاجتماعي والسياسي وأهدافه وتطلعاته القريبة والبعيدة، مرهون كل هذا إلى حد بعيد إلى طبيعة التعامل الذي تمارسه السلطات السياسية والاجتماعية. فإذا كان التعامل جافا وبعيدا عن مقتضيات العدالة والحرية، فإن الشعور بالتميز الذي يفضي إلى تمييز وتهميش من قبل السلطات، سيؤدي إلى المزيد من التميز والتشبث بالخصوصية، وسيدفعه هذا الشعور العميق بالتميز بتبني خيارات واتجاهات تزيد انفصاله الشعوري والعملي عن المحيط العام.

إما إذا كان التعامل مرنا وسياسيا وبعيدا عن العقلية الأمنية و ممارساتها وهواجسها وأعمالها، فإن درجة الشعور بالتميز تتضاءل وإمكانية الاندماج الطوعي تتعمق وتتواصل.. فـ " ملاحظة التميز في هذه الصفة أو الصفات المشتركة في أفراد جماعة معينة، وتباينها عن جماعات بشرية أخرى، ينطوي على عنصر ذاتي وعلى عنصر موضوعي. العنصر الموضوعي هو وجود الاختلاف أو التباين بالفعل في أي من المتغيرات المذكورة أعلاه (اللغة، أو الدين، أو الثقافة، أو الأصل القومي والمكاني، أو السمات الفيزيقية). أما العنصر الذاتي فهو إدراك أفراد الجماعة وإدراك الجماعات الأخرى القريبة منها لهذا التباين والاختلاف. وهو يؤدي إلى الشعور بالانتماء إلى جماعة معينة في مواجهة الجماعات الأخرى " (4). فدرجة الشعور بالتميز الذي يؤدي إلى تبني سياسات واتجاهات انفصالية يرتبط بشكل أساسي بطريقة التعامل السياسي والاجتماعي والقانوني مع هذه الأقليات.

فالسلطة النابذة والمستخدمة لكل أنواع القوة المادية الغاشمة لفرض الاندماج وتغييب التميز الطبيعي، تزيد بشكل أو بآخر من فرص بذور مشكلة الأقليات وعقدها الاجتماعية والسياسية.. أما السلطة التي تبحث عن نظام للتضامن والتعامل الحسن والحضاري مع هذه الأقليات، نظام يلبي متطلبات الأقليات الدينية والثقافية والتعليمية والاجتماعية، كما يلبي متطلبات الوحدة والاستقرار.

هذا النظام المرن والحيوي، هو الذي يزيل كل التوترات، ويحد من نزعات التهميش والتميز.. بل نستطيع القول: أن النظام السياسي والاجتماعي المرن والمتسامح، يتمكن من توظيف الشعور بالتميز لدى المجموعات البشرية، في بناء الوطن وإزالة كل عناصر التوتر.. أي أن الديمقراطية تجعل دور التميز دورا وحدويا، اندماجيا، بعيدا عن كل أشكال التقوقع والدوائر المغلقة. فالمساواة في الحقوق السياسية والمدنية، يجعل كل المجموعات البشرية، تباشر دورها الإيجابي في الحفاظ على أمن الوطن ومكتسباته السياسية والاقتصادية والحضارية. وهذه المساواة لا تتأتى إلا بتحقيق المشروعية الدستورية والمؤسسية للاختلاف والتنوع والتعدد في الوطن الواحد.

ولا بد من القول: أنه كلما قلت وتضاءلت مستويات الاندماج، كلما برزت في المجتمع مسألة الأقليات وتداعياتها السياسية والاجتماعية والثقافية.

بمعنى أن وجود الأقليات في أي فضاء اجتماعي، يتحول إلى مشكلة، حينما يفشل هذا الفضاء ولعوامل سياسية واجتماعية وثقافية عديدة في تكريس قيم التسامح واحترام الآخر وصيانة حقوق الإنسان والمزيد من الاندماج والانصهار الوطني. حينذاك تبدأ المشكلة، وتبرز الخصوصيات الذاتية، وتنمو الأطر التقليدية لكي تستوعب جماعتها البشرية بعيدا عن تأثيرات المحيط وإستراتيجياته المتجهة صوب فرض الانصهار وقهر الخصوصيات الذاتية.

إن الأقليات كمفهوم وواقع مجتمعي، لا يكون في قبال ومواجهة القوميات والوطنيات، ويسيء إلى جميع هذه المفاهيم من يجعل من مفهوم الأقليات مواجها لمفهومي القومية والوطنية، لأنه من المكونات الأساسية لكل قومية ووطنية هويات متعددة أما دينية أو مذهبية أو أثنية أو لغوية.. ولعل من الأخطاء الكبرى أن " تعالج الطائفية كما لو كانت إحدى ترسبات التاريخ الأيدلوجي العربي وتجلياته المرضية، وتفسر بقاءها ببقاء الجهل واستمرار الأميّة، أو تربط أحيانا بينها وبين الوعي الديني بشكل عام. وهي ترى أن الحل الوحيد لها هو مواجهتها بالوعي القومي والعلماني وبالتنوير الفكري والقضاء على من يمكن أن يتهم بنشرها والعمل على الترويج لها . وهي لا تجعل منها إذن قضية كبرى من قضايا التنمية والتطور السياسي و الاجتماعي العربي، وإنما قضية ملحقة بغيرها. وتنظر إلى التهابها الراهن في بعض المواقع كأثر من آثار تراجع الأيدلوجية القومية العربية. فبالتأكيد على هذه الأيدلوجية القومية والدعوة لها ونشرها يمكن في نظرها القضاء على الطائفية، وهذا يعني باختصار أن الوعي الطائفي هو نقيض الوعي القومي، وأن هذا النقيض أصبح يعبّر عن الماضي أكثر مما يعبر عن المستقبل، وأنه لا بد زائل من تلقاء نفسه متى ما تم التأكيد على الوحدة والشعور القوميين وضرب على يد كل من يسعى إلى استغلال الشعور الطائفي البغيض والمتقادم " (5).

ولا نبالغ حين القول: أن أحد الأسباب الرئيسة لسقوط الإمبراطوريات وتداعي الكيانات السياسية الكبرى، كان بفعل الاستبداد وغياب الحريات النوعية الناظمة للعلاقة والمصالح بين مجموع التعبيرات والأطياف المتوفرة في المجتمع. وإن هذه الإمبراطوريات والكيانات والدول، بدأت الانحدار حينما ساد التمييز بين القوميات والأثنيات، وغاب التضامن الداخلي على قاعدة المواطنة الواحدة، وبرزت كل النزعات الاستبدادية، التي حاولت الاستفادة من كل أسباب القوة للغلبة على الأطراف الداخلية الأخرى.

ومسألة الأقليات بكل عناوينها ومسمياتها، من المسائل الحساسة في المجالين العربي والإسلامي، وتحتاج إلى قراءة ودراسة عميقة لواقعها وصولا إلى بلورة رؤية حضارية متكاملة في طريقة التعامل معها وكيفية اندماجها الطوعي والاختياري مع النسيج الوطني والمجتمعي. ولعلنا لا نعدو الصواب حين القول، أن الكثير من النكبات الاجتماعية والانفجارات السياسية، كان من جراء عدم التصدي الجاد لعلاج هذه المسألة في الواقعين العربي والإسلامي.

نقد العلمانوية:

على المستوى التاريخي، نجد أن علمانية الحركة القومية، وعلمنة مشروع الوحدة، لم يلغ مسألة الأقليات ولم يعالجها وفق نسق حضاري يحترم خصوصياتها ويشركها على قدم المساواة في اجتراح دورها في مشروع الوحدة . وعلى المستوى الواقعي، نجد أن العديد من الكيانات السياسية العلمانية، لم تستطع أن تتجاوز عصبيات الواقع والدوائر التقليدية المتوفرة في المجتمع. بمعنى أن العديد من الوجودات السياسية العلمانية، هي عبارة عن يافطة حديثة لواقع تقليدي، عصبوي.. فالكثير من الأحزاب هو واجهات لواقع تقليدي. لذلك فإن العلمانية في التجربة العربية والإسلامية، لم تستطع أن تتجاوز بشكل حضاري خصوصيات الواقع ودوائره الخاصة المتوفرة. فلا يزال المجال العربي إزاء علمانية مبدونة (إذا جاز التعبير). حيث تمارس الاضطهاد والاستغلال بمضامين موغلة في القدم. فالتجربة العلمانية العربية، مارست السياسة بآليات متخلفة وتنتمي إلى عصور الانحطاط، واستقوت على غيرها من الوجودات والتعبيرات، بالاستقواء بالعصبيات التي جاءت على المستوى النظري كحل لتجاوزها ومنع تأثيراتها السلبية.. فالممارسة العلمانوية أضحت في مناطق العالم العربي، ممارسات طائفية، حيث الاحتماء بطائفة ضد أخرى، وممارسات قومية شوفينية، حيث الاستناد بقومية وقمع القوميات الأخرى.. وهذا أدى في المحصلة النهائية إلى أن التجربة العلمانوية العربية، أنتجت وبزخم جديد كل الصراعات والنزاعات الداخلية، والتي جاءت كوصفة نهائية لعلاجها وإسقاط موجبات بقائها. فتحولت على مستوى التجربة العملية، إلى إضافة جديدة إلى الصراعات العميقة التي كانت تعاني منها مجتمعاتنا. وهذا يدفعنا إلى القول: أنه حينما تغيب الديمقراطية والحريات النوعية، تتحول كل الشعارات والمضامين الحديثة، إلى واجهات لإنتاج الأزمات التقليدية والعقد الكامنة في المجتمعات العربية والإسلامية.

فالديمقراطية هي الشرط الذي لا بد منه للسير نحو تطوير البنى السياسية والثقافية والاقتصادية للمجتمع..كما أن الديمقراطية هي التي تدفع السيرورة الاجتماعية للتعاون والتضامن والاندماج بين الأقليات على أسس أكثر عدالة وتسامحا ومساواة.. فالاستبداد والديكتاتورية، هي التي جعلت الواجهات الحديثة ذات محتوى أو طابع طائفي أو قومي محض.وبهذا غابت المواطنية، وسادت البنى الطائفية والقومية المغلقة والمنعزلة في آن..

فالأمن الشامل والدائم، هو وليد العدل السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وكل محاولات وإجراءات استتباب الأمن لا فعالية لها ما دام مفهوم العدل لم يتحقق في الواقع المجتمعي. وترتكب الدول والمجتمعات أخطاءً فادحة، حينما تنشد الأمن والاستقرار بعيدا عن متطلبات العدالة وحقائق الحرية والمساواة. والدين كمنظومة مفاهيمية متكاملة، ليس هو مصدر التعصب الطائفي أو الأثني، وإنما الأوضاع السياسية والاقتصادية الشاذة والظالمة، هي التي تدفع المجموعات البشرية المتضررة من هذه الأوضاع إلى البحث عن وسائل لحماية ذاتها في خصوصياتها وإنتماءاتها العميقة. كما أن المجموعات البشرية المستفيدة من الأوضاع، فإنها تتشبث بخصوصياتها، لكي تحافظ على مكتسباتها ومصالحها. لذلك فإن مصدر التعصب والتطرف، هو الأوضاع السياسية والاقتصادية الظالمة، التي تمارس فرزا عميقا لكل فئات المجتمع على قاعدة انتماءاتهم المذهبية والأثنية والسياسية والأقوامية.

والقضاء على هذا التعصب والتطرف، لا يتم عبر محاربة الدين وأشكال التواصل معه بل عبر مواجهة الظروف السياسية والاقتصادية، التي عمقت هذا التعصب، وعملت على بناء واقع سياسي على قاعدة التمييز والتهميش لفئات اجتماعية، والامتيازات والثروات والمناصب لفئات اجتماعية أخرى.. فالأداء السياسي الظالم والبعيد عن مقتضيات العدالة والمرونة والتسامح، هو المسئول عن كل حالات التعصب والتطرف بكل أشكاله ومستوياته.

وإن الاستقرار السياسي والمجتمعي، القائم على احترام تعدديات المجتمع وتنوعه الفكري والسياسي، هو الذي يؤدي إلى نضوج خيار التمازج والتداخل والتواصل المتبادل بين مجموع تعبيرات المجتمع والأمة.

ويبدو أننا من دون فهم واقع الأقليات والأثنيات في المجالين العربي والإسلامي، وبلورة المعالجة الحضارية لهذا الواقع. من دون هذا سيبقى الواقع الداخلي والمجتمعي للعرب والمسلمين، يعاني الكثير من الأزمات والاختناقات والنكبات، لأن العديد من الصراعات والحروب الصريحة والكامنة، تجد جذورها ومسبباتها العميقة في هذا الواقع الذي يتم التعامل مع الكثير من عناوينه وقضاياه بعيدا عن مقتضيات العدالة والديمقراطية.

وحينما نلح ونصر على ضرورة قراءة هذه المسألة ودراستها بشكل معمق، لا نريد تبرير واقع الانقسام والتجزئة، أو نشجع أصحاب المصالح في الخارج للاستفادة من هذا الفسيفساء أو التناقضات، وإنما نريد إعادة بناء مفهوم الوحدة الوطنية على قاعدة أكثر حرية وعدالة ومساواة. ولا يمكننا الوصول إلى ذلك دون الاعتراف بهذه المشكلة، والعمل معا من أجل بلورة المعالجة المناسبة لها.

فإننا نقف بقوة وحسم ضد كل محاولات التفتيت والانقسام، كما إننا نقف بنفس الدرجة ضد كل محاولات التجاهل والظلم والتعسف والتعدي على الحقوق تحت أي مبرر كان.فالوحدة الوطنية الصلبة، لا تبنى على أنقاض تجاهل حقوق الأقليات بل إننا نرى أن بوابة الوحدة الوطنية، هو أن ينال المجتمع بكل قواه ومؤسساته وفئاته الحرية اللازمة للتعبير عن آماله ومطامحه، وإدارة شؤونه بما ينسجم ومصالحه العليا.

وعندما ينال المجتمع حريته، وتتعمق في فضائه الممارسة الديمقراطية، تزول كل هواجس الخوف، وتضمر كل نوازع الاستقلال الذاتي والانفصال. فالديمقراطية بكل آلياتها ومؤسساتها ومقتضياتها، هي التي تعمق خيار الوحدة الداخلية، وتبنيه على أسس متينة وقواعد حضارية صلبة. فالتعدد الثقافي واللغوي في سويسرا (حيث هناك ثلاث مجموعات ثقافية ـ لغوية كبرى) لم يمنعهم من بناء وحدة داخلية حضارية تعطي لكل مجموعة حقوقها دون أن تنحبس وتنعزل هذه المجموعة عن المحيط العام ومتطلبات الوحدة الوطنية. كما أن الديمقراطية الهندية، هي التي سمحت لأربعين جماعة ثقافية ـ لغوية، من بناء دولة مقتدرة ومجتمع ديمقراطي يمتلك تجربة تاريخية متواصلة في الحرية والتسامح بين المجموعات المتعددة التي يتشكل منها المجتمع الهندي.

فالتعدد والتنوع لا يمنعان الاندماج والوحدة الاجتماعية والوطنية.. الذي يمنع كل هذا هو الاستبداد وغياب العدالة والمساواة. فلو توفرت الديمقراطية وتجسدت العدالة السياسية والاقتصادية، فإن الاندماج والوحدة الداخلية تكون متحققة من جراء ذلك..

العدالة سبيل التعايش:

ولا يمكن أن تتعايش التنوعات كلها في إطار أمة واحدة ووطن واحد، إذا لم تسود قيم العدالة الواقع الذي تعيشه هذه التنوعات.. فالظلم بكل صوره وأشكاله، يفتت التنوعات ويشرذمها ويؤسس لمنطق الحروب والنزاعات المفتوحة بينها. ولا سبيل لتعايش حضاري بين التنوعات والتعبيرات المختلفة، بدون عدالة، تلغي كل حالات التهميش والتمييز، وتمنع سيادة منطق الغلبة والإلغاء، وتحافظ على كل أسباب العدالة في نمط العيش وأشكال العلاقة.

والعدالة التي نعتبرها سبيل التعايش الحضاري بين مختلف التنوعات تعني:

1) نبذ كل أشكال التمييز والإقصاء والإلغاء، واعتبارها من القضايا الرئيسة التي تهدد وحدة الوطن وأمنه. فحقائق التنوع بشكل مجرد لا تهدد الوحدة، ولا تلغي حالة التعايش، ولكن الذي يهدد الوحدة الاجتماعية والوطنية، ويلغي مستويات التعايش في الدائرة الوطنية، هو التأسيس الظالم على هذه التنوعات، عبر ممارسة كل أشكال التمييز ضد كل تنوع أو تعبير.

فالذي يهدد الوحدة، هو التمييز والتهميش والإقصاء. ولا سبيل لإنجاز مقولة العدالة، إلا بنبذ كل أشكال التهميش والإقصاء الذي تتعرض إليه بعض التنوعات. وهنا يتطلب أيضا الوقوف بحزم ضد كل محاولات التشويه التي تتعرض إليها بعض المدارس العقدية والفكرية والسياسية، وذلك لأن السماح إلى المغرضين إلى تشويه سمعة الآخرين الذين هم جزأ لا يتجزأ من الوطن والأمة، يعد وفق كل المقاييس تعريض كل مكاسب الوطن ووحدته الداخلية للكثير من المخاطر والأزمات. لذلك فإن رفضنا ونبذنا لكل أشكال التمييز والتهميش، لحرصنا الدائم على التعايش السلمي والوحدة الوطنية.

2) تكافؤ الفرص الوظيفية والإدارية والسياسية والثقافية، فلا يعقل أن تمنع كفاءة من خدمة وطنها من موقع تخصصها وتميزها بفعل انتماءها العقدي أو الاجتماعي أو السياسي. إن مقتضى العدالة، أن تكون جميع الفرص متاحة للجميع والأكفأ هو الذي يتحمل المسؤولية , فلا عدالة حقيقية إذا منعت بعض المواقع عن بعض الفئات والشرائح، كما لا تعايش حضاري بين التنوعات، إذا سادت عقلية الاستثناء والإقصاء لأسباب لا تنتمي إلى عالم العدالة والحضارة والإنسانية.

3) صيانة الحقوق الدينية والسياسية والثقافية، فلا يكتمل عقد العدالة، إلا بالعمل على صيانة حقوق الأقليات الدينية والسياسية والثقافية، عبر مؤسسات وقوانين دستورية، تتجاوز استقطابات اللحظة، وتؤسس لسياق وطني، يصون حقوق الأقليات كسبيل لتوطيد موجبات الوحدة الوطنية والاجتماعية.

4) تطوير النظام السياسي وإرساء دعائم ومتطلبات الديمقراطية فيه. وذلك لأن الداء الأكبر الذي يعرقل الاصلاحات ويعمق الفروقات الأفقية والعمودية في المجتمع، هو الاستبداد. ولا يمكن أن تحترم أقلية ما في ظل نظام سياسي مستبد. فلا بد من إرساء دعائم الديمقراطية على المستوى السياسي وتطوير وتوسيع بنية النظام السياسية والاجتماعية، حتى تتسنى الظروف المفضية إلى صيانة حقوق الأقليات ومشاركتها الفاعلة في بناء الوطن وتطوير الأمة. وإن تذويب الفوارق التقليدية المتوفرة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، يتطلب تأسيس الممارسة الديمقراطية التي تعلي من شأن القيم الإنسانية، ويتم تجاوز كل الحواجز التي تحول دون التلاحم الوطني المطلوب. ولمؤسسات التعليم والإعلام أدوار ووظائف رئيسية في هذا المجال.. بمعنى أن المناهج التعليمية في مختلف المراحل المدرسية وكذلك البرامج الإعلامية والثقافية بحاجة دائما إلى إبراز قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والتسامح، والابتعاد التام عن كل ما يجرح أو يشين بفئة أو شريحة في المجتمع.

فمؤسسات الديمقراطية وأطر وأوعية المشاركة في الشأن العام، هي القادرة على تذويب الفروقات التقليدية. بمعنى هي القادرة على إزالة كل عناصر التوتر والتأزم بين الفروقات التقليدية.

الحرية تعني غياب الإكراه:

فالمعنى البسيط والمباشر للحرية، يعني حرية الاختيار. ولا اختيار حر في ظل الإكراه. لذلك فإن الحرية تعني غياب الإكراه على المستويات كافة. بحيث أن الإنسان يمارس حقوقه ويلتزم بواجباته بعيدا عن الإكراهات المتعددة، التي تحول دون الممارسة السليمة لمفهوم الحرية.

وعلى المستوى التاريخي كان تطور مفهوم الحرية على الصعيد المجتمعي، هو من جراء نضالات مستميتة ومعارك ضارية من أجل تثبيت قيم الديمقراطية، وإنهاء كل عناصر الإكراه التي تحول دون التراكم الإيجابي لقيمة الحرية. ولا يمكن بأي حال من الأحوال، اعتبار القمع والإكراه والعنف، وسيلة من وسائل تنظيم الحياة الوطنية وضبط العلاقة بين السلطة والمجتمع. وذلك لأن هذه العناصر تزيد الأزمات وتعمق خيارات الإقصاء، وتزيد من فرص الحروب بين السلطة والمجتمع.

إن الحرية هي القيمة الأساسية التي تحقق مفهوم العدالة في بعدها السياسي والثقافي فلا عدالة سياسية بدون حرية سياسية تتجسد في حرية تشكيل الأحزاب والتكتلات السياسية وتجذير مفهوم تداول السلطة، كما أنه لا عدالة ثقافية، إذا لم تعطى الحرية لكل القوى والوجودات، لكي تعبر عن ذاتها وخصوصياتها الثقافية. فالعدالة لا تتأتى إلا بتوافر الحريات العامة على نحو حقيقي ونوعي.. فهي (الحريات بمعناها الشامل والمتكامل)، هي التي تنتج العدالة.. وإن الحرية هي التي حركت في نماذج تاريخية ومعاصرة عديدة، الأقليات أو زعامات وقيادات تاريخية تنتمي إلى الأقليات في مشروع الدفاع عن الوطن والأمة.

فالحرية هي التي توفر المناخ الطبيعي لتجاوز كل الحساسيات واستيعاب كل الأطياف والقوى في مشروع الأمة الجامعة والوطن المشترك. وبدون الحرية (أي مع سيادة الاستبداد) تنمو العصبيات، وتبرز الأطياف والخصوصيات وتتطلع إلى بناء كيانات خاصة بها. لأن مشروع الاستبداد همشها ومارس التمييز بأقسى صوره ضد وجودها وتطلعاتها المشروعة.

إن تسفيه مشاعر الآخرين، لا يقود إلى التضامن والوحدة، بل إلى الشقاء والمحنة. وهكذا نصل إلى حقيقة أساسية مفادها: أن اندماج الأقليات في مشروع الوطن والوحدة الوطنية أو القومية، يتطلب إعطائها الحرية لممارسة شعائرها وطقوسها الدينية وفسح المجال القانوني لتاريخها الثقافي، ولمساهمة ثقافتها الــراهنة في صياغة واقعها الخاص. حينذاك (أي حينما تمنح الأقليات الحرية)، سيتم الاندماج الطوعي والاختياري في مشروع الوحدة الوطنية والقومية. فطريق الوحدة يمر عبر الحرية فلا وحدة بدون حرية، ولا اندماج بدون قانون ودستور يحمي خصوصية الأقليات الدينية والثقافية.

وهذا لا يعني التشريع للكيانات الخاصة والدويلات الضيقة، وإنما نعتبر هذه الكيانات وليد طبيعي للاستبداد والديكتاتورية. لذلك فإن المطلوب احترام الخصوصيات الدينية والثقافية، لأنها الطريق الحضاري لخلق وحدة في الاجتماع السياسي.

الحرية بوابة الوحدة:

لكي ترتفع الأقليات والاثنيات من دوائرها التقليدية وكياناتها الذاتية إلى مستوى المواطنة الجامعة، هي بحاجة إلى عوامل موضوعية وسياسية، تساهم في إشراك هذه الدوائر والكيانات في بناء مفهوم الأمة.

ولقد علمتنا التجارب أن التعامل القهري مع هذه الكيانات الأقلوية والإثنية، لا ينهي الأزمة، ولا يؤسس لمفهوم حديث للأمة والوطن، وإنما يشحن المجتمع بالعديد من نقاط التفجر والتوتر، ويدفع هذه الكيانات إلى الانكفاء والانعزال، وبهذا يسقط مشروع الأمة والمواطنة الجامعة.

وخيار القمع والاستبداد خلال العقود المنصرمة، وفي مناطق عديدة من مجالنا العربي والإسلامي لم يقض على هذه المشكلة، ولم يؤصل لمنظور وحدوي جديد، يتجاوز فيه بشكل حقيقي وعميق مشكلة الكيانات الخاصة.

وإنما أدى خيار الديكتاتورية والقمع، إلى مسلسل رهيب من التهميش والتمييز على مختلف الصعد بحق أبناء الأقليات والأثنيات.

وفي المقابل وأمام هذه الهجمة الشرسة ضد هذه الكيانات، مارست الأخيرة عملية انكفاء وانعزال من اجل الدفاع عن ذاتها وخصوصياتها الأثنية أو القومية أو الدينية أو المذهبية.وفي المحصلة النهائية كان الوضع عبارة عن قمع وتهميش وتمييز وإلغاء تمارسها مؤسسة الدولة تجاه هذه الوجودات، لتذويبها بالقوة والقهر في الدائرة الوطنية أو القومية الغالبة، وممانعة مستميتة من قبل هذه الوجودات، ألصقتها بخصوصياتها وشخصيتها التاريخية وانغلاق تام في الدائرة الخاصة. ومن جراء هذه المسألة لم ينجز مشروع الأمة الواحدة، ولم يتحقق الإجماع والوحدة الوطنية على قاعدة طوعية واختيارية.. وإنما جعل المسألة الوطنية في خطر عظيم ودائم من جراء هذا الخيار المتخلف في التعامل مع مسألة الأقليات والاثنيات والقوميات المتوفرة في مجالنا العربي والإسلامي.. فالاستبداد فاقم المشكلة، والقهر عمقها وأضاف لها أبعادا جديدة، والتهميش والتمييز المقصود، حرك كل الكوامن والخصوصيات باتجاه المزيد من التشبث بها والالتزام بمقتضياتها.

وهذا يعني أن الديكتاتورية والاستبداد، لم يدفع هذه الدوائر إلى مصاف الأمة الواحدة، كما أنها لم تشعر بالاطمئنان التام تجاه كل شعار ومشروع وحدوي، تقف وراءه مؤسسة مستبدة وديكتاتورية عسكرية أو سياسية. وذلك لأن هذا المشروع الوحدوي، يخفي في واقع الأمر صراعا أقلويا وعصبويا، يتجذر ويتعمق في وسط الأمة بيافطة وحدوية وتوحيدية..

والمشروع الوحدوي الذي يستند على الديكتاتورية والاستبداد،يفضي إلى المزيد من الفرقة والتشرذم والتشظي والبعد عن كل متطلبات الوحدة.

لأن الوحدة الوطنية أو القومية، لا تنجز على قاعدة إفناء التنوعات الداخلية، وإنما عبر توفير الحرية لها، ولكي تمارس دورها في بناء الوحدة.. والخطاب الوحدوي الذي حارب الأقليات والاثنيات والقوميات الأخرى، باعتبارها مضادات للوحدة أو طوابير خامسة للقوى المعارضة للوحدة، انتهى المطاف إلى إقليمية ضيقة، لا يرى إلا الإقليم القاعدة، ولا يحترم إلا مصالحه وتحالفاته وواقعه السياسي . لدرجة نستطيع القول فيها، أنه لا يوجد قطر من الأقطار العربية، من يتعاطى مع مشروع الوحدة من موقع الجدية والخطوات المرحلية الدائمة الموصلة إلى هدف الوحدة.. وإنما يتم التعاطي مع هذا المشروع كشعار يخفي المصالح والمطامع الإقليمية، ولتبرير وتسويغ واقع الحال.. فالوحدة سيرورة تاريخية يتداخل فيها السياسي مع الثقافي والاقتصادي والنفسي، وهي بحاجة إلى عمل يتراكم مع بعضه البعض، لكي تخلق الحقائق والوقائع الوحدوية الموصلة إلى مشروع الوحدة الشاملة. ولكن وبفعل النزعة الشوفينية والعدمية لمشروع الوحدة الشاملة، نجد المفارقات العجائبية. خطاب وحدوي مركزي، ووقائع قطرية ضيقة، عاطفة جياشة تجاه الوحدة، وواقع يتم تبريره وإسناده مضاد للوحدة وموغل في الدوائر الضيقة، شعار وحدوي يتطلع إلى الوحدة بشوق وشغف، ومسيرة التجزئة وشرعيتها تأخذ مسارها في الوجود والممارسة.

لذلك نستطيع القول: أنه ليس كل خطاب وحدوي، يوصل إليها، بل على العكس من ذلك في كثير من الأحيان.. الخطابات الوحدوية (على المستوى الفعلي) تعمق الفروقات القطرية، وتتعامل مع واقع التجزئة من موقع استراتيجي، ينشد إبقاء الأمور على حالها.

لذلك فإننا بحاجة أن نعيد النظر في مشروع الوحدة، بمعنى أن التجارب والممارسات خلال الأربعة عقود الماضية، أوصلتنا جميعا إلى طريق مسدود في مسألة الوحدة. ولعلنا لا نعدو الصواب، حين القول، أن جذر الإخفاقات ليس في العوامل الخارجية التي وقفت ولا زالت تقف ضد مشروع الوحدة، بل في العوامل الداخلية، التي هي بحق المعوق الأساس والجوهري لهذا المشروع. ولعلنا نكثف هذه العوامل الداخلية في محور واحد هو: العلاقة بين مشروع الوحدة والاستبداد.

والتجارب الوحدوية الفاشلة، التي عمقت بفشلها وتراجعها وسلبياتها حالات التجزئة، كان السبب الأساسي في تقديرنا لفشلها وإخفاقاتها، هو في اعتماد هذا المشروع على ديكتاتورية عسكرية وسياسية لإنجاز هذا المفهوم الحضاري.

كما أن الوحدة التي تستند في خلق واقعها ومسيرتها الفعلية على سلطة مستبدة، لا تنجز الوحدة، بل تعمق خيار التفتيت والتشظي تحت مسميات ويافطات عديدة. فالاستبداد لا يخلق وحدة، بل تشظيا وتفتتا وانزلاقا نحو الحروب الداخلية المميتة لكل حيوية وفعالية باتجاه الوحدة ومتطلباتها السياسية والاجتماعية.

ولا نبالغ حين القول: أن من الأخطاء التاريخية الكبرى، التي وقعت فيها مشاريع الوحدة والتوحيد في مجالنا العربي والإسلامي، هو اعتمادها عسكرتاريا ديكتاتورية ونخبة سياسية مستبدة لا ترى إلا بلون واحد ولا تتعامل إلا بعقلية ضيقة، صحرت الواقع الاجتماعي، وأفقرت العمل السياسي والمدني، وخلقت الحواجز النفسية والفعلية الكبرى التي تحول دون الوحدة والتوحيد. لذلك لم نجن من هذه التجارب والممارسات إلا المزيد من التشظي والتجزئة والتشرذم.

وكمون قيمة الوحدة في قاع الوعي والعاطفة، ينبغي أن لا يدفعنا إلى تبني خيارات فوقية وشكلية لانجازها. لأن الخيار الخاطئ يفاقم العقد، ويبرز إشكاليات جديدة، تزيد من أزمات وعقبات مسيرة الوحدة.

كما أن الميل التاريخي نحو الوحدة والتوحيد في المجال العربي والإسلامي، من الضروري أن نقرأه بعمق، حتى يتسنى لنا خلق آليات مناسبة، تدفع هذا الميل التاريخي نحو مسيرة تصاعدية، إيجابية، تتجاوز مناخات الواقع السيئة. فالأزمة دائما ليس في قيمة الوحدة وإيجابياتها وآفاقها الكبرى التي توفرها على مختلف الصعد، بل في الطريق الذي تنتهجه النخب للوصول إليها..

الحرية شرط تجاوز الطائفية:

الحقائق التاريخية عنيدة، ومشروع الوحدة لا ينجز على أنقاضها. حيث تعلمنا التجارب أن كل المحاولات التي بذلت لتدمير هذه الحقائق التاريخية كشرط للوحدة باءت بالفشل، وذلك لأن هذه الحقائق متجذرة وتمتلك امتدادات عميقة في الجسم الاجتماعي.. لذلك نستطيع القول أن طريق الوحدة، لا يمر عبر محاربة هذه الحقائق، وإنما عبر احترامها وتوفير الحرية اللازمة لها، حتى تتوفر الظروف والمناخات المؤاتية لانخراطها الحضاري في مشروع الوحدة والتوحيد.

فالمشترك الوطني، لا يعني إلغاء الخصوصيات الدينية أو المذهبية والثقافية، وإنما يتطلب احترامها وفسح المجال لها، لكي تمارس دورها ووظيفتها في إثراء مفهوم الوحدة بمضامين حضارية، تتجاوز الرؤية الآحادية والنهج الإقصائي.

واحترام الأقليات وإعطاءها الحريات اللازمة يعني:

1. فسح المجال القانوني والاجتماعي والسياسي، لكي تمارس هذه الأقليات شعائرها الدينية بعيدا عن الضغوطات والتجاذبات. ومن الأهمية أن ندرك جميعا، أن من الحقوق الأساسية لكل إنسان، أن يمارس عقائده وشعائره في مناخ من الحرية والاحترام و القانون. وحينما لا تتوفر هذه الحرية، لا يعني انعدام ممارسة الشعائر،بل يعني أن الأقليات ستبحث لها عن طرق وأساليب أخرى لكي تمارس شعائرها وطقوسها.

2. فسج المجال الثقافي والسياسي، لكي تمارس الأقليات خصوصياتها اللغوية والثقافية. إذ أن لكل جماعة بشرية خصوصيات ثقافية. قمع هذه الخصوصيات، لا يفضي إلى وحدة، بل إلى أساليب جديدة، تمارس هذه الأقليات من خلالها خصوصياتها الثقافية.

لذلك فإن المطلوب دائما، أن لا تقمع ثقافة الأقليات، أو يتم التعامل معها بفوقيه واستعلاء.. المطلوب الحرية بكل آفاقها ومتطلباتها للثقافة والخصوصيات المعرفية لكل جماعة بشرية.

3. الشراكة السياسية والاقتصادية، حتى تنطلق الطاقات والقدرات في مشروع بناء الوطن وعمرانه.

والشراكة السياسية والاقتصادية، تقتضي تكافؤ الفرص، وفسح المجال للجميع بعدل للمشاركة في الإدارة والتسيير.

لهذا نستطيع القول: بأن مفهوم الشراكة السياسية والاقتصادية في بناء الوطن وإدارته تقتضيان إلغاء كل أشكال الإقصاء والتمييز، والشفافية في الإدارة وتسيير الشؤون العامة، ووجود عقد اجتماعي ـ سياسي ينظم العلاقة بين مختلف الدوائر والقطاعات، حتى تنتظم جميع الكفاءات الوطنية في مشروع البناء والعمران.

فالاستبداد والتمييز، لا يخلقان وحدة واندماجا، وإنما تحاجزا وانفصالا عميقا بين مجموع القوى والتعبيرات المتوفرة في الساحة. ولذلك فإنه لا شراكة حقيقية على المستويين السياسي والاقتصادي مع وجود الاستبداد السياسي، وذلك لأنه يفرغ هذه المقولة من مضمونها الحقيقي والفاعل. فالشراكة السياسية والاقتصادية، تتطلبان تفكيكا متواصلا للبنية الاستبدادية، حتى يتسنى للجميع وعلى قدم المساواة المشاركة في إدارة الشأن العام وتطوير الوطن وعمرانه وتنميته على مختلف الصعد والمستويات.

وبكلمة: إن العدل السياسي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ودلالات، هو الذي يوفر الأرضية المناسبة، لإنجاز مقولة الشراكة السياسية والاقتصادية لكل القوى والأطياف في البناء والإدارة والتسيير.

الحرية طريق المواطنة:

إذا توفرت الحرية والعدالة، توفرت عناصر العقد الاجتماعي الحقيقي، الذي يحافظ على الاستقرار ويعمق عوامل الأمن الشامل . فتتوفر كل العناصر المطلوبة لمفهوم المواطنة الحقة. فلا مواطنة بدون حرية وعدالة، فهما طريق خلق المواطن الصالح المدافع عن منجزات وطنه ومكتسباته، والمدافع عن ثغوره وحدوده، وهو الذي يكافح باستماتة من أجل عزة الوطن وتطويره. فالإنسان المقموع والمضطهد في وطنه، لا ينمو لديه حسن المواطنية بشكل إيجابي، وذلك لأنه باسم الوطن يضطهد ويقمع، وتحت علمه وشعاراته الوطنية تهان كرامته وتنتهك حقوقه. لذلك فإن طريق المواطنة هو الحرية وصيانة حقوق الإنسان والدفاع عن كرامته الإنسانية.

إن هذه القيم والمبادئ، هي التي تخلق عند الإنسان الحس الوطني الصادق. وبدون هذه القيم، تضيع المواطنية،و إذا ضاعت المواطنية ضاع الوطن.لذلك لا وطن عزيز بدون مواطنية عزيزة.

وإذا توفرت الحريات العامة، فهذا يعني توفر المناخ الملائم لتعبئة طاقات المجتمع، وبلورة كفاءات نخبته، وازدادت إبداعاته ومبادراته. وكل هذه الأمور من القضايا الحيوية لصناعة القوة في الوطن. ويخطأ من يتصور أن القهر والاستبداد والأساليب الأمنية المختلفة، هي القادرة على خلق المواطنية وحالة الولاء الصادق إلى الوطن.

إننا ومن خلال التجارب التاريخية العديدة، أن الحرية والشفافية وسيادة القانون والمؤسسات الدستورية، هو الكفيل بتعميق حس المواطنة الصالحة. فشعب الولايات المتحدة الأمريكية، أتى من بيئات جغرافية متعددة، وأطر عقدية ومرجعيات فكرية وفلسفية متنوعة، ولكن الحرية بكل آلياتها ومجالاتها ومؤسساتها، وسيادة القانون والمؤسسات الدستورية، هي التي صهرت كل هذه التنوعات في إطار أمة جديدة وشعب متميز.

فالحرية وحدها هي القادرة على خلق المواطنة الصالحة، وبدونها تتحول كل المشتركات عوامل للجمود والتخشب والبعد عن الحيوية والفعالية في كل مجالات الحياة. وإن المجال الإسلامي خلال العقود الماضية، دفع ثمن تهميش أقلياته وممارسة أقسى أشكال التمييز تجاه هذه الأقليات. حيث الحروب العبثية، التي أهدرت الكثير من الطاقات والثروات، والتدخلات الأجنبية السافرة في مصالح واستراتيجيات هذا المجال، حيث وجدت في سياسة التمييز والإقصاء الأرض الخصبة لإرباك الساحات الداخلية للعرب والمسلمين. والمحصلة النهائية لكل ذلك الشعور بالضياع وضمور الحس الوطني الصادق، والبحث الشره على المصالح الضيقة، حتى ولو كان ثمنها حرية الوطن واستقلاله.

ولا نعدو الصواب حين القول، أن جذر هذه الأزمة هو الاستبداد السياسي الذي يلتهم كل فعالية، ويقمع كل أمل وحيوية، ويزدري من كل تطلع وطموح.

فالاستبداد يدمر الأوطان ولا يحفظها، ويمتهن كرامة المواطنين، ويدوس على مقدساتهم وتطلعاتهم.

وحدها الديمقراطية التي تعيد الاعتبار إلى الذات والوطن، وتعيد صياغة العلاقة بينهما، فتنتج وعيا وطنيا صادقا، يحفز هذا الوعي على الدفاع عن عزة الوطن وكرامة المواطنين.

فالاستقرار السياسي والمجتمعي، يتطلب باستمرار تطوير نظام الشراكة والحرية على مختلف الصعد والمستويات، حتى يتسنى للجميع كل من موقعه خدمة الوطن وعزته.

والمواطنة التي نراها شرط إنجاز الحرية على الصعيد المجتمعي، ليست شعارا يرفع أو يدّون في الأنظمة الإدارية والإجرائية، بل هي منظومة متكاملة من الحقوق والواجبات، تدفع باتجاه تنمية مشاركة المواطن في قضايا وطنه المختلفة.. " ومن أجل تجسيد المواطنة في الواقع، على القانون أن يعامل ويعزز معاملة كل الذين يعتبرون بحكم الواقع أعضاء في المجتمع، على قدم المساواة بصرف النظر عن انتمائهم القومي أو طبقتهم أو جنسيتهم أو عرقهم أو ثقافتهم أو أي وجه من أوجه التنوع بين الأفراد والجماعات. وعلى القانون أن يحمي وأن يعزز كرامة واستقلال واحترام الأفراد، وأن يقدم الضمانات القانونية لمنع أي تعديات على الحقوق المدنية والسياسية، وعليه أيضا ضمان قيام الشروط الاجتماعية والاقتصادية لتحقيق الإنصاف. كما أن على القانون أن يمكن الأفراد من أن يشاركوا بفعالية في اتخاذ القرارات التي تؤثر في حياتهم، وأن يمكنهم من المشاركة الفعالة في عمليات اتخاذ القرارات السياسية في المجتمعات التي ينتسبون إليها " (6)

فالمشاركة الواعية بدون استثناءات ووصايات في شؤون الأمة والوطن، وقدرة كل مواطن إلى الوصول بكفاءته إلى أعلى المناصب والمستويات بصرف النظر عن منبته ومذهبه وقوميته، هو الذي يثري مفهوم المواطنة، ويجعل إنجازه مرهونا إلى حد بعيد إلى الحرية والديمقراطية. فلا مواطنة حقة بدون ديمقراطية سياسية، تعطي لكل المواطنين حق المشاركة والتعبير والاجتماع والتنظيم والإدارة. فطريق المواطنة بكل متطلباتها وشروطها، يمر عبر الديمقراطية، فهي التي تحقق مفهوم المواطنة، وبدونها نبقى سديما بشريا لا يشترك في تقرير مصيره، ويمارس عليه كل أنواع التمييز والتهميش.

ولا شك أن أحد الأسباب الرئيسة لانهيار الوعي الوطني الصادق، هو عدم التعامل الجاد والديمقراطي مع مسألة الأقليات. إذ خضعت هذه المسألة للعديد من الاستقطابات السياسية المختلفة، وتم استخدامها كورقة في الصراعات السياسية، دون أن تنبري قوى نوعية للقيام بمبادرات سياسية جادة، تسعى نحو بلورة رؤية متكاملة وممكنة لهذه المسألة في المجالين العربي والإسلامي.

ولنا في التجربة النبوية في المدينة المنورة خير مثال ونموذج، إذ أن المواطنة التي شكلها رسول الله (ص) لم تلغ التعدديات والتنوعات، وإنما صاغ دستورا وقانونا يوضح نظام الحقوق والواجبات، ويحدد وظائف كل شريحة وفئة، ويؤكد على نظام التضامن والعيش المشترك. إذ جاء في صحيفة المدينة: " وإنه لا يحل لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثا، ولا يؤويه، وإنه من نصره وآواه فإن عليه لعنة الله وغضبه إلى يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل. وإنكم مهما اختلفتم في شيء (فيه من شيء)، فإن مرده إلى الله وإلى محمد (الرسول) وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما دامو محاربين.. وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين: لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم، وأنفسهم، إلا من ظلم، أو أثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه، وأهل بيته " (7).

فسبيل المواطنة الصادقة، ليس التوحيد القسري والقهري للناس، وإنما بالحرية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وكرامته، نخلق مواطنا صالحا وفاعلا وشاهدا.

ومواجهة تحديات الخارج المختلفة، لا تتم عبر قهر الناس ومصادرة حقوقهم وحرياتهم،وإنما على العكس من ذلك تماما. فمواجهة تحديات الخارج، تتطلب انبثاق قوة وحدوية وتوحيدية في داخل الوطن، تأخذ على عاتقها تجميع الطاقات وبلورة الاستراتيجيات، والاستفادة من كل القدرات والإمكانات. وهذه القوة الوحدوية، لايمكن أن تبنى على قاعدة القهر ومصادرة الحقوق والحريات،وإنما على قاعدة صيانة الحقوق والكرامات، ومأسسة الحريات. إن هذه القاعدة الحضارية، هي التي تفشل كل عمليات ومحاولات الاختراق للجسم الوطني، وهي القادرة على إفشال كل الرهانات التي تسعى إلى تجزئتنا وتفتيتنا وانقسامنا.. " والديمقراطية بهذا المعنى هي تعظيم لقدرات المجتمع وتحصين له ضد الانفجارات الداخلية والاختراقات الخارجية. روح الديمقراطية، مثل روح الفيدرالية، لا تكمن في الآليات الشكلية بقدر ما تكمن في معنى تعظيم المشاركة وتعظيم الاستفادة من قدرات كل التكوينات الاجتماعية – ـ الاقتصادية، دون قهر أو استغلال من إحدى هذه التكوينات للتكوينات الأخرى. فليست الديمقراطية الليبرالية، مثلا، هي الشكل الأوحد أو الأنسب لكل الأقطار في كل الحالات. ولكن الأنسب والأمثل هو إتاحة الفرص المتكافئة لأبناء كل الجماعات الإثنية للمشاركة في إدارة مجتمعهم، وفي إنتاجه، وفي خدماته " (8).

والمجتمع الاستبعادي والمغلق، لايمكن أن تنمو في محيطه قيم الديمقراطية والتسامح، وذلك لأنه يستند على نظام اجتماعي مغلق، يحارب كل محاولة نحو الانفتاح والتواصل، ويقف موقفا مضادا من كل عمليات إعادة بناء المجتمع على أسس ومعايير جديدة..

والمطالبة بالديمقراطية، والشعور بضرورتها وأهميتها لواقعنا الراهن، ليس وليد التقليد الصرف للآخرين وأطوارهم التاريخية، بل هو من صميم واقعنا ومسيس حاجتنا إلى هذه الحريات، حنى نتمكن جميعا من الخروج من المآزق الكبرى التي نعاني منها، وتحول دون إنطلاقتنا الحضارية..

إن الديمقراطية بثقافتها وآليات عملها والمناخ الذي تخلقه على مختلف الصعد، هي القادرة على تفكيك الكثير من العقد والأزمات بأقل خسائر ممكنة. وإن رفض هذا الخيار والنهج، يفاقم من العقد والأزمات، ويدخلنا جميعا في حقبة الانفجارات الاجتماعية والحروب الداخلية، التي لا تزيد أوضاعنا وأحوالنا إلا سوءا وتدهورا.

وحدها الديمقراطية والحريات السياسية والثقافية، هي التي تؤسس لطريق جديد لمعالجة الأزمات من جذورها، وتنهي موجبات ديمومتها بأقل خسائر ممكنة على جميع الصعد والمستويات.

ولا يوجد شيء مهما علا شأنه يعوضنا عن قيمة الحرية. فحينما تتوفر كل أسباب القوة الاستراتيجية والعسكرية والشعبية، دون قيمة الحرية، فإن هذه الأسباب لا تباشر دورها المطلوب، ولا تقوم بممارسة تأثيراتها المنشودة.

فكاريزما جمال عبد الناصر والشعبية العارمة التي اكتسبها، لم يلغ حاجتنا إلى الحرية. والأحداث والتطورات اللاحقة في التجربة الناصرية، أكدت حيوية هذه القيمة، بل إن " الشعور الذي تولد لدى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعد الهزيمة،والذي عبر عنه في مناقشات مغلقة ومفتوحة كثيرة. هو أن تحييد الجماهير وإقصاءها عن المشاركة في تشكيل القرار السياسي بالرأي ـ مهما كانت ثقتها في الصفات الاستثنائية لكاريزما عبد الناصر، ومهما كان اقتناعها بسلامة وصحة الاختيار أو القصد الوطني عند هذه الكاريزما ـ قد أسهم بشكل محسوس في إضعاف مركز القيادة السياسية، أمام مراكز القوى التي مارست صراعا على السلطة، استنزف قدرات هذا النظام، وعبث بمقدراته، ودفع به إلى هاوية الإخلال بأول واجبات أي نظام سياسي، ألا وهو الحفاظ على استقلال التراب الوطني " (9).

مع الحرية والديمقراطية، يبقى مشروع الوحدة ممكنا، وبدونها يبقى واقعنا ممزقا وراهننا متشرذما. ولاعلاج لمآزقنا العديدة إلا بالحريات السياسية الحقيقية التي تسمح لجميع القوى والتعبيرات من المشاركة النوعية في إدارة الشأن العام وتطوير الحقل السياسي والمدني الوطني. ومع الديمقراطية والحرية تبقى الأقليات عامل إثراء لمضامين الوحدة على المستويات السياسية والاقتصادية والحضارية.

وبدونها تبحث الأقليات عن مشروعها الخاص، وتتكور في دائرتها الخاصة.فيضيع الوطن الجامع، وتتبعثر مشروعات الوحدة والتوحيد.

وإذا أردنا للأقليات أن تعود إلى فضاء الوحدة ومجال التوحيد، فما علينا إلا إرساء دعائم الديمقراطية ومتطلبات الحريات الدينية والثقافية والسياسية، حتى تتجاوز مشروعاتها الخاصة وهواجسها الذاتية.

فالحرية والديمقراطية هي الوسيلة الحضارية الوحيدة، القادرة على إدماج الأقليات بشكل اختياري وإنساني مع النسيج العام. وذلك لأن الحريات تساهم بشكل أساسي في تنمية المشتركات وتفعيلها والدفع بها باتجاه خلق الوقائع السياسية والمجتمعية المنسجمة وحاجات و متطلبات القواسم المشتركة.

إن الاندماج العام، لا يمكن أن يتم إلا على أرضية سياسية جديدة، قوامها الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون والدستور. وبالتالي فإن عملية الاندماج منوطة في عناصرها الكبرى إلى الأغلبية، حيث بإمكانها عبر الخطوات السياسية الجادة والنوعية نحو الانفتاح وتغيير قواعد اللعبة السياسية ، أن تجعل المناخ العام مؤاتيا مع خيار الاندماج الوطني العام .

فالتقدم السياسي باتجاه الحريات، هو الذي يعالج مشكلة الأقليات. بمعنى أن عدالة العلاقة وديمقراطيتها بين الأغلبية والأقلية، هو الذي ينهي العناصر النابذة والنافرة في العلاقة بين الطرفين.

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

...................

الهوامش

(1) د. سعد الدين إبراهيم، تأملات في مسألة الأقليات، ص 18، دار سعاد الصباح، مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، القاهرة 1992م.

(2) المصدر السابق، ص 23.

(3) جريدة الحياة اللندنية، العدد (13923)، الأحد 29 أبريل / 2001م، مقال الاعتراف بحقوق الأقليات اعتراف بوحدة العالم وتنوعه. جورج طرابيشي.

(4) تأملات في مسألة الأقليات، ص 23، مصدر سابق.

(5) برهان غليون، نظام الطائفية من الدولة إلى القبيلة، ص 6، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، بيروت 1990م.

(6) مجلة المستقبل العربي، العدد (264)، (2/2001م). مركز دراسات الوحدة العربية، ص 118. دراسة الدكتور على الكواري: مفهوم المواطنة في الدولة الديمقراطية.

(7) الشيخ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، الجزء (19)، ص 110 ـ 111، الطبعة الثانية، مؤسسات الوفاء، بيروت 1983م.

(8) تأملات في مسألة الأقليات، ص 237، مصدر سابق.

(9) عمرو عبد السميع، أحاديث الحرب والسلام والديمقراطية ـ الكتاب الثالث، ص 15، الدار المصرية اللبنانية، الطبعة الأولى، القاهرة 1998م.

(ليس الكمال الأخلاقي الذي يبلغه المرء هو الذي يهمنا، بل الطريقة التي يبلغه بها)... ليو تولستوي

1- مقدمة:

إنّه لمن الغرابة بمكان أن معظم المفكرين التربويين الذين تناولوا التربية الجنسية عند كانط لم يصنفوها ضمن حقل التربية الأخلاقية، واكتفَوْا بوضعها تحت عنوان التربية العملية، وهو التصنيف الذي اعتمده رينك تلميذ كانط ومنسق كتابه "تأملات في التربية ". ولكننا، على خلاف ذلك، نرى أن التربية الجنسية تقع في صميم التربية الأخلاقية، ولا يمكنها أن تكون خارجة عنها. ومن المعروف أن التربية الجنسية هي من أكثر مظاهر الحياة الإنسانيّة ارتباطا بالأخلاق، ولا سيّما قيم الحقّ والباطل والحلال والحرام. ويمكن القول أيضا إن هذه التربية تشكل دائما القضية المحورية التي اهتمّت بها الشرائع الأرضية والأديان السماوية جميعها. وربما لا نبالغ في القول أيضا إنّ العلاقة بين الجنسين تشكل أخطر مظاهر الحياة الأخلاقية وأعمق جوانبها في المجتمعات الإنسانية منذ الأزل. ومن المعروف لدى القاصي والداني أن الشرائع الدينية والمدنية شغلت بتنظيم العلاقة الجنسية بين المرأة والرجل وفق أنساق عريضة من القيم الأخلاقيّة الّتي لا يمكن تصنيفها أبدا خارج السياق الأخلاقي للعلاقة بين الإنسان والإنسان عامّة..

وبات واضحا لنا أنه لا يمكننا الخوض في فكر كانط التربوي إلا في ضوء فلسفته الأخلاقية النقدية. وعلى هذا المنوال ترتبط التربية الجنسية في أبسط تجلياتها بالأخلاق وبالروح الفلسفية النقدية لديه. وهنا تكمن صعوبة الخوض في قضية التربية الجنسية كما هو الحال في مختلف أشكال التربية الكانطية. ومن المعروف تمام المعرفة أن النظام الفكري عند كانط يتكامل ويتفاعل متّخذا هيئة نظام فكري شامل أساسه فلسفيّ متعدّد الأبعاد. وعلى هذه الصورة لا يمكن تناول آرائه في العلاقة بين الجنسين إلا في ضوء الواجب والقانون الأخلاقي الذي أقره قيمة أخلاقية عليا في الفكر والوجود.

2- الجنس في منظور كانط:

لا يستطيع كانط أن يتناول المسألة الجنسية خارج إطارها الفلسفي الأخلاقي. وهو في سياق تأملاته وتناوله للتربية الأخلاقية في مجال العلاقات الجنسيّة يحاول وضع هذه العلاقات في موقعها ضمن التصميم الأخلاقي لفلسفته، ويسعى إلى أن يحدد القيم الأخلاقية التي يجب أن تحكم العلاقة الجنسية بين الجنسين.

ولم يكن لكانط وهو يتطرّق لهذه المسألة أن يتجاوز قانونه الأخلاقي الغائي الذي يقول: "اعمل دائما بحيث تعامل الإنسانيّة في شخصك وفي شخص الآخرين على أنّها غاية وليس أبدا أنّها مجرّد وسيلة". ويوجب هذا القانون أن تكون العلاقة بين الإنسان والإنسان علاقة غائية على وجه الإطلاق، ويقضي بأن يكون التعامل الجنسي مع الآخر غائيا. وعلى هذا الأساس يكون التعامل مع الآخر الإنساني، باعتباره أداة، انتهاكا فاضحا للأخلاق والقيمة الخلقية. ويعني هذا أن أي تعامل يكون فيه الإنسان وسيلة عمل يتنافى مع القيمة الأخلاقية العليا للواجب. وعلى أساس هذا القانون الأخلاقي الرئيس يجب أن تكون العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة غائية لا وسيلية. فيجب أن تنطلق أي علاقة جنسية مهما يكن مداها وطبيعتها من الصورة الغائية للعلاقة بين الإنسان والإنسان رجلا كان أم امرأة، وإن أي علاقة وسيلية يجعل فيها الواحد من البشر الآخر موضوعا لرغباته هي علاقة مجردة من أي قيمة أخلاقية، وهي عدوان صريح ضد الأخلاق والقيم الأخلاقية.

وتأسيسا على هذا القانون الغائي يضع كانط الغريزة الجنسية اللذوية في رتبة وضيعة، بوصفها غريزة طبيعية تهدف فقط إلى المحافظة على النوع الإنساني، وهي بطبيعتها اللذوية تتعارض مع المبدأ الأخلاقي.

ويذهب كانط إلى القول إنّ أي علاقة جنسية مهما كانت وظيفية تنطوي على شكل من أشكال اللذة والمتعة، كما أن تحقيق الغاية الطبيعية من هذه العلاقة (=الإنجاب) لا يتأتّى إلا عبر اللذة الشهوانية، واللذة الشهوانية هي لذة أداتية تخرق القانون الغائي. ففي أي لذة جنسية يتحول الشريك إلى أداة وموضوع متعة لشريكه الآخر. وتأسيسا على هذه الرؤية يدين كانط جميع اللذات الشبقية ومنها اللذة الجنسية بوصفها فعلا يتناقض مع الواجب الأخلاقي الغائي.

وقد بالغ كانط إلى حدّ كبير في الاعتقاد أن أي ممارسة جنسية لا تقوم على أساس قانون الحفظ البشري ستكون ممارسة ضد الأخلاق والقانون الأخلاقي، فتعرض لكثير من النقد في هذا المجال. وكما يبدو، فإن وظيفة العلاقة الجنسية عند كانط هي الإنجاب تحديدا ولا تكمن قيمة الجنس في متعته بل في وظيفته الحيوية الأمثل المتمثلة في تجديد النوع الإنساني. والجنس - كما يراه كانط - رغبة حيوانية خالصة، وموضوعها علاقة إنسان بإنسان (رجل وامرأة)، وهذا الدافع حسي وجسدي ونزوي خالص، لا يحمل في ذاته أي قيمة أخلاقية ولا يرتبط مشاعر أخلاقية- روحية مُجاوزة لشهوة الجسد.

ويبدو أن كانط كان أفلاطونيا (= نسبة إلى أفلاطون) فيما يتعلق بالفصل بين الحب الإباحيّ (الرغبة الجسدية المجردة) والمثاليّ (حب وتقدير للطّبيعة الشخصية بعد انقضاء الشّهوة وإقصاء الجسد والغريزة). وكان هذا الأمر سابقا محلّ معارضة قوية من قبل ديفيد هيوم الذي أفاد بأن مشاعر الحب تنشأ غالباً عن تقدير الجمال المادي في المقام الأول، وفقاً لمعايير الشّخص وتفضيلاته، ومن ثم يتطور ذلك التقدير إلى شعور بالعطف والرغبة الجنسية معاً. ويشرح هيوم ذلك بأن المُحِب يرى محبوبه أجمل مما هو عليه حقيقةً، مُتجاوزاً عيوبه، في حين أنه. قد يصبح تجاوز تلك العيوب وتقبلها بعد اكتشافها بطريقة أكثر موضوعية دليلاً على الحب الحقيقي.

وعلى خلاف هيوم سيطرت النزعة الطّهوريّة على منظور كانط للجنس والعلاقة بين الجنسين، فكان متشككاً حيال الجنسانية والتحرر الجنسي، ولم يستسغ قط فكرة أن يكون الإنسان موضوعا للمتعة في أي حال من الأحوال. ولم يستطع الخروج من هذا التصور المنغلق الذي يرى أنه في كل علاقة جنسية قد يكون الإنسان موضعا لرغبة الآخر، أي قد يتحول إلى أداة وموضوع إرضاء رغبة ذاتية. فالمرأة والرجل في إطار هذه العلاقة غالبا ما يكون أحدهما أو كلاهما موضوعا للرغبة في دائرة هذه العلاقة، وهذا يتناقض مع القانون الأخلاقي والقيمة الأخلاقية الغائية للإنسان. واشترط كانط لهذه العلاقة أن تتم داخل علاقة الزوجية لا خارجها، وأن تكون تشاركية تهدف بالدرجة الأولى إلى أداء الوظيفة الحيوية للمحافظة على التناسل البشري. ومن الواضح أن رؤيته هذه متشدّدة في طهوريّتها، وكأنه يريد للإنسان أن يتحوّل إلى ملاك يرقى فوق كل الرغبات والميول التي أودعتها الطبيعة في نفس الإنسان. وبمقتضى هذه الرّؤية فإنّ الله ركّب الغريزة الجنسية في الإنسان، وكان تحصيل المتعة جزءا طبيعيّا من هذه الغريزة، وأنّه لا يمتنع ضمن مؤسسة الزوجية وعلاقتها أن يكون كل من الزوجين موضوعا لإشباع الآخر جنسيا، لأن الإشباع الجنسي ضروري للحياة والتوازن الأخلاقي، كما يرى فرويد في نظريته الجنسية. وهنا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار تأثير النّزعة الطّهوريّة في كانط، وقد تمثلت في عزوفه عن الزواج وقدرته الهائلة على صون نفسه ضد كل أشكال العلاقات الجنسية المباشرة وغير المباشرة، كما تدل على ذلك سيرته الذاتية.

3- الإدانة الأخلاقية للنّزوع الجنسيّ:

ومن اللاّفت أن كانط أدان الرغبة الجنسية الصرفة الخالصة (بوصفها غريزة حيوانية)، ونظر إليها بوصفها حالة مضادة للكرامة الإنسانية، ولأنها - وبموجب غرائزيتها - تشكل حالة من حالات الطعن في الكرامة الإنسانية كما تجسد وضعية من وضعيات التشيؤ الإنساني (تحويل أحد أطراف العلاقة الجنسية – رجل أو امرأة- إلى موضوع للمتعة والاستمتاع ) ويعبر عن ذلك بقوله:

" ينطوي الحب الإنساني على نوع من البراءة، الحنان، وتعزيز سعادة الآخر، والشعور بالفرح حال تحقيق ذلك. لكن من الواضح أنه عندما يحب شخص شخصا آخر من منطلق الرغبة الجنسية البحتة، فإننا لا نجد أي أثر فيه لتلك الصفات السابقة التي تميز الحب الإنساني. وقد تتسبب محاولات إشباع الرغبة في إفساد حياة المحبوب، قد تلقي به في غياهب البؤس. الحب الجنسي يجعل من الشخص المحبوب موضوعا للاشتهاء، وبمجرد إشباع الرغبة يتم التخلص من الموضوع مثلما يتخلص أحدهم من الليمونة بعد عصرها... فالحب الجنسي هو تدهور الطبيعة الإنسانية، بمجرد أن يصبح الشخص موضوعًا لاشتهاء الآخر، تتوقف كل الدوافع الأخلاقية عن العمل" [1].

ومن المهم في هذا الاتّجاه أن كانط لم يترك لنا عملا مشهودا في مجال التربية الجنسية – كما هو الحال في التربية بصورة عامة – وما تركه لنا لا يتجاوز حدود بعض الملاحظات والإشارات حول هذه القضية من خلال المحاضرات التي ألقاها في مجال التربية. وكثير من المراقبين يخمنون بأن الأمر مردّه إلى حساسية موضوع الجنس في زمنه، والنظر إلى مجرد طرحه ومناقشته على أنه أشبه بالـ "تابو" داخل الحرم الجامعي. ويلاحظ المؤرخون لسيرته أن كانط كان يبدأ محاضراته التربوية ملمحا إلى أهميّة موضوع الجنس في تربية المراهق، كما يباشر هذا الموضوع في نهاية المحاضرات بشكل مقتضب على سبيل الخاتمة. وهذا يدل فيما يدل على"مدى حساسية موضوع الجنس في المجتمع الألماني في القرن الثامن عشر"[2].

4- ملامح التربية الجنسية:

يبدأ كانط في تقديم تصوراته الأخلاقية للعلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة ضمن سياق التتابع المرحلي للغريزة الجنسية من لحظة شعور الطفل بالتمايز بين الجنسين ومحاولته استكشاف طبيعة هذه العلاقة وماهيتها وطبيعة النّموّ الذي يمر به الطفل، وهنا يحاول أن يقدم لنا تصورا للكيفية التي يمكن أن نتعامل بها مع الأطفال بطريقة ملموسة وواقعية، ويبين لنا سبل توجيه الطفل أخلاقيا، ويحدد لنا المنهجية التي يجب أن نعتمدها في تمكينه من التفاعل مع الجنس الآخر، والوصول إلى علاقة حقيقيّة قائمة على أسس أخلاقية متجاوبة مع القيم المنشودة الّتي تتضمّنها العلاقة ذات الطّابع الجنسيّ مع الآخر.

والحقيقة أن كانط رسم لنا خطوطا عريضة للقيم التربوية الأخلاقية في التربية الجنسية عند الأطفال والناشئة، وترك مجموعة من الأفكار والتصورات الموضوعية حول طبيعة التربية الجنسية المستندة إلى التّربية الأخلاقية. وهو في سياق تناوله لهذه المسألة يقدم تصورات حول الكيفية التي نعرف فيها الطفل بالجنس والفروق بين الجنسين، والوقت المناسب للمكاشفة الجنسية، كما أنّه حدّد طرائقها ومنهجياتها في ضوء التصورات الأخلاقية والقيمية لفلسفته المتفرّدة.

يبدأ كانط بالمرحلة التي يدرك فيها الطفل وجود فروق في التكوين البيولوجي بين الجنسين. ويبيّن أنّه "عادة ما ينمو الميل إلى الجنس لدى المراهق في السنة الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من العمر (وعندما يحصل ذلك في وقت أسبق، فلأن الأطفال ضلوا وفسدوا باتّباع أمثلة سيئة). وعندئذ، تكون ملكة الحكم قد تكونت لديهم، إذ أعدتها الطبيعة بالذات للفترة التي يمكن أن نتحدث فيها إلى الأطفال عن هذه الأمور"[3].

وهنا ينبّهنا كانط إلى الطابع السري الذي فرضته الطبيعة على العلاقة الجنسية بين الجنسين، فيبدأ بالقول: وكأن "الطبيعة قد أسدلت على هذا الأمر حجابا من السر، وكأن ذلك الشيء لم يكن جديرا تماما بالإنسان، لولا بساطة وجود الحاجة الحيوانية في الإنسان. إلا أن الطبيعة سعت مع ذلك إلى ربط تلك الحاجة بكل نوع ممكن من الخلقية. وفي هذا الصدد، تتصرف الأمم المتوحشة ذاتها بضرب من الاحتشام والحذر. وأحيانا يطرح الأطفال على الكبار، في هذا الشأن، أسئلة يمليها فضولهم: مثلا، من أين يأتي الأطفال؟ فيقع إرضاؤهم بيسر، إما بإعطائهم أجوبة سخيفة لا تعني شيئا، وإما بزجرهم مع القول لهم إنه سؤال صبياني"[4].

ولعلّ كانط يريد إعلامنا بأن أمر العلاقة الجنسية هو ممّا خجلت منه الطّبيعة لاتّصاله بجانب خفيّ في الوجود وبوصفه أكثر الغرائز تجذرا في الطّبيعة الحيوانية للإنسان وللكائنات الحية. فالجنس نداء غريزة حيوانية بامتياز قد تتعارض بقوة مع السمة الأخلاقية والجمالية للكرامة الإنسانية.

وعندما يبدأ الطفل بالتساؤل فكأن الطّبيعة قد بدأت تملي عليه أهمية الكشف عن هذا الحجاب السري الذي أسدلته سابقا، وهي تبين للطفل - بالضرورة وفي الوقت المناسب - وجود الاختلاف الحيوي بين الجنسين. ويشير كانط هنا إلى بداية تفتح وعي الأطفال بالتباين بين الجنسين وبداية طرحهم للأسئلة الفضولية. ومن الواضح أن كانط يعترض على الإجابات الخاطئة التي تنمي في الطفل معرفة وهمية، كما يرفض تجاهل هذه الأسئلة الطفولية لما لها من أهمية وما تمثله من خطورة في عقول الأطفال ووعيهم. وفي معرض رفضه لهذه المنهجية الخاطئة يؤكّد أهمية التوضيح في مسألة الوعي بطبيعة الغريزة الجنسية، فيقول:

" ونمو هذه الميول – يقصد الميول الجنسية - آلي في البالغ المراهق، ويجري الأمر كما في حالة الغرائز التي تنمو وتتطور، دون معرفة موضوعها. فمن المستحيل ها هنا إبقاء المراهق على الجهل والبراءة المقرونة به" [5].. ويتابع كانط قوله: "وبالصمت لا نزيد الشر إلا تفاقما. وهذا ما تدل عليه تربية الأجيال السابقة، وفي التربية في عصرنا الحاضر يقر عن حق بضرورة التكلم عن هذه الأمور مع الفتى المراهق دون لف ولا دوران، وبوضوح ودقة. ومن الواضح أن هذه نقطة دقيقة، لأن الناس لا يرضون بالكلام فيها عن طيب خاطر في محادثة علنية. لكن كل شيء سيكون حسنا، إذا كان الكلام في هذه الأمور بطريقة لائقة وجادة"[6].

ويبدو أن كانط كان متأثرا في هذه القضية برأي بازادوف الذي يعتقد "أنه ينبغي ألا نخدع حب استطلاع الأطفال للأمور الجنسية، وكان يطالب بأن نبدأ التكلم مع الأطفال عن هذه الأمور وهم في سن العاشرة أو الثانية عشرة، لكن دون التوسع في التفاصيل كثيرة، وأن يكون الكلام طبيعيا عفويا كما لو كان الأمر يتعلق بأشياء طبيعية، وذلك بعبارات في غاية الحشمة، والغاية من ذلك هي العمل على تعويدهم التفكير في هذه القضية وفق القيمة الأخلاقية. وقد أوصى أيضا بالتكلم مع الأطفال، بلهجة بالغة الجد، عن الزواج وعن الرذائل المضادة للعفة". وفوق ذلك كله كان بازادوف يدعو "إلى اقتياد الطفل إن كان صبيا إلى مستشفى ليشاهد فيه الأمراض الرهيبة والآلام الفظيعة التي يعانيها الفاجرون والزناة، تكفيرا عن أخطاء اعتقدوا من قبل أنها هينة"[7].

ويبدو أيضا أن كانط كان متأثرا بموقف جان جاك روسو في هذه المسألة. وقد أثارها روسو في كتابه «إميل» على صورة تساؤل مفاده: "هل من المناسب تنوير الأطفال في وقت مبكر في أمور الاستطلاع الجنسي، أم الأفضل أن نخدعهم بمغالطات بسيطة؟ ويجيب روسو قائلا: أرى أنه ينبغي ألا تفعل هذا، ولا ذاك. أولا لأن هذا الاستطلاع لا يخطر ببالهم أبدا إلا إذا كان ثم ما يدعو إليه" [8]. وفي حال لم نستطع الإجابة بصراحة فالصمت واجب، وهو يقينا من الكذب وتشويه الحقيقة. "وإذا قرر المربي أن يجيب فيجب أن يكون الجواب في غاية البساطة، وبدون أسرار، ولا تلعثم، ولا ابتسام "[9].

وينبه كانط إلى أن إرضاء حب استطلاع الطفل في هذه المسألة أقل ضررا وخطرا بكثير من إثارته. "ولتكن إجاباتكم جادة، موجزة، حازمة، ودون أي مظهر من مظاهر التردد. ولست في حاجة إلى أن أضيف أنها يجب أن تكون صادقة. .. إن الجهل المطلق ببعض الأمور ربما كان هو الأنسب للأطفال، لكن عليهم أن يتعلموا في وقت مبكر ما يستحيل إخفاؤه باستمرار. فيجب إما ألا يستيقظ فيهم حب الاستطلاع بأي حال، وإما أن يشبع قبل الوقت الذي لا يكون فيه حب الاستطلاع غير ذي خطر. .. ولا أحب أن تصطنع مع الأطفال لغة مهذبة جدا، ولا أن يدور المرء حول الموضوع دورات طويلة، سيتبينونها، ابتغاء تجنب تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية. .. إن الكلمات الغليظة لن ينتج عنها شيء، وإنما الأفكار المثيرة للشهوة هي التي ينبغي تحاشيها "[10].

إن ظهور هذه النّزعة الجنسيّة ونموّها طبيعيّان حتميّان لدى المراهق، وكل شيء يجري كما هو الحال في الغرائز التي تنمو حتى دون معرفة موضوعها. ولذا "فمن المستحيل إذن إبقاء المراهق في الجهل وما يقترن به من براءة. وعندما نصمت، لا نفعل سوى أننا نجعل الداء يستفحل. وهذا ما أظهرته تربية الأجيال السابقة" [11].

وفي إشارة كانط إلى ضرورة البوح الصريح بأسرار الحياة الجنسية للمراهق تأكيد على العلاقة شديدة المتانة بين الجنس والقيمة الأخلاقية في فكره، إذ الأمر من دواعي التّربية الّتي يسعى إلى إرساء قواعدها.

5- المتعة الموجهة إلى الذات (العادة السرية أنموذجا) :

عرف عن كانط هجومه الشديد على العادة الجنسية السرية، وقد وصفها بأنها أبشع ما يمكن للإنسان أن يقترفه إطلاقا، ويرى أن ممارستها تجعل الإنسان أكثر بهيميّة ودونية من الحيوان. ويقدم كانط تصويرا لمضار المتعة المتجهة إلى الذات ويقصد بها أي ممارسة جنسية لتحصيل اللذة بصورة غير طبيعية وخارج سياق الهدف الطبيعي للجنس ذاته، فيقول إنّه:"لا شيء يضعف ذهن الإنسان وجسمه أكثر من شكل المتعة الموجهة إلى الذات، والمناقضة تماما لطبيعة الإنسان. فيجب أيضا ألا نخفي على الطفل هذا الأمر. ولا بد من أن نصوره له مع كل ما يثيره من اشمئزاز، ونقول له إنه حين يفعل هذا يصبح غير نافع لتناسل النوع، وإنه بذلك خاصة يهدّد كل قواه الجسمية بالانهيار، وإنه يعد لنفسه شيخوخة مبكرة، وإن ذكاءه سيتأذى من ذلك إلى حد كبير" [12].

ويقترح كانط في مواجهة الرغبة الجنسية إمكانيّة استبعاد الدوافع التي تقود إلى ذلك، بنشاط يشغل المراهقين ويركز على أهمية تقليص فترات النوم غير اللازمة والضرورية في الفراش [13]. ومن ثم يرى أيضا أهميّة استبعاد التصورات الجنسية التي تقتحم المخيلة لأنها تنخر القوة الحيوية وتدفع المراهقين إلى التهور في البحث عن الإشباع الجنسي الوهمي. ويضيف إلى ذلك استقباح الميول الجنسية المرتدة إلى الذات ويصف تأثيرها المدمر على الصّحّتين النّفسيّة والجسدية وعلى الأخلاق، فيقول:

" وإن وجه المرء ميله إلى الجنس الآخر، عندئذ يصادف دائما بعض المقاومة، وإن وجهه في المقابل إلى نفسه، يمكن إرضاؤه في أي لحظة. إن الأثر الجسمي ضار بدرجة بالغة، ولكن النتائج من منظور الأخلاق أسوأ بكثير، إذ تُتَجاوَز هنا حدود الطبيعة ولا يفتأ الميل يثور لأنه لا يجد أي إشباع فعلي"[14].

وقد أثارت قضية الاختيار بين الاستمناء الذاتي والعلاقة غير الشرعية جدلا كبيرا، لأن هذا الضّرب من العلاقات هو أيضا عمل غير أخلاقي. ويفضل كانط اللجوء إلى هذه العلاقات إذا كان الاختيار أمرا لا مفر منه، ومع ذلك فإنه يُدين أي علاقة خارج المؤسسة الزّوجيّة ويرفضها. ويشرح لنا كانط هذه المسألة بقوله:

" وقد تساءل بعض المعلمين، بخصوص مراهقين تلقوا تكوينا من قبل، عن معرفة ما إذا كان يسمح بأن تكون للمراهق علاقات مع الجنس الآخر. فإذا كان لا بد من اختيار هذا أو ذاك من الأمرين، يكون هذا الأخير أفضل، بلا شك، إذ في الحالة الأولى دون الحالة الثانية، يتصرف المراهق ضد الطبيعة. فقد هيأته الطبيعة ليكون إنسانا حالما [15] يصبح راشدا، وبالتالي ليعيد إنتاج نوعه أيضا، إلا أن الحاجات التي يمتلكها الإنسان ضرورة في حالة السّكن في المدن تجعله عندئذ لا يقدر دائما على تربية أطفاله. وإذ ذاك يرتكب هذه المرة خطيئة ضد النظام المدني. فالأفضل، بل من واجب المراهق أن ينتظر حتّى يكون قادرا على الزّواج بتعقل. وعندئذ لن يتصرف كإنسان صالح فحسب، بل أيضا كمواطن صالح[16]. ينبغي إذن أن يتعلم المراهق منذ وقت مبكر أن يمارس اللياقة والاحترام تجاه الجنس الآخر، وأن يحصل من جهة أخرى على تقديره بفضل نشاط خال من الرذائل، وأن يسهم على هذا النحو في الجائزة الكبرى المتمثلة في زواج سعيد"[17].

6- خاتمة:

يلح كانط منذ البداية على وظيفية الميل الجنسي والحكمة منه عند الإنسان، ويرى أن أي توظيف آخر غير تجديد النّسل يكون مفارقا للقيمة الأخلاقية. فالإنسان حتى في أخطر غرائزه الإنسانية يجب أن يكون قديسا ويجب أن يترفّع عن كل ممارسة لأجل المتعة واللذة. وهو على هذا النحو يجعل من الإنسان كيانا ساميا مفارقا لكل أوجه الحياة العاديّة. والسؤال: كيف يكون المرء ملاكا وهو مزود بميول وغرائز جبارة عاتية كتلك التي تعطي للحياة معنى ودلالة؟ فالإنسان كما يراه كتلة صماء من الواجبات الأخلاقية والوظائف الحيوية. ويقينا بأن الله لو أراده على هذه الصورة لجعل منه ملاكا وليس إنسانا تقوده الميول وتحركه الغرائز وتأخذه العواطف الإنسانية الجياشة. فالعلاقة الجنسية بين رجل وامرأة لا يكون الهدف منها الإنجاب بل طلب الإشباع البيولوجي المرافق للذة ـ فالحاجات الجنسية قوة طبيعيّة تبحث عن موضوعها الجنسي وتُلبّى ولا تقاوم. وغالبا ما نجد في الحياة أن الناس يقصدون الزواج من أجل التكامل الحيوي العاطفي والإنساني بين الرجل والمرأة. وربما لا يكون الهدف دائما هو الإنجاب. والإنجاب هو حالة واحدة من عدة حالات تقتضيها العلاقات الجنسية الزوجية. فالزواج بين المرأة والرجل تحكمه علاقات عاطفية وإنسانية وأخلاقية معقّدة، وتكامل وظيفي أيضا وتشارك في الحياة الجنسية لتحقيق السعادة واللذة والاستقرار.

ونحن إذا أخذنا بعين الاعتبار بعض النظريات السيكولوجية سنجد أن أكثرها يؤكد على أن العلاقة الجنسية بين الأزواج تحقق نوعا من التوازن النفسي والسيكولوجي اللاّزم للانتعاش والإبداع، وهذا هو المطلب الذي تلح عليه نظريات التحليل النفسي. فالعلاقة بين الجنسين ليست للإنجاب فحسب، وإن كان الإنجاب أقدسها، بل هي مُحمّلة بوظيفة بيولوجية ضرورية للحياة ومساعدة على تحقيق التكامل النفسي والبيولوجي والعاطفي والأخلاقي أيضا.

ولو قسنا على رؤية كانط في هذا الموضوع لرأينا أنّ أكل الطعام الذي هو معبّر عن حاجة وطاقة للحياة لا ترجى منه أيّة ملذّة ومتعة، ولكنّ له مع ذلك - كما للجنس - وظائف عدة، منها تحقيق الصحة ومنها أيضا السعادة، فالجائع يقبل على الطعام ويستمتع به أيضا. فهل يُعقل أن نقول إنّ الاستمتاع بالطعام مفتقر للقيمة الأخلاقية ومسيء إلى مكانة الإنسان؟

مما لا شك فيه أن كانط يريد أن يحيل الإنسان إلى طاقة متحجرة تخلو من المظاهر الانفعالية والعاطفية واللذوية، وكأننا به يريد للإنسان أن يكون ملاكا منزها عن الخطأ والرغبة والميل والعاطفة. ومن الصحيح تمام الصّحّة النظر إلى القيمة الأخلاقية بعين الاعتبار وإعطاؤها الأولوية، ولكن هذا يجب ألا يتعارض مع ناموس الكون القائم على السعادة واللذة وطلب مفاتن الحياة ضمن الضّوابط الأخلاقية.

ولو أردنا أن نطبق رؤية كانط في العلاقة الجنسية لأصبح معظم خلق الله خارج دائرة القيمة الأخلاقية. فكثير جدا من البشر يتزوجون لإشباع حاجاتهم الجنسية والعاطفية والاجتماعية. وربما لا يكون الحب بالمعنى الأفلاطوني هو السائد بين الأزواج، وقد تكون العلاقات الجنسية في حال تبادل للحاجة: الرّجل يفي بحاجة المرأة إلى الحب وكذلك المرأة، في سياق تبادلي وليس شرطا وبالضرورة أن تكون هذه العلاقة قائمة على أساس من الحب العميق. وفي غالب الحالات تكون العلاقة حتى ضمن الرّابطة الزوجية علاقة إشباع وتفريغ للطّاقة الجنسية قبل أن تكون علاقة عاطفية، وقد يندفع الرجل إلى زوجته لإشباع رغبته وهي غير راغبة، وكذلك قد تقبل المرأة على زوجها تحت ضغط الرغبة والحاجة. وفي كلتا الحالتين من حقهما - بالشّرع والطّبع - الحصول على الإشباع النزوي بوصفه ضرورة دون أن يكون ذلك على حساب الأخلاق والقيم الأخلاقية.

وكما لاحظنا، كان كانط أكثر واقعية في مسألة مكاشفة المراهقين في سن المراهقة والبلوغ الجنسي بالقضايا الجنسية والتصريح بأهمية الكشف التدريجي لمختلف إشكاليات هذه المسألة وتعقيداتها. وكان متوافقا مع التربية الحديثة اليوم التي ترى أن الإبقاء على حالة الجهل لدى المراهقين من أكبر الأخطاء التي يرتكبها الآباء والمعلمون.

وقد أصاب عين الحقيقة أيضا عندما أراد أن تأخذ هذه المكاشفة الجنسية طابعا وديا لبقًا ضمن متطلبات الحياء والحشمة والأدب.. وقد أكد أن اللجوء إلى التعمية واللف والدوران في تناول هذه الأمور الجنسية مع الأطفال لا يفيد شيئا، بل فيه الضرر البالغ لأن فيه تضليلا لهم وحجبا لمعلومات مفيدة لهم ومرشدة لسلوكهم[18].

وكان هجوم كانط ضد كل أشكال التلذذ الجنسي الذاتي كاسحا، مثل: الاستمناء والعادة السرية، لأنها تتناقض تماما مع الوظيفة الطبيعية للميل الجنسي المخصصة للتوالد وتكاثر النوع الإنساني. وغالبا ما وصفها بأنها فعل لا أخلاقي تجرد فاعلها من أي قيمة إنسانية وتنزل به إلى أحط من مستوى الحيوان[19]. ومما لا شك فيه أن موقف كانط هذا مبرر، ولكن ليس إلى الحد الذي يعتبر فيه الاستمناء أشنع الجرائم وأخبثها. فهناك من يرى أن الاستمناء قد يكون مفيدا من الناحية الاجتماعية إذ يخفف الضغوط النفسية عن المراهقين ويحصنهم ضد ارتكاب الجرائم الجنسية مثل الاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي. ومن المفيد أيضا القول إن كل النظريات التربوية والدّينيّة ترفض العادة السرية وتجعلها ضارة ولكن دون المناداة - كما فعل كانط - بتجريمها، ومما لا شك فيه أن التعفف مطلوب أخلاقيا ودينيا، ولكن يبقى تفضيل كانط للعلاقات غير الشرعية على العادة السرية مبالغة ربما غير مقبولة دينيا، فالزّنا في عرف الأديان إثم عظيم لا يغتفر أبدا. وأخيرا نقول إن نظرية كانط في التربية الجنسية لم تكتمل كما يجب، وهو ما يجعل كثيرا من الانتقادات والإضافات العلمية والنفسية تبدو ضرورية لبيان حدود رؤيته ونظريته الطّهوريّة الصارمة وللتّفاعل مع أفكاره في هذا المجال تطويرا وتجاوزا.

***

علي أسعد وطفة

أستاذ علم الاجتماع التربوي بجامعة الكويت

...........................

مراجع المقالة:

[1] - رجاء حلواني، التشيؤ الجنسي: كانط والمسألة الجنسية، ترجمة :بدر الدين مصطفى، مؤمنون بلا حدود، الدار البيضاء، 2019. ص 10.

[2]- سمير بوسلهام، كانط بين التربية و التنوير، أنفاس نت، 14 يوليو 2012.

http://bitly. ws/nmzQ

[3] - إيمانويل كانط، ثلاثة نصوص: تأملات في التربية، مرجع مذكور، ص 79.

[4] - إيمانويل كانط، ثلاثة نصوص: تأملات في التربية، المرجع نفسه، ص 78-79.

[5] - إيمانويل كانط، ثلاثة نصوص: تأملات في التربية، مرجع مذكور، ص 78.

[6] - عبد الرحمن بدوي، فلسفة الدين والتربية عند كانط، مرجع مذكور، ص 161.

[7] - عبد الرحمن بدوي، فلسفة الدين والتربية عند كانط، المرجع نفسه، ص 164.

[8] - عبد الرحمن بدوي، فلسفة الدين والتربية عند كانط، مرجع مذكور، ص 163.

[9] - عبد الرحمن بدوي، فلسفة الدين والتربية عند كانط، مرجع مذكور، ص 163.

[10] - عبد الرحمن بدوي، فلسفة الدين والتربية عند كانط، مرجع مذكور، ص 163.

[11] - إيمانويل كانط، تأملات في التربية، مرجع مذكور، ص 78-79.

[12] - إيمانويل كانط، تأملات في التربية، مرجع مذكور، ص 79.

[13] - إيمانويل كانط، تأملات في التربية، مرجع مذكور، ص 79.

[14] - إيمانويل كانط، تأملات في التربية، مرجع مذكور، ص 80.

[15] - إيمانويل كانط، تأملات في التربية، مرجع مذكور، ص 79.

[16] - إيمانويل كانط، تأملات في التربية، مرجع مذكور، ص 80.

[17] - إيمانويل كانط، تأملات في التربية، مرجع مذكور، ص 80.

[18] - عبد الرحمن بدوي، فلسفة الدين والتربية عند كانط، مرجع مذكور، ص 163.

[19] - عبد الرحمن بدوي، فلسفة الدين والتربية عند كانط، مرجع مذكور، ص 164.

الواجب بوصفه قانونا أخلاقيا

"ليس الكمال الأخلاقي الذي يبلغه المرء هو الذي يهمنا، بل الطريقة التي يبلغه بها" ليو تولستوي

"إن الأخلاق لا تعلمنا الكيفية التي يمكننا بها أن نجعل أنفسنا سعداء، ولكن الكيفية التي نجعل وفقها أنفسنا جديرين بالسعادة" كانط.

1- مقدمة:

استحق كانط أن يلقب بفيلسوف الأخلاق، وهو لا ريب يتبّوأ المنزلة السّامقة من المثالية الأخلاقية في تاريخ الفلسفة والفكر الإنساني برمته. ومن أراد أن يدرك العمق الروحي لفلسفته الأخلاقيّة فعليه أن يتأمل في مقولته المشهورة: شيئان يملآن قلبي دائماً بالإعجاب المتزايد والخشوع، وهو شعور لا يفارقني كلما أطلت التفكير فيهما: «السماء المرصعة بالنجوم فوق رأسي والقانون الأخلاقي في داخلي. إنني أراهما أمامي مباشرة، وهما يثيران فيّ المرة بعد المرة الوعي بوجودي" [1]. إنّ هذا القول لشبيه بأنشودة يترنّم بها الشعراء ويرتلها الأدباء، أو بلوحة يبدع في رسمها الفنانون، ويقف أمامها الفلاسفة والمفكرون بإجلال وإكبار. إنها الحكمة الأخلاقية الخالدة التي تؤكد أن الأخلاق هي غاية الخلق في تكوين الفيلسوف كانط. فالقانون الأخلاقي كما يوحي به هذا القول هو مبتدأ الوجود وغاية الخلق الإنساني. وستبقى هذه الفكرة منارة تومض في كل أشكال التفكير الذي ينحو نحواً أخلاقياً وقيمياً.

ومن يتأمل في مضمون الفلسفة الكانطيّة وعمقها سيجد أن هذه الفلسفة تتجه بمجملها إلى البحث عن القيمة الأخلاقية للوجود والإنسان. ولا غَرْوَ أن هذه الفلسفة كانت، وما تزال، فلسفةً رسوليةً في الدعوة إلى الأخلاق بقيمها المطلقة وواجباتها المقدسة.. وإذا كان النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم يقول: إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق، فإنّه حَريّ بنا أن نقول: إنّ كانط قد نهج نهجه العظيم ليضع صروح الفلسفة الأخلاقية، ويرسخ دعائمها، ويرسم تألقها في تاريخ الفكر الإنساني.

لقد استحق كانط - كما ذكرنا - لقب فيلسوف الواجب الأخلاقي، وهو ما رفعه إلى أعلى مرتبة من مراتب السمو الأخلاقي الإنسانيّ. وما لا شكّ فيه أنه جعل المهمة الأساسية للتربية متمثّلة في تحقيق أنموذج الإنسان الأخلاقي سعياً إلى الجمال والكمال، وذلك لأن الله قد خلق الإنسان خلقاً غائياً، وأودع فيه نزوعاً أصيلاً إلى السّير على منهج الكمال الأخلاقي في ذاته وفي الوجود الكوني الذي يحتضنه. ومن الطبيعي ضمن هذا التساوق أن يكون كانط أكثر الفلاسفة اهتماماً بالأخلاق. ولا يخفى على العارفين من أهل العلم أنه خصّص ثلاثة من أهم أعماله لمسألة الأخلاق، وهي: "تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق" (1785) و «نقد العقل العملي» (1788)[2] وأخيراً «ميتافيزيقا الأخلاق» (1797 )[3]، يضاف إلى ذلك أن الأخلاق احتلت مكانةً واضحةً في مختلف أعماله، ولا سيّما كتابه الأشهر "نقد العقل المحض". وقد أفرد للأخلاق فصولاً مهمة فيه. ويجب علينا ألّا ننسى في هذا المقام أن كتاباته التربوية لا تعدو أن تكون ترسيخاً لفلسفته الأخلاقية، فالتربية عنده تجسيد للقيم الأخلاقية وسعي إلى تأكيد القوانين الأخلاقية لفلسفته ومنظوره الأخلاقي الرسولي.

ينطلق كانط من الفكرة التي تقول بأصالة المنزع الأخلاقي في الإنسان، فالأخلاق بحسب رأيه أصيلة في فطرة العقل الإنساني، وبذورها كامنة في عقل الإنسان وفي روحه على صورة مبادئ وأفكار وتصورات سابقة للتجربة ومتعالية عليها، لأن مصدرها العقل الخاص الّذي يدور في فلك قصي عصي على التجربة الإنسانية برمتها. ويؤكد في هذا الخصوص شمولية القيمة الأخلاقية في النوع الإنساني، إذ هي ممكنة في عقول البشر جميعهم، وهذا يقتضي أن القوانين الأخلاقية لا يمكن أن تستنبط إلا من التصورات المجردة المستقلة عن المادة والتجربة.

ومن الواضح أن الفلسفة الأخلاقية عند كانط تقوم على العقل وحده، والعقل هو الذي يشكل أساس الالتزام الأخلاقي أو ما يمكن أن نسميه بالوازع الأخلاقي. وقد أعلن في مختلف المواقف والاتجاهات قوانيناً أخلاقيةً أوليةً كامنةً في العقل الأولي للإنسان، ووصفها بأنها تتسم بالضرورة الكلية في مضمار التفكير الإنساني. وقد أكد مراراً وفي مختلف المدارات الفكرية أن الأخلاق مفارقة للتجربة، ولا يمكنها أبداً أن تقوم على أسس تجريبية" مؤكداً وجود «وازع أخلاقي مطلق» ينتمي إلى ما يسميه "عملية تركيبية قَبْلية". والحال أن هذا التفكير الكانطيّ الجديد أعاده في السياق نفسه إلى معاني «الله» و «الحرية» و «الخلود»، وهي برأيه مسلّمات أخلاقية مطلقة يستلزمها العقل[4].

2- الواجب بوصفه مطلقاً أخلاقياً:

يشكل مفهوم الواجب قطبَ الرَّحَى في فلسفة كانط الأخلاقية، ويأخذ مكاناً مركزياً في مختلف أعماله الفلسفية، كما أنه يشكل حجر الزاوية في منظومته الأخلاقية. فالحياة الأخلاقية تخضع لمنطق الواجب وضرورته الكونية بوصفه نشاطاً أصيلاً ينبع في أعماق الحياة الوجدانية للفرد. ولا غرو أن يحتل الواجب هذه المكانة في مختلف الإنتاجات الكانطية بوصفه سعياً دائماً إلى تأصيل الفعل الأخلاقي الذي يشكل ضرورة عقلية نابعة من ذات إنسانية عاقلة تتسم بطابع الحرية والاستقلال والنزوع إلى ممارسة الفعل الأخلاقي الحرّ. وغالباً ما يُنظر إلى كانط بأنه فيلسوف الواجب بلا منازع، لأنه جعل منه المحور الأساسي للأخلاق الإنسانيّة والمصدر الوحيد للإلزام الخلقي.

فالإنسان وفقاً لهذه الرؤية يمارس الفعل الأخلاقي انطلاقاً من الواجب الذي يتميز بعقلانيته وكونيته، حتى وإن تعارض مع مقتضيات الميول والرغبات الذاتية لدى الفرد. وتستمد هذه النظرية مشروعيتها من مشروعية العقل الكوني للإنسانية، إذ يجب احترام القانون الأخلاقي الذي يحكم الجميع؛ ليتمكن الفرد من العيش المشترك مع الآخرين في وئام وسلام تحت مظلة المساواة والقانون. ومن هذا المنطلق فإن العقل الكوني يشكل مصدر الواجب ومنهل الحياة الأخلاقية برمتها، ويشترط كانط في الواجب أن يكون مجرداً من كل غاية نفعية أو ذاتية.

ويتضح من معالم النظرية الفلسفية عند كانط، أنّ الواجب يشكل غاية الأخلاق التي هي غاية الفلسفة. والواجب مطلق ترانسندنتالي يعلو على كل أشكال المادة والتجربة، وهو كيان روحي معنويّ مثاليّ، يعدّ غاية في ذاته بغض النظر عن أي معطى خارجي. إنه أمر مطلق ينبع من العقل المفارق للمادة، ويرتبط بما يجب أن يكون وليس بما هو كائن أو ما هو إليه صائر أبداً. وقد عبر كانط عن القيمة المطلقة للواجب، مؤكّداً أنّه يجب علينا "أن نتقبل هذه الواجبات على أنها أوامر إلهية، ومع أنها كذلك فإن هذه الأوامر ليست ملزمة أو إجبارية بل هي خيار إنساني، وقبولها يأتي من السرائر الذاتية للإنسان"[5].

يماهي كانط بين الواجب والعقل على نحو كلي، ويجعل من العقل مصدراً وحيداً للواجب. وأي عقل هذا إذا لم يكن عقلاً كلياً مطلقاً قادراً على إنتاج الواجب والخضوع له في آن واحد؟ وهي جدلية لا تتوقف أبداً. وفي كل الأحوال لا يكون الواجب استجابة لنزوع وحشي في الإنسان أو غريزة متأصلة فيه، بل يكون دائماً استجابة لنداء العقل وفعل الضمير الكامن في أصل العقل العملي الأخلاقي الذي ينتج الأوامر القطعية المطلقة، وهي التي تشكل الصرح الأساسي للأخلاق في مختلف تجلياتها الإنسانية.

وقد اعتاد المفكرون بصورة عامة على تسمية الفلسفة الأخلاقية عند كانط بـ "فلسفة الواجب"، وذلك لأن الأخلاق الكانطية تنص صراحة وبوضوح تام على مطلقية الواجب وغائيته بوصفه السمة الأخلاقية الأسمى في الوجود، وعلى هذا الأساس تتماهى الفلسفة الكانطية كلياً مع فلسفة الواجب الأخلاقي الذي يكتفي بنفسه قوة معنوية سامية متعالية على الواقع والتجربة، نعم هو الواجب الأخلاقي الحرّ الذي ينبع من ذواتنا ليلبي مطلب الضمير المقدس لنداء الحق والخير والجمال في هذا العالم [6].

3- الواجب قانوناً أخلاقياً:

يعرف كانط الواجب بأنه "ضرورة القيام بالفعل تجسيداً لمبدأ احترام القانون". [7]؛ أي هو ضرورة أداء الفعل احتراماً للقانون العقلي الكلي في ذاته. ومفهوم الواجب يتعارض مع كل الأفعال المنافية للأخلاق والقيم الأخلاقية، من مثل: الكذب والسرقة والخيانة والنميمة والغدر والطمع والكراهية والتعصب وكل القيم الأخرى المشابهة.

ويؤكد كانط الأهمية القصوى للعلاقة بين الواجب والعقل. فالواجب كما يتصوره ليس استجابة لميل أو غريزة أو دافع وحشي، بل يشكل استجابة لنداء العقل الإنساني، وتحديداً العقل العملي الأخلاقي الذي يصدر أوامره القطعية المطلقة، لتكون في نهاية الأمر أساس الأخلاق. وبعبارة أخرى يشكل العقل مصدر الأخلاق وينبوع القيم الأخلاقية، وهو الذي يصدر أوامره المطلقة التي تتصف بطابع الكلية والشمولية. ويعبر كانط عن إشكالية العلاقة بين العقل والواجب مؤكداً أنه لو كان الإنسان عقلاً خالصاً محضاً لكان فعله يتجه بالضرورة الكلية إلى فعل الخير وأداء الواجب، وهذا يعني أن فعل الخير سيكون فطرياً بالمطلق عند الإنسان ضمن صيرورة التطابق الكلي بين العقل المنطلق من عقاله والإرادة الخيرة.

ويقودنا هذا – وفق كانط - إلى استكشاف أصل الشر في الإنسان الكامن في الإنسان الذي يتكون جوهرياً من ثنائية العقل والمادة، أو من ثنائية المادة والروح. وهو التصور الذي يقدمه كانط ليدلل بأن الإنسان قد يعرف الخير ثم يتركه ليرتكب شراً، ويكون ذلك عندما تخضع الإرادة البشرية إلى منازعها الحسية الشّهويّة المتعارضة مع العقل والمتناقضة مع القانون الأخلاقيّ. وهذا يذكرنا بالأمثولة التي نردّدها دائماً: إن الله خلق الملائكة من العقل الخالص وخلق البهائم من الغريزة الخالصة، وركب الإنسان من كليهما. وعندما يستطيع الإنسان أن يغلب عقله على شهواته يرتقي إلى درجة أعلى من مصاف الملائكة، وعندما تنتصر شهواته ينحدر إلى مستويات أدنى من البهائم. فالملائكة لا ترتكب شراً لأن الخير من طبيعتها، والبهائم لا تفعل خيراً لأنها لا تمتلك عقلاً، والإنسان هو صاحب المعجزة إذا انتصر بعقله على غريزته.

ويركز كانط في هذا السياق على أهمية التطابق بين الواجب والفعل الأخلاقي على نحو كلي، وهذا يعني أن الفعل الأخلاقي يجب أن يكون غائياً كلياً وإنسانياً في الوقت الواحد، وأي فعل يفقد سمته الأخلاقية ما لم يرتبط بهذه الشرطية الغائية للواجب، ودون أن يكون صادراً عن الإرادة الخيرة (النوايا). ويلفت كانط النظر إلى وجود أفعال تتفق مع الواجب ولكنها لم تصدر عنه، أي عن الإرادة الخيرة. وهذا يعني أن العمل الأخلاقي الذي يهدف إلى تحقيق مصلحة أو منفعة لا يمكن أن يصنف فعلاً أخلاقياً مطابقاً للواجب، لأن هذا العمل لا يمكن أن يكون نفعياً. فالموظف الذي يصل إلى عمله بانتظام، ولا يتأخر بدافع الخوف من العقوبة، لا يعد سلوكه سلوكاً أخلاقياً. وكذلك الطبيب الذي يعالج مرضاه بهدف تحقيق الشهرة لا يمكن أن يكون عمله أخلاقياً. والشخص الذي يعامل أصدقاءه بود كي يكسب احترامهم لا يمكن لفعله أن يكون أخلاقياً. وكذلك فإن فعل التاجر الذي يعامل زبائنه بإخلاص وأمانة كي يحقق رواجاً لبضاعته وأرباحاً لا يكون فعلاً أخلاقياً. وهذا يعني أن هذه الأفعال لم تكن طبقاً للغاية من الواجب التي تتمثل في فعل الخير المجرد المطلق المنزه عن أي مصلحة كانت. "ولا يكفي لكي يكون الفعل أخلاقياً أن يتطابق مع الواجب، بل يجب أن يصدر عن تقدير عقلي لمبدأ الواجب، ما يدل على صرامة الأخلاق الكانطية، إذ يبدو الواجب عنده وكأنه موجه ضد الطبيعة، كما أن الحياة الأخلاقية تبدو وكأنها إنكار للميول الطبيعية البشرية"[8].

وعلى هذا النحو ينطلق كانط من التأكيد على أن الواجب لا يمكن أن يستند إلى العاطفة أو الوجدان ولا إلى الميول ولا الرغبات، مهما كانت نبيلة وسامية. ومن الواضح أنه أراد في نسق فلسفته الأخلاقية المثالية "أن يحرر السلوك الأخلاقي من قيود الميول والأهواء؛ ولهذا استبعد اللذة والمنفعة والسعادة بوصفها غاية قصوى لأفعال الإنسان الإرادية، إذ جعل الباعث يقوم في الإرادة نفسها، وبذلك ارتدت عنده الأخلاقية إلى مبدأ الواجب" [9].

ولذا، فقد "وصفت أخلاق كانط بالتشدد لأنها أيضاً لا تحبذ العواطف التلقائية والسرور بالحياة ولأنها تفرض نوعاً من القسوة والزهادة في أداء الواجب، ولهذا السبب أيضاً هاجمها معاصروه"[10]، ووصفت لاحقاً بالتّزمّت الأخلاقي.

ويمكن لنا القول: إن القوانين العقلية التي ينادي بها العقل تتطابق كلياً مع القوانين الكونية للواجب، فما الفعل الأخلاقي في نهاية الأمر إلّا محاولة تتصف بطابع الديمومة والاستمرار، لتحقيق التوافق بين القانون العقلي والنواميس الكونية العليا. وهذا يؤكد الثقة الكبيرة التي منحها كانط للعقل الإنساني الذي يقوم بتوليد المقولات الضرورية لنفوسنا، ويصك قوانينها على وزن القوانين الكونية العليا. وهذا يعني في الحصيلة أن العقول الإنسانية قادرة على استكناه الكون وإدراكه عقلياً عن طريق المسلمات العقلية الأولى الكامنة في العقل والقائمة فيه على صورة مسلمات "نومينية" (Noumène).

ويعرّف النومينون (Noumène- Noumenon)[11] - وفقاً لكانط - بأنّه الشيء في ذاته، أو هو كلّ "ما يجاوز نطاق التجربة والإدراك الحسّي؛ إذن فهو حقيقة مجرّدة من مسلّمات العقل العملي، وهو "الحقيقة المطلقة التي تدرك بالحدس العقلي، وهي حقائق مجرّدة تأخذ صورة مسلّمات العقل العملي القبلية التي تدرك بالحدس العقلي مثل: الحرّيّة وخلود النفس، ووجود الله"[12]. والحقيقة المطلقة لا يمكنها - بحسب كانط - أن تُدرك بالعقل النظري لعجز قوانينه عن الإحاطة بالمطلق. وللنومين معنيان "أحدهما سلبي، وهو دلالته على ما لا يمكن معرفته، والآخر إيجابي، وهو دلالته على إحدى مسلّمات العقل العملي مثل: (الحرّيّة وخلود النفس، ووجود الله)"[13]. ويرى أندري لالاند (André Lalande) في موسوعته الفلسفيّة "أنّ أفلاطون استخدم هذا المصطلح في كلامه عن المثل، بيد أنّه يرى أنّ النومين قد انتقل مع كانط من معنى نقديّ محض إلى معنى شبه وجودي أنطولوجي"[14]. ولولا وجود الأفكار القبلية الضرورية، لما افترق البشر عن الكائنات الحية الأدنى في مستويات الخلق والتكوين.

إن القانون المطلق الماثل فينا يسمى الضمير، والضمير على وجه التحديد هو تطبيق أفعالنا على هذا القانون، ولا يكون الضمير إن لم يكن على صورة الأوامر الإلهية السّاميَة. وعلى هذه الهيئة يأخذ الضمير صورة محكمة مقدسة في داخلنا وفي أعمق مشاعرنا الوجدانية. ووفقاً لهذا التصور فإن كانط يرى أن الضمير يعدّ شرطاً أساسياً من شروط الإيمان الديني، فالدين يجب أن يرتكز على الأخلاق، وهو -أي الدين - لا يكون ديناً حقّاً إلا بمساندة الضمير، وهو من غير الضمير لا يعدو أن يكون مجموعة من شعائر تائهة تتسم بالعبثية والتطير[15].

ومع أن كانط لا يستخدم مفهوم الضمير كثيراً، ومع ذلك فإن الضمير لديه يرمز إلى القانون الأخلاقي الساكن في أعماق الإنسان والملهم لأفعاله الأخلاقية. ومهما يكن فإن الضمير يتجلى على هيئة محكمة داخلية للإنسان مخولة بالعمل على تحقيق الفعل الأخلاقي، وتنهى عن ارتكاب الموبقات والاستسلام للنزوات والشهوات وارتكاب المعاصي، وتحثّ على الابتعاد عن كل أشكال الممارسات غير الأخلاقية. وعلى هذا النحو: "يكون القانون الماثل هو الضمير وهو الفاعل في توجيه أفعالنا نحو مطلقات الخير والواجب. فالضمير هنا يشكل قوة إلهية تحاول أن تعصم الإنسان عن ارتكاب الشرور وتنهاه عن ارتكاب المعاصي. إنه القانون الإلهي الماثل في أعماقنا" [16].

ويحدد كانط ثلاث سمات للواجب:

الأولى: أنه يأخذ طابعاً صورياً محضاً على هيئة مسلمات أو أفكار أولية صميمية في عقل الإنسان.

والثانية: أن يكون منزهاً عن كل غائية دنيوية عاطفية أو نفعية.

والثالثة: أن يطبق ويعمم دون قيد أو شرط في مختلف ظروف الزمان والمكان.

فالواجب الكانطي يشكل في نهاية الأمر غاية الأخلاق من حيث هو واجب غائي مطلق مجرد لانهائي، بغض النظر عن أي معطيات خارجة عنه. ويعني هذا أن أخلاق التجربة ترتبط بما هو كائن، أي بالواقع، وبالتالي فهي متغيرة ونسبية، أما أخلاق العقل فترتبط بما يجب أن يكون، أي بالمطلق والغائي والمتسامي. وهذا يؤكد أيضاً أن العقل يشكل المصدر الذكي للقوانين الأخلاقية المطلقة.

4- قواعد الواجب ومرتكزاته:

صاغ كانط نظريته الأخلاقية على صورة قوانين واضحة ومتكاملة، وهي طريقة فريدة في تاريخ الفلسفة الأخلاقية، إذ ترتسم الأخلاق الكانطية على صورة معادلات وقوانين رياضية متكاملة منطقياً ومنهجياً. وهي تحدد مسار الفكر الأخلاقي وتوجه النظرية الأخلاقية بصورة منظمة متكاملة. وقد أسس كانط ثلاث قواعد أساسية في ماهية الواجب الأخلاقي:

1- قاعدة الكلية: "اعمل دائماً، على أن يكون في استطاعتك أن تجعل من قاعدة فعلك قانوناً كلياً للطبيعة".

تشكل هذه القاعدة المحك الأساسي للممارسة الأخلاقية التي يفرضها العقل ويقتضيها الواجب. وتقوم هذه القاعدة على شرط التعميم المطلق دون الوقوع في دائرة التناقض. وهذا يعني أنه يجب على الفاعل الأخلاقي أن يجعل من سلوكه قانوناً كلياً لا يتعارض مع متطلبات الحياة في العالم الواقعي، أو مع مقتضيات الطبيعة وأنظمتها الحيوية. ويتطلب هذا الأمر أن يكون الفعل متطابقاً مع الواجب، لأن الواجب لا يحمل أي وجه من وجوه التناقض مع الحياة.

ويستنتج كانط أنه إذا كان الفعل الأخلاقي يتضمن تناقضاً، أيا كانت صورته، فإن ذلك سيؤدي إلى حالة من التناقض مع القانون الأخلاقي، وهو ما يفقد الفعل الإنساني جوهره الأخلاقي، ويخرجه من دائرة الفضيلة. ويوضح هذا الأمر في مثال يتعلق بتناقضات الواجب تجاه الآخرين. هذا رجل اقترض مالاً من آخر لضرورة قصوى، فقطع على نفسه وعداً برده مع سابق علمه بعجزه عن الوفاء بوعده! إنّ هذا السلوك - بحسب كانط - غير أخلاقي ولا يصلح بتاتاً أن يكون قانوناً كلياً؛ لأنّه يتعارض مع متطلبات الحياة الحرة الكريمة.

فلو جاز لكل إنسان أن يقطع على نفسه عهداً، وهو يعلم مسبقاً بأنه لن يستطيع الوفاء به، لفقد الوعد والعهد دلالتهما الأخلاقية، وأصبح التعامل بين الناس في حكم المستحيل، فتضيع مصالحهم، ويقعون في ارتباك وجودي واجتماعي من شأنه تقويض النظام الاجتماعي، وتدمير مضامينه السلوكية الأخلاقية. ومن هنا فإن تعميم هذا المبدأ - مبدأ عدم الوفاء بالوعد والعهد – سيوقع الفاعل في دائرة التناقض مع القيمة الأخلاقية للواجب من جهة، والقيمة الأخلاقيّة للحياة الإنسانية في تفاعلاتها الاجتماعية من جهة أخرى. وهذا يعني أن الفاعل الأخلاقي لا يستطيع أن يجعل من الوعد الكاذب قانوناً كلياً شمولياً عاماً، لأنه يفتقر إلى الإرادة الخيرة، وهي التي تتمثل في نوايا الفعل الأخلاقي، كما أنه فعل يتناقض مع القوانين الأخلاقية والاجتماعية الفاعلة في المجتمع، ومثل هذا الفعل قد يفقد المجتمع توازنه الأخلاقي، ويتحول إلى مجتمع تنتهك فيه العقود والعهود، وتتخذ مجرّد ذريعة للحصول على مكاسب نفعية ومادية [17]. وهذا الأمر يتعارض أيضاً مع تصور كانط للقانون الأخلاقي بوصفه قانوناً منزهاً عن المنافع والمصالح، ويتعارض معه بوصفه كياناً مطلقاً غائياً.

2- قاعدة الغائية: "اعمل دائماً على أن تعامل الإنسانية في شخصك وفي أشخاص الآخرين دائماً بوصفها غايةً لا وسيلةً".

تتّضح التوجهات الكانطية لتكريم الإنسان بوصفه غاية وجودية، وتركز على التصور الديني الذي يعطي للإنسان هذا التكريم الغائي. فالإنسان غاية الكون والغاية من خلق الطّبيعة، وتمثل هذه المركزية الإنسانية فكرة دعوية رسولية تقرها الأديان، وترفضها أكثر التيارات الفلسفية التي لا ترى في الإنسان أكثر من كائن يحتل المكانة العليا في السلسلة الغذائية للكائنات الحية. ومع ذلك نستطيع أن نلمس في هذا التصور الكانطي ما يدل على أن الأخلاق الكانطية تتجاوز الطابع المجرد الشكلي، وتسعى إلى تحقيق غاية ملموسة ومحسوسة، وهي الإنسان بجوهره وروحه. ومن الواضح أن هذا التكريم الأخلاقي عند كانط ينطلق من القيمة العقلانية للكائن الإنساني الّتي تجعل منه غاية في ذاته، وذلك لأن الجوهر العقلاني للإنسان يعدّ «غايةً في ذاته». ومن أجل أن يوضح كانط هذه القاعدة يعود إلى مثاله السابق ويقول: "إن الشخص الذي يعطي الآخرين وعوداً كاذبة إنما يتخذ منهم مجرد وسائط لتحقيق رغباته، دون أن يفطن إلى أن لهؤلاء الأشخاص حقوقهم بوصفهم موجودات عاقلة أو غايات في ذاتها" [18].

وتكمن القيمة الكبرى لهذه القاعدة في تأكيد الطّابع الإنساني للفلسفة الكانطية، وهو يتمثّل في تمكين البشر من الاستمرار في الوجود على الصورة المثلى للغاية الإنسانية. وهذا يعني أن تطبيق هذه القاعدة سيجعل من المجتمع الإنساني مجتمعاً خلاقاً يقوم على العدل والتفاعل الإنساني، فلا تكون هناك حروب أو مظالم أو قهر أو استغلال أو استعباد. ومثل هذه القاعدة كفيلة عند تطبيقها بإقامة مجتمع مثالي وغائي.

وتلك هي حال الإنسان الغائي في فلسفة كانط، إذ هو الإنسان الذي يأخذ صورته المثلى بوصفه كائناً أخلاقياً فذاً في الوجود، أو بوصفه بصمةً متفردةً في عالم الغايات الوجودية. إنه بالأحرى "كائن" يحمل الإنسانيَّة في ذاته، كائن يومض بنور الضمير وعبق الأخلاق وسمو الواجب الحر من كل قيد أو شرط، وهذه الإنسانيَّة لا يمكن أن تقدر بثمن؛ لأنها غاية الغايات في ذاتها، وليست وسيلة، كما يفيدنا القانون الأخلاقي. ويقول كانط بهذا الشّأن: “يعد الإنسان داخل نظام الطبيعة-كظاهرة من ظواهر الطبيعة وكحيوان عاقل-كائناً غير ذي أهميَّة كبرى، لكن عندما ننظر إليه كشخص، ككيان أخلاقي - أي كذات عاقلة - فإنه يسمو بقيمته على كل المخلوقات في الوجود"[19].

3- قاعة الإرادة: اعمل دائماً جاعلا من إرادتك إرادة كلية مشرعة للقانون الأخلاقي.

تأخذ هذه القاعدة طابعا غائيا مركباً، فهي تؤكد غائية الإنسان من جهة القدرة على التشريع بوصفه منطلق هذا التشريع وغايته في آن واحد. فماذا يقصد كانط وهو يقول هذه القاعدة؟ إنه يريد الارتقاء بالإنسان إلى مرتبة الغائية في البداية والنهاية، إذ هو سبب الفعل وغايته! وهذا يحمل في طياته كثيراً من المعاني والدلالات التي توحي بأنّ الإنسان شبيه بالآلهة! فالذي يشرع قوانين كلية للوجود، ويكون هو غاية الوجود، يكون فوق مرتبة الملائكة وأقرب إلى الآلهة!

وفي هذا السياق يتناول إبراهيم زكريا في كتابه "مشكلات فلسفية" هذه القاعدة، ويرى أنها تشكل توليفاً عبقرياً للقاعدتين السابقتين. فالقاعدة تنص على ضرورة أن يكون الإنسان مشرعاً للقانون الأخلاقي وخاضعاً له، وهذا يعني بالضرورة أن خضوع الإنسان للقانون لا يكون إلا خضوعاً لنفسه، وتلك هي أقصى مراتب السمو والحرية أيضاً. وعندما يقول كانط: "إن الإرادة هي المشرعة العامة للقانون" فهو يعني أن لها من الاستقلال الذاتي ما يجعل منها إرادة حرة، لا تصدر كل أفعالها إلاّ عن طبيعتها العاقلة [20].

وتبرز مثل هذه القواعد العبقرية في صياغتها وفي عمقها الفلسفي سمو الواجب الأخلاقي الذي لا يمكن أن يكون مجرد واجب اجتماعي عادي، بل هو فوق ذلك كله واجب كوني مطلق في مختلف معانيه ودلالاته. ويتضح هنا أن كانط قد شرّع هذه القوانين الكونية للواجب تعبيراً عن الإنسان في صيغته المطلقة بوصفه عقلاً وإرادةً خيرةً ثمّ طبيعةً كونيةً. والواجب - كما يتجلى في فلسفة كانط- هو عصب الأخلاق وجوهر القيمة الأخلاقية، ومن ثم فإن الالتزام به يؤدي إلى تحقيق الغايات الأخلاقية والارتقاء بالأخلاق إلى أعلى مراتب السمو الأخلاقي [21]. والواجبات عند كانط هي نوعان: واجبات الإنسان المرتدة إلى ذاته وواجبات الإنسان تجاه غيره.

5- الأوامر الشرطية والأوامر الغائية:

يميّز كانط بين الأوامر الشرطية والأوامر الأخلاقية القطعية الغائية التي يفرضها الواجب. فالأمر الأخلاقي الذي يصدر عن الواجب يكون غائياً كلياً، وهو ذاتيّ حرّ، لا يتوخى نفعاً ولا يجاري مصلحةً ذاتيةً. أما الأوامر الشرطية فتتمثل في القيام بالفعل لخير مطلوب بوصفه غايةً كليةً. وعلى خلاف ذلك تأخذ الأوامر الأخلاقيّة القطعية صيغة القيام بالفعل لغاية ذاتية مطلقة (الحق من أجل الحق). ويضرب كانط مثلاً بالتاجر الذي يستقيم مع زبائنه، وهذه الاستقامة تتطابق مع مطالب الواجب، ولكنه هذا التطابق يأتي بدافع المنفعة لا بوحي من الواجب نفسه، وهذا التطابق العرضي لا يمنح فعل الاستقامة طابعاً أخلاقياً.

وتخضع الأوامر الشرطية المقيدة للقاعدة العامة: من أراد الغاية أراد الوسائل كذلك. فمثلاً: إذا أردت أن تحيا سعيداً فيجب أن تكون صالحاً. وإذا أردت أن تكسب ثقة الناس فيجب أن تكون صادقاً. "وهذا يؤدي إلى نتيجة أساسية، ألا وهي ضرورة اتباع الوسائل المناسبة لبلوغ الغايات المطلوبة، وأما الأوامر القطعية أو المطلقة فإنها لا تخضع لأي شرط. لماذا؟ لأن ما يلزمنا ضروري في ذاته بصرف النظر عن نتائجه. مثلاً: كن خيراً، قل الصدق دائماً، لا تخن العهد" [22].

والأوامر الشرطية لا تعدو أن تكون أوامر تحكمها معاملات الناس في حياتهم اليومية. فعندما يتجنب المرء السرقة خوفاً من السجن، والإسراف في الطعام خوفاً من المرض، وعندما يجتهد أملاً في النجاح، ويزور الآخرين طلباً للاحترام، ويمارس الرياضة طمعاً بصحة جيدة، فإنه يؤدي واجبات أخلاقية نفعية وشرطية وليست في مقام الأوامر والإلزامات الأخلاقية التي يفرضها الواجب كواجب أخلاقي مطلق، ومثال ذلك، افعل الخير دائماً وأبداً لأنه خير، كن صادقاً واصدق دائماً أبداً حباً بالصدق، لا تكذب خوفاً من العقاب بل لا تكذب، لأن الكذب حرام بالمطلق. اجتهد حباً في الاجتهاد لأن الاجتهاد واجب، وساعد الآخرين ليس طمعاً في أمر آخر غير القيمة الأخلاقية لواجب الخير المطلق.

6- الحرية شرط الواجب:

يحيل كانط مفهوم الواجب إلى شرط الحرية، وتأسيساً على ذلك فإنّه يعطي لمفهوم الحرية أهميةً كبيرةً بوصفها شرطاً مطلقاً للفعل الأخلاق، وعلى هذا الأساس لا يكون الفعل الأخلاقي فعلاً يتم تحت دواعي القسر ومطلب الإكراه على وجه الإطلاق.

فالإنسان يخضع للطبيعة عملياً بوصفه كياناً مادياً، ويخضع للمبادئ جوهرياً بوصفه كياناً روحياً. وهذا يعني أنّه يكون مقيّداً بوصفه جسداً، ويكون حراً بوصفه روحاً ونفساً وعقلاً. وهنا يكمن سر الفعل الأخلاقي، فهو يخضع للواجب خضوعاً حراً، ولا يكون خضوعه للواجب على وجه القسر والإكراه. وينبه كانط إلى أنّ الخضوع لا يكون إلا خضوعاً للذات الروحية لأن المبادئ والقيم الأخلاقية متأصلة في العقل، وحين يخضع العقل للمطلق الأخلاقي فإن هذا الخضوع لا يكون إلا فعلاً ذاتياً صادراً عن العقل الذي يستبطن القانون الأخلاقي. وهذا يعني أن الخضوع لا يكون بأوامر خارجية بل هو بمقتضى الإرادة الذاتية. "والأوامر القطعية المطلقة هي تلك المبادئ الأخلاقية التي يلزم بها الإنسان نفسه بوصفه كائناً ناطقاً حراً، وهذه الحرية لا تعني القدرة على إتيان أي فعل كائناً ما كان، بل هي تعني قدرة الإنسان على تنظيم حوافزه، وتهذيب ميوله، وتوجيه سلوكه. ففي وسع الإنسان أن يفعل أو يمتنع عن الفعل، "وهذه القدرة الإرادية هي التي تسمح له بتنظيم ميوله وفقاً للرفض والقبول والالتزام بما يقضي به القانون الأخلاقي" [23]. ويعني هذا بإجمال أن حرية الإرادة مطلق من مطلقات العقل العملي وبدهياته. إذ لا يمكن "أن يُجبر إنسان ما على فعل ما، ويوصف بأنه أخلاقي أو غير أخلاقي، فالحرية هي الشرط الأول والأساسي للحرية الأخلاقية عند كانط" [24].

7- الإرادة الخيرة:

ينطلق كانط في نظريته الأخلاقية من الإقرار بوجود إرادة طيّبة في الإنسان. وتشكل هذه الإرادة منهل القيم الأخلاقيّة، وتجسد جوهرية القانون الأخلاقيّ. وبناءً على هذا الإقرار البدهي أسس نظريته الأخلاقية على أساس الإرادة الخيرة، قائلاً: "من بين الأمور التي يمكن حصرها في هذا العالم أو خارجه لا يوجد شيء يمكن أن يكون خيراً على وجه الإطلاق إلاّ شيء واحد هو: الإرادة الخيرة" [25].

ويورد كانط نسقاً من الملكات العقلية والنفسية الأخرى القائمة في الإنسان التي يمكن توظيفها في ممارسة الخير أو الشر أو كلاهما معاً، مثل الذكاء على سبيل المثال لا الحصر. ويرى في هذا السياق أن بعض الفضائل ليست خيراً في ذاتها، مثل فضيلة التحكم في النفس. لماذا؟ لأن السارق الذي يسيطر على نفسه يصبح أخطر سارق على الإطلاق. وهو ما يؤدي إلى الإقرار بأن الإرادة الخيرة هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن يعد خيراً في ذاته، لأنها لا تستمد طابعها الخير من المقاصد أو الغايات، بل تستمده وتمتحه من ذاتها بوصفها خيراً مطلقاً. وما "يجعل الإرادة خيرة هو قيامها بالواجب، لأن الإرادة الخيرة هي تلك التي لا يكون لها قانون آخر سوى قانون الواجب بمطلقاته الغائية، وعلى هذا النحو فإن الواجب هو ضرورة إنجاز الفعل احتراماً للقانون"[26].

ويؤكد كانط في سياق آخر "أن جوهر الإرادة الخيرة لا يكمن في نتائج الفعل الأخلاقي أو في نجاحه أو بلوغ الهدف المنشود، وإنما يكمن جوهرياً في النية الخيرة. وما دامت هذه الإرادة خيرة بذاتها لا بنتائجها، فإنه لابد من عدّ النية بمثابة العنصر الجوهري للأخلاقية، فالإرادة تظل خيرة حتى ولو عجزت مادياً عن تحقيق مقاصدها مادامت استخدمت شتى الوسائل التي كانت موجودة بين يديها"[27].

وتستند القيم الأخلاقية إلى مبدأ الإرادة الخيرة المستقلة على وجه الإطلاق، وتشكل النية الطيبة جوهر هذه الإرادة وعمقها الوجداني، وهذا يعني أنه عندما تنعدم النية الأخلاقية، فإنّ الفعل يفقد كل صفة أخلاقية، ويصبح مجرد سلوك عابر لا يحمل أي قيمة أخلاقية. القيمة الأخلاقية الحقيقية لا تصدر عن مادة العمل الأخلاقي، بل تتبع صيغته الغائية الشكلية. ويُستنتج من ذلك أن مادة العمل الأخلاقي هي ما يفعله الشخص أو ما يعتقد أن من واجبه فعله مثل: اعتقاد المدين بوجوب دفع دينه، هذا من جهة، أما العمل الأخلاقي فإنّه يتجلى في نية الفاعل الأخلاقي. وهذا يعني أن القيمة الأخلاقية لا تتركز في الخير المتجسد في الفعل وإنما في الفاعل الأخلاقي كقوة ذاتية تتمثل في النية الخيرة لأداء الواجب وفق القانون الأخلاقي. وهنا يقرر كانط بأن الفعل الأخلاقي لا يهدف إلى تحقيق السعادة، بل إلى تحقيق الواجب ضمن شروط الإرادة الخيرة والضمير الحي الساكن في أعماق الإنسان.

ويجب أن تكون الإرادة الخيّرة خيّرة في كل الظروف، مهما كانت الأحوال والمواقف، فلا تكون خيّرة في موقف ما وغير خيرة في آخر، كما أنها لا يمكن أن تكون وسيلة لغاية ما وشريرة كوسيلة لغاية أخرى [28]. وهنا ينبه كانط إلى خطر الانزلاق في "الخلط ما بين الإرادة الخيّرة، وبين مجرد الرغبة في الخير دون اتخاذ الوسائل المتاحة لتحقيقه"[29]. ومن أجل فهم طبيعة الإرادة الخيّرة "يستعين كانط بفكرة «الواجب». فالإرادة التي تعمل وفقاً للواجب هي إرادة خيّرة بالضرورة، أما الواجب فإنه يمثل ضرورة إنجاز الفعل احتراماً للقانون، أما القانون فصفته الجوهرية تكمن في أنه كلي «أي صادق في الأحوال كافة دون استثناء»، والقانون الأخلاقي هو ذلك القانون الذي يقول لنا: إن الفاعل الأخلاقي يتصرف أخلاقياً إذا سيطر العقل على كل ميوله"[30].

ويلفت كانط النّظر إلى وجود علاقة صميمية بين الواجب الأخلاقي والإرادة الخيّرة. ومن يتأمل في منظوره الأخلاقي سيجد أن الواجب يرتبط بالإرادة الخيرة ارتباطاً محكماً، فكل منهما يستند إلى الآخر، ويمتح معناه من معينه الأخلاقي؛ فلا تكون الإرادة إرادة خيرة من غير الاستناد إلى الواجب، ولا يكون الواجب واجباً أخلاقياً حقاً إلّا باستناده إلى الإرادة الخيرة. وهذا يدل على الترابط الجدلي العميق بين المفهومين في الحضور والغياب. ولا يمكن لنا أن ندرك البعد الأخلاقي لمفهوم الواجب خارج مسار التفاعل الصميمي مع مفهوم الإرادة الخيرة، والإرادة الخيرة كما يقدمها كانط هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن يعد خيراً على الإطلاق دون أدنى قيد أو شرط. وهي أيضاً تملك شرط الخير، لأنها تعمل بمقتضى الواجب وبصرف النظر عن النتائج. "والإرادة الخيرة هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن يكون خيراً في ذاته؛ لأنها لا تستمد خيريتها من المقاصد التي تحققها أو الغايات التي تعمل من أجلها؛ بل تستمد خيريتها من باطن ذاتها بوصفها الشرط الضروري الكامن لكل أخلاقية"[31].

ويمكن أن نبسّط، فننظر إلى الإرادة الخيرة بوصفها "نية الفعل الخير". والنية كما يرى أصحاب النظريات الأخلاقية هي عماد الفعل الأخلاقي، وهي سابقة للعمل والفعل الأخلاقي. وهذا يعني أن أي فعل يستند إلى النية الخيرة سيكون بالضرورة فعلاً أخلاقياً حتى وإن لم يحقق الهدف الذي يسعى إليه. والنية هي العنصر الجوهري في الفلسفة الأخلاقية عند كانط، لأنها "هي وحدها التي يمكن أن تعد خيراً في ذاته أو خيراً مطلقاً من دون أدنى قيد أو شرط؛ "بل إن خيريتها غير مشروطة بعلاقتها بظروف أو بغاية أو برغبة، وهي بهذا المعنى خير مطلق وغير مشروط أبداً" [32].

ومثال ذلك الطبيب الذي بذل جهده لإنقاذ المريض بنية علاجه ومداواته، لذا فلا تترتّب على نتائج صنيعه أي عاقبة أخلاقية؛ أي بمعنى أن القيمة الأخلاقية لعمل الطبيب لا تتحدد بشفاء المريض أو موته، وهذا يعني أن نتيجة الفعل لا تقلل أبداً من القيمة الأخلاقية للفعل القائم على الإرادة الطيبة. وهذا يعني في نهاية الأمر أن الأفعال لا تكون أخلاقية إلا إذا صدرت عن قانون أخلاقي. ومثال ذلك أن الإنسان الذي يقوم بإنقاذ غريق لا يكون فعله أخلاقياً إلّا إذا كان الشرط الأساسي له القيام بالواجب، مهما تكن البواعث الأخرى حاضرة في هذا الفعل مثل الشفقة والعواطف النبيلة، فهذه العوامل تساعد على أداء الواجب، ولكن الأصل في الفعل هو أن يكون استجابة لمطلق الواجب.

8- خاتمة:

تشكل النظرية الأخلاقية لبّ الفلسفة الكانطية وجوهرها، ولا يمكن الفصل في حقيقة الأمر بين الفلسفة والأخلاق في منظومته الفكرية، فالفضيلة تشكل الغاية الكلية السامية عند كانط، وعلى هذا الأساس يشكل الواجب بشروطه وقانونياته الواضحة منهجه في نظريته الأخلاقية، ومن خلاله ترتسم الفضيلة بوصفها الغاية الكلية الكونية للوجود الإنساني.

وتكمن عبقريّة كانط الأخلاقية في قدرته العلمية التي جعلته يصوغ نظريته الأخلاقية بطريقة هندسية واضحة، ويرسمها بطريقة القوانين والقواعد الرياضية. وقد استحق عن جدارة لقب فيلسوف الواجب ومن ثم فيلسوف القيمة الأخلاقية، إذ جعل - كما أوضحنا - من القيمة الأخلاقية قيمة غائية للوجود والحياة والتاريخ.

ويبدو أن كانط كان يخطّ للإنسانية طريقها إلى الفضيلة، إذ جعل من الفضيلة والواجب المنهج الذي يجب أن تعتمده من أجل خلاصها الأبدي. وما لا شك فيه أنّه تصوّر نظريته الأخلاقية بوصفها استراتيجية يمكنها أن تخلص الإنسانية من أوجاعها، وتدمر كل القيم السلبية مثل: الظلم والكراهية والعدوانية بين البشر.

وتتمثل نظريته جوهرياً في غائية الإنسان، وقد جعل من هذه الغائية قانوناً عاماً شاملاً إنسانياً، فالإنسان غاية في نظريته ولا يمكن أن يعامل على أنه وسيلة أو موضوع، بل يجب أن يكون دائماً ذاتاً خلاقة فاعلة رافضة لكل أشكال الظلم والكراهية، وهذا ينطبق على كل إنسان في كل زمان ومكان. ولو أخذت الإنسانية بالقانون الغائي للإنسان -الذي نجده واضحاً في فلسفة كانط- فإن ذلك سيؤدي إلى نهاية الظلم والعبودية والقهر ومظاهر الاستغلال ضد الإنسان في كل عصر ومصر.

ومن المظاهر الحيوية في النظرية الأخلاقية عند كانط أنه جعل من الحرية الأخلاقية للإنسان قانوناً لا يُغلب ولا يتغيّر، فالأخلاق يجب أن تصدر صدوراً عفوياً حراً خلاقاً من عقل الإنسان وروحه الداخلية. وهذا يعني أنه استطاع أن يربط بين الأخلاق والحرية وأن يجعلهما صنوين لا يفترقان، لا في الزمان ولا في المكان. فالإرادة الخيرة هي المصدر الحقيقي لكل فعل أخلاقي يتجه نحو الفضيلة الإنسانية ويجسدها حقيقة واقعية حيّة.

ومن المقوّمات الأساسية لتصوّر كانط للفضيلة الأخلاقية أنه استطاع أن يربط بين الأخلاق والعقل، فالعقل يجب أن يكون المصدر الأول والنهائي للحرية الأخلاقية، ويكسب هذا الأمر للإنسان هوية أخلاقية يتكامل فيها الذكاء بالحرية والعقل والغائية.

وهنا يمكننا القول: إنّ النظرية الأخلاقية عند كانط تشكل طفرة عبقرية لا مثيل لها في تاريخ الفكر الإنساني، وقد تمكّن من إخراجها بطريقة فنية مُحكمة وبدرجة عالية من التصميم الهندسي المعقد، إذ استطاع أن يستخلصها من خميرة تتخاصب فيها الحرية بالعقل، وتتمازج فيها الغائية بالإرادة الحرة لتأخذ صورة واجب، وهو الواجب الذي يرتسم على صورة أمر إلهي مقدس، ومع أنه أمر إلهي فإنه يصدر من أعماق الإنسان ومن صميم إرادته الحرة.

وقد يبدو لنا من الصعب على المتأمل أن يجيد الربط ما بين أمشاج النظرية الأخلاقية عند كانط، ولكن يمكن لأي كان أن يدرك أنّه أراد لهذه النظرية الأخلاقية أن تشكل سعياً مطلقاً لتأكيد الغائية الإنسانية وترسيخ الفضيلة في المجتمع الإنساني ضد كل أشكال القهر والاستلاب والاغتراب والظلم والعبودية، لقد أراد للإنسان أن يكون حراً في مجتمع حر تحكمه الفضيلة وتسوده القيمة الأخلاقية العليا ضمن مسار الغائية الإنسانية على وجه الإطلاق.

وهذه الصورة الأخلاقية التي أرادها كانط أن تتحقق تشكل - كما أسلفنا - جوهر الفعل التربوي، إذ لا يمكن ترسيخ هذه القيم الأخلاقية وتأصيلها في المجتمع إلا عن طريق التربية الأخلاقية التي يمكن أن تؤدي دورها الحيوي في بناء الفضيلة وترسيخ الواجب الأخلاقي بوصفه قيمةً مقدسةً.

***

أ.د. علي أسعد وطفة

أستاذ علم الاجتماع التربوي بجامعة الكويت

....................

مراجع الدراسة وهوامشها:

[1] - إيمانويل كانط، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة عبد الغفار مكاوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1980 ص108-109.

[2] - Immanuel Kant, Critique of Practical Reason, in The Cambridge Edition of the Works of Im-manuel Kant: Practical Philosophy, ed. by M. Gregor (Cambridge: Cambridge University Press), 1996.

[3] - Immanuel Kant, The Metaphysics of Morals, intro., trans. and ed. by Mary Gregor, San Diego State University (Cambridge: Cambridge University Press) 1991.

[4] - إبراهيم العريس، "ثلاثية الأخلاق» لكانط: أبعد من ضرورات الحياة المادية، ثقافات، يوليو 16, 2016، https://thaqafat. com/2016/07/32166

[5] - انظر محمد علي البار، الأخلاق: أصولها الدينية وجذورها الفلسفية، دار كنوز المعرفة، عمان، 2010.

[6] - انظر محمد علي البار، الأخلاق: أصولها الدينية وجذورها الفلسفية، المرجع نفسه.

[7] - إيمانويل كانط، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مرجع مذكور، ص 51.

[8] محمد بوبكري، التربية والحرية، مرجع مذكور، ص42.

[9] - مصطفى حلمي، فلسفة كانط الأخلاقية، مرجع مذكور.

[10] - علا عبد الله خطيب، مفهوم الواجب عند كانط.. مقاربة نقدية، الاستغراب، خريف 2017. صص 299- 310. ص 303.

[11] - يعد مفهوم النومينون (Noumenon) واحدا من أهم المفاهيم المركزية في فلسفة كانط، ويقصد به "الشيء في ذاته أو الحقيقة الأساسية للشيء التي تكمن وراء الظواهر" ( Thing in itself)، ويقابله بالألمانية (Ding an sich). ويعود أصل الكلمة إلى اليونانية، فهو من كلمة (νοούμενoν) المشتقة من الفعل (νοέω) ومعنى هذه الكلمة هو: أعتقد أو أعني. ويستخدم مصطلح "النومينون" بشكل عام كمصطلح مضاد لمفهوم الظاهرة "فينومينن" (Phenomenon) الذي يقصد به ظواهر الأشياء أو الأشياء من الخارج أو المواضيع التي تتلقاها الحواس.. و"النومينات" هي أشياء أو أحداث لا يمكن العلم بها عن طريق الحواس، لأنها مفاهيم مجردة مستقلة عن الحواس الإنسانية. وهذا يعني أن الإنسان لا يستطيع أن يدرك الأشياء بذاتها بل يستطيع أن يدرك مظاهرها وقوانينها الخارجية.

[12] - جميل صليبا، المعجم الفلسفي (ج 2)، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1982، ص 513.

[13] - جميل صليبا، المعجم الفلسفي، المرجع نفسه، ص 513.

[14] - أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، ت: خليل أحمد خليل، (ط. 2). منشورات عويدات، بيروت، 2001. ص 884.

[15] - إيمانويل كانط، ثلاثة نصوص: تأملات في التربية، مرجع مذكور، ص 83.

[16] - انظر: مولود إمسعودان الجزائري، قراءة في النصوص الكانطية الثّلاثة، مرجع مذكور.

[17] - زكريا إبراهيم، عبقريات فلسفية: كانت أو الفلسفة النقدية، مكتبة مصر، القاهرة، 1972، ص 142.

[18] - زكريا إبراهيم، مشكلات فلسفية: المشكلة الخلقية، مكتبة مصر، القاهرة، 1966، ص 176.

[19] - زكريا إبراهيم، مشكلات فلسفية: المشكلة الخلقية، المرجع نفسه، ص 176.

[20] - زكريا إبراهيم، مشكلات فلسفية، المرجع نفسه، ص 177.

[21] - إيمانويل كانط، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة عبد الغفار مكاوي، مرجع مذكور، ص 51.

[22] - الزواوي بغورة، أخلاق الواجب والمؤتلف الإنساني في الفلسفة المعاصرة، التفاهم، المجلد 18، العدد 67 ،31 يناير/كانون الثاني 2020، صص. 89-112، ص94.

[23] - علا عبد الله خطيب، مفهوم الواجب عند كانط، مرجع مذكور ص 083.

[24] - علا عبد الله خطيب، مفهوم الواجب عند كانط، مرجع مذكور، ص 083.

[25]- Immanuel Kant, Métaphysique des moeurs II, Doctrine du droit, Doctrine de la vertu, trad. Alain Renault, Paris, Flammarion, 1994, p. 174.

[26] - انظر: الزواوي بغورة، أخلاق الواجب والمؤتلف الإنساني، مرجع مذكور، ص93.

[27] - زكريا إبراهيم، عبقريات فلسفية (كانت أو الفلسفة النقدية)، القاهرة، مكتبة مصر، 1972. ص 133.

[28] - إبراهيم العريس، "ثلاثية الأخلاق» لكانط، مرجع مذكور.

[29] - إبراهيم العريس، "ثلاثية الأخلاق» لكانط، مرجع مذكور.

[30] - إبراهيم العريس، "ثلاثية الأخلاق» لكانط: مرجع مذكور..

[31] - علا عبد الله خطيب، مفهوم الواجب عند كانط، مرجع مذكور، ص 300.

[32] - علا عبد الله خطيب، مفهوم الواجب عند كانط، المرجع مذكور، ص 300.

تشكل الظاهرة الأصولية ظاهرة عصر متفجر بالأحداث الدموية إذ تشكل الأصولية المنطلق الفكري الاستراتيجي لمختلف الاتجاهات التعصبية التي تنحو دمويا في مجال الحياة الإنسانية المعاصرة. وليس خافيا أن العمق الأصولي يوجد في أصل كل أشكال الإرهاب والقتل والتدمير الذي يشكل ملمحا أساسيا في الزمن الذي نعيش فيه.  ومن أجل فهم مختلف اشكال العنف والتطرف القائم في مجتمعاتنا يتوجب علينا أن نعمل على تفكيك الظاهرة الأصولية وفهم أبعادها الفكرية التي تشكل المنظور الدموي الباعث على توظيف العنف والقتل والإبادة ضد الإنسان والمجموعات الإنسانية العرقية أو الطائفية.

ومن أجل فهم منهجي للأصولية يتوجب علينا بداية التأمل الثاقب في مفهوم الأصولية ودلالاته المعرفية بأبعاده المختلفة وتجلياته المتنوعة. فالأصولية في جوهرها تعبير فكري أيديولوجي يقوم على تبرير مختلف أشكال التطرف الديني والعرقي والعلماني. ويمكننا في هذا السياق أن نميز بين ثلاثة مفاهيم أو مصطلحات رائجة الاستخدام في الخطاب الثقافي والسياسي للتعبير عن الأصولية وهي: الأصولية Fondamentalisme، والسلفية Intégrisme، والتطرف Extrémisme؟  وقد تأخذ هذه الصيغ الثلاثية أبعادا دينية أو وضعية علمانية. ومما لا شك فيه أن هذه المفاهيم قد نشأت وترعرعت في المحاضن الثقافية الدينية، فهي مفاهيم خرجت من رحم التعصب الديني بالدرجة الأولى وامتدت لتأخذ طابعا علمانيا وقوميا سياسيا. ومما لا شك فيه أن هذه المفاهيم الثلاثية تتداخل وتتكامل جزئيا، وتتغاير دلالة كل منها وفقا لتوظيفاتها في مختلف الأنساق الدينية والسياسية، كما تختلف باختلاف استخداماتها من قبل الباحثين والدارسين. 

وبصورة عامة يمكن القول بأن السلفية الدينية Intégrisme تعني تأصيل القيم الدينية التقليدية للدين، أي التركيز على نموذج ماضوي للدين،  وإحياء هذا النموذج عبر مختلف الطقوس والعبادات الدينية. والسلفيون هم أكثر من يواجه تحديات الحداثة التي تفرض نفسها على المعتقدات الدينية. ولذلك فإن أنصار هذا التيار اختاروا مرحله زاهية من مراحل تطور العقيدة الدنية التي شكلت المنصة التي بنيت عليها بناء صورة المثال الديني والعقدي الذي يتمحورون حوله. وهذا يعني أن السلفيين يفضلون العقيدة في صورتها الماضوية الزاهية الأكثر اكتمالا ونضجا على غيرها من المراحل، ويرون فيها إمكانية معالجة الأوضاع القائمة والمعاصرة للدين والعقيدة. لقد كانت هذه السلفية فكرة اليمين الكاثوليكي في الغرب ولكن هذا التوجه بدأ يزحف ويتحول إلى ممارسة دينية وفكرية لدى بعض الأديان الأخرى.

وعلى خلاف ذلك فإن الأصولية Fondamentalisme كانت شأنا بروتستانتيا ركزت على أهمية العودة إلى الكتاب المقدس في صورته المدونة ( الإنجيل) وهي عودة تفترض تجديدا في التفسير اعتراضا على الشروحات والتفسيرات الخاطئة في ممارسات الكنيسة الكاثوليكية، وهذا الأمر يمكن ملاحظته لدى المسلمين فيما يتعلق بالقرآن الكريم. أما التطرف الديني فهو يعني استخدام العنف والإرهاب في سبيل فرض الأفكار والأوضاع الدينية للأصولية أو للسلفية، وهذا يعني أن التطرف هو منهج يرتكز إلى العنف في فرض الرأي والمعتقد وقد يكون هذا العنف في أكثر أشكاله دموية كما شهدنا خلال العقود الماضية Extrémisme. ومع إمكانية التمييز بين هذه المفاهيم فإن كل منها يستخدم عمليا مكان الأخر وفي كل منها دلالة على الشدة والعنف والتسلط في المعتقد ضد الآخر1.

ومن الضرورة بمكان الإشارة بأن الأصولية الدينية ظاهرة عامة لا تخص دينا بعينه. لأن هذه الحركات الأصولية تعبر في جوهرها عن توجهات إيديولوجية ودينية سياسية بالدرجة الأولى وهي تتجلى في مختلف الأديان والعقائد الدينية الكبرى في العالم سواء في الديانات الإبراهيمية (المسيحية واليهودية والإسلام) أو في الديانات الشرقية )الهندوسية Hindouisme والسيخ Sikhisme والشنتوية Shintoïsme

لقد استخدمت كلمة الأصولية Fondamentalisme بداية في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد اقتبست من النصوص الإنجيلية المقدسة في طبعة صدرت ونشرت بين عامي 1910-1915. وتعني الأصولية الدينية في جوهرها عملية تماهي الجماعات والأفراد مع نسق من المعايير والقيم والتصورات التي تنبثق من القانون الإلهي. وبالتالي فإن هذه المعايير والقيم ترسم بعناية وتفسر من قبل سلطة خاصة وسيطة بين الله والإنسانية.

وهنا يمكن القول بأن الأصولية الدينية بصورة تنطلق من فكرة قوامها إعادة بناء الأمة أو المجتمع على النحو الذي كان عليه هذا المجتمع في عصر الهيمنة الدينية النموذجية أو في عصر ازدهاره العقدية الدينية ونهضتها.

أصوليات  دينية:

لم يكن حضور العولمة وانتشارها من غير مقاومة تجلت في ردود فعل ثقافية ودينية وعرقية بعيدة المدى متعددة الاتجاهات. فالمقاومة كانت حاضرة دائما في مواجهة العولمة حيث اتخذت أشكالا متنوعة أكثرها أهمية ظهور النزعات العرقية والدينية والقومية والسياسية التي تؤكد هويتها المهددة بالضياع. حيث تشهد العولمة مثل هذه المقاومة في مختلف البلدان وفي مختلف الثقافات والجماعات العرقية، ولسان حال المقاومين يقول: إننا هنا حاضرون نمتلك قوتنا ونريد أن نحظى بهويتنا ووجودنا المتفرد، فإما أن نكون فاعلين في هذا الزمن وإما سنكون مقاومين لعولمته معلنين مركزية وجودنا في هذا العالم الذي يحتضننا. فالقيم التي تحتضنها العولمة، وهذا مؤكد، ليست هي ذاتها التي توجه حياة هذه الكيانات ذات الهوية، فالعولمة تتناقض بقيمها وتوجهاتها مع القيم الثقافية للجماعات الإنسانية بمختلف تنوعاتها العرقية والدينية والثقافية. وبالتالي فإن هذا التناقض بين منظومات القيم يجعل هذه الجماعات تشعر بالتهديد فتعمل كردة فعل طبيعية على استنفار هوياتها الثقافية والدينية والعرقية حفاظا على الكينونة والوجود إزاء عولمة زاحفة تسحق كل من يقف أمام تقدمها 2.

وتحتل اليوم مسألة الأصوليات الدينية اليوم كما هو الحال في الأمس مكانا مركزيا في الخطاب السياسي والفكري المعاصر، ويشكل التطرف الديني لهذه الأصوليات المقاومة هاجسا إنسانيا يقض مضاجع الأمم والشعوب في مختلف أنحاء المعمورة. وقد شكلت مسألة الأصوليات الدينية الخط الساخن والمتوهج في نسق الأبحاث والدراسات الفكرية الاجتماعية والسياسية. وقد بلغت هذه الدراسات أوجها فيما يتعلق بدرجة التراكم وعنف التحليل. وفي كل الاتجاهات التي تناولت مسألة الأصوليات نجد نوعا من عنف الخطاب الموجه إلى هذه الأصوليات حيث يقوم بعض المفكرين بصب اللعنة الأبدية على كل المظاهر الأصولية المتطرفة بينما نجد هناك بالمقابل من يبررها ويمجدها انطلاقا من القول بدورها في الانتفاضة ضد الظلم والقهر والعدوان. وما بين اللعنة والتمجيد يفقد نجد أنفسنا في دوامة وحيرة تفرض علينا البحث عن أبعاد هذه الظاهرة بصورة موضوعية تخرجنا من دائرة الخوض الذاتي وتضعنا في سياق معادلة الرصانة والموضوعية، في تناول ظاهرة التطرف الديني والأصوليات الدينية.

صعود الأصوليات:

وعلى الرغم من تنامي اتجاهات الحداثة والعولمة فإن هذه الأصوليات لم تشهد تراجعا في مسار تقدمها. فعلى الرغم من الحركات الكبرى الدنيوية النشطة في مختلف أنحاء العالم في العقود الأخيرة فإنه لا يمكننا القول بأن الدين قد تراجع تحت تأثير الحداثة وما بعد الحداثة. فنحن اليوم نشهد عودة قوية للدين والهويات الدينية الأصولية في مختلف أنحاء العالم وهذا ما يطلق عليه جيل كيبل Gilles Kepel تسمية انتقام الله Revanche de Dieu، ففي العالم المعاصر تأخذ العلاقة بين الإنسان والمقدس مكان القلب والصدارة. فالتجربة الدينية تستجيب لمسألة انعدام الأمن وتلبي الحاجات النفسية عند الإنسان كما تسهم في تعميق مفهوم الهوية والدلالة والمعنى في حياة الإنسان. فالدين في نسق أوضاعنا المعاصرة يمثل صرخة احتجاج ضد الظلم والقهر وزهو في هذا المسار يجسد أمل الناس في العدالة والحرية والقيم السامية. ولذا فهو باق دائما وسيتجلى في أشكال وصيغ مختلفة تختلف باختلاف الأزمان والأماكن.

ومهما يكن الأمر فإن الجماعات الأصولية تنزع في أغلبها إلى ممارسة العنف. والعنف هو السمة الغالبة والعلامة الفارقة لهذه الحركات الأصولية، وهنا بعض الاستثناءات المحدودة جدا، إذ يمكن الإشارة إلى الحركات البوذية التيبية السلمية التي غالبا ما ترفع شعار اللاعنف وذلك بتأثير العقيدة البوذية نفسها التي تشدد على رفض العنف.

وهنا يجب أن نذكر أن الأديان في جوهرها ترفض العنف وتدفع إلى التسامح والسلام، ولكن التاريخ يعلمنا أن الممارسات الدينية غالبا ما كانت تتجه إلى العنف؛ لنأخذ المسيحية والتي تتمركز عقائديا إلى جانب السلام والمحبة والتسامح، فمع أهمية هذا التمركز العقائدي التسامي فإن التاريخ يعلمنا بأن البلدان المسيحية كانت مسرحا للحروب المقدسة والحروب الصليبية في العصور الوسطى وأن العصور الوسطى المسيحية كانت أشبه بالجحيم حيث بلغ العنف المسيحي مداه في هذه المرحلة. ويمكن لنا في هذا السياق أن نقول بأن بعض النظريات التحررية تبرر الثورة المسلحة والعنف. وكذلك الحال بالنسبة للعقائد الدينية فإنها كثيرا ما تعبر عن الأفضل والأسمى ولكنها في المقابل تدعو أحيانا إلى ممارسة العنف أو الجهاد والنضال وذلك من أجل الحرية ومن أجل السلام. ومن هذه الزاوية، تطور التيارات الأصولية نظريات متكاملة تبرر العنف بأقصى أشكاله دموية.

ويمكن تفسير عملية لجوء هذه الحركات إلى العنف بعوامل متعددة، فالجماعات الدينية التي تتعرض للاضطهاد يمكنها أن تلجأ إلى ممارسة العنف ضد العنف الذي تواجهه، وهذا ينطبق على الجماعات التي تتعرض للعنف والاستغلال والاضطهاد، وتلك التي يفرض عليها قيم ومعايير منافية لهويتها ووجودها. وقد ينفجر العنف عندما يتم الخلط بين الدين والسياسة. وفي كثير من الأحيان فإن الحروب الدينية غالبا ما تنطوي على غايات سياسية واقتصادية. والأصوليون غالبا ما يحملون مطرقة الدين من أجل الوصول إلى غاياتهم السياسية.

ضد الدولة: 

وهنا فيما يتعلق بالهوية فإن الهوية الأصولية الدينية تقوم على مبدئين تدميرين أساسيين: يتمثل الأمر الأول في تدمير الكيان الذاتي للفرد بوصفه مواطنا أو رجلا أو امرأة، بوصفه عضوا في جماعة عرقية أو أثنية، وذلك لكي يكون أحد رعايا الأمة معلنا خضوعه المطلق لله أو النبي أو أولي الأمر. ويتمثل الأمر الثاني في نفي مشروعية الدولة القومية أو أي نوع آخر من الأنظمة السياسية الحديثة ورفضها وبناء دولة دينية دولة الله في الأرض وهي نظام يهتدي بالعقيدة الدينية. وعلى هذا الأساس من التصورات الدينية والسياسية بزغت الحركات الأصولية في العالم في القرن التاسع عشر في كل أمريكا والبلدان العربية والشرق آسيوية. ولم تنشأ هذه الحركات الأصولية على صورة ثورة أو تمرد تقليدي أو على صورة رجعية، بل نشأت كردة فعل ضد الدولة الاستعمارية في البداية ثم ضد حكومات الظل الاستعمارية ثم لاحقا ضد الدولة القومية أو العلمانية. فظهور الحركات الأصولية لم يكن في جوهره دينيا بقدر ما كان ثورة سياسية ضد الأوضاع السياسية للبلدان التي ظهرت فيها. وبعبارة أخرى جسدت هذه الحركات الأصولية انتفاضة سياسية باسم الدين والمقدس من أجل مجتمع عادل يقوم على قيم الدين وعدله ضد الدولة العلمانية وقيمها المتناقضة مع القيم الدينية. ومن جديد نقول بأن هذه الحركات لم تكن مجرد نزعة تدعو للعودة إلى الأصول أو إلى حركة رجعية تدعو إلى الماضي الديني المستنير، بل كانت حركات سياسية حقيقية هدفت إلى إحداث التغيير في المؤسسات السياسية والاجتماعية وتغيير شكل الدولة على أساس الهوية المستقلة وهي هوية الانتماء إلى الدين والعقدية الدينية.

فالأصولية وفقا لهذا التصور ولدت تحت تأثير الأزمات السياسية والاجتماعية في مختلف البلدان، حيث أخفقت هذه الدول في تحقيق نهضتها الرأسمالية أو في تحويلها الاشتراكي مما أخفقت في تحقيق أحلامها الوردية القومية. وهنا يمكن وصف الحركات الأصولية بالحركات الاجتماعية الثقافية التي تهدف إلى توكيد الهوية الدينية وتأصيل حضورها سياسيا وثقافيا. وقد وجدت هذه الحركات الأصولية في جماهير المعوّزين والفقراء والمسحوقين اجتماعيا طلائع قوتها وانتشارها.

لقد نشأت هذه الأصوليات كاستجابة ضد الممارسات الاستبدادية غير الديمقراطية للحكومات التي وجدت مساندة قوية من قبل الحكومات الغربية التي رفضت الاعتراف بهذه الحركات الأصولية ردحا من الزمن.

أصوليات إسلامية:

ويشهد الشرق الإسلامي اليوم تناميا مستمرا للأصوليات الإسلامية والحركات الإسلامية الأصولية متعددة في بناها واستراتيجياتها ومواقفها من الدولة والعولمة والسياسة، فهناك الحركة الوهابية، والإخوان المسلمون، والسلفيون، والتيار الأصولي المقاوم الممثل في المقاومة الإسلامية في الجنوب اللبناني وفي غزة التي تتبنى أهدافا نضالية تحررية لا يشوبها برأينا غبار في المستوى الإنساني مع التحفظ على أيديولوجياتها الاجتماعية والفكرية غير النضالية. ولكن حركة القاعدة تشكل اليوم نموذجا فريدا للهويات الأصولية المتطرفة في العالم الإسلامي حيث يمكن التركيز عليها في التحليل كنموذج سوسيولوجية للهويات الأصولية المقاومة للعولمة والدولة3.

لقد ولدت القاعدة بوصفها حركة أصولية راديكالية واتسعت هيمنتها وسطوتها في مختلف أنحاء العالم الإسلامي إن لم يكن في مختلف أنحاء العالم. وهنا يجب القول بأن الحركات الاجتماعية لا يمكن أن تولد إلا في سياقها التاريخي الداخلي، وهنا يمكن القول بأن القاعدة قد نشأت نتاجا للتصادم الجيوبوليتيكي بين كتلتين أساسيتين بين المعسكر الاشتراكي وعلى رأسه الاتحاد السوفييتي سابقا وبين المعسكر الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية. وللعلم فإن القاعدة ولدت في أفغانستان التي كانت ساحة الصراع أيام الحرب الباردة بين الشرق السوفييتي والغرب الأمريكي وقد يجهل كثير من الباحثين بأن القاعدة وجدت دعما ماديا ولوجستيا من قبل السعودية وباكستان والولايات المتحدة الأمريكية نفسها أيام الحر الباردة. وكانت المخابرات الأمريكية السرية CIA تقدم لهذه الحركة كل الدعم الممكن، ولكن في النهاية استطاعت القاعدة أن تتجاوز حدود الأهداف التي رسمت لها في البداية من قبل عرابيها وأن تتحول إلى قوة أصولية مستقلة ارتدت إلى صانعيها وأعلنت حربها المقدسة على وجودهم4.

وما تتميز به القاعدة كحركة أصولية اعتمادها الكبير على العنف السياسي والاجتماعي في سبيل توكيد الهوية الدينية وحضورها المظفر. ويجب ألا ننسى أن ابن لادن زعيم هذه الحركة ومؤسسها قد قام بعملية إصلاحات واسعة في منشآت الأماكن المقدسة في المدينة وفي مكة وقد تلقى دعم الملك السعودي ومباركته آنذاك.

وما هو مهم هنا أن القاعدة لم تشغل حتى الآن بإعداد تصورات أو برامج للإصلاح الاجتماعي في المجتمعات الإسلامية. وإذا كان الجهاد قد وظف أيديولوجيا تحت عنوان النضال باسم الإسلام فإن شعار القاعدة أيديولوجيا هو توظيف الإسلام باسم النضال والكفاح، وهناك تباين جوهري كبير بين الشعارين الأيديولوجيين. ووفقا لهذا التصور امتدت نشاطات القاعدة في مختلف أنحاء العالم وشكلت لها قواعد وخلايا فكرية وعسكرية بدءا من أفغانستان إلى مختلف أنحاء العالم وصولا إلى أوروبا وأمريكا. ومن الملاحظ في هذا الخصوص أن النخب التي انضمت إلى القاعدة تنتسب إلى عائلات معروفة وقد تلقت تعليما جيدا إن لم يكن متميزا، فهناك عدد كبير من المهندسين والأطباء والفنيين والمتخصصين في مجال العلوم الطبيعية. فالقاعدة لا تعبر وفقا لهذه الوضعية عن انتفاضة الفقراء والمنبوذين والمضطهدين بل هي تعبير عن انتفاضة ثقافية ضد الهامشية الثقافية والسياسية.

وهنا يجب علينا تشديد الانتباه إلى أن القاعدة اعتمدت مفهوم الشبكة واللامركزية في فعلها ونشاطها فهو تنظيم يستمد نسغ دينامياته على النحو الذي تنتشر به العولمة. وهي شبكة تأسست من الأدنى إلى الأعلى وهذا يعني أن الجماعات الإسلامية في العالم ارتبطت بالقاعدة وتحولت إلى تنظيم القاعدة بصورة قد تكون أحيانا عفوية دون أن تقوم القاعدة نفسها أي القيادة بتنظيم هؤلاء الذين ينتسبون إليها. وهنا تكمن خطورة هذا التنظيم وقدرته على الاستمرار، وهذا يعني أن القاعدة لا تبحث عن جمهورها بل هو الجمهور الذي يأتيها ساعيا أي إنها بالتعبير السياسي تشكيل عضوي ينطلق إلى الأعلى من الأدنى، فأنصار القاعدة ينتسبون إليها بطريقة الشبكة ثم يتمركزون لاحقا حول قيادتها. وهذا في النهاية يعني أن القاعدة شبكة واسعة على صورة حركة سياسية دينية تنظم حول فكرة وتمتلك أيديولوجيا مقنعة مستمدة بصورة ما من الفكر الديني الإسلامي وهي فكرة مقنعة بالنسبة لغالبية المسلمين وذلك عندما يتعلق الأمر بتحرير أرض الإسلام من دنس أمريكا وإسرائيل. وفي النهاية يمكن القول بأن تنظيم القاعدة شمولي كوني وهي تعتمد تكتيكيا عبقريا في صراعها مع الغرب ويتميز هذا التكتيك بثنائيته: فهم بداية يستخدمون الإرهاب في كل مكان وفي كل زمن ممكن من أجل تذكير الغرب بضرورة الخروج من أرض الإسلام، وهم في الوقت نفسه لا يفاوضون، وهدفهم التاكتيكي إثارة حالة من الرعب في موطن البلدان الغربية التي يمكن أن تغير الرأي العام في هذه البلدان لتطالب دولها بالخروج من أرض الإسلام بسلام طلبا لأمن هذه الشعوب واستقرارها. وفي الجانب الثاني فإنهم يريدون التأثير في الشعوب والجماهير الإسلامية عبر العالم وتوليد روح نضالية هائلة لديهم ضد الغرب، فأحداث الحادي عشر من سبتمبر تريد أن تقول للمسلمين أن عدوكم هذا الذي يعتقد أنه لا يقهر يمكن قهره وتدميره في عقر داره ويمكنكم الثورة والنضال من أجل دحره نهائيا.

وفي مجال السياسة الإعلامية يمكن القول بأن الأنترنيت هو أسطورة القاعدة، فهي توظف الإنترنيت بطريقة عبقرية مع أن الإنترنيت يشكل أحد مراكز المراقبة الأساسية لوكالات المخابرات العالمية، وكذلك هو حال القاعدة مع النقل الجوي فهم يمتلكون اليوم خبرات فائقة في ميادين التكنولوجية والمعلوماتية ويوظفونها بطريقة مدهشة ومثيرة في نسق فعالياتهم الأمنية والعسكرية. وهم عبر ذلك كله يريدون بناء مجتمع على أنقاض الحضارة القائمة.

أصوليات مسيحية:

وفي مواجهة الأصوليات الإسلامية تتعاظم الأصوليات المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية وتنامي نزعتها المعادية للمسلمين في العالم، وتكفي الإشارة في هذا الصدد إلى الأصولي الدموي بورن أكان Again  Born 5 الذي جعل من الحرب الدموية ضد المسلمين حربا مقدسة.

لقد وجد عدد كبير من السياسيين في العالم في الدين قوة هائلة لتحقيق المصالح السياسية، ومن المفارقة بمكان أن أغلبهم لم يكونوا في البداية متدينين أو شخصيات دينية وهم ليسوا كذلك في جوهرهم، ولكنهم مع ذلك وظفوا الدين وقامت باستغلاله بشكل مثالي من أجل مصالح شخصية وسياسية. ومن هذه الشخصيات التي استخدمت الدين ووظفته لمصالح شخصية وسياسية يشار إلى صدام حسين وبن لادن وجورج بوش الابن. وقد نتج عن هذه الممارسة معركة كبرى بين الأصولية المسيحية اليمينية والأصولية الإسلامية المتطرفة. وقد قام كل من بوش وبن لادن بتغذية هذه الحرب الجنونية وإلهاب نارها. ويمكن القول في هذا السياق بأنهما كانا حليفين في الجوهر فيما يتعلق بأهدافهما السياسية والشخصية، حيث كان كل منهما ضروريا للآخر ولا يمكنه الاستغناء عنه في هذه المواجهة الدموية المجنونة. ويمكن تشبيه هذه العلاقة بين الشخصين بالعلاقة بين ستالين وهتلر كما العلاقة بين بيونيشيه Pinochet في تشيلي وبول بو Pol Potفي كمبوديا.

لقد شهدت الأصوليات الدينية المسيحية المتطرفة اليوم صعودا كبيرا ومهما في الولايات المتحدة الأمريكية، فمنذ عهد بعيد، أي منذ عشرينات القرن الماضي، تمّ الإعداد لتحالف بين اليمن الديني المسيحي وبين الجمهوريين. ومنذ ذلك الوقت بدأت الجماعات الإنجيلية المحافظة تنتظم وتتطور في نسق هذا التوجه. وتأسيسا على ذلك تمّ بناء المؤسسات الدينية اليمنية كما شيدت إستراتيجية سياسية جديدة لممارسة الضغط على الحزب الجمهوري من أجل دفعه بقوة نحو اليمين في أكثر صوره محافظة وراديكالية. وقبل أن يحدث هذا الأمر في الولايات المتحدة الأمريكية، كان هناك فصل واضح بين الدين والدولة. أما اليوم فإن اليمين الديني يعمل باستمرار على توحيد أواصر العلاقة بين الطرفين واستبعاد عملية الفصل بين الديني والسياسي بكل الوسائل الممكنة. وهذا يمثل حنينا إلى الماضي وإلى حياة سياسية تستند بالضرورة إلى تفسير إنجيلي وتصورات دينية، ووفقا لذلك فإن هذه الحركات تعمل على بناء تيوقراطية أصولية تستند إلى القيم الأخلاقية الأصولية الإنجيلية المتطرفة.

ومن الواضح أن الجمهوريين قد مارسوا السلطة في بلادهم في أوقات مهمة، واستطاعوا السيطرة على البرلمان ومجلس الشيوخ. ومن الملاحظ أنه في الماضي كان التوازن السياسي أكثر اعتدالا. ووفقا لهذا فإن الانتخابات القادمة ستكون حاسمة. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو هل يستطيع الديمقراطيون توحيد جهودهم؟ من سيخلف بوش؟ وهذا يعني أن مستقبل الولايات المتحدة يعتمد على هذا الأمر. فقد يحدث أن حركة ما قد تصل إلى ذروتها ثم تميل أوضاعها إلى الاعتدال والتوازن. وفي الأحول فإن صعود اليمين السياسي والديني ف أمريكا أمر يدعو إلى الخوف والحذر.

وباختصار يمكن القول بأن الأصولية الأمريكية قد تحولت إلى حركة قومية محافظة امتزجت فيها العناصر الأخلاقية والدينية والسياسية، وتحول الدين في أمريكا اليوم، وتحول الدين في أمريكا اليوم إلى بعد من أبعاد الحياة السياسية، ومع الأسف ارتبطت الجماعات الدينية الغربية المتطرفة بالحركة الصهيونية وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية. لقد وصلت التيارات المسيحية الأصولية المتطرفة وصلت إلى الحكم في عدد من البلدان الغربية وخاصة في أمريكا، وتتأتى خطورة هذه التيارات من تقسيم العالم إلى قطبين متعارضين أبديا وهما قطب الشر وقطب الخير الذي ترى بأنها تمثله في حين تمثل الحركات الإسلامية قطب الشر.

إن هذه الحركات المتطرفة تعتمد النظرية الفكرية التي تتأسس على الثنائيات المتضادة على نحو لا ينتهي، وترفض التاريخ كحركة متعددة الأبعاد، وتحصر العقلانية الحضارية في المركز الغربي في حين تحشر الفضاءات اللاّغربية في خانات اللاعقل.

خلاصة:

علينا الاعتراف اليوم بأن الدولة ما زالت قائمة وما زالت قوية أيضا في مواجهة هذه الحركات الأصولية المناهضة للدولة والعولمة في آن واحد بحثا عن الهوية أو طلبا للديمقراطية. والدولة تعود بقوة اليوم إلى ساح الصراع ضد هذه الحركات في مختلف أنحاء العالم. وعلى الرغم من التعدد والتكامل والحضور المظفر للعولمة ما زالت هناك الدول السيادية القوية. وهذه الدولة السيادية تفرض نفسها اليوم بقوة في الصين والولايات المتحدة الأمريكية وفي روسيا وفي أوروبا بصورة عامة. وفي مواجهة هذا الدول القومية بدأت الحركات المضادة تطالب بتأكيد هوياته عبر الرفض والميل إلى العنف والتدمير، وهو عنف يواجه في الوقت نفسه بعنف الدولة وسلطانها. والدولة في هذا السياق تستفيد من هجوم هذه الحركات وتعمل على توظيفه في عملية إعادة بناء نفسها وتطوير أدواتها وأنساق فعالياتها بما يتناسب مع الأوضاع الجديدة، ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى التطورات السياسية التي تبنتها الولايات المتحدة في عهد بوش وهي سياسة الخوف والحرب الافتراضية كردة فعل على هجوم القاعدة في الحادي عشر من سبتمبر على مباني التجارة العالمية. وقد عملت الحكومة الإسبانية على تبني مثل هذه السياسة في مواجهة الحركات السياسية المتطرفة.

إن جزءا كبيرا من الحلول الممكنة تكمن اليوم في عملية الفصل بين السياسي والديني من أجل تجنب هذا العنف والإرهاب. إن تنظيم الديني بالسياسي يجب أن يكون فقط في الحالة التي يكون فيها الدين نزّاعا إلى العنف. وفي غير هذه الصورة فإن الفصل بين الديني والسياسي يجب أن يكون محكما ونهائيا. ومع ذلك فإن التقاطع بين الجانبين يتم بصورة لا يمكن تفاديها. ففي العصور القديمة مارس الدين وظائف سياسية اجتماعية حيث نجد ارتباطا عميقا بين الديني والاجتماعي والسياسي. وكما نعرف فإن التطور السياسي والاجتماعي في المجتمعات الحديثة فرض نوعا من الفصل بين السياسي والديني، حيث تمّ هذا الأمر بداية في المجتمعات الغربية في عصر النهضة والتنوير. ومع ذلك كله فإن التقاطع بين السياسة والدين يطل علينا بوجهه دائما، حيث نجد ترابطا كبيرا اليوم بين العقائد الدينية والجماعات القومية أو العرقية إذ غالبا ما يكون الزعيم الذي يوجه هذه الجماعات رجل دين في جوهره. وهذا هو حال ملكة بريطانيا التي تمثل حتى اليوم رأس الكنيسة الإنجيلية في بريطانيا. ويمكن القول بأن الاتحاد بين الدين والسياسة هو ظاهرة يمينية بالدرجة الأولى، وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى الجماعات الدينية اليسارية التي اتخذت مواقف سياسية لصالح السياسات العلمية والسلمية حيث دعمت بعض هذه الجماعات بروتوكول كيوتو Protocole de Kyoto كما هو معلوم.

فالدين له شأنه ودوره ومكانه في دائرة المجتمع المتدين. ولكن المشكلة ليست هنا بل تكون عندما تنادي جماعة دينية بأفكار وتوظف القوة في فرضها على الآخر. وإزاء هذا الأمر يجب على الدولة أن تتجنب دعم الجمعيات والمؤسسات الدينية أو الجماعات الدينية التي تنتصر لأحزاب سياسية محددة. فالسياسة والدين يتقاطعان ولكن كل منهما يجب أن يحافظ على استقلاله. ومع الأسف الشديد هذا الفصل لا يتم كما يجب وكثير من رجال الجدين أو رجال السياسة لا يميزون بين الديني والسياسي. وذلك هو حال الأصوليين البروتستانت في الولايات المتحدة الأمريكية من جهة والأصوليين الإسلاميين الراديكاليين من جهة أخرى.

ومما لا شك فيه أن الأصوليات الدينية تفرض على المجتمع الإنساني تحديات كبيرة راهنة ومستقبلية. وهذا يعني أن يجب علينا ألا نتسامح بداية مع الحركات التي توظف العنف باسم الدين. ومن أجل هذا لا بد من تنظيم العلاقة بين الديني والسياسي. ومن المهم جدا في هذا السياق تكريس مبدأ علمانية الدولة والفصل بين الكنيسة والسياسة , وهذا بدوره لا يتعارض مع الحرية الدينية بأي شكل من الأشكال. وهنا يجب احترام الأعياد الدينية ويجب أيضا أن نترك هامشا كبيرا للحريات الدينية الإسلامية. فالحظر على الممارسات الدينية يؤدي إلى نتائج سلبية جدا. وفي النهاية يجب تجنب الخلط ما بين الهويات العرقية واللغوية والسياسية من جهة والهويات الدينية من جهة أخرى. ومن الأفضل للجميع السمو بالنضال ضد القتل والعنف والتوحد كبشر وأخوة في الإنسانية خارج دوائر الدين والعقائد أيا كانت هويتها. ومن أجل ذلك كله من الضرورة بمكان إعلاء قيم التسامح واحترام الاختلاف بين البشر واحترام الآخر والأديان جميعا وضمان أفضل حوار ممكن بين الأديان ذاتها مهما كانت درجة الاختلاف والتباين في المبدأ والمعتقد.

وفي مواجهة هذا المد المخيف لهذه الأصوليات يجب علينا في هذا المجال أن نعلي من شأن التربية على التسامح والقيم الإنسانية الخلاقة جميعها، وضمن هذا التوجه يتوجب علينا أن نؤكد تعليما نقديا لتاريخ الأديان، كما يجب تطوير التعليم الأنتروبولوجي وهذا الذي يتعلق بتطور المعرفة الإنسانية، علينا في حقيقة الأمر أن نؤصل تعليما يعتمد على علم الاجتماع والثقافة النقدية التي ترتبط به. وفي مضمار هذا التعليم والتثقيف يجب أن نجعل كل فرد في المجتمع يدرك طبيعة الأديان الحالية وتاريخ تطورها وطبيعة الدور الحضاري التسامحي الذي يجب أن تمارسه في طور الحياة الإنسانية في مجال السياسة والاقتصاد والثقافة والحياة الاجتماعية. ومثل هذه المعرفة ضرورية اليوم وأساسية في كل وقت ومرحلة لفهم الرهانات الكبرى للعالم المعاصر، واكتساب القدرة على الحياة المشتركة المسالمة في جماع توازن إنساني يتحقق بالمحبة والتسامح والسلام ونبذ العنف والكراهية بين البشر.

ملخص المقالة:

تباشر هذه الدراسة الأسس الأيديولوجية للنزعات الأصولية في مواجهة الحداثة والعولمة والدولة الوطنية القومية، كما تتناول جدلية الصراع بين الأصوليات المسيحية والإسلامية في سياقات تاريخية. وهي نهدف عبر نسق من المعطيات والأفكار والرؤى إلى بناء تصور موضوعي عن طبيعة هذه الأصوليات واكتشاف أنساق التفاعل والصراع بين العولمة والهويات الأصولية والدولة، حيث ينطلق التساؤل عن الديناميات المشكلة للحركات الاجتماعية والتيارات السياسية التي تهدف إلى التغيير الاجتماعي وفق استراتيجيات مرسومة وغايات معلومة.

***

علي أسعد وطفة - جامعة الكويت

......................

1  - انظر: حيدر إبراهيم "على مفهوم الأصولية: التاريخ والمعنى"، المنشور مجلة "قضايا فكرية"، أكتوبر 1993،

2  - R. Robertson, Globalization, social theory and global culture, , Sage publications, London, l992.

- انظر: هاشم صالح، معضلة الأصولية الإسلامية، دار الطليعة، بيروت، 2006.

3  - انظر أيضا: أحمد لاشين، نشأة الأصولية الإسلامية: صراع الأنا والآخر، إيلاف، الأحد 20/سبتمبر، 2009.

4- نسخة إليكترونية:

http://www.elaph.com/Web/ElaphWriter/2009/9/485045.htm

5  - أصولي مسيحي إنجيلي تبشيري متطرف راديكالي ضد الإسلام ويمثل حاليا 80 مليون منتحب من أنصاره في الولايات المتحدة الأمريكية. 

مفتتح: أصبحت مسألة التراث والموروث الثقافي، موضة كل المنتديات واللقاءات الفكرية والكتابات الثقافية فكثيرة جدا الكتب والمطبوعات التي تصدر والندوات واللقاءات التي تعقد في مختلف أنحاء العالم لتدارس هذه المسألة والقضية، وتسعى هذه الكتابات والندوات إلى تحديد نوعية العلاقة التي يجب إن تربط الأمة وموروثها الثقافي.

بالطبع فإن هذا التوجه نحو الماضي والتراث بشكل عام يستجيب لذلك الإحساس الذي تستشعره الأمة العربية والإسلامية في حاضرها، وهو ضرورة العودة إلى تاريخها وأصالتها والإستمداد منه لتكوين الوجود الثقافي والحضاري بعيدا عن الإستنساخ الحرفي لحضارة الغرب ونمط عيشه وحياته.

انهيارات الواقع

ولا شك أن توجه الأمم والشعوب نحو تاريخها وموروثها الثقافي تشرطه دوافع الحاضر ومتطلباته وتؤثر فيه إلى حد بعيد. والذي يراجع التاريخ يكتشف أن الشعوب تزداد إشغالا بتاريخها وماضيها حين يكون حاضرها مأزوما ويعيش القهقري، فكيف يمكن إغفال حالة التزامن في ظهور تاريخ الطبري وفتنة القرامطة.

إن الأزمات الكبرى التي تطال حاضر الإنسان دائما تدفع به إلى أستعادة تاريخه والإنشداد إلى ماضيه المجيد، ولذا ليس من الصدف والعبثية إن يطغى على الخطاب العربي بعد حرب 1967م إنشغال عميق بدراسة التراث وإعادة قراءته، والواقع أن عودة الأمم إلى تاريخها حين تأزم حاضرها هو نوع من الإدراك الطبيعي والإيجابي الذي تتمتع به الأمة، حيث غبية تلك الأمة التي تحاول تبديل حاضرها المأزوم من دون إستعادة ماضيها وموروثها الثقافي والعقدي.

وغبية تلك الأمة التي تستغني عن تجاربها التاريخية وتنطلق من الصفر، فلا يبتدئ من الصفر إلا الصفر نفسه !(والمجتمعات المأزومة،كما يعلمنا التاريخ، هي أكثر المجتمعات عناية بماضيها، بإعادة الانتباه إليه، وإعادة التفكير فيه وقراءته، عساها تعثر في خبرته التاريخية عن أجوبة ناجزة أو خدمات قابلة لتصنيع أجوبة، عن مشكلات حاضرها.وقد تأخذ الأزمة في هذه الحال، شكل انقسام ثقافي واجتماعي داخلي، حول تصور المستقبل، بين قوى مهيمنة، تفرض هيمنتها باسم ماض تخلع عليه أردية من التقديس، وقوى جديدة صاعدة، تحاول أن تعيد قراءة ذلك الماضي في ضوء مصالحها الجديدة. كما قد تأخذ الأزمة شكل خوف على الهوية مما يتهددها من أخطار المحو، أو التلاشي، أو التهميش، على نحو ماعرفت ذلك مجتمعات تعرضت للاحتلال الأجنبي. وهي  ربما أخذت أشكالا أخرى مختلفة تبعا لنوع الشروط التاريخية والبيئات الاجتماعية التي نشأت فيها).

ولكن هذا التوجه إلى التراث ومتعلقاته الذي نشهده حاليا في حياتنا الثقافية والفكرية العربية والإسلامية، لا زال محتاجا إلى كثير تقويم ودراسة، فلا يخلو من سلبيات متعددة، وأول هذه السلبيات وأخطرها، أن أغلب الدراسات والقراءات المتواجدة حاليا تنطلق من مفاهيم ومنهجيات غربية، فتكون إمكانية الرؤية والإبصار تتحكم فيها مناهج الغرب وتطوراته، والمنهج بطبيعة الحال ليس أداة صامتة سالبة، وإنما هو وساطة تنهض بمسؤولية خطيرة، وهي تقل الموضوع إلى الذات، ولذا فالوساطة المنهجية الغربية حين  تتصادم بتراثنا وتاريخنا لا تنقل إلينا منه إلا ما يتوافق مع مسلماتها العقدية والفلسفية، وهكذا لا تعجب حين تنقل إلينا الوساطة المنهجية مكونات هامشية من تاريخنا وتغفل أو تتجاوز المكونات الحقيقية لتاريخنا وماضينا.

كيف نقرأ التراث

سعت مختلف المدارس الفكرية والسياسية في المجال العربي إلى الاستفادة من التراث في تدعيم أيدلوجياتها وتسويغ خياراتها وأنها الامتداد الفكري والثقافي لتلك المدرسة أو الفئة في التاريخ والتراث.. فتحول من جراء ذلك التراث إلى فضاء للتوظيف بكل ما للكلمة من معنى.. فالتيارات العقلانية والمادية، عملت على إبراز هذه الجوانب من التراث، وكتبت في سبيل ذلك الكثير من الأبحاث والدراسات، التي توضح النزعات المادية والعقلانية في التراث.. كما أن التيارات النقلية والنصية عملت على إبراز هذا الجانب من التراث العربي والإسلامي.. فعمل كل طرف على إبراز رموزه من التراث، وانتصر للبعض على حساب البعض الآخر.. وكل طرف يدعي أن هذه الشخصية أو تلك الفئة هي الجانب الناصع الذي ينبغي إبرازه من تراثنا..

فعمل الجميع ومن مواقعهم الأيدلوجية والسياسية المختلفة على إعادة صوغ الماضي والتراث بما يتناسب ورؤى ومواقف هذه المجموعات من الراهن. فأصبح الموقف من التراث، هو انعكاس طبيعي لمستوى التباين الأيدلوجي والسياسي الحالي.. فيتم الصراع بأدوات وموضوعات وشخصيات تراثية. ولعل من أهم الأسباب التي ساهمت بشكل أو بآخر في تشويه التراث أو عدم فهمه ومعرفته حق المعرفة، هو حالة التوظيف والتعسف الأيدلوجي في التعامل مع التراث. فكل الأطراف تعاملت مع التراث، تعاملا انتقائيا وسياسيا.. فالذي يتبنى المقولات العقلانية فضل المعتزلة على غيرهم، واعتبرهم هم رموز الإسلام والتراث وتغافل أو تجاهل عن ما ارتكبوه من قمع فكري وعمليات إقصاء وتهميش حقيقيين لكل مخالفيهم في أيام المحنة. والذي تبنى المنهج الفلسفي رفع من شأن ابن رشد وذم غيره، واعتبر أن متطلبات النهوض المعاصر، بحاجة إلى إحياء تراث ابن رشد. ومن موقع آخر ولاعتبارات فلسفية وعرفانية، هناك من أبرز مساهمات ابن سينا وعده هو فيلسوف الإسلام الأول.. وهكذا تم التعامل مع التراث بكل مقولاته ورموزه بانتقائية فجة وتوظيف متعسف، لا يعتني بحقائق التراث ومعارفه، بل يعمل على تكريس خياراته ومتبنياته الراهنة. وهكذا تصر النخبة على حد تعبير (الفضل شلق) لدينا على التواصل مع التراث وعلى الانقطاع عن التاريخ كما مع العالم الخارجي الراهن، للتأكيد على أن إنجازاتها يجب أن لا تقاس بعظمة إنجازات الماضي ولا بالمقاييس العالمية الراهنة، بل على أساس معايير تصاغ داخليا، على أساس معايير تضع هي شروطها ومواصفاتها. فهي تشيد لنفسها، عن طريق مقولة التراث، مكانا تختبئ فيه، فلا تظهر عيوبها.. فالممارسة الفكرية والنظرية التي تقرأ التراث بعيون أيدلوجية معاصرة، هي ممارسة انتقائية، وتستهدف بالدرجة الأولى تعزيز المواقع الأيدلوجية وتوظيف التراث بكل دلالاته وشحناته المعنوية لخدمة بعض الأغراض السياسية والأيدلوجية المعاصرة.. لذلك فإننا نعتقد أن كل القراءات الأيدلوجية للتراث، هي قراءات انتقائية وليست أمينة للتراث، إذ تجاهلت جوانب عديدة منه، وتغافلت عن بعض أحداثه وشخصياته. من هنا نحن بحاجة اليوم إلى إعادة قراءة التراث قراءة جديدة نتجاوز من خلالها كل التحيزات الأيدلوجية التي مورست بحق التراث.. وفي تقديرنا أن من أهم مواصفات القراءة الموضوعية للتراث هي النقاط التالية:

1- أن تكون القراءة تحليلية، وتبتعد عن كل القراءات التبجيليةللتراث. نحن بحاجة أن نتعرف على هذا التراث بوصفه تجربة إنسانية – تاريخية، تحتضن الغث والسمين، وفيها المواقف الشجاعة كما فيها المواقف الانهزامية، وفيها الشخصيات العملاقة في علمها وعملها والتزامها، كما فيها الشخصيات الوصولية والانتهازية التي كان همها الأساسي هي مصالحها الآنية والضيقة.. لذلك فإننا بحاجة إلى قراءة تحليلية للتراث ترصد المتغيرات وتبحث عن أسبابها، وتتعامل مع التراث بوصفه تجربة إنسانية عميقة، تحتضن العناصر الخيرة والشريرة معا.. ومهمتنا هي قراءة التراث بموضوعية وبعيدا عن التحيزات الأيدلوجية أوالمواقف المسبقة..

2- إن التراث كتجربة إنسانية لا قدسية لها، لذلك من المهم أن نقرأ هذه التجربة بروح علمية رصينة وبعيدا عن الانتماءات الضيقة.. فالمطلوب هو التحرر من الرؤى الضيقة التي تعمل بشكل أو بآخر لتوظيف التراث لمصالح فئوية ضيقة.

فالقراءة المطلوبة للتراث، هي التي تتحلى بالعلمية حين التعاطي والتعامل مع مختلف أحداثه وشخصياته. وهنا من الضروري التفريق بين التراث والنص الديني. إذ أن التراث هو جملة المنجزات التاريخية الإنسانية في قطاعات الحياة المختلفة. وبالتالي فإن المقصود بالتراث هو مجموع اجتهادات وكسب الإنسان المسلم عبر التاريخ. بينما النص هو الوحي الإلهي الذي لا يأتيه الباطل ولا يعتو ره التغيير.

3- التراث في أي أمة، يتحول إلى مؤثر حقيقي وفاعل، حينما تتحرك الأمة باتجاه صناعة راهنها وفق نسقها الحضاري. أما السكون والجمود وتضخم عقلية ليس بالإمكان أبدع مما كان، فإنه يحول التراث إلى عبء يزيد من عوامل الإحباط في جسم الأمة. فالأمة المتحركة والفاعلة والحية هي وحدها التي تستفيد من تراثها الخاص وتراث الإنسانية أيضا..

والتراث في زمن الجمود والتقهقر الحضاري، يتحول إلى بديل عن الراهن. بمعنى أن المجتمع الجامد والمنهزم لا يستطيع أن يواجه واقعه بشجاعة، ويلجأ إلى تراثه، للعيش على أمجاده، ولكي يجبر نقصه الحالي.. لذلك فإن الاهتمام والاستغراق في التراث في زمن الهزائم، قد يكون هروبا من الحاضر واستقالة عن مسؤوليات المرحلة. فالتراث بعناوين متعددة حاضر بيننا، ولكن ينبغي أن لا نعتقد أنه بديلا عنا، أو يقف موقفا مضادا من كسبنا في مختلف مجالات الحياة الإنسانية.. لذلك كله لا يمكن أن نقرأ التراث قراءة حضارية ونحن نعيش السكون والجمود.. فالواقع الجامد لا يخلق إلا قراءة تبريرية وجامدة للتراث.. من هنا فإن من الشروط الأساسية لقراءة التراث قراءة صحيحة وسليمة هو فعالية المجتمع وحيويته وديناميته. فالجمود يحول التراث إلى وسيلة للهروب من تحديات وآفاق الراهن. كما أن السكون يحول التراث بكل مضامينه ورموزه إلى عبء حقيقي على الحاضر. فالحضور والحيوية والفعالية الاجتماعية، هي وحدها التي تفضي إلى قراءة حضارية للتراث. وبكلمة فإن النهضة الاجتماعية والثقافية، هي التي تجعل بتأثيراتها ومتوالياتها المجتمع من القيام بقراءة جديدة لتراثه، تحوله لمحفز ومحرض للمزيد من العمل والبناء.. لذلك فإن مهمة قراءة التراث، تتعدى مسألة طباعة الكتب التراثية والانكفاء على قضاياه أو همومه، وإحياء كل أشكال الفلكلور الشعبي، وتصل إلى مستوى التجاوز بالمعنى الفلسفي والمعرفي. بمعنى أن مهمة قراءة التراث، تتطلب الفعل الراهن والشهود الحضاري والحيوية الاجتماعية، حتى يتواصل الفعل الإنساني المبدع عبر التاريخ. والحفاظ الحقيقي على التراث، يتطلب العمل على البناء والإبداع.. فلا معنى لحفظ التراث ونحن نعيش الجمود والتراجع، إن الوسيلة الحقيقية لحفظ التراث، هي حيويتنا وأعمالنا النوعية التي تتجه صوب الفرادة والإنجاز..

فالقراءة الحية للتراث، تتطلب قاعدة اجتماعية نهضوية تستوعب حقائق التراث دون التيبس عندها، وتنطلق بوعي عميق نحو التطوير وخلق حقائق التقدم في الفضاء الاجتماعي.. فالجمود لا يفضي إلا إلى قراءة متخشبة وتبريرية للتراث، ولا يمكن الاستفادة من دروس التاريخ وعبر الماضي وحقائق التراث إلا بوعي ثقافي واجتماعي جديد، يزيل عن عقولنا كل أشكال الزيف ويطرد من فضائنا كل أشكال الترهل، ويعمل على التحرر من كل الأعباء والاحباطات التاريخية والاجتماعية.

وإن هويتنا الاجتماعية والثقافية، هي في صيرورة مستمرة، لا بمعنى أنها سيالة ورخوة، وإنما بمعنى أنها متجددة ولا يمكن أن تكون ثابتة حتى الجمود. وإن كل نقد للتراث وقراءة جديدة له، هي مساهمة في صيرورة الهوية وتجددها.

وإن المرحلة الراهنة بكل تحدياتها وصعوباتها وآفاقها وفرصها، تتطلب منا قراءة نهضوية وحضارية لتراثنا حتى نستمد منه عنفوانا وشهودا وحيوية، ونضيف إليه من جهدنا وسعينا الحثيث نحو صناعة المنجز وتحقيق التطلعات والطموحات العامة..

منهجية أو منهجيات

يبدو انه لا يمكن لأية أمة أو ثقافة أن تعيش بلا ماض وتاريخ.. حيث أن التاريخ والتراث، يشكل بالنسبة إلى جميع الثقافات، المخزون الرمزي والعقدي والنظام الفكري لتلك الثقافات.. لهذا لا يمكن أن نتصور أن هناك ثقافة بلا تاريخ وتراث.. ولكن تختلف الثقافات والمدارس الفكرية، في الموقف من الماضي والتاريخ والتراث.. فثمة ثقافات ومناهج فكرية، تمارس عملية القطيعة الإبستمولوجية مع تاريخها وتراثها، وتعتبر نفسها وليدة الحاضر بكل جوانبه وحقوله..

ولكننا نرى أن تحديد العلاقة بين حاضر الأمة الثقافي، بتراثها الثقافي والحضاري، مسألة أساسية في عملية فقه الحاضر..

فلا يوجد على مستوى التاريخ قطيعة، لأننا نحمل مسؤولية الماضي، لأن الماضي الموصول بالحاضر، والأثنين معا، لهما صلة بالمستقبل.. فلا فصل في التاريخ، هناك وصل استمراري لحركة التاريخ.. أي ثمة حتمية وجبرية يفرضها الوجود، جبرية السنن والقوانين، جبرية النتيجة المتصلة بالمقدمات، والنهايات الموصولة بالبدايات.. فلا يمكن إذا أن نقابل بين الحاضر والماضي، ونجعل تحقيق أحدهما على حساب الآخر.. ويشير إلى هذه المسألة الكاتب المصري (زكي نجيب محمود) بقوله: ليس الماضي جثة ميتة موضوعة، في تابوت، وعلينا نحن أبناء الحاضر أن نحافظ على هذا التابوت في المتحف.. بل هو أقرب إلى الرافعة، التي نزحزح بها الأثقال الراسخة، لتتحرك، ولهذا فنحن إذ نصنع ماضينا، من بين المادة الخامة القريرة التي خلفها لنا الآباء.. فإننا لا نحسن هذا الصنع، إلا إذا اخترنا الروافع التي تثبت الحياة في الحاضر، وفي الإعداد للمستقبل على حد سواء.. وإلا انقلب تاريخ الماضي بين أيدينا صخورا جوامد، تعرقل التيار دون الانسياب الدافق إلى الهدف..

فـ(عدم تحديد بوصلة نظرية) واضحة وسليمة في علاقة الحاضر بالماضي، يجعل الإنسان (الفرد والمجتمع)، يعيش الازدواجية في كل نواحي وحقول حياته..

لأن التراث يعتبر ذاكرة الأمة، فكلما كانت هذه الذاكرة حافظة، وقادرة، على الاستفادة من تجارب الماضي، وتوظيف ذاكرة الأمس لخدمة الراهن والمستقبل.. دون التوهم لحظة واحدة إننا نقف عند التراث فقط.. لأن التاريخ حركة سائرة دوما إلى الأمام، والأحداث، وإن بدت متشابهة في بعض ظواهرها وعناصرها، إلا أن شروطا جديدة ومختلفة تتولد باستمرار وبالتالي فإن الظواهر الجديدة تملي معالجات جديدة.. فالتراث ليس إجابة جاهزة عن أسئلة الراهن، إنه مجرد وعاء وذاكرة، وبمقدار استيعاب مضمون هذا الوعاء وجوهرة، تتوافر القدرة الكافية لمواجهة أعباء الحاضر والمستقبل.. وبهذا لا يصبح التراث كما يزعم البعض معيقا أو كابحا عن التقدم والتطور..

من هنا فإن التراث هو تلك الحصيلة من المعارف والعلوم والعادات والفنون والآداب والمنجزات المادية التي تراكمت عبر التاريخ. وهو نتاج جهد إنساني متواصل، قامت به جموع الأمة عبر التاريخ، وعبر التعاقب الزمني أصبحت هذه الحصيلة المسماة (التراث)، تشكل مظاهر مادية ونفسية ونمطا في السلوك والعلاقات، وطريقة في التعامل والنظر إلى الأشياء..

من هنا فإنه لا يجوز النظر إلى هذا التراث العربي والإسلامي، بأنه نهاية المطاف، أو قمة الإبداع الوحيدة، وأكمل صورة من صور الحضارة.. وإنما هو جهد إنساني استطاع أن يحقق قفزة نوعية في مسيرة الإنسان الفرد والمجتمع.. ويقول في هذا الصدد الروائي العربي (عبد الرحمن منيف): أن التراث الشعري للعرب مثلا، والذي هو ديوانهم عبر أغلب العصور كما يقال، يشكل فخرا لهم، ويعطيهم ميزة بالمقارنة مع الشعوب الأخرى.. لكن هذا التراث يجب ألا يكون قيدا عليهم في المرحلة الحالية أو المقبلة.. وما يقال عن الشعر، يمكن  أن يقال عن الأمور الأخرى، بما فيها اللغة، والتي تعتبر سببا أساسيا في تشكيل الأمة العربية، وخلق مناخ ثقافي لها، ولكثير من الشعوب خلال فترات تاريخية طويلة.. بهذا المعنى نحن نتعامل مع التراث، وبهذا يتحول، تراث الأمة العربية والإسلامية، إلى سبب من أسباب الثراء والتطور لو أحسنا التعامل والاستفادة منه.. لأن التراث، كما هو التاريخ، يمكن أن يدفع ويساعد، إذا نظرنا إليه نظرة موضوعية، وأكدنا على الجوانب الإيجابية فيه، واستخرجنا العناصر الحية منه، لكي تستمر وتنمو.. وإذا هضمناه هضما جيدا، دون أن نغفل عن نبض العصر وحاجياته..

لهذا فإننا نرجع إلى تراثنا، قصد التزود، وحفز الهمم، والإبقاء على الأمل، والتماس القدوة والأنموذج.. لهذا فإن تكرار التراث، والانشغال السلبي به عن طريق الوقوف عنده.. وضعا كهذا على المستوى الحضاري، لا يمكن أن ينتج فكرا أو ثقافة قادرة على تأسيس القاعدة النظرية الضرورية للرقي والتطور على المستوى العام.. وبهذا يفقد المجتمع العربي والإسلامي الصلة الضرورية التي تربطه بتراثه وماضيه، من أجل استفزاز جانب الإبداع والابتكار في المجتمع.. لأن التاريخ كما يقول (كروتشه) هو بأجمعه تاريخ معاصر.. أي أن التاريخ يتألف بصورة أساسية من رؤية الماضي، من خلال عيون الحاضر وعلى ضوء مشاكله.. وأن العمل الأساسي للمؤرخ ليس فقط التدوين، وإنما وبالدرجة الأولى التقويم..

لهذا فإننا نحافظ على هويتنا الثقافية والاجتماعية، ليس عن طريق الانطواء والهروب إلى الماضي  وذكرياته العديدة.. كما أنه ليس عن طريق الاستلاب والتبعية.. إن طريق الحفاظ على هوية المجتمع وتراثه، لا يأتي إلا عن طريق إعادة تنظيم الحياة العقلية والمادية والأخلاقية للمجتمع، على ضوء ثوابت الحضارة والتاريخ..

إن الهوية تعبر عن ذاتها، في الكفاح المستميت في تطوير التراث، لا في الانحباس فيه.. وفي تحرر الذات من رواسب الماضي السيئ، وأوهام المستقبل المجهول والغامض.. إن الهوية تتجسد في إطلاق إمكانات الذات في البناء والتطوير..

وهذا هو الرأسمال الأول، الذي ينبغي استخدامه لتنمية راهننا وصولا إلى بناء مستقبلنا المنشود.. وبهذا يتحول التراث إلى مصدر حيوي، لمدارس ثقافية – اجتماعية – تجديدية، تسعى لبناء حاضر هذا المجتمع وفق ثوابته التاريخية والحضارية.. وباستمرار تلح ضرورة قراءة التراث، والتعلق بالخصوصيات الحضارية أبان خضوع المجتمع لعمليات تغيير ثقافي أو اجتماعي سريعة، ولا تنسجم والخصوصيات الذاتية.. بدون فرق سواء جاءت عمليات التغير السريعة من الداخل أو الخارج..

وأن أي محاولة لقطع حاضر الأمة الثقافي والحضاري، عن ماضيها وموروثها الثقافي، لا يؤدي إلا إلى المزيد من ظهور الكيانات الاجتماعية المشوهة، والتي لا تقدر عمل أي شيء يذكر على المستوى الحضاري.. والعالم العربي والإسلامي ليس وحيدا على الصعيد الدولي حين يهتم بقراءة تراثه والعمل على إحيائه.. إذ تجد جميع الأمم والشعوب تهتم بهذه المسألة وتوليها أهمية قصوى.. والمثال البارز في هذا الصدد هو نقل ملحمة (بيود لف) الشهيرة من اللغة الإنجليزية القديمة إلى الإنجليزية الحديثة لتيسير قراءتها للأجيال المعاصرة.. كما أنه لم تهمل الأساطير اليونانية القديمة رغم أنها خرافات، تتعارض ونظريات العلم الحديث، وإنما خضعت لتفسيرات التحليل النفسي والتأويلات الأنثربولوجية..

وعلاقتنا بالتراث ليس علاقة ترفية أو كمالية، وإنما ترتقي إلى مستوى الدين والحضارة.. بمعنى أن علاقتنا بالتراث تنبع من أن في هذا التراث الأنموذج التطبيقي لديننا ومبادئنا أو ما يطلق عليه بـ(الإسلام التاريخي).. كما أن انجازات الأمة الحضارية ومكاسبها الإنسانية قد تبلورت وتحققت فعلا في تلك الحقبة التاريخية من الزمن التي نطلق عليها حاليا جزءا من التراث.. وعلى هذا فإن إخراج الإسلام وحضارته من التراث، يحول التراث إلى لا شيء..

وثمة مسوغات عديدة لضرورة قراءة التراث من جديد أهمها:

1- تجديد الرؤية: إن قراءة التراث (كما قلنا آنفا) ليس حالة ترفية تعيشها الشعوب والأمم.. وإنما هي حالة ضرورية لبناء الحاضر.. إذ أن القراءة الواعية للموروث الثقافي والحضاري، يؤسس العوامل النفسية والاجتماعية والثقافية، لتجديد رؤيتنا إلى موروثنا الثقافي، وكيفية الاستفادة منه في حاضرنا.. لهذا فإننا لا نطلب الماضي لذاته، وإنما من أجل تجديد الرؤية، إلى الأصول والمنطلقات والقيم التي صنعت الماضي المجيد، لتوظيفها بما يخدم حاضرنا ومستقبلنا..

2- تحديات الواقع المعاصر: بفعل عمليات التحديث القسرية والسريعة التي أصابت العالم العربي والإسلامي، بدأ الواقع المعاش، يتشكل وفق منظومات وقيم جديدة.. وهذا أدى بشكل أو بآخر إلى تفكيك منظومة القيم السابقة، واللغة كأداة للتواصل الثقافي والاجتماعي، وجميع أشكال التواصل بين أبناء المجتمع الواحد.. وبطبيعة الحال فإن هذه العملية وتداعياتها، شكلت تحديا صريحا لشعوب العالم العربي والإسلامي..

والرجوع إلى التراث وقراءته من جديد، ما هو في حقيقة الأمر إلا من أجل مقاومة الانسحاق والاستلاب القيمي – الاجتماعي، وتحقيق التوازن المطلوب للعالم العربي والإسلامي أمام تحديات الواقع المعاصر..

3- تحقيق التطلعات: يخطأ من يعتقد أن تحقيق تطلعات العصر الحديث، يمر عبر إلغاء الذات والتراث.. لأنه لا يمكن لأي شعب أو أمة أن تحقق تطلعاتها، وهي فاقدة لذاتها.. فالشرط الأول والضروري لتحقيق التطلعات هو حضور الذات الحضارية  لأنها هي القادرة وحدها في تحريك كل عوامل وعناصر المجتمع الفاعل والمؤثر والشاهد.. فقراءتنا للتراث، ليس هروبا من الحاضر ومسؤولياته وتحدياته (كما يزعم البعض) وإنما هي عملية واعية لتوفير كل شروط الانطلاقة الحضارية المنشودة..

أما كيف ينبغي أن تكون علاقتنا بالتراث، فنحددها بالنقاط التالية:

1- العلم بالتراث: من الثابت أن مجموعة البشرية، التي تنفصل عن تراثها وماضيها، فإنها تقوم بعملية بتر قسري لشعورها النفسي والثقافي والاجتماعي.. وسيفضي هذا البتر إلى الاستلاب والاغتراب الحضاري.. لهذا فإن العلاقة التي ينبغي أن تربطنا بتراثنا، هي علاقة (العلم)، حتى نتمكن من الاستفادة القصوى من المخزون الرمزي والمعرفي والشعوري الذي يوفره التراث للعالم به..

2- الإضافة إلى التراث: بما أن التراث عبارة عن الجهود الإنسانية المختلفة، التي أثرت في مجرى التاريخ والمجتمع.. لذلك فإن إيقاف مسيرة الإبداع الإنساني يعد ظلما لتراثنا المجيد.. لهذا فإن العلاقة التي ينبغي أن تربطنا بتراثنا، هي علاقة الإضافة.. بمعنى دفع الجهود الإنسانية في مختلف الحقول والجوانب لاستمرار حركة الإبداع في راهننا..

ويخطأ من يعتقد أن أوروبا الحديثة، تنكرت لتراثها وماضيها، وإنما الشيء الذي قامت به هو التخلي عن نظرة الكنيسة التي كانت تنظر بشكل سلبي، إلى حركة المجتمع وسعيه نحو الانفكاك منها..

وجماع  القول: إن أهمية قراءة التراث، تنبع من ضرورة تحديد العلاقة السليمة بين الماضي والحاضر، في مستوى التقدم المادي (علاقة الإنسان بالطبيعة)، وفي قدرة الإنسان على التحكم بأسرار الطبيعة.. وإن هذا التصاعد في قدرة الإنسان على الطبيعة وتسخيرها ارتفاقا بها وانتفاعا منها، تطرح قضية العلاقة بين حاضرنا وتراثنا، باعتباره منجزا إنسانيا – اجتماعيا، حدث في حقبة زمنية على أرضنا التاريخية، وانطلاقا من ذات القيم التي نعتقد بها نحن.. وإن عدم تحديد العلاقة السليمة بين الماضي والحاضر، هي التي تنشأ حالة مزدوجة يعيشها إنسان هذا العصر.. حيث التقديس المطلق للماضي، والانبهار التام بمنجزات الحضارة الحديثة.. وحدها القراءة الواعية للتراث، هي التي تؤهلنا للجمع بين جمال الماضي وقوة الحاضر..

التراث سؤال أيدلوجي أم معرفي

إن التراث بما يتضمن من تجارب وخبرات، تشكل ذاكرة الأمة التي لا يمكن الاستغناء عنها.. فالحقب التاريخية بأحداثها وتجاربها لا تنتهي بمجرد زوالها الوجودي.. وإنما تظل حية في خبرة الأمة وذاكرتها.. لهذا لا يمكن القبول بمقولة انفصال ماضي أمة من الأمم وحاضرها وراهنها.. كما دعا إلى ذلك (مارينيت) بقوله: " إننا نريد أن نهدم المتاحف والمكاتب، فالمتحف والمقبرة صنوان متماثلان في تجانب الأجساد التي تتعارف بشكل محزن ونحس.. إنها مضاجع عمومية حيث تنام الأجساد جنبا إلى جنب مع كائنات مبغوضة أو غير معروفة .. خذوا المعاول والمطارق !.. قوضوا أسس المدن العريقة والمحترمة "..

فالحديث عن التراث ليس دفنا للحاضر والمستقبل، وإنما نحن نتعرف على التراث وكنوزه الثمينة، وننطلق من نقاط قوته والقيم التي صنعته، لفهم الحاضر والمشاركة بعقولنا وعملنا في صناعة مستقبلنا ومستقبل أجيالنا اللاحقة.. فالتراث ظاهرة مركوزة في التكوين الداخلي للأمة، لا يمكن الفكاك منه.. وإن الحفر المعرفي والتاريخي في تراثنا، لا يفضي إلى التعامل مع جوامد أو رمائم أو مومياءات، وإنما إلى خريطة ثقافية – حية، استطاعت في حقبة زمنية، أن تحولنا من أمة هامشية إلى أمة في قلب العالم وأحداثه وتطوراته.. وبهذا نحقق الوصل المعرفي بين ما ينبغي أن يكون حيا من تاريخنا وتجربتنا الماضية وحاضرنا..

لهذا فإن التقاط مركبات ذهنية وفكرية من الفضاء المعرفي الأوروبي، والعمل على تعميمها على النموذج العربي والإسلامي، لا يؤدي إلى معرفة سليمة لكلا الفضاءين (العربي والأوروبي).. لأن مجال المجتمع والحركة الإنسانية، ليس كمجال الميكانيكا، وهو لا يرتضي كل الاستعارات، لأن أي حل ذا طابع اجتماعي يشتمل تقريبا ودائما على عناصر لا توازن..لذلك فإن قراءة التراث ينبغي أن تتم وفق منهجية خاصة تنسجم وطبيعة الخصائص العقدية والتاريخية للمجتمع.. وعلى هذا من الضروري، أن نبتعد عن عملية الإسقاطات المنهجية، التي تتم على مستوى التاريخ والثقافة، حتى لا نكون جزءا من منظومة ثقافية – فكرية، لا تنتمي إلى بيئتنا وتربتنا الثقافية.. فقراءة التراث العربي والإسلامي، لا يمكن أن تتم بمنهجية غريبة عن بنية المجتمع وإنتاجه الإنساني عبر التاريخ.. وإنما من الضروري تأسيس المنهج الذاتي المنسجم وخصائص الأمة العقدية والتاريخية، حتى نتمكن من فهم التراث العربي والإسلامي على أكمل وجه..

ومن هنا نجد أن الكثير من الكتاب والمفكرين الذين قاموا بقراءة تراثنا العربي والإسلامي، بمنهجيات مختلفة ومتغايرة عن بيئتنا الذاتية، وصلوا إلى نتائج، لا تنطبق على تاريخنا، وإنما تنطبق على تاريخ ذلك المجتمع الذي أبدع المنهج.. والمثال المباشر لهذه المقولة هو (الموقف من العلم).. لقد حاول قراء التراث العربي والإسلامي، بمنهجيات الآخر الحضاري، أن يؤكدوا أن العرب والمسلمين، وقفوا موقفا سلبيا تجاه العلم ومنجزاته، اعتمادا على تعميم النموذج التاريخي الغربي.. إذ ينسجم هذا الموقف والمنهجية الغربية، لأن الميتودولوجيا الغربية، تضع استبعاد الدين شرطا أوليا لتحقيق العلمية..

بينما الموضوعية تقتضي القول: أن العرب والمسلمين وقفوا موقفا مشجعا للعلم والعلماء، واحترام منجزات الإنسان في شتى حقول الحياة.. لهذا نجد أن موضوعية (كونت) تؤكد في كتابه (نسق السياسة الوضعية) أنه: في الوقت الذي كان فيه الغرب المسيحي مشغولا بقضايا لاهوتية عقيمة، كان العالم الإسلامي ينفتح على العلم والمعرفة والفنون وبالتالي أصل اجتماعيته جنبا لجنب مع روحانيته.. إن التفوق الاجتماعي (يضيف كونت) وأهميته في التعاليم الإسلامية، أهلت المسلم، ليكون أكثر صلاحية من غيره اجتماعيا وأهلته للعالمية..

وقد أكد سان سيمون أيضا على مسألة أن انهيار الفكر اللاهوتي، كان مدينا لدخول العلوم العربية والإسلامية إلى أوروبا بعد أن غيرت طبيعة البنية الفكرية الخرافية لذلك التفكير.. يقول سان سيمون " إن ذلك (سقوط النظام الكنسي) حدث مع إدخال العلوم الوضعية إلى أوروبا عن طريق العرب، وقد خلق ذلك بذرة هذه الثورة المهمة التي انتهت اليوم تماما.. ويضيف: انطلاقا من القرن الثالث عشر كان روجر بيكون يدرس العلوم الفيزيائية بشكل رائع، وأن تفوق الوضعي على الحدسي والفيزيقي على الميتافيزيقي كان جد محسوس منذ البداية حتى من قبل السلطة الروحية نفسها إلى درجة أن كثيرا من الإيكليروس السامين،ومن بينهم اثنان من الباباوات توجهوا في نفس الفترة تقريبا إلى قرطبة، ليتموا تعليمهم مع دراسة العلوم القائمة على الملاحظة، على أيدي أساتذة عرب "..

وبهذا فإن استعارة منهجية غريبة عن بنيتنا العقدية والفكرية، ودراسة أوضاعنا وأحوالنا، من خلال تلك المنهجية، يجعل هؤلاء (أهل الاستعارة المنهجية) يفرضوا التشابه على غير التشابه، ويجعلون وطنهم يكرر أداء تمثيلية جرت وقائعها في بلاد أخرى، وضمن ظروف ومعطيات مختلفة.. وفي هذا تقليد مجانب للأصالة والاستقلالية والإبداع على حد تعبير الكاتب العربي (منير شفيق).. وبإمكاننا أن نضرب مثالا على الاستعارة المنهجية في قراءة التراث العربي والإسلامي، بالنتاج الفكري والثقافي للمفكر الجزائري (محمد أركون)، الذي يرى أن قراءة تراثنا الثقافي والفكري، ينبغي أن تتم بمنهجية (الإسلامية التطبيقية) التي تعتمد على العرض العلمي، والقراءة المجردة من كل تحيز أيدلوجي للتراث.. وهدف هذه المنهجية النهائي على حد تعبير أركون نفسه هو " خلق الظروف الملائمة لممارسة فكر إسلامي محرر من المحرمات العتيقة والميثولوجيا البالية، ومحررا من الأيدلوجيات الناشئة حديثا "..

وهو بهذا يسعى نحو تحقيق قطيعة ايستمولوجية مع فكر الإسلام وثقافته.. ويوضح (أركون) هذه المسألة بقوله: "إن نيتي العميقة أن أعطي مثالا لما ينبغي أن يكون عليه اليوم اجتهاد مخلص في مستوى القوة الروحية والعقلية لكبار المفكرين الكلاسيكيين، ولكن مع قطيعة عقلانية مع الدعاوى المنطقية والمسلمات الإيبستمولوجية، والجهاز التصوري لهؤلاء المفكرين أنفسهم وآمل أن تجلب كثير من القراءات إسهاما إيجابيا، لاستكشاف وتقدم الحقل الديني والحقل العلمي الذي ما فتئت متجهة إلى فتحة، لتجنب هذه القراءات العقيمة التي تأخذ جملة ما أو تعبيرا ما، لتشكل منه المحضر المعتاد ضد كل ما هو مخالف".. (مقال بعنوان الإنتروبولوجيا الدينية: نحو إسلامية تطبيقية)..

وهو منهج يتجنب الأحكام التقويمية للظاهرة، واعتبار النتائج التي ينتهي إليها البحث الإمبريقي وحدها نتائج علمية..

إننا لا يمكننا أن نقرأ تراثنا بدون منهجية واضحة، لأنه لا بحث سوسيولوجي بدون منهجية تحدد البحث وتوجهه.. والأبحاث والدراسات الأمبريقية المجردة، ما هي في حقيقة الأمر إلا عملية تجميع لأكوام من البيانات والمعلومات عديمة الدلالة والتحليل.. وقد عبر (كرين برينتن) عن أزمة الميثودولوجيا الغربية حيث قال:" إن العقل الذي يتسلط على مشكلات الدين، يستطيع أن يبين للناس، أنه ليس هناك شياطين..

والعقل الذي يعمل على مستوى البحوث الطبية والسيكولوجية، يستطيع أن يثبت أن الجنون اضطراب طبيعي في العقل (وربما في البدن) يؤسف له.. هو باختصار مرض يمكن أن يعالج أو يخفف على الأقل بمزيد من استخدام العقل ".. وهذه مسألة طبيعية لاعتماد المنهجية الغربية وتطبيقها على حقول مغايرة لها في المبنى والمعنى..

وهذا يعني أن المنهجية جزء من السياق العقدي والحضاري لأي مجتمع.. لهذا لا يمكن أخذ المنهج مجردا من مقولاته ونماذجه..لأنه تشكل في أحشاء النماذج التي عالجها، واكتسى باللحم من خلال الموضوعات التي ولدها..

وتأسيسا على هذا نجد أن التراث السوسيولوجي الذي يصدر انطلاقا من المنهجية الغربية، يسعى جاهدا للتأكيد على قيم الغرب ومتبنياته الفلسفية.. لهذا فإننا لا يمكننا أن نفهم مشاكلنا وأزماتنا المعاصرة، بمعزل عن فهم تاريخنا وتراثنا، والقوانين التي تتحكم في مساره، والمنهجية التي نستعملها في معالجة أمورنا وقضايانا.. لأن الانجاز الإنساني السابق الذي نطلق عليه اليوم مقولة (التراث) على علاقة مباشرة بالمنهج، والطريقة التي أفرزت النمط الاجتماعي والإنساني السابق.. لهذا لا يعقل أن ندرس المنجز الإنساني دون معرفة المنهجية والطريقة المتبعة التي أوصلت أولئك إلى هذا المنجز.. فالأنماط الاجتماعية والحضارية، تختلف باختلاف المناهج والمقولات والنماذج.. وعلى هذا لا يصح لنا أن ندرس النمط الاجتماعي والحضاري الإسلامي، بمقولات ونماذج منهجية تنتسب إلى نمط مجتمعي حضاري مختلف.. " فالذين يقرؤون الإسلام  والتراث والتاريخ والأنماط المجتمعية الإسلامية، ومختلف ظواهرها من خلال ما يسمونه المنهج العلمي القائم على الموضوعات والنماذج المستمدة من النمط الحضاري الأوروبي ماضيا وحاضرا ليسوا من العلمية في شيء، وليس منهجهم علميا بالرغم من كل إدعاء.. لأنه من غير العلمي أن تقرأ الأنماط المجتمعية المختلفة، من خلال منظور التجربة الأوروبية، وعبر نظرة الغرب إلى نفسه وإلى العالم.. أما العلمية فتقضي الإمساك بالمنطق الخاص بسمات النمط المجتمعي الحضاري المحدد وآليات حركته ".. (الإسلام في معركة الحضارة – منير شفيق – ص 168)..

وعلى هذا فإن قراءة تراثنا العربي والإسلامي، وفق منطق مجتمعي وحضاري مغاير، يجعلنا نبتعد من رؤية الأشياء والأمور والقضايا على حقيقتها.. وبالتالي تضيع الحقيقة، كما هي في الواقع التاريخي نفسه.. وبهذا لا يمكننا أن نقرأ تراثنا وقضايانا التاريخية، وفق منهجية القراءة الغربية للتاريخ الأوروبي والحضارة الأوروبية..لأنها قراءة محكومة بمنطق خاص يختلف ومنطق التراث العربي والإسلامي.. والجدير بالذكر في هذا الصدد هو، أن ما يمنع التراث، من ممارسة دوره المأمول في حاضرنا وعصرنا، يرجع في اعتقادنا إلى المنهجيات الانتقالية الغريبة عن واقعنا، التي نستخدمها (أدوات ومفاهيم) لفهم تراثنا وماضينا القريب والبعيد.. إذ أن نقل (الخارج) معرفيا وحضاريا إلى (الداخل) مع اختلاف الخصوصيات والظروف، لا يؤدي إلى تطور الواقع الفكري والحضاري للداخل، وإنما على العكس يؤدي إلى تلاشي الذات وأفولها.. من هنا تنبع أهمية تحديد البوصلة النظرية، التي ننطلق منها لتقويم حاضرنا وبناء مستقبلنا وفق معايير وأهداف تلك البوصلة النظرية.. وأن هذه المقدمات المنهجية لقراءة تراثنا العربي والإسلامي، تهدف إلى وصل الحي بالحي، وتقديم خطاب عربي – إسلامي، ينسجم وتطلعات العصر..

وجماع القول: إن استخدام هذه المقاربة الواعية بين ماضينا وحاضرنا هي  التي تؤدي إلى إخصاب فكرنا، وإخصاب مقدرتنا على العطاء والابتكار الحضاري..

الخاتمة

يشكل التراث حصيلة معرفية وسلطة رمزية ومضمون اجتماعي، لذلك حينما إلتفت إليه المثقفون، حاول كل طرف من أطراف المشهد الثقافي الاستيلاء على التراث، والتعامل معه، بوصف قيمه هي المعادل الموضوعي لذات القيم التي يحملها هذا الطرف أو ذاك.

لذلك شهدت حقبة الستينيات من القرن الماضي، محاولات عديدة قام بها اليسار العربي بكل تلاوينه للاهتمام بالتراث وخلق مقاربات فكرية وأيدلوجية بين متبنياتهم الأيدلوجية والفكرية والسياسية وأحداث التراث ومقولاته الأساسية. وهذه الممارسة بصرف النظر عن بواعثها الأيدلوجية والاجتماعية، هي تؤكد حقيقة ثابتة بواعثها الأيدلوجية والاجتماعية، هي تؤكد حقيقة ثابتة، مضادة أن التراث بشكل مادة عابرة لحقب التاريخ، وتتمكن كل الجماعات الأيدلوجية الإفادة من التراث مو مواده [ولقد يعيشه الناس، أو يعيشون بعضها من رموزه ومعطياته، كما يعيشون حاضرهم ومعطيات حاضرهم، من دون أن يشعروا بالتناقض. بل إنهم لا يشعرون بالتناقض لأنهم يخضعون ذلك الماضي لحاضرهم فيعيشونه كجزء من يومياتهم] (ص43)

نقد التراث

لذلك فإن كل المشكلات أو أغلبها، التي تطرح على التراث، هي مشكلات معاصرة، وتبحث عن رؤية أو حلول أو شرعية من التراث إلى الراهن. بمعنى أن جميع الأطراف الأيدلوجية في المجال العربي ـ الإسلامي، تعامل مع التراث بكل حقبه بنزعة أيدلوجية، بحيث تسعى كل منظومة أيدلوجية لتغطية خياراتها بنموذج تراثي أو ممارسة سياسية أو اجتماعية تشكلت في حقب التراث.

فالعودة إلى التراث لدى الغالبية من المهتمين، لم تكن عودة علمية ـ معرفية محصنة، بل هي عودة من أجل الاستقواء بالتراث ومقولاته وخلق حالة من الربط الأيدلوجي أو المعرفي أو الفكري بن لحظات وخيارات من التراث مع لحظات وخيارات راهنة ومعاصرة.

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

يعد الأستاذ محمد عبده (1266هـ- 1323هـ) (1849م-1905م) رائد حركة تجديد الفكر الإسلامي في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. لكنّ محاولته لم تَعْدُ كونها محاولة أجهضتها عدّة عوامل، منها ارتباط التحديث بالاستعمار في الوجدان والعقل المسلم، ممّا جعل التحديث متهمًا، لأنه الفكر القادم من العدوّ المستعمِر، ومن ناحية أخرى كان لتلاشى المدرسة الفلسفية وانقطاع صلة المسلمين بها منذ قرون أثره في جمود العقل المسلم الذي آثر الانكفاء على نفسه ممجدا لذاته، قادته إلى ذلك جماعاتٌ دينية منغلقة، استبعدت التفكير بوصفه تنظيرا حول الإسلام، لا يعدو كونه فلسفة لا تنتج عملا، وقدّمت نفسها بوصفها حركات عملية ممثلة للإسلام في شموليته، مكتفية – بزعمها–أنّ المصحف دستورها، وكأنّ المصحف ينطق، وليس هم كرجال ينطقون لنا بفهمهم للمصحف، وتوقّفت محاولات تجديد الفكر الإسلامي في عالمنا العربي لكن لم تتوقف حركة التاريخ فمضى ما يزيد عن قرن من الزمن، ومازلنا في النقطة نفسها التي ناقشها محمد عبده حول علاقة الإسلام بالدولة.

وبعد قرابة قرن من رحيل محمد عبده أعاد الدكتور محمد خلف الله أحد تلاميذ الشيخ أمين الخولي السؤال ثانية: ما علاقة الإسلام بالدولة؟ في محاولة منه للتفريق بين علاقة الإسلام الوثيقة بالمجتمع متى اختار الإيمان، وعلاقة الإسلام المنفصلة بشكل الدولة ونظم إدارتها؛ ليهدم المقولة التأسيسية للخطاب الديني "الإسلام دين ودولة"، فانتهى به البحث إلى ما كتبه محمد عبده حول علاقة الدولة بالوحي والمقدّس التي انتهت بوقوف علاقة القرآن بالدولة عند مبادئ عامة متمثلة في الحق والعدل ورعاية المصلحة العامة.

فدراسة خلف الله هي إعادة طرح لأفكار الشيخ محمد عبده الذي كثيرا ما أشار إليه خلف الله بلقب "الأستاذ الإمام"، وهو كلمة رشيد رضا في تفسير المنار حين يريد استدعاء آراء الشيخ محمد عبده، ويُمثّل كتاب "القرآن والدولة" حلقةً متأخرةً في مسيرة بحثية ممتدة لخلف الله، فما انتهى إليه في تلك الدراسة يختلف في بعض جوانبه عما بدأه في دراسته "مفاهيم قرآنية".

ونحاول هنا إبراز معالم تلك النظرية الفكرية في علاقة الإسلام بالدولة من خلال تلك المحاور الأساسيّة التي جعلتها فاتحة لأبواب تلك الأفكار المتزاحمة في تراث محمد عبده: الإسلام دين الله والتدين صناعة البشر، حقّ التشريع بين الله ورجال الدين، الأمّة مصدر للسلطات، التأسيس العقلي لمفاهيم الإجماع، وأولي الأمر، والدعوة، والمعروف، والمنكر.

(1) الإسلام دين الله، والتديّن صناعة البشر:

احتمى الدكتور محمد خلف الله بعنوان "القرآن والدولة" من جدلية مفهوم الإسلام الذي باتت له دلالتان مختلفتان في ثقافتنا، ولعل هذا أحد أسباب الصمم الفكري عند الجماعات حين تتحدث إليها عن الإسلام أو تحدثك هي عنه... وميّز الشيخ محمد عبده بين مفهوميْ الإسلام حين تحدّث عن الإسلام الحقيقي الثابت الذي بيَّنه القرآن الكريم بوصفه كتاب هداية إلهية يختلف تمامًا عن الإسلام العرفي في لغة معاصريه الذين أطلقوا على التديّن اسم الإسلام.(1)

فمفهوم الإسلام في القرآن بدلالتيه العامة والخاصة لا يتفق مع إسلام الجنسية في الاستعمال المعاصر، والإسلام في دلالته العامة في لغة الوحي هو الشرع والملّة والدين أطلق على ملل الأنبياء جميعا من آدم إلى محمد عليهم السلام؛ فالأنبياء جميعا ومن تبعهم مسلمون، فالإسلام اسم قديم قدم الحياة الدينية، رسالته تحقيق الهداية بتصفية الأرواح وتخليص العقول من شوائب الاعتقاد بالسلطة الغيبية للمخلوقات، وقدرتها على التصرف في الكائنات؛ لتسلم من الخضوع والعبودية لمن هو من أمثالها. كما استعمل القرآن الكريم الإسلام بمفهومه الخاص اسما على ديانة محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن تبعه على دينه.

أما إسلام الجنسية أو الإسلام العرفي في لغة المسلمين وغير المسلمين في العصر الحديث، فهو اسم يُوضع في خانة الديانة، أو هو ما عليه هؤلاء الأقوام المعرفون بالمسلمين من عقائد وعادات وتقاليد وأعمال، وأصبح الإسلام متغيّرا تبعا لفهم وسلوك مسلمي كل منطقة، باختصار: "الدين ما عليه المتديّنون؛ "فالبوذية مفهومها ما عليه الناس المعرفون بالبوذية، واليهودية: ما عليه الشعب الذي يطلق عليه اسم اليهود، وهكذا.. وينفصل -تدريجيا- الدين بهذا المفهوم من خلال ممارسات أتباعه عن أصل قواعده ومقاصده سواء كانت سماوية أو وضعية، وتكون العبرة بما عليه أهله، لا بذلك الأصل المجهول أو المعلوم.

وجدير بالذكر أنه نُقل عن الصحابة أنهم لم يفهموا "تحريف" التوراة بتحريف نصّها كما يظنّ المسلم المعاصر، بل بتحريف اليهود لتأويلها، "ما يقال من أن علماءهم بدَّلوا مواضع من التوراة بحسب أغراضهم في ديانتهم، فقد قال ابن عباس على ما نقل عنه البخاري في صحيحه أن ذلك بعيد وقال معاذ الله أن تعمد أمة من الأمم إلى كتابها المنزّل على نبيها فتبدّله أو ما في معناه، قال وإنما بدّلوه وحرّفوه بالتأويل، ويشهد لذلك قوله تعالى وعندهم التوراة فيها حكم الله ولو بدلوا من التوراة ألفاظها لم يكن عندهم التوراة التي فيها حكم الله، وما وقع في القرآن الكريم من نسبة التحريف والتبديل فيها إليهم فإنما المعنى به التأويل."(2)

وترتّب على تحويل الإسلام إلى جنسية ما نعيشه اليوم من تعدد مفهوم الإسلام بتعدد ممارسات المتدينين التي باتت تُوصف بالإسلام الجهادي، والإسلام السياسي، وغيرها.. و"لو أقيم الإسلام على أصله واستتبع مع ذلك رابطة الجنسية لم تكن هذه الرابطة إلا رابطة خير لأهلها غير ضارة بغيرهم لبنائها على قواعد العدل والفضل والرحمة والإحسان، ولكن جعل الجنسية هو الأصل مفسد للدين الذي هو مناط سعادة الدارين."(3)

ترتّب على تحويل الإسلام إلى جنسية ما نعيشه اليوم من تعدد مفهوم الإسلام بتعدد ممارسات المتدينين التي باتت تُوصف بالإسلام الجهادي، والإسلام السياسي، وغيرها

(2) حقّ التشريع بين الله ورجال الدين:

نزل القرآن الكريم للقضاء على نفوذ الكهنة والأحبار التي استمدت سلطتها من التحدّث باسم الإله، وليس لاستبدالها بنفوذ جديد لرجال الدين، فالإسلام لا يعرف الوساطة الإنسانية في الاتصال بالله، ولا الوساطة الإلهية في تفاعل الإنسان مع الكون، واحتفظ الله بحق التشريع لذاته، وأنكر أن يكون لأيّ رجل من رجال الدين حقًا في تحريم أو إيجاب، وجعل مثل هذا الادعاء سببًا للإشراك به، وجعل الذين يتبعون هذا الصنف من رجال الدين كمن اتخذ أربابا من دون الله، ليس لاعتقادهم أنهم آلهة العالم –بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم.

ومن الآيات التي تنكر هذا الصنيع، وتراه متناقضا مع مراد الله قوله تعالى: "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ" (سورة الأعراف، الآية 32) "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ." (سورة الأعراف، الأية 33) "قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (سورة الأنعام، الآية 151) "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" (سورة التوبة، الآية 31)، وروى الرازي في تفسيره للآية أن عديّا بن حاتم، وكان نصرانيا، دخل على رسول الله وهو يقرأ سورة براءة فوصل إلى آية "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ" قال: فقلت: لسنا نعبدهم. فقال: أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه؟ ويحلّون ما حرّم الله فتستحلّونه؟ قلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم."(4)

وحصر القرآن الكريم سلطات الأنبياء والمرسلين في الإبلاغ والبيان لما نُزِّل إليهم من وحي، ليس لهم سلطان على الناس، وأنهم لا يملكون لأنفسهم أو لغيرهم من الناس نفعا ولا ضرًّا، فالأنبياء ليس لهم علم بالغيب "قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ" (سورة الأعراف، الآية 188)، "قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ" (سورة الكهف، الآية110) "وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وعيد" (سورة ق، الآية45) "فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّر لَسْت عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِر" (سورة الغاشية، الآية22)، "فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ" (سورة الشورى48)

إذا كانت تلك سلطة الأنبياء، فكيف يثبت لرجال الدين ما لم يثبت للأنبياء. فالقرآن الكريم أنكر على أقوامٍ قالوا برأيهم هذا حلال وهذا حرام، ووصف صنيعهم بالكذب واتباعه بالشرك، "أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ" (سورة الشورى21)

وأرى أننا أمام مقدّمة أولى تجعل التشريع الديني حقا إلهيا لا يقترب منه الإنسان في تعريف الله بنفسه عقيدة، وفي طريقة الاتصال به عبادة. وهنا يتفق النيسابوري والرازي ومحمد عبده وخلف الله مع الخطاب الظاهري السلفي، إلاّ أنهم سرعان ما يفترقون عنه في المقدّمة الثانية التي تجعل الإنسان مشرّعا بمقتضى تفويض الله له في أموره الدنيوية المسكوت عنها من الوحي قطعي الثبوت قطعي الدلالة.

فنحن أمام "دينيّ" ثابت يُشرّع فيه الله للإنسان، و"دنيويّ" متغيّر يُشرّع فيه الإنسان بمقتضى تفويض الله له، فدائرة التشريع الإلهي التي لا يتدخّل فيها الإنسان مقيّدة بدائرة العقيدة والعبادة؛ لأنها تتعلّق بذاته حقيقة، فتكون العقيدة، وطريق اتصال الإنسان بالله فتكون العبادة، "العقيدة إنما تدور حول ما هو ثابت أزلي خالد وهو الله سبحانه وتعالى: ذاته وصفاته. وإن الحياة الدينية، باعتبارها عبادات إنما تتم على الوجه الذي أراده الله منّا، والله سبحانه وتعالى هو الذي نسخ بعض العبادات في الأديان السابقة، وجاء بخير منها في الإسلام."(5) ويدخل فيها ما جاء من نص قطعي الثبوت والدلالة في المعاملات.

وما يتعلق بالإنسان في علاقته بالحياة، فسكت الله عن تفاصيله ليس نسيانا ولا قصورا بل قصدا لطبيعة الإنسان المتأثرة ببيئته زمانا ومكانا وتطور أفكاره نتيجة خبرات متنامية بالحياة وكشف أسرارها، فالإنسان في حركة دائمة وتفكير مستمر بدافع الحاجة والمصلحة، غاية ما تدخل فيه الوحي في هذا الجانب هو وضع مبادئ عامة. "فالحياة المدنية أو المعاملات، إنما تتغير لارتباطها بالإنسان، والإنسان غير أزلي ولا خالد، وإنما متغير.."(6) وتغيّر المجتمعات البشرية المستمرّ دفع الأصوليّين أنفسهم لوضع قاعدة تقول بتغيّر الأحكام تبعا لتغيّر الأزمان.

وقد يُقال لماذا لا يكون التشريع الإلهي شاملا لكل نواحي الحياة؛ لتكون الحاكمية لله بفهم المتدين الظاهري في قراءة آيات مثل "إن الحكم إلاّ لله"، ولتكون شمولية الإسلام المستوعبة لكل تفاصيل الحياة بما في ذلك الدولة؟؟

وأرى أن هذا الفهم الحرفي المغلوط لفكرة شمولية الإسلام لكل تفاصيل حياة الإنسان هو محاولة لصبّ الحياة عبر مسيرتها الطويلة في قالب واحد حتّى تطابق رؤية الإسلام لتفاصيل الحياة، وهذا لا يستقيم وحيا ولا عقلا؛ لأنها محاولة لتثبيت المتغيّر، وتجميد المتحرّك وهو الحياة؛ لذا اكتفى الوحي من علاقة الإنسان بالدنيا (الكون) بالمبادئ العامة التي تحمي كلا منهما من الآخر، فعلاقة الإسلام بالدنيوي مجموعة من القيم مثل العدل والمساواة والحرية التي تتشكّل في آليات متطورة تبعا للإنسان، وهذا يتسق مع خصائص الإسلام القرآني في عشرات الآيات القرآنية التي قدّمت الإسلام بوصفه ديانة إنسانية عالمية واقعية (قابلة للتطبيق)، إذ كيف للثابت وهو الدين أن يُجاري تفاصيل المتغيّر زمانا ومكانا، وهو حياة الناس إذا لم يكن ذلك في منظومة القيم وحدها!!

كون الإسلام ديانة عالمية يتطلب أن تكون رسالة الإسلام فيما يتعلق بحياة الإنسان مبادئ عامة لتحتفظ بالمرونة التي تجعلها صالحة للناس في كل زمان ومكان.

وعلاقة العرب بالإسلام في مسيرته لا تتجاوز نقطة البداية؛ فمنهم وقع اختيار الله على محمد بن عبدالله ليكون نبيا رسولا، فارتبط الإسلام في ظهوره بأمّة العرب التي أوجد رسول الإسلام في حياتهم عمليا ارتباطا مؤقتا سرعان ما انتقل إلى غيرهم، فالإسلام لا يرتبط بعنصر بشري، وتقاليد العنصر البشري المكتسبة من بيئته ليست جزءًا من الدين..

وكونه أيضا ديانة إنسانية يجعل غايتها المتجددة العمل من أجل صالح البشرية، وهدفها الدائم تحقيق الخير العام للإنسان في أي أرض يكون، وفي أي زمن يُوجد.

وقابلية الإسلام للخلود بوصفه خاتم الرسالات تقتضي قابليته للتطبيق العملي؛ لذا اقترن الإيمان والعمل في القرآن الكريم في عشرات الآيات القرآنية، فالإيمان هو الطاقة الروحية الدافعة إلى العمل الصالح الذي لا يكون صالحا إلا إذا ارتبط بقيمة روحية داخلية إرضاء الله، وخارجية تحقيق الخير للجميع وتقديم الصالح العام على المصلحة الفردية.

ويعلّق خلف الله على تفسير الأستاذ محمد عبده(7) لقوله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" (سورة البقرة آية 143) بأنّ الآية شاهد على ضرورة صلاحية الإسلام للتشكّل في الواقع، فالآية واضحة في "أنّ التغيّرات الجذرية في المجتمعات البشرية لا تتقرّر، ولا تستقرّ، ولا يُصبح لها كيان ووجود، ما لم تكن هناك نماذج بشرية تُحقق هذا الكيان، ويقتدي بها الناس.

لابدّ من وجود نماذج بشرية يتمثل فيها بصورة حسية المبدأ والعقيدة؛ فهي تمارس الحياة العملية على أساس مما هناك من معتقدات دينية، ومبادئ أخلاقية، وقيم اجتماعية."(8)

(3) الأمّة مصدر السلطات:

نقل القرآن الكريم التشريع إلى الأمّة، بقوله تعالى "وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ" (سورة آل عمران، الآية159) فالله عز وجل وضع القواعد اللازمة لبناء المجتمعات، ووكّل لها بناء الدول بحرّيّة تامة واستقلال كامل بما يحقق أمورها الدنيوية ومصالحها الاجتماعية، و"ذلك أنه جعل أمرنا شورى بيننا، ينظر فيه أهل المعرفة والمكانة الذين نثق بهم، ويقررون لنا في كل زمان ما تقوم به مصلحتنا، وتسعد أمّتنا."(9)

وسكوت الله -عز وجل- عن نظام الشورى عن قصد. فسبحانه لا يضلّ ولا ينسى، فهو من الأمور التي فوّض الله المسلمين فيها؛ فالناس تُشرّع لأنفسها في أمور حياتها، لأنهم هم أصحاب المصلحة في إقامة مثل هذا النظام، ولهم أن يقيموه على الأساس الذي يجعله صالحًا للزمان الذي يعيشون فيه وللوطن الذي ينتسبون إليه.

إذا كانت أمور سياسة حياة الناس يُرجع إليهم فيها، والوحي يتنزل على الرسول -صلى الله عليه وسلم- فكيف نُصادر تلك الممارسة اليوم، وقد توقف إرسال الأنبياء، وانقطع الوحي، إذا تأملنا مناسبة نزول أمر الله "وشاورهم في الأمر" ستجدنا أمام موقف أخفقت فيه "الشورى" حين انحاز الرسول إلى رأي القائلين بالخروج من المدينة لمواجهة أهل مكة فكانت النتيجة غير مرضية، ورغم ذلك جدّد القرآن الكريم الثقة في المبدأ، وأمر به بما يزيده ترسيخا، وتوقُّف الوحي عند المبدأ وسكوته عن آليات تطبيقه، إنما هو فرصة للاستفادة من المنجز الحضاري الإنساني العام المتطوّر في هذا الميدان، لكن تجربة الجماعات الدينية -في ظني- فعلت نقيض ذلك فاستدعت كلمة الشورى؛ لتضفي على ممارستها شرعية دينية، دون أدنى تركيز على تفعيل آليات شورى جيدة؛ لأنها لا تهتم بتطوير وتجديد بنيتها الفكرية قدر اهتمامها بالقشرة الظاهرية لإكساب ممارستها وصف الإسلامية... فتطلق اسم الشورى على ممارسات قاصرة في تبادل الرأي.

وأرى أن الأولى إذا كان الرأي والمشاركة المجتمعية لصناعة القرار في أمورنا الدنيوية أمر به الإسلام دون تفاصيل أو آليات أن نستفيد في آليات صناعتها من تجارب الأمم الأسبق إلى التمدن في طرق تواصلها مع شعوبها والاستماع إليهم حتى نكون محققين للمبدأ.

وننتقل إلى آية أخرى تعزّز سلطة الأمة في بناء الدولة بوصفها جزءًا من الجانب الدنيوي في حياة الناس، يقول تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ" (سورة المائدة، الآية101) لا يمكن فهمها فهما صحيحا إلا في ضوء تفويض الله للمسلمين في أمور دنياهم يتخذون فيها من القرارات ما يرونه محققًا للصالح العام.

إن هذه الآية تحكى عن وقائع حدثت في زمن النبي، حيث كان المسلمون الأوّلون يتوجّهون بالأسئلة في الأمور التي تعنُّ لهم إلى الرسول يطلبون منه أن يبيّن لهم رأي الدين في هذه الأمور.

وكان النّبي يتوجه إلى ربه لعلّه أن يُنزل من السماء آيةً تردُّ على أسئلتهم، وتجيبهم عن طلباتهم، فجاءت الآية تطلب منهم الكفّ عن توجيه هذه الأسئلة للنبي التي تستلزم أن ينزل فيها الوحي للأسباب التالية:

أولا: احتمالية أن تكون الإجابة عن أسئلتهم مسيئة إليهم من حيث إنها تكلّفهم القيام بعمل فيه مشقّة، أو تطلب منهم ترك القيام بعمل قد تعوّدوا عليه، وطابت به أنفسهم.

ثانيًا: أنهم حين يسألون في حال وجود الرسول ونزول الوحي عليه قد تحصّل الإجابة عنها، فيكون ذلك سبباً لتكاليف، في ترك السؤال عنها سلامة من الإلزام بها، لأنها مما عفا الله عنه أي تركه في دائرة الإباحة والاختيار.

ثالثًا: أنّ الإكثار من الأسئلة، وانتظار الوحي الذي يجيب عن هذه الأسئلة، مقررًا الفعل أو الترك، قد كان دأب الذين من قبلهم، ولم يكن أبدًا في صالحهم، ومن هنا كفروا به. "فطلب القرآن الكريم إلى المؤمنين أن يكفُّوا عن السؤال في كل صغيرة وكبيرة من الأمر حتى لا يكون في الإجابة ما يسيء إليهم حين تكون الإجابة على غير ما يرغبون فيه. وحتى لا ينتهي الأمر بهم وبالأجيال التالية إلى الكفر بمضمون هذه الإجابة حين تتغير الأزمنة وتتغير الأمكنة. ويصبح المضمون عاجزا عن أن يمدّ المؤمنين بالطاقة التي تدفعهم إلى ممارسة الحياة بأسلوب يضمن تحقيق الصالح العام، ويستهدف الخير العام."(10)

رابعًا: أنّ المسائل التي تتغيّر بتغيّر الأمكنة والأزمنة يجب أن تترك للناس يتخذون فيها من القرارات ما يعتبرونه مصلحة لهم في الوقت الذي يعيشون فيه، وفي المكان الذي يقيمون فيه، وفي المجتمع الذي ينتسبون إليه.

وإذا كان التوقف عن سؤال النبي في كل صغيرة وكبيرة في أمور حياتهم هو أمر الله والوحي يتنزل، فإن من الأوجب "أن نتوقف عن توجيه الأسئلة لرجال الدين –تلك الأسئلة التي تستهدف منها التعرف على رأي رجال الدين في مسائل الحياة الدنيوية ... لكن رجال الدين لا يستطيعون القيام بما لم يقم به الأنبياء عليهم السلام. لقد ألزم القرآن الكريم النبي عليه السلام أن يُشاور أصحابه، وأن يتخذ وإياهم القرار الذي يحقق الصالح العام."(11)

وإذا كان القرآن الكريم قد فوّض الناس في التشريع لدنياهم وفق المصلحة العامة دون الخروج على النصوص التي أحلّت أو حرّمت، فهل يجوز تقديم المصلحة العامة على النصّ اقتداءً بعمر بن الخطاب في تعطيل بعض النصوص للصالح العام مثل إيقاف حدّ السرقة زمن المجاعة، وإعادة النظر في طريقة تقسيم الغنيمة رغم وجود الآية القرآنية قطعية الدلالة؟؟

يُسلّم الجميع بأنّ عمر بن الخطاب قد عطّل بعض النصوص من أجل الصالح العام، إلاّ أنهم يختلفون. فيرى الفريق الأول أن هذا خاصٌّ بعمر لصحبته وورعه وتقواه، ويرى الفريق الثاني أنه يجوز أن نتخذ من عمل عمر سُنّة ونتّبعه.

الفريق الأول ما عليه علماء الظاهرية كما وصفهم الشيخ محمد عبده لتمسّكهم بظاهر الآيات والأحاديث، وعليه رأي أكثر علماء الفقه، وانحاز إلى الفريق الثاني الشيخ محمد عبده مستدعيا من تراث السلف كلام الإمام نجم الدين الطوفي الحنبلي المتوفّى سنة 716هـ في مسألة المصالح الذي وصفه -بلا مبالغة- بأنه لا مثيل له في كلام علماء المشارقة، كما أنه لا يوجد في كلام علماء المغاربة مثل ما قاله العلاّمة أبو إسحاق إبراهيم الشاطبي الأندلسي المتوفى سنة 790ه حيث رأى الطوفي أنّ التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام، فجعل المصلحة العامّة، وليست المصالح المرسلة كما هي عبارة الإمام مالك أقوى مصادر التشريع المقدّمة على غيرها في التشريع للمعاملات.

ووصف عبده كلام الطوفي في شرحه لحديث أبي سعيد الخدري من الأربعين النووية" لا ضرر ولا ضرار" بأنه وفّى الموضوع حقه في الاستدلال على المسألة بعدّة أدلّة من الكتاب والسُنّة تفصيلية وإجمالية، وبإجماع ماعدا الجامدين من الظاهرية، وجعل مدار تعليل الأحكام الشرعية على مسألة رعاية المصالح إثباتا ونفيا، والمفاسد نفيا، ودعم ذلك بالاستدلال عليها بالنظر العقلي، ولم يكتف بهذا حتى جعل رعاية المصلحة مقدمة على النص والإجماع عند التعارض.

يُسلّم الجميع بأنّ عمر بن الخطاب قد عطّل بعض النصوص من أجل الصالح العام

فنقل عن الطوفي قوله: اعلم أنّ أدلة الشرع التسعة عشر أقواها النص والإجماع ثم هما، إما أن يوافقا رعاية المصلحة أو يخالفاها. فإن وافقاه فيها فبها ونعمت ولا تنازع إذ قد اتفقت الأدلة الثلاثة على الحكم، وهي النص والإجماع ورعاية المصلحة.

وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما بطريق التخصيص والبيان لهما -لا بطريق الافتئات عليهما والتعطيل لهما- كما تقدّم السنّة على القرآن بطريق البيان؛ لأنّ المصلحة هي المقصودة من سياسة المكلفين بإثبات الأحكام، وباقي الأدلة والوسائل. والمقاصد واجبة التقديم على الوسائل أي واجب اعتبارها وملاحظتها أولا وبالذات؛ لأنها هي سرّ الشريعة ولبابها."(12)

وما قرّره الطوفي في رعاية المصلحة هو أدقّ وأوسع من القول بالمصالح المرسلة وأدلته أقوى، وقد صرح هو بذلك، فقال: "واعلم أنّ هذه الطريقة التي قرّرناها مستفيدين لها من الحديث المذكور ليست هي القول بالمصالح المرسلة على ما ذهب إليه مالك، بل هي أبلغ من ذلك، وهي التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام... وإنّما اعتبرنا المصلحة في المعاملات ونحوها، دون العبادات وشبهها؛ لأنّ العبادات حقّ للشارع خاصّ به، ولا يمكن معرفة حقّه كمًّا وكيفًا وزمانًا ومكانًا إلاّ من جهته، فيأتي به العبد على ما رسم له، ولأنّ غلام أحدنا لا يعدّ مطيعا خادما له إلاّ إذا امتثل ما رسم سيّده وفعل ما يعلم أنّه يرضيه، فكذلك ههنا... لهذا لما تعبدت الفلاسفة بعقولهم ورفضوا الشرائع أسخطوا الله عز وجل وضلّوا وأضلّوا. وهذا بخلاف حقوق المكلفين؛ فإنّ أحكامها سياسية شرعية وضعت لمصالحهم، وكانت هي المعتبرة وعلى تحصيلها المعوّل. ولا يقال: إنّ الشرع أعلم بمصالحهم فلتؤخذ من أدلّته لأنّا نقول: قد قرّرنا أنّ المصلحة من أدلّة الشرع، وهي أقواها وأخصها فلنقدمها في تحصيل المصالح، ثم إنّ هذا إنّما يقال في العبادات التي تخفى مصالحها عن مجاري العقول والعادات. وأمّا مصلحة سياسة المكلفين في حقوقهم، فهي معلومة لهم بحكم العادة والعقل. فإذا رأينا الشرع متقاعدا عن إفادتها علمنا أنّا أُحِلْنا في تحصيلها على رعايتها".(13)

ومن أدلة الطوفي العقلية في تقديم رعاية المصلحة على النّص أنه من المحال أن يراعي الله -عز وجل- مصلحة خلقه في مبدئهم، ومعادهم ومعاشهم، ثم يمهل مصلحتهم في الأحكام الشرعية إذ هي أهمّ فكانت بالمراعاة أولى؛ لأنها أيضا من مصلحة معاشهم؛ لأنّها صيانة أموالهم ودمائهم وأعراضهم، ولا معاش لهم بدونها، فوجب القول بأنّه رعاها لهم.

وإذا ثبت رعايته إياها لم يجز إهمالها بوجه من الوجوه. فإن وافقها النصّ والإجماع وغيرهما من أدلة الشرع فلا كلام. وإن خالفها دليل وفّق بينه وبينها بتخصيصه وتقديمها بطريق البيان.(14)

(4) تأسيس عقلي لمفاهيم: الإجماع، أولو الأمر، الدعوة، المعروف، المنكر

أسّس الشيخ محمد عبده لما كان يظنّه مفهوما جديدا لأولى الأمر(15) إلاّ أنه اكتشف أنّ من القدامى من سبقه إلى الفهم نفسه لدلالة أولى الأمر، فقد رفض النيسابوري والرازي قول القائلين بأنّ أولى الأمر هم الولاة والسلاطين أو جماعة من علماء الدين؛ لأنّ التكليف بطاعة أولى الأمر واجب في الآية، وهذا الوجوب يقتضي العصمة من الخطأ؛ لأن الله لا يأمر بطاعة في خطأ، والعصمة من الخطأ –في نظره- ثابتة للأمّة مجتمعة على رأي، وليست لبعضها لاسيما الحكّام الذين قد يأمرون بالخطأ قصدًا إليه، كما يقول الرازي: "طاعة الأمراء والسلاطين فغير واجبة قطعا، بل الأكثر أنها تكون محرمة؛ لأنهم لا يأمرون إلا بالظلم."(16) فامتنع عقلا أن تكون الدلالة لبعض الأمّة حكّاما أو فقهاء، فالإجماع لن يتحقق إلاّ بالأمّة مجتمعة، ولا يتصور الرجوع في كل مسألة إلى جميع الأمة؛ لذا احتاجت الأمّة إلى ممثلين لها ينوبون عنها هم أهل الحلّ والعقد.(17)

ولما كان مفهوم "أهل الحل والعقد" ملتبس الدلالة عند الرازي، أوضح الشيخ محمد عبده مفهوم أهل الحلّ والعقد بأنه مرادف لأولى الأمر الذين "هم في زماننا كبار العلماء ورؤساء الجند والقضاة، وكبار الزرّاع والتجار، وأصحاب المصالح العامة، ومديرو الجمعيات والشركات، وزعماء الأحزاب، والنابغون من الكُتُّاب والأطباء والمحامون والمهندسون ... أولئك الذين تثق بهم الأمة، وترجع إليهم في مشكلاتها حيث يكونون ... وأهل كل بلد يعرفون من يوثق به عندهم ويحترم رأيه فيهم، ويسهل على رئيس الحكومة في كل بلد أن يعرفهم، وأن يجمعهم للشورى إن شاء."(18)

وخالف الدكتور محمد خلف الله رأي محمد عبده، ففصَل دلالة أهل الحلّ والعقد عن أولى الأمر، فأهل الحل والعقد هم ممثّلو الشعب المنتخبون ينقلون مشكلات المجتمع التي تعوقه عن الانطلاق في ميادين الحياة، أمّا أولو الأمر فهم أهل الاحتراف المهني والفني في كلّ صنعة وأهل البراعة العلمية في كل اختصاص الذين ينظرون في تلك المشكلات، ويقدّمون لها حلول، واقترح أن تكون المجالس التشريعية ضعف عدد دوائرها؛ ليتم اقتسامها بين أهل الحل والعقد من جانب وأولى الأمر من جانب آخر.(19)

وانتقل مفهوم الإجماع-تبعا للمفهوم الجديد لأولى الأمر وأهل الحل والعقد في طرح محمد عبده وخلف الله- من كونه مفهوما فقهيا يعتمد عليه رجال الدين في التنظير للدولة باستنباط الأحكام إلى مفهوم سياسي واسع يُستمد من الناس عبر ممثليهم (أهل الحل والعقد)، أو(أولو الأمر) لاستحداث تشريعات للمستجدات التي لا تتوقف أو تطوير التشريع بما يزيل عقبات تعوق حركة النمو الحضاري الإنساني لتحقيق الخير العام أو المصلحة العامة، ملتزمة بالمبادئ العامة للإسلام. وهذه هي صورة الإجماع -أحد مصادر التشريع الإسلامي-من منظور الرازي والنيسابوري وعبده وخلف الله، إجماع الأمة عبر ممثليها؛ لأنه لا يمكن أن تشارك الأمّة عقلا في كلّ مسألة؛ لذا كان ضرورة التمثيل النيابي لتحقيق الإجماع في شكله السياسي إحدى سلطات التشريع، وتحتفظ الأمّة بحقها في مشاركة كل أفرادها لاتخاذ بعض القرارات المصيرية في حياتها مثل اختيار الرئيس وفي قضايا السلم والحرب والاتحاد والانفصال.

من ناحية ثانية، ففي تفسير الشيخ محمد عبده(20) لقوله تعالى: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (سورة آل عمران، الآية 104)اتسعت دلالات الدعوة إلى الخير والمعروف والمنكر بوصفها مفاهيم تأسيسية في الإسلام.

فالدعوة ليست قاصرة على الدعوة إلى الإيمان كما هو شائع في لغة رجال الدين، بل دعوة لكل خير كما تشير إلى ذلك دلالة اللغة في الآية، فالخير عام يُطلق على كل ما يُحقق المصلحة العامة للإنسان في الدنيا والآخرة، وانتقل بالمعروف والمنكر من الفهم الذي يحصرهما في الشرعي إلى دلالة أرحب، فالمعروف: هو ما عرفته العقول والطباع السليمة، والمنكر: ما أنكرته العقول والطباع السليمة، مستلهما عبده مفهوم الحسن والقبح العقلي من التراث الإسلامي الاعتزالي.

وأرى أنّ هذا الفهم أولى لأنّه يخرجنا من النظرة الضيقة لدلالة كلمة الأمّة في قوله: "ولتكن منكم أمّة" بأنها جماعة الحِسْبة(21) التي تحمل الناس على الخضوع لربهم خضوعا لا يتجاوز ظاهر الجوارح؛ لتكون جماعة مهمّتها التعرّف على ما فيه منفعة الناس، وخدمة الصالح العام، فتبيّن للناس حقيقته، وما يترتب عليه من مصالح، وتنكر ما فيه مضرّة أو مفسدة، وتبين للناس ما فيه من أضرار تلحق بالصالح العام، ويصبح الأمر أو النهي من جهة الاختصاص ومن خلال القنوات الشرعية، وهدف هذه الجماعة الدائم هو الدعوة إلى الخير العام.

ويطوّر خلف الله مفهوم الأمة في الآية، فهي الجماعة المُشرِّعة (المجلس التشريعي) تأتي بالانتخاب كآلية للاختيار الحرّ من الناس، كما تنتخب من داخلها رئاسة تنظم وتدير أعمالها؛ لأن أمر الجماعة بغير رياسة يكون مختلاّ معتلاّ. ويشترط في تلك الأمة الانسجام والاتحاد وعلى قدر نجاح هذه الجماعة التشريعية في عملها تتحقّق الخيرية للمسلمين، فليست الخيرية صكًا ربانيًا للقائلين "إنا مسلمون"، بل مكتسبة من أفعالهم التي تحقق الإسلام، كما في قوله تعالى: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ" (سورة آل عمران، الآية 110)

فبالإضافة إلى الإيمان العميق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتحليل وتحريم ما ورد في شأنه نص قطعي، وفي الوقت الذي لا تملك دولة سلطانا ولا رقابة على الإيمان؛ لأن القلوب مستودعات الإيمان، ولا يملك الإنسان الاطلاع عليها، تملك الدولة بالقانون تقويم الخير والشر السلوكي الظاهر، فيأتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلتي تحقيق الخير العام لكل الناس، والمعروف متمثل في كلّ منفعة، والمنكر متمثّل في كل ضرر، وبعبارة أخرى الأمر بالمعروف هو الأمر بما تعارف الناس عليه بما فيهم أولو الأمر أو أهل الحل والعقد على أنّ فيه خيرا لهم، والنهي عن المنكر أي الكفّ عن قول أو عمل أي شيء يضر بالصالح العام، وينكره الناس لأن فيه شرّا لهم.

إنّ النبوة في الإسلام، إنما تبلغ كمالها في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها

ومن إنكار المنكر الأخذ على أيدى الظالمين، فإنّ الظلم أقبح المنكر والظالم لا يكون إلاّ قويا –ولذلك اشترط في الناهين عن المنكر أن يكونوا أمة؛ لأنها لا تخاف ولا تُغلَب، وحذّر القرآن من تجاهل إنكار المنكر لأنه يؤدّي إلى فساد وانحراف يكون سببا في اضمحلال وتلاشي الأمم، كما علّل القرآن الكريم ضعف وتأخر الأمم بأنهم "كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" (سورة المائدة، الآية 79)

ومن أعمال الأمّة (الجماعة المنتخبة) أنها تقوّم وتراقب أداء الحكومة في تطبيقها للتشريعات القانونية التي استقرت عليها. وتحقيق الأمة لهذه الأهداف، يتطلب قدرات ذهنية خاصة في أعضاء هذه الأمانة وإمكانيات عملية وطاقات روحية وصفات خلقية وما أشبه ممّا يساعد الداعي على تحقيق الغايات المستهدفة من الدعوة.(22)

هكذا تتحوّل آيات القرآن إلى خطاب مفتوح على العقل يستلهم منها منظومة القيم والمبادئ العامة والأفكار الحيّة الصالحة لكل زمان ومكان، فيُقدّم القرآن الكريم منطلقا للغايات الاستراتيجية مُوكلا المجتمعات في وضع الآليات والخطط التفصيلية والمرحلية لتحقيق هذه الغايات.

وأخيرا لم تحمل آية قرآنية واحدة شكلا تنظيميا للمملكة بلغة القدامى أو الدولة بلغة المعاصرين، كما لم تتجاوز ممارسات النبي في الشكل التنظيمي جانبه البشري الذي يُعمل عقله، ويستعين برأي من حوله، ويستدعي الممارسات الشائعة في عصره، فلم يتدخل الوحي في الشكل التنظيمي؛ لأن الغاية لم تكن إقامة مملكة بل تكوين مجتمع على هدي من رسالة السماء إلى الأرض، وحتى يمنح العقل الإسلامي الحرية في أن يختار من الشكل العام للدولة ما يتناسب وظروف الزمان والمكان.

وفي الوقت الذي أخذ الدكتور خلف الله يؤكد هذه المعاني في نقله لفكر الشيخ محمد عبده، عاد ووضع على رأس الأفكار التي استقاها من دراسته لتفسير محمد عبده لافتة حداثية فعنوَن لمبادئ الإسلام بسلطة المحكمة الدستورية العليا كما عنْوَن للدعوة في القرآن الكريم بأمانة التنظيم السياسي، (23) وليست قيم القرآن ومبادئ الإسلام في حاجة إلى طلاء حداثي، وليس الشكل التنظيمي للدولة الحديثة سوى منتج إنساني متغيّر.

وبعبارة خلف الله "لم ترد في القرآن الكريم آيةً واحدةً عن الشكل التنظيمي للدولة ووردت فيه آيات كثيرة عن الوظيفة الاجتماعية للدولة، وعن بعض المؤسسات التي يجب أن تقوم لتحقق هذه الوظيفة الاجتماعية، ولتلعب الدور الذي يجب أن تلعبه في المجال الذي أنشئت هذه المؤسسة فيه: سياسيا كان هذا المجال أو اقتصاديا، أو اجتماعيا، أو تربويا، أو صحيًا، أو ما أشبه... القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة لو تعرضا للشكل التنظيمي للدولة، لأصبح هذا الشكل صيغة دينية مقدسة لا يصح الرجوع عنها، ويجب العمل بها في كل الظروف، وفي جميع العصور، وعند كافّة المسلمين مهما تختلف الأزمنة والأمكنة ... ولو حدث هذا لأصبحت النتيجة قيودا يفرضها الإسلام على العقل البشري مع أنه الذي خاطب العقل واعتمد على العقل في تقرير الكثير من المبادئ والأحكام.

إنّ الذي اقتضته الحكمة الإلهية من عدم تعرض القرآن الكريم للشكل التنظيمي للدولة هو الذي اقتضته الحكمة نفسها من أن يكون محمد خاتم النبيين وأن يكون الإسلام آخر الأديان المفروضة من السماء.. فمولد السلام هو مولد العقل الاستدلالي. إنّ النبوة في الإسلام، إنما تبلغ كمالها في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها، وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدا إلى الأبد على نبوة قائمة أو منتظرة، فترك الإنسان معتمدا في النهاية على وسائله هو في المعرفة... إنّ إبطال الإسلام للرهبنة ووراثة الملك، وإنّ مناشدة القرآن للعقل والتجربة على الدوام، وإصراره على النظر في الكون والوقوف على أخبار الأولين.. إن ذلك كله من مصادر المعرفة الإنسانية. وإنّه في الوقت ذاته صور مختلفة لفكرة انتهاء النبوة."(24)

***

ا. د. عبد الباسط هيكل

..........................

المصادر والمراجع

- ابن خلدون، (أبو زيد عبدالرحمن بن محمد) المقدّمة، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1408ه-1988م.

- فخر الدين الرازي (أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين)، التفسير الكبير، دار الكتب العلمية، 1425هـ -2004م.

- محمد أحمد خلف الله (دكتور)، القرآن والدولة، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.

- محمد أحمد خلف الله (دكتور)، مفاهيم قرآنية، العدد 64 عالم المعرفة الكويت، يوليو 1984م.

- محمد رشيد رضا، تفسير المنار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1990م.

- مصطفى زيد، (دكتور) المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي، مكتبة دار العلوم، القاهرة، الطبعة الثانية، 1946م.

الدوريات:

- محمد رشيد رضا، مجلة المنار، مطبعة المنار، القاهرة، 1315ه.

الهوامش

(1) ينظر: محمد رشيد رضا، تفسير المنار، ج3، ص214، 213 الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1990م.

(2) ابن خلدون: المقدمة، ج2، ص16، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1408ه-1988م.

(3) تفسير المنار، ج3، ص298

(4) فخر الدين الرازي، التفسير الكبير، ج3، ص31، ط دار الكتب العلمية، 1425هـ -2004م.

(5) د. محمد أحمد خلف الله القرآن والدولة، ص33، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.

(6) السابق، ص33

(7) تفسير المنار، ج2، ص 142: 140

(8) القرآن والدولة، ص 40

(9) تفسير المنار ج5 ص ص 153، 154

(10) القرآن والدولة، ص 69

(11) القرآن والدولة، ص 62

(12) محمد رشيد رضا، مجلّة المنار، ج9، ص721، مطبعة المنار، القاهرة، 1315ه. - د. مصطفى زيد، "المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي"، ص 105مكتبة دار العلوم، القاهرة، الطبعة الثانية، 1946م.

(13) تفسير المنارـ ج، 164، 163 بتصرف، ومن أراد الاطلاع على سياقه برمّته فليرجع إلى المجلّد التاسع من مجلة المنار ص 715: 740

(14) ينظر: القرآن والدولة، ص111: 108

(15) جاء في موضعين من القرآن الكريم "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولو الأمر منكم"، (سورة النساء، الآية، 59)، "وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم" (سورة النساء، الآية83)، ومنهما تأسست سلطة ونفوذ الحكّام ورجال الدين في الخطاب الإسلامي الذي استند في فهم الآية إلى أحد التأويلات التي تجعل "أولى الأمر" هم الحكَّام، و"الذين يستنبطونه منهم" هم الفقهاء بمعنى خاص أو رجال الدين بمعنى عام، وأصبح هذا هو المدلول الثقافي المتداول للآية. ونتجت عن هذا الفهم مرجعية دينية لهؤلاء بموجب الآية الكريمة، ومن شأن مثل هذا الفهم أن يخلق حالة من الاستسلام؛ لسلطتي الحاكم والفقيه مستمدة من الله الذي أمرنا بذلك بقيد أن تكون في غير معصية.

(16) التفسير الكبير، ج2، ص117

(17) ينظر: السابق ج2، ص118، 117

(18) تفسيرالمنار، ج5، ص152

(19) ينظر: القرآن والدولة، ص ص 73 - 74

(20) ينظر: تفسير المنار، ج4، ص42: 39

(21) ما زال مِن المسلمين مَن يفهم المعنى فهما ضيقا محكوما ببعض التفسيرات التراثية، فنرى أنصار بيت المقدس في اليمن تنشئ إدارة الحسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و"داعش" تُنشئ ديوان الحسبة في الموصل بالعراق.

(22) ينظر: القرآن والدولة، ص88: 83

(23) القرآن والدولة، ص97، 81

(24) القرآن والدولة، ص122: 115 بتصرف.

 

تتميز المنظومات المعرفية المتكاملة، من أن جميع مفرداتها وجزئياتها في إطار نسق فكري متناسق ومتناغم بعضه مع بعض، لا تخالف ولا تناقض بينهما.

فهي مجموعة مفردات لم تركب تركيباً أو أقحمت في البنيان المعرفي، وإنما هي منبثقة انبثاقاً ذاتياً في الإطار المعرفي المذكور.

وفي الدائرة الإسلامية، حيث يشكل الدين الإسلامي، تلك المظومة المعرفية المتكاملة والشاملة لجميع الأبعاد نجد أن جميع مفردات وجزئيات هذه المنظومة، لا يتناقض بعضها مع بعض، وإنما تتكامل تكاملاً مذهلاً. بحيث يتشكل لدينا بناء تشريعي متراص ومتكامل. ويقول الله تبارك وتعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}..

فالإسلام كبناء معرفي لا يعلي من شأن قيمة على حساب الأخرى، وإنما هو دين التوازن والاعتدال في كل شيء.

فهو يوازن بين حاجات الإنسان الجسدية والمعنوية، وبين القيم المادية والقيم الروحية، وبين ضرورات السلطة والنظام ومتطلبات الحرية.

والدين الإسلامي بكل تشريعاته ونظمه، وبالرغم من تقريره للغيب، فإنه ذو سمة عقلانية، أي أنه جاء ليوافق منطق العقل الإنساني وأحكامه. لذلك لا نجد أن هناك حكماً في الدائرة التشريعية للإسلام، لا ينسجم وحقائق العقل الإنساني، وعالم الغيب في المنظور الإسلامي، ليس نفياً أو تغييباً لعالم الشهود والعقل.. وإنما بالنظر العقلي المستند على حقائق الوحي يتم اكتشاف بعض جوانب عالم الغيب وأبعاده.

لذلك نجد أن التجربة الفكرية الإسلامية، لدى أقطاب الأمة وزعمائها في العصور الأولى للإسلام، تجربة دائمة البحث عن الجديد وتتواصل مع مكتسبات الأمم الأخرى العلمية والمعرفية، وتحث على التعرف عليها وكسبها. ولم تتوقف هذه التجربة عن البحث عن الجديد، أو التواصل الفعال مع منجزات الأمم الأخرى الحضارية والإنسانية.

لذلك نستطيع القول: إن تلك التجربة الفكرية وخصوصاً في زخمها الأول ونبضاتها الأساس، لم تعرف الانكفاء، ولم تشرع للمفاصلة مع تجارب الآخرين، وإنما على العكس من ذلك تماماً. حيث حثت المسلمين من مختلف مواقعهم على التعلم والتفكر واكتساب مهارات جديدة. والتواصل مع المعارف والثقافات الإنسانية الأخرى، لا يعني ذلك بأي شكل من الأشكال القبول بكل شيء تقول به هذه المعارف والثقافات. وإنما للدخول معها في عملية جدل وتثاقف تثري الواقع الإنساني برمته.

وإن الرفض أو القبول يتم على قاعدة الوعي والمعرفة التامة به. وهذا لا يتأتى على الصعيد الواقعي إلا بالانفتاح والتواصل..

والحرية الحقيقية للإنسان، تبدأ حينما يثق الإنسان بذاته وعقله وقدراتهما. وذلك لأن التطلع إلى الحرية بدون الثقة بالذات وبالعقل، تحّول هذا التطلع إلى سراب واستلاب وتقليد الآخرين بدون هدى وبصيرة. لذلك فما لم يكتشف الإنسان ذاته، ويفجر طاقاته المكنونة، لن يستطيع اجتراح تجربته في الحرية وبناء واقعه العام على قاعدتها ومتطلباتها.

من هنا ووفق هذا المنظور، نحن ننظر إلى مسألة التشريعات الجزائية أو العقابية في الإسلام.. فالعقوبات في الرؤية الإسلامية، ليست بعيدة عن الحرية ومستلزماتها.. بل حين التدقيق نجد أن هناك علاقة وطيدة بين نظام العقوبات ونظام الحرية في الرؤية الإسلامية.

حيث من الطبيعي في الدائرة الإسلامية والإنسانية أن توضع أحكام جزائية، لأجل تطبيق العدالة، وصيانة المصالح الخاصة والعامة، ومكافحة جميع أنواع الفساد والانحراف. لذلك فإن نظام العقوبات في الإسلام، ليس لتقييد الحريات أو تكبيل الإنسان عن الفعل والحركة في الحياة. وإنما من أجل صيانة مصالح الجميع، وضمان عدم تعدي بعضهم على بعض. من هنا عد القرآن الكريم الاقتصاص من المجرم، إدامة لحياة المجتمع وحفظ مصالحه. حيث قال الله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون}.. (البقرة آية 179)..

لذلك لا يخلو نظام من الأنظمة العامة، من وجود أنظمة عقابية وجزائية، وذلك لأنه لا يمكن أن تسير الحياة بشكل سوي ومستقيم بدون نظام الجزاء والعقوبات. وعليه نستطيع أن نجزم بأن تشريع قوانين وأحكام الجزاء لا يعد عنفاً، لأن المراد من تشريع هذا النوع من القوانين، هو حفظ النظام، وحماية الحقوق الفردية والاجتماعية، وضمان الوصول إلى الأهداف التربوية والأخلاقية اللازمة لأي مجتمع.

وهكذا فإن قوانين الجزاء وأحكامه في الإسلام، لا يراد بها الانتقام مطلقاً، وإنما هي وسيلة إدامة حياة المجتمع وحفظ قيمه ونظامه، وتطهيره من عوامل الانحراف والجريمة.

لذلك يؤكد الذكر الحكيم على ضرورة تنفيذ الأحكام بعيداً عن المواربة والمحاباة. إذ يقول تبارك وتعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}.. (النور - الآية 2)..

وبإمكاننا توضيح هذه الحقيقة، من خلال بيان أهداف العقوبات في الإسلام، التي تتمثل في النقاط التالية:

1 - حفظ حقوق الأفراد والمجتمع.. فالعقوبات ليست في مقابل نقض حرية الاختيار والتعرف لدى الإنسان، وإنما هي موضوعة من أجل حفظ الإنسان والمجتمع من الأخطار التي قد تعصف به.

2 - بسط وسيادة العدل وعدم تفويت الحقوق. وهذا بطبيعة الحال يحافظ على مصالح الجميع فرداً ومجتمعاً وكذلك مصالحهم النوعية.

ولا نحسب أن هناك شريعة من الشرائع أو قانوناً من القوانين، لا يعترف ويقرر أهمية العقوبة في درء الأخطار والدفاع عن أمن الأمة والمجتمع ومصالحهما.

فالعقوبات في الإسلام، لا تشرع للانتقام والتنكيل وامتهان كرامة الإنسان، وإنما لحماية المجتمع من الآفات والمخاطر التي قد تهدد وجوده وأخلاقه..

لذلك من الطبيعي القول: إن العدل هو حصن الحقوق وإن نظام العقوبات في الإسلام، لا يخرج عن مقتضيات العدل والحرية، بل هو خادم لهما. إذ لا يمكن أن يتم الحفاظ على حقوق الأفراد والجماعات ومكتسباتهم الحضارية بدون العدالة. فهي حصن الحقوق، وهي بوابة الأمن الشامل. وبدونه تشبع الفوضى، وتزدهر الفتن والاضطرابات، وتزداد أسباب الاحتقان والانفجار في المجتمع.

فالعدالة بمفرداتها (القسط والإحسان والبر)، هي التي توفر الأمن والاستقرار في حياة الأفراد والجماعات. فلا فلاح إلا بالعدل، فهو سبيلنا الوحيد لإنجاز الاستقرار والأمن والتقدم. وإن الخروج من سجن التخلف والتأخر إلى رحاب التقدم والحرية والتطور بحاجة إلى العدالة.. وإن الحرية الإنسانية لا تنجز على الصعيد العملي، إلا على قاعدة توفير المصالح التي يسعد بها الإنسان ويحيا حياة كريمة، ودفع الأضرار التي تجلب إليه الشقاء والبعد عن الجادة والحياة الكريمة. لذلك فقد اعتنى الدين الإسلامي أيما اعتناء بهذه المسألة. وأسس الفقه الإسلامي استناداً على النصوص الإسلامية العديد من القواعد الفقهية والقانونية، التي تحول دون الشقاء، وتجلب للإنسان الفرد والجماعة كل أسباب المصلحة والسعادة. فقد جاء في المأثور أنه (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام).

فالحرية في المنظور الإنساني، لا تتعدى هذا الفهم وهذه القواعد التي أرساها النص الإسلامي. إذ يقف الإسلام ضد كل الأضرار (النفسية والاقتصادية) والسياسية والاجتماعية والسلوكية) التي تؤثر سلباً في حياة الإنسان الخاصة والعامة.

من هنا فإن العقوبات في الإسلام، لا تقف ضد حرية الإنسان بكل أبعادها وآفاقها، ولا تحول دون حركة الإنسان في الحياة.

بل هو نظام لحماية الإنسان في هذه الحياة من المخاطر. ومن الخطأ أو الظلم التعامل مع نظام العقوبات في الإسلام، بمعزل عن المنظومة القيمية الإسلامية. إذ إن عملية العزل هذه، تشوه هذا النظام، وتحوله وكأنه سيف مسلط بشكل دائم على الإنسان وحقوقه الأساس. لذلك فإننا ندعو إلى النظر إلى نظام العقوبات في السياق الإسلامي العام المحكوم بقيم العدالة والحرية.

فكل العقوبات يتم تنفيذها تحت سقف العدالة والحرية. وكل ممارسة دون ذلك، لا تنسجم ورؤية الإسلام لنظام العقوبات.

فالعدالة والحرية وكل مقتضياتها ومتطلباتهما، هي البيئة التي تتحكم في مسار العقوبات في الرؤية الإسلامية..

وعلى هدى هذا القول: فإن الأصل في الإسلام هو العدالة والحرية. وإن نظام العقوبات، جاء من أجل حماية هذه القيم على الصعيد الإنساني.

لذلك كلما اقترب الإنسان الفرد والجماعة، من مقتضيات العدالة والحرية، تلاشت الحاجة الفعلية إلى نظام العقوبات.

بمعنى ضمور الموضوعات والتجاوزات التي تقتضي عقوبة أو جزاءً. وعليه فإن جميع الجهود، ينبغي أن تتجه إلى تكريس مقتضيات هذه القيم (العدالة والحرية) في الفضاء الاجتماعي، وذلك من أجل سعادة الإنسان واستقراره النفسي والاجتماعي.

وجماع القول: إن حرية الإنسان هي الأصل والقاعدة، وإن نظام العقوبات، لا يناقض هذا الأصل، بل جاء من أجل حمايته وتنميته وديمومته.

***

أ. محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

- قال أحدهم للبوذا: الأمور التي تعلِّمها، سيدي، لم أجدها في الكتب المقدسة."

- ردّ البوذا قائلا: أضفها عليها إذن ..

وبعد هنيهة صمت حَرِجة ...

- قال الرجل: هل لي أن أجترأ عليك يا سيدي، فأقول إن بعض الأمور التي تعلِّمها يناقض الكتب المقدسة فعلاً!

وأخيرا ردّ البوذا قائلا: إذا الكتب المقدسة تحتاج إلى التصحيح.

فالكتاب المقدس "لا يعلمنا كيف تسير السماء، وإنما كيف نسير نحن إلى السماء". كما يقول غاليلو غاليلي (Galileo Galilei

***

1- مقدمة:

تعد إشكالية المقدس من أخطر الإشكاليات، وأكثرها حساسية وأعمقها صعوبة في حياتنا الثقافية المعاصرة. وتأتي هذه الصعوبة من حساسية المقدس نفسه الذي يلامس في كثير من الأحيان الأوتار الداخلية للوجدان الإنساني، وهي الأوتار التي تشكل نسيج العقائد الإيمانية والروحية التي تسكن في أعمق أعماق الإنسان، وهي التي تعبر عن أكثر معطياته الكونية أهمية وخطورة وحساسية. لقد لعب المقدس دورا تاريخيا كبيرا في توليد العطالة الفكرية وإفقار العقلية الإنسانية عبر عصور من الزمن. وشكّل هذا المقدس نفسه المانع والممنوع والممتنع على مختلف أوجه التفكير والتداول والنقد والمساءلة والرفض . ومن هنا تأتي الصعوبة المحفوفة بالخطر في مناقشة مفهوم المقدس نفسه وإخضاعه للمناقشة للجدل. ومع ذلك كله، ورغم هذه الحساسية الهائلة لهذا الموضوع، يبدو لنا أن مناقشة هذا المفهوم وإخضاعه للتحليل العلمي قضية تفرض نفسها في حياتنا الثقافية والفكرية المعاصرة. وهذه المناقشة لا تهدف أبدا إلى تجاوز حدود المقدس الذي يأنف التداول والجدل، بل تأتي في سياق مقالتنا هنا تأكيدا على جوهر هذا المقدس وتحديده وفصله عن مجاله الدنيوي الذي انغرس فيه إلى حدّ التهلكة.

جاء في لسان العرب أن المقدس هو تنزيه الله عز وجل وهو المتقدس القدوس المقدّس(1). ويميز كمال دسوقي في مفهوم المقدّس بين معنيين، حيث يعني القضايا والأشياء التي تتعلق بما هو إلهي من جهة، والقضايا التي يجب تجنب التعامل معها بخفة ورعونة أو عبث من جهة أخرى (2). ولكن الموسوعة الفلسفية العربية لمعن زيادة تقدم تعريفا أكثر تطورا. فالمقدّس كما تعرفه هذه الموسوعة هو " كل ما لا يمكن تدنيسه أو تلويثه، ويمتلك المقدّس على قوة غامضة تجذب أحيانا وتنفّر أحيانا وتجذب وتنفّر في أحيان أخرى. ويضيف معن زيادة في تحليه لهذا المفهوم بأن المقدّس " هو ما يثير في النفس الخوف والرهبة والاحترام والخشوع الذي يبعدنا عنه ويرغبنا فيه في الوقت نفسه. وينتج عن المقدّس مجموعة من المشاعر المختلطة والمرتبطة من: الاندهاش، والرغبة، والانجذاب، والفضول والتحفظ والقلق، والفزع والخوف مما يجعلنا نحبه ولا نجرؤ على تناوله في الوقت نفسه" (3).

ويأخذ هذا التعريف صيغته في تعريف رفعة الجادرجي إذ يرى بأن " المقدّس هنا اصطلاح يشير إلى كيان يتجاوز ماهية الأشياء الدنيوية (…) ويتمتع بالضرورة بصفتين: أولا، تكمن في هذا الكيان قوة خارقة، لا تخضع لقوانين الطبيعة، ولا يخضع التعامل معها لقوانين السببية أو العقلانية. ثانيا، وتبعا للصفة الأولى تتصف علاقة الفرد أو الجماعة مع هذه القوة بأن في إمكانهم أن يضموا صفة المقدّس كمقوم في هويتهم، ولذا يتمكنون أن يطلبوا منه الحماية والعمل على تأمين بقائهم (4). ولأن المقدّس يتمتع بقوة خارقة (…) فإنهم يخافونه في أعماق وعيهم الذاتي، كما أنهم يعتبرونه مقوما فعالا في حماية هذه الهوية، ودعمها للآخر، وفي مواجهة العيش مع متطلبات التكيف مع الظواهر الطبيعة"(5).

ويؤكد الباحثون في غالب الأحوال على البعد الديني لمفهوم المقدّس إذ "تعود ألفاظ التقديس والقداسة والمقدّس - وهي مشتقة من فعل قدس بمعنى طهر وتبارك- إلى مرجعية دينية بالأساس، سواء أكان موضوع التقديس أماكن أو كتب أو كائنات. ومن أسماء الله في العربية القدّوس أي "المنزه من كل نقص وعيب". فلا غرابة، وأمر الاشتقاق اللغوي على ما ذكرناه، أن تكون الطهارة وانتفاء التدنيس خاصية مركزية من خاصيات السلوك الديني (6).

ويرتبط المقدّس بالحرام Interdit فالحرام هو الشيء الذي يمنع إتيانه خوفا من عقاب السماء والآلهة أو عقاب الإنسان، ويلتزم الناس قيود هذا الحرام والتحريم لدواعي إيمانية ودينية صرفه. وهذا يعني أن المحرم " التابو" يرتبط جوهريا بمفهوم المقدّس ويساعد على فهم طبيعته واتجاهه. فالحرام يرتكز على شروط الامتناع ويتلبّس لبوس المحظور ". وينبني على ذاك أن كل مقدّس هو حرام وممنوع وكل حرام يرتبط بمقدّس.

ويميز قاموس روبيرت Le petit Robert بين عدة أبعاد لهذا المفهوم أهمها: أن المقدّس يرمز إلى أمور وأشياء وكينونات لا تخضع للمعالجة الحسيّة أو المعنوية من قبل البشر. وبالتالي فإن المقدّس كيان ممنوع ومنفصل ولا يمكن الاعتداء عليه وذلك بالمقارنة بالدنيوي، وغالبا ما يكون موضوعا للشعور المتنامي بالاحترام الديني المفعم بالتبجيل والتعظيم. والمقدّس في النهاية أمر يوحي بالاحترام المطلق ويمتلك قيمة مطلقة لا يمكن أن تلامس أو تغتصب (7).

هذا وتعرف مادلين كراوتس في معجم العلوم الاجتماعية بأن المقدّس " مفهوم ديني يشير إلى ما يتصل بالقوى الفوق طبيعية أو إلى الآلهة وهو مفهوم يأخذ مكانه وفقا لتنوع الثقافات ودلالتها (8). وهذا يعني أن المقدّس مفهوم ديني بالدرجة الأولى يتمثل في موقف الإنسان من الله والملائكة في الأديان السماوية ومن الآلهة في الأديان المكتوبة والوثنية، وهو شكل من أشكال التجربة الوجدانية التي تقوم بين الإنسان وموضوع المقدّس، وفي هذه العلاقة يتحول الإنسان إلى موقع المنفعل والخائف والمندهش إزاء قوى كونية بالغة السمو والقدرة والاقتدار.

وتعمد منهجية تعريف المقدّس Le Sacré على مقابلته بمفهوم الدنيوي Le Profane أو المدنس L' Impureté. إذ غالبا ما يلجأ الباحثون إلى هذه المقابلة أو المشاكسة بين هذين المفهومين المتعارضين لتحديد جوهر كل منهما. حيث يشكل المقدّس والدنيوي قطبان متعارضان يحدد أحدهما الآخر. وهذا التقاطب أشبه بتقاطب الاتجاهات، إذ يكفي أن نعرف اتجاه الشرق لنعرف امتداد الغرب، ويكفي أن نعرف اتجاه الجنوب لنعرف اتجاه الشمال، والعكس صحيح في طبيعة العلاقة بين هذه الأطراف. وتعتمد هذه المقابلة على موقف فلسفي من الكون قوامه أن الكون يتشكل من لحظتين وكينونتين هما كينونتا المقدّس من جهة والدنيوي من جهة أخرى.

شكل المقدس الديني تاريخيا، وما زال يشكل، مصدر القدرة والقوة، وينبوع الحق والخير والجمال. إنه حقيقية تفرض نفسها ضياء يبدد ظلام الكون، وخيرا يفيض على العالم بأسمى المعاني، وقدرة كونية تحرك الوجود نحو أفاق سامية بلا حدود. ويتجسد جوهر هذا المقدس في سمو الله والملائكة والأنبياء والكتب السماوية. فالقداسة جوهر الدين وخاصته، والدين كما يقول محمد خاتمي " ذو صلة وثيقة "بالعلو" و"القداسة". وبعبارة أخرى جوهر الدين حالة مقدسة متعالية. فلو سلخنا القداسة والتعالي من الدين كنّا قد نزعنا الدين عن كونه دينا، أينما كانت القداسة والتعالي كان الجزم والإطلاق (...) فالدين ذو صلة بالمقدس والمطلق وهذا هو جوهر الدين"(9).

هذا المقدس يضفي على حياة البشر كل المعاني السامية التي تتمثل في الحق والخير والخلود والأمن الكوني. إنه يمثل حاجة أساسية ضرورية ملحة للبشر. والحياة من غير المقدس الديني تفقد تألقها وجمالها وبهائها. وهذا ما أثبتته التجربة الحداثية التي أماتت المقدس وهتكت حجبه وفككته وانتهكت معانيه فتحولت الحياة إلى جحيم يلهب ضمير البشر ويقض مضاجعهم. مع غياب هذا المقدس فقدت الحياة الإنسانية أجمل معانيها وأبهى دلالتها وأعز ما تمور به من قيم. مع إزالة الطابع القدسي للحياة فقد الإنسان الأمل والرجاء والحلم والأمن الوجودي وتحولت الحياة إلى زمهرير يدك عظام البشر وإلى قيظ يهتك أحلامهم ويبدد أمانيهم. ومع موت المقدس مات الإنسان وماتت أحلامه وسقطت أمانيه وتبددت قيمه. وهكذا كانت المسيحية لمسة رحمة للبشر، وكان الإسلام نسمة حب وفيض أمل، وكانت الأديان السماوية والمكتوبة قصائد كونية عليا تدعو إلى رحمة الإنسان وحب البشر.

وفي الدين الإسلامي يتحدد المقدس في الله جلّ جلاله وفي شخص النبي عليه الصلاة والسلام، وفي كتاب الله الكريم ثم في سنة نبيه الكريم (ص)، وهذا ما يكاد يجمع عليه المفكرون والفقهاء والعلماء. وتلك هي الأقانيم الأساسية لمسألة التقديس الإسلامي. ووفقا لهذه المعادلة القدسية يجب على المؤمنين الإيمان المطلق بالله وكتابه وسنة نبيه إيمانا لا يقبل المناقشة أو التداول أو أي مظهر من مظاهر الشك والجدل وذلكم هو عين التقديس والقداسة. فالناس يجب عليهم أن يخافوا الله وأن يعبدوه ويحبوه ويطمعوا في حلمه وفضله ورحمته. ويترتب على هذا أن الله مصدر الخير والحق والجمال والقوة والخير، وأنه وهب نبيه الأكرم النبي محمد صلى الله عليه وسلم التكريم والعصمة والوحي والطهارة والقدسية، وهذا يعني أن شخص النبي (ص) وسيرته وتعاليمه تتألق في أعلى مرتبة من مراتب القدسية في الإسلام.

وباستثناء الله سبحانه وتعالى وشخص النبي وسيرته وسنته فكل الأشياء والمظاهر الإسلامية الأخرى قابلة للمناقشة والتداول والجدل. فحياة الصحابة وأفكارهم وأخبارهم، واجتهادات الفقهاء والمؤمنين، والتراث الإسلامي وما جاء به الأولون والآخرون، وسيرة الحكام والخلفاء، جميعها قضايا دنيوية يحض الإسلام على أن تكون موضوعا للتفكير والمناقشة والتحليل والتفكيك في سبيل فهمها وإدراكها وتجديدها والإضافة عليها وقبولها ورفضها ضمن غائية إسلامية إيمانية نابعة من الإيمان بالإسلام وعقيدته ومقاصده الروحية السامية.

لقد ميز الإسلام منذ البداية بين حدود المقدس والدنيوي، بين الحقيقة الإلهية المطلقة والحقيقة النسبية الدنيوية. فكل ما يصدر عن الله ونبيه يأخذ طابعا قدسيا بالضرورة وكل ما يصدر عن البشر يحمل في ثناياه طابعا دنيويا. حتى أن الإسلام كان يميز في النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يصدر عنه وحيا وما كان يصدر عنه كبشر. فهو كبشر قد يخطئ ويصيب تعليما للبشر، ولكنه كوحي ونبي فهو معصوم عن الوهم والخطأ. ونجد هذه الحقيقة حقيقة التمييز ما بين الإلهي والبشري في قول الخليفة الراشدي أَبُو بَكْرٍ رَضِي اللَّه عنه عندما قال ينعى نبي الله محمد (ص) " أَمَّا بَعْدُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى(10). ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ). وفي هذا القول فصل في أن النبي عليه الصلاة والسلام بشر يموت وأن العبادة لله وحده الحيّ الذي لا يموت.

وتأخذ هذه الحقيقة مداها وتجلياتها في أبلغ الصور فيما يقرره فقهاء الإسلام بأن البشر غير معصومين عن الخطأ مهما بلغت بهم المراتب، وأن العصمة لا تكون إلا للأنبياء. لقد وقف فقهاء المسلمين وعلمائهم ضد أي محاولة لإضافة القدسية على كلام البشر باستثناء الكلام الذي صدر عن النبي عليه الصلاة والسلام. وفي هذا يقول الإمام مالك رحمه الذي " ليس بيننا إلا من ردّ ورُدّ عليه إلا صاحب هذا القبر " ويعني محمدا عليه أفضل السلام وله خالص التسليم(11). وهذا يعني أن القدسية والعصمة ليست لبشر بعد النبي الأكرم. وللإمام أبو حنيفة مواقف في هذا الشأن حيث يقول عندما سئل: هل هذا الذي تفتي به هو الحق الذي لا شك فيه؟ فأجاب الإمام بقوله المشهور: " والله لا أدري فلعلّه الباطل الذي لا شك فيه"، ثم قال هذا رأي أبو حنيفة وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بخير منه فهو أولى بالصواب ". وهذا يعني أيضا أن ما يقوله البشر ليس معصوما أو قدسيا يحظى بالمطلق. وها هو الإمام مالك يقول في هذا الخصوص أجمل القول: " أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي، فما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق فاتركوه". " ويستشهد الكواكبي ببعض الأمثلة من تاريخنا مستلا منها على حق الاجتهاد لكل مؤمن، فيذكر موقف الإمام مالك الذي قال فيه: "ما من أحد إلا وهو مأخوذ من كلامه، ومردود عليه، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم". ويستشهد الكواكبي بما قاله أبو حنيفة أنه كان إذا أفتى يقول: " هذا رأي النعمان بين ثابت يعني نفسه، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاء بأحسن منه فهو أولى بالصواب". ولم يكن الشافعي أقل من سابقيه مرونة في الأمور الاجتهادية، فروى الحاكم أن الشافعي رضي الله عنه كان يقول: "إذا رأيتم كلامي يخالف الحديث، فاعملوا بالحديث، واضربوا بكلامي الحائط" وأنه قال يوما للمازني: يا إبراهيم لا تقلدني فيما أقول، وانظر في ذلك لنفسك فإنه دين(12). ويروى عن الإمام الشافعي رحمه الله قوله المشهور الذي أصبح دستور التواضع العلمي في العالم الإسلامي وهو: قولي صحيح يحتمل الصواب وقولك صواب يحتمل الخطأ. ولا يفوت الإمام أحمد بن حنبل أن يعلن رسالة بلغت أقصى درجات السمو في مجال حرية القول وديمقراطية المعرفة حين يقول: " لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا تقلد الليث ولا الأوزاعي وخذ من حيث أخذوا (13). تؤكد هذه النصوص بأن الإسلام حدد منذ البداية مضامين المقدس وخص ذات الله بالعبادة وشخص النبي عليه الصلاة والسلام بالعصمة. أما فيما عدا ذلك فلا ينسحب عليه طابع المقدس الذي لا يناقش أو يعرض.

وفي هذه المعاني ما يدل على أن الإسلام فتح باب الاجتهاد والنقد والتحليل والتداول والبحث والتمحيص والردّ والقبول والرفض والتحليل والتركيب والتفكيك لكل مظاهر الحياة الوجود، فيما يقوله الفقهاء وفيما يقره العلماء، وفيما ينتجه البشر، إذ بعد النبي لا وصاية لبشر ولا حصانة أو عصمة أو قدسية لأي مظهر آخر من مظاهر الوجود البشري أو غيره. وهذا يعني أن الدنيوي في الإسلام يأخذ مداه ويتحرك بطاقته، وأن المقدس يحافظ على أمجاده في دائرة توازن حددها شرع الله وكتابه الكريم.

ولكن هذا التوازن والفصل بين المقدس والدنيوي في الإسلام فقد بريقه وتألقه مع حركة الزمن ودورة الأيام وقهر المصالح وتضارب الأيديولوجيات وسطوة الحكام. فاتسعت دائرة المقدس وتنامت مظاهره وزحفت جحافله لتحاصر معالم المجال الدنيوي الذي حدده الإسلام وأرساه وأكده في الرسالة النبوية. وفي إطار هذا الزحف "المقدس" ظهرت آلهة جديدة، وأنبياء جدد وفقهاء خلعوا على أنفسهم كل انطباعات القداسة والعصمة. ولم يقف هذا الزحف ليشمل الانطباعات والعقائد والأشخاص بل امتد ليشمل الأماكن والكهوف والمزارات التي أحيطت بطابع المقدس والمطلق. فأصبح حقل الوجود حقلا يضج بالمقدس ويضيق بكل إمكانية البحث والتقصي والاجتهاد. لأن ما يقع في دائرة القدسية يخرج من دائرة التداول والبحث والتقصي. فالمقدس كما نوهنا مرارا لا يقبل الجدل ولا يقبل الشك لأن المقدس يرتبط بالمطلق وينهض بالمنعة ويمتاز بالقوة ويفيض بالرهبة، إنه حقيقية علوية كلية ساميّة بالمطلق. والمطلقات القدسية لا تخضع للمناقشة والجدل.

2- زحف المقدس:

ينزع البشر في سلوكهم وفي أوجه نشاطهم إلى بناء حقل آمن يوفر لهم أعلى درجة من درجات الأمن الوجودي، ويتضمن هذا الأمن بناء مسافة فاصلة بين حدود الخطر وحدود السلام. ويلاحظ في هذا السياق أن المجال الأمني يتجه وبعفوية إنسانية نحو التزايد والاتساع. فالإنسان ومن أجل السلامة أحيانا يبتعد عن مجال الشبهات أو كل ما يضعه قاب قوسين أو أدنى من الخطر.

ومن هذا المنطلق تتسع دائرة المقدس في حقل الاعتقاد والممارسة الإنسانية. وهذا يعني أن حقل المقدس بدأ يتسع ويأخذ هالة أكبر مع تواتر الزمان واتساع المكان. ويتحدد هذا الاتجاه بأن المؤمنين ومن باب الإيمان المطلق بالرسالة والعقيدة بدؤوا يضفون طابع القدسية على مختلف المجالات التي أحاطت بالنبي عليه الصلاة والسلام، وبدأت هذه الدائرة تتسع لتشمل الصحابة رضي الله عنهم جميعا ومن ثم المحدثين والأئمة ورجال الدين، وامتدّ هذا التقديس ليشمل حقل القول والمعتقد والتفسير، ومن ثم تطاول ليشمل المكان والمعابد والأولياء الصالحين. ولم يقف زحف هذا المقدس عند هذا الحد بل امتد أيضا ليشمل الحكام والقادة والزعماء. وباختصار أصبح العالم تحت فعل هذه الدينامية المقدسة عالما مسحورا بالمقدسات والممنوعات والتحريم والتابو. وأصبح التداول والمناقشة والتحليل العقلي "مقدسا" بذاته أي أصبح عالما محاطا بالمنع والتحريم، لأن مجرد التفكير في هذا الكون يدفعنا إلى ارتكاب الخطيئة. وأدى هذا الفعل إلى تغييب العقلانية والاجتهاد والتفكير في عالم الإنسان المسلم. وشكل هذا المنع أو التابو أو المقدس منطلقا حيويا لمختلف مظاهر التخلف والانحراف بأشكاله الدينية والدنيوية في العالم الإسلامي.

وفي هذا الصدد يبين لنا حافظ الجمالي الكيفية التي تم فيها زحف المقدس الديني إلى ما يجاوره من معطيات ومظاهر للحياة والوجود فيقول " إن ظهور الدين الإسلامي، في ظرف تاريخي ولغوي واجتماعي معين، أشاع القداسة الخاصة به على ما حوله، فلبست لغة تلك الأيام وشعرها وعاداتها وتقاليدها حلة القداسة التي كانت في الأصل للدين. ومن هنا كان حرص العرب على لغتهم وتعابيرها وصور بلاغتها، وتشبيهاتها وتورياتها، حتى ليبدو لهم أن كل خروج عنها هو بمثابة مروق من الدين نفسه"(14).

ويقدم لنا حافظ الجمالي مثالا مقارنا واضحا لمثل هذه الوضعية التي ترتبط بهالة القداسة التي أضفاها الدين المسيحي على ما كان سائدا حوله من مفاهيم وأفكار وتصورات في العصور الوسطى. لقد أضفى الدين المسيحي على العقائد والأفكار الوثنية قداسته ولاسيما ما هو معروف عن نظرية بطليموس الفلكية القائلة بأن الأرض مركز الكون، لقد قدر لفكرة بطليموس هذه أن تأخذ مجراها ومشروعيتها خلسة في عقول الكهنة ورجال الدين، فنهلت هذه النظرية من قدسية العقيدة المسيحية، وترتب على ذلك محاكمة غاليلو وكوبرنيكوس، وذلك لأنهما خرجا عن قدسية الفلك البطليموسي وهو فلك وثني بطبيعته.

وعلى هذه الصورة أخذت اللغة العربية التي كانت سائدة في عهد الرسالة النبوية بأساليبها وتصوراتها وبنيتها وطابعها العام طابع القداسة من قدسية الدين الإسلامي نفسه ومن هنا بدأت تعابير هذه اللغة وأساليبها تتجمد في دائرة المقدس الذي لا يقبل التحويل أو التحوير.

فمشكلة المقدس الديني في أنه شكّل وما زال يشكّل مصدرا يضفي طابع القدسية على ما حوله من مظاهر الحياة والكون الذي يحيط بنا. فالمقدس الديني لا يقبل التداول أو النقد أو المعالجة ولا يمكنه أن يكون موضعا للشك والجدل والمناقشة.

وفي سياق الحديث عن واقع المقدس الإسلامي والتشويهات التي تعرض ويتعرض لها يرى هاشم صالح "أن المقدس الإسلامي قد استنفذ طاقته وفرّغ من معناه (…) لقد تحول إلى شكليات طقوسية وقوالب قسرية جف فيها نبض الإيمان. هذا اللهب الأولي، هذه الشرارة المقدسة التي أشعلها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في روابي مكة والحجاز. ماذا بقي منها الآن؟ كيف تحولت وتشوهت على أيدي الحركات الحالية حتى أصبحت غريبة عن مقاصدها الأولية؟ (…) كيف استهلكت من كثرة الاستخدام بحق وبدون حق، كيف هرمت وشاخت وأصبحت عالة على التاريخ، وهي التي كانت تشحن التاريخ وتدفع العرب نحو الفتوحات والأمجاد؟ كيف خارت القوى، وانحطت العزائم؟ كيف أصبحت الآيات القرآنية تسحب في هذا الاتجاه أو ذاك، لتأييد هذا الزعيم أو ذاك بحسب الحالة أو الحاجة؟ كيف دخلنا في معارك الفتاوى الحامية التي تقذف بعضها البعض كالرجم بالصواريخ؟ "(15).

وتحت ضغط هذا المقدس الجديد خبا تألق التفكير والنقد والاجتهاد في عصور الضعف والانحطاط حيث قضى المسلمون خمسة قرون تقريبا (ق14 – 16) سلبوا فيها شخصيتهم وإرادتهم وحرياتهم وحقوقهم الإسلامية، وأنكرت عليهم حرية التفكير وطمست في نفوسهم القدرة على الاجتهاد، وأغلقت عليه كل أبواب الحرية الفكرية والحوار، فخبت مع ذلك كل إمكانيات الحضارة وغابت شمس العرب بعد أن جعلت من العالم في ربيع من التوهج الحضاري الدائم، بفضل ما وصل إليه المسلمون من عظمة الحرية، وأصالة الحوار، ومناعة الديمقراطية، وبفضل ما وفره الإسلام للإنسان بتعاليمه السمحاء من عظمة الحقوق، وقدسية التكريم، فجاء الإنسان في أتون البوتقة الإسلامية، صانعا للحضارة، ومنجبا للعبقرية، وفاعلا في التاريخ وصانعا لحضاراته.

3- القرصنة باسم الدين:

يترتب علينا في البداية أن نميز ما نقصده بمفهوم "رجال الدين". يشمل هذا المفهوم " رجال الدين " مختلف فئات العاملين في مجال المعرفة والطقوس الدينية من فقهاء وأئمة وعلماء. وغني عن البيان أن هذه الطبقة الدينية – كحال أي طبقة أو فئة اجتماعية - تشمل فئات مختلفة ومتنوعة في مستوى المعرفة وفي مستوى الممارسة. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى وجود فئة واسعة جدا من رجال الدين الذين يمارسون الطقوسية الدينية الشعبية بأقل مستوى من التعليم والتحصيل العلمي والمعرفي. ومن المعروف أيضا أن قسما كبيرا من أفراد هذه الفئة الأخيرة يمارسون طقوسا دينية مغلوطة " والدين الإسلامي منها براء". وهي طقوس أشبه بالتنجيم والسحر والتخريف والضرب بالمندل.

ونحن في هذه الدراسة نعلن منذ البداية بأن رجال الدين الذين يوصفون بالسلبية هم من هذا النوع الذي يقع في دائرة الفئة غير المتعلمة أو الجاهلة أو المزيّفة أو هذه التي تمارس طقوسا منافية للدين الإسلامي وتعاليمه السمحاء. وإننا نعلن هنا تقديرنا إكبارنا لعلمائنا ومفكرينا وفقهائنا الذين يرفعون لواء هذا الدين بالعلم والحق والمحبة والتسامح. كما نعلن بأن إشاراتنا السلبية أحيانا هي إشارات محددة لبعض الفئات المحددة التي يقدر بأنها تمارس الطقوس الدينية من غير حكمة الدين ومقتضياته الروحية والعقلية.

لقد امتدّ زحف المقدس عبر الزمن ليشمل شريحة من رجال الدين فقهاء ودراويش ودعاة ومبشرين. وبدأ رجال الدين يأخذون أهمية أسطورية في بنية الثقافة العربية المعاصرة ويشكلون واحدا من أهم القطاعات القدسية في المجتمع وفي الثقافة. حيث بدأت قطاعات واسعة من هذه الفئة من الناس تخلع طابع القداسة على نفسها، وبدأت على هذا الأساس تمارس دور الوصاية على العقل والمعرفة عند عامة الناس وبسطائهم. ويكتسب هؤلاء طابع قدسيتهم من وضعية العمل في دائرة الطقوس الدينية والإشراف على هذه الطقوس (طقوس الموت والحياة والولادة والعبادة). وعلى أساس طبيعة العمل في دائرة المقدس تنتحل هذه الفئة من البشر طابع القدسية. ولقد ساد في كثير من المجتمعات العربية ولاسيما في أوساط البيئات الريفية الكادحة التمييز بين فئة الخاصة والعامة والمقصود طبعا بخاصة الناس فئة المشايخ الذين يمتلكون خصوصية دينية وثقافية يعتقدون أنها تميزهم كثيرا عن عامة الناس.

وفي هذا السياق يمكن عرض الصورة المختصرة التي يقدمها زيعور لشخصية رجل الدين في البيئة اللبنانية. يقدم زيعور وصفا وافيا لهذه الفئة ويتأسس هذا الوصف على منظومة من الممارسات الاجتماعية المتكلفة والمسطحة التي ترمي إلى ترسيخ الموقع الاجتماعي والديني للشيخ وبالتالي إعطاء الشيخ طابعا سحريا وقدسيا. ومنها أن رجل الدين هذا يظهر نفسه في هالة من الخصوصية التي ينفرد بها عن الناس مثل التفرد بلكنة لغوية معينة ولهجة محددة وطريقة سلوك متفردة والقصد منها التزويق والتكلف، ومنها أن يسبغ على نفسه الألقاب كأن يسمي نفسه العلامة الفاضل الشيخ فلان، أو صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ فلان، …الخ. والآن بدأ لقب الإمام يرتسم أمام عدد كبير من أسماء المشايخ هنا وهناك.

أما الصورة التي نقدمها حول هذه الشخصية في بعض المناطق في سوريا فهي أكثر إدهاشا وأغنى بتملقها وجهلها. فدعاة الفقه في الدين، يضفون على أنفسهم وآبائهم وأجدادهم صفة المقدس وطابع القدسية. حيث تنتشر ألقاب لمخاطبة هذه الفئة من دعاة الدين مثل: قُدْس الشيخ فلان، وروح المقدس فلان، والعلاّمة فلان. وكثير من العامة في المنطقة لا يتورعون بأن يقسموا أعظم الإيمان بالأرواح القدسية للمشايخ والأولياء والصالحين. وبالطبع استطاعت هذه الفئة من دعاة الدين في المنطقة نسج الأساطير والحكايات الدينية التي ينسبون فيها إلى أنفسهم وأمواتهم من آباء وأجداد كرامات ومعجزات لا تكون إلا للأنبياء. واستطاعت هذه الفئة عبر الزمن أيضا أن ترسخ هذه المفاهيم والتصورات الخاطئة في لاشعور الناس وفي وعيهم الباطن. وفي هذا السياق تأصلت في الوعي منظومة من الخرافات والأساطير الدينية والتيولوجية التي تحتقر العقل وتندد بكل أشكال العقلانية في الوجود. وبعبارة أخرى استطاعت هذه الفئة عبر أجيال من ممارسة الخرافة ونشر الأساطير والغيبيات أن يضعوا العقل في دائرة الاستلاب والاغتراب.

ومن أجل تقديم صورة أفضل يترتب علينا القول بأن ممارسة الكهنوتية الدينية هنا لا تتم عبر ما يسمى بالتحصيل العلمي والمعرفي فالأكثرية الساحقة من دعاة "المشيخة" يعانون من أمية مفرطة في مجالات الحياة المختلفة، وأكثرهم لم يدخل مدرسة ثانوية أو تخرج من جامعة. فالتقليد السائد في المنطقة هو أن الشيخ يكون بالوراثة، فهو يرث مهنته الدينية عن أجداده وآبائه كما يرث لون عينيه أو شعره. وحصاد رجل الدين في الغالب الأعم مجموعة من الأدعية والخرافات والحكايات والخزعبلات التي ما أنزل الله بها من سلطان. والخلاصة أن رجل الدين في المنطقة يحتل مكانة سامقة في مراتب القدسية ولذا فإن ما يقوله وما يفعله وما يصدر عنه يأخذ طابعا قدسيا وتلك هي مأساة العقل الكبرى.

وفي وصف هذه السيطرة المتنامية لرجال الدين في الحياة الثقافية العربية، يقول مصطفى دحماني- ونعتقد بأن مصطفى يريد أن يتحدث عن دعاة المشيخة-: " هناك سيطرة هائلة لرجال الدين الإسلامي (دعاة الدين) على المجتمعات العربية الإسلامية قديما وحديثا ولا أحد يسلم من عواقب الخروج عن النص الديني (كما يحددونه) أو يجرؤ على مخالفة رجال الدين أو حتى مناقشتهم بمعنى انه لا يمكن للفرد أن يفكر تفكيراً عقلياً منطقياً وعلمياً دون جواز المرور في الإطار المرجعي الديني (المرجعية الشعبية) (16).

وضمن السياق المقصود بوضعية فئة محددة من رجال الدين يقول علي زيعور " لم يؤمن كاهننا بالحرية وبأن قيمة الإنسان قد تكون خارج الطقسية، وقلّ لأن نلاحظ اتخاذه لمواقف تحررية إزاء مجتمعه كله، وهو لا يهتم بالجانب الاجتماعي والنضالي للدين، وكأنه لا يعرف أن الرسول عالمي الدعوة، وأن الإسلام شمولي الرسالة" (…) وما زال هذا الكاهن " يحافظ على وظيفة العراف (…) وما زال يحيا بامتصاص دور الشيخ أي الكبير السن ودور الحكيم والمتبصر والرئيس"(17).

4- القرصنة باسم المقدس:

يبين علي زيعور ولاسيما في بعض القطاعات الاجتماعية المحددة والجغرافية المحددة، أن رجل الدين، الذي أضاف لنفسه طابع القداسة، يعيش ويقتات على جهود غيره ولاسيما البسطاء والفلاحين والمؤمنين الذي يقدمون لرجال الدين خلاصة جهدهم وعملهم. يقول زيعور في هذا الخصوص " هذا الذي يقتات من تعب الناس هل هو جدير بقيادتهم؟ لا شك أنه قابل لأن يبيع ضميره وأقرب لأن يخضع لقانون العرض والطلب المعروف في دنيا الاقتصاد. ألن يكون علاجه بجعله يعمل؟ ففي المستشفيات العقلية، معروف جيدا نفع العلاج بالعمل والجهد المبذول وبممارسة مهنة ما، أو معاناة ما يدوية(18).

أما الصورة التي عرفتها بعض القطاعات الاجتماعية في سورية فهي أكثر إيلاما ومأساوية من هذه التي يقدمها زيعور. فعلى امتداد مئات القرى التي تتكون من البسطاء الذين يعملون في مجال الزراعة والكدح الإنساني الصعب نجد ما يندى له الجبين خجلا من ممارسات القرصنة باسم الدين وتحت غطائه. آلاف مؤلفة من القراصنة الذي يرتدون أثواب الدين والتدين يعيشون على آلام ضحاياهم من الريفيين البسطاء والمؤمنين. لقد روج رجال الدين في هذه المنطقة المعنية فكرة وممارسة تقتضي بأن يدفع الفلاحون زكاة (مبالغ من المال ما استطاعوا إليها سبيلا) وهذه الزكاة تذهب إلى جيوب الشيخ بعد قراءة الفاتحة والدعوات. فالزكاة فرض وواجب في كل حين وفي كل لحظة يمتلك فيها الفرد أي شيء يبدأ من رغيف الخبز حتى وجبة الطعام. والزكاة بهذه الصورة هي إتاوات تفرض باسم الدين. والرهيب في هذه القضية أن الشيخ ( المعني ) أو رجل الدين هو الذي يتقاضى مباشرة هذه الزكاة ( مع أنني أفضل تسميتها إتاوة أو ضريبة ) يبحث من مكان إلى مكان، بمناسبة ومن غير مناسبة، في مواسم الفرح وفي طقوس الحزن، في الأفراح والأتراح وفي كل لحظة على مدار الزمان والمكان، ليجمع الإتاوة أو هذه الزكاة التي ما أنزل الله بها من سلطان، والضحايا هم آلاف الفلاحين والفقراء والمسحوقين، الذين لا يكادون يجدون أود أنفسهم. وماذا يقدم الشيخ مقابل الزكاة أو الإتاوة المفروضة التي لا تقف عند حد من الحدود، فقانون الدفع ادفع ما تستطيع حبا بالله والمؤمنين، مقابل الزكاة هذه يقرأ الشيخ فاتحة ويبتهل ببعض الدعوات والشعوذات الخرافية. وبعدها ماذا يفعل يبث سموم الطائفية والعنصرية والكراهية بين صفوف الناس.

والسؤال هنا من هو هذا الشيخ؟ ما مستوى معرفته وثقافته؟ بكل بساطة أكثر من 90% منهم أميين وأغلبهم لم يتجاوز "القرتابة " أي حدود القراءة والكتابة. أما كيف يمتهن هذه المهنة فإن المشيخة هي بالوراثة فمن كان أبوه شيخا في مرحلة تاريخية سحيقة هو شيخ بفطرته وطبيعته، فهناك دماء زرقاء قدسية تجري في عروقه ودمائه.

ومن أجل توضيح هذه الصورة توجد هناك قرى من الشيوخ بكاملها أي أنه يمكنك أن تجد قرية كاملة يوجد بها مئات من رجال الدين الذي اكتسبوا هذه المهنة بالوراثة عن آبائهم وأجدادهم.

5- ضرورة الفصل بين المقدس والدنيوي:

وهذا يعني أن المنطلق الأساسي لتحرير العقل العربي وتأسيس النهضة العربية يكون في خطوتين أساسيتين هما: الفصل بين المقدس والدنيوي ومن ثم ترسيم الحدود بين الطرفين على أساس إعادة الاعتبار إلى الدنيوي الذي حدده الإسلام في البداية. وهذا يعني أنه يتوجب التأكيد على قدسية القرآن الكريم كتاب الله وشخص النبي (ص) وسيرته وسنته، وهذا يعني أن القدسية والعصمة يجب ألا تكون لغير لله وكتابه ونبيه. إذ أنه " يحق للمسلم المعاصر، بل وينبغي عليه ألا يعترف بقدسية أي نص في الإسلام إلا بالقرآن والسنة والحديث النبوي الشريف، وإن ما عداه على الرغم من أهميته وتقديرنا له لا يستحق صفة المعصومية والقدسية (...) فالعلوم على الرغم من عظمتها ليست إلا من صنع البشر، حتى ولو كان هؤلاء البشر هم الصحابة والأئمة والفقهاء أو رؤوس المذاهب الكبار. إن فضلهم علينا عظيم بدون شك، ولكن كلام الله فوقهم وفوق كلامهم فهو وحده المعصوم "(19).

وتأسيسا على هذه المنهجية فإن " الجانب المقدس في ثقافتنا هو النظرة الإسلامية إلى الأمور والأشياء سواء ما تعلق منها بالفرد أو الجماعة أو الكون أو العلاقة بين هذه الأشياء، وهو الشيء الذي يجب أن يتمتع بالثبات والاستقرار لأن فيه تكمن ذات الأمة وروحها"(20). وغير ذلك من عادات وقيم وممارسات فهي أمور تأخذ شأن دنيوي دينامي متحرك قابل للمعالجة والتجديد والاجتهاد. وهذا من شأنه أن يضمن ازدهار الحضارة ونمو التجديد والابتكار في ثقافتنا وحياتنا.

ومن هذه الأرضية يؤكد محمد نجيب عبد المولى على الضرورة التاريخية للفصل المنهجي بين المقدس بصورته الحقيقية وبين المظاهر الاجتماعية التي أُسبغت عليها خصائص القداسة. ومن هذا الموقع يؤكد أيضا على أهمية تدخل العقل الإنساني للتمييز بين العناصر القدسية والعناصر الدنيوية للحياة الثقافية العربية الإسلامية. وانطلاقا من ذلك كله يقول الكاتب " إن الخروج من الأزمة لن يكون تنكرا للمقدس بل سيكون بحثا عن المعقول فيه وقناعة بأن معقوليته متسترة لا بد من الكشف عنها. بذلك لا يكون المعقول خارج سجل المقدس بل هو مستتر في ثنايا الظاهر يأبى البروز إلا بفعل الذات العاقلة"(21). والباحث هنا يريد أن يقول بضرورة تحرير المقدس من الإضافات الأسطورية التي تخللته عبر التاريخ وإعادة الاعتبار التاريخي للمقدس الحقيقي وهذا يعني اكتشاف اللحظة العقلية في المقدس ذاته. وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى أعمال الكواكبي ومحمد عبدة والأفغاني والطهطاوي ورواد عصر النهضة العربية الذي حاولوا تحكيم العقل في المقدس وعقلنته ومن ثم ترويضه معرفيا في وقت ساد فيه الفكر الخرافي وهيمنت عقلية التواكل وانحسرت فعاليات العلم.

لقد كرس ابن رشد حياته العلمية انتصارا للعقل على قدسيات لا عقلية، وكان حريصا في ذلك على شموخ الحقيقية الدينية وسموها، وقد تأسس لديه أن سمو الحقيقة الدينية لا يمكنه بأي حال أن يتعارض مع دورة العقل، وفي سياق ذلك كله كان يؤكد بأن اعتماد العقل في فهم الدين هو الطريق الحقيقي نحو فهم الدين وتمثل قيمه. ولذلك وانتصارا لحكمة العقل كان يرى بأن التعارض بين العقل وظاهر النص يجب أن يتم تجاوزه لصالح العقل أو بما يقتضيه العقل وذلك تيمنا بمقولته الشهيرة بأن " الحق لا يضاد بالحق بل يعاضده ويشهد له". وتأسيسا على ذلك يمكن القول بأن العقلانية الرشدية كانت تتويجا للمقدس على أسس عقلية أو عقلنة للنص الديني، وهذا يقتضي تحرير المقدس من شطحات اللامعقول، وتحصينه ضد منظومة الخرافات والأوهام التي أحاطت به عبر التاريخ. وعقلنة المقدس وفقا لذلك تشكل اليوم المسار الحقيقي الذي يكفل للمقدس حالة الديمومة والاستمرار على أسس عقلية راسخة. " إن البحث عن مشروعية إعمال العقل في النص الديني كما في سائر المجالات الأخرى يبدو للوهلة الأولى مسألة نظرية تخص طبيعة المعرفة والأدوات المحققة لها، إلا أن المقصد العميق لابن رشد من كل ذلك هو تغيير طرق التفكير حسب العبارة الكانطية والتسليم بأمر واحد هو قدرة العقل على تناول القضايا النظرية بما في ذلك تلك التي تناولها النص الديني"(22).

6- رؤية إجمالية:

الفكر الإسلامي يتسم بطابع العقلانية في جوهره، وينطلق من أسس عقائدية تتسم بالوضوح في الفصل بين المقدس والدنيوي في الفصل بين الثابت والمتحول. ولكن الثقافة الإسلامية اليوم تعاني اليوم في بعض مظاهرها من غلبة التفكير اللاعقلاني الذي لا يستطيع الفصل بين الثابت والمتحول بين الجوهري والعرضي، وهذه النزعة اللاعقلانية، جاءت بتأثير عصر التخلف والظلام، حيث فرضتها قوى اجتماعية إقطاعية الجوهر متخلفة المضامين في كثير من أنحاء العالم الإسلامي(23).

وليس من قبيل المصادفة وحدها أن الإسلام قلل مطلقاته إلى ابعد مدى، إذا هو قورن بالأديان الأخرى، وترك ما عداها للعقل والعقل وحده، فجاءت بعض الرؤى المذهبية المختلفة (…) فأغنت المطلقات إلى ما لا نهاية ولم تستغن عن شيء قدر ما استغنت عن العقل وأسبابه(24).

رجال الدين في الغرب لا يقفون في ممارستهم الفكرية عند حدود النص الديني فحسب، بل يباشرون فعاليات علمية وفلسفية بالغة التنوع والخصوبة، فهم معنيون بمعرفة تيارات العلم الحديث ومناقشة موضوعاته بمنهجية علمية قدر الإمكان لنتائجه. بل إن بعض رجال الدين هناك يسهمون إسهاما مباشراً في الكشوف العلمية الجديدة، ويجمعون بين صفتي رجل الدين ورجل العلم والمعرفة العلمية. وعلى خلاف هذا فإن كثيرا من رجال الدين (من غير أهل العلم والثقافة حصرا) في مجتمعاتنا يقفون عند حدود العموميات ومعلوماتهم العلمية سطحية وعامة قد لا تمكنهم معالجة المشكلات الحيوية التي تطرحها المجتمعات المعاصرة في مستوى العلم والتقنية على مستوى العصر. فمازال كثير من رجال الدين لدينا يناقشون بعض البديهيات والمسلمات البسيطة أو المبادئ الأساسية للتفكير العلمي. وبالنتيجة فإن العلاقة بين الدين والعلم تختلف من مجتمع تسوده النظرة العلمية إلى مجتمع ما يزال القيم التقليدية هي المسيطرة. المشكلة في الغرب هي: كيف يجد الإيمان الديني له مكاناً في مجتمع يحكمه التفكير العلمي وتشكل التقنية أسلوب حياته. أما في المجتمع الإسلامي فالمسألة مختلفة وهي كيف يستطيع العلم تبرير نفسه في مجتمع تسوده مظاهر التخلف الحضاري والاجتماعي؟

ونختتم بالقول إن النص المقدس الذي لا يفكك تاريخيا سيبقى منتجًا للأصنام. ونعني بالتفكيك إخضاع النص المقدس للتحليل النقدي وفك الارتباط بينه وبين المقدس في ضوء المعطيات الموضوعية، لأن المقدس الذي لا يخضع للنقد يتحول إلى طاقة مدمرة للعقل والعقلانية الإنسانية، فالمقدس المزيف الذي نضفيه على الأشخاص والعادات والتقاليد والنصوص لغيات سياسية سلطوية يشكل خطرا على العقل كما على الإنسان والإنسانية. ومن المؤكد أن هذا المقدس المفتعل يحول البشر إلى أصنام يحطم بعضها بعضا، وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار بأن المقدس السياسي صناعة بطش وفتك وتدمير لأن الاستبداد السياسي والديني لا يستطيعان العيش دون مقدسات صنمية توظيف في ترويض الناس على الإذعان والخضوع لطغاتهم المتوحشين باسم المقدس وتحت رايته. وأخيرا لا بد من تكسير صنمية المقدس بحمولته السياسية وإعادة الاعتبار إلى العقل والعقلانية التي توظف في استكشاف الكون ومعرفة الله بطريق عقلانية إنسانية متحررة من قيود الصنمية المقدسة، وهو المنهج الفكري الفلسفي الذي يحرر الإنسان من عبودية الأوثان، أوثان الطغاة والجلادين والظلاّم.

***

علي أسعد وطفة

كلية التربية – جامعة الكويت

..................

مراجع الدراسة وهوامشها:

(1) لسان العرب، الجزء السادس ص 168.

(2) كمال دسوقي، ذخيرة علوم النفس، المجلد 2، الأهرام، القاهرة 1988.

(3) معن زيادة، الموسوعة الفلسفية العربية، المرجع السابق، ص 773،774.

(4) رفعة الجادرجي، العمارة المقدّسة، المستقبل العربي، العدد 251، يناير/كانون الثاني، 2000، صص (30-39)، ص 37.

(5) رفعة الجادرجي، العمارة المقدّسة، المرجع السابق، ص 37.

(6) محمد الجوّة، الحقيقة المقدّسة، المرجع السابق، ص 5.

(7) -Petit Robert Dictionnaire français sur C.D.

(8)- Madeleine Grawitz, Lexique des sciences sociales , Dalloz , Paris , 1983.

(9) محمد خاتمي، الدين في العالم المعاصر، قضايا إسلامية معاصرة، العددان 16/17، ديسمبر، 2001، (صص 120-140) ص134.

(10) صحيح بخاري الحديث رقم 1165.

(11) إبراهيم مدكور & عدنان الخطيب: حقوق الإنسان في الإسلام، دار طلاس، دمشق، 1992، ص 17.

(12)محمد إبراهيم المنوفي، نحو فلسفة تربوية لمواجهة ظاهرة الاستبداد السياسي، دراسات تربوية، المجلد العاشر، عالم الكتب، القاهرة، 1995.

(13) محمد عبد العزيز أبو سخيلة: حقوق الإنسان، مرجع سابق، ص 238.

(14) حافظ الجمالي، الثابت والمتحول في العقل العربي، المعرفة السورية، السنة 20، عدد 236، تشرين أول / أكتوبر، 1981، (صص 8-35) ص 11.

(15) هاشم صالح، الثقافة العربية في مواجهة الثقافة الغربية والتحديات، الوحدة، عدد 101 / 102، فبراير / مارس 1993، (صص 14-29) ص 25.

(16) مصطفى دحماني: فضح الزمن الأصولي: قراءة تحليلية نقدية لبعض مفاهيم الحركة الإسلامية المعاصرة. دراسات عربية عددم7/8 أيار حزيران 1994، ص 54.

(17) علي زيعور، التحليل النفسي للذات العربية: أنماطها السلوكية والأسطورية، دار الطليعة، بيروت 1987، ص 196.

(18) علي زيعور، التحليل النفسي للذات العربية: المرجع السابق، ص 198.

(19) هاشم صالح، الثقافة العربية في مواجهة الثقافة الغربية والتحديات، الوحدة، عدد 101 / 102، فبراير / مارس 1993، (صص 14-29) ص 18.

(20) تركي الحمد، عن الإنسان أتحدث: تأملات في الفعل الحضاري، دار المنتخب العربي، بيروت، 1997، ص216.

(21) محمد نجيب عبد المولى، العقلنة فعل تنويري في الفكر العربي الإسلامي، الوحدة، السنة السابعة، العدد 81، يونيو/ حزيران 1991، صص 54-59، ص 55.

(22) محمد نجيب عبد المولى، العقلنة فعل تنويري في الفكر العربي مرجع سابق، ص 55.

(23) حافظ الجمالي: الثابت والمتحول في العقل العربي، المعرفة السورية، السنة 20، عدد 236، تشرين أول / أكتوبر، 1981، (صص 8-35) ص 29.

(24) حافظ الجمالي: الثابت والمتحول في العقل العربي المرجع السابق، ص 30.

مقدمة: لأسباب وعوامل سياسية ومجتمعية عديدة، لم تتمكن المجتمعات العربية من التعامل مع التنوع المذهبي الذي تعيشه على نحو ايجابي. بحيث أن أغلب المجتمعات العربية، التي تعيش حقائق التنوع والتعدد، تعاني من مشكلة حقيقية تتجسد في عدم قدرة هذا المجتمع من التعامل على نحو إيجابي مع حقائق التعدد التي تحتضنها. وفي تقديرنا أن العوامل الأساسية التي تنتج هذه الظاهرة أهمها الآتي:

1. طبيعة الأنظمة السياسية السائدة في أغلب دول المنطقة العربية.لأن أغلب هذه الأنظمة لا تعترف إلا برأيها وأيدلوجيتها، وكل رأي مختلف أو أيدلوجية مغايرة، فإن الموقف الأساسي منها هو الخصومة والتهميش وممارسة التمييز ضد أهلها.

2. الرؤية الدينية المتطرفة والتي تتعامل مع ذاتها، بوصفها هي القابضة على الحق والحقيقة، ودونها من الرؤى الدينية تتهم في شرعيتها ويطلق عليها العديد من الأوصاف ومن أبرزها الهرطقة الدينية، وبالتالي فان أصحاب هذه الرؤية الدينية مآلها الإبعاد وممارسة الاستثناء معها في أغلب جوانب ومجالات الحياة.

3. طبيعة الثقافة السياسية السائدة في المنطقة العربية، وهي ثقافة في أغلب جوانبها، معادية لكل حقائق التعدد والتنوع. وبالتالي فإن طبيعة التكوين الثقافي والسياسي لأغلب أبناء النخبة السياسية، لا ترى خيرا في التعدد والتنوع، وتتعامل مع بعض حقائقه ومتطلباته بوصفها مناقضة للوحدة الاجتماعية والوطنية. وعليه فإن المطلوب هو التعامل مع هذه الحقائق بوصفها حقائق مضادة للمشروع الأيدلوجي أو السياسي الذي تحمله النخب السياسية السائدة. ولا فرق جوهري بينها على هذا الصعيد، سواء كانت هذه النخب تتبنى الرؤية الدينية أو تتبنى الرؤية القومية. فكل الأنظمة السياسية ذات الصبغة الدينية، سقطت في امتحان التعددية، ولم تتعامل مع حقائق التنوع في مجتمعها على نحو ايجابي.

كما أن الأنظمة القومية - التقدمية سقطت في ذات الامتحان، ولم تتمكن من بناء نموذج إيجابي في طريقة التعامل مع حقائق التنوع في مجتمعها. أنظمة سياسية مارست الطائفية والتمييز الطائفي، على خلفية مذهبية متطرفة أو معادية لكل حقائق التعدد والتنوع في مجتمعها. وأنظمة سياسية أخرى مارست التمييز الطائفي على خلفية احتكار السلطة والثروة. وعلى ضوء هذا الاحتكار هي تمارس عملية الطرد لبعض مكونات مجتمعها. ولعل من أبرز مبررات الطرد الانتماء إلى مذهب أو مدرسة فقهية أو سياسية تشكل خطرا على أمن البلد واستقراره السياسي. وعلى ضوء هذه الحقائق، لم يتمكن العرب في أغلب دولهم، من بناء نموذج حضاري في طريقة التعامل مع حقائق التعدد المذهبي الموجودة في المجتمعات العربية.

والإخفاق المتراكم في طريقة التعامل مع حقائق التعدد المذهبي، أنتج مشكلة سياسية عميقة في الاجتماع العربي المعاصر يمكن تسميتها بالمشكلة الطائفية.

ولو تأملنا في تجربة العرب الشيعة في أغلب دولهم العربية لوجدنا أن هذا المكون يعاني من مشكلة التمييز الطائفي الذي يمارس عليه لاعتبارات سياسية تتعلق بطبيعة التكوين السياسي للدولة أو من مقتضيات الاستبداد والاستفراد والاستئثار بالسلطة والثروة.

وعليه فإن العرب الشيعة في أغلب دولهم العربية المعاصرة، يتم التعامل معهم بوصفهم مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة.

وإن جل ما يتطلعون إليه على هذا الصعيد هو مساواتهم مع بقية المواطنين، ورفع كل أشكال التمييز الطائفي عن واقعهم ومجتمعهم. وهذا الواقع الطائفي متعدد الوجوه والأشكال، يفرض على كل من يدرس واقع العرب الشيعة من الاقتراب من تحليل ونقد الواقع الطائفي في المنطقة العربية.

وانطلاقا من هذا سنعمل على مقاربة هذا الموضوع من خلال العناوين التالية.

في نقد التحليل الطائفي:

تكثر في أزمنة انفجار الهويات الفرعية، أي هويات ما قبل المواطنة الجامعة والدولة الحديثة، الأحكام الكاسحة على هذه الهويات الفرعية وكأنها حالة ثقافية وسياسية واحدة ومتحدة.. فالهويات الفرعية ليست على المستويين الثقافي والسياسي، رأيا واحدا، وموقفا واحدا، وإنما هي كأي بيئة اجتماعية، تتحد في بعض العناوين، وتختلف في عناوين أخرى.. وهذه هي الحقيقة الوحيدة في داخل كل هوية فرعية موجودة في أي بيئة اجتماعية..

والتعامل مع أهل هذه الهويات الفرعية، وكأنها حزب سياسي أو مجموعة ثقافية منسجمة وتستهدف أهداف وغايات مشتركة، يشكل مجافاة صارخة للواقع من جهة، ومن جهة ثانية، يساهم في تأجيج التوترات بين جميع المكونات وأهل الهويات الفرعية..

والأدهى من ذلك، والذي يثير الكثير من الغرابة والاستهجان في بعض الأحيان، حينما نحلل الأحداث والتطورات السياسية والاجتماعية انطلاقا من وحدة الماهية والرأي والموقف لمجتمعات الهويات الفرعية.. لأن هذه التحليلات المستندة على الوحدة السياسية للطوائف والقبائل والعشائر وكل هوية فرعية أخرى، تتعامل مع هذه الوجودات الاجتماعية بسطحية، وبتجاهل لحقيقة تعدد الخيارات الثقافية والسياسية لكل المجموعات البشرية. لذلك فإن نتائج التحليل في أغلبها، تزيد من الهواجس، وتمعن في التقسيم العمودي والأفقي للمجتمع، وتعيد كل أعباء التاريخ وأحداثه إلى اللحظة الراهنة مع بهارات جديدة، تزيد من الإحن والأحقاد ومسوغات الفرقة والتشظي بين أهل الوطن الواحد..

لذلك فإننا نعتقد أن التفسير الطائفي أو الطوائفي للأحداث، هو تفسير لا يتمكن من استيعاب كل جوانب الحدث ومتوالياته، كما أنه لا يوصلنا إلى قراءة عميقة ودقيقة لكل الأحداث والتطورات.. صحيح أن العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه يشهد اليوم، عملية استقطاب طائفي ومذهبي حاد، وتأتي الأحداث السياسية والتطورات الأمنية في أكثر من بلد عربي وإسلامي، لتغذي عملية الاستقطاب، وتزيدها حدة واشتعالا وعمقا.. ولكن لا يمكن الاستسلام لمقتضيات الاستقطاب الطائفي الحاد، ونخضع كل أدواتنا الثقافية والعلمية والتحليلية إلى سياقها التاريخي والاجتماعي، لأن هذا الخضوع يدخل المنطقة العربية برمتها في أتون حروب طائفية - عبثية، لا أفق لها إلا دمار الجميع، والقضاء على كل أسس وموجبات الاستقرار السياسي والاجتماعي في كل بلدان المنطقة..

لذلك نحن نحذر من الاستسهال في استخدام المنطق الطائفي والمذهبي، في النظر إلى أحداث المنطقة وتطوراته المتعددة.. ووجود طرف مذهبي أو طائفي له قناعاته الفكرية والسياسية لا يبرر لأي أحد إطلاق نعوتات أو أحكام قيمة كاسحة على جميع من ينتمون إلى الإطار المذهبي والطائفي..

وبلغة أكثر شفافية وصراحة، إن اختلاف دول المنطقة مع دول وأطراف شيعية في المنطقة، ينبغي أن لا يدفع هذه الأطراف إلى إطلاق أحكام أو أوصاف بحق الشيعة في كل مناطقهم وبلدانهم.. وإن غض النظر أو التساهل مع المواد والبرامج الإعلامية والدينية، والتي تطلق أحكاما قاسية ضد عموم العرب الشيعة، ينذر بمخاطر ينبغي تلافيها، بعدم التعميم، وإنهاء الخطابات الطائفية التي تتعامل مع العرب الشيعة بوصفهم عدو الأمة، وإن فيهم ما فيهم على المستويات العقدية والأخلاقية والاجتماعية..

إننا ومن موقع حرصنا على أوطاننا ومجتمعاتنا، نرفض هذه الخطابات وهذا السلوك، وندعو عقلاء الأمة من جميع الأطراف إلى الانتباه إلى مخاطر هذا التوجه على الأمن والاستقرار في كل دول المنطقة.. فالعرب الشيعة في منطقة الخليج، هم جزء أصيل من أوطانهم، وبذلوا الكثير عبر التاريخ من التضحيات في سبيل عزة أوطانهم، ويرفضون كل نزعات فحص الدم مع كل حدث سياسي يجري في المنطقة.. كما يرفضون إطلاق نعوتات وأوصاف سيئة بحق مذهبهم وقناعاتهم المذهبية.. والأوطان لا تبنى إلا بعلاقة إيجابية بين جميع أطرافه ومكوناته..

وبناء العلاقة الإيجابية بين جميع الأطراف، هي مسؤولية الجميع.. ولكن من الضروري القول في هذا السياق: ضرورة العمل على تحييد المكونات الوطنية من حالة الاستقطاب الطائفي التي تشهدها المنطقة.. وعملية التحييد تعني:

1. رفض التحليل الطائفي للأحداث السياسية، وعدم التعامل مع هذه المكونات، وكأنها على رأي واحد في كل مسائل السياسة وشؤون الحياة.. فهم مجتمع كبقية المجتمعات، فهم متعددون ومتنوعون على مستوى قناعاتهم الفكرية وخياراتهم السياسية والثقافية..

2. ثمة علاقة جدلية بين الانتماء الوطني والانتماء المذهبي أو الديني أو القومي..

وطبيعة الخيارات السياسية والثقافية والاجتماعية، هي التي تحدد إلى حد كبير طبيعة العلاقة بين الانتماء الوطني والانتماء المذهبي والديني والقومي. فكل إنسان بصرف النظر عن نوعية انتماءه، يعتز بوطنه ويدافع عن مكتسباته، ويسعى لتحسين واقع حياته ومعيشته فيه (أي في الوطن) كما أن كل إنسان يعتز بقناعاته الدينية والمذهبية، ولا يرون ثمة تناقضا بين الاعتزاز بالانتماء الوطني والاعتزاز بالانتماء الآخر.. لذلك ثمة تكاملا واقعيا وحقيقيا بين دوائر الانتماء التي يعيشها الإنسان في الوجود الاجتماعي والوطني..

ولا مقايضة بين هذه الانتماءات.. لأن كل دائرة من دوائر الانتماء، تلبي حاجة أصيلة من حاجات الإنسان المادية والمعنوية..

فالمطلوب ليس طرد الناس من انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو القومية، بدعوى الانتماء الوطني أو العكس، أي طرد الناس من انتماءهم الوطني بدعوى الانتماء الديني أو المذهبي أو القومي.. فالمطلوب هو بناء صيغة توافقية وتكاملية بين هذه الانتماءات، بحيث يعتز بهما جميعا، ويفي بمتطلبات الانتماء إليهما..

فالانتماء الوطني انتماء أصيل ونهائي، ولا يمكن تعويضه بأي انتماء، كما أن الانتماء الآخر هو انتماء أصيل وليس بديلا عن دوائر الانتماء الأخرى.. والأوطان جميعا لا تبنى على الانتماء الواحد والبسيط، وإنما تبنى على مجموعة من دوائر الانتماء المتداخلة والمتكاملة في آن.. تبدأ بالانتماء إلى أسرة وعائلة مرورا بالانتماء إلى وطن ودين ومذهب وتنتهي إلى الانتماء الإنساني.. فالناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق..

3. على المستوى الوطني ندعو مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني إلى تفعيل دوره وتطوير مبادراته في سياق الحوار بين تعبيرات المجتمع السعودي، في لحظة عصيبة على الجميع، حيث الاستقطابات الطائفية والسياسة الحادة..

فتفعيل الحوار، والقيام بمبادرات جديدة ونوعية في هذا السياق، يساهم في تقديرنا في الحد من غلواء التطرف ونزعة الاستقطاب الطائفي، التي تنعكس بشكل أو بآخر على مجتمعنا..

فالحوار هو سبيل جميع المكونات للحفاظ على مجتمعهم وسلامة وطنهم.. إننا في الوقت الذي نعبر عن تضامننا مع كل الشعوب المطالبة بحريتها وإصلاح أوضاعها، نرفض أن نتحمل مسؤولية أعمال غيرنا وخياراتهم السياسية والثقافية..

تفكيك الخطر الطائفي:

في زمن الاصطفافات الطائفية والمذهبية الحادة، وفي زمن التراشق والتلاسن والحروب المفتوحة بين الجماعات البشرية، التي تشكلت من خلال انتماءها التاريخي.. في هذا الزمن المليء بالأحقاد والإحن، يتم تسويق النظرات والمواقف النمطية، التي تعمم الرأي والموقف على الجميع، دون الالتفاف إلى مسألة التباينات والفروقات والخصوصيات بين أفراد كل مجموعة بشرية..

ولعل أهم ميزات القراءات والمواقف النمطية على الآخرين، أنها تطمس بحالة قسرية المشتركات ومساحات التوافق والتداخل، ويتم التعامل مع الآخر بوصفه آخرا بالمطلق.. والآخر بالمطلق في الدائرة الإسلامية والإنسانية، قد يكون نادرا بندرة الكبريت الأحمر.. لأن مستوى التداخل الثقافي والإنساني بين البشر أصبح عميقا ويوميا، بحيث أن بعض ما لدينا ونعتبره من مختصاتنا، هو في حقيقة الأمر قد يكون من الآخر الذي نمارس بحقه فعل النبذ والطرد والاستئصال.. وهذه المقولة تنطبق على جميع الأطراف، فبعض ما لدى كل طرف هو من الطرف الآخر.. وهذا بطبيعة الحال، لا يعيب أحدا، ولا يفتئت على أحد، وإنما هو من طبائع الأمور والحياة الإنسانية المركبة والمتداخلة في كل دوائر الوجود الإنساني.

وبالتالي فإن الرؤية النمطية التي تطلق آراء ومواقف بالجملة على المختلف والمغاير لا تنسجم وحقائق الأمور.. لذلك ثمة قصور حقيقي تعانيه النزعات النمطية في إدراك جوهر المشاكل والأمور العالقة بين مكونات اجتماعية متعددة ومتنوعة.. لأن هذه النزعات بطبعها نزعات اختزالية، تعتني بتسويق التباين والتشظي والتذرر، وتعمل على بناء الحواجز النفسية والعملية بين المختلفين تحول دون التلاقي والتفاهم وتوسيع المشتركات.. فكل نزعة نمطية في أي دائرة من دوائر الاختلاف في الوجود الإنساني، هي تعمل على طمس المشتركات والتوافقات سواء التاريخية أو الراهنة، وتستدعي وتضخم كل التباينات والفروقات مهما كان حجمها أو دورها الفعلي في إيجاد حالة التباين سواء في الرأي أو الموقف.

لذلك فإن الخطوة الأولى في مشروع تجسير العلاقة بين المكونات المذهبية في الأمة، هي في تجاوز كل مقتضيات الرؤية النمطية، لأنها رؤية تؤبد الأحقاد والفروقات، وتسوغ لجميع الأطراف ممارسة الفرقة وتنمية التباينات الأفقية والعمودية..

وكسر الآراء والمواقف النمطية والثابتة تجاه بعضنا البعض يتطلب الالتفات إلى النقاط التالية:

1. إن المكونات الاجتماعية والمذهبية، ليست حالة جامدة، ثابتة، وإنما هي مكونات تعيش الصيرورة الإنسانية، وتكثر فيها الآراء والقناعات المختلفة، وثمة مسارات ثقافية وسياسية عديدة تجري في فضائها الاجتماعي.. لذلك لا يصح التعامل مع واقع هذه المكونات بوصفها مكونات غير قابلة للتطور والتحول سواء على المستوى الثقافي أو السياسي.. وهذا الكلام ينطبق على جميع المكونات.. فنحن لا نتحدث عن أفراد، وإنما عن كتلة بشرية ذات خصوصيات ثقافية واجتماعية محددة، إلا أنها كتلة ليست متجانسة في كل شيء.. وليست شبيهة إلى نظام الحزب الواحد.. وإنما كأي كتلة اجتماعية تتشكل من روافد اقتصادية وثقافية وسياسية متنوعة.. وبالتالي فإن كسر المنظار النمطي لكل الملفات، هو الذي يحرر الجميع من الحمولات التاريخية السلبية، التي يحملها كل طرف عن الطرف الآخر.. فنحن جميعا لسنا مسؤولين عن أحداث التاريخ والحقبة الماضية، والباري عز وجل سيحاسبنا عن راهننا، لأننا نتحمل مسؤولية مباشرة فيه.. يقول تبارك وتعالى (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة، فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)[1]، وقال تعالى (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون، وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزي كل نفس بما كسبت)[2].

فـ "معظم البناءات الفكرية التي يبنيها كل من طرفي السنة والشيعة عن بعضهم بعضا يمثل صورا مخيالية لا تجد لها على أرض الواقع أي أساس حقيقي.. وهذا يعود إلى أزمة متأصلة في الانتماء والهوية يعاني منها كل من الطرفين.. (لا أحد يعيش قلقا طائفيا سوى من يجد ذاته في طائفة أو يحصر انتماءه وشعوره بها) من جهة، وإلى أزمة حداثية ما زال معظم شعوب المشرق العربي يرفض الإقرار بها من جهة ثانية.. وهو الأمر الذي يؤدي إلى أن بناء الصور الطائفية لا يتم وفق الاستناد إلى حقائق ما، بل وفق الشروط التأزمية المتحكمة بالبنى الذهنية المخيالية المتوارثة جميعا لهما.. وهذا هو سر أن السنة والشيعة حينما يتصارعون، كما هو جار حاليا، يعيدون لا رسم وجودهم فحسب، بل كذلك إعادة اختراع صراعات ينسبونها إلى التاريخ: سواء في سبيل امتلاكه، أو لدعم صراعات الحاضر بواسطة ذاكرات ميثولوجية مخترعة". [3]

2. لا توجد على المستوى الواقعي حلول سحرية لمعالجة مشكلة التوتر الطائفي والمذهبي، الذي بدأ يجتاح المنطقة العربية والإسلامية.. ولكن ثمة خطوات ضرورية، تساهم في ضبط التوترات الطائفية، وإدارة التنوعات المذهبية بطريقة إيجابية، لا تدمر الأوطان والمجتمعات.. ومن هذه الخطوات هو العمل على إعلاء قيمة أخرى مشتركة تنظم العلاقة، وتكون هي مصدر الحقوق والواجبات.. وهذه القيمة هي قيمة (المواطنة) بكل ما فيها من واجبات ومسؤوليات وحقوق.. فكل المجتمعات الإنسانية التي كانت تعيش حالة تنوع ديني أم مذهبي أم أثني، لم تتمكن من إدارة هذا التنوع على نحو إيجابي إلا بالإعلاء من قيمة المواطنة، بوصفها هي العنوان العريض الذي يجمع الجميع بكل تلاوينهم الدينية والمذهبية.. وأحسب أنه لا خيار حقيقي أمام المسلمين جميعا لضبط نزاعاتهم المذهبية، إلا بالمواطنة الجامعة، التي تضمن حقوق الجميع، وتصون خصوصيات الجميع، دون الإضرار بالحياة المشتركة في مختلف دوائر الحياة..

3. ثمة ضرورات وطنية وقومية ودينية في زمن الفتن الطائفية، أن يرتفع صوت المطالبين بوأد الفتن الطائفية، والساعين صوب خلق حالة تفاهم عميق بين المسلمين بمختلف مدارسهم الفقهية والمذهبية.. فلا يصح أن تبقى الساحة الإسلامية أسيرة الصوت المتطرف والداعي إلى التأجيج وإحياء الخلافات المذهبية.. لأن هذه الأصوات المتطرفة، هي التي توفر باستمرار مبررات الاحتراب والاقتتال الطائفي..

بينما في الواقع الإسلامي ثمة أصوات كثيرة، تدعو إلى الاعتدال والوسطية وتحارب كل أشكال الاحتراب بين المسلمين، ولها دورها المشهود في وأد الكثير من الفتن.. إن هذه الشخصيات ولضرورات ملحة وطنية ودينية، معنية اليوم بتزخيم عملها الوحدوي والتفاهمي والتقريبي، كما أنها معنية برفع الصوت ضد كل الممارسات الطائفية وأشكال الاحتراب المذهبي..

إن تراجع الأصوات الإسلامية المعتدلة والوسطية في هذه الحقبة الحساسة، التي تعيشها الأمة الإسلامية، هو الذي يفسح المجال، لكي يرتفع الصوت المتطرف، الذي يغذي الأحقاد بين المسلمين..

لذلك ومن أجل حقن دماء المسلمين، ومن أجل منع الحروب العبثية بين المسلمين، ثمة حاجة قصوى لكي يتبوأ خطاب الاعتدال الإسلامي موقعه اللائق في توجيه العالم الإسلامي، وبناء حقائق التفاهم والوحدة في واقع المجتمعات الإسلامية المعاصرة..

القابلية على الطائفية:

في سياق الجهد الفكري والمعرفي الذي بذله المفكر الجزائري مالك بن نبي، على فحص وتحليل ظاهرة الاستعمار، ولقد أبدع بن نبي حينما صاغ مفردة و مفهوم (القابلية على الاستعمار). وإن هذه القابلية هي التي تهيأ الأرضية والمناخ السياسي والاجتماعي للقبول الفعلي بالحركة الاستعمارية. وإنه لا يمكن مواجهة الاستعمار مواجهة فعلية وحقيقية بدون إنهاء حالة القابلية للاستعمار في نفوس وعقول الناس. ولقد اعتبر هذا المفهوم مثابة المفتاح السياسي لفهم الكثير من الظواهر والممارسات التي رافقت الاستعمار في العديد من البلاد العربية والإسلامية.

وانطلاقا من مضمون هذا المفهوم الذي صاغه بن نبي، نتمكن من فهم العديد من الظواهر التاريخية والاجتماعية والسياسية في البلدان العربية والإسلامية. ولو تأملنا في كل الظواهر السياسية التي سادت في المنطقة العربية نتمكن من فهمها بشكل دقيق من خلال العدة النظرية والمفهومية التي صاغها بن نبي حين الحديث عن القابلية على الاستعمار. بحيث أضحت هذه العدة النظرية بمثابة خريطة الطريقة لفهم العديد من الظواهر السياسية والاجتماعية في الفضائين العربي والإسلامي.

وفي سياق ابتلاء المنطقة العربية والإسلامية اليوم بظاهرة الطائفية وقدرة هذه الظاهرة الخطيرة على تمزيق كل المجتمعات والشعوب، لن نتمكن من دحر خطر هذه الظاهرة أو الحد من غلوائها من دون العمل على تفكيك حالة القابلية الموجودة في النفوس والعقول للانخراط في الفعل والممارسة الطائفية. ولا يمكن على المستوى الواقعي من مواجهة الطائفية بكل صورها وأشكالها، إلا بإنهاء وتفكيك ظاهرة القابلية إليها والخضوع إلى مقتضياتها. ولو تعمقنا في ظاهرة الممارسات الطائفية، لوجدنا أن أكثر المتورطين بهذه الممارسات يحملون القابلية النفسية والثقافية للانخراط في كل الممارسات الطائفية. وإن هذه الممارسات لن يتمكن أحد من إنهائها إلا بتفكيك ظاهرة القابلية النفسية والثقافية للانخراط في السلوك والممارسات الطائفية.

ولكي تتضح كل أبعاد هذه القابلية، سنحاول أن نوضح هذه الأبعاد من خلال النقاط التالية:

1. واهم من يعتقد أنه يدافع عن حقوقه وذاته الاجتماعية حينما ينخرط في الفعل والممارسة الطائفية. لأن الخضوع للفعل الطائفي هو أحد مصادر تضييع الحقوق. ومن ينخرط في الممارسة الطائفية بدعوى الدفاع عن الذات وحقوقها، هو يوفر المناخ المؤاتي لإنهاء أو تدمير كل خطوط الدفاع عن الذات وحقوقها ومصالحها. فالطائفية مرض خطير في كل أحوالها وظروفها، ولا يمكن أن تدافع عن مجتمع بإسقاطه في مرض الطائفية. فالأمراض لا تدافع عن الحقوق والمصالح.

لذلك نهيب بكل الأفراد والمجتمعات الذين يطمحون إلى الدفاع عن حقوقهم ومصالحهم، لعدم الوقوع في رذيلة الطائفية. لأن هذه الرذيلة تدمر كل ممكنات الانعتاق من كل هذه الأمراض التي تدمر كل المناخ الصحي الذي يحفظ الحقوق والمصالح للجميع. ومن يعتقد أنه حينما يخضع للمقولات الطائفية هو يدافع عن حقوق جماعته ومصالح مجتمعه، هو يزيف وعي الجميع. من يريد أن يدافع عن جماعته ومجتمعه، عليه أن يطهر نفسه وعقله من كل جراثيم الطائفية.

2. من هنا تتأكد الحاجة النفسية والمعرفية للانعتاق من كل الممارسات الطائفية سواء كانت هذه الممارسات تنتمي إلى حقل الطائفية الناعمة أو تنتمي إلى حقل الطائفية الصلبة أو الخشنة. والمجتمع الذي يخضع لكل المقولات الطائفية هو يمارس التدمير الذاتي ويساهم بشكل مباشر في تنمية كل عوامل الفرقة والتشظي في حياته الداخلية. الطائفية مرض خطير ووجود غلبة لهذا الطرف أو ذاك، أو وجود ممارسة طائفية من هذا الطرف أو ذاك، ينبغي أن لا يشجع أحد على الوقوع في مهاوي الطائفية. فلنعمل بوعي وحكمة لتطهير نفوسنا وعقولنا من كل جراثيم الطائفية، ومن خلال عملية التطهير نتمكن من تحصين واقعنا الاجتماعي والثقافي من الوقوع في مهاوي الطائفية.

ونقولها بصراحة تامة، لا تعالج المشاكل الطائفية بصنع مشكلات مماثلة ومقابلة للطرف الذي يؤجج الأزمات الطائفية. الطائفية بكل رموزها وزخمها التمزيقي، لا تدافع عن حق أو مجتمع. ومن يعتقد أنه لا يمكن وقف صعود هذه القوة أو تلك إلا بإشغالها بالأزمات الطائفية، هو يعمل بدون وعي على توسيع دائرة الحريق في الأمة والمجتمعات العربية والإسلامية.

3. بعيدا عن التلاوم المتبادل وتوزيع تهم من بدأ ومارس الطائفية ومن ذهب إليها كردة فعل. نقول بعيدا عن هذا التلاوم الذي يؤكد المنطق الطائفي ولا يتحرر منه، تعالوا معا نبرأ إلى الله سبحانه وتعالى من كل الممارسات الطائفية ونقف معا على أرضية احترام التنوع الموجود في الأمة مع صيانة عزة الأمة ووحدتها الداخلية. فالطائفية قيد على الجميع، ولا يمكن أن نعتقد أن القيود تحقق انتصارات أو مكاسب. وجود ممارسات طائفية ينبغي أن لا يدفعنا إلى الخضوع إلى المنطق الطائفي بل على العكس ينبغي أن يدفعنا على التعالي على كل الجراحات المذهبية والطائفية. بهكذا ممارسة نفكك كل عناصر القابلية النفسية والثقافية للخضوع للمنطق الطائفي. وإن التساهل مع الحرائق الطائفية سيدمر كل عوامل الوحدة والتماسك في كل مجتمعاتنا العربية والإسلامية. وعليه فإن كل من يريد أن يحافظ على وحدة وطنه ومجتمعه، عليه أن يعمل نفسيا وثقافيا لتحرير المجتمع من كل سمات القابلية على التطرف والطائفية. فهو سبيلنا للتحرر من كل موبقات الطائفية ومتوالياتها المدمرة لكل أسباب الاستقرار السياسي والاجتماعي.

الربيع العربي والانبعاث الطائفي:

دائما التحولات السياسية والاجتماعية الكبرى، يرافقها بعض المظاهر أو النتائج السلبية والسيئة. وهي ليست وليدة ذاتية إلى تلك التحولات، وإنما هذه التحولات أزالت القشرة الخارجية التي تحول دون بروز هذه الظواهر المجتمعية السلبية والسيئة. ووجود هذه الظواهر، لا يعني إطلاق أحكام قيمة سلبية من تلك التحولات. لأن كل التحولات الإنسانية سواء كانت سياسية متعلقة بتغيير معادلات سياسية كبرى قائمة أو متعلقة بالفضاء الاجتماعي ومراكز القوة فيه، سواء كانت القديمة أم الجديدة، تفضي إلى وجود مناخ جديد يوفر الإمكانية لبروز (وليس تأسيس) بعض النتوءات الاجتماعية والسياسية. وبروز هذه النتوءات لا يعني اتخاذ موقف سلبي من التحولات أو رفضها ابتداءا ومسارا ومآلا. وإنما هذا أشبه بقانون اجتماعي حينما تتحرك مياه الأنهار بغزارة، تفيض عن حدود النهر وقد تؤسس لأقنية مائية مؤقتة من جراء التدفق الهائل للمياه. وما شهدته دول الربيع العربي من بروز تناقضات اجتماعية سواء كانت جهوية أو دينية أو مذهبية هو أشبه شيء بتلك المياه التي تجاوزت الحدود. ولكن وجود هذه المياه، لا يساوي رفض النهر ومياهه المتدفقة، وإنما يساوي التحرك لبناء أقنية وأطر للاستفادة من كل المياه، تمنع خسارته وتدفقه خارج الحدود.

فالمجتمعات الإنسانية قاطبة بصرف النظر عن أيدلوجياتها وأنظمتها الاقتصادية والسياسية، تعيش تناقضات داخلية عديدة ومتنوعة وذات جذور متباينة ومتفاوتة. فهناك تناقضات اقتصادية ـ طبقية، وتمايزات دينية ومذهبية، وتنافسات سياسية وأيدلوجية ومناطقية، إضافة إلى عناوين أخرى. إلا أن كل هذه التناقضات والتباينات في ظل الأنظمة الديمقراطية - التداولية هناك إمكانية لتصريف هذه التناقضات والتباينات في أقنية التنافس والتداول الديمقراطي. فيستطيع هذا المجتمع بفعل هذه الأقنية من إدارة تناقضاته وتبايناته بطريقة سلمية، ديمقراطية، تمنع انفجارها السياسي والاجتماعي الحاد والعنيف. بمعنى أن الأنظمة السياسية الديمقراطية، لا تتمكن من إلغاء تناقضات المجتمع وتبايناته الأفقية والعمودية، وإنما تتمكن من بناء أطر وأقنية لتصريف هذه التناقضات بطريقة سلمية، تداولية، توفرها قيمة الديمقراطية. وكلما ترسخت هذه القيمة في أي بيئة اجتماعية، يعني تطورت قدرة هذه البيئة الاجتماعية على معالجة أزماتها الاجتماعية ومشاكلها السياسية بعيدا عن خيار العنف سواء المادي أو المعنوي.

فالديمقراطية لا تساوي أن يكون الناس بلا صراع أو تدافع أو تباين، وإنما هي مهمتها الأساسية توفير مناخ سلمي ـ حضاري لتصريف كل موضوعات الصراع أو قضايا التدافع أو مسائل التباين بطريقة سلمية، تحافظ على الوحدة الوطنية وتحول دون انحدار الناس على عناوينهم الفرعية الضيقة وذات الإحن التاريخية المتبادلة. لأن جميع حقوق كل المجموعات البشرية مصانة على قاعدة مشتركة هي قاعدة الانتماء الوطني والمواطنة الجامعة.

أما في ظل الأنظمة السياسية غير الديمقراطية وغير التداولية، فإنها تفتقد إلى قنوات مؤسسية سلمية لتصريف تناقضات هذا المجتمع وتبايناته المختلفة.

وبفعل الطبيعة الشمولية والاستحواذية للنظام السياسي، لديه آليات عمل قسرية تحول دون بروز هذه التباينات على السطح. والمتأمل إلى هذا المجتمع من الخارج، يحسبه مجتمع متجانس وموحد وبعيد عن العيوب الكثيرة التي تعاني منها بعض المجتمعات، حيث الصراع السياسي مقيم في أرجاء المجتمع. ولكن حينما يتفكك هذا النظام الشمولي، كما جرى في بعض دول الربيع العربي، فإن كل التناقضات والتباينات المكبوتة والمقموعة تبدأ بالبروز بطريقة فوضوية، صدامية. فهذه التناقضات ليست وليدة التحولات، وإنما هذه التحولات أزاحت الحواجز والعقبات التي تحول دون بروز هذه التناقضات.

والمسؤول الأول عن هذا البروز الصدامي والفوضوي لتباينات المجتمع الدينية والمذهبية والقومية والعرقية والجهوية، هو الاستبداد السياسي الذي كان يحول دون صياغة أقنية سلمية حضارية لإدارة تناقضات المجتمع بطريقة تفضي إلى تطور الحياة السياسية والمدنية ودون الإضرار بالنسيج الاجتماعي لكل فئات ومكونات المجتمع.

كما أن الذي يساهم أيضا في انخراط كل فئات المجتمع في هذه الفوضى والنزعة الصدامية باسم الحقوق الذاتية المهضومة، هو غياب تقاليد العمل المدني الحر والتنافس السلمي بين جميع المكونات. لأن كل مكونات المجتمع قبل التحولات السياسية، هي أشبه شيء بالسديم البشري الواحد والذي يكرر كالببغاء قناعات واحدة في ظل الكبت والقهر. وحينما سقط الكبت والقهر يفتقد المجتمع لأدنى التقاليد المؤسسية الضرورية التي تدير تناقضات المجتمع بطريقة سلمية وعلى قاعدة الوحدة الاجتماعية والاندماج الوطني.

وفق هذه الرؤية نحن ننظر إلى كل الانبعاثات الطائفية المقيتة التي رافقت التحولات السياسية التي جرت في أكثر من بلد عربي.

فهذه الانبعاثات ليست من جراء بدائية مجتمعاتنا أو غياب الثقافة السياسية الديمقراطية لديها، وإنما هي من جراء مسلسل الاستبداد الذي تحكم في مصائر العباد عقودا طويلة. كما أن هذه الانبعاثات ليست وليدة حالة التنوع الموجودة في كل المجتمعات والأمم، وإنما هي وليدة التعامل السياسي والاجتماعي الخاطئ مع حالة التنوع. لذلك حينما تنهار هذه المعادلة بفعل ممارسة ثورية أو شعبية واسعة، فإن الجميع يعيش مرحلة سيولة على مستوى القناعات والخيارات.

وهذه المرحلة هي التي تنبعث فيها المسائل والعناوين الطائفية بطريقة صدامية. وهذا الانبعاث وفق هذه الرؤية سيكون مؤقتا، وطبيعة وعي وخيارات النخب السياسية والاجتماعية الجديدة، هو الذي سيحدد عمر هذا الانبعاث المؤقت. فإذا كانت النخب تمتلك وعي وطني عميق، وتتعامل مع حقائق التنوع والتعدد بعقلية حضارية، استيعابية، فإن معالجة هذه الانبعاثات الطائفية سيكون سريعا وسيحافظ المجتمع على تجانسه الاجتماعي والوطني. أما إذا كان وعي النخب مختلفا وتتعامل بنزعة نبذية وإقصائية مع كل حقائق التنوع وتعمل على بناء وحدة مجتمعها ووطنها عن طريق قهر تعبيرات المجتمع والوطن، فإن عمر هذه الانبعاثات سيطول، مما سيهدد النسيج الاجتماعي والوطني.

لذلك ثمة ضرورة وطنية ماسة في كل الدول التي طالتها التحولات السياسية وتحتضن تعدديات دينية أو مذهبية أو قومية أو قبلية للالتفات إلى النقاط التالية:

1. العمل السريع على إعادة بناء الثقة بين مختلف تعبيرات المجتمع، سواء الدينية أو المذهبية أو القومية أو ما أشبه. لأنه حينما تتعزز جسور الثقة بين تعبيرات المجتمع، تزداد فرص التعايش والاستقرار، وتتوفر الاستعدادات لدى جميع الأطراف للوقوف ضد انزلاق المجتمع صوب الاقتتال الطائفي والأهلي.

2. بناء الأطر والمؤسسات السياسية الجديدة على قاعدة أن الوطن يتسع للجميع، وأن جميع المواطنين في الحقوق والواجبات سواء، وأن بإمكان أي مواطن بصرف النظر عن أصوله الدينية والمذهبية والقومية والقبلية والعرقية إذا امتلك الكفاءة والقدرة أن يتبوأ أي موقع ومنصب.

3. تعاضد وتعاون الجميع ضد خيار العنف وممارسته في الصراعات السياسية والاجتماعية. لأن شيوع هذا الخيار سيدمر الجميع. وحينما يستخدم العنف بصرف النظر عن دوافعه، فإنه سيقضي على الجميع ومكاسبهم. لذلك ثمة حاجة وضرورة لبناء إجماع وطني عميق في كل الدول العربية ضد العنف وممارسته.

الطائفية والوحدة الوطنية:

على المستويين الاجتماعي والسياسي ثمة أسئلة وإشكاليات نظرية عديدة، يتم إثارتها وطرحها للجدل والنقاش حول كيفية صيانة الوحدة الوطنية والعيش المشترك والسلام الاجتماعي، في ظل بروز النزعة الطائفية في المجتمعات والمجموعات البشرية المكونة لها. وهي في مجملها أسئلة وجيهة وجديرة بالنقاش والحوار والبحث عن إجابات حقيقية وممكنة في آن.

ومن الضروري في هذا السياق بيان أن الطائفية بكل حمولتها وأدبياتها وآفاقها من الأمراض التي بدأت بالبروز في الاجتماع العربي المعاصر.

وبالتالي من المهم بيان رؤيتنا السلبية والقدحية لهذه النزعة. وإن هذه النزعة بمتوالياتها المتعددة تهدد بخراب الأوطان وتساهم في تدمير النسيج والوشائج الاجتماعية، وتلقي بظلها الثقيل على منجز الوحدة الوطنية.

ونحن في سياق مجتمعنا ووطننا، نعتبر الوحدة الوطنية من الضرورات التي لا يمكن التفريط بها وإذا لم نسارع بوعي وحكمة من معالجة الظاهرة الطائفية ونزعاتها التمزيقية، ستتمكن هذه النزعة من تهديد وحدتنا الوطنية.

ولكي تتضح الصورة جلية، ثمة مفارقة بين النزعة المذهبية والنزعة الطائفية. فليس كل نزعة مذهبية هي نزعة طائفية. والمرذول أن يحمل الإنسان نزعة طائفية تصنع الحدود النفسية والاجتماعية مع من يختلف معه في الانتماء المذهبي. بمعنى أنه من حق أي إنسان أن يتمذهب بأي مذهب فقهي يشاء، ولكن مما ليس من حقه أن يبني على حقه في التمذهب رؤية طائفية تحول الانتماء المذهبي الطبيعي إلى انتماء طائفي مسيس. فنحن مع حماية حق أي إنسان في أن يتمذهب بأي مذهب يريد، ولكن ليس من حقه أن يبني في نفسه وعقله وواقعه نزعة طائفية تترجم في أهداف سياسية مختلفة.

لذلك فإننا حينما نتحدث عن الطائفية واعتبارها من المشاكل العميقة التي تواجه مجتمعاتنا اليوم، لا نتحدث عن حاجة الإنسان إلى التمذهب والالتزام برؤية فقهية ومعرفية محددة.

فالتمذهب الطبيعي ليس مضادا لمفهوم وحقائق الوحدة الوطنية. أما النزعة الطائفية فهي مضادة بطبعها إلى الوحدة الوطنية بكل حقائقها ومتطلباتها.

والمجتمعات الإنسانية التي تعاني اليوم من بروز النزعات الطائفية لديها، هي معنية قبل غيرها إلى معالجة هذه النزعة عن طريق:

1. الإعلاء من قيمة المواطنة، واعتبارها هي القاعدة المشتركة التي تجمع كل المواطنين. فلا علاج فعال إلى النزعة الطائفية إلا بالإعلاء من قيمة المواطنة وجعلها هي مصدر الحقوق والواجبات في الدائرة الوطنية.

2. بناء حقائق الوئام والتسامح والتفاهم بين مختلف مكونات وتعبيرات المجتمع، وإخماد أية نزعة عدائية بين كل تعبيرات التنوع الموجودة في المجتمع.

وبناء هذه الحقائق بحاجة إلى جهود وطنية مستديمة، تستهدف حماية حقائق التنوع في المجتمع عبر بناء الحقائق المضادة لكل نزعات الانزواء والانطواء من جهة، ومن جهة أخرى لإنهاء حالة الشعور بالنرجسية التي قد يشعر بها هذه المكون الاجتماعي أو ذاك.

3. تثبيت قيم الاحترام المتبادل بين مختلف المكونات والتعبيرات. فليس مطلوبا أن تغادر موقعك الفكري أو الثقافي، وليس مطلوبا من الآخر ذلك. المطلوب من الجميع الالتزام بكل مقتضيات الاحترام المتبادل، فمن موقع الاختلاف يتم الاحترام المتبادل. فنحن من مواقعنا المختلفة قد نختلف وتتباين وجهات نظرنا، ولكن هذه الاختلاف والتباين لا يشرع إلى أي طرف تجاوز حدود ومقتضيات الاحترام المتبادل. ولا أحد يقول أن من شروط الاحترام المتبادل أن تتطابق وجهات نظرنا في كل شيء. نحن نختلف مع بعضنا وتتباين وجهات نظرنا في الكثير من القضايا والأمور، ولكن هذا التباين لا يعني أن نتعدى على بعضنا البعض، فمن موقع الاختلاف ندعو إلى الاحترام المتبادل.

عن طريق هذه الحقائق والممارسات، تتمكن المجتمعات المتنوعة من ضبط النزعات الطائفية التي قد تبرز من جراء حالات التنوع والتعدد الموجودة في المجتمع.

وعليه فإن الوحدة الوطنية، لا يمكن تبنى أو تتعزز في ظل انتشار النزعات الطائفية. وعليه فإن من يريد تعزيز وحدته الوطنية فعليه أن يحارب كل نزعات التطرف والطائفية الموجودة في المجتمع. ومن يتراخى في معالجة المشكلة الطائفية، كأنه يتراخى عن مواجهة كل خصوم الوحدة الوطنية. وبمقدار ما تتمكن المجتمعات المتنوعة، من معالجة النزعات الطائفية بذات المقدار تتمكن من تعزيز وحدتها الوطنية، وتمتين اللحمة الوطنية بين مختلف المكونات والمجموعات البشرية.

وعليه فإننا نعتقد أن كل إنسان يساهم في إثارة النعرات الطائفية في المجتمع، فإن يعمل بالضد من الوحدة الوطنية ومقتضياتها المتنوعة. وفي ظل الظروف الحساسة التي تعيشها كامل المنطقة العربية والإسلامية على أكثر من صعيد ومستوى، تتأكد الحاجة الماسة للعمل الجاد والمتواصل لتصليب الوحدة الوطنية ومنع انتشار كل الميكروبات الاجتماعية والثقافية التي تساهم في خلق ثقوب اجتماعية ووطنية على النقيض من حقائق ومستلزمات الوحدة الوطنية. الرغبات المجردة بوحدها، لا تحمي وحدة وطنية ولا تصون أي مكسب من مكاسب الوطن المتنوعة. فالرغبة مطلوبة ولكن تلك الرغبة التي تستند على إرادة إنسانية صلبة باتجاه حماية الوحدة الوطنية وصيانة الوطن من كل المخاطر والتحديات.

وأضحت النزعات الطائفية بكل مستوياتها وحمولاتها النفسية والسلوكية، هي من أبرز المخاطر التي تضعف الوحدة الوطنية وتهدد استمرارها وحمايتها. ولا طريق فعلي لتعزيز قيم الوحدة الوطنية، إلا بالوقوف الحازم ضد كل النزعات الطائفية التي هي بالضرورة نزعات تقسيمية، تقف بالضد من كل حقائق الوطن ووحدته الداخلية.

فلنحارب الطائفية في مجتمعنا، حتى نتمكن بفعالية من حماية وتعزيز وحدتنا الوطنية. ومن يهمه أمر وحدة الوطن والمواطنين عليه أن يعمل ويقف بصلابة ضد كل النزعات الطائفية التي قد تحدث شروخا عميقة في البناء الاجتماعي الواحد.

فلنتوحد ضد الفتنة الطائفية:

في إطار النفخ الطائفي والشحن المذهبي المحموم، تأتي كل التصريحات والمقولات التي يطلقها دعاة الفتن من كل الأطراف، بغرض تعزيز فرص الفتن الطائفية في الواقع الإسلامي المعاصر. والإنسان لايستطيع أن يدافع عن قناعاته بإثارة الفتن ؛ لأنه لا فائدة منها إلا المزيد من تأجيج الفتن الطائفية وشحن النفوس والعقول تجاه الداخل الإسلامي..

وفي سياق هذه التصريحات والتصريحات المضادة، التي هي من جوهر واحد، وهو الانخراط المتسارع في مشروع الفتنة الطائفية التي تحضر إلى هذه الأمة من أقصاها إلى أقصاها، نود التأكيد على النقاط التالية:

1. إننا نرفض وبشدة كل المقولات والتصريحات الطائفية، من أي جهة صدرت، ونعتبر أن دفع الأمور نحو الصدام المذهبي بين المسلمين، هو من أكبر الجرائم التي ترتكب بحق المسلمين جميعا.. وإن وطننا العزيز من أقصاه إلى أقصاه ليس مكسر عصا لأحد، لذلك نرفض وبشدة أي محاولة تستهدف تصدير بعض أشكال الفتن الطائفية، كما نرفض أي محاولة للتعدي على هذا الوطن.. فوطننا نفديه بالغالي والنفيس، ونرفض كل محاولات إقحامنا في مشروعات هذه الفتن والتشظيات الطائفية، سواء صدرت هذه المحاولات من شخصيات وجهات سنية أو شخصيات وجهات شيعية.. فالأوطان لا يساوم عليها، ونرفض أي شكل من أشكال المساس بها.. وهذا الكلام ليس مزايدة على أحد، وإنما هو جزء من فهمنا لقيمنا وواجباتنا ومسؤولياتنا تجاه مجتمعنا ووطننا في آن..

وعليه فإننا ندعو كل أبناء وطننا من مختلف مواقعهم الفكرية والاجتماعية، إلى الوقوف بحزم، ضد كل محاولات زرع الفتن الطائفية بين أبناء مجتمعنا وعدم التساهل مع كل أشكال إذكاء روح الانقسام المذهبي في وطننا..

2. إن المخطط الذي يستهدف إسقاط الأمة جمعاء في أتون الحروب المذهبية الكامنة والصريحة كبير ومتعدد الأشكال والأساليب والجوانب.. لذلك فإننا بحاجة اليوم إلى مشروع إسلامي متكامل، تشترك فيه جميع المؤسسات والمعاهد والقوى والفعاليات لإفشال هذا المخطط، والحؤول دون سقوط الأمة أو بعض أطرافها في أتون هذه الفتن العمياء، التي لا يربح منها إلا أعداء الأمة..

والخطير في هذا الأمر أن صناع الفتن، ليسوا على شكل واحد، أو نمط محدد، وإنما هم يتلونون ويتعددون، ويأتون من أجل تنفيذ مخططهم الجهنمي من أبواب متفرقة ووسائل متنوعة.. لذلك فإننا نرفض أن ننجر إلى مشروع الفتنة الطائفية، ونعتبر أن الانجرار إلى هذه الفتن هو أكبر خدمة تقدم إلى أعداء الأمة، كما أنها تساهم في حرق تاريخ أي إنسان الديني والوطني والأخلاقي..

وإن كل التصرفات الشائنة التي يقوم بها بعض السنة أو بعض الشيعة، ينبغي أن تكون موضع إدانة صريحة وواضحة، لأن الظلم مرفوض والافتئات على الحقوق والكرامات مرفوض، ولا يمكن أن نعالج هذه الممارسات بالقيام بمثلها تجاه الطرف الآخر، وإنما بإدارة هذه المشاكل والبحث عن حلول ناجعة بعيدا عن نزعات التشظي الطائفي والمذهبي..

والواقع الإسلامي اليوم، مليء بكل الصور والحقائق، التي تبرر لأي إنسان ومن أي موقع مذهبي كان، للانزلاق صوب المساهمة المباشرة في إذكاء الفتنة والتوتر المذهبي.. ولكن دائما وأبدا النار لا تطفئ بنار مثلها..

لذلك فنحن جميعا بحاجة إلى وعي عميق بمخاطر هذه الفتن على الجميع، وبعمل مستديم من أجل تفكيك كل العقد وعناصر التوتر التي تذكي أوار الاحتقان الطائفي بكل صوره وأشكاله..

3. علماء الأمة ومؤسساتها الدينية والشرعية، تتحمل مسؤولية كبرى، للمساهمة الفعالة في وأد الفتنة الطائفية التي بدأت تطل برأسها النتن في أكثر من بلد عربي وإسلامي.. فكما أن هناك قوى وفعاليات علنية وخفية، تعمل ليل نهار من أجل إسقاط الأمة في أتون الاحتراب الطائفي، ينبغي أن تكون هناك قوى وفعاليات وعلى رأسها علماء الأمة ومؤسساتها الدينية، تعمل من أجل إفشال هذا المخطط الجهنمي الذي يستهدف الأمة في حاضرها ومستقبلها، والتعاون من أجل تعزيز قيم الأخوة والتعايش السلمي بين جميع مكونات الأمة..

وفي هذا السياق نحمل جميع هذه المؤسسات الدينية، مسؤولية رفع الغطاء الديني والشرعي عن كل التصريحات والممارسات التي تستهدف بث الكراهية بين المسلمين أو تأزيم العلاقة بين تعبيراتها المذهبية..

فحينما يقف علماء الأمة أمام مقدمات الحروب المذهبية، فإن قدرة الأمة على إفشال مخططات الفتنة، تكون فعالة.. أما إذا صمت علماء الأمة، وتمادى صانعوا الفتنة من كل الطوائف والأطراف فإن مخاطر السقوط في مستنقع الحروب المذهبية سيكون كبيرا.. لذلك من الضروري عدم التساهل مع كل التصريحات والممارسات التي تسوغ الاحتراب الداخلي بين المسلمين..

4. إننا ندعو أهل الاعتدال والوسطية والتلاقي من كل الطوائف والمذاهب إلى فتح جسور اللقاء والتلاقي والتفاهم والتعاون، من أجل إرساء حقائق هذه القيم في الفضاء العام للمسلمين..

فلا يكفي اليوم أن نلعن ونرفض ظلام الفتنة والاحتراب المذهبي، وإنما بحاجة إلى التعاون والتعاضد لتنقية الساحات الإسلامية من جراثيم التطرف والغلو ونزعات الإلغاء والإقصاء هذا من جهة، ومن جهة أخرى للعمل المؤسسي في كل الفضاءات الوطنية والاجتماعية لتعزيز قيم الوحدة والتفاهم والتلاقي.. لأن الاحتراب الطائفي يدمر الجميع، وينهي كل أشكال الاستقرار السياسي والاجتماعي، ولا سبيل لوأد مشروع الفتن الطائفية إلا بالوعي بمخاطرها والوقوف ضدها وفضح مآلاتها والعمل على تشبيك العلاقة بكل مستوياتها بين مكونات الأمة.. وإنه آن الأوان منا جميعا لرفع الصوت ضد كل أشكال بث الكراهية بين المسلمين وتحضير المسرح الاجتماعي والسياسي للحروب المذهبية في جميع بلدان العرب والمسلمين.

فتعالوا جميعا نحمي أوطاننا وأمننا الاجتماعي والسياسي، برفض مشروع الاقتتال الطائفي في الأمة..

***

محمد محفوظ

....................

[1] القرآن الكريم، سورة النحل، الآية 36.

[2] القرآن الكريم، سورة الجاثية، الآية 21 - 22.

[3] جريدة الحياة، صفحة 21، العدد 18384 / الأحد 4/8/2013 م.

1- مقدمة:

في غضون الأحداث الدامية المأساوية التي تقضّ مضاجع المنطقة العربية وتهدد مصير الأمة وكيانها الوجودي، ظهرت أسراب متنوعة من "المثقفين" الطائفيين الذين خطفوا الأضواء وتقدموا الصفوف فضجت بهم الأرجاء. وقد عرف هؤلاء "المثقفون" بحمولتهم الطائفية الثقيلة، فنصّبوا أنفسهم حماة لطوائفهم زائدين عنها أو مهاجمين للطوائف الأخرى على مبدأ الهجوم الطائفي خير وسيلة للدفاع. وقد تميّز هؤلاء الدعاة الجدد بقدرة هائلة على إثارة التعصب الطائفي، وتأجيج الكراهية المذهبية، وبثّ الفرقة والحقد بين أبناء الوطن الواحد، ومن ثمّ الدعوة إلى تكفير الآخر، الذي يشكل منطلق دعوتهم إلى سفك الدماء والإبادة المذهبية والإقصاء.

وقد انتشرت السموم الفكرية لهؤلاء الدعاة عبر محطات التلفزيون وصفحات المواقع الإليكترونية الصفراء انتشار النار في الهشيم، وتدفقت همجية دعوتهم في مختلف الأرجاء والأنحاء. وبعبارة أخرى، ظهرت هذه الطائفة "السوفسطائية الجديدة" من أجل تأجيج الفتن والحضّ على الكراهية الطائفية والتحريض على مختلف منازع التعصب بلونيه المذهبي والطائفي، فاحتلت أسماؤهم عرض الصفحات في المواقع الإلكترونية ومقام الأولويات في "مانشيستات" الصحافة المرذولة الصفراء.

وفي هذا الزمن المفجع المحزن، الذي هزمته غوائل الطائفية، وعصفت بأركانه أمواج الحقد المذهبي، أصبحت الثقافة الطائفية التي يبثها هؤلاء الدعاة موضة ثقافية رائجة تستهوي القلوب وتنتعش لها النفوس اليائسة والقلوب البريئة. وفي أرداف هذا التعسف الإنساني والبؤس الأخلاقي، وعلى إيقاعات هذا الواقع المأساوي استطاع فرسان الثقافة الطائفية، وركّاب أمواجها، أن يصبحوا من المعروفين في ميدان الثقافة الطائفية، وأن يأخذوا مكان الشهرة في أروقتها وتضاريس حضورها! وقد امتهن هؤلاء الطامحون موجة الحقد الطائفي كوسيلة للارتقاء الثقافي والتألق الفكري والصعود السياسي. وكما يقول المثل: لكل عصر دولة ورجال وقد انبرى هؤلاء ليمثلوا هذا العصر الطائفي بدولتهم الفكرية ورجولتهم الطائفية فأصبحوا بامتياز أبطال هذا العصر وفرسان زمانه.

وتتمثل وظيفة هؤلاء "المثقفين" الطائفيين الجدد في صب الزيت على النار الطائفية وإذكاء توقدها ونشاطها، فهم يذرعون في نفوس الناس الخوف والكراهية والحقد والنزعة إلى الثأر الطائفي عبر مقولاتهم وأفكارهم وتصوراتهم الجهنمية، ثم يختلقون القصص والروايات ويزورون التاريخ والحوادث ويؤججون المشاعر ثم يدعون إلى القتل والاقتتال تحت عنوان الكراهية الطائفية والحقد المذهبي الأرعن اللعين.

ومن المؤكد أن خطاب الحقد الطائفي والدعوة إلى الفتنة والاحتراب أصبحت تستهوي شرائح واسعة من أبناء المجتمع كنتاج طبيعي للقهر والظلم والمعاناة والتصفية التي تتعرض لها جموع كثيرة من البشر في عصر مجنون أرعن لا يرحم فيه الطغاة ولا يلينون.

2- تكوين المثقف الطائفي:

لا نستطيع أن ننكر اليوم أن هذا النوع من المثقفين الطائفيين الجدد يشكلون ظاهرة ثقافية اجتماعية جديدة لها أبعادها في الساحة الفكرية، وهذه الظاهرة تحتاج إلى تحليل سوسيولوجي معمق من أجل الكشف عن الحقيقة التائهة في أغوار الظروف الاجتماعية التي تحيط بهم فتفعم إلى مستنقع التعصب والتمذهب.

وإذا انطلقنا من المنطلق الثقافي لمعنى المثقف ودلالته فإنه لمن البداهة بمكان أن نقول: لا يمكن للمثقف الحقيقي أن يكون طائفيا؟ فالثقافة الحقيقة تتنافر كليا مع الفكر المذهبي والطائفي وأي فكر معادي للإنسانية. ويمكن أن نطلق على دعاة الثقافة من هذا النمط الطائفي "المثقفين" الطائفيين ولطالما وضعنا كلمة المثقف بهذا المعني ضمن مزدوجتين للدلالة على التحفظ في إسقاط هذه الكلمة على جماعة من المهووسين والساقطين دعاة الطائفية والمذهبية والحقد والكراهية.

ومن الطبيعي أننا عندما نتأمل في بنية المثقفين الطائفيين، وفي تكوينهم سنجد بأن هؤلاء الدعاة أبعد ما يكونون عن أي دلالة للثقافة بمعناها الإنساني، فهم أجهل الناس بأبجديات الثقافة الحقيقية، ومسلمات التفكير الصحيح، ومع ذلك استطاعوا أن يغرقوا الساحة الفكرية بسمومهم الفكرية ليحتلوا مكانا هاما في الساحة الثقافية بين مثقفي الطائفة والمذهب.

فهؤلاء المثقفين يمثلون في جوهر أمرهم نمطا من "المثقفين" الذين تصلبوا ضمن قوالب الفكر الطائفي المتعصب الذي يتصف بأنه ذاتي التوليد ذاتي الاكتفاء، والذي ينبثق من صلب مسلمات موروثة عمياء تعلو فوق النقد والنقض والتشكيك والتجريب. ويمكن أن نصف فكرهم وما يصدر عنه بأنه فكر واليقين والتصلب والجمود. وهو فكر الرفض للآخر لكل، وضمن هذا التصور المخيف لا يملك هؤلاء إلا القدرة على تطوير أدوات الدفاع عن الذات الطائفية بهمجيتهم المعروفة، أو بناء أسلحة الهجوم الطائفي والمذهبي للقضاء على الآخر الطائفي أو المذهبي واستئصال وجوده، إنهم يرفعون طوائفهم وعقائدهم إلى درجة المقدس ويطهمون هذا المقدس بكل أدوات المنع والقطع والتحريم، ويجعلون من المساس بالطائفة التي عنها ينافحون مساسا لا يغتفر بالمقدس، وهكذا فإن الهجوم على الطوائف الأخرى يعد أمرا مقدسا وضرورة شرعية مشروعة يقتضيها الدين وتفرضها الأخلاق وينادي بها الوجدان. وهم في سياق ذلك يدعون إلى استئصال الآخر وتدميره وإفنائه واجتثاث وجوده بناء على تصورهم المقدس للجهاد الطائفي المقدس ضد الآخر ووجوده.

ومن الطبعي أنك عندما تقرأ فيما يكتبون، وفيما إليه يذهبون تجد درجة طاغية من الجهل وفقدان العقلانية والمنطق والقيمة الأخلاقية، وتلمس بوضوح غياب أي ثقل ثقافي أو فكري يدل على أبسط أبجديات الفكر والثقافة والعقلنة.

وليس غريبا أن هؤلاء ظهروا في ظل الأحداث الدموية الأخيرة في سوريا والعراق ولبنان، كما أنهم نبتوا كالفطر البري في ميدان الثقافة الطائفية تحديدا لا بعدها ولا قبلها. وهذا يعني أنك لن تجد لهم أي أثر من قبل في المستوى الثقافي والفكري ما قبل الأحداث أو خارج ميدان الطائفية التي برعوا فيها. ومن الطبيعي أنك لن تجد لهم أثرا في عصر ما بعد الطائفية لأنهم ولدوا ضمن هذه المشروعية الطائفية وهم أبناؤها الشرعيون وستسقط مشروعيتهم مع سقوط المشروع الطائفي في المنطقة.

وعندما تأملنا في أحوال هؤلاء "المثقفين" الطائفيين الجديد وجدنا أمورا كثيرة تسترعي الانتباه ومنها:

- معظم هؤلاء المثقفين لم يسبق لهم أن قاموا بأي إنتاج علمي وثقافي خارج حدود التحريض الطائفي. وهذا يعني البداية الفكرية انطلقت من منصات الفكر الطائفية تحريضا على المذهبية الطائفية.

- معظم هذه الأسماء (المتألقة طائفيا) لم يكن لها حضور فكري أو ثقافي سابق وإنما ارتهن ظهورهم إلى هذه المرحلة البائسة من الحرب الأهلية التي اتخذت أبعادا طائفية ومذهبية.

ولو بحثنا عن السبب في هذا كله لوجدنا كامنا فيما يلي:

-أن هؤلاء "المثقفين" كانوا ضحية تربية طائفية مذهبية رعناء رسخت فيهم هذا الإحساس المتعاظم بالحقد والكراهية المذهبية.

- ضعف الثقافة الفكرية وهشاشتها فهؤلاء غالبا لا يملكون أي ثقافة حقيقية تتصل بالإنسانيات بصورة عامة (تاريخ فلسفة جغرافية أدب).

- تعرض أغلب هؤلاء " المثقفين" لمعاناة اجتماعية تتمثل بالتهميش والظلم والدونية ولم تتوفر لهم فرص موضوعية في المشاركة الحقيقية في الحياة الاجتماعية.

- أثناء الأحداث الأخيرة تعرض بعض هؤلاء "المثقفين" إلى ظروف مؤلمة بعضهم فقد أحبته وتضرر بعضهم الآخر إنسانيا وماديا.

وباختصار لا تتوافر في دعاة الثقافة الطائفيين أي شرط من شروط الثقافة الحقيقية في مجال الإنتاج والإبداع والتراكم الثقافي المعروف في المثقفين الحقيقيين.

3- سمات "المثقف" الطائفي الجديد:

المسألة ليست صعبة على الإطلاق أن يكون المرء مثقفا طائفيا! كل ما يحتاج إليه المرء أن يصعد مراكب الطائفية والعنصرية التي تنتشر اليوم في عرض البحار وفي مجرى الأنهار. فالمؤسسات الثقافية والإعلامية التي تقوم بتصنيع الطائفية والطائفيين تبحث لها عن زبائن بصورة مستمرة ودائمة وبأرخص الأزمان،

يحتاج المثقف الطائفي إلى عشرة شروط أساسية:

1- أن يمتلك مشاعر طاغية من الحقد والتعصب والكراهية الطائفية.

2- أن يكون راغبا في ركوب الموجة الطائفية من أجل الشهرة.

3- أن يمتلك القدرة على تأجيج المشاعر الطائفية والنفخ في نار الفتنة.

4- أن يمتلك قليلا من الثقافة المهنية والقدرة المبدئية على الكتابة.

5- أن يجد الوسيلة الإعلامية التي تأخذ بيده إلى الشهرة والمجد وتشجعه على المضي في هذا الاتجاه.

6- أن يكون على درجة عالية من الجهل في قضايا الحياة الفكرية والاجتماعية. أم يكون شرسا مسعورا في مواجهة الخصوم وأن يكون قادرا على إثارة الحقد الطائفي والمذهبي.

7- ألا يكون قادرا على التأمل عقلانيا أو موضوعيا في أي قضية من قضايا الحياة الفكرية والاجتماعية.

8- أن يكون بلا وازع أو ضمير أخلاقي، وأن يمتلك القدرة الهائلة على السباب والشتم واللعن والتجريح والتسفيه واحتقار الآخر والطعن في معتقداته، وتكفيره، وصب اللعنة عليه والدعوة إلى استئصاله وتجريمه ونبذه ورفضه وقتله وإبادته.

9-أن ينتحل لقبا علميا وكثير من هذه الألقاب غالبا ما تكون مزيفة فهناك عشرات الألوف اليوم من الشهادات المزيفة والمنحلة.

10- أن يرى نفسه ممثلا لطائفته ومذهبه وأن ينفرد بهذا الشعور دون خلق الله أجمعين وأن يمتلك في الوقت نفسه القدرة على الهجوم والتضليل الأخلاقي والفكري.

هذه هي الشروط الأساسية للمفكر الطائفي الجديد في عصر الانفجارات الطائفية الجديدة في المنطقة.

ومن المؤكد أن ما لا يحتاج ليه هذا النوع من المثقفين هي أمور مثل: المنطق العقلانية الإحساس الوطني القيمة الإنسانية الاطلاع أو الثقافة الحقيقية.

4- التصنيع الإعلامي للمثقف الطائفي:

عادة ما يكون الإعلام الإليكتروني مسحورا بالفتنة الطائفية والمذهبية، وهذا النوع من الإعلام الرخيص يعمل على تلبية مطالب الجموح الطائفي من أجل المزيد من الانتشار والحضور والإقبال الجماهيري. وضمن هذا التوجه الإعلامي دأبت بعض محطات التلفزة والمواقع الإليكترونية الجديدة على نشر الإثارات والفتن والفضائح والسموم دون أدنى درجة من درجات الحياء والخجل. وهذه المواقع - وحالها كما هو حال المثقفين المتعطشين للشهرة – تبحث لها عن الحضور والشهرة في عالم متمرد غير عقلاني عالم فقد القدرة على التمييز والنظر في عالم محمل بالويلات والمصائب والهموم.

وكما هو معروف، هذا الزمن هو زمن الانفعالات والغرائز والميول والتعصب، وخير وسيلة إلى ميدان الشهرة والمجد يكون في نشر هذه السموم التي تأخذ شكل فضائح وتحريض وصراعات طائفية وعرقية وتخويف. وباختصار تعتمد هذه المواقع والصحف الإليكترونية الصفراء والإذاعات ومحطات التلفزة على الإثارة في عالم الميديا. والفكر الطائفي والمذهبي يشكل اليوم موضة غنية بالإثارة والإقبال. ومن هذه الزاوية تنشط هذه المحطات التلفزيونية والصحف وهذه المواقع في هذا الميدان الطائفي المذهبي. وأصحابها أي أصحاب هذه المواقع يبحثون عن هؤلاء المأفونين أصحاب الفكر الطائفي ويعملون على صقلهم وترويجهم وتقديمهم للقراء بوصفهم أبطالا وفرسانا للمرحلة الجديدة.

ومهما بلغت التسفيف عند هؤلاء "المثقفين" وضعف المنهجية، وحضور الجهالة في كتاباتهم، وغياب أدنى جرعة من المنطق الصحفي أو الأخلاقي أو الثقافي، يسارع أصحاب هذه المواقع إلى نشرها مهما كانت رخيصة وتافهة وعفنة وصدئة دون أي تردد.

ومما لا شك فيه أننا نعتقد تماما بأن هذه المواقع وهذه الصحف ممولة جيدا لجهات أمنية وسياسية هدفها ترويج الطائفية والمذهبية في بلادنا بصورة واضحة وهذا لا يخفى على بشر إذ سرعان ما أصبح أصحاب هذه المواقع والمحطات التلفزيونية من أكثر الناس ثراء وقوة ونفوذا في المرحلة.

إذن هذه الوسائل الإعلامية تنشر الفوضى الطائفية وتعزز المذهبية وهي إن لم تجد طلابا لها بحثت عنهم وبدأت بتصنيعهم. حتى أنها تعتمد أسلوب التحريض وتصدم بها بعض المثقفين من أبناء الطوائف.

وتعتمد هذه المحطات الإعلامية منهجية مضللة عبر دينامية إغراق الدسم بالسم في مختلف نشاطاتها التحريضية التي تدعو للتحريض المذهبي. وكم يشتكي بعض المفكرين من لجوء هذه الصحف والمواقع إلى إظهار بعض المثقفين الأخلاقيين بمظهر طائفي، إذ يمكن لمجلة أن تأخذ رأيا لمفكر في قضية سياسية ما ولكنها ودون مسبق علم للمفكر تضمن هذه المادة طابعا مذهبيا وتأخذ هذه المادة دعاية طائفية أو إعلامية. كأن تشهر الصفة الطائفية لهذا المفكر دون أن يؤخذ رأيه بدون وجه حق وفي ذلك يكون المثقف قد وقع في المصيدة الطائفية لا حول له ولا قوة في ذلك.

في إحدى المرات تواصلت مع رئيس تحرير مجلة إليكترونية وقلت له: أنتم تنشرون لكاتب متسلق مقالات طائفية بغيضة وهي لا تمتلك أي قيمة علمية أو فكرية فلما تفعلون ذلك؟ فأجابني بصراحة هذا الرجل يريد مكانا تحت الشمس ونحن نقدم له الفرصة في أن يكون فما المانع؟ وكنت قد أجبته أين هي المهنية والأخلاق فعادة مثل هذه المقالات يجب أن تخضع للمراجعة والنقد والمساءلة الأخلاقية. أجابني صديقي اليوم نحن في عالم اللاعقلانية في عالم الغرائز  والميول البدائية. وقال لي بالحرف الواحد: " هذا المعتوه اللي مو عاجبك عدد متابعيه يعادل متابعي وقراء كل من كتبه المفكرون العرب منذ عصر النهضة حتى اليوم". وأنا على ثقة بأن هؤلاء المثقفين الطائفيين يجدون التشجيع والتحفيز المستمر من قبل هذه المجموعات الإعلامية الباحثة أيضا عن الضوء والشهرة والإثارة.

نعم يا سادتي لقد وصلنا إلى الزمن القبيح.. الزمن الذي تم فيه تدمير القيم  الإنسانية، زمن مخيف مرعب تم فيه تغييب الأخلاق  وتسطيح العقل وتسخيف الجمال والحق والخير، وتهميش الإنسان.. إنه الزمن الاغترابي،  الذي قال فيه المتنبي يوما شاكيا:

أذُمُّ إلى هذا الزمانِ أُهَيلَهُ

فأعلمُهُم فَدمٌ وأحزمُهم وغدُ

وأَكرَمُهم كلبٌ وأَبصرُهم عَمٍ

وأَسهدُهم فهدٌ وأَشجعُهم قِردُ

ومن نَكدِ الدنيا على الحرِّ أن يرى

عدوّاً لهُ ما من صداقتِهِ بُدُّ.

5- خلاصة:

تلك هي أحوال المحنة في عصر التعصب والمحن، إذ يغيب فيه العقل وتنتفض الغرائز، ويختفي المنطق، وتنطلق الانفعالات، وينفلت شيطان الكراهية، إنه في زمن الاستلاب والاغتراب، وهو الزمن الذي يغيّب فيه العقل، وتُدّك الثقافة الحقيقية بمياسم العتاة والطغاة، وتنتشر الفوضى الأخلاقية، إنه الزمن الذي انطلقت فيه شياطين المذهبية المجنونة والطائفية الحمقاء، ولا أحد يستطيع أن يقف في وجه التيار الجارف الذي يأخذنا جميعا إلى الجحيم. في هذا الزمن الذي تولت زمام أمره جموع كبيرة كثيرة من "المثقفين" المزيفين والمفكرين المزعومين ورجال الإعلام ورجال الثقافة والفكر الذين يؤججون النار المذهبية ويقذفون كل القيم في جحيم الانحدار الطائفي والتصدع المذهبي. ورحم الله الزهاوي حين استشعر الأمر فقال:

ويحسب قوم في التعصب رشدهم..

... ما أهلك الأقوام غير التعصب

ومن يتأمل في لحظة صفو وعقلنة، سيجد بأن هذا الفكر الطائفي العنصري المذهبي، يمثل الطاقة الكبرى التي تنذر بهلاك الأمة وذوبانها واندحارها، إنه الأداة الجهنمية الذي تدمر بها الأوطان وتطحن وجودها، إنه جحيم هذه الأمة وجمرة تدميرها. ونحن نقول في دعاة الفتنة التي غابت ضمائرهم طلبا للشهوة والمجد والشهرة نقول فيهم جميعهم كما وصفهم أبو العيناء رحمه الله:

تَعِسَ الزمانُ لقد أتى بعجاب

ومحا رسـوم الظرف والآداب

وافى بكتاب لو انبسطت يدي فيهم

رددتهم إلى الكتّاب.

لا يعرفون الجريدة جردت

ما بين عتاب إلى عيّاب

جيـل من الأنـــــعام إلا أنهم

من بينها خلقـوا بلا أذناب

لا يعرفون إذا الجريدة جُرّدت

ما بين عيّاب إلى عتّاب

وسمعت من غثِّ الكلام ورثّه

وقبيحه باللحن والإعراب

ثكِلتك أمُّك هبْك من بقر الفلا

ما كنت تغلط مرة بصواب!

واسمحوا لي أن أختتم مقالتي بتجربة الألمان في رفض الجنون المدجن بالثأر والموت والهزيمة والبحث عن منهج الحياة والتسامح والكمال أن أورد هذه المقطوعة المأثورة التي تتعلق بتجربة الألمان في الخروج من جحيم الحرب والثأر، وخلاصة هذه التجربة الإجابة عن سؤال يطرح على عموم الألمان فيما بعد الحرب العالمية الثانية، الألمان الذي أبدعوا من جديد وشيدوا حضارة جديدة تقوم على التسامح ونسيان أحقاد الماضي، وهذا هو الحال إذ عندما يُسأل الألمان: لماذا بلدكم جميل وعظيم؟.. يجيبون قائلين: خرجنا من الحرب لنتعلّم كيف ندفن الثارات، ونجعل بلادنا وطناً حدوده السماء.. تعلّمنا كيف نغادر عصر البكاء على الأطلال، ونبني خراب الحروب، ونستبدل الثكنات بناطحات السحاب.

فهل نستطيع يوما أن نفعل ما فعله الألمان وغيرهم من الأوربيين، هل نستطيع دفن الثارات الطائفية والمذهبية؟ هل نستطيع أن نجعل بلداننا موطنا للحب التسامح تاركين عصر البكاء على الماضي والأضرحة والآباء والأجداد؟ هل يستطيع المثقفون الأحرار أن يجمعوا كلمتهم في مواجهة هذا الجنون الطائفي الفتاك اليوم؟ هل يستطيعون مواجهة هؤلاء الأقزام الذين اتخذوا صورة عمالقة فتكا بالناس وتدميرا للقيم والأخلاق؟ هل تعود الكلمة لأصحابها إلى هؤلاء الذين تمرسوا بالفضيلة والقيمة الأخلاقية العليا من أجل بناء المواطنة والإنسان ؟ 

ودعنا نقول في اختتامية هذه المقالة مع  سعد الدين كليب تنديدا بالطائفية وأهلها قولا جميلا  جدير بأن يكتب بخلجات الروح والنفس الإنسانية  : "

"كلّما لوّثتَ فمك بالكلام الطائفي، لوّثتَ أيدي سواك بالدمّ.

كلّما طالبتَ بالثأر الطائفيّ، جززتَ رقبةَ طفلٍ، أو بقرتَ بطن امرأة.

قبل أن تدعو إلى الثأر الطائفيّ، تذكّر أنك ارتجفتَ من مشهد المذبحة.

ثمنُ الكلمة الطائفية قتلُ أخيك أو اغتصاب أختك الآن أو غداً.

مشهد المذبحة يدعوك إلى ألاّ تكون وحشاً أو مجرماً أو داعية دماء.

اختر مستقبل السلام لا مستقبل المذابح الوحشية "

وسلام الله عليكم .

***

بقلم: علي أسعد وطفة

"الويل لأمة كثرت فيها طوائفها.. وكل طائفة تقول: أنا أمة".

الويل لهم كما قال (جبران خليل جبران) منذ قرن من الزمن..

1- مقدمة:

تشكل المسألة الطائفية أحد أخطر مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية في العالم العربي الإسلامي، وهي تشكل تهديدا مستمرا للوجود الإنساني، وأداة لتدمير مختلف التكوينات الاجتماعية التي تقوم على المواطنة والحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان. فالطائفية، نزعة تدميرية، تسكن الوجدان الجمعي العربي وهي نوع مكثف من الأيديولوجيا السياسية الدينية التي تغلغلت في أعماق العقل العربي، وتكثفت في المنطقة الأعمق من مكنونات اللاشعور الجمعي منذ قيام الدولة الأموية حتى الآن. وقد شهدت النزعة الطائفية تاريخا من حالة التذبذب بين الحضور والغياب على مقياس الحوادث السياسية والاجتماعية هبوطا أو صعودا في مختلف المناطق العربية والإسلامية. ويرصد المفكرون أن حضور هذه النزعة يكون عاصفا ومدمرا في أثناء الانتكاسات السياسية والأزمات الاجتماعية التي تشهدها بعض الدول والبلدان. وقد يعود هذا التعصب الطائفي بعد ثورته إلى الاستقرار والهدوء وذلك عندما ترتفع مؤشرات الهدوء والاستقرار في المجتمعات. ويلاحظ في هذا السياق أن الطائفية قد ترسبت في الأعماق مع ظهور الدولة الوطنية القطرية في سوريا ولبنان والعراق، ولكنها لا تلبث أن تنهض من القاع كقوة بركانية متفجرة مع أي اهتزازات سياسية في السطح فتعمل- بقوة تدميرية هائلة جارفة على تدمير الروابط الاجتماعية والإنسانية في المجتمع لتهدد كل أشكال الوحدة الوطنية أو الصيغ الحضارية للتجمعات الإنسانية السياسية.

وقد شكلت هذه الظاهرة " الطائفية" الشغل الشاغل للباحثين والمفكرين في العالم العربي منذ عهود تاريخية قديمة. وما تزال هذه الظاهرة تطرح نفسها للبحث والدراسة في ظل ظروف سياسية جديدة تلعب فيها المتغيرات الدولية تأثيرا كبيرا وواضحا في تفكيك مجتمعاتنا وتدمير أواصر الحياة الاجتماعية والسياسية فيها.

ويمكن القول تاريخيا، وفي المستوى السوسيولوجي، أن أي شكل من أشكال الاهتزازات السياسية أو الاضطرابات الاجتماعية كان يترافق مع انفجار المسألة الطائفية، ولاسيما في حالات الحراك الاجتماعي أو الثورات الاجتماعية. فثورة الفلاحين في جبل عامل في لبنان كانت في جوهرها ثورة اجتماعية فتحولت ضمن اللعبة السياسية الإقطاعية في ذلك الزمن إلى حرب طائفية، وهذا عين ما نشهده اليوم في سوريا وفي العراق وفي لبنان أيضا.

ويلاحظ تاريخيا أن المثقفين كانوا يلعبون دورا نشطا في مواجهة كل أشكال الخلل الاجتماعي في الحروب الأهلية وفي الانتكاسات، وعرف عنهم أنهم كانوا يضحون بحياتهم من أحل السلم الأهلي في مجتمعاتهم ـ ويرفعون شعارات الكرامة والحرية والوحدة الوطنية رفضا لكل أشكال الحروب الداخلية والأهلية وسعيا إلى ترسيخ الوحدة الوطنية في بلدانهم. وقد شاهدنا مثل هذا الدور الكبير للمثقفين والمفكرين في بلدان أوروبا الغربية في مراحل تاريخية عديدة ولا سيما في مرحلة ما قبل الحرب الأولى وما بين الحربين وما بعدهما. وقد ظهرت مفاهيم ونظريات الحرية وحقوق الإنسان والحقوق المدنية والديمقراطية في أوروبا وغيرها من البلدان على أيدي مفكرين وفلاسفة وعمالقة في تاريخ الفكر الغربي الذين نشدوا الحرية والكرامة والسلام والتسامح ضد كل أشكال الهدم والتدمير.

في عالمنا العربي المعاصر، ومع استمرار المسألة الطائفية في الانفجار الدائم، أصبح من الضرورة بمكان تناول هذه المسألة في المستويات الأكاديمية، وعلينا في هذا السياق أن نتساءل عن دور المثقفين والمفكرين العرب في مواجهة الكارثة الطائفية المستمرة في الحضور المدمر للنسيج الاجتماعي والإنساني العربي. وينبثق من هذا التساؤل الكبير تساؤلات منهجية: أبرزها هل مارس المثقفون العرب في الشرق الأوسط تحديدا دورهم الثقافي في مواجهة المد الطائفي والفتنة الطائفية؟ أمن أنهم وعلى خلاف ذلك قد عملوا على تزكيتها وتأجيج نيرانها؟ وبعبارة أخرى هل مارس المثقفون العرب دورهم الثقافي الإنساني في مواجهة الفتنة الطائفية والتعصب الطائفي؟ أم أنهم انجرفوا في تيار النزعة الطائفية وحملوا لواءها ونشروا قيمها وأفكارها ونافحوا عنها ودعوا إليها؟

وهذا هو السؤال الذي يشكل محور هذه المقالة التي تنطلق من رؤية نقدية لدور المثقفين في مواجهة الطائفية أو الذود عنها وممارستها فكرا وسلوكا. ونحن في هذه المقالة لا نريد أن نقع في كارثة التعميم المطلق إذ نقرّ بوجود نخبة وإن كانت قليلة جدا من المثقفين قد نهضوا في مواجهة هذا المدّ الطائفي وعملوا على إطفاء جمرته وإضعاف نزوته بدرجة عالية من المسؤولية. ولكننا ومع الأسف فإن أن الغالبة العظمى من المثقفين مارسوا الطائفية بطريقة شعبوية لا تتناسب أبدا مع دور الثقافة ومعناها الإنساني.

غالبا ما نقع على خطب جميلة صداحه في الهجوم على الطائفية والتعصب الطائفي أو أي شكل آخر من أشكال التعصب العرقي أو الطائفي أو الإثني أو المذهبي. ويعتقد بعض الكتاب أن الهجوم الأدبي على الطائفية والتعصب الطائفي يمكنه أن يشكل منطلقا لاستئصال هذا الداء المقيت الذي يستشري في عروقنا وفي خلايا وجودنا الإنساني وهذا التصور قد يجانف الحقيقة لأن الطائفية لا تُجتث بالخطب والكلمات والشتائم واللعنات.

فالخطب النارية ضد الطائفية وعصبياتها لا تجدي نفعا كبيرا، لأن الطائفية نتاج لجملة من أوضاع وعوامل اجتماعية ثقافية متنوعة وعميقة الجذور في تاريخ مجتمعاتنا العربية. وعلينا أن نرصد العوامل الأساسية التي تكرس الظاهرة الطائفية في مجتمعاتنا بدلا من صب اللعنة عليها لأن إشعال الشمعات خير لنا من لعن الظلام. كما أنه من الأفضل لنا اليوم أن نبحث في المسألة الطائفية من منظور واقعي موضوعي وليس من أبراج مثالية عاجية لا تضر ولا تنفع. وعلى أساس هذا المنهج يجب علينا أن نبحث عن العناصر الأساسية الاجتماعية والسياسية التي تؤصل للظاهرة الطائفية في مجتمعاتنا التي تكرس الطائفية في الوعي والممارسة والسلوك الاجتماعي والسياسي.

أعود للقول من جديد إن الخطب الصماء والسب والشتم واللعن على الطائفية لا يمكن أن تثمر في القضاء على ريح الطائفية وصريرها، فالقضاء على الطائفية يحتاج إلى جهود إنسانية تربوية ومجتمعية كبيرة أبرزها تحقيق العدالة الاجتماعية في المجتمع وبناء مجتمع ديمقراطي حرّ تتكافأ فيه الحقوق والفرص والواجبات بين جميع أفراد المجتمع. فالطائفية ليست مرضا بذاته بل هي نتاج لأوضاع اجتماعية غُيبت معها كل القيم الديمقراطية وكل الأشكال المدنية لأنظمة سياسية تقوم على قيم العدالة والمساواة والمواطنة.

2- الوعي الطائفي:

علينا هنا أن نميز بين الطائفة والطائفية، كما التمييز بين القبيلة والقبلية، فعلى خلاق الطائفية تأخذ الطائفة صورة بنية اجتماعية أو صورة أولية لتنظيم اجتماعي أولي بدائي (عرقي دموي أو مذهبي ديني) ولطالما مارست الطائفة دورا سياسيا في حماية أفرادها وإيجاد نوع من التنظيم الاجتماعي بين مكونات وجودها الاجتماعي.

ويجب علينا دائما أن نميز بين حقيقتين في الوعي الطائفي بين حقيقة موضوعية تتمثل في أسبابها التاريخية الاقتصادية والمجتمعية وبين حقيقة ذاتية تتمثل في درجة الوعي في هذه الحقيقة التي قد تكون زائفة ومتناقضة مع الحقيقة الأولى.

ففي المستوى الأول من الوعي - ونقصد به الوعي العقلاني الموضوعي بالحقيقة الطائفية – يٌنظر إلى الطائفة بوصفها تكوينا اجتماعيا كسائر التكوينات في المجتمع له ما لها وعليه ما عليها وهو رهن الوقائع والحيثيات الموضوعية والتاريخية في المجتمع وبالتالي فإن التعصب الطائفي في هذا يكون غائبا على نحو كلي. فمثل هذا الوعي لا يترتب عليه أي مواقف سيكولوجية تعصبية أو أي نمط من الاتجاهات العاطفية والوجدانية التي تملي على الفرد سلوكا طائفيا. وهذا يعني أن الشخص الذي يمتلك وعيا موضوعيا بحقيقة الطائفة والطائفية لا يمكنه أن يتأثر بمعطياتها أو أن يكون ضحية للمشاعر والاتجاهات والسلوكات التي تقوم على أساس طائفي. ومثل هذا الخطاب يمكنه أن يحدد لنا الكيفيات التي يمكننا أن نؤثر بها في إزاحة الفكر الطائفي والتأثير في عوامل وجوده.

أما الوعي الذاتاني التعصبي للحقيقة الطائفية فيتمثل في نسق من التحيزات التعصبية الساذجة التي تملي على الفرد نمطا من السلوك العدائي تجاه أبناء الطوائف الأخرى. وهذا الوعي مبني على نسق من المطلقات والأحكام الذاتية السلبية ضد الآخر من أبناء الطوائف الأخرى. فالطائفية بالمعنى الذاتي التعصبي تعني التعصب لطائفة ما والتعبير عن مصالحها والتفاني في خدمتها وتقديم مآربها على ما غيرها من الطوائف. وهذه الصورة من الوعي مضادة ومباينة للوعي الموضوعي الذي يعتمد منهجا نقديا موضوعيا في فهم المعطيات والصيرورات والوظائف التاريخية المشكلة للطائفية وللتعصب الطائفي. وبالمقارنة بين الوعيين يمكن القول بأن الوعي الذاتي يأخذ صورة ممسوخة مشوهة عن الواقع بينما يأخذ الوعي الموضوعي صورة وعي يتطابق مع الواقع بمعطياته المجتمعية وأسبابه الموضوعية.

ومن سمات الوعي الموضوعي أنه يحتوي الوعي الذاتي ويدرك أبعاد قصوره وغرائزيته وهو يدفع إلى التفهم والتسامح بينما يدفع الوعي الذاتي إلى التعصب والكراهية. ومن المؤسف أن جلّ الوعي السائد في مجتمعاتنا حول الطائفة والطائفية وعي ذاتي غرائزي ينطلق من المبادئ الشمولية ويركن إلى أحكام كلية تفتقر إلى أدنى مستويات العقلانية والموضوعية. إنه وعي طائفي بامتياز ونعني به هذا الشكل من الوعي الذي يضع الآخر الطائفي في مربعات الإدانة والاتهام والتبخيس المطلق.

وفي هذا المستوى تكمن المهمة العضوية والتاريخية للمفكرين في ترسيخ هذا النوع من الوعي الموضوعي بالطائفة والطائفية على حساب الوعي الذاتي القائم على المطلقات الحسية الغريزية المعادية للآخر والمادية بإزاحته.

3- مفهوم الطائفية:

وللطائفية مفهومان طاغيان، هما: الانتماء إلى الطائفة والتعصب للطائفة.

فالانتماء للطائفة لا يتناقض مع المشاعر الإيجابية للفرد تجاه الطائفة وهذا يوازي الانتماء إلى المكان والجماعة والقوم والعصبة والحزب السياسي، ومن هذا المنطلق فإن حب الطائفة دون تعصب والذود عن مصالحها ورفع الظلم عنها ومن ثم رفض الظلم الذي يقع منها على الآخر أمر محمود ومطلوب في مجتمع طائفي استبدادي.. أي ذو بنية طائفية كما حال بلادنا اليوم.

أما الطائفية المذمومة فتعني التعصب الأعمى للطائفة وإعلاء مصالحها على مصالح الآخرين والانتصار لها ظالمة ومظلومة. ولنا في موقف النبي صلى الله عليه وسلم من العصبية القبلية أسوة حسنة في فهم الطائفية بمعنى حب القوم (الأقربون أولى بالمعروف) عندما قال: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال: رجل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنصره إذ كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟! قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره. (أخرجه البخاري). وعلى هذا المنوال فإن الطائفية بالمعنى الحميد أن يمنع المرء طائفته عن الظلم في حالة كونها ظالمة ويرفع عنها الظلم إذا وقع عليها وكانت مظلومة.

يعرف حامد أبو زيد الطائفية بقوله " الطائفية فعل تفتتي، لا يتوقف عن ممارسة فعاليته عند نقطة محددة، قد تبدأ من نقطة ما، لكنها تنفجر ما لم تتم محاصرتها بأسرع وسيلة " (1). " إنها تمارس تفتيتها لكل ما هو بنّاء حتى تصل إلى الفرد نفسه فتشطره كما تنشطر الذرة فينفصل الإليكترون عن النواة مولدا طاقة مرعبة إذا خرجت عن حدود التحكم، فإن الطائفية تشطر الإنسان نصفين، قوتين متقاتلتين تنتجان تبادل للسيطرة والعنف في علاقة يهيمن فيها الذكر على الأنثى (الأقوى على الضعيف هيمنة تكون مطلقة" (2). إنها كالنار التي تنطلق في الهشيم فهي تجتاح بلهبها كل شيء وتستفحل دون انقطاع إن لم تحاصر ويغمر لهيبها في الحال قبل أن تستفحل وتحدث الكارثة.

4- جذور الطائفية:

تضرب الطائفية جذورها في عمق الثقافة العربية المعاصرة وتشكل بنية عقائدية بنية راسخة في صلب الحياة الثقافية في المجتمع. وقد لا نبالغ في القول بأن الطائفية تشكل اليوم أيديولوجية عنيفة دموية تغلغلت في الوعي الجمعي. وهذا ما كشفته أوهام الربيع العربي وأفرزته قويا في المظهر والمضمون. لقد اندفع الناس أثناء الحراك الجماهيري للتعبير عن طائفيتهم المريرة والمهينة. وقد تبين لنا في ضوء هذا الحراك أنه في المجتمعات التي تسودها ثقافة شمولية، الدين، المذهب، الطائفية، العصبوية، لا يمكن للمرء أن يخرج من قوقعته الأيديولوجية أو يفكر بشكل حر أو مستقل. فالثقافة الطائفية مارست سلطتها بوصفها سلطة كامنة في النفس والعقل الجمعي ومارست دورها في تفكيك المجتمعات العربية ولاسيما في البلدان التي شهدت حراكا شعبيا ضد الظلم والقهر.

ولا يستطيع أحد أن ينكر اليوم بأن الخطاب الطائفي يتصدر الحوار السياسي والثقافي في العراق وفي سورية أيضا. وهو نوع من الخطاب الآثم الذي يقض مضاجع السوريين والعراقيين جميعا ويهدد وحدتهم ودولتهم وعيشهم المشترك. وقد أصبح هذا الخطاب مع الأسف الشديد قدرا يفرض نفسه على رجال السياسة والفكر بامتياز. ولا يستطيع اليوم أحد أن ينفلت من مغبة استخدام هذا الخطاب الذي لطالما تمنى السوريون الأحرار أن يلغى من أبجدية حياتهم مرة واحدة دفعة واحدة إلى الأبد.

فالأقطار العربية محكومة بقوى تتفرد بالسلطة بصيغتها التسلطية، وتقتل الجماهير، وتحطم الروابط الاجتماعية بين الناس، وتعمل على إحياء كل ولاءات الماضي ما قبل المجتمعية وانتماءاته كالطائفية والقبلية والعشائرية والأثنية ... وغيرها بحيث يصبح الكل في حرب ضد الكل (...) وتمعن في إفقار معظم أفراد الشعب، وتنقل ثرواتها إلى خارج الحدود وتمتنع عن توظيفها واستثمارها في مشاريع إنتاج عربية الأمر الذي يؤدي في نهاية الأمر إلى تأجيج الأحقاد بين العربي والعربي داخل القطر العربي الواحد أو بين الأقطار العربية وبالتالي تهميش العامل المنتج للمشاعر القومية بين الناس (3).

إن ظهور الولاءات الطائفية والانتماءات الضيقة ليس بالقدر الذي لا يرد بل إن تشكل هذه الولاءات والنزعات يأتي انعكاسا وتجسيدا لشروط تاريخية سياسية واجتماعية واقتصادية. وبالتالي فإن إمكانية تغيير هذه الشروط تبقى قائمة لصالح ثقافة عربية أصيلة وشاملة (4).

" إن غالبية سكان الوطن العربي مسلمون لكن الواقع الاجتماعي الراهن أحالهم إلى طوائف فتوزعوا إلى سنة وشيعة وعلويين وزيديين ودروز وشافعية ...الخ، وكذلك إلى طرق كالمهدية والختمية والوهابية والسنوسية ومذاهب ومدارس بما يتعارض مع كل من الولاء الديني العام والولاء القومي. ويوجد إضافة إلى ذلك أقليات لغوية أو دينية أو عرقية كالأكراد في العراق وسورية والآشوريين والتركمان والشركس والأرمن، وقبائل إثنية جنوب السودان وقبائل البربر في المغرب العربي، والمسيحيين الموزعين إلى طوائف عدة والمنتشرين في مختلف أقطار الوطن العربي (5).

هذه الولاءات الطائفية التقليدية التي أشرنا إليها بأشكالها المتعددة تمارس الآن دورها المعوّق في عملية الاندماج الاجتماعي وتحقيق التنمية الاجتماعية، ولكن ليس بسبب التنشئة الاجتماعية التي خلفتها العصور الوسطى، إنما بسبب تجدد ظهور الظروف التي كانت في أصل وجودها، ومنها التخلف والرؤية الغيبية والسلطوية السياسية والتباين الطبقي للأفراد والجماعات الطائفية والقبلية والعشائرية والأثنية، حيث يتمتع بعضها على حساب البعض الآخر بالغنى والنفوذ والجاه. وبسبب ذلك فإن العصبوية التقليدية القائمة هي إما ردة فعل وإما أداة للمحافظة على امتيازات بعض الجماعات أو للحصول على الحقوق التي حرمت منها أو لانتزاع امتيازات أو مكاسب جديدة (6).

5- المثقف الطائفي:

يقول لينين قولته المشهورة: "المثقفون هم أكثر الناس قدرة على الخيانة، لأنهم أكثرهم قدرة على تبريرها". وأقول: إن مثقفينا لم يخونوا الأمانة فحسب بل كانوا أوفياء للمكنوز الثقافي الطائفي في أعماقهم".

في الآونة الأخيرة نشأت طائفة من المفكرين الطائفيين الأشاوس الذين خطفوا الأضواء وتقدموا الصفوف وضجت بهم الأرجاء. وقد تميز هؤلاء المثقفون الجدد بقدرة هائلة على إثارة غير معهودة للتعصب الطائفي وتأجيج الكراهية المذهبية والعوة إلى النبذ والتبخيس والتكفير إلى حدّ الدعوة إلى سفك الدماء والقتل. وقد انتشرت السموم الفكرية لهؤلاء المفكرين عبر محطات التلفزيون وصفحات المواقع الإليكترونية الصفراء انتشار النار في الهشيم. وضمن هذا التصور ظهرت هذه الطائفة من المثقفين لتأجيج الفتن والنفخ في لهيب الكراهية الطائفية وجمار التعصب المذهبي. فاحتلت أسماؤهم عرض الصفحات في المواقع الإلكترونية ومقام الأولويات في "مانشيستات" الصحافة الصفراء.

وفي هذا الزمن المفجع- الذي ألم به جحيم الطائفية وعصفت بأركانه كل أمواج الحقد المذهبي - أصبحت الثقافة الطائفية موضة ثقافية رائجة اليوم تستهوي القلوب وتنتعش لها النفوس اليائسة والقلوب البريئة. وفي أرداف هذا التعسف الإنساني والبؤس الأخلاقي، وعلى إيقاعات هذا الواقع المأساوي، استطاع فرسان الثقافة الطائفية وركّاب أمواجها أن يصبحوا من المعروفين في ميدان الثقافة الطائفية، وأن يأخذوا مكان الشهرة في أروقتها وتضاريس حضورها! وقد امتهن هؤلاء الطامحون موجة الحقد الطائفي كوسيلة للارتقاء الثقافي والتألق الفكري والصعود السياسي. ولأن لكل عصر دولة ورجال انبرى هؤلاء المثقفون ليمثلوا هذا العصر الطائفي بدولتهم الفكرية ورجولتهم الطائفية فأصبحوا بامتياز أبطال هذا العصر الطائفي وفرسانه. وتتمثل وظيفة هؤلاء "المثقفين الطائفيين الجدد" في صب الزيت على النار الطائفية إذكاء توقدها ونشاطها، فهم يذرعون في نفوس الناس الخوف والكراهية والحقد والنزعة إلى الثأر الطائفي عبر مقولاتهم وأفكارهم وتصوراتهم الجهنمية، ثم يختلقون القصص والروايات ويزورون التاريخ والحوادث ويؤججون المشاعر ثم يدعون إلى القتل والاقتتال تحت عنوان الكراهية الطائفية والحقد المذهبي الأرعن اللعين.

ويمكن القول في هذا السياق "إن الكثير من المثقفين يسقطون في إطار المنظور الطائفي أو المذهبي الضيق متأثرين بالجو العام بدلا من أن يخرجوا منه ويفتحوا للمسلمين خطا جديدا، والسبب واضح: فهو عائد إما إلى دغدغة المشاعر وإرضاء هذا الرأي العام أو ذاك، وإما إلى ضعف التكوين المنهجي لدى هؤلاء الباحثين المتسرعين، وإما إلى عدم اطلاعهم على ثقافة أخرى" تتجاوز حدود ثقافتهم الطائفية" (7).

أساتذة جامعات معروفون، مفكرون "علمانيون" كبار، رجال دين مشهود لهم، شعراء، أدباء، انخرطوا في معركة التعصب المذهبي والطائفي وأصبحوا ممثلين لطوائفهم وأعراقهم وأديانهم حتى لانتماءاتهم العشائرية والمناطقية الضيقة. حتى أن الناظر يكاد لا يصدق ويقول لنفسه أنني أعيش في كابوس لا في الواقع. وفي حمأة هذا الجنون الطائفي، تحول الإنترنت الى ساحة جديدة للصراع الطائفي من خلال منشورات الحقد والكراهية ولوحظ في الآونة الأخيرة تجمعات افتراضية كثيرة تحت شعار طائفي على مواقع التواصل الاجتماعي مثل جروب أل البيت – جروب الشيعة – جروب أهل السنة – جروب المجاهدون وغير ذلك مما يزيد في انقسامات المجتمع ويمعن في إضعافها.

لقد كشفت الأحداث الدامية في سوريا وليبيا والعراق ولبنان أنّ أغلب المثقفين الكبار، الذي كان يُفترض أن يعوّل على علمهم وحكمتهم ورجاحة عقولهم في الأزمات وفي المنعطفات التاريخية، قد انحدروا إلى الدرك الأسفل من السّلوك الغرائزي الطّائفي والعرقيّ والمذهبي الأرعن، وانضمّوا إلى القطيع المهجّن بقيم التخلّف والجهل والعفن التاريخيّ. ولم يستطع كثير من المفكّرين اللاّمعين العرب أن يُخْفُوا هذا التدفّق السادي المهووس والمدجن بقيم التخلف والسقوط في مستنقع من الأوهام النزوية الماضوية التي تجد صداها في أعمق طبقة من طبقات الوعي والوجدان، فانضمّوا إلى القطيع يردّدون أناشيد التعصّب، ويتمايلون على إيقاع التمذهب، ويهزجون بكل خرافات الماضي وأباطيل التّقاليد التي لا يمكن أن تصمد أما العقل والمنطق والبرهان.

وقد بدا أيضا أن الثقافة الطائفية، النازعة إلى إلغاء الآخر والفتك به وتدميره، قد تجذرت في العقل الباطن عند المثقفين الذين أظهروها بعباءة العلمانية المزيفة تارة، أو تحت مسميات المجتمع المدني والعدالة الاجتماعية تارة أخرى. ومع ذلك فإن هذه الملطفات الثقافية لم تستطع أن تخفي هذا النزع الطائفي المروع الكامن في نفوسهم وعقولهم الدفينة المأفونة. وقد تخرج هذه الطائفية المروعة من قمقمها المخيف عندما يقترب المرء من رموزهم الدينية الطائفية وترتدي حلتها الدموية التي لا تخفى على أحد وتتلاشى في تلك اللحظة مفاهيمهم العلمانية القائمة على الحرية والتعددية وقيم التسامح وقيم المجتمع المدني والديمقراطي وعندها يتعرى المثقف من قشرته الخارجية الحضارية ويظهر للملأ في صورة وحش طائفي يشهر أنيابه في وجه المختلف ويقوم بتمزيقه ناسيا تماما أن هذا الآخر كان شريكه في الإنسانية والوطن.

ومع الأسف الشديد، فإن معظم المثقفين الطائفيين رفعوا أقلامهم السوداء خناجر دامية في جسد الثقافة والحضارة والأمة والوحدة الوطنية، وقاموا بنسف القيم والمعتقدات الليبرالية الحرة والديمقراطية التسامحية التي عرفناها ربما في أحقاب من التاريخ العربي، وهم يشكلون اليوم خطرا داميا يهدد الأمن والثقافة المجتمعية في بلداننا. والأمر الذي لا أستطيع أن استوعبه حتى اليوم كيف يمكن للمثقف أن يكون مثقفا ديمقراطيا إنسانيا وهو يناصر وينتصر بكل مداد ثقافته للمنظمات الإرهابية مثل داعش والنصرة والقاعدة؟

لقد هجر كثير من المثقفين مواقعهم النقدية مهرولين إلى مضارب الأنظمة السياسية ومواطن الأحزاب الدينية والتيارات الأيديولوجية العمياء، وذلك تحت ضغط الثروة والنفوذ والمال، فقدّم بعضهم المسألة الطائفية على قضايا الوطن والمواطنة والديمقراطية. ومن أجل تبرير هذا التغير النوعي في المواقف قدّم كلّ مثقف هذه التغيرات التي طرأت عليه بوصفها نوعا من التطور مع معطيات الواقع وتراكمات الثقافة وصيرورة الحياة الفكرية وهي صيرورات وتغيرات فرضتها الأحداث الدامية والتغيرات السياسية في مجرى الواقع بما ينطوي عليه من هزائم وانتصارات.

وتذبذب المثقفون من فكر حرّ ديمقراطي إلى نقيضه وانتقلوا من إيديولوجيا يسارية إلى مواقع دينية وغيرها. ومن ثمّ تغيّر دور المثقف، من المثقف الملتزم والعضوي والعقائدي إلى المثقف الذي يرتبط بالطائفة والسياسة والنفوذ والمال.

في الماضي القريب كانت هموم المثقفين مشتركة وتطلعاتهم الإنسانية واحدة وكانت قضاياهم تتمحور حول قضايا: العدالة الاجتماعية والوحدة العربية وتحرير فلسطين. والديمقراطية والفكر القومي والمجتمع المدني وحقوق الإنسان، أما اليوم فقد تبدلت الأولويات والقضايا المصيرية فأصبح كثير منهم مدافعين عن قضايا الطائفة والحزب والعصبة والمذهب والإقليم والتعصب فخرجوا على المبادئ التي تشكلوا في فيئها وقلبوا ظهر المجن لكل القيم الوطنية والإنسانية التي نادوا بها ودافعو عنها ووجدوا خلاصهم الوجودي في الدفاع عن قضايا الطائفة والحزب والمذهب والدعوة إلى التحريض التعصبي بكافة أشكاله وألوانه.

"فالمثقفون" بين مزدوجتين يضفون على تعصبهم هالة ثقافية وقوة سحرية تجعل التعصب يندفع بقوة وينتشر.... هؤلاء هم أخطر البشر على الوطن والمواطنة والإنسان والإنسانية..... وإنني لعلى يقين بأن هؤلاء المتعصبين يستحقون أن يحاكموا ألف مرة قبل أن نحاكم أمراء الحرب ومجرميها... لأنهم أكثر خطرا على القيم والأخلاق والإنسانية من أي قوة شريرة أخرى.

حتى "إن رجالات الدين (كثير منهم) انقلبوا على طريقتهم ونظرية الإسلام في الحياة الحرة الكريمة، خطاباتهم تحريض وتحض على القسوة في القلب، نصائحهم توبيخ وتهديد ووعيد بالقطيعة والتباعد والتنافر، شروحاتهم لا تقترب من الواقع لا من قريب أو بعيد، ناهيك عن التنظير الطائفي والتحشيد المذهبي برغم ان المجتمع واحد متجانس متخالط لا حاجة له بهم. لم يستطيعوا تسخير النظرية الإسلامية في تامين الحياة الكريمة للمجتمع وصار لديهم الدين قتال وغزاوت وكره للطرف الآخر وتهميش للعواطف وتحقير للفرح وتهجير للروح الى عالم الآخرة بدون ان تعرف ما المعنى من حياتها في هذه الدنيا"8.

6- خاتمة:

يقول ستيفن هوكينغ " إن أعظم عدو للمعرفة ليس الجهل، بل وهم المعرفة " ويمكنني القول بأن المثقف الطائفي في عالمنا العربي يمتهن هذا الوهم ويتماهى به ويركب أمواجه. وأقول أيضا في هذه الوقفة الاختتامية إن التعصب – أي تعصب - يشكل حالة من الاستعلاء والانغلاق والجمود على المعتقد، تغيب فيها إمكانية التفكير والنقد والنقض، حالة يضفي فيها المتعصب صفة القداسة على نفسه ومعتقداته وأفكاره ومطلقاته، داعيا إلى نبذ الآخر وإقصائه وإبعاده، ومن ثم تصفيته واقتلاع جذوره، انسجاما مع مطلقات عقديته المقدسة التي لا تقبل النقاش والجدل.

فالتعصب الطائفي هو نمط من التدين المتوحش الذي يضرب جذوره في أعماق الثقافية العربية ويقينا - كما يقول عبد الجبار الرفاعي- إنه: "لا يمكننا الخلاص من أنماطهذا التدين المتوحش، الذي يفترس مجتمعاتنا المسلمة، ويُكرّس خيبات الأمل، إلاّ أن تصبح: الإنسانية غايتنا، والأخلاق نصابنا، والعدل هدفنا، والحقوق والحريات معيارنا.. لن نبلغ ذلك مالم نكتشف مجدداً صورة الله المفتقدة في الكثير من أنماط التدين، بعد أن نُطهّر هذه الصورة مما لوّثها من ركام خرائب التاريخ، التي راكمها استبداد الخلفاء والأمراء المتغلبين، وشرعنها فقهاء السلاطين، من أجل حرائق غرائزهم العدوانية وحروبهم، وما تركته من رماد أسود وجروح فتاكة في الذاكرة المجتمعية.. لن نبلغ ذلك مالم نعش الإيمان بالله بوصفه إلهاً للحب والجمال والحق والخير والعدل والسكينة والسلام".

يفترض تاريخيا ومنطقيا أن تؤدي الثقافة بمثقفيها دورا إنسانيا نهضويا في المجتمع، وينطوي هذا الدور على ترسيخ القيم الإنسانية العليا، وتحقيق أعلى درجة من التماسك والتلاحم الاجتماعي، وهذا يتضمن محاربة العنف والتطرف والعصبية والانتقال بالمجتمع إلى حالة التحضر العليا بما ينطوي عليه هذه التحضر من قيم السلام والتسامح والإيمان بالإنسان والمواطنة رفضا للعنف والدم والتعصب والانقسام. فالثقافة رسالة إنسانية حضارية أخلاقية توظف في حماية المجتمع والجماعات والأفراد وضمان مصالحهم وحماية وجودهم وترسيخ أسمى المعاني والقيم الإنسانية. ومن الطبيعي أن يكون المثقف منتجا لمثل هذه الثقافة مدافعا عنها مضحيا بذاته من أجلها ومن أجل القيم الأخلاقية في مجتمعه ومن أجل المجتمع الإنساني بتمامه وكماله. ويقتضي هذا التوجه أن المثقف الذي ينادي بالعنف والانقسام والتعصب يكون خارج الثقافة والقيم الأخلاقية، ويكون فعله فعلا مضادا للحياة والرسالة الأخلاقية الإنسانية للمثقف الحقيقي.

وضمن هذا التصور وعلى أساسه لا يمكن للمثقف الحقيقي أن يكون طائفيا أو مذهبيا، ولا يمكن أن يكون محليا يدافع عن ثلة من البشر أو طائفة من الخلق. فالمثقف الحقيقي كما يراه غرامشي هو المثقف العضوي الذي يتلاحم مع القضايا الكبرى لمجتمعه دون تحيّز أو تمييز أو تعصب. وهذا يعني أن المثقف يفقد هويته الثقافية الحقّة عندما ينحدر إلى مستنقع العنف والتعصب والسقوط في مستنقع الطائفية والمذهبية.

كم نحن بحاجة اليوم إلى الانتقال إلى وضعية نقدية نرفض فيها شعارات التعصب والطائفية وتقديس المعتقدات الخرقاء المضادة للإنسان والإنسانية، ألم يحن الوقت بعد كي نتخلص من اليقينيات الطائفية اليائسة والدوغمائيات التعصبية الهدامة والوثوقيات المدمرة التي تنخر عقولنا وتدمر مشاعرنا الإنسانية وتحولنا إلى وحوش قاتلة كاسرة.

كم نحن بحاجة إلى القلم الذي يرسم ومضات النور في دائرة الظلام والزمن. كم نحن بحاجة اليوم إلى وضع العجلة الثقافية على سكة التنوير، لننطلق فرحين في قطار الحرية: حرية الضمير والتعبير والتفكير والتدبير والتغيير والتنوير، ألم يحن الوقت لنخرج من زمن موحش، زمن الطائفية المقيتة، والتعصب الهدام، والفكر الخرافي الظلامي الذي يحكمنا، أم يحن الوقت كي نحطم أصنام العبودية التي تخذلنا؟ ألم يحن الوقت بعد لولادة المثقف الحر الفاعل في التاريخ القادر على مواجهة التحديات الطائفية والعنصرية في مجتمعاتنا العربية؟

***

علي أسعد وطفة

كلية التربية - جامعة الكويت

..................

مراجع المقالة وهوامشها:

[1] - نصر حامد أبو زيد، دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1999، ص 55.

[2]- نصر حامد أبو زيد، المرجع السابق ص56.

[3] - حامد خليل: مستقبل العلاقات الثقافية والاجتماعية العربية - العربية، شؤون عربية، العدد 93، مارس /آذار، 1998، (صص 61- 80)، ص66.

[4] - حامد خليل: مستقبل العلاقات، المرجع السابق، ص67.

[5] - حامد خليل: مستقبل العلاقات المرجع السابق، ص68.

[6] - حليم بركات: المجتمع العربي المعاصر، بيروت، 1984، ص 49.

[7]- هاشم صالح: الثقافة العربة في مواجهة الثقافة الغربية والتحديات، الوحدة، ضمن المجلس القومي للثقافة العربية: الواقع الراهن للثقافة العربية، العددان:101- 102، فبراير/مارس1993، صص (14- 29)، ص22.

[8] - وليد كريم العبيدي، الفقر الفكري للعرب هشم النظرية الإسلامية في السلم المجتمعي، المثقف، نشر بتاريخ: 12 تشرين1/أكتوبر 2013. https://www.almothaqaf.com/opinions- 3/79942- 2013- 10- 12- 01- 43- 25

القرآن يَمَسُّ الحقيقة الجوهرية للإنسان المؤمن مسّاً مباشراً، ينفذ إلى أسرار النفس البشرية نفاذاً بيناً، يُعوّل عليه في كل شئ، ولا يُعوّل على سواه. والتجربة مع القرآن تقرّر الآتي:

لو تخيلنا في الإنسان وجود دائرتين:

الأولى: دائرة الحياة الدنيا بكل ما فيها، دائرة الوجود الحَسّي المحدود، الوجود الإنساني بكل ما فيه من طعام وشراب ومأوى، ومن تربية وتعليم وتزكية وترقية ونجاح وفشل وأوهام وخزعبلات وأمراض وآفات ومطامع ومصالح وسوءات. باختصار: كل ما في حياة الإنسان من أوهام وحقائق.

يُلاحظ أن هذه الدائرة الأولى هى الطاغية، تستغرق جميع أنشطة الإنسان الفاعلة، وهى لا محالة تنحرف به بعيداً عن حقيقته الأصليّة، الجوهرية، والمطلوب هو اكتشاف هذه الحقيقة الأصليّة.

والدائرة الثانية: دائرة الوجود الروحي المطلق، الوجود الإنساني الأرقى، المفتوح لا المغلق، دائرة القرآن على التحقيق، الدائرتان موجودتان في الإنسان المسلم، إذا طغت الأولى على الثانية ضاقت حياته بما رحُبَتْ، وأصبح عرضة للفناء والضياع والتمزق والأطماع والأوهام والأمراض والبلادة الذهنية والعقلية والروحيّة، وغابت عنه حقيقته الأصليّة فلم يستطع اكتشافها في ذاته.

والقرآن باعتباره علماً وفهماً وحكماً وذكراً هو الأقدر على اكتشاف الحقيقة الأصلية في الإنسان، وهو الفاعل دوماً بترقية الوجود الحسي إلى الوجود الروحي، فبالدائرة الثانية، دائرة القرآن، تضيق الدائرة الأولى؛ لأن العلم يُغذي الفهم، والفهم يقوي الحكم، والذكر هو الأفعل دائماً في نشاطها وحيوتها وارتقاء مطالبها إلى أن تسيطر بالكلية على أنشطة الإنسان الفاعلة المؤثرة.

لا تتأتى هذه السيطرة بين عشية وضحاها .. كلا بل الأمر يحتاج إلى دُربّة وعادة ومران مع الدوام وقلة الفتور، وبخاصّة (الذكر) لأنه الوسيلة الوحيدة لضرب الوهم في مقتل، ولإزالة المخاوف، ولتعلق القلب الذاكر برجاءات المذكور وهو الله تعالى.

وشيئاً فشيئاً مع محاولات النجاح والإخفاق، ومع تكرار المحاولات، والاستعانة الدائمة بالله، يضيق الوجود المحدود وتضيق الدائرة الحسيّة، ويتّسع الأفق القرآني وتتسع الدائرة الروحيّة. والأصل فيها الذكر وتغذية الروح العاقل بالعلم والفهم والحكم بدايات الحركة الروحيّة، ثم يكون الذكر بالكلية العماد الأصيل فيها؛ ليتم اكتشاف حقيقة الإنسان الأصيلة.

تلك كانت معطيات ضرورية لفاعلية القرآن (مع التجربة) في النفس الإنسانية، لكنها معطيات قليلة النفع بالنسبة للجاحد المنكر، بعيدة عن اهتماماته ومتعلقاته؛ مع أنها أقرب ما تكون لكل متجرّد يعمل على الصفاء وحُسن التلقي ويتعامل مع القرآن على الفطرة المستقيمة.

وفي إطار صراع الأديان لا تكاملها ووحدتها، كانت وربما لازالت هنالك دعوات صهيونية على الساحة الثقافية تقرّر أنه بغير القضاء على القرآن الكريم لا يتسنى القضاء على الإسلام، ويوم أن يُقضى على القرآن عن طريق إدراجه في قائمة المحفوظات، وأرشفته في زوايا التاريخ، وإهماله ونسيانه، يكون القضاء على الإسلام شيئاً ميسوراً.

لكن الكيفية التي يتمُّ بها القضاء عليه في زعمهم هى اللغة؛ فلغة القرآن لغة عربية فصيحة مُبينة وقديمة – هكذا تجيءُ حجتهم – لا تساير حاجات العصر ولا تتمشى مع مطالب الحياة اليومية لعصر عسير عليه أن يتعامل بلغة ينطق بها كتاب المسلمين المقدس.

وإذا كانت الدعوات الصهيونية تهجم على اللغة العربية باعتبار قداستها المنظور إليها في ميدان الدين، فإنّ جميع الكتب المُقدّسة لا يفترض فيها الصراع إلا من حيث هذه القداسة للغة؛ كونها دينية. فما يُقال عن القرآن فيما لو صحّ على اعتبار أن اللغة الدينية لا تساير عصور العلم فيجب هجرها واستبدلها؛ فحريٌّ أن ينطبق هذا على سائر الكتب المقدّسة في اليهودية والمسيحية سواء.

ومن الغريب أن اللغة لدى اليهود لم تكن باللغة التي تخرج عن الأفق الديني الذي تدور فيه؛ فكانت توفيقاً وإلهاماً من حيث إنهم نظروا إلى اللغة العبريّة في إطار قداستها مع أن قواعد لغتهم لم تقنن إلا في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي من قبل يهود إسبانيا.

ومن المؤكد كما يشير المؤرخون أن قواعدهم النحوية مصبوغة بصبغة نحويّة عربية، وأن أهم الأعمال التي قدّمت لم تظهر إلا بعد اختلاطهم بالعرب، واتصال ثقافتهم بالأمم المجاورة، وخوفهم من اندثار لغتهم لانصراف الناس عنها وتعلمهم اللغة العربية. ولم تشأ الدراسات اللغوية اليهودية المستقبليّة فيما بعد أن تنشط خارج الدين، نشأت من خلاله مرتبطة به في كل مراحل نموها وتطورها خدمة للكتاب المقدس، وفي إطاره، ثم استقلت تباعاً رويداً رويداً.

ولقد كان “سعيد الفيومي” عالماً لغوياً يهوديّاً أنتج أعمالاً نحوية، ومعجميّة على غرار المعاجم العربية ممّا جعل “روبينز” يشير في “موجز تاريخ اللغة” إلى أن أصل المعرفة اللغوية العبرية لتفسير الأدب الديني للعبرانيين بما في ذلك كتب العهد القديم، يرتد إلى الدرس اللغوي العربي فضلاً عن أن تطور المعرفة اللغوية عند اليهود في القرون الوسطى يرجع في الأصل إلى التأثير المباشر باللغة العربية.

وليس يُخفى تأثير اليهود بالدرس اللغوي العربي؛ إذ لا يزال التفكير اليهودي إلى يومنا هذا يعتمد في تطور لغته العبريّة معجمياً على المعجم العربي. وقد ذكر بعضهم أن اللغويين اليهود لجأوا إلى حيلة لإقناع شعبهم بما يفعلون، مضمونها أن لغوييهم يدعون أن هذه الكلمات المأخوذة من المعجم العربي أصلها يهودي وقد أخذها العرب منهم، فليس هناك من غضاضة فيما لو تمّ استرجاعها، جرياً على نهج القاعدة: تلك كانت بضاعتنا رُدَّت إلينا.

واقعياً؛ لم تكن هذه الدعوات على مَرِّ الزمن تخلو من آثار ملموسة تنعكس على المجتمعات بالإيجاب أو بالسلب بمقدار تحققها وتطبيقها واستقبال الناس لها أو صدّهم وعزفهم عنها؛ وشيئاً فشيئاً نرى تحقيق هذه الدعوات المزعومة بين أبناء العربية من جرّاء إهمال لغة القرآن؛ وأسرار هذه اللغة في استقامة التفكير عندهم، فلولا هذه اللغة العربية المُبينة ما عرفنا شيئاً قط عن جملة العقائد: العقيدة الإلهية، وعقيدة النبوة، وعقيدة الإنسان في الألوهية، ولولا اللغة القرآنية ما وضحت أمامنا معالم الحقوق يؤديها الإنسان المسلم؛ فيكلفه القرآن بتأديتها ثم تنبثق عنها واجبات مفروضة بمقدار الحقوق التي له أو عليه. لولا اللغة القرآنية ما ظهرت أمام العقول أسرار العبادات والمعاملات؛ فمثل هذه الأسرار لا تتجلى بلغة أخرى غير اللغة التي نطق بها البيان الإلهي.

فلهذه اللغة القرآنية أسرارها ممّا يبيّنها القرآن في لغته الفصيحة وأسلوبه المتفرِّد ورمزيته الدالة، فلو كانت لغته لا تتناسب مع حاجات العصر لامتنع وجود الحقوق العامة للإنسانية بل والحقوق والوجبات الإنسانية الخاصّة ووجود المعارف المتعلقة بها، وهى بلا شك معارف تدل عليها لغته. وإنما لغة القرآن أكثر رقياً وتهذيباً فيما لو أنها مَسّت قلوباً مستعدة، فهزت ضمير الإنسان: جوفه وباطنه، وتغلغلت في أعماق طواياه، وأنه كلما رأى منها مثل هذا التغلغل الباطني أو مثل هذا التماس الداخلي؛ رأى من ثمّ حياته الحقة في ظلال القيم العلوية تترقى بارتقاء هذه البواعث الوجودية الضابطة لحركة النوازع السائرة:

لغة أقل ما يُقال في حقها من رقي إنها دليل حياة صالحة للبقاء، بل أقل ما فيها من رقيّ أنها مصدر لخلود الحياة؛ إذْ الدلالة فيها تربط الدنيا بمسائل المصير بمقدار ما تربط الفاني بالباقي، والمحدود بالذي لا حدود فيه، وتصل جهود الأرض بقيم السماء. وإنه؛ كلما نظر القارئ لهذه اللغة بعين الإيمان بخصوصيتها – ولا أقول قداستها – إلى حقائق الحياة، وجد هنالك لغة القرآن خيرَ معين له على الاستبصار في هذه الحياة واستكشاف ما خفىَ منها من وجوه وظلال، في حين تتبدَّى أمام غيره ممَّن لم ينظر مثل نظرته، حقائقها غير واضحة ولا مجلوة؛ لتكون مثالاً صارخاً للتخبط البادي في الظلمة والاضطراب.

وممّا يكشف له هذه الحقائق أن ينظر إلى مقررات اللغة ومقوماتها، تلك التي تضمّنت أسرار الحقائق جميعاً في لفظ يهدي ومعنى يرشد ويبين، ينظر إليها بعين الإيمان لا بعين الجحود والنكران، وأنه كلما داوم النظر لحدّ التعلق بعين الإيمان؛ استطاع أن يتكشف بفضلها أسرار الحقائق الحياتية؛ لأن الإيمان إذ ذاك يستحضره ويربيه؛ فيصقله ويقوّمه ويهديه، ثم يطلعه من بعدُ على الحقائق الجوانيّة الباطنة باللغة التي هى فيه؛ شريطة أن تكون العين الناظرة عين “إيمان” مجرّدة عن التعطيل، كاشفة للسّر الكامن وراء حجب الألفاظ والعبارات، مستجلية للرمز خلف الصور اللغوية، تتبدّى فيها الحقائق وتتكشف في أصل عنصرها الرفيع: الاستجابة للحياة القويمة من دعوة الله ورسوله.

وربمّا كان أقربُ الأدلة على تأثير الدين في اللغة من الزاوية اللفظية والدلالية هو الصيغة الجديدة التي أعطاها الدين (الإسلامي) في القرآن لكلمات مثل: الصراط، الميزان، الحساب، الآخرة، الزكاة، الحج، فتلك مفردات اصطلاحية وجدت في القرآن وحُمِّلت بمعان ودلالات جديدة لم تكن معروفة بالقدر الكافي قبل مجيء الإسلام. وعليه؛ فللدين من ثمَّ معطى لغوي يحفظ اللغة ويحافظ عليها من حيث إنها وسيلة اتصال بالله من خلال القرآن الذي يُتلى والأدعية التي يُتَعبَّدُ بها.

من زاوية أخرى؛ يُلاحظ أن لغة الدين نفسها تفرض على فئات المجتمعات المختلفة ذاتها؛ فالتعابير الدينية لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات؛ كالقسم والسلام والتحية والحوقلة والتهليل والترحُّم على الأموات واستحضار الله في مناسبات شتى إلى آخر هذه التعبيرات التي لا تعدم منها مجتمعات الأديان. ولا يخفى ما للغة من تأثير بالإيجاب في نشر الدين؛ فكما يؤثر الدين في اللغة ويطورها ويضيف إليها دلالات جديدة، كذلك تؤثر اللغة في الدين وتساعد على فهمه بالصحيح المقبول، وبخاصّة حين تكون اللغة هى لغة الدين التي نزل بها كتابه المقدّس.

وأبعدُ من ذلك: أن تؤثر اللغة في صحيح الدين فيما لو استقامت، وإذا هى انحرفت، انحرفت معها لا محالة مقاصده الحيوية على الجملة، وفهمت الدلالات الدينية على غير وجهها الصحيح. ولم يكن بعيداً عن الصواب أن تشترط الدراسات الحديثة لتجديد الخطاب الديني، لزوم تجديد القوالب اللغويّة التي تتضمّنه، لأن اللغة أقرب الموارد لفهم الصحيح من الخطأ، ولمزايلة الفاسد المعطوب من المستقيم الذي لا عطب فيه.

إنمّا اللغة وسيلة اتصال وتفاهم ليس إلا؛ فتجديد قوالبها ليس تجديداً للحقيقة الدينية في ذاتها بمقدار ما هو تجديد للفهم وترقية للوسيلة في رحاب هذه الحقيقة، ضمنها وفي محتواها المعرفي، لا خارجها أو خارج حقائقها الاعتقادية. إنه إذا كانت اللغة وسيلة اتصال وتفاهم ليس إلا؛ فتجديد قوالبها – كما تقدّم – ليس تجديداً للحقيقة الدينية في ذاتها بمقدار ما هو تجديد للفهم وترقية للوسيلة في رحاب هذه الحقيقة، ضمنها وفي محتواها المعرفي، لا خارجها أو خارج حقائقها الاعتقادية. وعليه، فليس شرطاً أن يكون القالب هو نفسه القالب، ولا أن يجيء التركيب هو نفسه التركيب لأن للفهم في إطار هذا كله وسائله التعبيريّة. واختلاف التعبير خاضع لاختلاف الفهم لا محالة. وكشف المخبؤ من تحت أستار اللغة صنعة الماهر لا تفارق عطاياه، فكما لا يلام الفنان إذا هو استخدم في عمله الفني كل الوسائل المتاحة له، كذلك لا يلام الفيلسوف اذا هو استخدم النقد اللغوي التحليلي في معطاياته النظريّة.

وربّما كان من أسوأ علامات الانحراف بالدين عن مقاصده الحيويّة وارتقاءاته الشعورية ونفعه الأبدي للإنسان، هو غياب العلاقات الفاعلة بينه وبين اللغة، واهتزاز وشائجها دلالةً وفهماً وحركة ومسيرة، وانفصال الروابط الجامعة بين فهم اللغة وبين المقاصد الدينية.

ولم تنشأ قوائم التطرف ولا حوادث العنف والإرهاب ولا الحروب الدينية البلهاء باسم الدين أو تحت مظلته إلا لنشوئها أولاً في اللغة والفكر؛ فالتطرف فيما لو لاحظته إنمّا هو في البداية تطرف لغوي، أحدث عوائق معرفية سبقت الفهم، وتقدّمت منذ البداية طمس الدلالة، وأبرزت هُوَّة سحيقة بين الخطاب الأيديولوجي والممارسة الفعليّة، أو بين الاعتقاد النظري والمباشرة العمليّة، لكأنما حدثت فواصل بين مقتضيات الشعور الديني والحركة في إطاره. وبإمكان اللغة فيما لو قننت وحُسب لها حساب المعقول أن تكون أقدر لإزالة هذه الفجوات الكارثية، وأسلم للفهم وأصح للمعرفة وأبقى للدلالة النافعة. مرة ثانية؛ ليس يخفى ما للغة من تأثير بالإيجاب أو بالسلب في فهم الدين ونشره.

ومن أجل ذلك؛ وجبت الدعوة (أمراً) إلى سبيل الله أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا تكون بالتطرف والفظاظة أبداً، وبخاصّة حين تكون اللغة هى لغة الدين الذي نزل بها كتابه المقدس. وليس يخفى أيضاً ما في هذه الإشارة من لفتة توحي بدلالة ظاهرة؛ فقد نجد الترجمة للقرآن مثلاً تفقده روحه؛ لأن لغته مع الترجمة تتلاشى تماماً ويستبدل بها لغة أخرى؛ تكاد تفقد بريقها وعطائها الباطن، ولا تكاد تجد لا للإيقاع ولا للموسيقى مع الترجمة أثراً، ناهيك عمّا ينشأ عن اللغة من سوء فهم قد يتسبَّب من المؤكد في عوائق معرفية؛ الأمر الذي يدلُّ بالمباشرة على أن العربية لغة القرآن خاصّة ذاتية له، وأنّ لغة القرآن في إطار تلك الخصوصية الذاتية هى العربية، وأن استظهار الإبانة لا تتاح على الحقيقة بغيرها: لسانٌ عربي مبين.

***

من أين لنا بمعرفة خير ما يصلح للمجتمعات الإنسانية ممّا يفسدها إذا لم نكن على علم باللغة التي جاء بها النفع والصلاح؛ فإذا هى مُوجِّهة الإنسانية قاطبة إلى خير ما ينفع، زاجرة لها ناهية عمّا يضر ويفسد؟ وليس من شك في أن الأمر والنهي الإلهيين إنما هما في الأصل لغة قائمة، مجرد نصوص من كلمات جامدة تتحول مع الممارسة في أجواف القارئين إلى حقائق وحياة؛ فاللغة هنا رموز وإشارات لا قيمة لها بغير الفاعلية التطبيقية. وتلك هى بالحقيقة لغة القرآن في بساطتها وخلوّها من التعقيد الخاوي والتكلف الممقوت. ونحن لا نعلم في لغة من اللغات مدى عنايتها بالسلوك والتهذيب وإثراء الجانب الأخلاقي على الجملة فضلاً عن التفصيل كما عنيت لغة القرآن بضوابط الحركة والسلوك: انتقال الفكرة فيها إلى دائرة العمل المشروع؛ فإذا لم يتح للمتلقي أن يعمل بما وَصَل إليه من فكر في هاته الأداة المبينة، أو في اللغة التي عرفها؛ فعرف من أسرارها الشيء الكثير أو القليل على قدر استعداده؛ إذا لم يتح له في ميدان العمل أن يعمل بما عرف من فكر مؤدَّى بلغة مُبينة، كان ما عَرَفَه أنقص ممّا جهله على المستوى التطبيقي؛ لأن السلوك هنا هو بمثابة اكتمال دائرة لا تكتمل الحركة إلا به، فحركة في الذهن يصحبها عمل، وعمل نتاج حركة ذهنية، وكلما أحكم وضبط، أحكمت مراحل التوجيه وضبطت لكي تؤدي الغرض الساري منها قصداً؛ فدائرة الأخلاق ناقصة إنْ لم تكن اللغة فيها فكرة عملية قابلة للممارسة التطبيقية، وكل كمال على هذا النحو ناقص ما لم يكن الفكر فيه لغة مًوحية بالعمل مُوجبة لإرادة التنفيذ.

فما كنَّا لنستطيع أن نعرف مجمل الخصائص العقائديّة والأخلاقية، ولا سائر العبادات والآداب الإسلامية، ونحن بمعزل عن لغة القرآن. وما كنا لندرك شيئاً عن هذه اللغة، ونحن بمعزل أيضاً عن العمل بفكرتها التأسيسية، تؤديها على أكمل ما تكون تأدية الأفكار وتوصيلها إلى المؤيدين والمنكرين سواء.

ولو لم تكن اللغة في أدائها موصّلاً جيداً لما فيها من أفكار وتعاليم وايحاءات، ما كان يقرّها منكر قبل مؤيد، وما صارت قط موضع لغط كبير أو ضئيل من قبيل نفر يجيدون اللغط حتى على الثوابت الرواسخ، ولا ينفرون من إجادة اللغظ فيريدون أن يجعلوه قاعدة التجديد المبتكر والتحديث من بعد التحديث من بعد التحديث إلى غير انتهاء في مثل هذه “التحديثية” الغريبة والمنفرة، بدعوى مسايرة العصر وحداثته الفجة الكسحاء، وهو عصر كم اللغط المنفر والدردشة الفارغة فيه، أعمُّ وأشمل من كم الصدق والعمل النافع والاستقامة الخالصة.

وليس أغرب من أن تجئ هذه الدعوات على ألسنة وأقلام لأناس يمتلكون في الغالب الإحساس باللغة, ورهافة الذوق, والقدرة على التعبير, والتوظيف بكلمات ذات مساقات أصيلة، ومع ذلك يريدون أن يتقدّموا ولشعوبهم أن تكون مستنفرة تجاه اللغة على حساب التأخر والخسارة، وأن يرتفعوا على فريضة الإهمال, غاية ما هنالك أنهم يضربون اتجاه فكري باتجاه آخر حتى إذا ما أهملوا هذا أخذوا بذاك، وفرضوه على أنفسهم وعلى غيرهم، فإذا الإنسان معه يسير كما الأكتع بغير استقامة، إذ لم يكن عقلاً كله ولا علماً كله بل له من العلم والعقل جوانب تمتلئ بها مناطق ولا تزال فيه مناطق لا يملأها العلم التجريبي ولا العقل المحدود، جوانب أخرى وجودية تحتاج إلى امتلاء. وما كان التقدّم ومسايرة العصر أبداً ضرباً من خسارة القيم الروحيّة التي شكلت حضارات وقوّمت أمثلة نادرة في التاريخ الثقافي الإسلامي وغير الإسلامي على حدٍ سواء.

وما كان الارتفاع قط مطلوباً من جرّاء فريضة الإهمال لمقوم الهُويّة النشطة والفعال في حياة الفرد أو في حياة المجموع، أعني هوية العقيدة والأخلاق.

وعندي أن أخصّ ما يكون مكنون فيها هو اللغة المُعبرة عن وجود الإنسان الحق، الإنسان الإنسان لا الإنسان الحيوان، ولو شئت لقلت الإنسان الكامل. هذه اللغة، ولا ريب، أسهل مأخذاً وأبلغ قناة إنْ في ألفاظها وإنْ في معانيها أو في مساقاتها من كثير من اللغات العصرية تلك التي لا تعرف لها مؤدّى ولا مرفأ أميناً ترسو عليه.

نعم! هي لغة، ولكنها تجري على ألسنةٍ المحجوبين، وتعوج بهم بمقدار ما ينسدل عليهم حجاب الغفلة والاعوجاج، هي اللغة المفككة عن الضوابط والأحكام، المنحلة عن الأصول التي تربطها بالقيم الداخلية وأخلاق الكمال في مطمح كل إنسان شريف.

هذه اللغة من تلك الجهة تمثل عائقاً معرفيّاً كما يمثل الاعتماد فيها على العلم أو العقل هذا العائق الذي يسير فيه المرء بمقتضاه كما لو كان أكتعاً يشعر بالنقص والاعوجاج، لأنه ملأ جانباً في وجوده على حساب جانب آخر، حتى أن الفراغ المتروك يطالبه دائماً بتغذية وجوده فيه، الأمر الذي تحدث معه هزة باطنة هى المقصودة عندنا بالعوائق المعرفيّة.

وكما تكون اللغة من تلك الجهة مدعاة للعوائق المعرفية، تكون سبباً لإزالتها فيما صدق صاحبها في استخدامها، واستعمال أنشتطها في تغذية وجوده الروحي؛ فالتجرد والصفاء من علامات حسن الاستخدام للغة وإزالة العوائق المعرفية، وهما من علامات الترقي المعرفي ومن موجباته كذلك. فليس علماً على التحقيق ما كان صادراً عن حكاية أقوال الغير؛ ولتلحظ أن أقوال الغير هذه، إنْ هى إلا مجرد لغة؛ لأن أقوال الغير ليست إلا أحوالهم، فالذي يحكي عنها هو لا محالة يصف حال صاحبه وقت أن صدر عنه هذا القول أو ذاك، والأحوال تتبدل ولا تستنسخ كما تستنسخ الآلات آلاف آلاف النسخ المكررة فيما تريد استنساخه؛ فأحوال هذا ليست كأحوال ذاك، وأقوال هذا لا يمكن تبعاً لذلك أن تكون هى نفسها أقوال ذاك. فليس علماً ما كان صادراً عن حكاية أقوال الغير؛ إذ العلم بداية المعراج المعرفي، ما فوقه أسمى منه وأرقى.

أما العلم في ذاته، فليس أسمى منه في الحياة، ولكنه مع ذلك ليس هو كل ما في الحياة، لأن في الحياة ما هو أعلى من العلم وأسمى، إذ من شرط العلم النافع أن يقود إلى المعرفة، وأن يؤدي إليها بالتحقيق لا بالاستشراف. ومن شرط المعرفة أن تقود إلى شهود الفضل الإلهي ومعاينته كما يُعاين المحسوس؛ وليس هناك أفرح للقلب ولا أدعى للرحمة من ذلك الشهود على التحقيق:”قل بفضل الله وبرحمته؛ فبذلك فليفْرحوا هو خيرٌ ممَّا يجمعون”. وعليه؛ يصبح العلم الذي لا يؤدي بدوره إلى مثل هذا الشهود، شهود الفضل الإلهي، ليس بنافع ولا هو أهل لآن ترقى معه حياة صاحبه إلى منازل المحققين.

إنه ليمثل عائقاً معرفيّاً في ذاته، كما تمثل اللغة فيه نوعاً من التحجير والتضييق لتصبح هى الأخرى نفسها عائقاً معرفياً يؤخر ولا يقدّم، يحصر المرء في منطقة محدودة بحدود الأفق الذي يتحرك فيه العلم المحدود والعقل المحدود. وفي المقابل لاحظ اللغة في الآية الكريمة ولاحظ المعراج الدلالي فيها، فإنّ فضل الله مدعاة للفرح، وأن فضل الله هذا مقرون بالرحمة، وهما معاً أفرح ما يفرح قلب السائر مع الشهود، فليس من فرح أسمى ولا أعلى من الفرح بفضل الله وبرحمته. فاللغة هنا معراج، تجربة، والمعراج باللغة ليس لفظاً يكرر ولكنه حقيقة واقعة وحياة تعاش مع أن اللغة في عين هذا الشهود لا أثر لها على الإطلاق.

اللغة هنا ليست عائقاً معرفيّاً بل نقلة إلى ما بعد المعرفة، إلى الحقيقة مباشرة. أجواء الآية بفضل رهافة الإحساس باللغة فيها، تقضى بمثل هذا العروج إلى منازل الشهود حيث لا لغة هنالك ولا واصف ولا موصوف.

***

تموت اللغة حتماً بمقدار ما يموت فينا “الوجود الروحي” الشاعر بنبض المعنى داخل هذه الأجوفة الآدمية قرائح كانت أو قلوباً، ويعزُّ علينا البيان كيف نمضي به إلى طريق سواء، إنْ في عالم الإبداع وإنْ في دنيا الخلق والتجديد والابتكار. لك أن تذهب إلى المحافل والمنتديات الثقافية إن شئت فماذا عساك تلاحظ؟ ما إن تتردد على المسامع كلمة غريبة لها وقع نابي حتى يحفظها الناس بالمشافهة، فتلوكها الألسنة لدرجة أن تعدمها قيمتها إنْ وجِدَتْ لها قيمة بين الكلمات، فترى الأشداق تتغنى بها دون أن تدرك العقول لها معنى وكأنها مفتاح الدخول إلى عالم الثقافة ودنيا المثقفين. كلمات جوفاء بغير معنى ولا مدلول؛ لا تدل إنْ دلت إلا على الفراغ العقلي والبلادة الذهنية والعقم المعرفي، ونصيبها من فقر الشعور والإحساس أضعف بكثير من حظها من الفراغ العقلي وبلادة الذهن وعقم التفكير .. تلك هى بحق لغة الكتاتيب!

عالم اللغة: ألفاظه ومعانيها أشبه بكتّاب كبير، ترى الشيوخ فيه – فضلاً عن الشباب – لا هم من المعمَّمين ولا من المطربشين، ولكنهم من حُفاة الرؤوس العارية عن معنى فقه المعنى فكرة أو كلمة، يُردّدون كلمات اخترعوها من عنايتهم لا يستقيم لها ضابط يحكمها من واقع الحياة الفكرية والثقافية ولا من فقه اللغة العربية في أصولها الأصيلة، وإنما هي مخترعة اختراعاً من واقع يعانونه ومن دنيا يعايشونها: من عادم السيارات وبلاعات المجاري الطافحة بالقاذورات، ومن زخم الزحام العنيف في الشوارع والطرقات، ومن أبخرة الفول والبصل والطعميّة المحروقة في الزيت المسموم، تغيم على العقول فتغيبها عن الوعي، فإذا هى فاقدة مفقودة معدمة الصلاحية، ومن واقع كله فقر ومرارة ينعكس بالسلب على المثقفين والمبدعين فلا يجعلهم يحسنون أقل ما يجب إحسانه من استخدام الكلمات للتعبير عمّا تضيق به صدورهم من لواعج ومنغصات، وما تزخر به أجوافهم المضطربة من تلوث فكري وثقافي فضلاً عن التلوث البيئي، يستمدون منه ألفاظهم اللغوية، وحياتهم في هذه البيئة أو تلك الطافحة بغريب القول والفعل وغريب التصرّف والعمل.

ومع ذلك؛ فهم معذرون؛ لأنهم نشأوا وتربوا في عالم مقدار التلوث فيه أكبر من مقدار الصفاء والنقاء، وهم معذورون مرة ثانية؛ لأن وسائلهم إلى تغيير هذا العالم أضعف بكثير من وسائلهم إلى مسايرته والبقاء فيه كما هو عليه. فلا تغيير؛ لأن إرادة التغيير لديهم فكرة نظرية، مجرد كلام في كلام، وليست هي بالسلوك المفضي إلى عمل إيجابي. ولا تغيير لأن إرادة التغيير يجب أن تنبعث من تحت، من هذا الواقع، من القاعدة، من الأعمال، أعني من داخل النفس البشرية، من التربية الروحيّة والفكرية، من ذلك التحول المباشر في أطوار الإدراك، وانقلاب أنماط الاستقرار النفسي الرابض على الدّعة والسلبية والاستكانة.

وعمّا قريب ستجد كلمات ما أنزل الله بها من سلطان هى السائدة والمسيطرة بقوتها وغلبتها على أذهان الناس عامتهم ومثقفيهم؛ فإذا سألت من أين جاءت؟ فلن تجد جواباً أشفى ولا أصوب من ذلك الجواب الذي يطلعك على هذا الواقع المستعر: من عادم السيارات، وبلاعات المجاري، وأبخرة التلوث، وسعر الناس في دنياهم من أجل معاشهم ومتاعهم. كلمات ما أنزل الله بها من سلطان، وأسماء كان الناس سَمّوها هم وآباؤهم، لا ترى لها أصلاً من ثقافتنا الروحيّة أو وجودنا الأخلاقي الذي ينبغي أن يتقدّم فيُوجب على كل من يؤمن بقيمه العليا وأعرافه الصائبة أن يغيّر به واقعاً طفح وطفر كما لو كان هذا الواقع الطافر الطافح هو الأصل وسائر القيم والأعراف بمثابة الفروع اللاحقة عليه؛ تكاد تقصف من أصولها إنْ وجدت لها في دنيانا أصول.

هذه الحياة المعكوسة المضطربة تفرض علينا ألا ننساق وراء ذلك الهبوط المُذل للإنسان، وهو في جوهره من الكرماء، إذا عرف حقاً فضيلة أن يتقدّم عنده وجوده الروحي، فيجعل له الأولويّة على سائر الحيوات الأخرى، تعترك سبيله عن يمين وشمال صباح مساء، وهو لا يتقدّم لديه هذا الوجود الروحاني إلا بمفتاح التفكير، ومفتاح تفكير هذا الوجود خاصّة هو اللغة القرآنية الكاملة.

ولم تكن صدفة عارضة أن يتشرط العلماء أن يكون ذوق اللغة العربية مصدراً من مصادر تفسير القرآن، حتى ولو كان هذا التفسير هو التفسير بالرأي. ومعلومٌ أن التفسير بالرأي ينقسم إلى قسمين: قسم جائز ممدوح لا غضاضة فيه. وقسم حرام مذموم. وحيث يكون التفسير بالرأي من القسم الأول؛ فلا بدّ من أن يتفق مع ما جاء في المصادر الأساسية للتفسير، ولا يخرج عنها من حيث التأصيل وهي: القرآن الكريم والسنة المطهرة، وما صحَّ من أقوال الصحابة، واللغة العربية، والتفسير بالمقتضى من كلام العرب، والمقتضب من قوة الشرع. فاللغة العربية: صحتها وتذوقها والعلم بها وتأويلها وحُسن تخريجها، ركنٌ لا غنى عنه في التفسير بوجه من الوجوه. وكل تفسير يخرج عن تلك الحدود عرضة للقدح المذموم كما أنه يندرج تحت طائلة الحرام قطعاً كما شرط العلماء (برهان الزركشي: جـ2، ص 180 وما بعدها).

وقد نقل السيوطي عن ابن تيمية (ت 728هـ) من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف (تلك الشروط) كان مخطئاً في ذلك، بل مبتدعاً، لأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه، كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله”. على أن هذه الفتوى المُقرّرة من ابن تيمية، إذا قصد من ورائها توقف فهم القرآن عند حدود ما ذكره، فليست ملزمة، ومناقشتها في ضوء المعارف الحديثة وتطور الأزمنة، تبطلها، غير أن هذا مجال واسع بين أخذٍ وردٍ ليس هذا موضعه الآن.

وبما أن اللغة العربية هى الحركة المفصلية للذهن بين ما هو مستقر في الباطن الخفي وما هو خارج ظاهري، فليس من شك في أن الإحاطة بها ومعرفة أسرارها وتذوق دلالاتها والارتقاء بها إنما هو مصدر من مصادر التفسير بالرأي على ديدن الذوق الوجداني واتساع الأفق العقلي؛ إذْ من الواجب أن يكون للتفسير مستند لغوي، وألا يتعارض مع ما يفهم من ألفاظ اللغة العربية وقواعدها حتى تقرّر أنه يجب على المُفسر الاحتراز من صرف الآية عن ظاهرها إلى معانٍ خارجة محتملة، يدل عليها القليل من كلام العرب، ويكون المتبادر خلافها، فكيف يسوغ الاستدلال بغير اللغة العربية كالفرنسية والإنجليزية والعبرية مثلاً على تفسير القرآن؟ فإنّ هذه المسألة لا تفتقر إلى دليل وحسب؛ بل هناك دليل من القرآن ينفيها وينكرها، وهو قوله عز وجل:”ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصّلت آياته أعجمي وعربي”؛ فالله سبحانه أنكر نزول القرآن بلغتين بل هو أثبت في آيات أخرى:”قرآناً عربياً غير ذي عوج”.

ولغة القرآن لا شك أسلس لغة يستقيم بها لسان أستقام على صفات الكمال أو ما يقرب إليها من قول وعمل؛ فإنّ اللفظة القرآنية تخاطب الضمير وتثوِّر الوجدان؛ لتثوِّر في جوف القارئ ثورات التغيير.

ما من قارئ يقرأ القرآن على هذه الصفة: صفة الثقافة الثورية فيه، إلا ويهتز ويطرب من داخلة بقشعريرة دافعة لإرادة التغيير من الداخل؛ لأن اللفظة تنقله من حيث يدرك لها معنى مفتوحاً ذا آفاق روحيّة عليا، إذ تشيع في باطنه وتسري في كيانه أشعة التحول من عالم إلى عالم، وسريان الانقلاب من حالة إلى حالة؛ ونظراً لأنها لفظة مفتوحة العوالم غير مقيدة ولا محصورة بأهداب الأرض وطينة المادة الصماء، فلا ريب في أن تفرض عليه لوازم التغيير تجيء من باطنه لتحرك فيه ما أعتاد على السكون والخمول. ويكفي من تعلقه بالحسِّ وتوهمه الحقيقة على أطلاله، وتشبثه بالمحسوس من ركون وتعامل وحياة وحركة، يكفي من هذا كله ركوناً ما بعده ركون واستلاباً لحقيقته الأصلية. فلولا أن رأى في تلك اللغة فضيلة اليقظة الداخلية، ما استيقظ ولا أستفاق، وعسى أن تكون في يقظته فضائل الترفع عن أوهاق المادة ليعي حركة الروح في أعمق أعماق وجدانه وفي أخلج خلجات التفكير في دنياه وأخراه.

ومَرَدُّ الأمر في تلك اليقظة الواعية أن ينظر في اللغة التي يتعامل معها فكره وضميره: أهى لغة حواس قريبة المنال أم هى لغة ترفع عنده ملكات الإدراك لما هو أرقى وأسمى من مدراك الحواس القريبة وأعلى وأبعد من المآلات الدنيوية الأرضية؟ إنْ وجد اللغة دالة على قرابة المحسوس يقع بين يديه وتحت رجليه، فهى إذ ذاك من جنس ما يريد، ومن جنس ما تدل عليه تتضع بوضاعة المحسوس الذي يقع عليه عنده على نفس الدلالة التي تقربه منه وتبعده عن سواه. وإن هو وجدها لغة أعلى وأبعد ممّا يناله محسوس ولا منظور، كانت دليلاً مباشراً على أن الخطاب الإلهي يتضمّن لغة علوية، وأن هذه اللغة لا تصلح على الإطلاق لمخاطبة الخنازير الآدمية؛ لأنها لغة من جنس ذلك المقام العلوى، تناسبه، ترتفع ما ارتفع هذا المقام عند صاحبه، وتسمو حينما تسمو المطالب الروحيّة في ذات المتلقي، وعلى هذا القياس تكون اللغة القرآنية سامية بمقدار ما تسمو في الإنسان مدركاته الروحانية.

غير أن هذا السمو الروحي هو بلا شك خاصّة ذاتية في لغة القرآن، من معطياتها، ومن أفاقها الرحبة المتسعة: ولك أن تتعمّق بالتأمل قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِم نَبَأَ الذَّي أَتَينَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنهَا فَأَتْبَعَه الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ. وَلَو شِئنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا، وَلَكِنُّهُ أَخْلَدَ إلىَ الأرضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، فَمَثَلَهُ كَمَثَلِ الكَلبِ إنْ تَحْمِل عَلَيِه يَلْهَثْ أوْ تَترُكهُ يَلهَث، ذلِكَ مَثلُ القَومِ الذَّينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ”.

من ذلك الحيوان الأعجم الذي لا يرقى برقى هذه اللغة كلما قرأ وتدبَّر ووعى ثم صعد بروحه في معارج الكمال؟ من ثم من؟ إلا أن يكون خنزيراً ينسل من بعده الخنازير.

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

حـ ـ سؤال التنشيط التربوي أو تدبير الدرس: يأتي بعد المرحلة السابقة من خلال طرح السؤال التالي:

* كيف سأجعلهم نشطين خلال هذا الدرس؟

وهو سؤال ديداكتيكي وتدبيري بامتياز، لا يقوم إلا بمعرفة الديداكتيكا العامة والخاصة، وباستراتيجيات التنشيط وطرائق التدبير وأساليب التدريس النشط، ويقع تحت عنوان المعرفة الإجرائية. ويرتكز أساسا على مركزة المتعلم/ ة الفعل التعليمي، ونقله من فعل التعليم إلى فعل التعلم، حيث (يجب ألا تؤسس المدارس ليقوم فيها المعلمون بالتدريس، بل ليقوم فيها التلاميذ بالتعلم)[59]. لأن المتعلم/ ة يشعر فيها بأهميته وبمكانته ودوره في التعليم بتفعيل فعل التعلم لديه. وهو ما ينمي فيه الثقة بالنفس ويحفزه على المشاركة في بناء التعلمات بروح المسؤولية الملقاة على عاتقه. فيقدر ذاته إيجابيا. وهذا المبدأ هو الأساس، المدخل إلى استراتيجيات وطرائق وأساليب التدريس النشط. التي توظف في مكانها المناسب وزمنها الملائم، وتوافقها مع الموارد والأهداف والمعينات البيداغوجية ومعطيات المتعلم/ ة. وهي تقوم تحت سقف شروط ومواصفات ومتطلبات معينة، منها مثالا لا حصرا:

ـ أن تكون شاملة متضمنة المجالات المعرفية/ العقلية، والعاطفي/ الوجداني، والنفسي حركي/ المهاري، وكل المواقف، وتتضمن الاحتمالات المتوقعة التي قد ترد على الممارسة الصفية وكيفية مقاربتها.

ـ مناشطها التعليمية التعلمية ومواردها وتعلماتها مهندس لها جيدا وبدقة لا تترك هامشا لحضور الخطأ. وتعمل على تحقيق الانسيابية بينها بما يجلب الانسجام والتكامل والتكافل بينها لأجل تحقيق أغراضها وأهدافها التي خططت له.

ـ ترتبط بالأهداف مباشرة، وتحققها بمسلكياتها المنهجية التي يقوم بها المتعلم/ ة. بمعنى من خلالها يستطيع المتعلم/ ة تحقيق الأهداف المقررة والكفايات المرصودة وفق المجالات المطلوبة " معرفية، الثقافية، السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، التكنولوجية ... ".

ـ أن تستحضر الفروق الفردية وتراعيها بغية تحقيق أولا: نواتج مشتركة بين المتعلمين/ ات أساسا لمكتسبات قادمة ولاحقة في المسار التعلمي لهم. وثانيا؛ تحقق نواتج تعلم تطويرية وفق تفردات المتعلمين/ ات وتمايزاتهم في المعرفة والمهارات والقيم والأداء.

ـ أن تمركز المتعلم/ ة الفعل التعليمي بتحويله إلى فعل التعلم، مما يستثير دوافعه ورغباته في التعلم حسب حاجاته. ويحقق تفاعله ونشاطه داخل الممارسة الصفية بتحصيل متعته التعلمية، وجاذبية للمشاركة بإيجابية في العلاقة السوسيومعرفية بين مكونات جماعة القسم.

ـ أن تعمل على تطوير وتنمية الممارسة الصفية ونواتجها التعليمية التعلمية وإغنائها بالمستجد النظري والعملي.

ـ أن تكون طويلة المدى ضمن توفير الزمن المناسب والمكان المتوافق معها، بما يؤدي إلى حضورها دون ضغوط أو إكراهات ضمن توقعات نواتجها وتبعياتها.

ـ أن تكون مرنة وقابلة للتطور لتساير الاحتمالات المتوقعة.

ـ أن تكون كفاءتها جيدة ومرتفعة في مقارنة متطلباتها واحتياجاتها وقت التنفيـذ مـع مخرجاتها التعليمية التعلمية ونواتجها التحصيلية؛ بمعنى العمل على الرفع من فاعلية إنتاجها ومنجزها مقابل التقليل من تكلفة المدخل. وهو فارق الجودة بين الدخل والخرج باصطلاح المعلوميات.

ـ تناسب معطيات المتعلم/ ة المتنوعة من استعداده ومستواه التعلمي وقدراته ومهاراته وكفاياته وخبراته وتجاربه ومعرفته المعلوماتية واللغوية والتقنية وغيرها، فضلا عن أن تثير انتباهه واهتمامه، ويقدر على تنفيذها بمعنى قابليتها للتنفيذ والإجراء.

وللممارس البيداغوجي إمكانيات واسعة في توظيف الاستراتيجيات التعليمية التعلمية في الممارسة الصفية تحت وعي فائق الحساسية بالاستراتيجية المناسبة، والفاعلة والناجحة والقادرة على تحقيق النتائج والأهداف المتوخاة. وتحت كذلك على توفير شروطها ومستلزماتها ومطالبها ومتطلباته. كما أن كتب الاختصاص في شأنه حاضرة لمساعدته على التكوين في أكثر من استراتيجية حيث بعضها يتضمن نماذج تطبيقية لهذه الاستراتيجية[60]، ونذكر منها استراتيجية: كرة الثلج، وحلقة الحوار السقراطية، وارسم أفكارك، والمقابلة ثلاث الخطوات، والمواجهة/ اكشف أوراقك، والمساجلة الحلقية/ التعاقب الحلقي، وأعواد المثلجات، ورقة الدقيقة الواحدة، ومن أنا؟ والمفاهيم الكرتونية، وفجوة المعلومات، واليد النشطة/ اخفض يدك، والرؤوس المرقمة، والكرسي الساخن، وK.W.L، وفكر حول؛ زاوج؛ شارك، والعصف الذهني، حوض السمك، وتعليم الأقران، ورافت RAFT، وحل المشكلات، وفيليبس 6×6، وخرائط العقل، وتوليد الأسئلة/ الاستجواب الذاتي، ومثلث الاستماع، والإثراء الوسيلی، وتسلق الهضبة، والخرائط الذهنية، والأكواب الملونة، ولعب الأدوار، والمسرحة، والندوة، والتفكير في التفكير، والمشروع ... وغيرها.

وفي نطاق هذه الاستراتيجيات يمكن للممارس البيداغوجي أن يمد المتعلم/ ة بمجموعة من التوجيهات والإرشادات والأسئلة التي توجه تفكيره وأداءه؛ كأن يوجهه إلى توظيف بعض الإرشادات والأسئلة نحو استراتيجيات التعلم ماوراء المعرفي، التي تسعى إلى إدارة جميع الفئات الأخرى لاستراتيجيات التعلم، إنها تسمح للمتعلم/ ة بالتفكير في طريقة عمله وتفكيره " التفكير في التفكير"، وتقييم فعاليته والتعديل حسب الحاجة. حيث يصبح المتعلم/ ة من خلالها قادرا على فهم "ماذا" و "كيف" و "متى" و "لماذا" تعلم موضوع التعلم؛ مما يعني أنه لا يقتصر على الجانب المعرفي و/ أو الإجرائي من التعلم بل يذهب نحو التفكير وبعمق وعن وعي وفهم واستيعاب. حيث أصبح تعليم التفكير هو أحد الغايات الكبرى للأنظمة التربوية في العالم، لأنه ينحو إلى إخراج الأنظمة التربوية التقليدية من قولبة المتعلمين/ ات في نظام واحد، وإلى التنوع والتعدد والتفرد والتمايز. وتلعب استجابة الممارس البيداغوجي للمتعلم/ ة دورا مهما في تنمية وعيه بذاته وبعملياته التفكيرية؛ حيث (يساعد أسلوب المعلم في الاستجابة للتلاميذ على تنمية الوعي لديهم بعمليات التفكير وكيفية اكتسابها وتنميتها)[61]. كما هو إن أراد تعليم متعلميه/ اته التفكير؛ لابد له من توفير إطار من الوضوح والشفافية للمتعلم/ ة فضلا عن توفير فرص التفاعل البيني للفرد وللمجموعات الصغيرة ولجماعة القسم في إطار وضعيات تعليمية تعلمية للتفكير الإبداعي وحل المشكلات داخل مناخ مدرسي نفسي واجتماعي وتعليمي وثقافي وفكري متوافق ومتوازن. من حيث

( يستطيع المعلم أن يخلق مناخا يشجع التفكير فالمناخ هو أسلوب التفاعل بين المعلم والتلميذ الذي يوفر الثقة ـ المخاطرة ـ مستوى التفكير ـ دفء العلاقة ـ الانفتاح ـ الشعور بالأمن النفسي داخل الفصل ـ أسلوب الاستجابة أو السلوك الاستجابي أو سلوكيات الاستجابة ... جزء هام من هذا التفاعل وسلوكيات استجابة المعلم أي السلوك الذي يقوم به المعلم بعد أن يستمع لإجابة التلميذ على سؤال، أو استجابة التلميذ لما قاله المعلم. ذلك أن المتعلم يبدأ سلوكا ما وذلك إما بأن يوجه سؤالا للتلاميذ أو يقدم معلومة، ثم يقوم التلميذ بسلوك ما استجابة لما قاله المعلم، ثم يقوم المعلم بالاستجابة داء التلميذ.

وقد وجد Kahn & Weiss أن أسلوب استجابة المعلم يؤثر في سلوك التلميذ أكثر من السؤال الذي وجهه أو التعليمات التي طلب من التلميذ تنفيذها، وذلك لأن التلميذ شديد الحرص على معرفة استجابة المعلم له.

وقد وجد Loweny & Morshall أن استجابات المعلمين للتلاميذ تؤثر على مفهوم الذات لديهم واتجاهاتهم نحو التعلم وعلى تحصيلهم وعلاقاتهم بالفصل بشكل عام. ويمكن أن تصنف استجابة المعلم تبعا لتأثيرها على التلميذ إلى:

أولا: استجابات تنهي وتلغي أي فرصة للتفكير.

ثانيا: استجابات تحافظ على التفكير وتشجعه وتنميه.

وهناك ست "6" نماذج سلوكية تحت هذا التصنيف:

أولا: استجابات تنهي وتلغي فرص التفكير:

* النقد وكل ما يقلل من شأن التلميذ.

* المديح.

ثانيا: استجابات تفتح الطريق للتفكير وتشجعه:

* الصمت "زمن الانتظار".

* التقبل الحيادي ـ الإيجابي ـ والتعاطف.

* التوضيح لكل من المفهوم والعملية.

* تيسير جمع المادة)[62].

مناخ يجد المتعلم/ ة نفسه فيه، ويشعر بالأمان والحرية والاستقلالية للتساؤل عما غمض عليه ويعترض سيرورة تعلمه. مما يجعله يوجه طلب التوضيح للمارس البيداغوجي دون خوف أو توجس الصد والقمع أو قلق أو تردد، لأن

( طلب التوضيح يشبه التقبل في أن كلاهما يعكس اهتمام المعلم بفهم أفكار التلميذ ـ فعلى حين يعبر التقبل الإيجابي عن فهم المعلم لما قاله التلميذ، يعبر طلب التوضيح عن عدم فهمه وبالتالي حاجته لمزيد من المعلومات أو البيانات حتى يتحقق له الفهم الجيد وقد وجد Rosenshien & Furst ارتباطا بين تشجيع المعلم للتلميذ لكي يضيف بيانات وتفاصيل لإجابته من ناحية وبين تحصيل التلاميذ ويؤيد هذه النتيجة ما يذكره Klevan عن اتجاه التلاميذ نحو المثابرة ووضوح الهدف في التفكير استجابة لمطالبة المعلمين لهم بالتوضيح.

وقد أشار Flanders أن هناك ارتباطا بين مستوى تحصيل التلاميذ واستخدام المعلم لاستراتيجيات طلب التوضيح، كأن يطلب مزيدا من الأفكار المرتبطة بالفكرة الأساسية، أو يطلب مزيدا من التوضيح.

ومن أهم وظائف طلب التوضيح أنها تساعد نمو تفكير التلاميذ في التفكير " الميتامعرفة ". وقد وجد Brown ارتباطا بين كفاءة التلاميذ في حل المشكلات وبين مستوى الوعي بالتفكير " الميتامعرفة " فكلما كان التلميذ أكثر وعيا بالاستراتيجيات التي يستخدمها لحل المشكلات، كان أكثر كفاءة. ومع ذلك فكثيرا ما يقوم التلاميذ باتباع التعليمات المقدمة أو تنفيذ المهام دون التساؤل عن سبب القيام بها. ونادرا ما يتساءلون عن الاستراتيجيات التي يستخدمونها في التعلم أو عن كفاءة أدائهم. والأغلب أنهم لا يستطيعون توضيح أو شرح الاستراتيجيات التي يستخدمونها عند حل مشكلة ما)[63]

ويمكن تقسيم استراتيجيات ما وراء المعرفية إلى ثلاث فئات فرعية: استراتيجيات التخطيط، واستراتيجيات التحكم، واستراتيجيات التصحيح. وفيما يلي بعض الأمثلة التي يمكن أن تساعد المتعلم/ ة على استخدام نهج متعمق عندما يكون في سياق التعلم من خلال المناشط الفكرية والإجرائية التالية[64]:

1. أقدر فرصتي في النجاح والتقدم.

2. أقدر وقت توزيع المهمة المراد إكمالها.

3. أحدد طبيعة المهمة المراد تنفيذها "التعليمات، النتائج المتوقعة، معايير النجاح، الوقت المتاح" ووضوحها لدي.

4. أقيم جودة وفعالية الأنشطة المعرفية.

5. أتوقع التغييرات أو البدائل حسب الحاجة.

6. أسأل نفسي عندما أكون فعالا في التعلم.

7. أحدد في صندوق الأدوات الخاص بي المهارات والاستراتيجيات اللازمة لأداء هذه المهمة.

8. أسأل نفسي إذا كنت أستخدم المهارات والاستراتيجيات الصحيحة لأداء هذه المهمة.

9. أركز على المهمة التي أريد إنجازها.

10. أحدد الاستراتيجيات والمهارات التي أستخدمها لهذه المهمة.

11. أحكم على ما إذا كنت قد عملت بشكل جيد أو سيئ.

12. أقوم بإجراء تمرين شيئي "على سبيل المثال، ما الذي تعلمته؟ كيف تعلمته؟ ما الذي وجدته صعبًا؟ ما الذي وجدته سهلاً؟ ماذا أعجبني؟ ما الذي لم يعجبني؟

13. أقوم بعمل تمرين للتقييم الذاتي "على سبيل المثال: في ماذا نجحت؟ ما الذي لم أنجح فيه؟ ما هي أخطائي؟ ماذا علي فعله لتصحيح هذه الأخطاء؟

14. أعدل بناء على تقييمي للوضع.

15. كثيرًا ما أسأل أسئلة حول ما أسمعه أو ما أقرأه في هذه النشاط أو الدورة حتى أكتشف مدى ملاءمتها.

16. عندما يتم تقديم نظرية أو تفسير أو استنتاج في الفصل أو في القراءات، أحاول التأكد من أنها مدعومة جيدًا.

17. أحاول التوفيق بين أفكاري الخاصة عن طريق إقامة روابط مع ما أتعلمه.

18. أفكر في الاحتمالات الأخرى في كل مرة أقرأ أو أسمع بيانًا أو استنتاجًا.

19. أقوم بصياغة أسئلة للتركيز بشكل أفضل عندما أقرأ.

20. عندما لا أفهم ما قرأته، أعد القراءة لأجد المعنى.

21. إذا أصبحت القراءات صعبة الفهم، أغير طريقة قراءتي أو أعدلها أو أصححها.

22. قبل إجراء دراسة شاملة لمادة جديدة لنشاط أو دورة ما، أقوم بالقراءة بشكل متكرر لأرى كيف يتم تنظيمها.

23. أطرح علي أسئلة للتأكد من فهمي للمادة أو المواد التي درستها في هذا النشاط أو هذه الدورة.

24. أحاول التفكير فيما أحتاج إلى تعلمه في موضوع معين بدلاً من مجرد القراءة عندما أدرس.

25. أحاول تحديد المفاهيم التي لا أفهمها جيدًا عند الدراسة.

26. أقدر على توجيه ذاتي نحو ما تريده.

27. أعتبر التعلم كعملية مشكلة مطروحة للحل والتجريب في نفس الوقت.

28. أنظر إلى المشكلة أو الوضعية التعليمية التعلمية من زوايا متعددة، وأسجل أفكاري على ورقة بأسلوبي الخاص قيمة مضافة إلى تفكير الآخرين معي في جماعة القسم.

29. أستطيع سماع أستاذي بتمعن ودقة واستيعاب وفهم، وهو يعبر عن استراتيجيات التفكير بلغة سليمة وواضحة ومفهومة حين يقوم بحل المشكلة، وأفرغها من الخبرة التي قدمت لي فيها لاستخلاص العمليات المعرفية الأساسية لتوظيفها واستثمارها في خبراتي الشخصية مستقبلا.

وقد اشتغل أكثر من باحث ودارس على هذه الموجهات الاستفهامية المؤدية إلى "التفكير في التفكير/ ماوراء التفكير" التي تنمي قدرة المتعلم/ ة على تملك مداخل الميتامعرفة، وتنمي بجانب ذلك أو من خلالها الوعي والتحكم في عمليات التفكير، وتدمج التفكير في عمليات التعلم داخل الحجرة الدراسية عند المتعلم/ ة. فإن

( الميتامعرفة Metacognition الوعي بالتفكيرـ التفكير في التفكير، يساعد الدارسين على القيام بدور إيجابي في جمع المعلومات وتنظيمها وتكاملها ومتابعتها أثناء قيامهم بعملية التعلم.

التلاميذ الناجحون يقومون بتلقائية بالتأمل في عملية التعلم وتنظيمها برغم أنهم لا يعون لماذا ولا كيف يساعدهم ذلك في التعلم. أما التلاميذ الأقل كفاءة فهم لا ينتبهون لهذه العمليات ولا يدركون قيمتها. ولذا بدأ الباحثون في وضع استراتيجيات تساعد كل التلاميذ على تنمية الوعي بعمليات التفكير والتحكم فيها.

وقد استخدم منهج توجيه الأسئلة بنجاح في تحقيق هذا الهدف، ثم بدأ التفكير في وضع الأسئلة التي يمكن للتلميذ أن يسألها لنفسه أثناء معالجة المعلومات، والواقع أننا كنا [جيون فونتين وإثر فويسكو Gwen Fountain & Esther Fusco] نحاول ليس فقط خلق الوعي بعمليات التفكير ولكن أيضا وضع منهج يمكن للتلاميذ استخدامه للتحكم في هذه العمليات

وحين بدأ استخدام منهج الأسئلة في الفصل بدأ تغير في أسلوب التلاميذ في القيام بالمهام التعليمية وفيما يلي مثال لما كتبه أحد التلاميذ:

هناك أسئلة رائعة يمكن استخدامها عند التفكير في اتخاذ قرار أو حل مشكلة؛ فحين يكون هناك خطوات واضحة لحل المشكلة تكون الأمور أسهل. وهذه الأسئلة مفيدة أيضا في حل مشكلات مواقف الحياة اليومية وأنا سعيد بمعرفتي لهذه الأسئلة التي أستخدمها ليس الآن فقط ولكن في حياتي المستقبلية.

وقد استمتع التلاميذ بهذا التحكم في العمليات، ووجدوا فيه وسيلة مفيدة في التعلم. إن المطلع على الكتابات في مجال الميتامعرفة يجد أن استخدام الأسئلة العامة أو الخطوات العامة لتوضيح بناء التعلم تكرر ذكره واقتراحه كثيرا كاستراتيجية فعالة. ويمكن تعميم استخدام مهارة الميتامعرفة عبر مواقف متعددة ومشكلات متنوعة ـ فيمكن تدريب التلميذ أن يفكر قبل الشروع في حل مشكلة، ويسأل نفسه ويسأل الآخرين ليقرر ما إذا كان تعريف المشكلة واضحا لديه ـ ويسأل نفسه عن الحلول التي وضعها، ويراقب نفسه أثناء محاولاته في التعلم ليقرر ما إذا كانت هذه المحاولات تحقق الهدف.

وقد قدم Meichenbaum اقتراحات مشابهة في عرضه لدراسات السلوك والعمليات المعرفية حيث يقرر أهمية توجيه التلميذ لاستخدام استراتيجيات إدارة الذات.

وفي ضوء ما تقدم قام الكاتب بتصميم سلسلة من الأسئلة لتنشيط عمليات الميتامعرفة في أي مستوى، من الحضانة إلى الجامعة، وقد حاولنا تحديد العمليات الميتامعرفية في كل سؤال كما هو موضح في الجدول الآتي:

السؤال

العملية التي يثيرها

1 ـ ماذا أفعل؟

ـ خلق نقطة التركيز " يساعد الذاكرة قصيرة المدى".

2 ـ لماذا أفعل هذا؟

ـ خلق هدف.

3 ـ لماذا يعتبر هذا هاما؟

ـ خلق سبب للقيام به.

4 ـ كيف يرتبط بما أعرفه؟

ـ التعرف على المجال المناسب أو العلاقة بين المعرفة الجديدة والمعرفة السابقة أو معرفة المواقف المشابهة.

ـ ربط المعرفة الجديدة بالذاكرة بعيدة المدى.

5 ـ ما هي الأسئلة التي أوجهها في هذا الموقف؟

ـ اكتشاف للجوانب الغير معلومة.

6 ـ هل أحتاج خطة معينة لفهم هذا أو تعلمه؟

ـ لتصميم طريقة للتعلم.

7 ـ كيف أستخدم هذه المعلومات في جوانب حياتي الأخرى؟

ـ الاهتمام بالتطبيق في مواقف أخرى لربط المعلومة الجديدة بخبرات بعيدة المدى.

8 ـ ما مدى كفاءتي في هذه العملية؟

ـ تقييم التقدم.

9 ـ هل أحتاج بذل جهد جديد؟

ـ لمتابعة ما إذا كان هناك حاجة لإجراء آخر.

ويلاحظ أن الأسئلة " 1 ـ 4 " قبل التعلم. " 5 ـ 6 " أثناء التعلم " 7 ـ 9 " بعد التعلم. هذه التساؤلات من 1 ـ 4 تستثير استخدام مهارات مثل جمع المعلومات " البيانات، أما 5 ـ 6 فتتناول تنظيمها ـ تذكرها، توليد الأفكار، أما 7 ـ 9 فتتناول تحليلها، تكاملها، تقييمها.

وهذه المهارات جزء من أبعاد التفكير الأساسية التي يحتاج التلاميذ لتعلمها. وترجع فاعلية الأسئلة إلى أنها تخلق بناءا انفعاليا ودافعيا ومعرفيا. وحين يبدأ التلاميذ في استخدام الأسئلة يصبحون أكثر شعورا بالمسؤولية عن تعلمهم ويقومون بدور أكثر إيجابية. ويبدو أن معالجة المعلومات بطريقة الأسئلة تستثير دوافع التلاميذ للنظر للتعلم في إطار خبراتهم السابقة، ومواقف حياتهم اليومية، مما يزيد احتمال تخزين المعلومات في الذاكرة بعيدة المدى ويجعل استخدامها في المستقبل وفي مواقف متنوعة أمرا يسيرا)[65].

وبما أن هذا المقترح الهندسي للدرس ولتخطيطه التربوي يقوم أساسا على حل المشكلة من خلال الوضعيات، سأركز في استراتيجية حلها على "عجلة استراتيجيات حل المشكلات"؛ التي تتسم بعمومية خطواته ومحطاتها، ذلك أنه،

( مما يثير الإحباط لدى المعلم والتلميذ ... أن يفهم التلميذ القاعدة أو النظرية ولكن لا يستطيع أن يوظف هذا الفهم في حل مشكلات الحياة. وبتحليل استراتيجيات حل المشكلات لدى المتقدمين والمتعثرين، تبين أن هناك فروقا في الاستراتيجيات التي يستخدمها كل منهم فالأكثر كفاءة يقضي وقتا أطول في فهم المشكلة قبل البدء في الحل، ولكي يحقق فهم المشكلة يعطي نفسه أمثلة متعددة ونماذج متعددة. وهو يستخدم بعض الاستراتيجيات غير التقليدية لتحليل المشكلة إلى مشكلات فرعية. وهو يستخدم أساليب الوعي بالتفكير " الميتا تفكير" بأن يقيم أداءه وإلى أي مدى يتقدم أو يتعثر، وما هي البدائل التي يستخدمها لتحقيق الهدف في ضوء الهدف النهائي.

المعلم الحريص على تحسين مهارات حل المشكلات لدى تلاميذه يمكن أن يستفيد من وقت الحصة ليكشف للتلاميذ عن العمليات المعرفية التي قام بها لكي يصل للحل، وكأنه يفكر بصوت عال وهذا النموذج يساعد التلاميذ على الوعي بالعمليات المعرفية اللازمة للنجاح في حل المسألة، لأن المعلم يقدم تعليمات صريحة ومباشرة عن حل المشكلات. ويمكن أن توضع في الفصل لوحة حل المشكلات وهي مؤشر يذكر المعلم والتلميذ بالاستراتيجيات الفعالة.

عجلة استراتيجيات حل المشكلات)[66]

ومضمون العجلة يفيد مجموع الخطوات والإجراءات المنهجية لمقاربتها، وهي من باب الاستئناس لأن كل مشكلة استراتيجيتها الخاصة بها من حيث المفاصل والتفاصيل والإجراءات، لكن التفكير في حلها يتخذ الخطوات التالية:

ـ اقرأ المشكلة بعناية، أعد قراءتها إذا لزم؛

ـ قرر دلالة الكلمات والمصطلحات الأساسية؛

ـ حدد الهدف بكلمات من عندك؛

ـ اكتب قائمة بالمعلومات الهامة؛

ـ عبر عن المشكلة بالرسم؛

ـ ابحث عن العلاقات بين أجزاء المشكلة؛

ـ حلل المشكلة إلى عناصر أو أجزاء أصغر؛

ـ تذكر مشكلات مشابهة وتذكر كيف تم حلها؛

ـ استخدم المحاولة والخطأ بنظام خمن واختبر التخمين؛

ـ ارجع إلى نقطة سابقة من حيث أنت؛

ـ كن مرنا، جرب مداخل متنوعة؛

ـ قارن بين الحل الذي توصلت إليهوالهدف الأصلي هل حقق الهدف.

وأما عن بعض الأمثلة على الاستراتيجيات العاطفية[67] التي يمكن أن تساعد الطالب على خلق بيئة نفسية مرضية، فتتمثل في:

1. تحديد الأهداف الشخصية.

2. استخدم نظام المكافآت.

3. وافق على محاولة القيام بمهمة ما، حتى لو لم أكن أعرف بالضبط كيفية القيام بها حتى الآن.

4. اتخاذ موقف إيجابي تجاه المهمة المطلوبة.

5. ابذل جهدا لعملي.

6. إدراك أن هذه المهمة ستكون مفيدة لمهام أخرى قادمة.

7. عندما أدرس، لا تستسلم حتى لو كان الموضوع مملًا.

8. العمل الجاد لتحقيق النجاح، حتى عندما لا يعجبني ما تفعله.

9. عندما يكون العمل صعبا، لا تستسلم أو تدرس الأجزاء السهلة فقط.

10. حتى عندما يكون المحتوى مملا وغير ممتع، استمر في العمل حتى أنتهي.

11. التركيز على فرص نجاحي أكثر من فرصي في الفشل.

12. لإدارة الإجهاد بشكل أفضل، اطلب توضيحًا بشأن أهداف المهمة وتعليماتها.

13. كن متسامحاً مع الآخرين.

14. التعاون في التخطيط للعمل الجماعي.

15. قبول الدور المنوط بي في الفريق.

16. استمع إلى وجهة نظر الآخرين.

17. تحدث بما أعتقده دون اتهام الآخرين وتعاون مع الدعامة

وبينما ترتبط استراتيجيات التعلم التدبيري بالأنشطة التي يقوم بها المتعلم/ ة من أجل تنظيم المهام بشكل جيد من حيث الإنجاز وإدارة الوقت بشكل فعال واستخدام الموارد المتاحة، وكذا استراتيجيات إدارة الموارد الزمنية والمادية والبيئية والبشرية، هي بعض الفئات الفرعية المدرجة في هذا النوع من الاستراتيجيات للتعليم. وفيما يلي بعض الأمثلة الملموسة لاستراتيجيات التدبير والإدارة[68] التي يمكن أن تكون مفيدة للمتعلم/ ة من أجل خلق بيئة تعلمية مناسبة تعزز التعلم لديه.

1. أعمل على إنشاء جدول عمل و/ أو دراسة.

2. أستخدم اليوميات.

3. أتأكد من إدارة وقتي بشكل جيد وتحديد الأهداف والمواعيد النهائية والتخطيط للخطوات التي يجب اتباعها.

4. أحدد المواد والموارد المتاحة.

5. طلب ​​المساعدة والدعم من الموارد البشرية المتاحة.

6. أدرس في مكان يمكنني فيه التركيز بشكل جيد.

7. كل أسبوع، أتأكد من أنني على اطلاع دائم بقراءتي وعملي.

8. أحاول أن أكون حاضرا في الحجرة الدراسية بشكل منتظم ودائم، ما لم يحل إكراه بيني وبينه.

9. أخصص وقتا لمراجعة ملاحظاتي وقراءاتي قبل الامتحان والاختبار.

10. أجدول وقتا للراحة والاستجمام.

11. أتجنب العمل في اللحظة الأخيرة.

12. عندما يكون لدي الكثير من العمل، أرتب الأولويات وآخذ بها.

13. أتأكد من إحضار جميع المستندات والأدوات اللازمة لأداء عملي.

14. أحدد الزملاء الذين يمكنهم مساعدتي إذا واجهت مشاكل.

15. أعرف مكان كتبي وأدواتي ومستلزماتي والمواد المدرسية.

16. أحاول في كثير من الأحيان شرح المواد لزميل أو صديق عند الدراسة.

17. أخصص وقتا لمناقشة المواد مع زملائي وأقراني وأصدقائي الآخرين في الحجرة الدراسية أثناء دراستي.

18. أطلب من الممارس البيداغوجي شرح المفاهيم التي لا أفهمها جيدا وبذل جهدا وتوضيحها.

19. عندما لا أستطيع فهم المادة الموجودة في هذا الدرس، أستعين بزميلي في الفصل الدراسي لمساعدتي.

20. أحاول تحديد الزملاء والأصدقاء المتعلمين في الحجرة الدراسية الذين يمكنني طلب المساعدة منهم إذا لزم الأمر ذلك.

وللتعلم الجيد والفعال شروط يجب استيفاؤها وحضورها. فالمتعلم/ ة يكون في وضعية تعلم فعال وجاد حين يستحضر السيناريو التالي:

أنا أتعلم إذا:

ـ كنت مهتما ومعنيا، لأني أتعلم.

ـ وجدت فيما أتعلم نفعا ومعنى.

ـ كنت أثق في كفاءتي وكفاياتي وقدراتي.

ـ جعلت علاقات بين مكتسباتي المعرفية ومواردي المتنوعة.

ـ واجهت نفسي بالآخرين.

ـ أدركت المعرفة التي اكتسبتها ووعيت قيمتها.

ـ اعتمدت على استراتيجياتي المفضلة.

ـ اعتمدت على معرفتي.

وضمن سؤال كيف سأجعل المتعلمين/ ات نشطين/ ات خلال الدرس؟ تأتي الاستراتيجيات البيداغوجية/ التربوية متضمنة التفكير حول التنشيط بالمجموعات الصغير والصراعات السوسيومعرفية، ومحتوية على: الفعل، والمفهوم، والمنطلق، والمبدأ، والطريقة، والاستراتيجية المعرفية، والسلوك، والإيماءة.

ففي الفعل:

ـ نعطي المعنى بربط المعلومات والمعارف الجديدة بالتي سبقتها في الذاكرة. أي إيجاد علاقة بينية بين المعلومات والمعارف أو المعرفة السابقة والقديمة بالمعرفة الجديدة.

ـ نستعمل الصور.

ـ ننظم المعلومات.

ـ تطبيق وممارسة الميتامعرفة.

وأما في الطريقة، والاستراتيجية المعرفية، والسلوك، والإيماءة يتم التصميم من خلال:

ـ الاستدلال.

ـ الملاحظة.

ـ التحليل وبناء شبكة للملاحظة والتقويم.

ـ اقتراح وضعيات للتدريب والتمرن.

ـ التقويم.

ويمكن تقديم هذه الأسئلة الواردة في إعداد الدرس بالشكل التالي المتضمن في كتاب " Préparer un cours " المصدر لهذه الورقة (ص.:171).

أسئلة تطرح لإعداد درس

ما هدف؟

كيف أقوم؟

 

هل مستوى أداة تقييم bloom كافٍ؟

ما نوع التعلم المكتسب الذي يتوافق مع الهدف "gagné"؟

إيماءة

سلوك

استراتيجية معرفية

طريقة

منطلق/ مبدأ

مفهوم

فعل

ما هو النهج العام الذي سأفضله؟

استقرائي؟ استنتاجي؟ جدلي؟ متشعب؟ التناظري؟

ما هي الاستراتيجية المعرفية التي سأطورها؟

ما هي المشكلة الملموسة التي سأطرحها في بداية الدرس لتحفيزهم؟

كيف نعطي معنى لهذا الدرس؟

كيف سأجعلهم نشطين خلال هذا الدرس؟

الاستراتيجيات البيداغوجية

إيماءة

سلوك

استراتيجية معرفية

طريقة

منطلق/ مبدأ

مفهوم

فعل

ـ نعطي المعنى بربط المعلومات والمعارف الجديدة بالتي سبقتها في الذاكرة. أي إيجاد علاقة بينية بين المعلومات والمعارف أو المعرفة السابقة والقديمة بالمعرفة الجديدة.

ـ نستعمل الصور.

ـ ننظم المعلومات.

ـ تطبيق وممارسة الميتامعرفة.

* التصميم:

ـ الاستدلال.

ـ الملاحظة.

ـ التحليل وبناء شبكة للملاحظة والتقويم.

ـ اقتراح وضعيات للتدريب والتمرن.

ـ التقويم.

ـ على سبيل الختم:

هندسة الدرس المدرسي تفيد تصورا مسبقا للأهداف التعليمية ضمن بيداغوجيا الكفايات، المتوخى تحقيقها من ممارسة الفعل التدريسي بالحجرة الدراسية مع جماعة القسم، في وقت محدد ومعين. وبوضعيات تعليمية تعلمية موضوعة بدقة، وبمواقف تعليمية تعلمية معينة في إطار سياق تعليمي اجتماعي، تتخلله الحركية السوسيومعرفية وتفاعلاتها البينية، التي تنحو إلى تحقيق تفاعل فعال وفاعل بين مكونات جماعة القسم، وبين هذه الجماعة والمنهاج الدراسي بمحتواه وأدواته ومعيناته داخل تفاعلات المثلث الديداكتيكي ونواتجه. وهي هندسة الدرس لن تخرج عن جوهر الهندسة التربوية، التي تعتمد ثلاث خطوات هي:

ـ تحديد الأهداف التعليمية.

ـ تحديد وإعداد ما يلزم لتحقيق تلك الأهداف من محتوى وأنشطة ووضعيات تعليمية تعلمية ووسائل ومعينات بيداغوجية.

ـ تحديد كيفية التحقق من تحصيل الأهداف والوصول إليها؛ بمعنى تحديد آليات وأدوات التقويم.

ويمكن تمثيل هذه الخطوات بالشكل التالي تأثيرا وتأثرا وفعلا وتفاعلا وتناغما وانسجاما:

المحتوى

تناغم

تناغم

أهداف التعلم

أنشطة التعليم والتعلم

أنشطة التقويم

تناغم

والهندسة التربوية أو هندسة الدرس تعمل على:

ـ (تحسين عملية التدريس. وهذا الهدف يتحقق من خلال تهيئة المتطلبات التدريسية اللازمة. ومن خلال تصميم الموقف التعليمي بشكل كامل، ثم التدرب على أداء هذا الموقف ذهنيا ليكون على وعي كامل بما سيقدمه للطلاب وبالأدوات التي سيستخدمها، وبأوقات استخدامها وبالأسئلة التي سيثيرها، وباستجابات الطلبة المتوقعة)[69].

ـ تضبط اشتغال الممارس البيداغوجي التدريسي، وتجنبه عشوائية الأداء وفوضويته. بجانب تجنيبه التخبط والارتجالية والتشويش في بناء درسه مع متعلميه، وتعمل على عدم ضياع الوقت والجهد.

ـ تجنب الممارس البيداغوجي الإحراج في أداء درسه، وتمنع عنه الإرباك. وهنا تحضرني تجربة من واقعي المعيش عندما زرت أحد الممارسين البيداغوجيين في حجرة الدرس بالمديرية الإقليمية بتاونات. وقد التحق متأخرا إلى المؤسسة دون هندسة دروسه وتخطيطها إزاء غياب الوثائق التربوية الدالة على الهندسة، خاصة منها جذاذة الدرس؛ مدعيا وزاعما أنه ممارس قديم لا يحتاج إلى أي تخطيط وهندسة لدروسه، لضبطه المنهجية أولا ثم المحتوى. وحين طلبت منه أداء الدرس القرائي وقع في التخبط والعشوائية، مما أحرجه أمامي وأمام المتعلمين/ ات. فكانت حجتي ودليلي حينئذ على أهمية الهندسة التربوية والتخطيط للدروس في الأداء الصفي لما له من دور توجيهي وإرشادي للممارسة الصفية.

ـ مساعدة الممارس البيداغوجي على تعيين وتحديد حاجيات الدرس المدرسي من معينات بيداغوجية وأدوات مدرسية وموارد ومتن تعليمي وتجهيزات معلوماتية وتكنولوجية.

ـ إكساب الممارس البيداغوجي المستجد المعرفي والمهاري والقيمي في الحقل المعرفي الذي يدرسه من خلال تخطيط درسه المدرسي وهندسته. فهو يطلع على الجديد من المتن التعليمي والاستراتيجيات والمنهجيات والأساليب والنظريات العلمية والبراديغمات المتحكمة في المجالات المعرفية.

ـ تمكين الممارس البيداغوجي من براعة تدقيق الفعل التعليمي من حيث توازنه بين الإطناب والإيجاز وفق المقام؛ فلا يوجز في مواطن الإطناب ولا يطنب في مواطن الإيجاز.

ـ تنزيل المنهاج حسب الزمان والمكان المناسبين دون إخلال بالبرمجة السنوية أو المرحلية أو المجالية أو الشهري او الأسبوعي، فلا يبطئ الدروس ولا يسرعها، فيخل بمفعول المنهاج وناتج التعليم والتعلم.

والهندسة التربوية تشتغل على المنهاج النظري لتنزيله منهاجا تنفيذيا عبر الممارسة الصفية في تناظر بين المنهاج التخطيطي والمنهاج التنفيذي كالتالي:

المرامي الأهداف التعليمية التعلمية

محتوى ومضمون طريقة تنظيم وهندسة الخبرة التعليمية التعلمية، اختيار وتحديد المتن التعليمي

" موارد، معارف، معلومات، المنهاج التخطيطي " النظري " منطقيا. الأنشطة، الإجراءات، الأداءات ... وتصميم الدروس وتحديد الاستراتيجيات

حقائق علمية، نظريات، خبرة، والمعينات البيداغوجية والوسائل والوسائط

تجربة، مهارات، كفايات، قيم ... " وتصميم أدوات القياس والتقويم، وتوفير متطلبات

الدروس.

التقويم تقويم مدى تحقق الأهداف التعليمية التعلمية

التغذية الراجعة التغذية الراجعة

عناصر المنهاج التخطيطي عناصر المنهاج التنفيذي " الإجرائي/ العملي "

" وثيقة المنهاج " من النظري إلى العملي " عناصر العملية التعليمية "

وفي هندسة التدريس يجب على الممارس البيداغوجي الوعي بأنه لا يقدم متنا تعليميا للمتعلمين/ ات لتكوين عقولهم فحسب؛ وإنما (تكوين الهويات المرتبطة بالانتماءات والثقافات والمعتقدات والقيم الجماعية)[70]، وتشكيل إنسان المستقبل. لذا فهو معني بدرجة كبيرة من حيث موقعه في العملية التعليمية التعلمية بالانخراط المعلن والصريح والفعال في مشروع بناء مجتمع ديموقراطي عادل، يقوم على المعرفة والفعل والإنتاج والقيم والحرية والاستقلالية والمواطنة والمبادئ الإنسانية، وعلى قائمة الحقوق والواجبات والبعد الأخلاقي والسلوكي المدني والانفتاح على الآخر وتدبير الاختلاف. فبوعيه يقع الممارس البيداغوجي داخل المجتمع، يفهمه ويدرسه جيدا ليشارك المكونات الأخرى، في تفعيل تحولاته وتغيراته وتناقضاته واختلافاته، وتجسير ما هو فردي بما هو جماعي من خلال السيكولوجيا الاجتماعية؛ طلبا للمستقبل المشرق. وبوعيه يقع خارج الارتباط الوثيق بالسياسة والإيديولوجية الرسمية الحاكمة للدولة والمجتمع، والمتحكمة في دواليب الاقتصاد الوطني؛ رفعا لكل ضغط سياسي أو اقتصادي أو إيديولوجي أو جميعها، وتحييدا لكل إيماءات خارجية عن ضميره وإرادته وقراراته. بمعنى يقع الممارس البيداغوجي خارج سلطة التأثير الخارجي لعوامل الضغط على وعيه ومهامه؛ التي تتطلب استقلالا فكريا وأدائيا تاما تحت منظومة الأخلاق والقيم والضمير الذاتي والجمعي. لأن الممارس البيداغوجي في عمق مفهومه مستقل عن المؤسسات السياسية الحاكمة " الأحزاب، النقابات، اللوبيات المصلحجية، الجماعات الضاغطة ... " ومنحاز للنزعة الإنسانية التي تعد وتأهل المتعلم/ ة للمستقبل الأفضل شكلا ومضمونا بروح المسؤولية، التي يقدرها ويدبرها بحكمة وتبصر وصبر. ولن يكون كذلك إلا إذا شخصا موثوقا به، يوفق بين المختلفات وكامل بين المؤتلفات وسيطا بين مختلف الثقافات والتوجهات والرؤى والمذاهب وجامعا لها في توافق وانسجام تام أو سلام دائم، منشطا لها في جماعة صفه المدرسي، ضامنا للنظام والقانون، محترما للقواعد، مدبرا للحياة الديمقراطية في الفضاء المدرسي ومجتمعه، منميا ثقافة الحقوق والواجبات والمواطنة وسيادة القانون وقيم العدالة والمساواة إزاء اشتغاله كمثقف ينمي ويطور الثقافة بكل معطياتها ومجالاتها المتنوعة بنزعة إنسانية ذات قيم مضافة.

فالممارس البيداغوجي في اشتغاله البيداغوجي كي يأت هذه المسؤولية وينجح في تدبيرها وتحقيقها لابد أن يكتسب عدة كفايات مهنية وأكاديمية بمرجعية قيمية إنسانية عالية، حددتها الأنظمة التربوية وفق فلسفتها ورؤيتها للتربية والتعليم والتكوين ونواتجها، بما يؤدي إلى تهييء المتعلم/ ة لمواجهة التحديات والتعقيدات التي تطرحا الحياة الخاصة والعامة، خاصة في ازدياد تعقد العالم وتجدد وتسارع التطورات والأحداث والعلوم والتكنولوجيا والصناعات؛ فهو معني بأن يكون ( منظما لبيداغوجيا بنائية وضامنا لمعنى المعارف ومبتكرا لوضعيات التعلم ومدبرا للتنافر ومنظما لعمليات ومسارات التكوين)[71]. والضامن لهذه المهام والوظائف هو التكوين الأكاديمي والمهني للممارس البيداغوجي، الذي يتوخى منه التكوين الأساس في المغرب أن يكتسب الكفايات التالية ومهاراتها: الكفايات المعرفية، الكفايات التواصلية، الكفاية المرتبطة بتخطيط التعلمات، الكفاية المرتبطة بتدبير التعلمات، الكفاية المرتبطة بالتقويم، الكفاية المرتبطة بالإسهام في تدبير المؤسسة، الكفاية التكنولوجية، الكفاية المرتبطة بالتنمية المهنية، الكفاية المرتبطة بالقيم. وهي تقريبا ذاتها توجد في نظام تكوين الأساتذة بالجزائر من حيث تؤهلهم أن يتمكنوا من كفاءات: التخطيط، التنظيم، الديداكتيك، التواصل، القيمية/ الأخلاقية، التقويم، تطوير الخبرة، بالمساءلة النقدية للأداء الصفي لابد أن تحضر عند الممارس البيداغوجي كل يوم من أجل تطوير الأداء الصفي وتحبيره وتجويده ـ هنا يمكن الإشارة أن ما أسميه بصريح العبارة النقد الذاتي للممارسة الصفية حين يسائل الممارس البيداغوجي أداءه الصفي اليومي بمنظور النقد ويتمعنه ويتبصره وتأمله طلبا للإيجابيات والسلبيات، وعملا على مقاربتها استثمارا وتصحيحا ومعالجة؛ تسميه الرسميات والأدبيات البيداغوجية والخطاب التربوي بالتبصر والتأمل للتخفيف من البعد النقدي الذي يضع الممارس البيداغوجي في مواجهة ذاته بكل شفافية وموضوعية واحترافية، ويسائله على مدى القيام بمسؤوليته تجاه الرسالة الموكلة له بموجب القانون والضمير الإنساني، ويضعه أمام مرايا النقد العاكسة لأماكن ومواطن الهشاشة الأدائية في ممارسته الصفية لمواجهتها بكل شجاعة وموضوعية ـ . وأما النظام التربوي الفرنسي فقد حدد بموجب القانون قائمة المهارات العشر وتفصيلاتها المطلبية التي يجب على المعلمين وأمناء المكتبات ومستشاري التعليم الرئيسيين إتقانها لممارسة مهنتهم في ملحق مرفق بالمرسوم الخاص بهذا الشأن في:

1. التصرف كموظف في الخدمة المدنية وبطريقة أخلاقية ومسؤولة.

2. إتقان اللغة الفرنسية للتدريس والتواصل.

3. إتقان التخصصات وامتلاك ثقافة عامة جيدة.

4. تصميم وتنفيذ التدريس.

5. تنظيم العمل الصفي.

6. مراعاة تنوع الطلاب.

7. تقييم الطلاب.

8. إتقان تقنيات المعلومات والاتصالات.

9. العمل بروح الفريق الواحد والتعاون مع أولياء الأمور وشركاء المدرسة.

10. التدريب والابتكار.

وبالتالي نلاحظ أن أغلب الأنظمة التعليمية التعلمية تعتمد على الأساسيات التالية في تكوين مهنييها التربويين: الـمعرفة الأكاديمية المتعلقة بمجالات التخصص المبرمجة والمقررة في المنهاج الدراسي موضوع اشتغال الممارس البيداغوجي، والتشبع بالقيم وأخلاقيات مهنة التدريس وتعزيزها، والتمكن من الكفايات المهنية "تخطيط التعلمات، تنفيذها، تقويمها ودعمها ومعالجة سلبياتها واستثمار إيجابياتها "، والتواصل، والمعرفة التكنولوجية والمعلوماتية والرقمية والذكاء الصناعي، والبحث العلمي، والتفكير النقدي والإبداعي والفلسفي وحل المشكلات وبناء أنظمة الخبرة. وهذا الجانب الذي نحن بصدده وهو الهندسة والتخطيط التربوي يعد مجالا رئيسا من مواضيع العلوم المعرفية، يحتل في جميع المجالات والقطاعات دورا رئيسا لأنه يشكل خريطة الطريق قبل الاتجاه نحوها وقطعها للوصول إلى الهدف. فهو من حيث الشكل يسجد التنظيم، المسار لاشتغال الممارس البيداغوجي التعليمي، ومن حيث المضمون فهو يجسد فلسفة الرؤية والرؤية الفكرية العملانية عنده عن الممارسة الصفية وتفصيلاتها الأدائية. فالتخطيط كتاب مفتوح لفكره يمكن قراءته على مستوى السطح والعمق معا. فتخطيط وهندسة الدرس المدرسي مثلا يدل على سحنته وطريقة تفكيره وتنظيمها. وهنا أجد الهندسة والتخطيط التربوي يقع بين حاصلين معرفيين متكاملين ومتساوقين فيما بينهما، وهما:

1 ـ حاصل معرفي يمكن الممارس البيداغوجي من تحليل معطيات الفعل التدريسي بما فيه الدرس المدرسي وظيفيا إلى عناصر قابلة للتفكيك إلى عمليات أساسية وأولية، وصورنتها.

2 ـ حاصل عملي يمكن الممارس البيداغوجي من ضبط إجراءات تلك العمليات الأساسية والأولية، وتنفيذها في واقع الفعل التعليمي بما فيه الدرس المدرسي.

ومنه؛ عليه أن يسعى إلى اكتساب تلك الكفايات المقررة له رسميا، في تكوينه الأساس على أدنى تقدير، لتأسيس مدخل مساعد للبعد المهني من سحنته. وهي كفايات لا تعرف الاستقرار والثبات، لأن حياة الإنسان ومجالاتها تتطور يوميا وبتسارع فائق، يديم اكتشاف نفسه وذاته على مختلف الأبعاد. خاصة أن المعرفة حاليا متداخلة الاختصاصات، ومفاهيمها طولية بمعنى ممتدة عموديا وأفقيا، في طريقها إلى تشكيل علوم عرفانية/ معرفية جديدة. وعليه أن يؤمن بأن ما اكتسبه في التكوين الأساس المهني سيضعه على السكة الصحيحة إن هو أصبح ذاتي التكوين. وأن ما قرر في المنهاج الدراسية من استراتيجيات وديداكتيك خاصة سوى للاستئناس وللمثال لا للإملاء والجبر والنسخ والإلغاء، حتى يجعل لنفسه هامشا على متن الممارسة التدريسية، يتحرك فيه باجتهاده الخاص الذي تمليه عليه المعطيات الواقعية في مجتمعه المدرسي والمهني. وذلك تطلع نحو مزيد من الإبداع والتطور والرقي. فرسالته في مجتمعه جد متقدمة الأهمية والاستشراف المستقبلي، وارتكازه الأساس فيها يقظة وعيه التربوي.

* * *

إعداد: عبد العزيز قريش

باحث في علوم التربية

...................

ـ المراجع:

(وفق متن الورقة)

1 ـ العربية:

ـ كيران وآخرون، فلسفة وعلوم التربية، تر: د. عز الدين الخطابي، خطوط وظلال للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2021.

ـ د. صفاء يوسف الأعسر، تعليم من أجل التفكير، دار قباء، القاهرة، مصر، 1998.

ـ د. نبيل علي، العرب وعصر المعلومات، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1994، العدد 184.

ـ د. عبد الرحيم الهاروشي، كيف نتعلم، تر.: مصطفى الناوي، الفنك، الدار البيضاء، المغرب، 1997.

ـ لجان مراجعة المناهج التربوية المغربية للتعليم الابتدائي والثانوي الإعدادي والتأهيلي، الكتاب الأبيض، وزارة التربية الوطنية، المغرب، ربيع الأول 1423 يونيو 2002، ج1.

ـ عبد اللطيف الفاربي وآخرون، معجم علوم التربية، سلسلة علوم التربية 9/ 10، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، 1994، ط1.

ـ ذ. عبد الرحيم ليه وذ. عبد الناصر ناجي، الإطار المرجعي للجودة في منظومة التربية والتكوين: الدلائل المرجعية لمعايير الجودة، أماكن، الرباط، المغرب، يناير 2022.

ـ د. حسان الباهي، الذكاء الصناعي وتحديات مجتمع المعرفة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2020، ط2.

ـ فليب غابيليي وآخرون، الممارسات البيداغوجية المعاصرة، تر.: د. عز الدين الخطابي، منشورات عالم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، 2013، ط1.

ـ ذ. عمر يوسف، لغة الجسد وتطبيقاتها في التواصل التعليمي، مجلة دراسات،2022، المجلد 11، العدد1.

ـ د. نبيل علي، العقل العربي ومجتمع المعرفة: مظاهر الأزمة واقتراحات بالحلول ج2، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2009، العدد 370.

ـ د. بسام عبد الله طه إبراهيم، التعلم المبني على المشكلات الحياتية وتنمية التفكير، دار المسيرة، عمان، الأردن، 1429/ 2009، ط1.

ـ د. سليمان عبد الواحد، سيكولوجية التفكير لدى المتعثرين دراسيا، مصر العربية، القاهرة، مصر، 2011.

ـ د. فتحي عبد الرحمن جروان، تعليم التفكير: مفاهيم وتطبيقات، دار الفكر ناشرون وموزعون، عمان، الأردن، 1428/ 2007، ط3.

ـ د. بسام عبد الله طه إبراهيم، التعلم المبني على المشكلات الحياتية وتنمية التفكير، دار المسيرة، عمان، الأردن، 1429/ 2009،

ـ د. عبد الكريم غريب، بيداغوجيا الكفايات، منشورات عالم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، 2004، ط5.

ـ د. غزوان ناصيف، الصحة النفسية والعلاج النفسي، دار الكتاب العربي، دمشق، سوريا، 2012، ط1.

ـ اليونسكو، إعادة النظر في التعلم: ذلك الكنز المكنون، بحث ونظرة استشرافية بشأن التعليم، ورقة عمل 4، يناير 2013.

ـ عبد العزيز قريش، من المعرفة إلى الميتامعرفة: أي فرصة لتصحيح أزمة التعليم، عالم التربية، الجديدة، المغرب، عدد25،

ـ ابن منظور، لسان العرب، درا إحياء التراث العربي ومؤسسة التاريخ العربين بيروت، لبنان، 1417/ 1997، ط2، ج7.

ـ جبران مسعود، الرائد، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، 1981، ط4، ج2.

ـ د. خالد بن محمد بن محمود الرابغي، عادات العقل ودافعية الإنجاز، مركز ديبونو لتعليم التفكير، عمان، الأردن، 2015، ط1.

ـ ذ. بخيتة هادي آل كليب، عادات العقل وطرق تطبيقها في الدراسات العلمية، شبكة الألوكة، pdf.

ـ د. حسان الباهي، الذكاء الصناعي وتحديات مجتمع المعرفة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2020، ط2.

ـ باتريك لومير، علم النفس المعرفي المرجعية السيكولوجية للكفايات وبيداغوجيا الإدماج، تر.: د. عبد الكريم غريب، منشورات عالم المعرفة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، 2011، ط1.

ـ د. محمد عبد السلام، استراتيجيات التعلم النشط، مكتبة نور، القاهرة، مصر، 2021.

ـ د. ذوقان عبيبدات ود. سهيلة أبو السميد، استراتيجيات التدريس في القرن الحادي والعشرين، دليل المعلم والمشرف التربوي، دار الفكر ناشرون وموزعون، عمان، الأردن،1428/ 2007.

ـ ذ. فرج أيمن أسعدن استراتيجيات التعلم النشط، دار ابن النفيس، عمان، الأردن، 2017.

ـ مديرية المناهج والحياة المدرسية، وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، المغرب، دليل التواصل البيداغوجي وتقنيات التنشيط التربوي، السنة الأولى من التعليم الابتدائي، غشت 2009.

2 ـ الأجنبية:

-Alain Rieunier, Préparer un cours, esf éditeur, Paris, France, 2007, 3éd, Tome2.

-Michel Perraudeau, Les stratégies d’apprentissage: Comment accompagner les élèves dans l’appropriation des savoirs, Collection: Hors collection, Éd. Armand Colin, Paris, France, 2006.

-Les stratégies d’apprentissage: Apprendre à Apprendre, Développé et adapté par les membres du Comité du Portfolio des étudiants en science infirmière de l’UMCE, Pdf

3 ـ الرقمية:

ـ https:/ / elearning.univ-msila.dz/ moodle/ pluginfile.php/ 167090

 هوامش 

[1] كيران وآخرون، فلسفة وعلوم التربية، تر: د. عز الدين الخطابي، خطوط وظلال للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2021، ط1، ً.:7.

[2] د. صفاء يوسف الأعسر، تعليم من أجل التفكير، دار قباء، القاهرة، مصر، 1998، ص.:74.

[3] د. نبيل علي، العرب وعصر المعلومات، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1994، العدد 184، ص.:395.

[4] نفسه، ص.:396.

[5] د. نبيل علي، العرب وعصر المعلومات، مرجع سابق، ص.:394.

[6] Alain Rieunier, Préparer un cours, esf éditeur, Paris, France, 2007, 3éd, Tome2, p. :171.

[7] د. عبد الرحيم الهاروشي، كيف نتعلم، تر.: مصطفى الناوي، الفنك، الدار البيضاء، المغرب، 1997، صص.:29 ـ 31.

[8] لجان مراجعة المناهج التربوية المغربية للتعليم الابتدائي والثانوي الإعدادي والتأهيلي، الكتاب الأبيض، وزارة التربية الوطنية، المغرب، ربيع الأول 1423 يونيو 2002، ج1، صص.:15 ـ 16.

[9] عبد اللطيف الفاربي وآخرون، معجم علوم التربية، سلسلة علوم التربية 9/ 10، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، 1994، ط1، ص.:121.

[10] عبد اللطيف الفاربي وآخرون، معجم علوم التربية، مرجع سابق، ص.:121.

[11] نفسه، ص.:121.

[12] نفسه، ص.:121.

[13] ذ. عبد الرحيم ليه وذ. عبد الناصر ناجي، الإطار المرجعي للجودة في منظومة التربية والتكوين: الدلائل المرجعية لمعايير الجودة، أماكن، الرباط، المغرب، يناير 2022، ص.:106.

[14] نفسه، ص.:121.

[15] نفسه، ص.:121.

[16] نفسه، صص.:120 ـ 121.

[17] ينظر في شأنه كتب الاختصاص في التقويم والاختبارات والقياس.

[18] د. حسان الباهي، الذكاء الصناعي وتحديات مجتمع المعرفة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2020، ط2، صص.:68 ـ 69.

[19] د. صفاء يوسف الأعسر، تعليم من أجل التفكير، مرجع سابق، ص.:16.

[20] فليب غابيليي وآخرون، الممارسات البيداغوجية المعاصرة، تر.: د. عز الدين الخطابي، منشورات عالم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، 2013، ط1، ص.:70.

[21] نفسه، ص.:182.

[22]عمر يوسف، لغة الجسد وتطبيقاتها في التواصل التعليمي، مجلة دراسات،2022، المجلد 11، العدد1، صص.:76 ـ 90.

[23] د. نبيل علي، العقل العربي ومجتمع المعرفة: مظاهر الأزمة واقتراحات بالحلول ج2، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2009، العدد 370، صص.:7 ـ 8.

[24]د. نبيل علي، العقل العربي ومجتمع المعرفة: مظاهر الأزمة واقتراحات بالحلول ج2، مرجع سابق، صص.:10 ـ 11.

[25] د. بسام عبد الله طه إبراهيم، التعلم المبني على المشكلات الحياتية وتنمية التفكير، دار المسيرة، عمان، الأردن، 1429/ 2009، ط1، صص.:91 ـ 92.

[26] د. نبيل علي، العرب وعصر المعلومات، مرجع سابق، ص.:395.

[27] د. نبيل علي، العرب وعصر المعلومات، مرجع سابق، ص.:402.

[28] عبد اللطيف الفاربي وآخرون، معجم علوم التربية، مرجع سابق، ص.:300.

[29] د. سليمان عبد الواحد، سيكولوجية التفكير لدى المتعثرين دراسيا، مصر العربية، القاهرة، مصر، 2011، صص.:110 ـ 111.

[30]https:/ / elearning.univ-msila.dz/ moodle/ pluginfile.php/ 167090/

[31] د. فتحي عبد الرحمن جروان، تعليم التفكير: مفاهيم وتطبيقات، دار الفكر ناشرون وموزعون، عمان، الأردن، 1428/ 2007، ط3، ص.:86.

[32] د. بسام عبد الله طه إبراهيم، التعلم المبني على المشكلات الحياتية وتنمية التفكير، دار المسيرة، عمان، الأردن، 1429/ 2009، ط1، ص.:98.

[33] د. فتحي عبد الرحمن جروان، تعليم التفكير: مفاهيم وتطبيقات، مرجع سابق، صص.:89 ـ 90.

[34] نفسه، ص.:90.

[35] د. بسام عبد الله طه إبراهيم، التعلم المبني على المشكلات الحياتية وتنمية التفكير، مرجع سابق، صص.:92 ـ 93.

[36] في التفاصيل انظر كتب الاختصاص.

[37] د. فتحي عبد الرحمن جروان، تعليم التفكير: مفاهيم وتطبيقات، مرجع سابق، صص.:90 ـ 91.

[38] د. صفاء يوسف الأعسر، تعليم من أجل التفكير، مرجع سابق، ص.:65.

[39] د. بسام عبد الله طه إبراهيم، التعلم المبني على المشكلات الحياتية وتنمية التفكير، مرجع سابق، ص.:83.

[40] نفسه، ص.:83.

[41] د. عبد الكريم غريب، بيداغوجيا الكفايات، منشورات عالم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، 2004، ط5، صص.:338 ـ 389.

[42] د. غزوان ناصيف، الصحة النفسية والعلاج النفسي، دار الكتاب العربي، دمشق، سوريا، 2012، ط1، ص.:68.

[43] اليونسكو، إعادة النظر في التعلم: ذلك الكنز المكنون، بحث ونظرة استشرافية بشأن التعليم، ورقة عمل 4، يناير 2013، ص.:3.

[44] د. عبد الكريم غريب، بيداغوجيا الكفايات، مرجع سابق، ص.:389.

[45] نفسه، ص.:75.

[46] د. نبيل علي، العرب وعصر المعلومات، مرجع سابق، ص.:405.

[47] انظر في شأنه: عبد العزيز قريش، من المعرفة إلى الميتامعرفة: أي فرصة لتصحيح أزمة التعليم، عالم التربية، الجديدة، المغرب، عدد25، صص.:454 ـ 503.

[48] د. صفاء يوسف الأعسر، تعليم من أجل التفكير، مرجع سابق، صص.:36 ـ 37.

[49] نفسه، صص.66 ـ 67.

[50] هنا، تسجل الورقة جملة اعتراضية توضيحية، وملاحظة مفادها: هذا قول موثق عن كوستا Costa يدعو إلى الإصرار والعزيمة بدون ثني أو تردد في وضع استراتيجيات تعليمية تمكن المتعلم من التفكير في التفكير؛ ما يشجع الممارس البيداغوجي على الابتكار والإبداع والعزم والإصرار على الخروج عن التقليدي من ديداكتيك.

[51] ابن منظور، لسان العرب، درا إحياء التراث العربي ومؤسسة التاريخ العربين بيروت، لبنان، 1417/ 1997، ط2، ج7، صص.:410 ـ 415.

[52] جبران مسعود، الرائد، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، 1981، ط4، ج2، ص932.

[53] د. صفاء يوسف الأعسر، تعليم من أجل التفكير، مرجع سابق، ص.:66.

[54] د. خالد بن محمد بن محمود الرابغي، عادات العقل ودافعية الإنجاز، مركز ديبونو لتعليم التفكير، عمان، الأردن، 2015، ط1، ص.:86.

[55] ذ. بخيتة هادي آل كليب، عادات العقل وطرق تطبيقها في الدراسات العلمية، شبكة الألوكة، pdf، ص.:9.

[56] د. حسان الباهي، الذكاء الصناعي وتحديات مجتمع المعرفة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2020، ط2، صص.:62 ـ 63.

[57] باتريك لومير، علم النفس المعرفي المرجعية السيكولوجية للكفايات وبيداغوجيا الإدماج، تر.: د. عبد الكريم غريب، منشورات عالم المعرفة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، 2011، ط1، صص.:140 ـ 141.

[58] نفسه، ص.:144.

[59] د. صفاء يوسف الأعسر، تعليم من أجل التفكير، مرجع سابق، ص.:154.

[60] انظر على سبيل المثال:

ـ د. محمد عبد السلام، استراتيجيات التعلم النشط، مكتبة نور، القاهرة، مصر، 2021.

ـ د. ذوقان عبيبدات ود. سهيلة أبو السميد، استراتيجيات التدريس في القرن الحادي والعشرين، دليل المعلم والمشرف التربوي، دار الفكر ناشرون وموزعون، عمان، الأردن،1428/ 2007.

ـ ذ. فرج أيمن أسعدن استراتيجيات التعلم النشط، دار ابن النفيس، عمان، الأردن، 2017.

Michel Perraudeau, Les stratégies d'apprentissage : Comment accompagner les élèves dans l’appropriation des savoirs, Collection : Hors collection, Éd. Armand Colin, Paris, France, 2006. _

ـ مديرية المناهج والحياة المدرسية، وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، المغرب، دليل التواصل البيداغوجي وتقنيات التنشيط التربوي، السنة الأولى من التعليم الابتدائي، غشت 2009.

[61] د. صفاء يوسف الأعسر، تعليم من أجل التفكير، مرجع سابق، ص.:15.

[62] د. صفاء يوسف الأعسر، تعليم من أجل التفكير، مرجع سابق، صص.:28 ـ 29.

[63] د. صفاء يوسف الأعسر، تعليم من أجل التفكير، مرجع سابق، صص.:35 ـ 36.

[64] مستوحاة من ومعدلة عن:

Les stratégies d’apprentissage : Apprendre à Apprendre, Développé et adapté par les membres du Comité du Portfolio des étudiants en science infirmière de l’UMCE, Pdf,ترجمة تشخصية. 

[65] د. صفاء يوسف الأعسر، تعليم من أجل التفكير، مرجع سابق، ص.:167 ـ 170.

[66] د. صفاء يوسف الأعسر، تعليم من أجل التفكير، مرجع سابق، صص.:143 ـ 144.

[67] Les stratégies d’apprentissage : Apprendre à Apprendre, Développé et adapté par les membres du Comité du Portfolio des étudiants en science infirmière de l’UMCE, p. :5, Pdf,شخصية ترجمة.

[68] Les stratégies d’apprentissage : Apprendre à Apprendre, Développé et adapté par les membres du Comité du Portfolio des étudiants en science infirmière de l’UMC, pp. :6 – 7.

[69] د. ذوقان عبيدات ود. سهيلة أبو السعيد، استراتيجيات التدريس في القرن ال21، مرجع سابق، ص.:9.

[70] فليب غابيليي وآخرون، الممارسات البيداغوجية المعاصرة، تر.: د. عز الدين الخطابي، مرجع سابق، ص.:202.

[71] نفسه، ص.: 208. (بتصرف)؛ " انظر التفصيل في صص.: 208 ـ 210. "

 

* ما هو النهج العام الذي سأفضله في التدريس توافقا مع الهدف ومعطيات الدرس؟

وهو سؤال يؤسس لنوع التفكير لدى المتعلم/ ة بما هو التفكير (تنفس العقل، وإن توقف اختنق العقل، والتفكير هو ما يهب المعلومات معنى، ويجعل للمعرفة مغزى، فالمعرفة تكشف لنا عن مغزاها من خلال التفكير، ويبرز معنى المعلومات بما يقوم به التفكير من عمليات التحليل والتنظيم والتجنيب والتعميم وغيرها، بل التفكير بلا مبالغة هو الذي يعطي الحياة بأسرها معنى؛ فوفقا لما يراه علماء النفس، يمكن للمرء أن يعيش حياة أفضل تلبي رغباته وتحقق ذاته إذا ما نجح في تنظيم تفكيره، وإخضاعه لقدر من الانضباط والتوجيه. والتفكير الجاد عمل شاق ما أندر أن يمارس، ولم تكن يوما لاعقلانية الإنسان وما جرته عليه من محن ونكبات بسبب نقص معرفته بل بسبب قصور تفكيره في إساءة استغلاله لها، وخير شاهد على ذلك هذا العصر المضطرب الذي نعيشه، فها هي المعرفة تحيط بنا من كل صوب ونحن إزاءها حيارى لا ندري ما هي السبل لاستغلالها بما يلبي حاجاتنا ويوفر أمننا وأماننا، ولا مخرج من هذه الأزمة سوى أن نشرع، وعلى الفور، في أن نعمل الفكر في التفكير بأقصى درجات الجدية، ويبدو منطقيا أن يكون العقل صانع الأفكار وصنيعتها هو المدخل لتناول معضلة التفكير)[23].

والتفكير في منظومتنا آخر ما يفكر فيه، وآخر ما يرد عند الممارس البيداغوجي، لأن التدريس متمحور حول تحصيل المتعلم/ ة المادة المدرسية، فيها يمتحن، لا في نوع تفكيره ومسلكياته المنهجية وفوق منهجية وإنتاجه الفكري الإبداعي، وإنما في إعادة تدوير إنتاج غيره في أحسن الأحوال. فمهما زعمنا في أدبياتنا التربوية والمدرسية المؤسسة والموجهة أن المتعلم/ ة مركز الفعل التدريسي؛ فإن نماذج الاختبارات على سبيل المثال تنفي ذلك بعيدا عن الممارسة الصفية، التي يطغى فيها الخطاب العمودي/ الشاقولي من الممارس البيداغوجي إلى المتعلم/ ة أو من المنهاج الدراسي إلى المتعلم/ ة بصيغة الأمر عبر ممارسه البيداغوجي. فكيف يكون تفكيرنا في التفكير و(نحن لا نملك ناصية عقولنا، وهي في أغلبها من صنع آخرين، حاضرين وغائبين، ولا نبالغ في القول بأن كثيرين لدينا يعانون طفولة في تفكيرهم فعقل الطفل في مراحله المبكرة يكون متمركزا حول ذاته، لذا نراهم ميالين إلى الظن بأن غيرنا يفكر مثلنا، ويقترب ذلك مما وصفه العفيف الأخضر بفكر " مبدأ اللذة "، فكر صبياني يحابي نفسه على حساب الآخرين يسقط أحواله الذاتية على الواقع الموضوعي، وخير شاهد على ما نزعمه هو ذلك الخطاب الفكري بالغ السذاجة الموجه إلى المتلقي الغربي عبر الإنترنيت دفاعا عن الثقافة العربية والحضارة الإسلامية، فهو خطاب يخاطب هذا المتلقي بصورة تكاد تكون مطابقة مع ما يوجه إلى المتلقي العربي. لقد تفشى وباء العقول حتى شمل غير قليل من صفوة النخب لدينا، وليس هناك من داء عقلي إلا وابتلينا به، من اللاعلمية إلى الخرافة، ومن ضمور الإنتاج الفكري إلى تبديد ما يندر أن يحققه من ثمار، ومن قصور التعليم إلى العزوف عن العلم ومداومة التعليم. وحسبنا أن الأسباب قد باتت معروفة وشائعة، حالة بائسة شاركنا جميعا في إرسائها، تعليمنا وإعلامنا، دعاتنا وأدعياؤنا، بيوتنا ونظمنا، ولا نستثني في ذلك بعضا من علمائنا ومفكرينا ومبدعينا، وفي خضم كل هذه الفوضى نجد هناك كثيرين يظنون أنهم يفكرون، وهم في حقيقة أمرهم لا يفعلون سوى إعادة ترتيب انحيازاتهم واجترار أفكارهم وأفكار غيرهم)؟[24]. لذا؛ ألفيت هذا السؤال محوريا في تفكير الممارس البيداغوجي حول درسه المدرسي، لأنه مناط خروجه من ضيق المنهاج إلى سعته، ومن النمطية الفكرية إلى إبداعية الفكر وتعدده، ومن خطية التفكير إلى عدميتها.

وهذا السؤال الجوهري يحيل الممارس البيداغوجي على مبدإ أساس في التخطيط للدرس المدرسي هو ملائمة مكونات الدرس المدرسي مع المعطيات الواقعية للفعل التدريسي، بما فيها:

ـ مستوى جماعة القسم الدراسي ومكتسباتها العامة المشتركة مع استحضار الفروق الفردية بين أفرادها.

ـ الانطلاق من مكتسبات المتعلم/ ة الفعلية ومن واقعه المعيشي لا المفترض مع التركيز على حاجته إلى المستجدات التي تساعده على بناء كفاياته انطلاقا من التقويم التشخيصي.

ـ مناسبة المعينات البيداغوجية للفعل التعليمي ومراحل أدائه.

ـ تدقيق خطة التقويم وأدواتها وتقنياتها، ومناسبتها لمراحل الدرس المدرسي مع استحضار كل الشروط والمتطلبات المساهمة في نجاح التقويم إزاء مراعاة سماته ومواصفاته.

ـ إضفاء الدلالة على كل مكونات الدرس المدرسي في إطار تلمس المتعلم/ ة أن كل ذلك لأجله حتى يحقق حاجاته وحاجياته ومطالبه.

ـ إغماس المتعلم/ ة في الفعل التعليمي من حيث هو المنطلق والمنتهى مع استحضار وساطة الممارس البيداغوجي في هذا الفعل. وتغيير الأدوار بأن يصبح الممارس البيداغوجي موجها مشاركا في بناء الدرس المدرسي بدل أن يظل الملقن والناقل لهذا الدرس.

ـ الوعي بأن الموارد التعليمية وأنشطتها سوى حامل لمحمول هدف غاية في الأهمية، وهو إكساب المتعلم/ ة عمليات التفكير المتنوعة من أدناها إلى أعلاها إقدارا له على مواجهة المشكلات وحلها واتخاذ القرارات والمواقف المناسبة والصحيحة في حياته الخاصة والعامة، وذلك بتمليكه أنواع التفكير وأنماطه. (إن الدور المركزي للمدارس هو تطوير عمليات التفكير العليا وحل المشكلات وصنع القرارات، خاصة وأن الانفجار المعلوماتي الراهن أخذ يحدث بسرعة بحيث لم يعد ممكنا حتى للخبراء في أي مجال أن يلحقوا أو يتابعوا المعارف الجديدة. لذا لم نعد نعرف ماذا نتعلم، وبدلا من ذلك ينبغي علينا أن نساعد الطلبة كيف يتعلمون)[25].

ـ تمليك المتعلم/ ة النزعة المعرفية بذاته وبموضوع اشتغاله، فيعرف كيف يشتغل عقله ويدرك آليات تفكيره وسيروراتها وقيمة نفسه؛ فيعي أنماط تفكيره المتنوعة لكي يستطيع التعامل مع عالمه الداخلي والخارجي. هذا الأخير تزداد فيه المجردات والمصورنات والرموز كثافة كلما ازداد العالم تقدما ونماء. فلم يعد هدف التدريس هو (تحصيل المعرفة، فلم تعد المعرفة هدفا في حد ذاته، بل الأهم من تحصيلها، هو القدرة على الوصول إلى مصادرها الأصلية وتوظيفها في حل المشاكل، لقد أصبحت القدرة على طرح الأسئلة في هذا العالم المتغير الزاخر بالاحتمالات والبدائل تفوق أهمية القدرة على الإجابة عنها)[26]. بمعنى آخر تكوين المتعلم على التعليم الذاتي نقلا له من التعليم الموجه.

ـ إيمان الممارس البيداغوجي أنه أمام إنضاج المتعلم/ ة مبكرا بتحويله من العقلية الطفولية إلى العقلية الراشدة، التي تتحمل المسؤولية والمستقلة والمفكرة والمبدعة والمعتمدة على نفسها تساوقا مع عصر المعلومات والثورة التكنولوجية والرقمية، فـ (فيما يخص مجتمع المعلومات، الذي سيسعى من خلال أساليب تربيته، وأنماط الحياة فيه إلى سرعة إنضاج الصغار، ونعني بذلك تقليل فترة التعليم الأساسي وتنمية قدراتهم الإبداعية والابتكارية، والتقليل من تأثير رقابة الكبار عليهم، واستقلالهم عن ذويهم في سنوات مبكرة)[27]. وتكوين العقلية العلمية والموضوعية والواعية والمنطقية بعيدا عن العقلية الخرافية والسذاجة المعرفية.

و ـ السؤال الموالي للسؤال السابق وهو متعلق به يتساءل الممارس البيداغوجي عن:

* ما الاستراتيجية المعرفية التي سأطورها؟

وهذا السؤال يحيله إلى:

ـ الوعي بأن الاشتغال المدرسي سواء بالنسبة لشق العملية التعليمية التعلمية الأول، وهو التعليم أو التدريس لا يتم إلا تحت عقلية مهندسة ومخططة وعلمية، كل فعل أو نشاط هو مدروس جيدا ومرتب ومعقلن. فلا مكان للعشوائية والتخبط والارتجال في فعل التعليم. ولا موقع للاطمئنان والركون إلى منطق الاستسلام في أنشطته. بل الاحتراز والتبصر واليقظة في كل منشط ومسلك تعليمي. وبذلك؛ كان فعل التعليم فعلا استراتيجيا بامتياز، من حيث التنظيم والاحتمال وإدارة الأزمات في تنفيذ الاستراتيجية. وهي متعلقة بالتفكير الاستراتيجي الذي جوهره (منهجيته العلمية التكنولوجية بأساليبها المتقدمة في مواجهة المشكلات وفي التحليل وفي الوصول إلى النتائج وفي المفاضلة والاختيار بينها. وأهم ما في هذه المنهجية العلمية التقنية استجابتها المسبقة للمشكلات التي يتم التنبؤ بحدوثها أو بإمكان حدوثها، بدلا من الاستجابة الفورية ورد الفعل الآني عليها. فهي تأخذ بمبدأ "الفعل المسبق" لا مبدأ "رد الفعل الفوري")[28]. والشق الثاني هو التعلم، ولا يتم بالنسبة للمتعلم إلا بالتفكير المنظم وفق مكتسبه المنهجي، وكذا وفق الميتامعرفة التي يقوم في ظلها بالتفكير في كيفية الاكتساب المعرفي والمهاري والسلوكي والأداء؛ إلا أن عقلية الممارس البيداغوجي كراشد غير تلك للمتعلم/ ة الطفل أو غير الراشد، التي قد تعتريها الأخطاء المنهجية، المؤدية إلى الأخطاء في النتائج. وبالتالي يقف هنا الممارس البيداغوجي مرشدا وموجها ومنقذا للمتعلم/ ة من الخطأ بالتصحيح والمعالجة. فالمتعلم/ ة قد يمتلك على سبيل المثال نظريات ساذجة يحتكم إليها في الحكم على الأشياء، فينبري الممارس البيداغوجي مصححا لها. ومنه لا يتم وجها عملة فعل التدريس إلا بالعقلية العلمية المعقلنة والمضبوطة والمخططة والمهندسة.

ـ الوعي بأن مجموع الأنشطة التعليمية تقوم على تعليم المتعلم/ ة كيف يتعلم وكيف يفكر بطرق مختلفة لمقاربة ومواجهة المشكلات التي تعترضه في حياته الخاصة والعامة، ومن ثمة ينطلق الممارس البيداغوجي من تشخيص المشكلات والتحديات والصعوبات في إطار الوضعيات التعليمية لتمريس المتعلم/ ة على حل المشكلات والمعضلات. لذا؛ على الممارس البيداغوجي توضيح الاستراتيجيات المعرفية التي سيسلكها لمقاربة أنشطة الدرس المدرسي أو يضع المتعلم/ ة في صلب تعلمها وفهمها والتمكن منها.

ـ الوعي بمدى وجود فروق فردية في الاستراتيجيات المعرفية بين المتعلمين/ ات نظرا لكون كل منهم له استراتيجيته الخاصة التي يتبعها في التعلم، غير أن الاستراتيجية المعرفية التي يريد الممارس البيداغوجي تنميتها لديهم، توحدهم حولها ويقوم أغلبهم بملاءمة تلك التي له معها، والتكيف معها. وبالتي يحاول زيادة فعالية المتعلم/ ة للتعلم والتفكير وحل المشكلات والتذكر والمعالجة المعرفية والاستراتيجيات المعرفية التي حتما تتنوع بتنوع مسلكيات الممارس البيداغوجي في الدرس المدرسي، والحرص على تنويعها.

ـ الوعي بان الاستراتيجيات المعرفية هي مفارقة لمضمون ومحتوى المعمار الفكري والبناء المعرفي للمتعلم/ ة ومستقلة عنه، لكنها لا تتم ولا تكتسب خارج المحتوى التعليمي ومضمونه؛ بمعنى لا تكتسب إلا من خلال النشاط الفكري والمهاري والأداء للمتعلم/ ة سواء كان موجها أو ذاتيا. وبما أن الاستراتيجية المعرفية هي مسلك منهجي وأدائي في ذات الوقت، فهي كذلك عمليات عقلية معرفية في عمقها. فلا يمكن الحديث عنها دون وجود مضمون ومحتوى معرفي أو أدائي لاشتغالها وممارستها، وهي تتضمن فعل التنظيم والتكيف واستثمار وتوظيف المتعلم/ ة العمليات العقلية المعرفية والميتامعرفية المتعلقة ب:

* التنبه والتركيز والاستقبال الانتقائي، الذي يسمح بالاختيار الجيد الموارد والمهارات والقدرات ... المناسبة والقابلة للتوظيف فضلا عن رصد المشكلات والقضايا والتمييز بينها، وترتيبها حسب الأولوية ...

* استحضار الذاكرة طويلة المدى، بما تعني من البرمجة والحفظ والتخزين والتركيم والترصيد. ولما لها من قدرة على حفظ ودائع الفكر والأحداث والمكتسبات والتجارب والخبرات من أجل استدعائها في الوقت المناسب.

* اشعال الذاكرة واستدعاء الموارد والمكتسبات واسترجاعها وتوضيبها وتجهيزها للتوظيف. وهنا يجب تدريس المتعلم/ ة كيفية انتقاء الرئيسة والقابلة للتصريف والتطبيق والملائمة لنوع المشكلة والمساهمة في حلها، لا تلك التي تزيدها تعقيدا على تعقيد. كما يحدث مع إصلاح "إصلاح التعليم"!

* إعمال التفكير في كيفية ممارسة حل المشكلة والشروع في التنفيذ. والتقويم والمعالجة الآنية للطوارئ وإدارة الأزمات.

وهذا السؤال مفتاح جيد لمغلقات التفكير عند المتعلم/ ة خاصة فيما يتعلق بما سبق من المراحل والمحطات الأربع، حيث لكل مرحلة أو مدخل فكري أو أدائي استراتيجيته المعرفية وفق التالي:

(1ـ الاستراتيجيات المعرفية المتعلقة بالانتباه:

تشير الدراسات والبحوث التي أجريت حول الاستراتيجيات المعرفية التي يمكن من خلالها إثارة انتباه المفحوص إلى أن استرجاع أسئلة او تساؤلات حول الموضوع أو النص المراد تعلمه يزيد من درجة من درجة الانتباه ويجعل الاستقبال الانتقائي مرتبط بالإجابة على هذه الأسئلة، وأن المتعلم يمكنه أن يتحكم معرفيا فيما يتعلمه إذا استخدم الاستراتيجيات الموجهة لانتباهه.

2 ـ الاستراتيجيات المعرفية المتعلقة بالترميز:

هنا استراتيجيتان رئيستان مستخدمتان في اكتساب المفهوم الصحيح هما:

الأولى: استراتيجية التركيز " Focusing "

الثانية: استراتيجية المسح " Scanning "

ومن خصائص استراتيجية التركيز أو المفحوص يبحث عن جميع الخصائص المشتركة المتنوعة للمفهوم، فقد عرض عدد من مثلثات مختلفة الشكل صفراء اللون، وجد أن المفحوص يقارن بين جميع الخصائص المشتركة بالمفهوم.

أما في استراتيجية المسح يقوم المفحوص بالاهتمام بخاصية واحدة متعلقة بالمفهوم مثل خاصية اللون، ثم يبحث عن خاصية أخرى لمفهوم آخر، وعند الاسترجاع يعتمد على هذه الخاصية.

وقد توصلت البحوث والدراسات إلى أن استراتيجية التركيز أكثر استخداما عندما يكون المتعلم واقعا تحت ضغط الوقت، بينما تكون استراتيجية المسح أكثر استخداما عندما لا يكون الوقت عاملا مؤثرا في الموقف.

3 ـ الاستراتيجيات المعرفية المتعلقة بالاسترجاع:

يشير مفهوم الاسترجاع إلى محاولة الفرد تذكر أو استرجاع المعلومات التي يتم استقبالها في الذاكرة قصيرة المدى أو السابق تعلمها وتخزينها في الذاكرة طويلة المدى.

وتأخذ استراتيجيات استرجاع المعلومات عدة أنماط هي:

* التسميع والمراجعة Reharsal & review

* تنظيم المعلومات أو الفقرات Organizing items أقل ارتباطا ببعضها البعض في وحدات مترابطة.

* الإتقان أو الإحكام Elaboration

* التصور البصري Visual Imagery

ويعتمد كل من التعلم الفعال والاحتفاظ الجيد بكمية كبيرة من المعلومات على استخدام واحدة أو أكثر من الاستراتيجيات الثلاث الخيرة. ويتوقف اختيار الاستراتيجية الملائمة على طبيعة المعلومات ومدى تشبعها بعامل المعنى ومستوى صعوبتها أو طولها ودرجة ارتباطها بالواقع أو مألوفيتها.

وتسير [العمليات الأساسية لتجهيز ومعالجة المعلومات على النحو التالي:

ـ المرحلة الأولى: عملية التحويل الشفري Encoding: وهي العملية التي بواسطتها يتم تكوين آثار الذاكرة التي تعمل على بقاء المعلومات في الذاكرة، ويتم في هذه المرحلة تحول وتغير شكل المعلومات من حالتها الطبيعة التي تكون عليها حينما تعرض على الفرد، إلى مجموعة صور ورموز، أي تتحول إلى شفرة لها مدلول خاص يتصل بهذه المعلومات، وهذه الشفرة يمكن تصنيفها إلى ما يلي:

أ ـ الشفرة البصريةVisual Code .

ب ـ الشفرة السمعية Acoustic Code.

جـ ـ الشفرة اللمسية Haptic Code.

د ـ شفرة الدلالة اللفظية Semantic Code.

ـ المرحلة الثانية: عملية التخزين Storage: وهي العملية التي يتم فيها احتفاظ الذاكرة بالمعلومات التي انتقلت إليها من المرحلة السابقة، وتبقى هذه المعلومات بالذاكرة لحين حاجة الفرد إليها.

ـ المرحلة الثالثة: عملية الاسترجاع Retrieval: وهي العملية التي يتم فيها استعادة الفرد للمعلومات التي سبق أن اختزنت في الذاكرة، ويتوقف استرجاع المعلومات على مدى قوة آثار الذاكرة، وعلى مستوى علاقة هذه الآثار بدلالات الاسترجاع، وعلى العوامل المعينة والمساعدة على الاسترجاع.

كما أن عملية الاسترجاع يمكن أن تتأثر بكل من مستوى تنظيم المعلومات ومستوى معالجة المعلومات، وذلك ما تؤكده بعض الدراسات، مثل دراسة صلاح باشا التي هدفت إلى معرفة أثر تنظيم وترابط المعلومات ومستوى المعالجة على التذكر واسترجاع المعلومات، وجاءت نتائج الدراسة دالة على تأثر استرجاع المعلومات بكل من هذه العوامل " تنظيم المعلومات ـ ترابط المعلومات ـ معالجة المعلومات "][29]

4 ـ الاستراتيجيات المعرفية المتعلقة بحل المشكلات Problem-Slovinh Strategies:

ترتبط استراتيجيات حل المشكلات ارتباطا موجبا ذا دلالة مع زيادة المعرفة والخبرة حيث تمكن زيادة المعرفة كما وكيفا من معرفة أفضل الأساليب اللازمة لفهم المعلومات المتعلقة بالموقف المشكل واستحضارها. واستخدام استراتيجيات أفضل ملائمة لتوظيف هذه المعلومات، واشتقاق الحل منها أو إنتاج خطط للحل وتقييمها بشكل أكثر مرونة وفاعلية.

كما يمكن تقرير أن كلا من المعرفة والخبرة المتزايدة تؤديان إلى تنظيم أكثر فعالية للمعلومات المستعارة من الذاكرة وبالتالي تخفيف العبء على الذاكرة قصيرة المدى مما يمكنها من معالجة المعلومات المحمولة بها والتي تتعلق بالموقف المشكل بفعالية أكبر.

وتتمايز استراتيجيات حل المشكلات بين عدة أنواع من الاستراتيجيات منها:

* استراتيجية تحليل الوسائل والغايات.

* استراتيجية العمل بين الأمام والخلف.

* استراتيجية تعميم البدائل)[30].

فمعرفة وعلم الممارس البيداغوجي ووعيه بمدى أهمية العلوم المعرفية والذكاء الاصطناعي وحضورها في هذا السؤال سيساعده كثير في فهم كيفية اشتغال الذاكرة كما أن علم الدماغ البشري يساهم بقسط وافر في نجاح أدائه التدريسي. كما يمكن التقرير هنا أن الميتامعرفة لها دور مهم في التعلم وفي معالجة المشكلات خاصة ان ارتبطت بالفكر الناقد والمبدع والمتشعب.

ز ـ سؤال الوضعية المشكلة الديداكتيكية تأتي بعد تحديد الاستراتيجية المعرفية التي سيطورها الممارس البيداغوجي، حيث يتعلق بهذه الوضعية السؤال التالي:

* ما المشكلة الملموسة التي سأطرحها في بداية الدرس لتحفيزهم؟

وهو سؤال يحيل الممارس البيداغوجي على العلم بالوضعيات الديداكتيكية والمقاربة بالكفايات أو ما تسمى في الخطاب التربوي المغربي بيداغوجيا الكفايات، وعلى مواصفات الوضعية الديداكتيكية، ودورها في التدريس وكيفية ومراحل توظيفها، وكيفية التخطيط لها وبنائها ... أي معرفته بالأدبيات التربوية الخاصة بالوضعيات. ومن طبيعة الوضعية الديداكتيكية أنها وضعية مشكلة، تستقي وجودها من دورها في تحفيز المتعلم/ ة على التعلم أو بناء موارده وتمثلها وتخزينها واسترجاعها واستدعائها وتوظيفها أو تقويم مكتسباته التي اكتسبها في سياق تعلمه، كما في سياق تعليمه. والوضعية المشكلة الديداكتيكية هي المعنية هنا، من حيث كونها المدخل للتعلم واللبنة الأولى التي توضع أم المتعلم/ ة؛ ولا يمكن الحديث هنا عن المشكلة دون أن يمسك الممارس البيداغوجي بمهارة الأشكلة سواء على مستوى وضع الأسئلة الإشكالية أو على مستوى تشييد البناء الإشكالي على المشكل الواقعي فعلا عائقا أو صياغته إشكاليا؛ ما يساهم في نقل المشكل إلى الطرح الإشكالي الذي سيدفع المتعلم إلى التفكير في حله ومقاربته؛ (بمعنى السلوكات والعمليات الفكرية الموجهة لأداء مهمة ذات متطلبات عقلية معرفية ... [من حيث] يستخدم الفرد فيها ما لديه من معارف مكتسبة سابقة ومهارات من أجل الاستجابة لمتطلبات موقف ليس مألوفا له، وتكون الاستجابة بمباشرة عمل ما يستهدف حل التناقض أو اللبس أو الغموض الذي يتضمنه الموقف. وقد يكون التناقض على شكل افتقار للترابط المنطقي بين أجزائه، أو وجود فجوة أو خلل في مكوناته)[31]. ذلك (أن التعلم المبني على المشكلات يستخدم لتنمية التفكير ذي المستوى الرفيع من خلال مواقف موجهة نحو مشكلات، وتعلم كيف نتعلم، إذ دور المدرس في التعلم المستند إلى مشكلة يتركز في أن يطرح مشكلات وأن يسأل أسئلة، وأن ييسر البحث والاستقصاء والحوار، وأهم من ذلك أن يوفر المدرس إطار عمل مساند، سقالات تيسر البحث والنمو الفكري، ولا يمكن أن يتم التعلم المبني المشكلات ما لم يوفر المدرسون بيئات صفية تتيح التناول المفتوح والأمين للأفكار ومعالجتها)[32].

ومنه لا يستقيم هذا الحديث دون التطرق إلى الوضعية المشكلة الديداكتيكية بشكل مقتضب لما في الأدبيات التربوية من إطناب في شأنها ترجمة ونقلا وتطويرا وهو الخطاب التربوي المغربي عاش ومازال يعيش في كنف بيداغوجيا الكفايات ويعرف جيدا أدبياتها وتفاصيلها ومعطياتها التاريخية وسياق التوظيف ومآلاتها.

والوضعية المشكلة الديداكتيكية لها مسميات أخرى كوضعية الانطلاق، وتحمل في بنيتها مشكلة معينة. وهي وضعية تقع زمنيا في بداية الدرس المدرسي، وتوسم بعديد من السمات تختلف من باحث ومنظر لآخر؛ لكن يمكن التركيز على السمات التالية:

* تنطلق من واقع المتعلم المعيش ومن خبراته وتجاربه ومشاهداته وكائنيته، لكي تكتسب دلالتها عنده، بما يشعر معها بالارتباط بها، ويجد نفسه معنيا بها ومفكرا فيها ومتمثلا لها ماديا وصوريا. فـ (كلما كانت المشكلة مرتبطة بالخبرة الشخصية للطالب، كانت دافعيته أقوى لمتابعة العمل من أجل حلها. وفي كل الحالات تتوقف عملية التعرف على المشكلة والتمثيل المعرفي والعقلي لها على التفاعل بين المعلومات المعطاة في متن المشكلة والمعارف والخبرات السابقة للفرد)[33].

* تحتوي وتتضمن تحديات وصعوبات وعوائق معرفية أو منهجية أو أدائية؛ مطلوب من المتعلم/ ة إيجاد حل لها من خلال مكتسباته ومواردها وكفاياته ومهاراته وقدراته المتنوعة. لكنه رغم ما يقوم به من إشعال ذاكرته واستدعاء موارده ومكتسباته وخبرته وتجربته، لا يستطيع تقديم حلول جاهزة لها وحلها أو مقاربتها، فيشعر أمامها بغياب الحل أو بعدم امتلاكه تصورا للحل أو استراتيجية لمقاربتها، ومنه يجهل الإجابة عنها أو عن أسئلتها أو أداء تعليماتها بمعنى المهمة المطلوب إنجازها من قبله نتيجة غياب موارد ومتطلبات رئيسة في سياق حل الوضعية المشكلة الديداكتيكية، وهي التي تشكل جديد الموارد والمهارات والكفايات والقدرات موضوع الدرس المدرسي. وبذلك تحفزه على البحث والتقصي وتحثه على الانخراط في إيجاد الحل، بما يحدث له توترا معرفيا مستتبعا بتوترات أخرى، وفقدان التوازن وفق نظرية جان بياجيه البنائية حين يفقد المتعلم/ ة التوازن بين مخططاته وخرائطه العقلية والفكرية وأطره المعرفية مع معطيات بيئته الخاصة به، فلا تتوافق توقعاته واستشرافاته وارهاصاته المبنية والمؤسسة على معرفته ومكتسباته وموارده السابقة مع الموارد والمعرفة الجديدتين؛ فيبحث حينئذ عن إيجاد التوازن من خلال اكتساب الموارد الجديدة، بما يؤدي به إلى إيجاد الحل. وهو الأمر المساهم في النمو المعرفي للمتعلم/ ة، بنقله من حالة اللاتوازن إلى التوازن، وهكذا يظل المتعلم/ ة ينتقل من حالة على أخرى في تنمية ونمو مكتسباته المعرفية والمهارية والأدائية والاجتماعية ... وبنياته الفكرية في عملية مستمرة مدى الحياة.

* تثير لدى المتعلم/ ة بعد تحديدها مجموعة من الأسئلة لمقاربتها بما يشكل علامات استفهامية حول مكونات بنيتها والعلاقات البينية بين مفرداتها الأساسية والثانوية وحتى الهامشية، ودور كل منها في نسق المشكلة، ومدى أهميته في وظيفة النسق، وما الاختلالات التي يحدثها غياب أحد هذه المكونات. ما يقوده من جهة أخرى إلى اكتشاف أماكن الخصاص المعرفي أو المهاري أو الأدائي الإجرائي ومتطلباته التي تساهم في تغطية الفارق بين المكتسبات السابقة والمكتسبات المستهدفة والعمل على تحصيله لحل المشكلة؛ التي تعتمد درجة كفاءة معالجتها (بصورة أساسية على قدرة الفرد [المتعلم/ ة] على إدراك العلاقات بين مكوناتها واستخلاص النقاط الرئيسة فيها، وإثارة التساؤلات الملائمة لها، وصياغة تنبؤات بالنتائج المحتملة)[34]. (فقد وصف سافوري وهيوز "Savoie & Hughes" خبرة التعلم على المشكلات أنها تحتاج إلى النشاطات التالية:

1 ـ تحديد مشكلة مناسبة للطلاب.

2 ـ توصيل المشكلة بسياق عالم الطلاب.

3 ـ تنظيم موضوع المشكلة خارج إطار الضبط.

4 ـ تحميل الطلبة مسؤولية التعرف على الخبرة المتعلمة الجديدة والتخطيط لحل المشكلة.

5 ـ تشجيع التعاون بين الطلاب باستخدام فرق التعلم.

6 ـ جعل تعلم الطلبة على شكل أداء أو منتج)[35].

وقد حدد فتحي عبد الرحمن جروان خمس خطوات لمقاربة مشكلة ما؛ وهي وغيرها من استراتيجيات[36] الحل تتساوق مع مراحل التفكير العلمي والتجريبي بالخصوص. وتتمثل في: (

أ ـ دراسة وفهم عناصر المشكلة والمعلومات الواردة فيها والمعلومات الناقصة، وتحديد عناصر الحالة المرغوب "الهدف" والحالة الراهنة والصعوبات أو العقبات التي تقع بينهما.

ب ـ تجميع معلومات وتوليد أفكار واستنتاجات أولية لحل المشكلة.

جـ ـ تحليل الأفكار المقترحة واختيار الأفضل منها في ضوء معايير معينة يجري تحديدها.

د ـ وضع خطة حل المشكلة.

هـ ـ تنفيذ الخطة وتقويم النتائج في ضوء الأهداف الموضوعة)[37].

* الوضعية المشكلة الديداكتيكية هي مشكلة تدريسية تثير أسئلة التفكير حولها من أجل تفكيك مفاصلها وتفاصيلها بغية إيجاد حل مناسب لمعطياتها وواقعها. ومن شأن تلك الأسئلة تنشيط التعليم والتعلم من حيث تثير انتباه المتعلم/ ة لموضوع المشكلة، وتعمل على ممارسة التفكير بشأن الخروج من تحدياتها وعوائقها وصعوباتها بتعلم جديد. فيجد المتعلم أن توظيف العقل هو أحد الدعامات التي يتكئ عليها في مواجهة المشكلة دون الركون إلى الحلول الجاهزة والنمطية والتقليدية، والذي يمنحه فرص إيجاد البدائل المتنوعة التي يختار منها الأجود والأقل تكلفة والآمن والأضمن ناتجا.

وهي الأسئلة من شأنها كذلك قيادة المتعلم إلى تأسيس وعيه وفهمه وإدراكه على خطط واستراتيجيات ومنهجيات للحل إزاء معرفته بالاستراتيجيات والذات والمهمة والمحتوى والسياق. وتتحصل لديه بذلك القدرة على التخطيط ووضع الاستراتيجيات وتنفيذ المنهجيات. إن أثار الأسئلة العميقة حول المشكلة تفيده في هذا الشأن بكثير لأنه في واقعنا التعليمي؛ غالبا ما لا يتساءل المتعلم/ ة عن الخطط والمنهجيات والديداكتيكا المتبعة في التعليم ولا يدركها ويكون تعاطيه مع المشكلات إما نمطيا وتقليديا أو عشوائيا تخبطيا غير منسجم، ومن ثمة تكون الأسئلة مفتاح الطريق نحو وضع الخطط وفهمها واستيعابها وتنفيذها وتقويمها ومعالجة نتائجها. فوعي ما نفعل له دور مهم جدا في طريق الحل؛ حيث (الوعي بالتفكير يعني القدرة على أن تعرف ما تعرفه وما لا تعرفه، وهذه العملية مركزها Cerebral cortex وهي خاصة بالإنسان فقط. وهي القدرة على التخطيط والوعي بالخطوات والاستراتيجيات التي نتخذها لحل المشكلات وتقييم كفاءة تفكيرنا. وإذا كانت اللغة الداخلية تبدأ في سن الخامسة فإن الوعي بالتفكير يبدأ في سن الحادية عشر، وهو ركن أساسي للتفكير الشكلي. ومن المعروف أن الوصول لمستوى التفكير الشكلي ليس عاما بين البشر، كما أن الوعي بالتفكير ليس عاما بين البشر أيضا)[38].

* ذات طابع ملموس يقف عليه المتعلم/ ة بفكره وحواسه، ويستشعر المشكل حقيقة ويحاول إيجاد الحل. فهذا الطابع يتم في سياق تدريسي، حيث يتلمسه المتعلم/ ة كما يحدث في واقعه، مما يولد له إحساسا به وحافزا على حله والرغبة في التعامل معه من خلال وروده في سياق معيشه اليومي المتنوع. لذا؛ كان التعلم المبني على المشكلات من أنجح وأنجع أنواع التعلم، بل والتعليم. لأنه يقوم على مشكلات الواقع ذات الطابع الملموس الذي يمكن الانطلاق منه في تنمية المعمار الفكري للمتعلم/ ة وخبراته وتجاربه. فـ (التعلم المبني على المشكلات يحرر المعلم من محدودية الكتاب المقرر والمواد التعليمية المدرسية، فبالنسبة للمعلم الذي يستخدم التعلم المبني على المشكلات فإن أي حدث أو مناسبة، سواء جرى خارج المدرسة أو داخلها يمكن أن يولد مشكلة ترتبط بحياة الطلاب. وليس هناك حد للأهداف المتنوعة الكامنة وراء المشكلات الواردة في التعلم المستند إلى مشكلة، إذ يمكن للمعلمين أن يعدوا مشكلات لمعالجة تعلم الطلاب للمنهج، أو لتحسين المجتمع، أو حل مشكلات بين شخصية في غرفة الصف. ويمكن للمشكلة أن تهدف إلى تغيير مدرسة غير مقبولة أو إلى تغيير وضع ما في حي مجاور، أو تهدف إلى الاحتفال بإنجاز ما للحي. كذلك يمكن تصميم مشكلات لجزء ما من مساق معين. وقد تكون خاصة بمادة ذات موضوع واحد أو بمادة ذات موضوعات متداخلة. ويمكن تصميمها من قبل معلم واحد أو بشكل تعاوني بين المعلمين لتعليمها من قبل الفريق)[39].

* (المشكلة يجب أن تكون متوافقة مع مرحلة النمو الخاصة بالطلاب، وذات صلة بخبراتهم، وتستند إلى المنهج. ويجب أن تتوافق المشاكل مع مجموعة متنوعة من الأساليب والاستراتيجيات التعليمية والتعلمية. كما يجب أن تزيد من اكتساب المعرفة وتنمية المهارات. إضافة إلى ذلك، يجب أن تكون المشكلة غير مكتملة التركيب لكي يكتشف الطلبة أثناء قيامهم ببحث إضافي صعوبة المشكلة ويعرفون أنها قد تشمل على عدة حلول)[40]. فهي تنمي في المتعلم/ ة المهارات التالية:

(ـ كيف يضع مشكلات ويحيط بحدودها؛

ـ كيف يفكر في حلول متعددة بواسطة جهده العقلي وحدسه، وذلك بصياغة فرضيات متلائمة مع طبيعة المشكلة؛

ـ كيف يبتكر أدوات التجربة ويصنعها؛

ـ كيف يدافع عن فكرة معينة بحجج وأدلة يبحث عنها بنفسه.

عن كل هذه المهارات تمكننا من تمييز الأهداف التي تتوخى بيداغوجيا حل المشكلات تحقيقها، ومن بينها:

ـ تنمية روح الإبداع والابتكار لدى التلميذ؛

ـ اكتساب التلميذ لمنهجية علمية من خلال إنجازه لسيرورة العمليات في التفكير والاستنتاج والتجربة ...؛

ـ تنمية الحاجة إلى التفكير والبحث والتأمل فيما يحيط به. وهكذا يحاول التلميذ أن يتساءل ويفكر باستمرار فيما يحيط به؛

ـ إكساب التلميذ القدرة على طرح أفكاره ووجهات نظره ومقارنتها مع آراء الآخرين؛

ـ تنمية القابلية للدخول في علاقات اجتماعية مكثفة مع الآخر؛

ـ خلق الحس النقدي، بحيث أن التلميذ لا يتقبل الآراء والأفكار إلا بعد التفكير فيها وتجريبها ...؛

ـ تأكيد الذات من خلال بحثها الشخصي وجهدها في الاكتساب والتعلم؛

ـ تنمية روح التواصل والتعاون بين الأفراد من أجل إيجاد حلول لمشكل ما؛

ـ تنمية روح الاستقلالية والمبادرة والمسؤولية لدى التلميذ)[41].

* تمنح المتعلم/ ة الثقة بالنفس من حيث يواجه المشكلة بنفسه تحت توجيه وإرشاد الممارس البيداغوجي لمعطى عدم اكتمال نضجه المعرفي ومعماره الفكري بتعزيز مهاراته وقدراته، من خلال الدفاع عن ذاته وأفكاره وأطروحاته بالدليل والحجة والمنطق والموضوعية في تناوله للمشكلة؛ فتزداد ثقته بنفسه بمواجهة تعقيدات وتحديات وصعوبات وعوائق المشكلة التي تطرحها عليه، وكذلك بمواجهة معطيات واقعه السوسيوتربوي القائم بين أفراد ومكونات جماعة القسم فضلا تنمية روح المبادرة والمبادأة في مواجهة المجهول الذي يكتشفه لأول مرة، وكذا من خلال امتلاك المتعلم/ ة قدرة التعلم ذاتيا عبر المواجهة والتصدي للمشكلات التي تعترضه واقعيا في السياق الاجتماعي، وبناء وتطوير وتنمية ذاته المعرفية والسيكولوجية والاجتماعية والثقافية. والتعلم الذاتي هو مدخل أساس للثقة بالنفس. فهي تمنح المتعلم/ ة فرصة التعبير عن رأيه باستقلالية تامة ووضوح وشفافية في مواجهة كل الضغوطات الذي يطرحها عليه الشك في الذات او اهتزاز الثقة بها، وتسمح له بالتعبير العلني عن مشاكل التعلم لديه فضلا عن تغيير نظرته لذاته وفق ما يطرحه علم النفس العاطفي، وتشكيل رؤية إيجابية عنها، وإرجاع ثقته بنفسه وبقدراته التي تقوده إلى التعاطي مع المشكلات والصعوبات والتحديات. هذا؛ ويتحرر كذلك من رؤية ونظرة الآخر إليه، والضغوطات التي يطرحها المجتمع المدرسي او جماعة القسم عليه حسب معطيات معينة أو سياقات علاقية متنوعة تنزع في أحيان كثيرة إلى الحط من قيمة الفرد داخل الجماعة. فتصبح نظرة ورؤية ورأي الآخرين لا قيمة له عند المتعلم/ ة نتيجة ثقته بنفسه. وهو في ذلك يكتسب التوافق الشخصي المبني على:

(1 ـ الاعتماد على النفس: ويقصد به ميل الفرد/ [المتعلم/ ة] إلى القيام بما يراه من عمل دون أن يطلب منه القيام به، ودون الاستعانة بغيره.

2 ـ الإحساس بالقيمة الذاتية: ويتضمن شعور الفرد/ [المتعلم/ ة] بأنه قادر على توجيه سلوكه وإن له الحرية في أن يقوم بقسط من تعزيز سلوكه.

3 ـ الشعور بالانتماء: أي أن الفرد/ [المتعلم/ ة] يتمتع بحب والديه وأسرته وبأنه مرغوب فيه من زملائه.

4 ـ الاندماج الاجتماعي: أي ميل الفرد/ [المتعلم/ ة] إلى الدخول في علاقات اجتماعية وعدم انطوائه.

5 ـ الخلو من الأمراض العصابية: بمعنى أنه لا يشكو من الأعراض الدالة على الاضطراب النفسي كعدم القدرة على النوم أو الخوف أو الشعور بالتعب)[42]. وهذا ما تسعى إليه المنظومات التربوية والتعليمية العالمية ودعت إليه اليونسكو في غايتها الأربع للتربية المعلنة في: تعلم لتعرف، وتعلم لتعمل، وتعلم لتكون، وتعلم لتشارك الآخرين، وهي الوارد بالتفصيل في:

(التعلم للمعرفة: يشمل التعلّم للمعرفة أن يتعلم المرء كيف يتعلم، وتلك من مهارات التعلم الفعالة المتأصلة في التعليم الأساسي، وتتيح للأفراد الاستفادة من الفرص التعليمية التي تسنح لهم طوال الحياة.” وبالنظر إلى التغيرات السريعة التي أحدثها التقدم العلمي وأشكال النشاط الاقتصادي والاجتماعي الجديدة“، فإن التعلم للمعرفة يسمح بالجمع بين” ثقافة عامة واسعة وبين إمكانية الدراسة المعمقة لعدد صغير من الموضوعات“.

ـ التعلم للعمل: التعلم للعمل يؤكد على اكتساب المهارات المهنية اللازمة لممارسة مهنة أو تجارة. ويشجع على إقامة بين عالم التعليم وعالم الشراكات وعالم مؤسسات الأعمال والصناعة لتعزيز مجموعة متنوعة من الترتيبات التي تسمح بتفاعل التعليم والتدريب مع عالم العمل. فبالإضافة إلى تعلم ممارسة مهنة أو تجارة، يحتاج الناس إلى اكتساب القدرة على التكيف مع مجموعة متنوعة من الحالات التي لا يمكن التنبؤ بها في كثير من الأحيان وعلى العمل الجماعي معا ـ ولا تلقى هذه المهارات في العادة الاهتمام الواجب في مجال التعليم.

ـ تعلم المرء ليكون: ويمثل هذا الموضوع الرئيسي لتقرير فور الذي نشرته اليونسكو في عام 1972 والذي شدد فيه على تنمية الإمكانات البشرية إلى أقصى حد. ولا تزال توصيات عام 1972 تعتبر ذات أهمية بالغة في تقرير ديلور” بالنظر إلى أن القرن الحادي والعشرين سيتطلب من الجميع قدرة أكبر على الاستقلال الذاتي والحكم على الأمور لتساير دعم المسؤولية الشخصية في تحقيق الهدف المشترك للجماعة. “

ـ التعلم للعيش مع الآخرين: ينظر إلى تعلم العيش معا باعتباره يحتاج إلى تنمية المعرفة بالآخرين وتاريخهم وتقاليدهم وروحانياتهم. وهذا الفهم” من شأنه بناء عقلية جديدة تدفع المرء، بفضل هذا الإدراك للتكافل المتزايد بيننا، وبفضل تحليل متوافق عليه لمخاطر المستقبل وتحدياته، إلى تحقيق مشروعات مشتركة أو إلى تسوية حصيفة وهادئة للنزاعات التي لا مناص منها. “ [...] والخروج من دائرة الأخطار التي يغذيها الاستخفاف أو الاستسلام)[43].

وهذا التعلم للعيش مع الآخرين هو ما يسعى إليه التعليم المبني على المشكلات أو ما يسمى في الأدبيات التربوية المغربية" بيداغوجيا حل المشكلات " التي (لا تتوخى فقط تنمية الجانب العقلي والذهني لدى التلميذ، بل تتوخى كذلك تنمية مواقف إيجابية، مثل التعاون والمبادرة والمسؤولية ...؛ ومن تم تختلف عن أهداف التربية التقليدية التي ترتكز على المادة، كما تختلف كذلك عن التربية التي تركز على البعد الفرداني في عملية التعلم)[44]، كما يحدث في أقسامنا التي يحث فيها الممارسون البيداغوجيين المتعلمين/ ات على الاشتغال بمفردهم!؟ وتحت غاية التعليم للمعرفة إن (طلاب اليوم من رياض الأطفال إلى الثالث الثانوي يحتاجون إلى بناء مهاراتهم في حل المشاكل والتفكير أثناء تعلم المضمون الضروري لتطبيق تلك المهارات. إن المنهج الذي يعد الطلاب جيدا ليكونوا عاملين ومواطنين منتجين في القرن الحادي والعشرين سوف لا يحشو أدمغتهم بحقائق ونظريات اليوم ـ والتي سرعان ما تصبح قديمة أو مهملة ـ بل أنه سيبين لهم كيف يتعلمون بأنفسهم وكيف يستخدمون المعلومات التي يتعلمونها)[45]. فقد (أصبحت مهمة التعليم، هي تعليم التلميذ كيف يتعلم ذاتيا، وكيف يداوم عملية التعلم تلك على مدى فترات حياته العملية، لقد فقد التمدرس احتكاره الذي طال لمهمة التعليم، ويتحول تعليم الكتل تدريجيا إلى أشكال متنوعة للتعلم الذاتي، الجماعي والانفرادي، لقد تعددت مصادر اقتناء المعرفة لتشمل بجانب المدرس: الكتاب، والمراجع والبرامج التعليمية، والمناهج المبرمجة، وبنوك المعلومات)[46].

* المشكل هو فعل إثارة التفكير في رأس المتعلم/ ة، بمعنى يؤدي به إلى التفكير في المشكل تحديدا وفهما واستيعابا ثم تحليلا وتفكيكا ودراسة معمقة فاستنتاجا وحلا وتطبيقا؛ وحين يفكر فيه وينفذه على أرض الواقع من أجل حل المشكل/ المشكلة، يمكن لهذا المشكل أن يطرح نفسه بصيغة أخرى هي التفكير في التفكير بمعنى الميتامعرفة[47] على المتعلم متسائلا عن الاستراتيجية المعرفية التي سلكها تفكيره لحلها، بدلالة السؤال: ما الخطوات والمراحل والمفاصل المنهجية/ الديداكتيكية التي قطعها تفكيري في حل المشكلة/ المشكل، حتى وصلت إلى النتيجة المستهدفة؟ وذلك من خلال طلب الممارس البيداغوجي (من التلاميذ أن يبينوا أو يشرحوا إجاباتهم وكيف توصلوا لها، أو يبينوا المنطق وراءها فهو يوجههم للتفكير في التفكير " الميتامعرفة ". وتشير كثير من الدلائل إلى أن تعبير التلاميذ عن استراتيجيات التفكير التي يستخدمونها وعمليات التفكير التي يصلون من خلالها إلى حل المشكلات أو إنجاز المهام التعليمية، سواء قبل أو أثناء أو بعد القيام بالتفكير فعلا هذا النشاط في ذاته ينمي التفكير)[48]. فهي المشكلة/ المشكل؛ رجع عن وعي المتعلم/ ة بها وبتنظيم أفكاره ومعلوماته ومهاراته وقدراته وخبراته وتجاربه ووقته وملاحظاته قصد إيجاد الحل والخروج من المشكلة. وبذلك، هي إعلان خطته للحل، يمكن نقلها من معرفة التجربة إلى المعرفة العامة. فـ (أهم مكون في الوعي بالتفكير وضع خطة عمل ثم الاحتفاظ بها في العقل. تكوين خطة عمل قبل السلوك الفعلي يساعد في متابعة خطوات هذه الخطة في السلوك بصورة واعية. كما يساعد على تقييم ما نقوم به بمقارنته بأنشطة أخرى. وتقدير ما إذا كان هناك استعداد أو تهيؤ لأنشطة أخرى. وهو يوجه تفسيرنا وإدراكنا وقراراتنا وسلوكنا. مثال لذلك ما يقوم به المعلمون المتميزون كنظام يومي: يضعون خطة معينة لتقديم الدرس، وتظل الخطة هاديا لهم أثناء التدريس، ثم يقيمونها في ضوء فاعليتها وما حققته من نتائج بالنسبة للتلاميذ)[49]. لذا وجدنا للميتامعرفة مكانة متقدمة في التعليم والتعلم، نتيجة غياب معرفة ما يفعل عند بعض المتعلمين وعدم إدراكه ووعيه، فسؤال الميتامعرفة يحيل المتعلم/ ة على التفكير في التفكير من باب الفهم والوعي والإدراك والتملك والضبط للاستراتيجيات والتخطيط والهندسة الفكرية التي تساهم بقسط كبير في تنظيم الاشتغال وتأسيسه على وعي وبصيرة وإدراكه، ولا تتركه للعشوائية والتخبط أو للتخمين والارتجالية والضمنية، التي لا تفيد الفعل التدريسي في شيء في أغلب الأوقات. بل تعيده إلى السذاجة التربوية الطفولية، التي تشتغل دون إدراكها لاشتغالها. ففيها؛

(التلاميذ يتبعون التعليمات دون أن يفكروا في سبب ما يقومون به من أنشطة معرفية، ونادرا ما يتساءلون عن الاستراتيجيات التي يقومون بها أثناء التعلم او يقومون بتقييم كفاءة أدائهم. بل أن بعض الأطفال ليس لديهم أدنى فكرة عما يقومون به من استراتيجيات عند حل المشكلة. أما الذين يفكرون تفكيرا ناقدا، ومن يتسمون بالمرونة ولديهم بصيرة، ومن يستخدمون مهاراتهم المعرفية فإن هؤلاء يستفيدون من امكاناتهم المعرفية والتي تتضمن:

1 ـ مهارات إدراكية حركية.

2 ـ اللغة ـ المعتقدات ـ المعرفة بالمضمون ـ عمليات التذكر.

3 ـ استراتيجيات محددة ومقصودة لتحقيق نتائج معينة.

فإذا كنا نود تنمية السلوك الذكي باعتباره الناتج الأساسي للتعلم، فلابد أن تمتزج المقررات الدراسية باستراتيجيات تعليمية تصمم[50] ـ [والتصميم في اللغة المضي في الأمر[51]، كما هو ضرب العظم فقطعه، وحين يصيب السيف المفصل ويقطعه؛ فذاك الطبق. وصمم تصميما في الأمر أو عليه[52]: مضى فيه غير منثن أو متردد. وهو ما يوحي بأننا إذا أردنا تمليك المتعلم كفاية التفكير في التفكير من بابي حل المشكلات، والتفكير الناقد، علينا ابتكار وتخطيط وتصميم منهجيات تعليمية قادرة على دفع المتعلم إلى التفكير في كيفية نشأتها قبل تطبيقها، وتكون محط دراسة وبحث في مسارها وخطواتها، التي تعمل على حل المشكلات. والانخراط الفعلي والحقيقي والمسؤول في تطبيقها والتدريب المتعلم/ ة على سلكها والمثابرة على ذلك والصبر والتبصر فيه؛ فذلك من شأنه تنمية التفكير في التفكير الذي هو المدخل الحقيقي إلى التفكير، أس كل شيء في الحياة النظرية والعملية والتطبيقية] ـ خصيصا لتنمية قدرات الوعي بالتفكير metacognition، ولابد أن تقدم هذه الاستراتيجيات في برامج إعداد المعلم والموجهين والإدارة المدرسية. ومن الملاحظ أن تعليم تلك الاستراتيجيات بفرضها على المتعلم لا يؤدي لتحقيق النتائج المطلوبة، على حين أن تهيئة الفرص للمتعلم كي يتوصل بنفسه إلى حاجته لتلك الاستراتيجيات في حل المشكلات ومناقشتها لها، وسعيه للتدرب عليها يؤدي نموها بصورة تلقائية. المهم هنا أن يتعلم التلاميذ الوعي بالتفكير دون أن يتحملوا مزيدا من الجهد)[53].

والتفكير في التفكير يؤسس فهم المتعلم/ ة كيفية اشتغال العقل الإنساني، وعاداته العقلية التي شكلت مبحثا من مباحث علم المعرفة، والتي لها أهمية في التدريس، حيث (إن عملية تشكيل عادات العقل لا تعني أن يمتلك الفرد مهارات التفكير الأساسية والقدرات التي تعمل على إنجازها فحسب بل لابد من التأكد من وجود الميل أو الرغبة لتطبيق كل ذلك في الأوقات والظروف والمواقف الملائمة. فالتعليم الناجح هو الذي يوسع ويطلق ويقوي الاستعداد للتفكير من خلال تشجيع الميول للاستكشاف والاستقصاء وحب الاستطلاع، وكذلك تشجيع الاتجاه نحو البحث والتحقق وتشجيع الطلبة على الاعتقاد بأن تفكيرهم سيكون مهما ومنتجا، مما يعزز ثقتهم بأنفسهم ودفعهم لبذل أقصى طاقاتهم لإنجاز المهمة. ونظرا للأهمية التربوية لعادات العقل باعتبارها هدفا تربويا تسعى إليه التربية الحديثة، مع ملاحظة أن تلك العادات تتفاوت من طالب لآخر، إضافة للواقع التعليمي الذي يؤكد على أن الطلبة يفتقرون إلى استخدام العادات العقلية في مختلف النشاطات)[54]. لذا، تركز المنظومات التربوية الجيدة حاليا وفي العالم على أهمية تعليم وتعلم المتعلم/ ة اتخاذ قرارات واعية ومتوازنة حول كيفية تأثير المعرفة بمفهوم العلم على حياته في مختلف سياقات معيشها وتعايشها واشتغالها، وكيفية استخدام المعرفة المحصلة لديه في حل المشكلات.

وهي عادات العقل صنفها أكثر من باحث وفق رؤيته واتجاه دراساته، وسنأخذ منها تصنيف مارزانو"Marzano" لعادات العقل المسماة عنده "عادات العقل المنتجة" عبر نموذج أبعاد التعلم الهادف إلى تعليم المتعلم/ ة كيفية عمل العقل الإنساني وتدريبه على ذلك وفق المكونات التالية عنده:

(1 ـ مهارات تنظيم الذات " Self regulator Skills: ويهدف تنظيم الذات إلى جعل التعليم تحت سيطرة المتعلم بحيث يصبح الطالب أكثر وعيا بطريقة تعلمه، ويتميز الفرد الذي يمتلك هذه المهارة بالقدرة على التخطيط، والقدرة على التفكير بطريقة سليمة، والمعرفة بالمصادر اللازمة للتعليم، والاستفادة من التغذية الراجعة، وتقييم كفاءة العمل.

2 ـ التفكير الناقد " Critical Thinking " ويتضمن العادات العقلية التي تجعل سلوك المتعلم أكثر حساسية، ومنطقية لمواقف الآخرين، ويتميز الفرد الذي يمتلك هذه المهارة بالوضوح، والدقة في العمل، وعدم الاندفاعية، والقدرة على اتخاذ المواقف عندما يستدعي الأمر ذلك، ومراعاة مشاعر الآخرين، ويكون متفهما لمستوى معرفة الآخرين، والانفتاح العقلي.

3 ـ التفكير الابتكاري " Inventory Thinking ": ويتضمن القدرة على ممارسة التفكير بصورة أكثر مرونة بدون الإحساس بأية عوائق، ويتميز الفرد الذي يمتلك هذه المهارة بالاندماج في المهام، وتوسيع حدود المعرفة، والقدرة على التقويم، وتوليد طرق جديدة للنظر إلى الأمور بشكل مختلف. فمثل هذا الاتجاه يحدد عادات العقل بثلاثة أنواع رئيسة تشكل مجالا خصبا لتنمية شخصية المتعلم، بالرغم من أهمية اكتساب الطلاب للمعلومات، إلا أن اكتسابهم للعادات العقلية يعد هدفا مهما لعملية التعليم، فهي تساعدهم على تعلم أية خبرة يحتاجونها في المستقبل)[55].

* المشكلة التي يروم الممارس البيداغوجي استهداف طرحها محفزا على التعلم ليست بسيطة وسهلة بالنسبة للمتعلم/ ة كما تتجلى له بداية لأنه هو واضعها أو مستقيها، وإنما هي معقدة ومركبة بالنسبة للمتعلم/ ة. فهي تطرح عليه عدة إشكالات مختلفة يجب التقرير بشأنها، ذلك أنه يتعلق الأمر بوضعية تعليمية وتعلمية للمتعلم/ ة غير مريحة وغير متوازنة وغير مستقرة، يبحث فيها عن حل للمشكلة المطروحة عليه أو بديل لها، فهو في مواجهتها يسعى جاهدا لحلها كليا أو جزئيا حسب طبيعتها بعدما يحدد تلك الطبيعة ويحصر موضوعها ويصيغه بشكل واضح وبين عنده ومفهوم وواع به، ويتعرف التعليمات حتى يعرف الجهاز المعرفي والآليات اللازمة والضرورية والمسالك المنهجية التي سيسلكها في الحل. ومنه يستحضر كل ذلك، لكنه يقف عند نقص المعلومات أو كثرتها أو تفاضلها في الوظيفة أو انعدامها حسب موارده.

(وبالتالي، فعلى المقرر/ [المتعلم/ ة] ألا يتعامل مع المعلومات التي يجمعها أو تتوارد عليه بشكل عشوائي، بل عليه اعتماد خطة تبدأ برسم الهدف أو الأهداف وتحديد الاليات التي سيعتمدها لحل المشكل. فقد نواجه أحيانا مشاكل مترابطة فيما بينها، بشكل يجعل طريقة المعالجة تؤثر على الأهداف المشتركة. كما أن طبيعة المشكل تدفع بنا/ [المتعلم/ ة] إلى البحث عن الكيفية التي يمكن أن نربط بها بين الوسائل والأهداف. وفي هذه الحالة قد يطلب من المقرر/ [المتعلم/ ة] رسم خطة تلائم طبيعة المشكل الذي ينوي معالجته. فالمشكل قد يكون بسيطا أو مركبا، محددا أو غامضا، مفتوحا أو مغلقا، صريحا أو ضمنيا، إلخ. فمتى كان المشكل بسيطا سهل التعامل معه وحله؛ أما متى كان مركبا، فالخطوة الأولى تكمن في تفييئه إلى فروع تراعي تراتبية قائمة على معايير محددة. وقد يحدث أحيانا أن يقدم الحل بشكل مباشر، بينما تقتضي بعض الأوضاع فحص أكثر قصد بيان مدى التلاؤم القائم بين عناصر الحل. كما أن العمل الذي يقوم به المقرر/ [المتعلم/ ة] يؤثر على المحيط، بشكل قد يغير خططه ويضع فرضيات جديدة بهدف طرح المشكل بطرق مختلفة تسمح له بمعالجته عبر مراحل. فكلما وصل المشكل ما درجة معينة من التعقيد، فإن الخطة الأفضل هي تجزئته ومعالجته عبر مراحل. حيث يمكن أن نستبعد مثلا ما هو ثانوي، بإعطائه قيمة محايدة أو احتمال ضعيف. وبالجملة، فالإحاطة بالمشكل وبمختلف أنواع الأسئلة التي يمكن أن تتفرع عنه، يتطلب من المقرر/ [المتعلم/ ة] تحقيق جملة من الشروط التي تمكنه من تنويع الأجوبة بتعدد الأسئلة وتنوع السائل)[56].

إن من مواصفات الوضعية المشكلة الديداكتيكية أن تكون دالة عند المتعلم، بمعنى أن تجيب عن سؤال الممارس البيداغوجي: كيف يمكنني إعطاء معنى لهذا الدرس من خلال وضعية الانطلاق وباقي الوضعيات البنائية وأنشطتها المتنوعة؟ وهو سؤال يبقي الممارس البيداغوجي داخل التفكير في واقع المتعلم/ ة وامتياح التعلمات والأنشطة منه، ومن سياقاته المختلفة والمتنوعة من السياق الاجتماعي إلى السياق الثقافي والاقتصادي والسياسي والشعبي، ومن وقائعه وأحداثه وعلاقاته وتبايناته من خلال مركزة المتعلم/ ة فعله التدريسي. فالسياق يؤثر على الذاكرة خلافا لمن قال بالعكس وزعم بأنها مستقلة عنه، تخزن المعلومة دونه وتسترجع في أي سياق. لكن بعض الأعمال والدراسات النفسية والتربوية بينت أن الذاكر مرتبطة بالسياق. ذلك؛ (أن الذاكرة ترتبط بالسياق في واقع الأمر، وقد بدأ علماء النفس يفهمون أهمية وكذلك مخاطر هذه التبعية. فيما يتعلق بمختلف الاستراتيجيات الممكنة من أجل اختيار الفرصة التي تفيد بأن السياق يلعب دورا على مستوى الذاكرة، عمل علماء النفس على معرفة ما إذا كان تخزين واسترجاع مادة في سياق متطابق أو مختلف، يؤثر في الإنجازات الذاكرية للأفراد، وتقتضي الطريقة المستعملة بصفة عامة، إخضاعهم أولا لحفظ مادة في سياقين مختلفين؛ ويتعين عليهم، في مرحلة ثانية، التذكير بها إما في نفس سياق التخزين وإما في آخر مختلف عنه؛ وعندئذ، تتم المقارنة بين إنجازاتهم تبعا لكون سياقي التخزين والتذكر متطابقين أو مختلفين. ولقد تمت دراسة تأثير السياق بالمعنى الواسع لمفهوم "السياق"، بحكم أن الانطلاق قد بوشر من السياق المادي "نفس مواضع التخزين والتذكر" في اتجاه نظيره السيكولوجي "نفس الحالة النفسية أثناء التخزين والتذكر")[57]. وقد خلصت أعمال سميت Smith وغلينبر Glenber وبورك Bjork، غودن وبادلي Goddenet Baddelay وإيتش Eich وفيغارتنر Weigartner وستيلمان Stillman وجيلين Gillin إلى أن السياق (يمكن أن يكون له تأثير مسهل على تخزين معلومات في الذاكرة الطويلة المدى؛ ويبدو بالمقابل، أن هذا التأثير لا يتمظهر إلا عندما يتطابق سياق التذكر أو يشبه بما يكفي مع سياق التخزين؛ وتوحي فرضية الترميز النوعي، بأن الآلية التي تقعد لهل التأثير، قد تتجسد في كون السياق يقدم مؤشرات لاسترجاع المعلومات المخزنة في الذاكرة الطويلة المدى؛ إذ أن المعلومات المتعلقة بالسياق وبالمعلومة الهدف تندمج في الذاكرة ككيان)[58].

والسياق في سيرورة التعليم والتعلم يلعب دورا مهما في بناء الموارد المعرفية القاعدية للكفايات والقدرات والمهارات وهيكلتها وصورنتها استهدافا للاحتفاظ بها وتعبئتها وتفعيلها واستثمارها أثناء الحاجة إلى توظيفها في حل المشكلات أو اتخاذ القرارات وغير ذلك، والتي تحيا بالسياق؛ اللاعب الأساسي في إعطاء معنى التعلمات والحدث التعليمي، بما يتوافق والكفاية المستهدفة. ولن يكون له أهمية إن لم يربط المتعلم أولا؛ بكل ما يحمل لديه من دلالة، ثم ثانيا؛ بكل ما سيعطيه معرفة الفعل؛ بمعنى ما سيؤسس له الكفاية. وقد سعت " بيداغوجيا الكفايات " في النظام التربوي المغربي إلى إعطاء معنى للتعلمات والكفايات المكتسبة بتوظيفها في أسرة من الوضعيات المتكافئة ذات معنى. والخروج من مفردات المنهاج الدراسي للمواد الدراسية المجزأة والمتشظية التي لا تحمل دلالة بالنسبة للمتعلم/ ة، الذي يجد نفسه خارج الاهتمام بها. والسياق هنا، يستحضر بشقيه اللغوي وغير اللغوي، أي السياق الكلامي، والسياق الحدثي والموقفي والمقامي، وهو يضم مؤثرات متعددة بيئية وتاريخية واجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية ودينية وإيديولوجية وحدثية عملية ... وحتى ينخرط المتعلم/ ة في بناء المعنى؛ لابد له من فهم البناء اللغوي من خلال معرفته لمعاني الكلمات وهي منضدة ومرتبة ومرصفة في السلسلة الكلامية، ومنخرطة في التفاعل اللغوي تأثيرا وتأثرا. فحين يعرف المعنى العام لمنطوق التعلمات، وهي هنا بصيغة الوضعيات المشكلة والديداكتيكية ومعطياتها تتحدد لديه دلالاتها، فيتخذ موقفه منها سلبا أو إيجابا، انخراطا أو إحجاما. ثم عليه أن يستوعب السياق الحدثي الذي وردت فيه التعلمات. حيث ترتيب كلمات نص التعلمات ومضمونها لا تتأت معرفتها إلا بالعودة إلى السياق؛ لما يلعبه من دور هام ومهم في إظهار وتبيان دلالات ومعاني التعلمات، وجلائها برفع الالتباسات والغموض والرمادية والإبهام عنها. فمعاني المفردات لا يظهر إلا بتوظيفها في سياقها، فأغلب الوحدات اللغوية الدلالية تقع في مجاورة وحدات دلالية أخرى. لا يمكن تحرير معناها ووصفه وضبطه إلا باعتبار كل الوحدات، بمعنى اعتبار النسق اللغوي بكامله داخل إطار المجاورة. وبذلك فمجموع السياقات والمواقف التي ترد فيها المفردات، هي التي تحدد معانيها وتوضح وتبين دلالاتها. غير أن السياق الحدثي هو الذي يموضع التعلمات في أطرها المختلفة؛ ذلك أن السياق الحدثي في المؤسسة للتعلمات هو سياق تعليمي تعلمي، وبالتالي فإطار التعلمات يفيد هنا أنه إطار بيداغوجي. بينما سياق الحدث ذاته يختلف من وضعية تعليمية تعلمية إلى أخرى؛ كأن يكون سياق وضعية ما سياقا تاريخيا أو اقتصاديا حسب حدثية الوضعية من مكونات وعلاقات ومؤثثات وغيرها. فيصبح للتعلمات حينئذ سياق تعليمي وتعلمي وتاريخي، منه يستطيع المتعلم/ ة نقل الكفاية والخبرة والتجربة والمعرفة ومختلف الموارد التي امتلكها من التعلمات وسياقها إلى مجال مرادف أو مخالف. خاصة إن كانت الكفاية متقنة جدا. إذن؛ فالسياق الذي يستند عليه المتعلم/ ة في تعلماته في تحديد معانيها ودلالاتها يرتكز على عناصر لغوية وغير لغوية وفق ورودها في سياق بيداغوجي فعلا تعليميا. وفي سياقات مختلفة عنه؛ كحدث وقع في سياق معين يستهدف تدريس المتعلم/ ة ذلك الحدث. وبالتالي فالتعلمات تحمل عدة معاني بالنسبة للمتعلم/ ة. لذلك نألف الممارس البيداغوجي يطرح الأسئلة على المتعلم/ ة قصد جمع البيانات، ومعالجتها من أجل إعطائها معنى، ويتبين العلاقات البينية بينها لاستخدامها وتوظيفها في مواقف جديدة ومختلفة، ووضعيات متنوعة.

يأتي

***

إعداد: عبد العزيز قريش

باحث في علوم التربية

 

(من الأدبيات التدريسية)

(الممارس البيداغوجي فيلسوف؛ ولن يكون كذلك إلا إذا كان إنسانا، له معنى وقيمة وفعل)

ع.ق.

ـ قبل التفصيل كانت ملاحظة:

قد يجد القارئ أو المهتم أو الممارس البيداغوجي أو الباحث تفصيلا من قبيل الإطناب، ما كان ليرد في السياق العام للورقة. لكن الواقع الراهن للفعل المدرسي بكل تفاصيله ومعطياته يشي بأن حقائق كثيرة تغيب عن مقاربته، فيغيب معها الحل الناجع، والتعاطي المعقلن، القائم على التأمل والدراسة والبحث والاستقصاء والتحليل والوعي، بما يؤدي إلى اختلالات كبرى، ما كانت لتكون لو بسطنا المعطيات والمكتسبات ودرسنا كل التفاصيل بموضوعية وعقلانية وترو وبمسؤولية. لذا استدعت هذه الورقة بعض الغائب للشاهد الحاضر حتى يستفيد منها في رؤيته ومقاربته للفعل المدرسي نظريا وعمليا، ويستحضرها في ممارسته الصفية أو التخطيطية أو في قراراته السياسية، وإن كانت من باب الإطار الذي ينظر منه. وليس الغائب هنا من باب الإطناب أو الفائض عن الحاجة؛ وإنما هو عامل مساعد على الفهم والاستيعاب من أجل التطبيق، وتحفيز على التفكير، ورفع لكفاءة الأداء التدريسي تحت سقف الوضوح وتشريح الوضع. ورغم ذلك؛ فالتذكير بهذه البغية لفعل الإيراد، لا يبرز تحت ظله معناه أو دلالته إلا حين ينور الممارس البيداغوجي ويساعده على حل المشكلات والقضايا الإشكالية ما أمكنه، وعلى التمييز بين المخططات والمقاربات للإحاطة بالموضوع المدرسي بشكل أعمق وأفضل، وعلى فعله التدريسي القائم في مساحة التباين والاختلاف، بين الواقع الكائن والأمل المتوقع الممكن، في السيرورة المجتمعية والإنسانية المتنوعة.

وعليه؛ فبعض التفاصيل هي كفيلة باستحضار الغائب بسطا وتوضيحا وإضافة نوعية في ذهن الممارس البيداغوجي لتفعيلها في مناشط تفكيره، خاصة منه التفكير في المهنة وممارسة الرسالة الملقاة على عاتقه، فهو جدير بممارسة صفية عقلانية مهندسة ومعلمنة، تتكئ على أسس التكوين الأكاديمي والمهني والذاتي الجيد، الذي لا محالة هو عماد تطوير منظومتنا التربوية والتكوينية، وجسر انتقالنا من تربية تقليدية إلى تربية جديدة حديثة منفتحة على تطورات وتغيرات العالم في ألفية المعرفة وعصر الرقميات والنانو، المنعكسة على المتعلم/ ة إيجابا؛ خاصة على مستوى التفكير وأنواعه، بما يبرز أهمية الممارس البيداغوجي المتمكن من مجاله وأدواته وأهدافه. العارف لما يفعل لماذا يفعله وكيف؟ المحرر للمتعلم/ ة من كل مواطن السلب والاستلاب، الباني لاستقلاليته في كل أفعاله وقراراته تحت سلطة النقد والنقد الذاتي وتحمل المسؤولية. حيث (هنا تبرز مهمة المدرس الذي يجب عليه المساهمة في تنمية الروح النقدية لدى المتعلم وتحفيزه على اتخاذ المبادرة والتعبير عن آرائه ومعتقداته بحرية)1[1]. فهذا العصر الذي نعيشه هو عصر القوة بالمعرفة؛ فهو لا يرحم المنظومات التربوية والتعليمية الضعيفة بضعف أدمغتها، وبمكوناتها وقاداتها وسياسيها وبمخرجاتها وناتجها.

ومنه؛ فبسط المقال في مقامه يستهدف تمكين الممارس البيداغوجي على الخصوص مما يساعده في تخطيط درسه المدرسي كموجهات أو كمثيرات للانتباه إلى ما ينبغي استحضاره أو إيراده في تفاصل مخططه، فمثلا: التفكير في مشكلة الانطلاق يستحضر مواصفاتها وسماتها ومكوناتها وتشكلها ووظيفتها، حتى لا يقع في إيراد مشكلة سهلة، لا قيمة لها في خلق الحافزية. ولا في مشكلة صعبة جدا تعجز المتعلم وتحجمه عن الانخراط في التعلم لما تخلقه من عجز وعدم ثقة في النفس لديه. وبذلك فهذه الفرشة النظرية المرفقة لأسئلة التخطيط والإعداد للدرس المدرسي، ما هي إلا حاشية شرح لمتن ديداكتيكي للاستئناس بها في توجه التخطيط والهندسة التربوية للدرس المدرسي فضلا عن كونها نماذج حاثة لتأمل الوضعية التعليمية التعلمية التي لا تبسيط ولا تلقائية فيها. بل، وعي وعلم بمكونات الفعل التدريسي القائم بدرجة أساسية على الممارس البيداغوجي والمتعلم/ ة والمادة الدراسية وجماعة القسم بموجبات الشروط والمطالب وتوفرها، بما يرمز هذا الفعل إلى المجتمع المدرسي وصنوه العام.

ـ في السياق:

يشهد الفعل التدريسي ثورة هائلة في الاستراتيجيات التعليمية نتيجة الثورة المعرفية التي تعيشها المجتمعات المتقدمة، صانعة التقنيات والتكنولوجيا المتطورة، والمالكة للكفاءات العلمية المساهمة في إبداع وابتكار المعرفة على أعلى مستوياتها؛ خاصة منها تلك التي جاءت مع عصر الرقميات والعالم الافتراضي، الذي ألغى الحدود ومد الجسور بين البلدان والشعوب والثقافات، وأبقى على التفاعل بينها قائما. فلم تعد معه المعرفة مستقرة وثابتة ومسلم بها، وإنما هو الشك والنقد السبيل إليها. فانتقلت في ظله الطرائق التعليمية التقليدية ـ التي مازال العالم العربي بما فيه المغرب يحتضنها في منظومته التربوية والتكوينية، ولم يستطع الخروج من شرنقتها لضعف منظري منظومته تلك ـ من حالة السكون إلى حالة الحركة والغليان والفوران والثورة، لتتناثر على أطراف المستجدات العلمية والمنهجية شظايا ميتة. وانتقلت معه المعرفة من عالم الكم إلى عالم الكيف، ومن المعلومات الجاهزة إلى المعلومات المولدة، ومن المنهجيات التقليدية إلى منهجيات متطورة ومتجددة، تتناسب مع موضوعها ومسالك مقاربته. ومن تلقين المعلومة إلى تمليك التفكير وأنماطه وأنواعه، فغدت معه مهام الممارس البيداغوجي ممتعة وأكثر مردودية، ومهام المتعلم سهلة وأكثر انخراط وفعالية، فقد (كان تدريس التفكير أفضل كشف في الثمانينات والوعي بالتفكير دليل على النضج ولذا فلابد أن يمثل الوعي بالتفكير مكانه في المقررات والمناهج الدراسية)2[2] . ومن نظريات التربية التقليدية إلى نظريات ما بعد الحداثة أو قل إلى نظريات الرقميات والنانو والعالم الافتراضي والذكاء الاصطناعي وألفية المعرفة. في ظل هذا التغيير يجد الفعل التدريسي المغربي نفسه مقحما طوعا أو كرها في مراجعة الذات سواء كفعل مؤسساتي أو كفعل فردي؛ متسائلا عن عائده العملي على مستوى تحقيق أهدافه أو على مستوى تحقيق كفاءة مخرجاته، ومتسائلا من جهة أخرى عن مدى ملاءمته لمعطى عصره وزمانه في ظل استشرافه للمستقبل.

وتحت سقف أسئلة هذه المساءلة؛ جاءت عدة مراجعات بمسميات عديدة؛ جمعها مصطلح الإصلاح، وهو مفهوم يتضمن في إحدى سيماته النووية إشارة سيميولوجية إلى عطب في المنظومة التربوية والتكوينية؛ ما يخل بتفاعل مكوناتها نسقيا، ويحد من فاعليته وتفاعله؛ ما يتطلب إصلاح ذلك العطب. والعطب هنا لا يفيد البتة أحاديته بل تعدديته. ومنها، ما يتعلق بالديداكتيك العامة والخاصة، وهي مسألة في غاية من الأهمية لأنها المسلك المنهجي نحو تحقيق الهدف من الفعل التدريسي في حقل من الحقول المعرفية المدرسة في المؤسسة التعليمية المغربية. ويعلم الجميع أن البناء المعرفي لا يستقيم دون استراتيجيات معرفية ومنهجية وعملية ناجحة وفاعلة وسليمة، تعرف الهدف، والمنطلق إليه، والسيرورة ونوعية المخرجات ومواصفاتها، والمعينات البيداغوجية المتضامنة والمنسجمة مع الكل، والظروف والمتطلبات والشروط ووعيها وتقدير تأثيرها. فهي منهجية تدري نفسها وقدرتها وكفاءتها في الفعل، وتؤمن بدورها ووظيفتها في إنجاح الدرس المدرسي. كما تعي أن تعميم ثقافة حب العمل وشرفه مؤشرا رئيسا للفعل التدريسي في المجتمع المدرسي والمجتمع العام؛ سيؤول حتما نحو النجاح في حاضر ومستقبل منظومة التربية والتكوين، لأن الفرد سيتخرج وهو يمتلك المهارات والقدرات والكفايات والمعارف والقيم والخبرات، بمعنى امتلاكه أدوات الوعي القيمي والتراكم والرصيد الخبراتي والمعرفة ومعرفة التجربة، التي سينخرط بها ابتداء في معترك الحياة العملية التي اختارها بإرادته وقراره المستقل دون فرض أو إلزام أو إكراه، وينخرط بها تبعا في معترك حياة المجتمع عامة، ومواجهة التحديات والإكراهات والصعوبات فضلا عن الاستفادة من الإيجابيات، وتحصيل سعادته في إطار فهم واقعه والتحولات والانعطافات العلمية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإيديولوجية والعقائدية والتكنولوجية والرقمية التي تحدث وتستجد على مجتمعه وعلى المجتمع الدولي، ووعي مجمل العلاقات الداخلية والخارجية المؤثرة في الوضع الإنساني في المجتمع وخارجه، بما يمكنه من فهمها جيدا وهضمها واستيعابها والتكيف معها تعاملا وتوظيفا لصالحه.

ومنه، نجد موضوع هذه الورقة يقع في إطار الديداكتيك العامة حيث يتشكل من الحيثيات المنهجية التي تبني درسا مدرسيا في أية مادة من المواد المدرسة بعيدا عن التنميط الذي لم يبرحه الفعل التدريسي المغربي بعد؛ الذي يخرج منتوجا بشريا متشابها ومتجانسا في نفس الوقت. لم يزد أغلبه المغرب إلا تأزيما وتمزيقا اجتماعيا بدا طافيا في المعاملات والعلاقات الاجتماعية. (إن التمادي في عملية التجنيس الحضاري التي نشهدها حاليا، تهدد خصوصية الإنسان سرعان ما يفقدها، تحت وطأة الشائع والغالب، الذي يكتسب سلطته من شيوعه وغلبته لا من أصالته وتميزه)[3]. وبذلك فالورقة مستقاة من القراءة الأدبية للتربويات الوطنية والعالمية، تسعى إلى مد الممارس البيداغوجي بجملة أسئلة وخطوات تساعده على بناء درسه المدرسي وفق المعطيات الواقعية المختلفة لمتعلميه وبيئته وظروفه ومعيش يومه في المجتمع المدرسي المحتضن له، وتخرجه من الحالة السلبية التي تعيشها في المنظومة التربوية والتكوينية المغربية، التي مازالت تنظر إلى (التربية كأداة للثبات والاستقرار وتركز على انتشار التعليم لا نوعيته، ورغم ما يزخر به الخطاب التربوي الرسمي، من شعارات الحرية والديمقراطية والمشاركة، وتكافؤ الفرص ... فإن الواقع العملي لطرق وأساليب التعليم، والتقويم، وأهداف المناهج، ومضمونها، وأسلوب الإدارة المدرسية، والتعليمية أبعد ما يكون عن هذه الشعارات، فمازال أسلوب التلقين، والحفظ هو نهج التعليم السائد، وهناك قيود عديدة تحد من مشاركة الطالب [المتعلم/ ة] في عملية التعليم، ومساهمة المدرسين في عمليات الإصلاح والتجديد التربوي)[4].

ـ في أسئلة ومراحل هندسة الدرس المدرسي:

في الحياة المدرسية، هناك المعرفي وفوق المعرفي أو الميتامعرفي؛ فالمعرفي هو ما يقع ملموسا ومحسوسا في الفعل التدريسي، وما فوق المعرفي هو ما لا يقع بالملموس والمحسوس في الفعل التدريسي، بمعنى المفكر فيه موضوع ما وراء التفكير، الذي يعيه الممارس البيداغوجي في اللازمان واللامكان بمعنى غياب الزمن والمكان الفيزيقيين عنه، المفارق للتفكير والملتصق بما وراء التفكير فعلا مجردا بالمعنى الفلسفي، من أجل إعداد درسه المدرسي قبل ترجمته عمليا على أرض الحجرة الدراسية أحداثا وأنشطة تعليمية ووقائع معرفية وسلوكات وممارسات ومناولات مرتبطة بالزمان والمكان والأشخاص والماديات بصفة عامة؛ فهو سترجة ميتامعرفية قابل للفهم والاستيعاب والفعل والوعي، كما هي قابلة للخروج من إمكانية الوجود إلى حتمية الوجود الفعلي. وبذلك؛ فهي مجموع العمليات والمسالك والخطوات المنهجية والإجراءات المفكر فيها، التي يبذل الممارس البيداغوجي جهدا واعيا ورزينا لإخراجها من القوة إلى الفعل؛ على مستوى الهندسة البيداغوجية تخطيطا قبليا للدرس المدرسي، ثم على مستوى الممارسة الصفية تنفيذا بعديا لهذا الدرس، ثم على مستوى التقويم نهائيا، لأجل فحص مدى تحقيق الأهداف التعليمية المعينة والمرصودة، بوسائل ووسائط فعالة وناجعة، تحتضن المعرفة والقيم والسلوك والفعل، والكفايات والمهارات والقدرات، والعلاقات والتفاعلات البينية.

فالمفكر فيه؛ "الدرس المدرسي" هو الكائن الغائب الذي يتلمس ماوراء التفكير إمكانية وجوده عبر الوعي الإبستيمولوجي بأنطولوجيته من خلال ثلاثة أبعاد:

ـ بعد معرفي، يمتاح مشروعيته الوجودية من خلال التفكير فيما يجب نقله ديداكتيكيا من المعرفة العالمة إلى المعرفة المدرسية ثم المعرفة المدرسة ثم المعرفة المكتسبة تحت سقف شروط ومتطلبات ومطالب وحيثيات ومعطيات الفعل التدريسي المدرسي بكل مكوناته، وتحت سماء أطر نظرية وبراديغمات مناسبة، تستظل المعرفة بظلالها إرشادا وتوجيها وتأطيرا.

ـ بعد نقدي، يبرر مشروعية وجوده عبر المساءلة النقدية لمدى صدق تلك المعرفة المنقولة ديداكتيكيا طلبا لحقيقتها من زيفها، وتمحيصا لدورها في تشييد المعمار الفكري للمستهدف البشري أولا ثم المجتمعي تبعا واستلزاما، وتشكيل الإنسان وفق طموحها ومبتغاها ورؤيتها حاملا لما حملوها به، ولكونها ـ أي المعرفة المدرسية ـ غير حيادية وغير آمنة، وبراغماتية الطبيعة. مشكوك فيها لما تحمله من وجوه ظاهرة ومضمرة، ذات غايات معلنة وأخرى مسكوت عنها. ألا ترى ثقافة القطيع وهي ثقافة ذات أصل تربوي، تؤدي بالقطيع إلى المسلخ دون تعب الجزار؟ ولعل في قصة "رب المزرعة والحليب والتربية" دليل قاطع على عدم حيادية المعرفة؛ لأن رب المزرعة ركب التربية لتربية من أحجم عن شرب الحليب يوما ما، ولم يورد حاوية الحليب الوقود للنقل والتنقل؟!

ـ بعد منهجي، ويستشهد على مشروعية وجوده من خلال توظيف البعدين السابقين في تأسيس ذاته من جهة أولى، ومن جهة أخرى في تشييد البنى الفكرية للمستهدف البشري تحت سقف الوعي والنقد والفعل، دون توريطه في متاهات المنتج الواحد الموحد المنمط، المصنف تحت مصطلح "مخرج السلسلة" الذي لا يختلف عن غيره. ولا السقوط في مجتمع القطيع الشعبوي، الذي يعبر بجلاء عن انحيازية المعرفة المدرسية وبراغماتيتها الموظفة في الإنتاج وإعادة الإنتاج؛ إنتاج العلم والحضارة والتقدم أو إنتاج الجهل والبدائية والتخلف حسب ما (أفرزها هذا الكم الهائل من جحافل جيوش الأغلبية الصامتة، هذا البشر أحادي الأبعاد فاقد الهوية، صاحب النزعة الاستهلاكية المتضخمة، قليل الحساسية تجاه الغير، الذي يشكو من الجدب الروحي، والعزلة والضياع)[5].

فالدرس المدرسي يحضر في العملية التعليمية التعلمية بصيغتين؛ الأولى فوق معرفية والثانية معرفية، ضمن مهنية الممارس البيداغوجي المؤسس الحقيقي لهذا الدرس المدرسي تحت طائلة الواجب المهني والبعد الأخلاقي والإنساني، الذي لا يترك له خيار النقل الآلي من دليله المدرسي، وإنما يستفزه لاختلاف الكائن في دليله المرجعي مع الكائن الواقعي في المجتمع المدرسي وبالأخص جماعة القسم. تلك التي تشكل مرجعا أساسيا ومحكا حقيقيا مستحضرا في التأسيس الإبستيمولوجي والديداكتيكي والبيداغوجي للدرس المدرسي.

فهندسة الدرس المدرسي لا تقوم دون أسئلة قاعدية مؤسسة له تخطيطا وتنفيذا وتقويما ومراجعة ومعالجة؛ وهذه الأسئلة القاعدية تختلف من ممارس بيداغوجي لآخر، ومن معطى مستوى دراسي لآخر، ومن مجتمع مدرسي لآخر، ومن فعل دراسي لآخر، ومن تجربة مدرسية لأخرى؛ بناء على حيثيات تفصيلية فارقة، بيئية وثقافية واجتماعية واقتصادية وإيديولوجية وعقائدية وسياسية وفكرية، وحتى وراثية ونفسية وذاتية. لذا؛ وجدنا في الأصل تفاوتا بين الدرس المدرسي عينه، ما بين تجربتين وخبرتين وممارستين تدريسيتين. فلم يعد مقبولا الآن القول بتطابق الدروس المدرسية وإن كان دليل الأستاذ واحدا وحيدا في مقترحاته وتوجيهاته الموضوعية والمنهجية والأداتية والإجرائية. والصواب؛ القول بترادفها ترادف تقاطعات في مفاصل متقاطعة لا متطابقة. ومنه؛ أصبح الدرس المدرسي الواحد دروسا مدرسية تغني المشهد التعليمي بمعرفة التجربة التي يتقاسمها مجتمع الممارسة الصفية فضلا عن تناولها موضوعا للبحث والدراسة من أجل تأطيرها نظريا وهيكلتها معرفيا ثم ترصيدها وتركيمها معرفة عالمة تحت أطر نظرية ونماذج إرشادية.

ومن جملة تلك الأسئلة القاعدية؛ قرأت للممارس البيداغوجي ضمن الاستراتيجيات البيداغوجية الفعالة والناجعة عند "آلان ريونييهAlain Rieunier" الواردة في كتابه " تحضير درس أو إعداد درس" "Préparer un cours"[6] في إطار سلسلة البيداغوجيا Collection pédagogies تحت إشراف الخبير التربوي الكبير فيليب ميريو Philippe Meirieu ما يساعده على التفكير المنهجي في إعداد درسه المدرسي. من حيث التفكير المنهجي المتساوق مع الإنتاج المؤسس على التخطيط المعقلن والسليم هو طريق النجاح، وطريق تحقيق الأهداف المنشودة من الدرس المدرسي. فقد قال دكتورنا عبد الرحيم الهاروشي رحمه الله: (إن العمل بكيفية منهجية يؤول، مهما كانت وتيرة التعلم وأساليبه، إلى تدبير الوقت تدبيرا سليما ومراعاة أطوار مسلسل التعلم. وتتطابق هذه الأطوار مع مستويات اكتساب العلم الثلاثة:

ـ المستوى الأول: اكتساب المعارف.

ـ المستوى الثاني: معالجتها واستيعابها.

ـ المستوى الثالث: استعمالها في حل المشاكل، أي المشاكل العادية والطارئة التي تنتج عن أوضاع جديدة لا يوجد بالنسبة لها أي مخطط يمكن اتباعه ويتضمن كل طور وكل مستوى عددا من الأنشطة الفكرية التي يمكن تسميتها، أسوة بالحاسوب، بالأسماء التالية:

ـ الإدخال: ما يحصل عند إدخال المعطيات.

المعالجة: ما يحدث عند صياغة المعطيات.

الإخراج: ما يحدث على مستوى النتيجة أو التوظيف.

قد تشوب كلا من هذه الأنشطة الفكرية بعض الشوائب فتكون مصدر إخفاقات أو صعوبات في المردود الدراسي)[7]. وهي ما يعلن عنها التقويم العلمي والنقد التربوي. وما تعلن عنه الطبيعة البشرية المتسمة بالخطأ. فالفعل المدرسي فعل بشري يعتريه ما يعتري البشر من صواب وخطأ، أو من وعي وغير وعي، أو من التباس الإدراك وصفوه وجلائه ووضوحه. وبالتالي؛ من الطبيعي أن يكون هناك إخفاق ونجاح، والمهم أمامها هو استثمار النجاح وتجاوز الإخفاق، بل المفيد هو تحويل الإخفاق إلى فرصة للنجاح. هكذا يجب أن تكون نظرتنا ورؤيتنا للفعل التعليمي أنه دائما فرصة نجاح. فهو المجال المهني الذي يعرف دائما الحقيقة بوجهها الإيجابي والسلبي معا؛ فالحقيقة بوجهها الإيجابي هي عندما نتوصل إليها بمنهج سليم ومثمر، والحقيقة بوجهها السلبي هي حين نعرف عكسها. ولكي تتضح هذه المقولة سأضرب مثالا: ذلك حين نعرف ميكانيزم اشتغال آلة ما، يكون هذا هو الوجه الإيجابي للحقيقة، وحين نعرف ضمن الميكانيزم نفسه كيف لا تشتغل هذه الآلة، فهذا هو الوجه السلبي للحقيقة، والحقيقة تبقى هي ذاتها تجاه ميكانيزم الآلة.

1 ـ في المراحل والأسئلة:

1.1. في المراحل:

حسب آلان ريونييه يقع إعداد درس مدرسي في ثمانية مراحل، تنتهي بالاستراتيجيات البيداغوجية. وهي: هدفية الدرس، وتقويمه، ومستوى التقويم، وتوافق التعلم مع هدفية الدرس، والنهج العام للدرس، والاستراتيجية المعرفية قصد التطوير والتنمية، والوضعية المشكلة للانطلاق/ الوضعية الديداكتيكية الاستكشافية/ الوضعية المشكلة البنائية، وتنشيط جماعة القسم.

2.1. في الأسئلة:

وهذه الأسئلة تهم تلك المراحل لتؤسس درسا مهندسا وممنهجا ومعقلنا ومضبوطا، يحقق اهدافه التي وضع لأجلها، وهي:

أ ـ لكل درس هدف معين يستهدف تحقيقه من خلال محتواه وأنشطته التعليمية التعلمية ومعيناته، وأدوات وتقنيات تنفيذه وتقويمه فضلا عن خطواته المنهجية وشروط ومتطلبات ومطالب إجرائه. وهو السؤال الذي يطرحه الممارس البيداغوجي بداية للدخول إلى درسه المدرسي أو بمعنى سؤال عتبة الدرس المدرسي، ويفصح عن ذاته في الصيغة الإنشائية التالية أو أي صيغة لغوية مرادفة تدل على نفس المعنى والدلالة بوضوح وصراحة:

* ما هدف الدرس؟ أو ما الهدف التعليمي الذي يحققه هذا الدرس المدرسي؟

وهنا يمكن استحضار سلم تصنيف الأهداف على مستوى درجاتها أو على مستوى أنواعها. ونقصد بمستوى درجاتها المستوى العمودي للتصنيف من حيث أعلاها إلى أسفلها: الغايات وتهم المستوى الفلسفي للمنظومة التربوية والتكوينية، بمعنى الفلسفة التربوية. والمرامي أو المقاصد وتهم المستوى السياسي للمنظومة التربوية والتكوينية. والأهداف العامة وتهم المستوى التنفيذي للسياسة التربوية والتكوينية، بمعنى وصف النتائج الفعلية والعملية للعملية التعليمية التعلمية في مختلف مكوناتها ومناهجها وبرامجها. والأهداف الخاصة وتهم مستوى مكون من مكونات وحدة دراسية أو درس من دروسها. والأهداف الإجرائية او السلوكية وتهم مستوى مراحل الدرس، بمعنى ارتباطها بمراحل الدرس من حيث لكل مرحلة هدف إجرائي قابل للتحقق.

وهذا التصنيف العمودي أو الشاقولي للأهداف يساعد الممارس البيداغوجي في معرفة درجة الهدف ومستواها الذي يشتغل عليه، وهو غالبا ما يشتغل على الأهداف الخاصة تلك التي أضحت في المقاربة بالكفايات تسمى الأهداف التعليمية. فقد تم التخلي عن بيداغوجيا الأهداف لصالح بيداغوجيا الكفايات. بل الأصح تطور بيداغوجيا الأهداف وترقيتها إلى بيداغوجيا الكفايات. وهذه أصبحت في بعض الأنظمة التعليمية العالمية متجاوزة نوعا ما بنظام البرامج التعليمية التي تتأسس على تعليم المهارات؛ خاصة، مهارات التفكير المتنوعة والمختلفة حسب نوع التفكير المراد اكتسابه من خلال الدورات التعليمية والتكوينية وبرامجها. مع العلم، هذا التصنيف يفيد الممارس البيداغوجي في نحت واشتقاق الأهداف بعضها من بعض حسب درجاتها. فمثلا تنحت المقاصد أو المرامي من الغايات، والأهداف العامة من المقاصد، والأهداف الخاصة من الأهداف العامة، والأهداف السلوكية أو الإجرائية من الأهداف الخاصة. وبذلك يمكن للممارس البيداغوجي إتقان تحديد الهدف ودرجته والاشتغال به وعليه. والفعل التعليمي لا يتخلى مطلقا على هدفيته، بمعنى وضع هدف معين يسعى إلى تحقيقه. فمدخل الفعل التعليمي هو الهدف المحدد والمعين من طرفه. وبما أن الاشتقاق والنحت يكون من الأعلى نحو الأسف فتحقيق درجة الهدف تكون من الأسفل إلى الأعلى بالتجميع والتلحيم التفاعلي بين جزئيات الهدف لصياغة بنية وظيفية تحقق الهدف الأعلى. وهكذا؛ عند تحقيق الأهداف الإجرائية أو السلوكية مجتمعة، تحقق الهدف الخاص، والأهداف الخاصة مجتمعة تحقق الهدف العام، والأهداف العامة مجتمعة تحقق المرامي أو المقاصد، والمقاصد مجتمعة عند تحقيقها تحقق الغايات.

وأما في ظل بيداغوجيا الكفايات أو المقاربة بالكفايات، فإننا نتحدث عن مدى تحقق الكفاية المنشودة، من حيث تصبح الكفاية هي الهدف من الدرس المدرسي، ومن الوحدة الدراسية، ومن المنهاج الدراسي، ومن المنظومة التربوية والتكوينية، ومن الفلسفة التربوية والتكوينية. فقد ارتبطت بهذه المستويات الاشتقاقية للنظام التربوي والتكويني أربع أنواع من الكفايات تأخذ مصطلحات متباينة حسب كل باحث ودارس ومنظر للكفايات، نستعرض منها:

ـ الكفايات القاعدية: وترتبط بالمواد الدراسية ووحداتها.

ـ الكفايات المرحلية: وتهم مرحلة تعليمية ودراسية معينة.

ـ الكفايات الختامية/ الأساس: وتهم سنة دراسية معينة.

ـ الكفايات العرضانية/ المستعرضة/ الطولية/ الافقية/ الممتدة: وتهم خط تعليمي طولي طويل زمنيا وتعلميا، وربما مدى الحياة.

والكتاب الأبيض حدد أنواع الكفايات الطولية في:

* الكفايات المرتبطة بتنمية الذات، والتي تستهدف تنمية شخصية المتعلم كغاية في ذاته، وكفاعل إيجابي تنتظر منه المساهمة الفاعلة في الارتقاء بمجتمعه في كل المجالات؛

* الكفايات القابلة للاستثمار في التحول الاجتماعي، والتي تجعل نظام التربية والتكوين يستجيب لحاجات التنمية المجتمعية بكل أبعادها الروحية والفكرية والمادية؛

* الكفايات القابلة للتصريف في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، والتي تجعل نظام التربية والتكوين يستجيب لحاجات الاندماج في القطاعات المنتجة ولمتطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

وهذه الكفايات لها طابع استراتيجي أو تواصلي أو منهجي أو ثقافي أو تكنولوجي. وبذلك يصيغها بطابعه الخاص فتصير الكفايات حسب الكتاب الأبيض إما استراتيجية أو تواصلية أو منهجية أو ثقافية أو تكنولوجية، وتتطلب مطالب يعلن عنها في:

(تستوجب تنمية الكفايات الاستراتيجية وتطويرها، في المناهج التربوية:

ـ معرفة الذات والتعبير عنها؛

ـ التموقع في الزمان والمكان؛

ـ التموقع بالنسبة للآخر وبالنسبة للمؤسسات المجتمعية "الأسرة، المؤسسة التعليمية، المجتمع"، والتكيف معها ومع البيئة بصفة عامة؛

ـ تعديل المنتظرات والاتجاهات والسلوكات الفردية وفق ما يفرضه تطور المعرفة والعقليات والمجتمع.

وحتى تتم معالجة الكفايات التواصلية بشكل شمولي في المناهج التربوي، ينبغي أن تؤدي إلى:

ـ إتقان اللغة العربية وتخصيص الحيز المناسب للغة الأمازيغية والتمكن من اللغات الأجنبية؛

ـ التمكن من مختلف أنواع التواصل داخل المؤسسة التعليمية وخارجها في مختلف مجالات تعلم المواد الدراسية؛

ـ التمكن من مختلف أنواع الخطاب "الأدبي، والعلمي، والفني..." المتداولة في المؤسسة التعليمية وفي محيط المجتمع والبيئة.

وتستهدف الكفايات المنهجية من جانبها بالنسبة للمتعلم اكتساب:

ـ منهجية للتفكير وتطوير مدارجه العقلية؛

ـ منهجية للعمل في الفصل وخارجه؛

ـ منهجية لتنظيم ذاته وشؤونه ووقته وتدبير تكوينه الذاتي ومشاريعه الشخصية.

ولكي تكون معالجة الكفايات الثقافية، شمولية في مناهج التربية والتكوين، ينبغي أن تشمل:

ـ شقهـا الرمزي المرتبط بتنمية الرصيد الثقافي للمتعلم، وتوسيع دائرة إحساساته وتصوراته ورؤيته للعالم وللحضارة البشرية بتناغم مع تفتح شخصيته بكل مكوناتها، وبترسيخ هويته كمواطن مغربي وكإنسان منسجم مع ذاته ومع بيئته ومع العالم؛

ـ شقهـا الموسوعي المرتبط بالمعرفة بصفة عامة.

واعتبارا لكون التكنولوجيا قد أصبحت في ملتقى طرق كل التخصصات، ونظرا لكونها تشكل حقلا خصبا بفضل تنوع وتداخل التقنيات والتطبيقات العلمية المختلفة التي تهدف إلى تحقيق الخير العام والتنمية الاقتصادية المستديمة وجودة الحياة، فإن تنمية الكفايات التكنولوجية للمتعلم تعتمد أساسا على:

ـ القدرة على تصور ورسم وإبداع وإنتاج المنتجات التقنية؛

ـ التمكن من تقنيات التحليل والتقدير والقياس، وتقنيات ومعايير مراقبة الجودة، والتقنيات المرتبطة بالتوقعات والاستشراف؛

ـ التمكن من وسائل العمل اللازمة لتطوير تلك المنتجات وتكييفها مع الحاجيات الجديدة والمتطلبات المتجددة؛

ـ استدماج أخلاقيات المهن والحرف والأخلاقيات المرتبطة بالتطور العلمي والتكنولوجي بارتباط مع منظومة القيم الدينية والحضارية وقيم المواطنة وقيم حقوق الإنسان ومبادئها الكونية)[8].

وفي ظل الرسميات الوزارية يستقصي الممارس البيداغوجي الهدف/ الكفاية لمستواه الإجرائي التنفيذي لتحقيقها من خلال درسه المدرسي مع متعلميه وفق معطيات فعله التعليمي ومجتمعه المدرسي. ويدون ذلك في جذاذة درسه أو بالأحرى في تخطيط وهندسة درسه المدرسي.

ب ـ لكل هدف مدرسي آلية وميكانيزم للتقويم؛ فبدون تقويم؛ لا ندري درجة تحقق الهدف. والتقويم هنا صدى رجع أنواع التقويم، مع حصره حتما في بابه بالتقويم الختامي أو النهائي الذي من حيث ارتباطه بهدف الدرس المدرسي، وهو تقويم يقيس مدى تحقق الهدف من خلال معايير ومؤشرات قابلة للتحقق والقياس معا. ونطرح بخصوصه سؤال:

* ما كيفية تقويم هدف الدرس؟

وهي كيفية تستغرق التخطيط لعملية التقويم بتضمينه العمليات والأدوات والإجراءات والمتطلبات والشروط والمستلزمات التي ستوظف في تقويم الهدف، بما يؤدي إلى فحص درجة تنفيذها والحكم عليها، ومنه الحكم على الدرس المدرسي نجاحا أو فشلا في تحقيق هدفه، واتخاذ القرار المناسب لنتائجه. وليس واردا هنا الحديث عن تعريف التقويم وتفاصيل حيثياته، وتلك مهمة الأدبيات التربوية تراجع في محلها. وإنما الحديث وارد في التذكير بأن التقويم الختامي أو نهائي يستجلب القول بأن الدرس المدرسي منهجيا يتكون من مفاصل أو مراحل محددة تعين لها أهداف مناسبة لها، قابلة للقياس والحكم على تحققها. ومنه؛ نلج إلى أنواع التقويم وفق مراحل الدرس علما بأنواع التقويم كثيرة تتعلق بمجال التوظيف والوظيفة وزمن التوظيف ومراحله، وطبيعة المقوم وخصائصه، وطبيعة الأدوات والوسائل الموظفة في التقويم، وطبيعة نظامه المرجعي، وطبيعة مخرجات الفعل التعليمي ... فهو مجال واسع تنظر تفاصيله في كتب الاختصاص بما فيها كتب الاختبارات والقياس.

ومراحل الدرس عادة تناسبها ثلاثة أنواع للتقويم هي:

ـ التقويم الأولي أو التشخيصي أو المدخلي: لاكتشاف كفايات ومكتسبات المتعلمات والمتعلمين في مجال الدرس المدرسي المقرر في الممارسة الصفية ليومه عتبة لدخول الدرس الجديد؛ وطلبا لتعيين أهداف لم تتحقق بعد متعلقة بالهدف الخاص للدرس المدرسي، وتحديد الكفايات والخبرات والموارد الجديدة التي سيحقق التدريس عبرها تلك الأهداف. وما تتطلبه من عمليات وإجراءات منهجية ومعينات بيداغوجية، المساعدة أو المساهمة في تحقيقها. وهو تقويم وظيفي يسعى إلى:

1 ـ وظيفة تشخيصية[9] Fonction diagnostique:

* إعداد خطة لحل المشكلات تقوم على:

ـ تحليل " الوضعية " الأشخاص، الموارد، المتطلبات.

ـ صياغة الوضعية في شكل مظاهر وسمات محددة.

ـ تحويل هذه المعطيات إلى مشكل.

* استعمال تفكير توقعي لانتقاد مشكل وحلوله.

2 ـ وظيفة تنبؤية[10] fonction prédictive:

ـ صياغة الأهداف.

ـ تنظيم عمليات حل مشكل.

وهذا التقويم يمكن الممارس البيداغوجي من الإطلالة على الكائن والواقعي لدى جماعة القسم، وتحديد الفوارق الفردية في الموارد والمكتسبات والكفايات الأساس التي يتطلبها تشييد المعمار الفكري الجديد للمتعلم، وتحديد كذلك مناطق التقاطع والمشترك بين أفراد جماعة القسم. فيتسنى له تعيين مدخل الدرس الجديد وسيرورته ومخرجاته ليقيسها في الختام ويصدر حكمه وقراره عليه. وهو بمثابة بوصلة توجه الممارس البيداغوجي إلى الاتجاه الصحيح الذي ينحو نحوه.

ـ التقويم التكويني أو البنائي أو التطوري أو النمائي: ويتم أثناء سيرورة الدرس وفق مراحله المنهجية وأنشطته وأحداثه التعليمية التعلمية؛ حين ينفذ الممارس البيداغوجي تخطيط الدرس المدرسي المستهدف والمعين. فهو تقويم تتبعي للمنجز التعليمي التعلمي ومدى تحقق أهدافه التربوية المتضمنة في الدرس المدرسي المدرس. فهو ذو:

1 ـ وظيفة الضبط[11] fonction de réglage:

* كيفية اعتبار الأحداث الجارية عن طريق:

ـ ترشيد العملية التربوية" الأهداف، الوسائل ".

ـ التعبير عن المظاهر المعيشة.

2 ـ وظيفة الإنتاج[12] fonction de production:

* جعل الملاحظة موضوعية عن طريق:

ـ الحصول على المعلومات باستمرار.

ـ إدماج المعلومات والتركيب بينها.

ـ إنتاج أدوات مناسبة.

ـ توقع النتائج النهائية

فالتقويم التكويني يمكن المتعلم/ ة من معرفة منحنى تعلمه بين مداه الإيجابي ومداه السلبي، بما يعطيه فكرة واقعية عن مدى تحقيقه للأهداف المقررة في تفاصيل الدرس المدرسي المنخرط فيه تعلما، والإكراهات والتحديات والصعوبات التي تقف أمام تعلمه وكذا النتائج الإيجابية المحصل عليها. فهو مرآة المتعلم التي تعكس سيرورة أدائه التعلمي دون قلب اليمين يسارا ولا العكس. كما هو سطح الماء الذي يعكس صيرورة التعلمات التي (تمكن من إصدار حكم من طرف المقومين / [الممارس البيداغوجي] على تعلم التلميذ من خلال عملية استدلالية وعلى أساس معلومات موثوقة ومؤشرات ومعايير انطلاقا من مرجعية متفق عليها ومتطلبات محددة مسبقا بهدف تسهيل عملية اتخاذ القرارات حول عملية التعلم أو نتائجها. وللقيام بالتقويم، لابد من وضع منهجية تساعد على التخطيط الجيد لجميع الأنشطة التي ينبغي القيام بها في هذا الإطار)[13].

ـ التقويم الختامي أو التحصيلي أو البعدي أو النهائي: وهو فعل تقويمي يتم في نهاية الدرس المدرسي ـ بما الحديث هنا يهم الدرس المدرسي ـ لتقرير حكم على مدى تحقق الهدف الخاص بالدرس المدرسي، واكتشاف الإيجابيات لاستثمارها والسلبيات لمعالجتها وتجاوزها على مختلف المناحي " مضامين، منهجيات، معينات، أداءات، مطالب ومتطلبات وشروط ... " وهو ذو:

1 ـ وظيفة الفحص[14] fonction de vérification:

* إنجاز تحليل مركب ومتعدد الأبعاد عن طريق:

ـ إعطاء قيمة لمجموع الآثار المتوقعة وغير المتوقعة التي مست المحيط والأشخاص والعمليات.

ـ تحديد الفارق بين النتائج والأهداف.

ـ إعادة طرح المشكل.

2 ـ وظيفة التواصل[15] fonction de communication:

* تحديد النتائج عن طريق:

ـ تركيب وإدماج المعلومات.

ـ تبليغ النتائج إلى المعنيين.

والتقويم بمفهومه العلمي وكعملية تطبيقية وإجرائية يستند إلى الأسس التالية[16]:

ـ إجراء يسمح بالحصول على مؤشرات وبيانات وعمليات ومعلومات عن سيرورة الفعل التربوي في عناصره المختلفة " مضامين، طرائق، وسائل " والتدخل لتكييفها مع مقتضيات عملية التدريس. وهذا ما يسمى بتقويم السيرورة.

ـ إجراء يمكن بواسطته اختبار نتائج التعلم المحصل عليها من طرف التلاميذ، واتخاذ قرارات صائبة للحكم على هذه النتائج. وهذا ما يسمى بتقويم النتائج.

ـ عمليات تهدف أساسا إلى اتخاذ قرارات صحيحة تهم التلاميذ مثلما تهم عملية التدريس ذاتها.

والتقويم بصفة عامة ينحو تقييم وتقويم ومعالجة مناحي شخصية المتعلم/ ة " المعرفية، الوجدانية، السلوكية " فضلا عن العملية التعليمية التعلمية بكل مكوناتها كتنظير أولا ثم كممارسة صفية لأجل التطوير والإبداع. لذا؛ فهو يتسم بالشمولية والتصحيح والاستمرارية والتعاون. فالتقويم بوجه من الوجوه هو نقد تربوي للعملية التعليمية التعلمية تخطيطا وتنفيذا ونتائج. ويبقى التقويم الناجح في تحقيق أهدافه يخضع لعدة مطالب بنائية وتنفيذية ولوجستيكية ووظيفية وتحليلية. ويتنوع وفق موضوعه وغايته ومنجزه ومكانه وزمانه وشكله وفلسفته وأطره النظرية ومجالاته والمنجز عليه أو المقوَّم، والتقسيم السابق هو حسب زمن إجراء التقويم؛ قبلي، آني، بعدي، مرحلي، سنوي، سلك، فترة، دورة. فالتقويم يظل خاضعا للحاجات النمائية للمتعلم/ ة حسب مرحلة نموه العمرية بكل أبعادها، وللهدفية، والاستمرارية، والموضوعية، والعلمية، والعملية، وللتمييز، والديمقراطية، والشمولية، والاقتصاد في الجهد والتكلفة، والحساسية، وتعدد الوسائط والمعينات والأدوات، والصدقية، والثبات[17] ... ولا يوجد التقويم التربوي خارج منطق الفعل التدريسي وناتجه التعليمي التعلمي لأنه لصيق بفحص النتيجة نوعا وكما ومعالجة واستثمارا وتوجيها. فلا وجود إذن لفعل تعليمي دون تقويم تربوي كاشف.

جـ ـ سؤال التقويم يقود إلى سؤال كفاية مستوى أداة التقويم للدلالة عن النتائج بصدق وشفافية وتحت شروط ومتطلبات الإحصاء التربوي ومواصفات أدوات القياس. فمثلا: في البعد المعرفي؛ هل مستوى صنافة بلوم كافية في التعبير عن نتائج التقويم؟ وأي مستوى من مراقيها يعبر عن ذلك؟ وما يقال هنا يقال عن الجانب الحس ـ حركي، وعن الجانب الوجداني. ومن ثمة يمكن إدراج السؤال الثالث في إعداد الدرس المدرسي:

* ما مدى كفاية مستوى أداة التقويم للدلالة على النتائج؟

فهذا السؤال يحيلنا على تحديد مستويين من أداة التقويم، مستوى الدرجة ومستوى المواصفات. فمثلا: فإذا ما أخذنا صنافة بلوم وهي تتكون ستة مراقي؛ وليكن أحدها هو مستوى: التحليل، حيث يفيد، أن يقدر المتعلم/ ة على تحليل وتفكيك براغي المادة الدراسية المتداولة في الدرس المدرسي، وعلى تفكيك مجموع الأنشطة موضوعا ونهجا وفعلا وتفاعلا إلى أجزائها المختلفة، وفهم وإدراك تعالق مكوناتها، مما يساعده على فهم بنيتها ووظيفتها. وأما مستوى المواصفات؛ فيعني الاشتغال على معايير ومؤشرات هذا التحليل وعتبات التحقق. فالأدبيات الإحصائية التربوية تفيد أن لأدوات التقويم مواصفات عدة منها: الصدق، والثبات، والموضوعية، والشمولية، وقابلة التوظيف لما وضعت له/ قابلية التطبيق، الاقتصاد، والتعاون، والديمقراطية، والحساسية ... مما يجعل أداة التقويم ناجعة في التقويم وفي قياس النتائج بكل صدق وشفافية وموضوعية. وعليه؛ تؤدي الأداة الخاطئة أو الهشة إلى نتائج خاطئة أو مغلوطة أو غير صادقة، كما يقع مع مجتمع المدرسي المغربي الذي يمتلك حساسية مفرطة نحو البحث التربوي والبحث العلمي بصفة عامة، ويصاب برهابه كلما دعي إلى المشاركة في بحث أو في استمارة أو استطلاع الرأي، لأنه يعتقد أن البحث سيعري عن ذات الشخص المشارك، وبذلك؛ فكثير من بحوثنا لا تعبر عن الحقيقة ولا تقدم معلومات وبيانات واقعية وموضوعية وحقيقية معبرة عن الكائن في مجتمعنا المدرسي.

د ـ الأسئلة الثلاث السابقة تؤدي إلى السؤال الرابع، المتعلق بنوع التعلم المكتسب الذي يلائم ويوافق الهدف. حيث يفيد فعلا أو مفهوما أو منطلقا ومبدأ أو طريقة أو استراتيجية معرفية أو سلوكا أو إيماءة أو أكثر من إفادة. فهو يفصح عن ذاته في:

* ما نوع التعليم والتكوين المكتسب الذي يناسب هدف الدرس المدرسي؟

وهو سؤال؛ جوهره، كفاية الفعل التي ستغطي الحدث التدريسي بكل تفاصيله ومقاطعه التعليمية والتعلمية، والتي ستخرج تخطيط الدرس من القوة إلى الفعل تحت مفعول مجموعة من الموارد والعمليات والتجارب والخبرات المكتسب والمخزنة في الذاكرة، يستدعيها المتعلم/ ة بتحفيز الممارس البيداغوجي لاكتساب أو تطوير أو تعديل المكتسبات السابقة من معارف أو قيم أو أنماط سلوكية أو مفاهيم أو نظريات ورؤى فكرية معينة أو استيعاب جديدها، تحت تأثير فعلي التعليم والتعلم، وأثر الخبرة والتجربة والبيئة. كما هو في مظهره مضمون كفاية الفعل المستهدفة أداة لتحقيق الهدف الخاص أو الرئيسي للدرس المدرسي القائم في حجرة الدرس. وبذلك فهو فعل ومضمون فعل في الآن نفسه، يستوحي منه الممارس البيداغوجي نمط تعاطي مكتسب المتعلم/ ة مع الهدف طلبا للانسجام والتوافق والتكامل والتعاون معه من أجل تحقيقه. ترفده حاليا بيداغوجيا الكفايات بخطابها وأدبياتها ووضعياتها المتنوعة من الوضعية المشكلة الديداكتيكية المحفز الرئيس للمتعلم/ ة على التعلم والانخراط فيه، لاستشعاره بالنقص في موارده أو طرقه أو أنماط تفكيره أو جمعيها وغيرها من استشعارات النقص والخصاص في منحى معين؛ و(يمكن إجمال الأسباب التي تدفع بالواحد منا إلى البحث عن المعلومة في ما هو نظري أو عملي؛ فقد يكون الباعث معرفيا محضا، وقد يكمن في الرغبة في حل مشكل عملي أو تقني. وما يجمع بين الحالة الأولى والثانية هو أنهما يولدان فينا الوعي بالنقص فيما يتعلق بالمعارف المطلوبة لحل مشكل ما أو اتخاذ قرار معين. وهو ما يعد حافزا كافيا للبحث عن معلومات جديدة، والسعي في نفس الوقت إلى استرجاع تلك المخزنة في الذاكرة. وعليه، فكل قرار نتخذه يبقى رهين طبيعة المعلومات التي نتوصل بها، وأن بناء المعرفة واستجابتنا لوضع معين يتوقف على التأليف بين المعلومات الجديدة والمخزنة في الذاكرة. ومن ثم، فالرغبة في الحصول على المعلومة مرتبط بالرغبة في استبعاد عدم اليقين أو تخفيض درجته على الأقل. على هذا، يتطلب الأمر التمييز بين الحالة التي تكون فيها المعلومات غير كافية بشكل قد يؤثر على قرارنا، أو يجعلنا نتردد في اتخاذه)[18]. ومن الوضعية البنائية التي نبني من خلالها التعلمات والموارد الجديدة لدى المتعلم/ ة عبر محطات منهجية تفعل تعليماتها المتنوعة. ثم الوضعية التقويمية التي تكشف عن درجة ونوع التحصيل المعرفي والأداء المهاري والسلوك الإخباري الذي حققه المتعلم فضلا عن مدى تحقق الأهداف أو مدى تحقق الكفايات المقررة للدرس المدرسي. وهناك وضعيات أخرى تأتي في سياق الاستثمار أو المعالجة كوضعية التعزيز في حالة التمكن أو وضعية التعويض أو وضعية التصحيح في حالة عدم التمكن من الكفاية المستهدفة. وهذه الوضعيات المتنوعة هي التي تبني عند المتعلم/ ة نوع ونمط المسلك المعرفي والمنهجي والأدائي، وتمكنه من كفايات الفعل بعيدا عن مجال الفعل.

وهذا السؤال يرتبط في سياق التدريس بنظريات التعلم التي تنظم حقائق ووقائع ومحتوى التعلم في صيغة عملية التعليم، وتبسطها وتشرحها وتفسرها وتتنبأ بها فضلا عن هندسة التعلم في سيرورة توظيفها. ففي ظلها يقع التعلم بالفعل من خلال إنجازه ترسيخا للتعلم لأنه منجز المتعلم/ ة نفسه، صادر عنه. لذا ركزت بيداغوجيا الكفايات على إكساب وتمكين المتعلم/ ة من معرفة الفعل، أو المهارات التشغيلية، وهي القدرة، المثبتة بالممارسة، على تنفيذ مهمة ما بشكل ملموس ومحسوس. والتي يجدها المتعلم/ ة في أفعال الممارس البيداغوجي وسلوكه العملي الميداني قدوة مثالية له، ويقتدي بها، ويتمثلها في حياته، ويتشبع بها. فهي ما يشير إليها بمصطلح الدراية موضوع الخبرة العملية التي تشهد على الإتقان التقني لمجال الكفاية أو المهارة، والتي تسمح بتطبيق المعرفة. وعليه؛ هي بالمجمل القدرة على تنفيذ خبرة الفرد ومعرفته المكتسبة في حياته ومناحيها ومجالاتها المتنوعة والمتعددة. ونفصح عنها من تركيب فعل المعرفة وفعل الإجراء أو الأداء والنشاط بالعدد أو بالوصف. فمثلا: أعرف تنظيم عرضا مسرحيا لمائة متفرج، تشكل معرفة الفعل. فالفعل ومعرفته كفيلان ببناء التعلمات والموارد والمعارف والمهارات والكفايات عند المتعلم/ ة. فمثلا: تدريس مفهوم الدارة الكهربائية من خلال وضعية مشكلة تتعلق بإصلاح عطب وقع في دارة منزل المتعلم/ ة، يكون أجدى إن كان عمليا وفعليا وتطبيقيا بموازاة شرح مفهوم الدارة الكهربائية نظريا. لأن التعلم عمليا وفعليا وتطبيقيا يشكل تسنينا لتخزين المفهوم في الذاكرة طويلة المدى، ومرجعا في الاستدعاء والتعبئة للمفهوم من جديد لتوظيفه في وضعيات جديدة. ومن أمثلة معرفة الفعل نقف على:

ـ معرفة الاشتغال في فريق.

ـ معرفة التكيف.

ـ معرفة كيف أكون مستقلا وحرا غير تابع.

ـ معرفة حسن تدبير الاختلاف.

ـ معرفة تدبير التوتر بشكل جيد دون نواتج سلبية.

ـ معرفة كيف أكون فضوليا دون إحراج أو معرفة كيفية إدارة الفضول.

ـ معرفة اتخاذ القرارات.

ـ معرفة كيف أتحدى.

ـ معرفة توجيه الأسئلة.

كما أن التعلم بالسلوك أو المثال والقدوة مبدأ أساس في التربية الإسلامية وحتى في التربية الحديثة؛ ذلك أن مفهوم "النمذجة" يجد مكانا له فيما يسمى التعلم بالسلوك، أو المهارات السلوكية، بمعنى مهارات التعامل مع الآخرين. فـ (المعلم كنموذج للسلوك المعرفي المرغوب فيه والذي يظهر في كل موقف من مواقف الحياة اليومية وفي الاستراتيجيات داخل الفصل والمدرسة)[19]. فالممارس البيداغوجي بالنسبة للمتعلم/ ة ليست خطابا ملفوظا على سمعه وإنما هو تجسيد للملفوظ على الأرض سلوكا وممارسة، محسوسا بالحواس من سمع ونظر ولمس وشعورا ... يتشكل المتعلم/ ة وفق ممارسه البيداغوجي. حيث هو القدوة الحسنة له، أهم الوسائل فعلا وتأثيرا، وأقربها للتوفيق، وأنجعها فاعلية في حياة المتعلمين/ ات. تحول خطاب الممارسة الصفية من مجرد تراكيب لغوية ذات ظلال لغوية إلى سلوك وقيم ومبادئ ذات ظلال دلالية في الواقع المعيش للاقتداء والتأسي، والممارسة العملية في الحياة، تتحرك على وجه البسيطة وقائع وأحداثا وحقائق وتصرفات ومعايير وأخلاقا تشي بانسجام القول مع الفعل واتحادهما في عملة واحدة هي التربية بالقدوة. ودائما ذلك التحويل من القول إلى الفعل تسنينا وشفرة لتخزين التعلمات والموارد والمكتسبات المتنوعة في الذاكرة طويلة المدى. كما تعمل القدوة أو التعلم بالسلوك على:

ـ بناء المعرفة والمهارات والكفايات والموارد بصفة عامة عند المتعلم/ ة بأمر الواقع المعيش.

ـ بناء العادات والأخلاق والسلوك المدني والسليم والمتخلق لدى المتعلم/ ة.

ـ مساعدة المتعلم/ ة على فهم الحقائق العلمية والظواهر الكونية فضلا عن فهم التعلمات.

ـ تشكيل شخصية المتعلم/ ة، وفتح آفاق واسعة أمامه من المعرفة الحقيقية للحياة، بتمكينه من كفايات التحليل والتركيب والفهم والنقد والاستيعاب ...

ـ مساعدة المتعلم/ ة على التركيز على تحصيل الأهداف، وعلى تقدير المسؤولية وتحملها؛ ما يدفع بالمتعلم/ ة إلى النجاح والتفوق والإيجابية والتألق.

ـ مساعدة المتعلم/ ة على معرفة التحديات والصعوبات والمعيقات التي قد تواجهه بجانب معرفته لأحسن وأنجع الطرق والخطط لمعالجتها وتجاوزها.

ـ العمل على توفير الوقت والجهد في العملية التعليمية التعلمية، وللمتعلم/ ة في اشتغاله المعرفي.

ـ تنمية السلوك الإيجابي عند المتعلم/ ة، والسمات الحسنة والجيدة كذلك، وتعزيزها ودعمها عمليا.

ـ تكوين صورة أو نظرة أو رؤية سيكولوجية إيجابية عند المتعلم/ ة عن ذاته وقدراته وأداءاته عمليا وواقعيا، ومنحه الثقة في النفس لما يقتدي به من سلوك وفعل.

ـ تعديل السلوك عند المتعلم/ ة وفق مكامن الخلل في مكتسبه العملي والإجرائي والأدائي نتيجة كون التعلم بالسلوك يقنع واقعيا بالدليل والحجة الممارسة فعليا أمام المتعلم/ ة أو من خلاله.

ـ العمل على حيوية المتعلم/ ة داخل النشاط التعليمي التعلمي بإخراجه من سلبية التلقي إلى إيجابية المشاركة في البناء. لأنه ـ التعلم بالسلوك ـ يمنح المتعلم/ ة مساحة واسعة للمشاركة في بناء المعرفة بالسلوك والممارسة وبالقدوة، (فلم يعد الطلبة مجرد متفرجين ومتلقين سلبيين للمعرفة، بل عليهم المشاركة بنشاط وبشكل شخصي في بنائها، عبر اقتراح بعض الأفكار وتطويرها ودعمها بالحجج وتدبير الارتيابات)[20].

ـ تعلم المتعلم/ ة بالتجربة مادام التعلم بالسلوك وما ظل التعلم بالقدوة في ذاته تجربة يعيشها المتعلم/ ة حقيقة في واقعه؛ حيث (تمنح التجربة شيئا من الطمأنينة وتضاعف من سرعة وثقة الحركات المهنية/ [التعلمية] وتوسع قاعدة الوضعيات التي تمت مواجهتها وتسمح بمراكمة المعارف المنبثة عن الممارسة، ومن هذا المنظور تدعم التجربة الكفايات وتغنيها)[21].

كما أن التعلم من خلال لغة الجسد أحد الأساليب التدريسية التي يسلكها الممارس البيداغوجي في الحجرة الدراسية تعليما للمتعلم/ ة موارده وتعلماته. فهي لغة غير لفظية تعتمد على الإيماءات والتعبيرات والإشارات والحركة والسلوك الصامت، ومن أنجع الاستراتيجية في التعليم، تفيد في إثراء وإغناء المشهد التعليمي بالتعبير الجسدي الدال، الذي يحمل عدة معاني ودلالات، وقد وجد علماء النفس أن الاتصال غير اللفظي يتم بنسبة تتراوح ما بين 60% و80%. يمكن للمارس البيداغوجي اعتماده في تدريس المتعلم/ ة المادة الدراسية ضمن وضعيات تعليمية تعلمية عبر إظهار مواقف ومشاعر وحالات الشخوص النفسية والاجتماعية في المتن التعليمي، وإجلاء الأحداث والأزمنة والأمكنة بالتعبير الجسدي. فمثلا: حالة الفرح في وضعية تعليمية تعلمية يمكن التعبير عنها بتقاسيم الوجه وغير ذلك. وصور التعبير الجسدي أصبح في الشبكة العنكبوتية من أهم الصور المستعملة للتعبير عن العلاقات الاجتماعية، وعن مواضيع التواصل الاجتماعي كذلك. فمن خلال التواصل غير اللفظي " لغة الجسد "يمكن للمدرس أن يكتشف ما إذا كان المتعلم/ ة أو أي شخص سعيدا، أو حزينا، أو مبتسما أو ضاحكا أو عابسا مكفهرا، أو غير مهتم وغير مكترث، بالاتفاق أم لا ... وما إلى ذلك، فالتعبير الجسدي أو لغة الجسد غدت اليوم كتابا مفتوحا يمكن قراءته كأي كتاب مكتوب باللغة؛ حيث يمكن للممارس البيداغوجي تعليم متعلميه هذه اللغة وقراءتها بمجرد النظر في تعابير الشخص وملامحه وهيئته، ومعرفة ما يفكر فيه، ويشعر به. فتقاسيم الوجه وحركات اليد وكيفية الجلوس وغيرها تشي بذلك كله.

(على الرغم من أن التواصل الشفهي هو الوسيلة الرئيسية؛ لإيصال المعارف والمعلومات وشرحها في الفصول الدراسية، وفي كل الأنشطة، إلا أن لغة الجسد تلعب هي الأخرى دورا مهما في كثير من المواقف؛ بجعل الرسائل التعليمية جذابة ونشيطة وذات فاعلية، وفي نفس الوقت تكشف عن المعاني الانفعالية للكلمات من خلال أداء حركات الجسد بطريقة صحيحة، وقد تحل محل اللغة مباشرة عبر عديد القنوات والاستخدامات.

لقد استفاد التواصل التعليمي من تطبيقات لغة الجسد كثيرا؛ لأن ''عمليات الاتصال المعلم أو الأستاذ، والتلاميذ أو الطلاب، غنية بالرموز غير اللفظية، كتقبل الأفكار وفهمها من لدن الأستاذ أو الطالب، والتشجيع والنقد، والصمت، وطرح الأسئلة، كما أن القنوات غير اللفظية تعتبر مصدرا غنيا للرموز العاطفية التي تخبر بنوعية العلاقات بين الطلاب، أو بين الأستاذ والطالب''. فهي داعم مهم ومرافق لكل تفاعل بين مرسل ومستقبلين من أجل الإقناع وعلاوة على ذلك فإن استخدام لغة الجسد متوافق تماما مع المبادئ التربوية على أساس أنها واقعة ضمن الأساليب السمعية البصرية. وتشير الدراسات إلى أن 55 %من الفهم يأتي من تعابير الوجه، و38 %من الطريقة التي تنطق بها الكلمات، و07 % فقط من معنى الكلمات)[22].

هـ ـ سؤال نوع التعليم والتكوين السابق يلج بك إلى السؤال الموالي، وهو سؤال النهج، بمعنى نمط الفعل التدريسي من استقرائي إلى تناظري مرورا بالاستنتاجي والجدلي والحواري والمتشعب ... ما يتجلى في السؤال التالي:

يأتي

***

إعداد: عبد العزيز قريش

باحث في علوم التربية

 

التلقين بوصفه أيديولوجيا تدميرية وقوة تجهيل استلابية

(يشكل التلقين منظومة أيديولوجية واستراتيجية مصممة لتدمير العقول، وتجهيل الأجيال وإخراجها من دائرة القدرة على التفكير والنقد والتأمل المنطقي أو النظر في أمور الحياة وحرمانها من القدرة على التأمل العقلاني المتنور لمظاهر الحياة والوجود. وهو بالتالي يمثل أنجع وسيلة لتدمير العقل والعقلانية عند الأطفال والشباب، وحرمانهم من القدرة على التبصر والتفكير والـتأمل في سياق استراتيجيّة أيديولوجية لا تخفى على كثير من الباحثين وأهل الاختصاص)... علي أسعد وطفة

1- مقدمة:

غالباً ما ينظر المفكرون النقديون إلى التلقين (Indoctrination) أو التطبيع على أنه من أكثر المظاهر خطورة وفتكا في المجتمعات المتخلفة، وهو الفعالية التربوية التي تؤسس لكل أشكال التخلف والعبودية والقهر في هذه المجتمعات، فالتلقين يشكل أحد الملامح الأساسية للعملية التربوية في مختلف المجتمعات المحكومة بالجهل والخرافات والأمية. ولا جدال في أنَّ التلقين يشكل أخطر الأدواء التي تداهم العقول والعقلانية، إذ يدمر معظم أشكال القدرة على التفكير والرؤية النقدية لدى أفراد المجتمع، ويضعهم في وهدة الجهل والأمية والتجهيل، وربما لا نبالغ إذا قلنا: إنَّ التلقين يشكل قوة أيديولوجية وممارسة تربوية مصممة لإنتاج مختلف أشكال الجهل والتجهيل والتخلف الذهني والعقلي في المجتمعات المتخلفة.

تتّخذ العلاقة بين التلقين والأمية صورة جوهرية من التكامل والتلازم حضورا وغيابا،، فحيثما يكون التلقين تكون الأميَّة والعكس صحيح، وفي غياب أحدهما يكون غياب الآخر بالضرورة، وهذا يعني أنَّ التلقين يشكل أحد العوامل الأساسية في نشأة الجهل المعرفي، وتوليد الأميَّة الأكاديمية، كما يمثل في الوقت نفسه إحدى نتائج الأميَّة الأكاديمية وأحد أبرز مظاهرها في الوقت ذاته، وهذا يعني أيضًا أنَّ العلاقة القائمة بين التلقين والأمية الأكاديمية علاقة جدلية فاعلة منفعلة ضمن سياق تكاملي يكون فيها السبب والنتيجة متواترين متعاقبين متفاعلين ومتكاملين كل منهما يعزز الآخر وينتهي إليه. فالتلقين بوصفه ممارسة تجهيل، يشكل أهم وأخطر عوامل الأميَّة الثقافية في المجتمع وأعظم منتج للأمية الأكاديمية في الجامعات العربية دون استثناء. فالوظيفة الأساسية لعملية التلقين والتطبيع والترويض هي العمل على وأد العقل وردم القدرة على التفكير في المجتمعات التي منيت بهذا الداء. والأخطر من ذلك، أنَّ التلقين - بوصفه منهج حياة وطريقة في التفكير والوجود - يحول المجتمعات المصابة بأدوائه إلى مجتمعات عبودية قطيعية مستلبة مغيبة عن كل أشكال الوعي السياسي والاجتماعي والأخلاقي.

وقد تبدو كلمة التلقين بمختلف تسمياتها، كالتطبيع والترويض والتعليم البنكي، كلمة عادية لا تتعدى أسلوب التعليم السائد في المدارس. وعلى خلاف هذا التصور البسيط يأخذ مفهوم التلقين طابع التعقيد بوصفه ظاهرة ثقافية أيديولوجية مجتمعية، وهو إذ ذاك يؤدي في الوقت نفسه وظائف أيديولوجية وفلسفية وسياسية غاية في الأهمية والخطورة، وهو فوق ذلك ينطوي على منظومة فكرية أداتية تهدف في حقيقة الأمر إلى ترويض الأفراد والشعوب وإخضاعها للطبقات السياسية والاجتماعية التي تحكم هذه المجتمعات وتسودها.

كثير من الباحثين ينظرون إلى التلقين على أنه طريقة في التدريس والتعليم ونقل المعلومات، وهذا الأمر صحيح لا غبار عليه، لكن الأمر الخطير الذي يجهله كثيرون هو أنَّ التلقين يشكل بذاته منظومة أيديولوجية واستراتيجية مصممة لتدمير العقول، وتجهيل الأجيال وإخراجها من دائرة القدرة على التفكير والنقد والتأمل المنطقي أو النظر في أمور الحياة وحرمانها من القدرة على التأمل العقلاني المتنور لمظاهر الحياة والوجود. وهو بالتالي يمثل أنجع وسيلة لتدمير العقل والعقلانية عند الأطفال والشباب، وحرمانهم من القدرة على التبصر والتفكير والـتأمل في سياق استراتيجيّة أيديولوجية لا تخفى على كثير من الباحثين وأهل الاختصاص.

وغالبا ما يشار إلى التلقين بوصفه طريقة في التعليم يأخذ فيها التعليم اتجاها أحاديا يكون المعلم فيه هو مصدر المعلومة والسلطة، ويكون الطالب هو المتلقي المطيع. وعلى هذا النحو يتم تطبيع الطالب أو التلميذ بالمعلومات والحقائق المفككة دون أنَّ تتاح له فرصة مناقشتها أو فهمها فهما صحيحا. وهكذا، يشكل التلقين وسيلة فعالة لغسل الأدمغة وترويض الأطفال والناشئة على الخضوع المطلق ذهنيا. وتعتمد هذه الطريقة على "حشو الرؤوس بمادة كثيفة ثقيلة تزرع زرعا في المخزون الذاكري للأطفال والطلاب " (عبد الرحمن، 1993، 16). وهذا ما أشار إليه محمد جواد رضا في قوله مؤكّدا: " إننا عندما نضخ في عقل الطفل مئات، بل آلاف (كذا!) من المعلومات غير المترابطة فإننا نستنزف عقل الطفل وطاقاته في جهد آلي لا يترك له فرصة التفكير" (رضا، 1991، 119).

وبالتالي فإنَّ المعلومات المجزأة والمفككة تمنع القدرة على التفكير، وهذا التفكيك الذهني يشكل أخطر أساليب اغتيال العقل، لأنه يقتل كل إمكانات التفكير الشمولي والنقدي في ذهن الفرد؛ ذلك أنَّ الحقائق تكتسب قيمتها من كونها أجزاءً في كل مركب، فإذا فصلت عنه فقدت قوتها في عقل الفرد، وأصبحت كل حقيقة مجرد معلومة لا يربطها رابط ببقية الحقائق، وهذا ما تبرع به الكتب المدرسية الآن كوسائل إعلام (رضا، 1987، 40).

إنّ التلقين شكل من أشكال التسلط والقهر الاستلابي! وهو كذلك لأنه يشكل عملية إكراه تفرض فرضا على الطفل من الخارج، وهو كذلك عملية تطبيع وترويض، أي انتهاك للعالم الداخلي للطفولة، فالطفل عندما يلقن لا يسمح له بإبداء رأيه فيما يتلقن بل عليه أنَّ يخضع ويقبل ويستكين، وهذا يشكل نوعا من استباحة المجال الداخلي للإنسان. فالتلقين وفقا لهذا المعنى يدخل في الطفل ما لا يرغب فيه، أي إنه يبرمج الطفل على إكراه منه. وبعبارة أخرى ما يتوغل إلى عالم الطفل الداخلي لا يتجاوز رغبة الطفل بل يتعارض مع هذه الرغبة وينفيها، والمهم في ذلك كله أنَّ عملية التلقين تتم دون محاكمة منطقية، حيث لا يسمح بها، ومع الزمن يصبح عقل الطفل موطنا، لا بل مستعمرة لأنظمة فكرية لا تمت إليه أو إلى الواقع بصلة، ولكنه مع الزمن، وبفعل هذا الترويض المعرفي يعتاد أنَّ يركن إلى ما آل إليه وضعه، وما حدث لعقله. وبعبارة أخرى، لقد روض وخضع لبرمجة عقلية منهجية منظمة ومستمرة.

ويعد المفكر البرازيلي باولو فرايري (Paulo Freire‏) رائد الاستكشاف النقدي للتعليم التلقيني الذي يطلق عليه تعبير التعليم البنكي، ويصفه في كتابه المشهور (تعليم المقهورين) (Pedagogy of the Oppressed) بأنه تعلم ترويضي يبرمج الطلبة على الخضوع ويدفع بهم إلى مواقع العدمية الفكرية والذهنية. ويصف فرايري التعليم البنكي التلقيني ببعض السمات الأساسية التي تتمثَّل في الأستاذ الذي يعلم والطلبة الذين يتلقون، وفي الأستاذ الذي يعرف كل شيء، والطلبة الجهلة الذين يجهلون كل شيء، في الأستاذ الذي يفكر ويتأمل والطالب الذي لا يستطيع التفكير ولا يسمح له بالتأمل، في الطالب الذي يذعن ويخضع ويستمع والمعلم الذي يتكلم ويفرض ويمارس السلطة، في الأستاذ الذي يمتلك ناصية القرار والتصرف، وفي الطالب الذي يستجيب استجابة مطلقة لواجبات الطاعة والخضوع والرضوخ والإذعان. وهذا يعني أنَّ المفهوم البنكي- التلقيني للتعليم يحول الطلبة إلى مجرد طاقة سلبية بلا هوية ودون وعي مستقل، ولا يعدو الطالب في هذه المعادلة أنَّ يكون أكثر من آنية تصب فيها المعلومات صبا، وتشحن العقول بالمطلقات والخرافات والأوهام لتعطيل الطاقات العقلية والقدرات الإبداعية عند الناشئة. والتعليم التلقيني لا يستهدف شيئا آخر سوى تطويع الطلبة للتأقلم مع عالم القهر والاستلاب وتكييفهم لمتطلبات الخضوع والقصور والإذعان، وهو إذ ذاك تعليم يتناقض مع مفهوم الحرية والعقل ويدفع الطلبة إلى أقصى حالات الاستلاب والسلبية في مجتمعهم القطيعي (فرايري، 1980، 57).

والتلقين كما يراه فرايري، هو العملية السيكولوجية التي يتم فيها ومن خلالها الزجّ بالأطفال والمتعلمين في زنزانات العبودية العقلية والإكراه المعرفي، وهو ما يؤدي فعليا إلى عملية تجفيف القدرات العقلية للطفل وتدمير الطاقة الإبداعية الكامنة فيه؛ ذلك لأنَّ الطفل، على مدى سنوات عديدة يقضيها في المدرسة، يردد فقط ما يلقنه إياه المعلم، ويحفظ ما يأمره به، ويستظهر ما يطلب من نصوص، وينفذ إرادة المعلمين بصورة كلية. ويمنع، في المقابل، من التفكير أو النقد أو الحوار أو المناقشة أو الإبداع أو التجديد، وتلك هي ممنوعات النظام التربوي السائد في الأنظمة التربوية المعاصرة. فالتلقين عملية غسل دماغ حقيقية، يتم فيها تفريغ الإنسان من طاقته الذهنية ويدفعه إلى حالة اغترابية استلابية، وغالبا ما ينظر إلى المتعلم بوصفه مجرد إناء تصب فيه معلومات المعلم، وهي غالباً معلومات لا تتصل بحاجاته واهتماماته ولا تمكنه من التفكير والنقد والتحليل.

ويميز فرايري في كتابه الموسوم (تعليم المضطهدين)، بين منهجين مختلفين متعارضين للعملية التربوية: أطلق على المنهج الأول تسمية التعليم البنكي، وهو التعليم القائم على التلقين الذي يجسد نظاما سلطوياً محضاً يجعل من المدرس دكتاتوراً يفرض سلطانه ونصوصه على الطلبة دون أنَّ يسمح لهم بالتفكير والاعتراض، وهو منهج استلابي اغترابي مدمر لعقل التلميذ وقدراته الذهنية. وأطلق على المنهج الثاني المنهج النقدي في التعليم الذي يساعد على بناء شخصية الطالب وفكره، بتشجعيه على التفكير والتأمل والنظر، ويكون فيه المعلم مساندا لعملية بناء العقل التنويري عند الطلبة. وقد تبين فيما بعد أنَّ أغلب المجتمعات السائرة في مسارات التنمية والتحديث قد اتخذت المنهج النقدي ورفضت المنهج التقليدي البنكي الاغترابي، وعلى خلاف ذلك تبنت المجتمعات الاستبدادية، ومنها مجتمعاتنا العربية، المنهج الأول الاستلابي للقضاء على كل أشكال التفكير وحرية التعبير وتقبل الآخر (مغامس، 2015).

ويمكن لنا أنَّ نقول في هذا السياق إنَّ عملية التلقين عملية استلابية تؤدي إلى تدمير العقل والعقلانية عند الطالب، وباختصار هي عملية تشويه للملكات العقلية والذهنية عند الطفل والمتعلمين بصورة عامة، وتؤدي أيضًا إلى قتل روح المبادرة. وبمرور الزمن، ومع استمرار هذا الأسلوب الخطير، يتحول الإنسان إلى صنم ناطق يضج بغبار المعرفة، ونثريات الذاكرة، مع غياب القدرة على التفكير الإنساني الحر الخلاق.

فعملية التلقين خلال مراحل التعليم، وتحت تأثير آليات الإكراه العقلي والمعرفي التي تفرضها، تحول المتعلم إلى كائن اغترابي، وإلى أداة طيعة مستلبة ومقهورة توظف في خدمة أنظمة القهر السياسي والاجتماعي القائم. وهذا التعليم ينتج حشودا مليونية من هذه الشخصيات الاغترابية، فيتحول المجتمع برمته إلى مجتمع عبودي، تسوده قيم القهر والتخلف والتسلط والاستبداد، لأنَّ هذه الحشود المستلبة، بفعل عمليات اغترابية لا حصر لها، تسقط في مستنقعات الوهم ومهاوي الاستسلام والخضوع.

يميز الفيلسوف الألماني عمانويل كانط Emmanuel Kant (1724-1804) بين التعليم الترويضي - التلقيني والتعليم التنويري بقوله: " الإنسان إما أنَّ يروض ويوجه ويعلم آليا، وإما أنَّ ينور تنويرا حقيقيًّا ". ويرى أنَّ الترويض (التلقين) يكون للكلاب والخيول، ويمكن أيضًا أنَّ يكون لبني الإنسان... ولكنه يعلن أنَّ التربية لا تتم بالترويض: فالمهم قبل كل شيء أنَّ يتعلم الأطفال كيف يفكرون " (بدوي، 1980، 123). ويعارض كانط التلقين وينظر إليه بوصفه منهجا كارثيا مدمرا ضد الإنسان والإنسانية، لأنَّ وظيفة التربية الحق هي النهوض بمهمّة التنوير، وهذا يعني أنَّ المعرفة يجب أنَّ تنتزع من الفرد لا أنَّ تسكب فيه؛ فالتلميذ ليس فراغا يملأ بل طاقة يجب أنَّ تفجر بالمعرفة. ومنهج كانط الفلسفي يشكل إدانة صريحة لأساليب التلقين في العملية التربوية. فعملية التلقين التربوي - كما يراها - تتمثَّل في عملية إكراه معرفي، تفرض على الطفل، بوصفها معرفة لا يرغب فيها، ولا تعنيه، ولا تواكب توجهاته واهتمامه، وضمن هذا التوجه، تكمن حكمة كانط وغايته في تأكيده على أهمية نمو المعرفة من الداخل وليس فرضها من الخارج. فالتلقين عنده إرهاب إيديولوجي منظم، وهو في الوقت نفسه أداة لتطويع الفرد ذهنيا وعقليا ووسيلة إخضاع لإرادة خارجية تروض المتعلّم على الإذعان والانصياع، وتشرّط وجوده بالخضوع والاستسلام (بدوي، 1980). وهذا ما يذهب إليه هشام شرابي في كتابه المعروف (مقدمات لدراسة المجتمع العربي)، إذ يهاجم التلقين ويرى فيه خطورة كارثية على المجتمع والعقل، لأنه يشكل طاقة استلابية اغترابية تعمل على تدمير العقلانية والروح النقدية في الفرد وفي المجتمع، إذ يتحول الفرد بموجبها إلى كائن مفرغ من الطاقة الذهنية ويصبح أداة للترديد والحفظ بدلا من أنَّ يكون وسيلة تحليل ومعرفة ونقد (شرابي، 1991، 85).

ويشير أوليفييه (Olivier Reboul) في معرض تحليله لمفهوم الترويض إلى أنَّ "الكلب المدرب المروض ليس كلبا أكثر نموا من الكلاب التي لم تروض بعد " (ربول، 1986، 25)، لأننا عندما "نروض كلبا أو حصانا فإننا لا نقوم بذلك من أجل أنَّ نعلم الحيوان فحسب، وإنما لنجعل الحيوان يستجيب لسلوك يفيد معلمه "(ربول، 1986، 25). وهذا يعني أنَّ هذه الكلاب المروضة ليست أكثر نموا وقدرة من الكلاب الأخرى، بل هي أكثر استعدادا لخدمة صاحبها والاستجابة لطلباته (ربول، 1986، 25). ومثل هذا التشبيه ينسحب على الخيول: فالخيول المروضة هي الخيول التي تستجيب لحاجات الركوب عند أصحابها وليست هي الخيول الأفضل دائما. والتعليم في صيغته الترويضية لا يخرج عن هذه الدائرة. فعندما يكون هدف التعليم هو إعداد الفرد لخدمة أساطين القوة ورموز السيطرة، يكون التعليم تلقينا، وهو يخرج عن هذه الدائرة عندما يستهدف تحقيق نماء الطلبة على المستوى الأخلاقي والنفسي والاجتماعي. والتعليم عندما يهدف إلى تحقيق النماء الداخلي للإنسان يصبح فعلا تربويا، وليس فعلا تلقينيا.

وفي هذا الصدد يرى رونيه أوبير (Jacques-René Hébert) أنَّ التلقين فعل لا يتناقض مع التربية بل هو فعل يتنافى معها بصورة كلية (ربول، 1986، 26).

وفي هذا السياق ينظر الدكتور محمد جواد رضا " إلى التلقين والتبشير بوصفهما عمليتي إخصاء للعقل العربي البازغ في الأطفال، وهما تعملان على استباحة مناهجنا وكتبنا المدرسية " (رضا، 1991، 23). وفي هذا المعنى يقول هشام شرابي: "التلقين هو الشكل الأكثر تنظيما من أشكال فرض السلطة وتثبيتها، فهو يجمع بين العقاب والتطبيع Indoctrination وهي طريقة تعتمد على الترديد والحفظ بحيث لا يبقى مجال للتساؤل والبحث والتجريب" (شرابي، 1991، 38).

فالتعليم البنكي، وهو صيغة اصطلاحية للتلقين والتطبيع، يدفع المعلم إلى معاملة الطلبة بوصفهم حسابات بنكية تودع فيه المعلومات والمعارف، وتخزن، وفي كل فترة يعود المودع ليحسب في كل حساب بنكي ما يوجد فيه من رأسمال معرفي مودع. فالطالب هنا مستقبل للمعلومات والمعلم هو الذي يودعها فيه. ويهدف التعليم البنكي إلى تبديد القدرة الإبداعية عند الطلبة، ومن ثم ترويضهم من أجل الاندماج في النسق الاجتماعي الذي تسوده قيم التسلط والإكراه (بدران، 1999، 24). ويرى هشام شرابي أنَّ الهدف من التلقين " هو نقل قيم المجتمع وعاداته الثابتة إلى صميم التركيب الذهني للفرد "(شرابي، 1991، 38). والفرد في سياق فعل التلقين يتلقى تركيبات فكرية جاهزة، أو خلائط عقائدية مركزة، يؤسس عليها أنماطه السلوكية، دونما قدرة على التأمل النقدي في طبيعة هذه الأنماط السلوكية، أو في منظوماتها الذهنية المؤسسة لها، وهو ما من شأنه أنَّ يؤدي إلى كسر إمكانات الفرد العقلية والنقدية (شرابي، 1991، 38).

والتلقين، علاوة على ذلك، نمط من أنماط التسلط والقهر الواضح! لأنَّ التلقين عملية تعليمية تفرض فرضا على الطفل من الخارج، وهي بذلك عملية تطبيع وانتهاك للعالم الداخلي للطفولة، فالطفل عندما يلقن لا يسمح له بإبداء رأيه فيما يلقن،، وهو ما يؤدي في النهاية إلى برمجة الأطفال وإكراههم على ما لا رغبة لهم فيه، وبعبارة أخرى، فإنَّ ما يفرض على الطفل من معلومات، لا يتجاوز رغبة الطفل فحسب، بل يتعارض مع هذه الرغبة ويدمرها، والأخطر من ذلك أنه لا يسمح للطفل أو الطالب بمحاكمة هذه المعلومات أو التفكير فيها أو التساؤل حولها وعنها، ومع الزمن، ومع تصاعد هذه العمليات، يفقد الطفل كل إمكانات التفكير والتأمل.

ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أنَّ اغتصاب عقل الفرد واستباحة عالمه الداخلي تتميز بطابع الاستمرار والديمومة، فالعملية تبدأ على أشدها في الأسرة وتأخذ طابعا ممنهجا في المدرسة، وتتحول إلى عملية منظمة في إطار الحياة الاجتماعية بما تنطوي عليه هذه الحياة من منظومات فكرية وأيديولوجية. وهذا يعني أنَّ عقل الفرد ينمو في أجواء مسمومة وفي تربة صماء، فينشأ على حليب العبودية ويرضع من ثدي القهر، وينتهي إلى وضعية هزال وجودي وأخلاقي.

فالتلقين يشكل، جوهريا، العملية السيكولوجية التي يتم فيها ومن خلالها وضع المتعلم في دائرة العبودية ويتم تفريغه ذهنيا بواسطة الإكراه المعرفي، لأنَّ إمكانات الطفل العقلية في هذه العملية تتبدد، حيث يجب عليه، على مدى سنوات طويلة، أنَّ يردد ما يلقنه إياه المعلم، وأن يحفظ ما يأمره به، وأن يستظهر النصوص التي تملى عليه، وأن ينفذ إرادة المعلمين وأوامرهم في طرفة عين. ويمنع عليهم إبداء مظاهر الإبداع أو التوجه نحو أي شكل من أشكال التجديد، وهذا غيض من فيض الممنوعات التي يجب على المتعلم أنَّ ينتهي عنها في النظام التربوي السائد والقائم على التلقين. وبعبارة أخرى يمكن القول إنَّ التلقين يمثل عملية غسل دماغ حقيقية، يتم فيها تفريغ عقل الإنسان وإرادته من كل أشكال المبادهة العقلية أو الذهنية الخلاقة، والطفل في نسق هذه العملية لا يكون أكثر من مجرد وعاء ذهني يُشحن بالمعلومات والنصوص التي لا تتصل بحاجاته واهتماماته أو وجوده، ويُثقل عليه بهذه المعلومات الجزئية إلى الدرجة التي يتم فيها إغلاق منابت التفكير، وتدمير كل أشكال النزوع العقلاني إلى أنَّ يتم إخضاعه وضمه إلى قطيع الدهماء.

ويمكن لنا أنَّ نقول في هذا السياق إنَّ عملية التلقين تتجاوز حدود العبودية الصرفة إلى عبودية أدهى وأمر وأشد، هي عبودية العقل والمعرفة، وهي العبودية التي يتم فيها برمجة العقل بصورة اغترابية، وتدمير ملكة الحكم، والإثقال على الذاكرة، وتغييب روح المبادرة والمبادهة عند أفراد المجتمع. وبمرور الزمن، ومع استمرار هذا الأسلوب الخطير في مختلف المراحل الدراسية، يتحول الإنسان إلى حالة صنم ناطق يضج بغبار المعرفة، ونثريات الذاكرة، وشظايا متفجرة من القدرة على التفكير الإنساني الحر الخلاق.

ومع نهاية السلم التعليمي وتحت تأثير آليات الإكراه العقلي والمعرفي يتحول الإنسان إلى وضعية اغتراب عقلية ونفسية تتميز بطابع الشمول والعمق، وعلى هذا النمط يتحول إلى أداة طيعة مستلبة ومقهورة توظف في خدمة أنظمة القهر السياسية والاجتماعية القائمة.

ويبقى القول الفصل لعلماء النفس الذين أبلوا في الربط بين التلقين وقتل العفوية عند الطفل، وقد انبرت ميلاني كلاين (Melanie Klein, 1882-1960)- أحد أبرز وأهم علماء النفس والتحليل النفسي في مجال الطفولة- لهذه القضية ومنحتها كثيرًا من اهتمامها، إذ أجرت دراسة للعوامل الاستلابية للتلقين والكبت في تدمير القوى العقلية للطفل والراشدين، واستطاعت أنَّ تدلي بدلوها في تفسير الكيفيات التي يتم فيها تدمير الطاقة الإبداعية عند كثير من الأطفال الذين أبدوا مواهب حقيقية في مرحلة الطفولة الأولى، أي: في المرحلة ما قبل السادسة من العمر. في هذا السياق، سبق لكلاين أنَّ لاحظت ما يسمى تراجع طاقة الذكاء عند بعض الأفراد الذين عرفوا في طفولتهم ذكاء مميزا، فكثير من الأفراد الذين شهد لهم بدرجة عالية من الذكاء في مراحل طفولتهم الأولى تراجعت قدراتهم الذّهنية في مرحلة الرشد. ومرد ذلك - كما ترى كلاين - أنَّ هؤلاء الأفراد كانوا قد تعرضوا إلى تربية تلقينية مجحفة أطاحت بإمكانات نموهم الذهني وأدت على الأقل إلى محاصرتها واعتقالها. وهي في هذا السياق تعتقد أنَّ عملية كبت النزعات الطفلية البدائية والجنسية عند الطفل تؤدي بدورها إلى اغتيال طاقاته الذهنية وقهر إمكانات نموه عقليا وذهنيا (فيلو، 1996).

فعقل الطفل يدمر بجرعات ملوثة من المفاهيم والتصورات القسرية التي تفسد عملية نمائه وتطوره الذهني 1964) Klein,). وهذا يعني بالضرورة أنَّ إكراه الطفل على تمثل أفكار ومعتقدات جاهزة يمثل عملية تؤدي به إلى التهلكة الذهنية والعقلية حيث تقتل فيه مختلف ميول الإبداع واتجاهات التفكير الحر السليم. فالطفل الذي يتلقى أفكارا ومفاهيم أسطورية وخيالية، مدفوعا إلى الإيمان بها، وكرها على أنَّ يأخذ بها على أنّها عين الحقيقة والواقع يتعرض لضرر ذهني واضح قوامه أنَّ الطفل يفقد إيمانه بمنطق الرؤية الموضوعية والحسية والمنطقية للأشياء، ويتحول إلى كائن خرافي في مستوى ذهنيته، ويعتاد القبول بالأشياء الخيالية والأسطورية، وينزع إلى الاستكانة والخضوع والاستسلام1959) Klein,).

2- التعليم البنكي الاستلابي في العالم العربي:

يشكل التلقين بوصفه تطبيعا وترويضا منهج حياة ووجود في المجتمعات المتخلفة، ومنها المجتمعات العربية. والترويض فلسفة تربوية ضاربة الجذور في أعماق وجودنا الثقافي قبل أنَّ تكون منهجا تربويا أيديولوجيا في المدارس والمؤسسات التربوية بعامة. وهذه الوضعية الترويضية لا تتم على نحو عفوي واعتباطي كما يخيل للبعض، بل تمثل منهجا سياسيا ثقافيًّا اجتماعيا تفرضه أنظمة القهر والاستبداد في عالمنا العربي. ويمثل التلقين إحدى أهم وأخطر الوسائل الثقافية التي تفرضها القوى الاجتماعية التي تهيمن في المجتمع، أو لنقل بأنها أفضل أدوات النخب الحاكمة في فرض حالة من التطويع والترويض والإخضاع للأفراد والجماهير في المجتمع. فالاستبداد السياسي والاجتماعي والثقافي لا يتم في مجتمعات حرة، وفي مناخات تسودها العقلانية ويحكمها العقل والتنوير، وعلى هذا النحو يأتي التلقين الترويضي تعبيرا عن حالة اجتماعية سياسية لأكثر الأنظمة الاجتماعية تسلطا وهيمنة واستبدادا. وباختصار يمكن القول: إنَّ التلقين هو مظهر من مظاهر التسلط والاستبداد السياسي الثقافي في المجتمعات المتخلفة.

فالتلقين يسود ويهمين في الثقافة العربية وفي كل مظاهر الحياة التربوية، وهو ما أكّده عبد الله عبد الدايم في قوله: "إن كل ما في الحياة العربية من كتاب ومعلم وامتحانات ومناهج وطرائق ما زال ينتسب إلى مرحلة اجترار المعرفة وخزنها، وتغليب الألفاظ على الأشياء، وتفضيل النظر على العمل، وتقديم الجدل العقلي على البحث المنهجي، وإيثار التقليد على التجديد أولا وآخرا " (عبد الدايم، 2000، 248).

ولا يتردد سعد الدين جلال في التأكيد على هيمنة منهج التقليد في التربية العربية بالقول: إنَّ التلقين "يأخذ كآلية للتنشئة الاجتماعية أحيانا صورا مبالغا فيها في الثقافة العربية، حتى الوظيفة التحليلية والنقدية للعقل عند الفرد العربي تتعطل وتضمر وتحل مكانها وظيفة التذكر والحفظ " (جلال، 1985، 188). يذكر الكاتب تقليدين شعبيين في مصر عند الولادة والوفاة: "في اليوم السابع للولادة يجري الاحتفال بتسمية الطفل، ويُحمل الطفل الوليد ومن ورائه الكبار والصغار بالمدقات عالية الصوت مرددين إذا كان الوليد ذكرا " اسمع كلام أبوك ما تسمعش كلام أمك". وعند الوفاة يجلس أحد المقرئين بعد دفن الميت يلقنه ما يقوله عندما تأتي الملائكة لحسابه فيقول له: إذا جاءك ملاكان وسألاك عن اسمك فقل اسمي عبد الله "كذا وكذا " وعشت مؤمنا بالله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا سألاك "عن كذا فقل كذا " وهكذا دواليك " (جلال، 1985، 188).

ويصف محمود أحمد مرسي هذه الوضعية الترويضية في التربية العربية فيقول " إنَّ المناهج في الوطن العربي تركز على المعلومات وليس على طريقة التفكير والبحث العلمي وتسلسل الأفكار والفهم الصحيح، والخلل الأساسي في المناهج المتبعة هو الحفظ لأنَّ إنتاج الطالب يحدد بما يحفظ وليس بما يستطيع أنَّ يخلق ويبتكر، والنتيجة في النهاية لا تهدف بأي حال من الأحوال إلى غرس ملكة الابتكار والاعتماد على النفس عند المتعلم (مرسي، 1985، 142).

ويعالج المفكر المصري سعيد إسماعيل علي، المسألة الاستلابية في التربية العربية، فيؤكد على حضور التلقين السلبي في التربية العربية، وهيمنته في مختلف المؤسسات التربوية، بما في ذلك المستويات الجامعية، ذلك أنّنا نجده، كما يقول، في "البيت ونجده في المسجد، وفي الكنيسة، وفي كثير من الصحف والمجلات، وفي أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة، حيث يسير التفكير في اتجاه واحد، من ممثل السلطة، سواء كانت هذه السلطة أبوية أو دينية، أو سياسية، أو تربوية، بغير إتاحة للطرف الآخر بأنَّ يقرأ، أو يسمح له بمراجعة والتفكير والنقد..إن هذا النمط من التربية إنما هو عملية "إخصاء" للعقل البشري تكون نتيجتها عجز هذا العقل عن أنَّ يلد أفكارا جديدة، إذ سوف تقف به قدرته عند حد الترديد أو التكرار" (علي، 1994، 19).

ويتناول محمد رؤوف حامد فتح الله الشيخ مسألة التلقين والتعليم العربي الاستلابي مؤكدا حضوره الشامل وهيمنته في مختلف مناحي الوجود التربوي والثقافي العربي، ويرى أنَّ هذا النمط من التربية يؤدي إلى كارثة اللاعقلانية في التفكير العربي وينمي حالة التخلف الشاملة بكل دلالاتها ومعانيها في المجتمعات العربية، ويعبر عن تصوراته هذه في مقالة مهمة حول المعاناة اليومية للعقل العربي فيقول: "نحن لا نعاني من طريقة بعينها يسلكها العقل العربي.. لكننا نعاني من لا عقلانية هذا العقل.. هذه اللاعقلانية تمتد من المدرسة إلى الجامعة.. حيث طرائق التدريس التلقينية المتهالكة.. وحيث الامتحان هو السلطان.. والحفظ والاستظهار والتكرار هو الأسلوب.. ذلك كله في غيبة المنهج النقدي.. وفي غيبة الشكل العلمي.. وهكذا دواليك تسير الأمور في الجامعة حتى إنَّ الجامعات العربية استنسخت من كثير من أبنائها أساتذة بعيدين عن الأسلوب العلمي في التفكير وعن الالتزام بالمنطق ومشاكل الوطن، وكذلك بعيدين عن شجاعة الممارسة لحياتهم كأساتذة" (الشيخ، 1983).

وفي مداولة أخرى يشير سامح سعيد عبود إلى مخاطر التلقين في مؤسساتنا التربوية ويرسم لنا صورة مأساوية عما يجري في هذه المدارس فيقول:” في مدارسنا يدرسون للطلاب الكيمياء والفيزياء والرياضيات في شكل معادلات مطلسمة أي غير مفسرة لكي يحفظوها عن ظهر قلب، دون أنَّ يفهم الطلاب ما يحفظونه ودون أنَّ يسألوا عما يجب أنَّ يفهموه، وهو لماذا ترتبط مثلا الذرات وكيف؟ وما الذي يربطها ويفككها عن بعضها؟، وهل من ضرورة وراء هذا أم أنَّ الأمر متوقف على إرادة ما أو هدف معين؟ وهم لا يكترثون بذكر طاقة الترابط التي تلزم لأحداث الترابط بين الذرات أو التي تنتج عن تفككها " (عبود، 2002). ومن ثم يحدد عبود الآثار المدمرة لهذه الطريقة على العقل والإنسان فيقول: " يُترك الطلاب الذين لم يتعودوا لا على المناقشة أو الفهم أو النقد، ولم يتدربوا على ممارسة ملكات التحليل والتركيب والربط، وإنما يقتصر الأمر لديهم على التلقي والحفظ على غير فهم بلا ثقة غالباً فيما يحفظ، وبالتالي يسهل على عقليات غير نقدية تعودت على المصدر الواحد والرأي الواحد في كل شيء بما في ذلك المعرفة والعلم، أنَّ تفسر شتى الظواهر من حولها بشكل متعسف ومتعصب، وأن تصبح أسيرة التفسيرات الجاهزة مهما بلغت درجه سذاجتها، وأن تظل طيلة حياتها أسيرة ما هو شائع ومألوف من معتقدات وآراء، وأن يظل أصحابها سجناء ذواتهم ورغباتهم وعواطفهم، مذعورين من النظر خلف جدرانها المظلمة " (عبود، 2002).

3- الدور الاستلابي للتلقين:

إنّ السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المستوى من البحث هو: لماذا يحاول الطغاة تبديد القدرة العقلية عند الأجيال والطلبة؟ والإجابة، ولا شك، يسيرة؛ فالمجتمعات القائمة على أساس الاستبداد والاستغلال والتسلط تسعى إلى بناء الإنسان المستلب المدجن الذي قتلت فيه إمكانات النقد وحرية البحث والقدرة على التفكير والكشف، تسعى إلى بناء إنسان بمواصفات العبيد الذي يؤمنون بأهمية الحفاظ على امتيازات أسيادهم ويفاخرون بها.

لقد أعلن حكماء الإنسانية وفلاسفتها، على مرِّ الأزمان، أنَّ العقل والعبودية لا يجتمعان، وأن العقل توأم الحرية فحيثما ازدهرت ازدهر، وحيثما وجد العقل تألقت الحرية. ولذلك عرف جلادو التاريخ بنشوة الميل إلى اغتيال العقل الإنساني أينما وجدوه، وإلى استئصال شأفة التفكير في كل مكان وزمان. وعلى هذا الأساس يؤدي اغتيال العقل عند الأطفال، في صورة التلقين والتعليم البنكي، دور السادن الذي يسهر على توليد منطق العبودية في عقول الأطفال والناشئة. ومن هذا المنطلق "يشجع القاهرون مفهوم التعليم البنكي ويفرضون سيطرة أبوية على النظام الاجتماعي الذي يتلقى فيه المقهور تعليمه" (علي، 1995، 204).

والتلقين هنا بوصفه طريقة في العيش ومنهجا في التأمل وموقفا في الحياة يؤدي إلى التخلف في مختلف مظاهر الوجود والحياة، وهذا الربط العميق بين التخلف الثقافي والتلقين الترويضي يتجلى واضحاً في منظور فيليب كومز (Philip combs) الذي يقول "إن طرق التدريس المتبعة تعتمد أساسا على أسلوب التلقين من قبل المعلم، وإن شيوع مثل هذه الطريقة يمثل أحد الأسباب التي أدت إلى التخلف الثقافي للدول النامية، فالمعلم الذي يفضل مثل هذه الطريقة يلحق الأذى بطلابه ومريديه، ويبدو لنا أنّ السبب الذي يجعله يعتمد هذا النمط من التّعليم، هو أولا، وبكل بساطة الرّكون إلى ما اعتاد عليه، ولأنّه ثانيا يبدو أكثر سهولة في عملية ضبط التلاميذ والسيطرة عليهم، كما أنَّ الطالب يفضل مثل هذه الطريقة أيضًا لأنها اعتادها، ولأنها في الوقت نفسه تخفف عنه أعباء البحث والتعلم الذاتي" (كومز، 1971).

ومع أنَّ التلقين والتعليم التلقيني قديم قدم التاريخ كوسيلة في تطويع الشعوب وترويضها، فإنَّ هذا التلقين كان يشهد طفرات من التطور في أساليبه ومضامينه ومحتوياته الأيديولوجية. ويعد الشكل الذي تم تطويره على يد بيل لانكستر (Bill Lancaster) من أكثر الأشكال خطورة وفظاعة في قدرته على تجهيل الشعوب ووضعها في دائرة العبودية والقهر والاستلاب. وليس من المصادفة في شيء أنَّ يبدأ هذا المنهج في الهند في كنف شركة الهند الشرقية سنة 1795 علي يد الدكتور بل، ومن ثم في إنكلترا علي يد جوزيف لانكسر، وفي فرنسا في المدارس الصغيرة (petites écoles) وعلى يد البروفسور أندريه جندوره بين سنوات 1800-1835 ونجد وصفا دقيقا له في كتاب تيموثي ميشيل Timothy Michael)) عن الاستعمار الثقافي للهند ومصر وبقية المستعمرات، باعتماد هذا المنهج المطور والأكثر قدرة على تدمير العقول والاستلاب الثقافي للشعوب (ميشيل، 1990). وفي هذا الكتاب نجد إقرارا واضحاً بأنَّ الاستعمار البريطاني قد عمل، بعد الاستيلاء على أجساد المصريين والهنود، ومقدرات وجودهم بطريقة ممنهجة على امتلاك أرواحهم بإدخال منهج بل/لانكستر إلى كل منهما (النقيب، 1993، 9). وهذا يعني أنَّ الاستعمار اعتمد التلقين في الغزو الثقافي للبلدان التي استولى عليها، واعتمدت الحكومات الاستبدادية فيما بعد الاستقلال المنهج ذاته في تدمير البنية الثقافية لمجتمعاتها، وترسيخ الهيمنة السياسية وضمان الرضوخ الثقافي والأيديولوجي في مجتمعاتها. ويؤكد خلدون النقيب هذا التوجه الاستلابي للتربية العربية، فيقول في هذا الصدد: إنَّ المدرسة العربية تسعى إلى تلقين الطالب مبدأ الطاعة العمياء والمحافظة على قيم ومعايير المجتمع التي تحافظ على وضعية المجتمع الراهنة.... فجزء كبير مما يتعلمه الطالب ليس له علاقة بمحتويات الكتب والدروس، وإنما هو سعي لتلقين الطالب الطاعة، وجعل التلميذ يستهلك سلبيا كل التجهيزات القيمية والأيديولوجية التي يزخر بها أي مجتمع (النقيب، 1993، 70).

ونجد تأكيدا لهذا التصور فيما ذهب إليه عبد الهادي عبد الرحمن بقوله: "إن الوسائل التربوية المعتمدة في التربية العربية تشبه كثيرًا وسائل غسل الدماغ، أي إنها وسائل ترديدية تعتمد أساسا على حشو الرؤوس بمادة كثيفة ثقيلة تزرع زرعا في المخزون الذاكري لأطفالنا وتلاميذنا وطلابنا " (عبد الرحمن، 1993، 16). ومما لا شك فيه أنَّ هذه المادة المكثفة تشكل المضمون الحيوي للسيطرة الثقافية والهيمنة على مقدرات الشعوب العربية بوضعها في دائرة الاغتراب والاستلاب في مختلف مستوياته وتجلياته. وهذا يعني أنَّ المدرسة العربية لا تعدو أنَّ تكون مؤسسة أيديولوجية تهدف إلى ترويض شعوبها وتطويعهم لإرادة النخب السياسية والاجتماعية القائمة. وهذا ما يؤكده الباحث القطري علي الكواري، إذ يقول منددا بالوظيفة الاستبدادية للتلقين في العالم العربي: "إن النظام التربوي لدول المنطقة يغرس ويؤكد روح الاستسلام والطاعة والسكوت عن الخطأ وتقبل كلّ الآراء دون اقتناع" (الكواري، 1985، 99). وباختصار شديد نقول مع رضا بأن: "النظم التربوية العربية التلقينية تسعى إلى الضبط الاجتماعي بدلا من تكريس الحرية المترتبة على المعرفة، وإلى توليد المسايرة والانصياع لمعايير الجماعة للمحافظة على الوضع القائم بدلا من زرع روح التمرد المبدع البناء" (النقيب، 1993، 68).

4- حضور التلقين في الجامعات العربية:

ليس على المرء أنَّ يبحث كثيرًا عن أدلّة تؤكّد حضور التلقين كمنهج للتجهيل في الجامعات العربية، ولئن كان التلقين في المدارس التعلمية ما قبل الجامعية خطيرا، فهو أكثر خطورة وأشد فتكا في الجامعات العربية. وليس من المبالغة القول بأنَّ التلقين في جامعاتنا يشكل ظاهرة خطيرة ومأساوية، فالجامعات العربية تكرس التلقين وتعزز التعليم البنكي، الذي عرفناه في المؤسسات المدرسية، ومن ثم تضفي عليه صبغة علمية، فتعمل على تجميله وترسيخه كمنهج أساسي في مختلف مناحي العمل العلمي والتربوي في الجامعة. ومن حيث المبدأ نقول بأنَّ جامعاتنا العربية تخلت عن دورها في البحث العلمي ووظفت نفسها في عملية التلقين والتدريس بالدرجة الأولى. وإذا كان التلقين في المدارس يتمّ وفق مناهج محددة وقواعد واضحة فإنَّ التلقين في الجامعات يأخذ طابعا حرا لا ضوابط له ولا حدود. وهذا يعني أنَّ التلقين الذي نراه في الجامعات أشد وأدهى بكثير من مثيله في المؤسسات المدرسية التي تخضع لإدارات وزارية يتم فيها ما يجب أنَّ يلقن ضمن حدود معلومة وقواعد مرسومة. في الجامعة ربما تكون السمة الأساسية للحرية الأكاديمية في حرية الأستاذ الجامعي بممارسة التلقين والترويض ضمن ضوابط التجهيل والتدمير الممنهج للعقل، وذلك في الوقت الذي يمنع فيه هذا الأستاذ الجامعي من أنَّ يمارس دورا تنويريًّا في الجامعة أو أنَّ يبدي مثل هذه التوجهات الثقافية التي تشكل خطراً على الأنظمة الاجتماعية القائمة. وتتويجا لإرادة التجهيل يمنح الأساتذة الحق بانتهاك حرية العقل والعقلانية في الجامعة. ومن ينظر في الحياة الجامعية سيرى أنَّ الجزء الأهم من وسائلها وطرقها التعليميّة هي المذكرات والمختصرات والامتحانات والحفظ والاعتباط الثقافي، والأستاذ الذي يملي نصوصه وأوامره على الطلبة الذين لا يسمح لهم أبدا بإبداء الرأي والخروج على مبدأ الطاعة المطلقة للأستاذ الجامعي.

وضمن هذا التصور يمكننا أنَّ نقول: إنَّ الجامعة، بوصفها حرم الحرية والضمير، قد تحولت في مجتمعاتنا إلى فضاء للتلقين والتجهيل، حيث يكون العلم حفظا، والمعرفة طاعة، والمنهج مذكرات، والنتيجة أمية ثقافية تطبق على العقل والقلب، ويتضاءل معها الضمير والوجدان، حيث يكون الحصول على الشهادة والدبلوم هو الغاية المطلقة الأولى والأخيرة للطلبة، وتكون وسيلتهم في تحقيق ذلك الحفظ والاستظهار والطاعة والإذعان لمذكرات فارغة من المعنى والدلالة.

ويمكننا القول، استنادا إلى تجربة شخصية في التعليم امتدت على مدار خمس وثلاثين سنة في جامعات عربيّة كثيرة: بأنَّ التلقين يشكل المنهج الأساسي الذي يعتمد في جامعاتنا العربية بلا منازع، وأن هذا التلقين هو أخطر بكثير من هذا الذي نراه في المدارس والمؤسسات التعليمية المختلفة ما قبل المرحلة الجامعية، لأنَّ التلقين في الجامعة ليس له ضوابط أو حدود، فالتلقين هو الحقل الذي يستطيع فيه الأستاذ الجامعي ممارسة هيمنته وإشباع غروره ونزعات التسلّط فيه. وغني عن البيان أنَّ التلقين يفرز مظاهر كثيرة تعززه ويعززها مثل الغش والخداع والجهل والفساد، فالتلقين لا يمكنه أنَّ يوجد دون مساندة من هذه الأمراض القاتلة في الجامعة. وقد لاحظنا، خلال تجربتنا المديدة في التعليم، أنَّ كثيرًا من الأسئلة الامتحانية التي تسمى "موضوعية" وتقتضي إجابة بالنفي أو التأكيد لا تحمل أي معنى، وليس فيها أي دلالة منطقية، ولا يمكن فهمها من قبل طالب أو أستاذ جامعي، وأجزم أنَّ واضعيها لا يفقهون ما تنطوي عليه هذه العبارات الامتحانية إلا بما تصوره لهم أوهامهم الخاصّة.

لن أسهب في سرد تجربتي الأكاديمية الشخصية، إذ تعضدها تجارب كثير من أساتذة الجامعات والأكاديميين الذي عرفوا بإنتاجهم العلمي وحضورهم الفكري في العالم العربي، وهم نخبة من المفكرين أسهموا أيّما إسهام في نقد الظَّاهرة الجامعية وتحليل مساراتها وإشكالياتها ونقائصها،

يقول شبل بدران وهو من الباحثين المخضرمين في مجال البحث العلمي في كتابه الموسوم (التعليم الجامعي وتحديات المستقبل): "يمكننا أنَّ نؤكد بدرجة عالية من الثقة أنَّ تعليمنا الجامعي يعيش في ثقافة الذاكرة ويكرسها ويدعمها، وتلك الثقافة تعتمد بالدرجة الأولى على مفاهيم مغلوطة عن الذكاء والقدرات العقلية، وتختزل التعليم في عمليات التذكر والاستذكار، وتلك العمليات ترتبط بالدرجة الأولى بنمط وأسلوب من التدريس هو التلقين، وكل من ثقافة الذاكرة وتقنية التلقين في غرس المعارف والعلوم في عقول شبابنا تكرس نمطا من التعليم الجامعي لا يسعى ولا يعرف طريق تغيير الواقع أو الاستجابة لمستجدات العصر على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي (بدران، 1999، 24).

وتتجلى أزمة الجامعة – كما يقول عمر كوش - في عدة ظواهر: "منها ما بات يُعرف بظاهرة سلطة المدرجات، حيث يقوم الأستاذ بجمع طلابه في المدرج، ويلقي عليهم محاضرته العصماء، غير القابلة للحوار والنقاش، ولا يتقبل ملقيها أي نقد أو اعتراض، ويمنع الأسئلة. وهذه السلطة تجعل المعرفة أحادية، ومنغلقة على صاحبها، وتقتل علاقة التفاعل بين الأستاذ والطالب، وتدعم نهج التلقين والقضاء على البحث والتقصي، وتحجم العلم والمعرفة، وتؤسس لسلطة أخرى هي سلطة المقرر الجامعي، حيث يتحول المقرر إلى أداة لتحجيم العلم والعقل العلمي، وتثبط من همة الأستاذ والطالب في الوقت نفسه، وتحدّ من قدراتهما. وفي أغلبية الكليات يتحول المقرر إلى ملخص هزيل، يباع في الأسواق، ويحبل بالسرقات العلمية " (كوش، 2010).

هذه هي الحقيقة المرة التي يجب أنَّ نعترف بها وهي هيمنة التلقين بوصفها ممارسة ضد العقل والعقلانية في الجامعة وفي مؤسساتنا التعليمية بصورة شاملة، فالتعليم العربي في مختلف تكويناته الجامعية وما قبلها يعاني من وباء التلقين وتغييب العقل، وفي هذا المعنى يقول سروري "إن التعليم العربي وادٍ غير ذي زرع، ظلّ بناؤه التحتيّ ظلاميّاً كما هو، منذ عصر الانحطاط الذي ساد فيه فكرٌ سلفيٌّ أحاديّ الاتجاه في الثقافة العربية الإسلامية، أطاح بالتراث العقليّ لِلعصر الذهبي، لاسيَّما الفكر المعتزلي. لا يُعلّم الطالب النقد والرفض والتساؤل ومبادئ السببية والبرهنة، ولا يُنمّي فيه العقلية العلمية الصارمة المنتِجة. بالعكس من ذلك، يُعلّمه بامتياز كيف لا يفكر، كيف يلغي الإرادة والعقل، ويعيش حياة الاستهلاك والتقوقع!" (سروري، 2009).

ويصف مرسي موريس هذه الوضعية بقوله: إنَّ أكثر ما يضايق الأستاذ الجامعي هو نقد الطالب لمعلومة جاءت في كتابه؟!! وبدلاً من أنَّ يشجعه على النقد والتحليل كان يعاقبه على ذلك، ويمكن للطالب أنَّ يرسب في المقرر لمجرد أنه عارض الأستاذ الجامعي في معلومة خاطئة؟ (موريس، 2019).

ومن الأردن يحيل الطراونة، ضعف جودة التعليم الجامعي في الجامعات العربية وضعف مخرجاتها إلى ممارسة الأستاذ الجامعي للتلقين المدمر للعملية التربوية. يقول الطراونة في هذا السياق: إنَّ اعتماد منهجية التلقين في الجامعات، وعدم تشجيع الإبداع والابتكار، هو الأمر الذي يحوّل الطالب إلى متلقٍ، ويجعله غريباً عن أي تفاعل أو إيجابية. كما أشار إلى أنَّ دول العالم العربي تهتم بتخريج معلمين أكثر من تخريج مفكرين وباحثين، والجامعات لا تؤدي دورها الأساسي كمنصة لتزاوج الأفكار، إذ تركز على التلقين في مسار فعالياتها الأكاديمية (محرر البيان، 2015).

ويعبر السيد يسين عن هذا الحضور المكثف للتلقين في الأكاديميات العربية بقوله: " النظام التعليمي العربي يقوم على التلقين، ولا يقوم على ما أسميه العقل النقدي، وهذا جزء من مشكلتنا الحقيقية في الوطن العربي، وهذا ما يسهل على عدد كبير من المتعلمين الجامعيين الانخراط في جماعات إسلامية يقودهم أميون وجهلة. بحيث إنك تجد مهندسا أو طبيبا يقوده نجار أو حداد جاهل لا يجيد قراءة آية قرآنية باللغة السليمة، ويجري وراءه. والسؤال كيف دخل مثل هذا الخريج الجامعة وكيف تخرج منها؟ فالجامعة يفترض بها أنَّ تعمل على تكوين العقل النقدي حتى يكون الاختيار رشيدا وبصيرا. وهذه مشكلة من المشكلات الحقيقية" (يسين، 1998، 446).

ويرى الباحث الأردني سورطي: "أن أسلوب المحاضرة الذي يقوم على التلقين يكاد يكون هو النمط التدريسي الوحيد المتبع في غالبية جامعاتنا العربية، ولذلك أصبح كثير من الطلاب الجامعيين العرب يجنحون إلى الاعتماد على الذاكرة في دراستهم، ويميلون إلى تقبل ما يتلقونه أو يقرؤونه في الكتب دون نقد أو تحليل أو تمحيص، وتحول التعليم الجامعي بشكل عام إلى مجرد استذكار وحفظ وتكرار آلي للحقائق المحفوظة بدلا من أنَّ يكون أداة لتنمية الذكاء والتفكير العلمي" (سورطي، 1998، 239).

ويؤكد الكاتب والباحث ماجد مغامس على الحضور المؤلم للتلقين في الجامعات العربية فيقول: " بنظرة شمولية لوضع التعليم الجامعي لدينا نجد أننا ما زلنا نقبع خلف قضبان سجن نظام التعليم البنكي الذي هجره العالم منذ أكثر من أربعين عاما! (مغامس، 2015). ويلفت مغامس النظر إلى هيمنة التلقين بين أساتذة الجامعات وهو النظام التقليدي البالي الذي وصفه (فرايري) بنظام العصور الوسطى. فيقول: "من أهم ما يؤمن به الأستاذ التقليدي كجزء من هويته هو سلطته المطلقة على الطالب، ولأن النظام التعليمي الجامعي في أية ثقافة يؤثر ويتأثر بتلك الثقافة، نجد أنَّ هذه السلطوية تمثل انعكاسا لثقافة حب السلطة المسيطرة على فكرنا. من هنا يأتي الأستاذ الجامعي ليقدم نفسه للطالب على أنه السلطة التي لا تجادل ولا تناقش أكاديميا وشخصيا. تلك الصورة التي تجعل الأستاذ يظهر بصوره تتعدى حاجز طبيعته البشرية ليغدو وكأنه قادم من كوكب آخر" (مغامس، 2015).

ويصف مغامس الغرور الأكاديمي لأساتذة الجامعات وهو نوع من الغرور المعرفي الذي يدفع الأستاذ الجامعي إلى الاعتقاد الوهمي بأنه كلي المعرفة في مجاله "فلا تفوته فائتة من قبل ومن بعد، ولا يعتريه الخطأ في أي معلومة يقدمها ولا تأتيه سنة من نسيان، والأخطر من ذلك اعتقاد الأستاذ الجامعي بفوقيته على الطلبة، فيرفض أي رأي علمي أو فكري يخالف رأيه، ويعتبر ذلك تحديا ومن ثم يواجه ذلك بشتى طرق إطباق فم الطالب" (مغامس، 2015).

ويختتم مغامس رأيه بإدانة التلقين الجامعي والتسلط الجاهل لأستاذ الجامعة ومخاطر هذا التلقين بقوله: "أعتقد أنه قد حان الوقت لنمارس نحن أساتذة الجامعات نوعا من جلد الذات البناء. فنحن لا نقدم علماً فقط. نحن نقدم أنموذجا للطالب يحتذيه في شتى مناحي حياته. من هنا، إذا استمرت عقلية العصور الوسطى في أسلوبنا التعليمي فلا يجب أنَّ نتوقع حدوث التغيير الذي نأمله لا على مستوى الجامعة ولا المجتمع" (مغامس، 2015).

5- دورة التلقين الكبرى للأستاذ الجامعي:

لا يمكن للجامعة أنَّ تنفصل عن أرومتها الثقافية والاجتماعية، ولا يمكن للجامعة أنَّ تتحول إلى أبراج عاجية كما يرى بعض الباحثين بعيدا عما يجري في مجتمعاتها، فالجامعات متأصلة الوجود في المجتمع الذي يكتنفها والثقافة التي تحتضنها، وهي، مع أهمية دورها التنويريّ، لا يمكنها إلا أنَّ تكون نتاجا للمجتمع الذي تحيا فيه ويحيا في أعماقها. فالجامعة مؤسسة تنتمي بالأصالة إلى أهلها، وقد تكون أكثر المؤسسات العلمية إنتاجا للثقافة المجتمعية السائدة، إذ تعمل على إنتاج وإعادة إنتاج الثقافة الاجتماعية التي تحيط بها، فالأساتذة والطلبة والعاملون في الجامعة ينتسبون إلى مجتمعهم ويعبرون عن ثقافته، ويحملون في وعيهم وفي عقولهم البطينة الغامضة - أي في اللاشعور الجمعي والفردي- منظومة القيم الثقافية والمعايير الأخلاقية وهم بالتالي يستبطنون أعمق دلالات هذه الثقافة وأكثرها تأثيرا في حياة الفرد والجماعة. وفوق ذلك كله يحملون إرث المدارس التي تكفلت بتدمير عقولهم وتحويلهم إلى كائنات مطواع خارج نطاق القدرة على الاستبطان النقدي للوجود الإنساني والأخلاقي.

وتأسيسا على هذا التفاعل بين الفرد والثقافة، بين الفرد والمؤسسات التعليمية، يشكل التلقين التربوي بدورته المستمرة من مرحلة الطفولة إلى المراحل التعليمية الجامعية العليا المنهجية الأساسية التي تعتمد في تعليم الأجيال. وهذه المنهجية، كما سبق أنَّ أكّدنا، تؤدي إلى توليد الجهالة الثقافية في الجامعة التي تواكب هذا التوجه وتعتمد التلقين الاغترابي والاستلابي في مناهجها وأساليب عملها، وهذا التلقين نفسه يشكل المدخل الأساسي الذي يؤدي إلى الأميَّة الأكاديمية في الجامعات والمؤسسات التعليمية العليا. فالتلقين - كما أشرنا في مقدمة هذا البحث - هو سبب في الأميَّة الثقافية ونتيجة لها. فالأستاذ الجامعي لا يمكنه أنَّ ينفصل عن الدورة المستمرة لتاريخه التربوي وعن بيئته الثقافية المتجذرة في أعماقه، فالفرد يستبطن بقوة المنظومة الثقافية الذهنية السائدة في المجتمع ويعيد إنتاجها. وهذا يعني أنَّ كل فرد في المجتمع لا يمكن أنَّ يكون في جوهره إلا نتاجا ثقافيًّا وذهنيا للثقافة التي نشأ فيها والقيم التي تشكل أخلاقيا واجتماعيا بموجبها.

ومن المهمّ أنَّ ننظر إلى الدورة الثقافية التربوية العامة التي تشكلت فيها شخصية الأستاذ الجامعي أو أي شخص آخر. فالأستاذ الجامعي وليد البيئة المحملة بأثقال الثقافة الاغترابية منذ مرحلة الطفولة حتى مرحلة الانتهاء من الدراسات الجامعية. وإذا كان الأستاذ الجامعي نفسه قد نشأ في أسرة تعتمد التلقين والتطويع والترويض منهجا في التربية، وتعلم في مدرسة قد أبدعت في تدمير العقل والعقلانية وتجهيل التلاميذ بالتلقين والترويض، وإذ كان قد عاش في مجتمع تنحو فيه أغلب المؤسسات الفاعلة نحوا اغترابيا، وتعمل على تلقين الفرد واستلابه وتفريغه من الطاقة النقدية، سواء في المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية أو في المعسكرات والإعلام وفي الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، فما الذي ننتظره من هذا الأستاذ الجامعي الذي يفترض أنَّ يكون مدججا بالعلم والثقافة والمعرفة؟ هل يمكن لمثل هذا الأستاذ الجامعي الذي تفوق في دراسته بالتلقين والحفظ وحصد أعلى الشهادات العلمية بالاعتماد على الذاكرة والتلقين، هل يمكن له أنَّ يكون مبدعا خلاقا وفاعلا في المستوى الثقافي والفكري؟ أم أنه سيكون بالضرورة منتجا للتلقين، بما ينطوي عليه هذا التلقين من جهالة وتجهيل؟

قد يرى بعضهم فيما ذهبنا إليه ضربا من جعل الأستاذ الجامعي خاضعا إلى نوع من الحتمية السوسيولوجية، وبناء على ذلك لا يوجد هناك مجال أبدا لوجود الأستاذ الجامعي المبدع الخلاق والفاعل في مصير أمته ومجتمعه! والإجابة أنَّ هذا التعميم يشمل النسب العالية من خريجي الجامعة وأساتذتها بفعل عوامل موضوعية متعددة وكثيرة، مثل داء التلقين والتطبيع والترويض في أغلب مؤسسات التنشئة الاجتماعيّة المختلفة. ومن البداهة القول إنّ هذا الحكم لا ينسحب على بعض النخب التي تنفلت من عقال هذا التعميم الخطير لأسباب عديدة يفرضها الواقع، فهناك دائما استثناءات وطفرات أشبه بالنّبت البري العنيد في الصحاري القاحلة. نعم هناك نخب متميزة لكنها محدودة جدا. وهذا رهين بعدد من المتغيرات الموضوعية التي تمكن بعض النخب من تسنم معارج العلم والثقافة. ولكن في المنظور العام وضمن الإحصائيات السائدة، فإنَّ عدد العلماء العرب المميزين قليل جداً بالمقاييس العالمية، ومدى ضلوع أساتذة الجامعة في مجال الإبداع الفكري محدود جداً بالقياس إلى الإبداع الفكري الذي نشهده في الجامعات العريقة المتقدمة. وسنحاول في هذا الكتاب أنَّ نبرهن على هذه الرؤية من حيث تخلف النخب الأكاديمية عن ركب الإبداع العلمي وسقوطها بين مخالب الأميَّة الأكاديمية المحكومة بعدة عناصر ومتغيرات ثقيلة الوزن في تأثيرها القطعي. نعم، هناك نخب نادرة بالمعنى الدقيق للكلمة، وكنتيجة طبيعية لندرتها فإنها لم تستطع أنَّ تشكل قوة حضارية ثقافية في مجتمعاتها، فالقليل من المثقفين الأكاديميين استطاعوا أنَّ ينتزعوا أنفسهم من الاختناق الحضاري لجامعاتهم بأدوائها وأمراضها، فخرجوا إلى عالم النور والتنوير. وقد يكون الحوار التاريخي الشهير الذي جرى بين الإمام محمد عبده والشيخ محمد البحيري عضو مجلس إدارة الأزهر حول تدريس العلوم الحديثة في جامعة الأزهر شاهدا صارخا لتوضيح مآل هذه الرؤية التي صبّ فيها الإمام المتنور جام غضبه على التعليم التلقيني في الأزهر:

- "الشيخ البحيري: إننا نعلّم طلاب الأزهر كما تعلّمنا.

- الشيخ محمد عبده: وهذا الذي أخاف منه.

- البحيري: ألم تتعلم أنت في الأزهر وقد بلغت ما بلغت من مراقي العلم وصرت فيه العلم الفرد؟

- الشيخ محمد عبده: إنَّ كان لي حظ من العلم الصحيح الذي تذكر، فإني لم أحصّله إلا بعد أنَّ مكثت عشر سنين أكنس من دماغي ما علق فيه من وساخة الأزهر وهو الآن لم يبلغ ما أريد له من النظافة"(عبده، 1993، 194).

وكما يبدو من الحوار أعلاه فإنَّ محمد عبده رائد الإصلاح والتنوير لم يستطع أنَّ يكون على هذه الدرجة من العلم والتنوير لو لم يستطع أنَّ يخرج من عباءة الأزهر القائمة على التلقين والترديد ويحطم هذه التقاليد المدمرة للعقل والعلم. فكيف بالأستاذ الجامعي اليوم الذي لم يستطع أنَّ ينتزع من نفسه أمراض التعليم التلقيني من المهد إلى اللحد.

وكثير من المفكرين المبدعين يرون أنَّ عوامل نجاحهم الفكري لم تكن في مثل هذه الجامعات التي تقوم على التسلط والترهيب والتلقين، فكثير منهم تعلم بطاقته الذاتية وقدرته على تثقيف مواهبه وتطلعاته الفكرية. وفي هذا يقول الكاتب الإيرلندي المعروف جورج مور (George Edward Moore) قوله المشهور: "إنني لم التحق بجامعة أوكسفورد ولا بجامعة كمبردج ولكنني التحقت بمقهى أثينا الجديدة، فمن أراد أنَّ يعرف شيئا عن حياتي ينبغي أنَّ يعرف شيئا عن أكاديمية الفنون الرفيعة هذه لا تلك الأكاديمية الرسمية الغبية التي تقرأ عنها في الصحف”، ويبدو أنَّ مور يصف بعضًا من هذه الجامعات بالجامعات الغبية نظرا لما تعانيه من آفات التلقين والترويض في التربية والتعليم.

كثير من الأساتذة الجامعيين تخرجوا في مدارس وجامعات تقليدية متهالكة مفككة، تعتمد التلقين والتسلط والجمود المعرفي، وقد تلقوا علومهم وفق مناهج وطرائق أكاديمية لا تختلف عن هذه التي عرفناها في القرون الوسطى. وبعبارة أدق، لقد تخرجوا في جامعات تملي عليهم حفظ المذكرات والمختصرات، ثم مكنتهم من منهجية النسخ والنقل ورسخت فيهم العداوة لكل ما هو نقدي وجديد ومبتكر وإبداعي وأصيل. لذا تجدهم يعانون من الهشاشة والسطحية في تكوينهم المعرفي والأكاديمي، وهم يحملون في رؤوسهم معارف مغلقة وتلقينات قديمة خاطئة، ولا يحملون في ذواتهم أي قدرة على التفكير النقدي أو التأمل المنهجي في مجالات اختصاصاتهم، وكيف لهم أنَّ يكونوا قادرين على تطوير الطلبة والأخذ بيدهم، وهم عاجزون حتّى عن تطوير أنفسهم، وكيف يكون ذلك وهم يعانون من كارثة الأميَّة والجمود الذهني والانغلاق المعرفي؟

ويعلل الباحث العراقي معن خليل العمر وضعية التلقين في الجامعة والمجتمع، ويرى أنَّ التلقين هو نتاج طبيعي لغياب الأجواء العلمية في الجامعة. وينطلق من هذه الرؤية ليعلن بأنَّ معلوماتنا العربية هي كارتونية –إعلامية تسطح الثقافة عند طلبتها ولا تغرس فيهم روح التفكير بل تكرس عندهم آلية التحفيظ والترديد عن غيب، فلا تسمح لهم بالتفكير واستخدام عقولهم للاستنتاج والاستدلال. والأدهى من كلّ ذلك، كما يقول العمر، أنّ " هذا العمل الذي يقوم به أصحاب الشهادات العليا والألقاب العلمية الرفيعة إنما يوضح لنا بأنَّ هؤلاء المسؤولين من أصحاب الشهادات الرفيعة والألقاب العلمية الراقية وصلوا إلى ما وصلوا إليه بنفس الأسلوب الذي يقومون به، أي إنهم يكررون ما قد تعلموه، وهذه أكبر كارثة تفرضها المؤسسات الجامعية في الوطن العربي "(العمر، 2009، 167).

ويعدّ التلقين أحد أبرز مؤشرات الأميَّة الثقافية والتربوية في الجامعة، فاعتماد التلقين من قبل الأستاذ الجامعي يعني بالضرورة نقصا كبيرا في الشرط الثقافي للأستاذ الجامعي، لأنَّ الثقافة نقد وتفكير وتحليل وتفكيك وتأمل. والتلقين حفظ واستظهار وتسلط، وهو ستار يغطي به الأستاذ الجامعي عورته الثقافية. فالتلقين يعني عدم القدرة على الحوار والتفكير والتأمل، ونقص علميّ فاضح ينال من كفاءة الأستاذ الجامعي ومن جدارته بهذا اللقب. وأعني "بالتلقين أنَّ يُمسِك الأستاذ بكتابٍ في المادة التي يُلقيها فيقرأ منه بتؤدة ورويّة والطلاب يكتبون. وهذا كلّ ما في الأمر. وما على الطالب في نهاية السنة إلاّ أنَّ يُعيد ما لُقِّن بالطريقة التي يختارها: أنَّ يحفظ حفظاً أصمَّ لا يفهم منه شيئاً، أو أنَّ يغش" (الأعرجي، 2003، 364).

ويتحدث أحد الكتاب العرب عن ظاهرة الأكاديمي الملقن، ويميز بينه وبين الأكاديمي العارف فيقول: "إن الأكاديمي الملقن الذي هو أشبه بخزان معلومات، فهو كالتقنيّ، لا يحوّل معرفته إلى أساس لقول جديد. هذا التقنيّ الأكاديميّ، رغم ضرورة وجوده في الجامعة، لكنّه ليس ابناً للحياة، فيما الأكاديمي الذي يملك المعرفة، ويستطيع أنَّ يجعل من المعرفة أساساً لقول جديد: قول في العالم المعيش، هو الذي ينتمي إلى الحياة امتثالاً لحاجة الحياة، وأنا هنا أستخدم مفهوم الحياة بالمعنى الشامل للكلمة: بالمعنى السياسيّ والفكري والمجتمعي والشعري والأدبي والمستقبلي والمشروع. وهذا هو الذي يساعد في تحقيق الأكاديمي معادلة الأكاديميّ والمثقف معاً، فالأكاديمي الذي يبقى داخل أسوار الجامعة، ولا يقدّم للحياة، بالمعنى الذي أشرت إليه، لا ينتمي إلى صنف المثقفين" (برقاوي، 2018).

فالأستاذ الجامعي لا يولد جاهلا أو أميا لكنه محكوم بمنظومة من المتغيرات والظروف التي تدفعه إلى هذا المقام السلبي في الحياة الفكرية والعلمية. وسنعتمد في دراستنا هذه على شهادات إمبيريقية نشطة علميا وأكاديميا في استقراء هذا التصور الافتراضي حول أمية الأكاديمي كمنتج للتعليم التلقيني في دورته الكبرى، بدءا من الأسرة حتى الحصول على شهادة الدكتوراه، وانتهاء بالممارسة المهنية للعمل الأكاديمي في الجامعات العربية. وفي هذا الفصل علينا أنَّ نقرّ ونعترف بأنَّ التلقين يشكل سمة أساسية في التعليم الجامعي والعالي في العالم العربي، وهذا يفسر جانبا كبيرا من جوانب توليد الجهل والأمية الأكاديمية بين صفوف العاملين في الأكاديميات العربية.

والتلقين في كل الأحوال يمثل حالة ضعف ثقافي ومعرفي كبير عند الأستاذ الجامعي الذي يوظفه في أدائه الأكاديمي، فالأستاذ يلجأ إلى التلقين لأنه اعتاد عليه وتشكل في بوتقته بداية، ولأنه لا يمتلك أفقا معرفيا يمكنه من التفاعل المعرفي الحرّ مع الطلبة. لأنَّ التعليم القائم على التفكير والاستجواب الحر قد يكشف ضعف المدرس ثقافيًّا وعلميا أمام طلبته، ويفضح ضعفه اللامتناهي في مجال الفكر والمعرفة، والتلقين بالتالي هو الوسيلة الأنجع التي يعتمدها الأستاذ الجامعي للتغطية على ضعفه ووهنه الثقافي والمعرفي. فالتلقين وسيلة بسيطة تمنح المعلم أو الأستاذ الجامعي سلطة مطلقة نهائية يستطيع بموجبها أنَّ يقوم بتوزيع النصوص، وتوجيه الأوامر إلى طلبته بحفظها واستظهارها دون أي اعتراض، وهذا يعفي المدرس من مغبة الحوار والمناقشة المفتوحة مع الطلبة اللّذين يمكنان الطالب من الخوض في الأصول الفلسفية للمعرفة.

وتبين التجارب التربوية أنَّ الأستاذ الجامعي المتمكن معرفيا وثقافيا لا يلجأ أبدا إلى التلقين بل يسعى، على خلاف ذلك، إلى اعتماد الأساليب الاستبصارية الحوارية والنقدية في التفاعل العلمي مع الطلبة، ويجدها طريقة شفافة جميلة ماتعة. كما يجد في هذا الأسلوب النقدي الحواري وسيلة لتطوير الطلبة معرفيا وثقافيا ومنهجيا. وهو، يجد أنَّ المنهج الاستبصاري الحواري مع الطلبة يساعده أيضًا في تطوير نفسه فكريا وفلسفيا. فعندما يعتمد الأستاذ الجامعي الحوار النقدي مع الطلبة تتفجر ينابيع المعرفة لديه ولديهم، ويُقبل الطلبة بشوق وفعالية على التعليم والاكتساب، لأنَّ الأساليب الحوارية الاستبصارية النقدية تجعل الطالب يعيش حالة نشوة علمية عارمة. ومن المؤكد أنَّ هذه الأساليب الاستبصارية البنائية، تحتاج إلى أستاذ متمكن من اختصاصه أولا، ومتبحر في الممارسة الثقافية ثانيا. وهذا النمط من المدرسين قليل جداً في مؤسساتنا التعليمية. وهذا يعود إلى أسباب كثيرة منها التكوين البيداغوجي للأستاذ الجامعي، الذي اعتمد في الأصل على التلقين في مراحل مختلفة من مراحل إعداده وتعليمه.

6- الخاتمة:

جاء في الأثر أنَّ المعلمين أربعة لا خامس لهم: المعلم العادي الذي يعلم ويلقن، والمعلم الجيد الذي يفسر ويشرح، والمعلم المتميز الذي يشرح بالأدلة والبراهين، والمعلم العظيم الذي يلهم طلبته فيقوم بعملية التنوير وتفجير الطاقات الذهنية والعقلية عندهم. وكم هو مؤسف القول بأنَّ معظم أساتذة الجامعات العربية اليوم ينتمون إلى الصنف الأول. وسنستعرض، في الفصول المقبلة من هذا الكتاب، ما يؤكد هذه الحقيقة في الشهادات الميدانية لعدد كبير من أساتذة الجامعة العرب

ومن نافلة القول أنّنا اليوم بحاجة ملحّة إلى الصنف الذي يلهم طلبته وينورهم ويأخذ بأيديهم إلى غاية العلم الحقيقية، وإلى السدرة العالية للثقافة والمعرفة النقدية. فالمعلم بصيغته الأولى يجهل الأجيال ويضخّم الجهل وينشره دون وعي منه غالبا، فهو، نظرا لانعدام كفاءته النّقديّة، لا يدرك ما يفعل، ولا يعدو أنَّ يكون واحدا من القطيع الذي لا يعرف إلى أين هو ذاهب، ولا خطورة ما يفعله. ومثل هذا الأستاذ لا يمثل أكثر من منتوج لعملية التلقين ودورة التجهيل التي تشكل في مطاحنها ليكون الخلية التي يجد فيها الجهل غايته حتّى يستمرّ في دورته اللامتناهية. وكم نحن اليوم بحاجة إلى الأكاديمي المثقف، الذي ينور ويحلل ويفسر، ويدفع طلبته إلى الاتحاد التنويري مع المعرفة والثقافة والعلم في مواجهة هذا التردي في مستنقعات الجهل والتلقين.

فالتلقين - كما أشرنا - ليس مفردة بسيطة، أو بذرة هائمة تنتج جهلا بحكم قوانين المصادفة، بل هو بيئة خصبة حاضنة للجهل، فيها ينمو ويترعرع ـ ويجد غايته، وهذا يعني أنَّ التلقين هو تعبير عن نظام فكري أيديولوجي قد تمت تهيئته ورعايته من قبل السدنة القائمين على الأمر والنهي في المجتمع، ليتم لهم إخضاع المجتمع لسطوتهم وسيطرتهم. فالتلقين هو المدخل إلى الأميَّة والتجهيل وصناعة التفاهة في مجتمعاتنا.

إن التلقين هو واحد من المتغيرات والعوامل التي تتداخل لتشكل قوة ضاربة وحتمية اجتماعية في نشر الأميَّة الأكاديمية والجهل في المجتمع، وما هو في النهاية إلا محور من محاور الدورة الكبرى في صناعة الجهل وتسييد الأميَّة الأكاديمية والمجتمعية. فالجامعة بكل ما فيها من عوامل ومتغيرات تشكل الحاضن الأكبر لحضور التلقين والتسلط والفساد الأكاديمي الذي يؤدي إلى تهاوي المجتمع وسقوطه.

ومن المؤسف القول إنَّ حياتنا الجامعية لا تحتمل اليوم أكاديمياً متنورا مثقفاً يجيد الحوار ويمتلك القدرة على التنوير ويشارك طلبته في الهم المعرفي والفلسفي، الأستاذ المثقَّف البارع في اختصاصه، الأستاذ الذي نذر نفسه للمعرفة والتساؤل المعرفي، الأستاذ الذي يستنير بالمناهج الفلسفية والمعرفية الكبرى، لأنَّ أمثالهم يشكلون خطراً على الأنظمة الاجتماعية القائمة. وكم نحن اليوم في أمس الحاجة إلى المثقَّف الأكاديمي لا إلى الأكاديمي الملقن الذي يستظل بأسوار الجامعة ويحتمي بحصونها بعيدا عن الحاضن الفكري والثقافي القائم على هواجس الفكر النقدي. فهناك اليوم "فرق كبير بين أكاديميي التذكر وأكاديميي الإبداع؛ فأكاديميّو التذكّر ليسوا سوى حفظة لمعرفة كانوا تعرفوا عليها دراسةً، ثمّ راحوا يتذكرونها لتقديمها إلى الطلاب، حتى كتبهم لم تكن سوى تذكّر وإحالات، بعضها بين قوسين وبعضها بلا أقواس، وهذا ما أطلقت العرب عليه مصطلح "التقميش" (برقاوي، 2018). أمّا "الأكاديمي المبدع؛ فهو الذي ينتج المعرفة استناداً إلى مبدأ القطيعة، إنّه الذي يقرأ وينسى ليجدّد، وبئس جامعة لا تهب لصاحبها أجنحة للطيران خارج أسوارها، فحياتنا تحتاج إلى الأكاديمي المثقف، لا إلى الأكاديمي الصنم" (برقاوي، 2018).

وتأسيسا على ما تقدّم من حقائق مريرة تتعلّق بانتشار التلقين بين مدرسي الجامعة لا نستطيع أنَّ نتحدث عن الأستاذ الجامعي المثقَّف المبدع، إذ لا يمكن لأي مثقف وإن لم يكن جامعيًّا أنَّ يمارس التلقين لأنَّ هذه الممارسة تخرج المدرس أيا كانت صفته من دائرة الثقافة ومعناها الإنساني العميق، أي بوصفها نوعا من التفاعل النقدي بين الإنسان والعالم الذي يعيش فيه.

فالحرية " ليست شيئا إضافيا يودع في عقول المواطنين بل هي ممارسة أو استجابة واعية نحو العالم، ولذلك فإنَّ هؤلاء الذين يستهدفون تحرير الإنسان حقا لا يمكنهم أنَّ يقبلوا المنهج الآلي (البنكي أو التلقيني) الذي يحول الإنسان إلى إناء يتوجب ملؤه، بل يعملون على تحويل التعليم إلى أداة لتحرير الإنسان من خلال توجيه هذا التعليم نحو مشكلات المتعلمين وتبني منهج الحوار والتغذية الراجعة وأساليب الديمقراطية في العملية التربوية" (علي، 1995، 216).

ومن المؤكد أنَّ النظام القائم على التلقين يروض، ولكنه لا يهذب ولا يربي (عبد الدايم،1978، 529). "فالترويض هو تقنية تكافئ فعل التربية في عالم الحيوانات، ولكن هذه التقنية يمكن أنَّ تمارس على الإنسان، ويحدث الترويض عندما يتم تطويع الأفراد، عبر أواليات التهديد والمكافأة، على تنفيذ ما يطلب منهم وما ينتظر، بصورة عفوية وآلية"(عبد الدايم،1978، 529).

إن هذه الأسباب غير كافية لجعل بعض المدارس والجامعات مراكز للتلقين والترويض والإخضاع وإكساب السلبية واللامبالاة والخنوع، ولذلك أصبحت بعض مؤسساتنا التعليمية معرضة للتسلط، حيث يسودها الطابع الاستبدادي إلى حد كبير، فلا يعرف طلبتها الحرية والشورى بل يمارسون الطاعة والخضوع والاستبداد، وأصبح دورهم الرئيسي التقبل السلبي والانقياد، فتعليمنا بشكل عام لا يبنى على مطالب البحث والتنقيب والاكتشاف وإنما يعتمد غالباً على الاستقبال القائم على الخضوع والتنفيذ الآلي (عبد الموجود، 1981).

وختاما نخلص إلى القول: إنه لا أمل كبير في الجامعات القائمة على التلقين وثقافة النقل والاجترار، وثقافة الإيداع لا الإبداع والحوار " إنَّ التحصين الداخلي للمتعلم لا يكون إلا بترسيخ التفكير الناقد وتأصيل التفكير الحر في مختلف مستويات التعليم ومراحله المختلفة، ولا يكون إلا من خلال العمل على بناء ثقافة السؤال، ومنهج الحوار والنقد والتحليل والكشف الإبداعي " (عبد الحميد، 2004).

***

علي أسعد وطفة

كلية التربية – جامعة الكويت

.................

مراجع البحث:

الأعرجي، محمد حسين (2003). في الأدب وما إليه، دمشق: المدى، 2003.

بدران، شبل (1999). التعليم الجامعي وتحديات المستقبل، الهلال، يناير.

بدوي، عبد الرحمن (1980). فلسفة الدين والتربية عند كنت، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

برقاوي، أحمد (2018). الحاجة إلى الأكاديمي المثقف، لا إلى الأكاديمي الصنم!، حفريات، 2018-01-31. https://www.hafryat.com/en/node/1083

جلال، سعد الدين (1985). الأسرة والمجتمع والإبداع في الوطن العربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ندوة تهيئة الإنسان العربي للعطاء العلمي.

ربول، أوليفيه (1986). فلسفة التربية، ترجمة جهاد نعمان، بيروت: عويدات.

رضا، محمد جواد (1987). الطفل من الفردانية إلى الشخصانية، الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية، الأطفال العرب ومعوقات التنشئة السوية، الكتاب السنوي الرابع، 1986 _ 1987.

رضا، محمد جواد (1991). أزمات الحقيقة والحرّيّة والضرورة، الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية، سلسلة الدراسات العلمية والموسمية المتخصصة، العدد 22، يناير، الكويت.

سروري، حبيب عبد الرب (2009). اللغة العربية اللغةُ العربية في مهبِّ العولمة.. مشروع إنهاض

سورطي، يزيد عيسى (1998). السلطوية في التربية العربية المظاهر والأسباب والنتائج، المجلة التربوية، العدد47، المجلد12، الكويت.

شرابي، هشام (1991). مقدمات لدراسة المجتمع العربي، بيروت: دار الطليعة.

الشيخ، محمد رؤوف حامد فتح الله (1983). المعاناة اليومية للعقل العربي، المعرفة السورية، السنة 22، العدد 258، آب/ أغسطس.

عبد الحميد، طلعت (2004) تربية العولمة: وتحديث المجتمع، القاهرة: دار فرحة.

عبد الدايم، عبد الله (1978). التربية عبر التاريخ، دار العلم للملايين، بيروت.

عبد الدايم، عبد الله (2000). نحو فلسفة تربوية عربية، الفلسفة التربوية ومستقبل الوطن العربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

عبد الرحمن، عبد الهادي (1993). الذهنية العربية: منظور لغوي، دراسات عربية، العدد 3/4 كانون الثاني /شباط.

عبد الموجود، محمد عزت (1981). أساسيات المنهج وتنظيماته، القاهرة: دار الثقافة.

عبده، محمد (1993). الأعمال الكاملة، تحقيق محمد عمارة، الجزء 3، القاهرة: دار الشروق.

عبود، سامح سعيد (2002). تقدم علمي تأخر فكري: فيض المعرفة اللامتناهي، الحوار المتمدن-العدد: 331، 8/12/2002، شوهد 15/2/2020: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=4261&r=0

علي، سعيد إسماعيل (1995). فلسفات تربوية، عالم المعرفة، العدد 198، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، يونيو/حزيران.

العمر، معن خليل (2009). علم اجتماع المثقفين، دار الشروق للنشر والتوزيع، ط 1، عمان، الأردن.

فرايري، باولو (1980). تعليم المقهورين، ترجمة يوسف نور عوض، بيروت: دار القلم.

فيلو، جان كلود (1996). اللاشعور، ترجمة على وطفة، دمشق: دار معد.

الكواري، علي خليفة (1985). نحو استراتيجية بديلة للتنمية الاجتماعية، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

كوش، عمر (2010). تراجع الجامعات العربية.. الأسباب متعددة والحلول معلومة!، مجلة الاقتصادية، الجمعة 25 يونيو 2010.

http://www.aleqt.com/2010/06/25/article_411132.html

كومز، فيليب (1971). أزمة التعليم في عالمنا المعاصر، ترجمة أحمد خيري كاظم وخالد عبد الحميد، القاهرة، دار النهضة.

محرر البيان (2015). التلقين منهجية طغت في الجامعات العربية فقتلت الابتكار والإبداع، البيان، استطلاع الرأي، التاريخ: 02 أبريل 2015، https://www.albayan.ae/five-senses/culture/2015-04-02-1.2345328

مرسي، محمود أحمد (1985). دور التعليم العالي في إعداد الكفاءات من القوى العاملة، مجلة العلوم الاجتماعية، المجلد13، العدد4، شتاء 1985، صص (129-153).

مغامس، ماجد (2015). سلطوية الأستاذ الجامعي،  مركز الدراسات والأبحاث العلمانية في العالم العربي:

خيارات وأدوات، 4/6/2015.

http://www.ssrcaw.org/ar/show.art.asp?aid=470942

موريس، منسي (2019). التعليم المصري بوابة تؤدي إلى الجهل، مركز الدراسات والأبحاث العلمانية في العالم العربي، 019 / 4 / 15.

http://www.ssrcaw.org/ar/show.art.asp?t=2&aid=634272

ميشيل، تيموثي (1990). استعمار مصر، ترجمة بشير السباعي وأحمد حسان، القاهرة: سينا للنشر.

النقيب، خلدون حسن (1993). المشكل التربوي والثورة الصامتة: دراسة في سوسيولوجيا الثقافة، الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية، سلسلة الدراسات العلمية الموسمية المتخصصة، العدد 19، يوليو/ حزيران، الكويت.

يسين، السيد (1998). الفكر العربي والزمن، أين نحن الآن من نهضة مطلع القرن؟، المجلد السادس والعشرون، العددان الثالث والرابع، يناير/ مارس – إبريل/ يونيو..

Klein , Melanie (1964). Contribution to Psycho-analysis,1921-1945(New York)

Klein , Melanie( 1959). La psychanalyses des enfants, Paris: P.U.F.,.

قائمة المراجع المرومنة بالإنكليزية :

List of roman references in English:

Al-Araji, Muhammad Husayn (2003). In literature, etc., Damascus: Al-Madda, 2003.

Badran, Shebel (1999). University education and future challenges, Al-Hilal, January.

Badawi, Abd al-Rahman (1980). Kent's Philosophy of Religion and Education, Beirut: The Arab Foundation for Studies and Publishing.

Bargawi, Ahmed (2018). The need for the educated academic, not the fetish academic!, Excavations, 01-31-2018. https://www.hafriat.com/en/node/1083

Galal, Saad Eddin (1985). Family, Society and Creativity in the Arab World, Beirut: Center for Arab Unity Studies, Symposium on Preparing the Arab Person for Scientific Giving.

Rabull, Olivier (1986). Philosophy of Education, translated by Jihad Noaman, Beirut: Oweidat.

Reda, Muhammad Jawad (1987). The Child from Individuality to Personality, Kuwait Association for the Advancement of Arab Childhood, Arab Children and Obstacles to Normal Upbringing, Fourth Yearbook, 1986-1987.

Reda, Muhammad Jawad (1991). Crises of Truth, Freedom and Necessity, Kuwait Association for the Advancement of Arab Childhood, Series of Specialized Scientific and Seasonal Studies, Issue 22, January, Kuwait.

Soruri, Habib Abd al-Rab (2009). The Arabic language The Arabic language in the midst of globalization.. A project for revival

Surti, Yazid Issa (1998). Authoritarianism in Arab Education: Appearances, Causes and Results, The Educational Journal, No. 47, Volume 12, Kuwait.

Sharabi, Hisham (1991). Introductions to the Study of Arab Society, Beirut: Dar Al-Tali`ah.

Sheikh, Muhammad Raouf Hamid Fathallah (1983). The Daily Suffering of the Arab Mind, Syrian Knowledge, Year 22, Number 258, August.

Abdel Hamid, Talaat (2004) Globalization Education: and Modernizing Society, Cairo: Dar Farha.

Abdel-Dayem, Abdullah (1978). Education through history, House of Science for Millions, Beirut.

Abdel-Dayem, Abdullah (2000). Towards an Arab educational philosophy, educational philosophy and the future of the Arab world, Beirut: Center for Arab Unity Studies.

Abd al-Rahman, Abd al-Hadi (1993). The Arab Mind: A Linguistic Perspective, Arabic Studies, Issue 3/4 January/February.

Abdel Mawgoed, Mohamed Ezzat (1981). Fundamentals of Curriculum and its Regulations, Cairo: House of Culture.

Abdo, Muhammad (1993). Complete Works, investigated by Muhammad Emara, Part 3, Cairo: Dar Al-Shorouk.

Abboud, Sameh Saeed (2002). Scientific progress Intellectual delay: the infinite abundance of knowledge, Al-Hiwar Al-Modden - Issue: 331, 8/12/2002, accessed 15/2/2020: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=4261&r =0

Ali, Saeed Ismail (1995). Educational Philosophies, The World of Knowledge, No. 198, National Council for Culture, Arts and Letters, June.

Al-Omar, Maan Khalil (2009). Sociology of Intellectuals, Dar Al-Shorouk for Publishing and Distribution, 1st Edition, Amman, Jordan.

Freire, Paolo (1980). Teaching the Oppressed, translated by Youssef Nour Awad, Beirut: Dar Al-Qalam.

Philo, Jean-Claude (1996). The Unconscious, translated by Ali Watfa, Damascus: Dar Maad.

Al-Kuwari, Ali Khalifa (1985). Towards an alternative strategy for social development, Beirut: Center for Arab Unity Studies.

Koch, Omar (2010). The decline of Arab universities.. The reasons are multiple, and the solutions are known!, Al-Eqtisadiah Journal, Friday, June 25, 2010. http://www.aleqt.com/2010/06/25/article_4111132.html

Combs, Philip (1971). The Education Crisis in Our Contemporary World, translated by Ahmed Khairy Kazem and Khaled Abdel Hamid, Cairo, Dar Al-Nahda.

Manifesto Editor (2015). Indoctrination is a methodology that overwhelmed Arab universities and killed innovation and creativity, Al-Bayan, opinion poll, date: April 02, 2015, https://www.albayan.ae/five-senses/culture/2015-04-02-1.2345328

Morsi, Mahmoud Ahmed (1985). The Role of Higher Education in Preparing Competencies from the Workforce, Journal of Social Sciences, Volume 13, No. 4, Winter 1985, pp. (129-153).

Maghames, Majid (2015). Authoritarian University Professor, Center for Secular Studies and Research in the Arab World:

Options and Tools, 4/6/2015. http://www.ssrcaw.org/ar/show.art.asp?aid=470942

Morris, Mansi (2019). Egyptian Education: A Gateway to Ignorance, Center for Secular Studies and Research in the Arab World, 4/15/019. http://www.ssrcaw.org/ar/show.art.asp?t=2&aid=634272.

Michel, Timothy (1990). The Colonization of Egypt, translated by Bashir El Sebaei and Ahmed Hassan, Cairo: Sina Publishing.

Al-Naqeeb, Khaldoun Hassan (1993). The Educational Problem and the Silent Revolution: A Study in the Sociology of Culture, Kuwait Association for the Advancement of Arab Childhood, Seasonal Specialized Scientific Studies Series, Issue 19, July / June, Kuwait.

Yesen, Mr. (1998). Arab Thought and Time, Where Are We Now From the Renaissance of the Beginning of the Century?, Volume Twenty-six, Issues Three and Four, January/March-April/June..

Klein, Melanie (1964). Contribution to Psycho-analysis,1921-1945(New York)

Klein, Melanie (1959). La psychanalyses des enfants, Paris: P.U.F.,.

 

- (نحن نعيش في زمان شديد الغرابة، أصبحنا نلاحظ فيه وباستغراب أن التقدم قد عقد تحالفا مع النزعة الهمجية والبربرية)[1]... سيغموند فرويد

- (بدأت الحضارة عندما قام رجل غاضب لأول مرة بإلقاء كلمة بدلا من حجر).. سيغموند فرويد

مقدمة:

كتب ألبيرت أينشتاين A. Anstien في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وكانت نذر الحرب العالمية الثانية تحوم في السماء، خطابا مفتوحا إلى فرويد لا يخلو من سخرية مبطنة، يقول فيه ما الذي يمكن فعله لحماية الجنس البشري من الحرب ولعنتها؟ ثم يسأل فرويد: هل يمكن لنظريتك في التحليل النفسي أن تقدم شيئا لمنع أي حرب عالمية في المستقبل وتعمل على إيقاف التدمير والعنف في المجتمع الإنساني؟ وفي معرض الرد على هذه الرسالة المفتوحة لأينشتاين يعترف فرويد بصعوبة هذه المسألة ولكنه حسم أمره وقدم إجابته المشهورة التي تتقطر تشاؤما قائلا: للأسف هذا مستحيل لأنني رأيت جذور الحرب في طبيعة الإنسان نفسه ([2]).

ولم تذهب نبوءة فرويد عبثا فلم تمضي عدة سنوات حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية، وأعلن هتلر حربا ضروسا ضد الإنسان والإنسانية وكانت حربا متوحشة مجنونة أدت إلى تدمير منجزات الحضارة الإنسانية وثرواتها الهائلة وانتهت إلى جبال من جثث البشر من شيوخ وأطفال ونساء ([3]).

كتب دولار Dollar وميلير Miller في الصفحة الأولى من كتابهما الكلاسيكي في علم النفس التجريبي "الإحباط والعدوان" 1939 (Frustration et agression) "أنه يجب أن نخص فرويد بالشكر وذلك لأنه صاحب الفضل في تقديم رؤية علمية شاملة ساعدت على تشكيل فرضياتنا الأساسية ورؤيتنا العلمية لمسألة العنف والعدوان ([4]).

يكتشف فرويد في نسق جهوده العلمية وبصورة مبكرة سلسلة من السلوكات العدوانية التي تتغلغل في أعماق الإنسان. ومع أهمية هذا الاكتشاف لم يستطع أن يوجه اهتمامه لدراسة هذه الأنماط السلوكية العدوانية في المراحل الأولى من عطاءاته العلمية. ويعود ذلك إلى أنه لم يكن باستطاعة معالجة أشياء متعددة في وقت واحد. حيث ترتب عليه في البداية أن ينصرف كليا لتدعيم اكتشافاته الأولى ولا سيما اكتشافيه الأولين الأساسيين وهما: العمليات اللاشعورية وأهمية الجنس. لقد اكتشف أثناء خلال أبحاثه الأولى وجود علاقة بين العدوانية والمظاهر السيكولوجية الأخرى التي عكف على دراستها.

يستعرض فرويد في المرحلة الأولى من نظريته في العنف والعدوانية المظاهر النفسية الأكثر تواترا في حياتنا الإنسانية مثل المنافسة الأخوية وهو في هذا السياق يؤكد كراهية الأخ الأكبر للأخ الأصغر الذي يليه في الولادة والذي يبدو له كمنافس شديد البأس. ويشير في هذا السياق إلى أمر بالغ الأهمية يتمثل في القول بأن درجة الغيرة التي يعانيها البكر تكون أكثر شدة كلما كانت الفترة الزمنية الفاصلة بينه وبين أخيه الذي يليه بالولادة صغيرة جدا. ويلاحظ في هذا السياق أن لاكان Lacan يباشر هذه الظاهرة بالتحليل ويطلق عليها عقدة الطفالة "Complexe de l'intrusion".

هذا ويشكل إحساس الكراهية المتنامي تجاه الأب من الجنس نفسه مسألة حرجة ومعقدة. ففي معرض تحليله لهذه الظاهرة يبدأ فرويد بالتنويه إلى السبب الأول الذي يبدأ في صيغة خصومة: فالأب من الجنس نفسه يشكل عقبة تعوق حرية الطفل وبخاصة حريته الجنسية، وهذا يؤدي إلى ولادة العداء بين الطرفين. ومن أجل إدراك العنف الذي ينجم عن هذه العداوة يجب أن نأخذ بعين الاعتبار المنافسة التي تجري على المستوى العاطفي. إذ يجري كل شيء كما يقول فرويد وكأن الأب من الجنس نفسه يطرح نفسه منافسا للطفل في معركة حبه للأم. ونجد العرض الأول لفرويد والذي سيطلق عليه فيما بعد "عقدة أوديب Complexe d'Œdipe". وسنلاحظ فيما بعد أن العقدة الأوديبية لم تقدم بوصفها قصة حب أو قضية

جنسية: حيث تظهر هذه العقدة في عناوين مثل "أحلام الموت" والتي تشكل إلى حد ما رغبة في القتل هي مسألة تمت الإشارة إليها من قبله شخصيا.

لقد أخرج فرويد مفهوم الانحرافات الجنسية وخاصة السادية Sadisme من كهوفها المظلمة. ومع الاعتراف بوجود تمايز بين الطبيعي والمرضي فإن فرويد يعطي مفهوم السادية أبعادا جديدة وذلك بطريقة يشعر فيها كل فرد بأنه معني بالأمر. وهو في سياق ذلك يبرر شرعية بعض أشكال هذه السادية وخاصة هذه التي تعد امتدادا للحياة الجنسية الطبيعية. كتب فرويد يقول: "تتضمن الحياة الجنسية عند أكثر الأفراد نوعا من العنف وهي نزعة من أجل السيطرة، وتكمن الدلالة البيولوجية لهذه النزعة في ضرورة الانتصار على المقاومة التي يبديها موضوع الجنس حتى ولو كان ذلك بطريقة الإغراء.

ولكن فرويد ومع ذلك لا يوضح معنى النزعة السادية وأصولها. فهو ينظر إليها بوصفها مجرد تعبير لبيدي LIBIDINAL وأحيانا يعيدها إلى مصدر مستقل عن الجنسية. وهو في الحالة الأولى ينظر إلى السادية كنزعة تحقيق متعة عضلية، وكنزعة من النشاطات ذات الطابع التدميري. أما في الحالة الثانية فإنه ينظر إليها بوصفها أداة من اجل السيطرة ومهما يكن الأمر فإن فرويد يكشف عن طبيعة النزعة العدوانية وعن أبعاد السادية وذلك عبر العلاقة الأولى التي تقوم بين الطفل ومحيطه. كتب فرويد في هذا الخصوص يقول: "يمكننا القول إن النزعة إلى العنف تتحدد انطلاقاً من دافعية السيطرة التي تظهر في إطار الحياة الجنسية وذلك قبل أن تأخذ الأعضاء الجنسية دورها الكامل وذلك في مستوى نموها.

العدوانية والتناقضات الوجدانية:

يعتقد فرويد أن الطبيعة غير كافية بذاتها من اجل إرضاء وإشباع الرغبة الجنسية. وهذا ما تشير إليه ببساطة الممنوعات الثقافية. فبعض الدوافع الجنسية لا يمكنها في اغلب المجتمعات أن تجد لها إشباعا كاملا. وهناك ملاحظة خاصة بالعلاقة بين الجنس وعالم الاستيهام أو التصورات الهوامية والتي تعبر عن الصلة بين الدوافع الأوليّة الليبيدية ومرحلة النضج الجنسي، وهناك سبب آخر يتعلق بالقدر البائس للجنسية الإنسانية ذلك الذي يعبر عن الخسارة المؤكدة للموضوع الأصلي (الأم في مرحلة الطفولة).

وإذا كان إدراك التوازنات الداخلية للدافع الجنسي يشكل غايتنا فإنه يمكننا العودة إلى فرويد الذي أعطى هذه التوازنات جلّ اهتمامه وذلك عندما كان يحاول اختبار المضامين الجنسية لدافع العنف. كتب يقول في هذا الخصوص: "يجب أن ندرك أهمية الجانب الكبير الذي تلعبه دافعية العنف في السلوك الاجتماعي للمريض وذلك عبر العلاقة القائمة بين هذه الدافعية والليبيدوLibido والتي يمكنها أن تفسر عملية تحول الحب إلى حقد والمشاعر الودية إلى مشاعر عدوانية وهذا ما تتميز به مجموعة الحالات الخاصة بالأمراض العصابية وخاصة السمات الخاصة بالهوس الجنوني (paranoïa) في جملتها.

وبالتالي فإن التداخل الذي يتم بين المشاعر الودية والعنف لا يوجد فحسب داخل الحياة النفسية للمرضى. فالعلاقات على سبيل المثال بين الصهر والحماة كما يلاحظ فرويد هي علاقات متوازية عامة تتداخل فيها مشاعر المحبة والكراهية في آن واحد. ويمكننا أن ندرك ذلك بكل بساطة ومن خلال المحاكمة المنطقية: فالأم تريد دوام سيطرتها على ابنتها، وهي حذرة من هذا الغريب الذي يسيطر على طفلتها. والصهر من جانبه يشعر بالغيرة من الأشخاص الذين يبدون تعلقاً بزوجته وذلك يشكل إحدى الأسباب القوية القهرية لغيرته. وهنا يترتب على التحليل النفسي أن يبين وبدرجة عالية من العمق وجود صراع هوامي أوديبي في داخل النشاطات السيكولوجية الدفينة. فالأم تتقمص شخصية ابنتها كما يقول فرويد حيث تقع أم الزوجة في حب صهرها. وهي تستطيع لاحقاً أن تحطم هذه المشاعر الودودة وان تتواصل مع مشاعر سادية ذات إثارات عاطفية مندفعة هذا ويشعر الصهر بصراعات مماثلة وذلك حين يلامسه هوام قوامه أن الحماة تحتل مكان الأم وذلك يوقظ في نفسه ميلاً دائماً إلى المحرم. وهو بالتالي يتلخص من هذه الوضعية بطريقة سادية ذات طابع جنسي.

ويعزز فرويد تحليله لهذه المسألة حين يحاول أن يتبين أن حالة الهيجان تأتى تعبيراً عن صراع نفسي وهنا نجد الملاحظات الأولى حول ظاهرة المزاج والطبع المتسلط حيث يذهب فرويد هذه المرة بعيداً جداً في تفسيره وذلك حينما يريد أن يبرهن بان النزعة إلى العنف يمكن أن تظهر بطريقة وكأنها الجانب الوحيد الذي يمكن مشاهدته كتعبير عن العلاقة اللبيدية.

لقد استخدم فرويد وللمرة الأولى مفهوم الازدواج الوجداني Ambivalence والذي يشير إلى نزعات نفسية متعارضة وغير قابلة للتوافق في آن واحد. وعلى الرغم من غياب هذا المفهوم في مفرداته السابقة فإن الفكرة كانت تطرح ثقلها في إطار أعماله الأولى. وكان فرويد يستدعي الاهتمامات والملاحظات القديمة حول الكائن الإنساني. وبالتالي فإن اكتشافه العملاق انطلق من فكرة الصراع النفسي ومن التناقضات العاطفية المتعلقة بالكبت Refoulement.

ومن أجل تحليل مفهوم الازدواج الوجداني Ambivalence وقوامه ثنائية مشاعر الحب والكراهية والذي لا يعدو أن يكون أكثر من حالة خاصة للصراع النفسي قام فرويد بإجراء تحليل نفسي لمجموعة من المشاهير وانصرف لتأملاته ودراساته حول الدوافع. ونجد في هذا السياق أن تفسير مفهوم الثنائية الوجدانية Ambivalent كان يتأرجح عند فرويد بين تفسيرات ذات طابع بيولوجي وأخرى ذات طابع بسيكولوجي. ففي مقالته السابقة "دينامية التحول" على سبيل المثال يقول فرويد أن القوة الفاعلة للصراع الوجداني كما تتجلى عند العصابيين الوسواسيين تقتضي تفسيرا في ضوء المعطيات الدافعية حيث توجد تعارضات ملازمة لحياة الدوافع.

وفي مرحلة لاحقة يشير فرويد - في كتابه "التوتم والتابو Totem et Tabou ([5]) وذلك انطلاقا من تحليل الصراعات الانفعالية عند مشاهير الأوديبيين- إلى أن الفرصة كانت مهيأة لإدراك مفهوم التناقض الوجداني Ambivalence بالمعنى الخاص للكلمة والذي يتمثل في الحضور المتكافئ للحب والكراهية في آن واحد وبالنسبة للشخص الواحد والذي يوجد في أصل الصيغ الثقافية الهامة للحضارة. ولكننا مع ذلك فإننا لا نعرف شيئا كثيرا عن أصول هذه الثنائيات الوجدانية. ولكن يمكن الافتراض بأن هذه الثنائية تشكل ظاهرة أساسية لحياتنا الانفعالية. ومن الممكن لفت النظر إلى إمكانية أخرى مفادها أن الازدواجية الوجدانية كانت موجودة في الأصل بعيدا عن حياتنا الانفعالية وأنها فيما بعد اكتسبت أهمية خاصة لمصلحة العقدة الأبوية Complexe paternel. وهنا تكمن تحديدا قدرة التحليل النفسي في الكشف عن أهمية هذا الازدواج الوجداني Ambivalence وفاعليته.

فالأشياء كما ينظر إليها فرويد في حالة صراع وهذا الصراع لا ينتهي بالضرورة إلى صيغة توافق فلا يوجد هناك تناسق مسبق ولا يوجد هناك توازن أبدا. فالصراع هو في قلب الوجود وقدر الإنسان أن يحيا في وضعية صراع مأساوية لا حدود لها. ساويىة

الإكراهات والتسلط والعدوانية:

يشير فرويد إلى أن الاندفاعات العدوانية غالبا ما تنجم، منذ مرحلة الطفولة، عن حصارات وكبت وإكراهات مشابهة لما يحصل بالنسبة للدوافع الجنسية. ويبين بالتالي عن علاقة ترابط بين ثلاثة متغيرات في هذا المستوى: الثقافة Culture والقمع Répression والكف Inhibition أو الصد النفسي. وكلما كان الفرد أكثر ثقافة استطاع أن يسيطر على نفسه بدرجة أكبر وكلما كان محروما أكثر من لذة العدوان العفوي. والحلة النفسية تسمح للفرد بالوصول أو اللاوصول إلى هذه الملذات المحكوم عليها من الخارج (السلطات) من الأهل (الكبت والنواهي الأخلاقية والجمالية). ويفهم من ذلك أن القريحة الأدبية لا تتأتى لأشخاص فحسب بل توجد عند كل هؤلاء الذين يعيشون خبرات سارة تتصل بالمبادئ والقيم والقواعد الأخلاقية والدينية.

هذا ويمكن للنزعات الجنسية أن تتبدى في إطار الجانب الهزلي والفكاهي لحياة الناس. فالضحك الذي ينجم عن الهزل يعبر عن مشاعر السخرية من الآخر والانتصار عليه. ويلاحظ أن الفكاهة (وهي التعبير الأرقى بالنسبة لأواليات الدفاع) هي أكثر الأشكال ميلا إلى خفض شأن التأثيرات المؤلمة بالنسبة لهؤلاء الذين يميلون إلى الغضب والنزعة إلى العنف.

ومع ذلك كله لا يمكن إرجاع كل من النكتة والهزل والفكاهة كليا إلى مجرد نزعات انفعالية عاطفية. وغني عن البيان أن التعبير الجنسي لا يكون مضحكا. وهناك بالتأكيد دعابات تظهر في صيغ بريئة ساذجة. وهنا يجب البحث في اتجاهات أخرى إذا أريد حقا اكتشاف جوهر هذه الظاهرة.

ويوضح فرويد بدقة وجود مسافدة روحية كامنة في لعبة الكلمات وفي الصيغ الشفوية، ومع ذلك إذا كان صحيحا أن النفس تتجلى في طريقة توظيف اللغة فإن هناك ظلال اختلاف دائم في تحولات العنف. فكل طرفة أو نكته، كما يستخلص فرويد، تشكل محاولة جادة لتجاوز عقبات الحصول على متع ممنوعة ولتوفير الجهود الشاقة التي تقضيها المحظورات والممنوعات.

فالنكتة احتجاج موجه ضد القواعد الأخلاقية والمؤسسات والسلطة القائمة، وهي أيضا رفض للعقل والأحكام النقدية ولرمزية اللغة. وهي تشكل بالتالي واحدة من الاستعراضات الأكثر قوة والأكثر اجتماعية لمردود فعل الكائن المهذب المحروم من واحد من أبعاده والمجهد في عملية بحثه عن اللذة.

ب - لقد أبدى فرويد في أعماله المتعاقبة الأسرار التي يمكن أن تفسر لنا كيف يعبر الكائن الإنساني بما يخالف المعايير الأخلاقية والثقافية السائدة. لقد أبدى فرويد في مقالة له حول "الأخلاق الجنسية والأمراض العصبية في الأزمنة المعاصرة Morale sexuelle et la maladie nerveuse dans le temps moderne معارضته لمتطلبات التحريم الاجتماعي المفرطة وهو في هذا السياق يطور مقولات ايرنفيل (Ehrenafels) الرافضة لوباء وخبث الأخلاق الجنسية التي يقال عنها متحضرة.

ويطور فرويد فيما بعد فكرة قوامها أن الثقافة تقوم على أساس قمع الدوافع وخاصة الدوافع الجنسية ثم الميول والنزعات العدوانية. لقد أدرك فرويد منذ زمن بعيد العلاقة العميقة بين الكبت Refoulement والتقدم الثقافي ولكنه في هذه المرة يحاول أن يدرس التناسب المكن بين التضحيات والفوائد. ويتحدد موقف فرويد هنا بالقول إن الأنظمة الاجتماعية لا يمكنها أن تستمر من غير إكراهات ولكن صلابة القوانين في عصره بدأت تأخذ اتجاهات تدميرية الى حد ما.

يعتقد فرويد أنه لا يمكن لجميع النزعات الدافعية أن ترتفع إلى مستوى التسامي. إذ لا بد من الوصول إلى إشباع مباشر في الحدود الدنيا للميول وذلك تجنبا للاضطرابات الأكثر خطورة والتي يمكن أن تترتب على عملية الكبت هذه. فالأخلاق الفرويدية هي الاستسلام المنظم والمحدد للضرورة النفسية، فالطهرية المفرطة قد تكون في نهاية المطاف العدو الحقيقي للإنسانية.

الجروح النرجسية ([6]) (Le Blessure Narcissique):

لنذكر أن مشاعر الكراهية لا تتداخل كليا مع المواقف العدوانية، فالحقد ينطوي على نزعة تدميرية، بينما يشير العدوان (Agression) إلى حالة دفاعية أو تأكيد للأنا في مواجهة الأخر. ومع ذلك فإن غياب التمييز بين الجانبين في نص فرويد يبدو لنا جوهريا ففي واقع الأمر لا يتوقف الأنا (Le moi) الموصوف بعظمته عند حدود الدفاع وتأكيد الذات. حيث يلاحظ في إطار الحياة اليومية أن النزعة العدوانية والكراهية تترابطان دائما. فعندما يشعر الأنا (le moi) بأنه يتعرض بطريقة ما لمضايقة ما، فإنه يعمل على إزالة وتدمير ما يضايقه، وقليل من الانتصار قد يرضي الأنا المجروح. وهو بذلك ينطوي على نزعة كراهية دائمة. ويصف لنا فرويد هذه الخصوصية في إحدى نصوصه المعاصرة: " فقانون اللاشعور Inconscient هو القتل لأتفه الأسباب والتفاصيل "وهو بذلك شبيه إلى حد كبير بنظام دراكون Dracon التشريعي في أثينا القديمة، وهو نظام لا يعرف تعذيبا آخر يعاقب عليه المجرمون غير الموت، ومن هنا تبدو منطقية اللاشعور وذلك لأن أية معاناة يعشيها "الأنا" كلي القدرة "هي جريمة أساسية يعاقب عليها بالموت".

يقول فرويد في هذا الخصوص أيضا " الأنا يحقد ويكره ويسعى إلى تدمير كل الأشياء التي تشكل بالنسبة إليه مصدرا يعيق إشباع الحاجات الجنسية أو إشباع حاجات المحافظة والاستمرار. ومن هنا يمكن التأكيد بأن النماذج الحقيقية لعلاقات الحقد والكراهية لا تصدر عن الحياة الجنسية بل عن نضال الأنا من أجل المحافظة على الوجود وتأكيد الذات (...) فالكراهية تصدر عن رفض أصيل يعلنه الأنا النرجسي في مواجهة العالم الخارجي بمختلف مثيراته ومحرضاته. وهنا يعطي الجرح النرجسي أهمية خاصة من أحل الإشارة إلى إصابات الأنا النرجسية والتي يمكن أن تترجم بكلمة الإحباط (Frustration) في اللغة الفرنسية.

يشكل الأفراد الذين يعتقدون بقدرتهم الاستثنائية على خرق المعايير الاجتماعية - من قوانين أو مبادئ - مثالا لحالة الجرح النرجسي. حيث يكتشف فرويد أن هؤلاء الأشخاص سبق لهم التعرض إلى صدمات وآلام كبيرة وهم في حالة ضعف ومن غير إمكانية للدفاع عن النفس ومن هنا فإن هذه الحالة النرجسية تدفع صاحبها إلى محاولة التعويض الشامل على مدى الحياة برمتها. ولذلك يعتقد أن فرويد أن ما تزعمه بعض النساء من امتلاكهن لامتيازات استثنائية يمكن أن يفهم في ضوء تداعيات الجروح النرجسية المشار إليها. فالنساء المشار إليهن كما يعتقد فرويد عانين خلال طفولتهن من مهانات بالغة وإجحافات خطرة وهن لا يستطعن الاعتراف بذلك إلا بصعوبة بالغة. فشروط وجودهن البيولوجية وحالتهن في مجرى المعاناة السابقة والعلاقات الجنسية السادية تبدو إلى حد كبير كجروح نرجسية يعبرن عنها أحيانا في صيغة كراهية واضحة وفي أغلب الأحيان في صورة برودة جنسية ساخطة.

ومن هذا المنطلق بالذات يمكن تفسير المقاومة التي يبديها المرضى إزاء التحليل النفسي والتي يمكنها أن تكون تعبيرا واضحا عن ردود فعل. فالإحباط الأول يمكنه أن ينجم ومن غير شك عن فعل الاكتشاف نفسه. وقد وصف فرويد هذه المسألة في عام 1895. إذ يجب على المرء أن يكون مستعدا لمواجهة مقاومة الآخرين في كل مرة يقدم لهم شيئا يستطيعون هم بأنفسهم اكتشافه أو الحصول عليه. ومن المعروف أن فرويد نفسه قد وقع عدة مرات في فخ نرجسية الاكتشاف وخاصة عندما قدم أفكار فلييس Fliess الخاصة بازدواجية الجنس Bisexualité على أنها أفكاره الخاصة.

يواجه التحليل النفسي انتقادات حامية جدا حول هذه النقطة وهي انتقادات تدفع إلى المزيد من الجهود لتقديم تفسيرات. فالمظاهر العدوانية كما يعتقد فرويد لا تعدو أن تكون غير نتاج لجروح نرجسية عميقة. وفي هذا الخصوص يتبين أنه عندما لا يستطيع الأنا أن يهيمن ويسيطر فإن ذلك يؤدي إلى مخاطر الأحقاد نفسها التي يذكرها كل من غاليليه Galilée ودارون (Darwin).

ويشير النص الذي سجله فرويد عام 1915 حول الدوافع أيضا إلى أن السادية - مثل الكراهية والعدوان - تعرقل نشاط الأنا وفعالياته. وبعد أن يمايز فرويد بين السادية الأصلية التي تظهر في استعراضات القوة إزاء شخص آخر - أي ما تطلق عليه بكل بساطة عدوان - وبين السادية الحقيقية التي تدفع الآخرين إلى دائرة الألم وذلك من أجل الحصول على اللذة الجنسية. ومن هنا وفي إطار التمييز بين النوعين يبين فرويد أن المتعة لا يمكن أن تتم إلا عندما تتم عملية التوحد مع الشخص المعذب نفسه.

ويبين زعيم التحليل النفسي أنه لا يمكن لعلم الفيزيولوجيا الجنسية أن يمكننا من تفسير مناسب للسادية بالمعنى الدقيق للكلمة. وهو إذ يتحدث من التقمص Identification يبين أنها عملية تشتمل على دينامية الأنا وتنطوي على العلاقات الذاتية الداخلية والخارجية. إن تعبير "الدافع السادي" لا يمكن له أن يجعلنا نفسر أن الكائن الإنساني مرهون دائما بوجود اهتمامات وعلاقات مرتبطة بالعالم الخارجي. فالسادية المرضية والتي يمكن أن يقال عنها بأنها سادية غير إنسانية هي نوع من السلوك الذي يفتقر إلى أرومته الإنسانية وهي سلوك حيواني يختلف حتى عن سلوك الغريزة. ويعني ذلك أن السادية تنتصر عند الإنسان الذي تهيمن عليه علاقات طفولية وهي علاقات مرتبطة ببنية الأنا le moi.

الحرب والموت La guerre et la mort:

يلخص لنا عمل فرويد الموسوم "اعتبارات راهنة حول الحرب والموت عام (1915) ([7]) جوهر تأملاته وتفكيره في هذا الخصوص. وتبدو أفكاره هنا مكافئة لأفكاره حول العدوان في مقالته عام 1908 والمكرسة لدراسة علاقات الجنس في إطار الروابط الاجتماعية. ويكاد يعلن فرويد في النصين أن الحضارة تقوم على أساس ردع الدوافع وقهرها. ويبين أن القدرة على مجافات الدوافع تختلف من شخص لآخر، وأن مجافاة الدوافع لا يمكن أن تكون كلية وشاملة وأن هناك جرعات من الإشباع ضرورية ولا يمكن تخفيفها. والنقطة الأخيرة التي يمكن استنتاجها من خلال المقابلة بين النصين تتعلق بنمط الاضطرابات الناجمة عن عجم إشباع الدوافع المعنية. حيث يبين فرويد في هذا الصدد أن المراقبة المبالغ فيها للجنسية تؤدي إلى العصاب Névrose بينما يؤدي كبح العدوانية إلى اضطرابات نفسية أساسية.

لا يطمح فرويد إلى تقديم تفسير نهائي قطعي للحرب ولكنه يشير إلى بعض المعالم الأساسية لتفسير مقترح. تعود الحرب في أحد أسبابها الأصلية ومن غير شك إلى وجود تباينات واختلافات فردية وإلى تعدد الخصوصيات القومية. لقد وجد فرويد نفسه مأخوذا بالفكرة التالية وهي: لا يمكن لفكرة الحرب أن تزول طالما يعيش الناس شروط حياة مختلفة تجعل النفور بين هذه الشعوب بأخذ صيغة العنف وهنا تأتي الحرب لتصبح قدرا لا مفر منه. ووفقا لذلك تأخذ فكرة ظهور العنف والعدوان كنتاج للتباينات الفردية والقومية مسارها في مجال علم النفس.

يقول فرويد في سياق آخر: "إن الاختلافات القائمة بين الأفراد تضع الأنا le moi في دوامة التساؤل. ففي حالات التنافر والكراهية التي تظهر بوضوح ضد الغرباء الذين يجرى الاحتكاك معهم تستطيع أن تدرك معنى حب الذات "Amour de soi" ومعنى النرجسية النازعة إلى تأكيد الأنا التي تسلك، وكأن ظهور ما يباين وجودها الخاص يشكل نفيا لها وإكراها يهدف إلى تغيير بعض سماتها.

ونحن لا نستطيع في هذا المقام أن ننظر إلى موضوع الاختلاف بوصفه جرحا نرجسيا دون أن نستدعي إلى الذاكرة التعبير الفرويدي الخاص "نرجسية الاختلافات الصغرى" وفي اللحظة التي يتساءل فيها عن سر العداوة بين الإسبانيين والبرتغاليين، وبين الإنكليز والسكتولانديين لا يستطيع فرويد في مقالته "Narzissmus der Kleinen derenzen" أن يقدم وضوحا كبيرا. ومن أجل أن ندرك حجة ودوامية العنف يجب علينا أن نستند - وكما يعتقد فرويد - إلى العمليات الدافعية. وهي الفكرة التي تضرب جذورها في مقالته حول الحرب، وهي المقالة التي سنعود إليها حاليا.

ومن أجل تحليل همجية الصراعات العسكرية يستدعي فرويد التفسير الأخير والذي يقع في قلب النزعات الدافعية التي تأخذ صيغة كمونية وذلك عند جميع الكائنات الإنسانية على الرغم من النهوض الحضاري والثقافي للإنسان. ويمكن الإشارة بالإضافة إلى ذلك أن فرويد رغم مكانته الهامة لم يتحدث بوصفه رجل أخلاق مانوي (نسبة إلى ماني). يقول في هذا المقام أن الانفعالات الغريزية الفطرية ليست خيرة أو شريرة بذاتها وأن المجتمع بأنظمته هو الذي يحدد قيمة هذه الدوافع.

لنترك الآن الحرب جانبا بوصفها ظاهرة نفسية اجتماعية اقتصادية معقدة لا يستطيع عالم النفس في الواقع أن يقدم لها تفسيرات ولننظر الآن في العنف كما يتبدى ويظهر في مضمار الحياة اليومية.

غالبا ما ينفر المتحضرون من ذكر الموت سواء أكان ذلك يشير إلى موت الأصدقاء أو الأعداء على حد سواء. ولكنهم على المستوى اللاشعوري يمارسون عملية القتل بسهولة بالغة وبسرور لأتفه الأسباب يقول فرويد: "إننا نتحدر عن سلسلة لا متناهية من أجيال آباء مارسوا القتل والذين كانوا - كما نحن ربما - يعشقون الموت في وسط الدماء.

ويسجل فرويد في هذا السياق ملاحظة مهمة جدا فنحن مدانون بأجمل معاني حياتنا العاطفية إلى ردود أفعالنا إزاء الدافع العدواني الذي نشعر به في عمق حياتنا الداخلية. وبعد عدة سنوات جاء علماء الأخلاق ومنهم لورنز Loranz على سبيل المثال ليؤكدوا هذه الرؤية داخل العلاقات القائمة عند الحيوانات. إذا يلاحظ أن الأكثر عدوانية (الذئاب على سبيل المثال) هي التي تبني العلاقات "الشخصية" الأكثر ديمومة استمرارية.

تشير مقالة فرويد حول الحب والموت في نهاية الأمر إلى فكرة أساسية وهي أن الرجل البدائي يسقط مشاعر العداء على أشكال شيطانية، وهي الصور التي تعذبه فيما بعد. وعلى خلاف ذلك فإن الرجل المتحضر يستبطن دوافعه العدائية ليجد نفسه فيما بعد مشبعا بالندم الذاتي وتكبيت الضمير.

لقد أشرنا منذ قليل إلى أن فرويد اكتشف مبكرا جدا تأثير العدوانية في مختلف الاضطرابات النفسية مثل: القسر Compulsion الذهان Paranoïa الاكتئاب [8]Mélancolie... الخ. ولكنه مع ذلك لم يعترف بأهمية هذه الظاهرة قطعيا إلا من خلال انعكاساتها على الحياة الاجتماعية كردود الأفعال الخاصة بالألم والنزعة إلى التدمير الذاتي. ويبقى علينا في هذا السياق أن نتحدث عن الملاحظات الأخرى المسجلة فيما بعد هذه المرحلة.

دوافع الموت Les pulsions de mort:

شكل إدخال مفهوم دوافع الموت في النظرية الفرويدية عام 1920 المرحلة الثانية من التعديل الذي انعكس على جملة عناصر البنية الفكرية للنظرية. لقد جرى الاعتقاد بأن النظرية الفرويدية وجدت كمالها ونضجها في الكتابات الميتاسيكولوجية لعام 1915. يعلن فرويد في هذه المرحلة عن ضرورة الأيروس (Eros) (غريزة الحب) وأهميتها في تأكيد متطلبات الحياة. وانطلاقا من ذلك بدأ يفكر في العدم وفي ميل الإنسان اللاشعوري إلى الفناء (Anéantissement). لقد ناضل فرويد سابقا من أجل فكرتين أساسيتين هما: الجنس واستقلالية الوعي. وهو الآن أي في هذه المرحلة يناضل من أجل فكرة جديدة ثالثة هي: الموت. وهنا يميز بين موت الآخر الذي هو موت الأعداء والغرباء وموت الشخص الثاني الأحبة ثم موت الشخص الأول أي موتنا فناؤنا الخاص.

لقد حاول فرويد أن يحلل المظاهر الخاصة باشتهاء الموت ومظاهر التدمير وهو يفترض في إطار تفسيره لهذه الظواهر وجود دينامية سيكولوجية داخلية أطلق عليها دافع الموت (Pulsion de mort).

يأخذ الشكل الأول لدوافع الموت صورة القسر الذي يفرضه التكرار. لقد واجه فرويد في واقع الأمر الظواهر المتكررة منذ بداية تقصياته ويتبدى هذا الموضوع في مضامين أعماله جميعا والتي بدأت مع مقالته الشهيرة: الهيستريون يعانون من الذكريات" (1893) حتى محاولاته الأخيرة في كتابه المهد L’Oise وهي المحاولات التي يوظفها من أجل تقديم تفسير لتاريخ الإنسانية. وفي عام 1920 وجد فرويد نفسه تحت حصار الافتراضات بوجود نزعة مستقلة تفسر عملية إعادة تكرار التجارب المؤلمة مثل الإخفاق والأحلام المزعجة وبعض الحالات التي لا حدود لها.

ويبدو أن النكوص Régression هو الصيغة الثانية لدافع الموت. وهنا نلاحظ أن هذه الظاهرة ترتبط بسابقتها: توجد نزعة لتكرار التجارب الأولى وأنماط العلاقات التي كانت سائدة خلال مرحلة الطفولة.

ويمكن للقارئ أن يذكر هنا أن فرويد في عرضه الأول للدوافع كان يؤكد أهمية طابعها الدافعي. ومع ذلك كله كتب في النص الذي أدخل فيه مفهوم دافع الموت قائلا: " تصبح الأم النموذج لكل العلاقات العاطفية وبالتالي فإن البحث عن موضوع الجنس ليس في النهاية سوى البحث عن هذا النموذج. لقد أشار فرويد منذ البداية أن مستقبل هذا الدافع مرهون بأصوله فالإنسان يسعى دائما، كما يعتقد فرويد، للعودة نحو الخلف (النكوص الوقتي) إلى أن يحلم أو أن يتخيل وذلك بدلا من العمل العقلاني (نكوص نموذجي) ومن هنا فإنه يحاول عبر فرضية ما بعد مبدأ اللذة (Au de la du principe de plaisir) ([9]). أن يدرس هذه النزعة التي لا تعني ببساطة أبدا الشلل النفسي الذي يتحدث عنه يونج Jung.

ويتبدى الوجه الثالث الدافع لموت في الميل إلى التدمير. من المعروف أن بعض المحللين النفسيين الأمريكيين يفهمون واقع الموت على أنه نزعة عدوانية. حيث نجد هارتمان Hartman وكريس Kris ولوينشتاين Lowuenstien على سبيل المثال يتحدثون دائما عن التعارض بين الليبيدو والعدوان. ولكن الفحص السريع لأعمال فرويد هنا يبين وجود حالة تبسيطية مبالغ فيها. فالمعطيات الأساسية التي تقود فرويد إلى إعادة نظرية هي التكرار والعودة إلى الأصول الأولى وبالتالي فإن مسألة التدمير تأتي في المرتبة الثانية.

فالملاحظة السريرية بدأت تشكل الحجة الدامغة لصالح التعديل الذي أجري في العشرينات ويظهر ذلك في رفض بعض المرضى للعلاج وفي ردود الفعل العلاجية السلبية (تعظيم الاضطرابات المرضية أثناء المعالجة. لقد كان لغموض الماسوشية الأخلاقية هذا بالإضافة إلى الماسوشية الجنسية أن يقود لفرويد إلى هذه التعديلات. فالماسوشية الجنسية تجد شرحها في إطار الازدواجية الأولى. لقد أشار فرويد عام 1905 إلى أن العمليات الانفعالية المكثفة - الألم في هذه المناسبة- تجد صداها في الحياة الجنسية ويمكن لها أن تتحول إلى مصدر للسعادة.

وقد هدفت النظرية الجديدة إلى تحليل ما يسميه اوكتاف مانوني Octav Mannonie عار الإحساس بالذنب. ومن أجل إعطاء نظرية دافع الموت أهميتها يستند فرويد إلى بوليموس Polemos وإلى تاناتو Thanato فالشخصية الهامة فيما بعد مبدأ اللذة ليست إلى حد ما الشخصية السادية المنحرفة بقدر ما هي الشخصية الكئيبة المقهورة تحت تأثير أنا أعلى Sur moi. وهنا في إطار هذه الصورة الأخيرة نجد الثقافة الخالصة لدافع الموت.

ويلاحظ في مجرى السنوات اللاحقة لظهور كتاب Genseit حدوث مجموعة من التغيرات الهامة حول مفهوم دافع الموت. حيث وجهت الأهمية المتزايدة ومن الناحية المنهجية إلى الظواهر السريرية وذلك بالقياس إلى الجوانب التأملية. وفيما يخص موضوعات التفكير فإن الأهمية التي أعطيت للجوانب البيولوجية تركت مكانها للجوانب الثقافية. وفي النهاية يلاحظ أن مؤسس التحليل النفسي بدأ يوجه اهتمامه إلى نزعة التدمير بدرجة أكبر من التكرار والنكوص.

ويبدو أن التحول القطعي ظهر في كتاب Unbehaggen حيث يدافع فرويد عن وجود دافع عدواني مستقل (1930). وهنا كتب أيضا يقول "تصدر النزعة العدوانية عن بنية فطرية دافعة منظمة ومستقلة عن الكائن الإنساني. وتشكل هذه العدوانية الأولية الخطر الأساسي ضد الحضارة وضد الأنواع الإنسانية.

ويأخذ كل من دافع التدمير (Pulsion de détruire) ثم دافع الموت (Pulsion du mort) مكان الصدارة في نصوص فرويد اللاحقة. ويقول فرويد: إن المبدأين الأساسين وهما: الحب (Amour) والانفصال (Discorde) يشكلان بالاسم والوظيفة نظيرين لدوافعهما الأصلية وهما الآيروس Eros والتدمير Destruction.

لا يمكن بسهولة التمييز بين دافع العدوان ودافع الموت فالعدوان في جملته لا يمكنه أن يؤدي إلى دافع الموت. وبالتالي فإن دافع الموت لا يمكن أن يختزل إلى دافع العدوان. ومن أجل العودة إلى استخدام تعبير لم يستخدمه فرويد إلا في إطار النظرية الدافعية الأولى. وهو أن دافع العدوان يبدو إلى حد ما انعكاسا جزئيا لدافع الموت.

ومن أجل الدخول في عمق المسألة يجب أن نتساءل ما الفائدة من العمومية التي تنطوي عليها استخدام تعبير "دافع الموت" (Pulsion du mort). نحن نعتقد أن فرويد كان يريد أن يعلمنا بان الإنسان مسكون بطاقة سلبية نافية. وبدقة أكبر يمكن القول انه كان يرغب في أن يشد الانتباه إلى وجود علاقات بين مختلف جوانب السلبية الإنسانية مثل الكراهية التكرار والنكوص والميل إلى التدمير الذاتي والعدوانية. وفي هذا الإطار يمثل دافع الموت المفهوم المفصلي لهذه المفاهيم.

فمفهوم مفهوم غريزة الموت يؤكد على العلاقة بين الثبات والميل إلى التدمير الذاتي. إذ تبين التجربة الاكلينيكية أن العدوانية تتجه إلى تبسيط وتثبيت تجسداتها. وعلى خلاف ذلك يلاحظ أن الثبات النفسي يثير العنف فهناك جزء كبير من نزعة المنحرف التدميرية كالعصاب، والذهانات النفسية تصدر عن تصلب الوجود النفسي وجموده وذلك يعني الإحساس بالانغلاق وضياع معنى الوجود.

يشير مفهوم دافع الموت في النهاية إلى العلاقة القائمة بين العدوان ونزعة التدمير الذاتي. لقد أشار فرويد دائماً ومنذ زمن طويل إلى علاقات التماثل القائمة داخل الذات (soi-même) وبين هذه التي تقوم مع العالم الخارجي، وتتضح هذه العلاقة القائمة بين الجانبين في السلوك العدواني على نحو خاص. فالفنان على سبيل المثال يعد شاهداً على هذه الخصوصية لأنه يتأرجح بين نزعتين نزعة القتل ونزعة الانتحار. وفي إطار نظرية الموت يمكن النظر إلى هذه العلاقة بوصفها قانوناً عاماً فالعدوان يمكن أن يكون القناع الذي يخفي نزعة التدمير الذاتية. فالفرد يهاجم الآخر من اجل ألا يدمر نفسه. وعلى خلاف ذلك قد تمثل نزعة التدمير الذاتية عدوانية تتجه هذه المرة إلى، ويلاحظ فرويد في هذه الخصوص انه كلما حاول الفرد بشكل شعوري أو لاشعوري، كبت عدوانيته كلما أدى ذلك إلى ولادة إحساس لديه بالذنب والتصلب. فالفرد من منظور التحليل النفسي مكان للجدل والصراع الذي قد يكون مدمرا ًللفرد نفسه. كما هو الحال بالنسبة للآخرين. فالفرد في إطار هذه الصورة كائن ملغوم بدوافعه المميتة، وهو في غالب الأحيان أمام خيارين: إما أن يكون عنيفاً تجاه الآخر أو أن يكون عنيفاً تجاه ذاته. وهو بذلك أمام نتيجتين: إما أن يصاب بالعصاب (névrose) أو بالانحراف (délinquance)

يعتقد فرويد بان دافع الموت يقوم في داخل النزعة السادية بتحويل الهدف الايروتيكي لصالحه وذلك مع إشباع النزعة الجنسية بشكل كامل. وهذا يمكننا من إدراك جوهر دافع الموت في علاقته بوضوح مع الأيروس (نزعة الحياة). وإذا كان دافع الموت يظهر من غير غايات جنسية فإنه لا يمكن لنا أن نجهل بان إشباعه لا يرتبط بلذة نرجسية مرتفعة. ويعزى ذلك إلى انه يعطي الأنا مشهد تحقيق رغباته القديمة البالغة القوة. وعندما يتعرض هدف دافع للتدمير للصد والكبت فإنه وهو في إطار توجهه نحو موضوعاته يتوجب عليه أن يشبع الرغبات الحيوية للأنا في مجال السيطرة على الطبيعة. وهنا يميز فرويد بين ثلاثة أشكال للعنف وذلك في إطار العلاقة مع دافع الموت: السعادة السادية والغضب التدميري والعنف الظاهر الذي يتبدى في مجال نشاطات الهيمنة وخاصة في مجال العمل. ثم العدوان في إطار المعنى النوعي لهذا المفهوم الذي يتوافق مع الحالة الثانية. ويمكن الملاحظة هنا أن فرويد يتحدث بوضوح عن النرجسية (Narcissisme)

لقد بين فرويد هنا بأن التوحد هو شكل العلاقة الانفعالية مع الموضوع: وهو يقدر في هذا الصدد أن هذه العلاقة هي العلاقة الأكثر أولوية وبدائية. فالتوحد يمكنه أن يساعد على إدراك الآخر وأن يعمل على خفض درجة العدوانية. ويشير علم النفس الاجتماعي في هذا الخصوص وبقوة إلى أن الأفراد لا يظهرون عدوانيتهم أبدا إزاء هؤلاء الذين يتوحدون معهم مثل زعيم الجماعة وأعضاءها وبالتالي فإن هذه العدوانية تتجه إلى موضوعات خارجية. ويشير فرويد أيضاً في نص آخر إلى أهمية التوحد من اجل تجاوز العدوانية، وخاصة فيما يتعلق بخفض مستوى التنافس الأخوي (بين الأخوة). كتب فرويد يقول في هذا الخصوص:" لا يمكن للعداوة أن تجد إشباعا لها حيث ينشأ في مكانها نوع من التوحد بالنسبة للمنافسين الأوليين وتشير الملاحظات الجارية حول الجنسية المثلية "الهوموسيكومول" ان اختيار موضوع الحب قد احتل اتجاه الفرد نحو العداء والعدوان. ومع ذلك فإن فرويد يعترف أن التوحد يمكنه أن يأخذ اتجاه المحبة كما يمكنه أن يأخذ رغبة الاستيلاء على الموضوع.

هذا ويمكن للنزعة الأوديبية أن تكون مثالاً جيداً لهذه العملية. فالطفل يتوحد مع والده من الجنس نفسه، وذلك قبل إدراك مرحلة الأزمة الأوديبية. ومثل هذا التوحد لا يشعره وعلى نحو فوري أن الأب منافس له ولكن هذه الحالة تتطور مع ذلك باتجاه المنافسة. فالصبي الذي ينظر إلى أبيه بوصفه مثله الأعلى يصل إلى حد الرغبة في الحصول على مكانه وإلغائه. ويمكن لنا أن ننوه في إطار هذا المسار العنف الذي يظهر في هذه الظروف يتحول إلى مظاهر مسالمة: ولأن العنف لا يتجه إلى التدمير الذاتي فإنه يقطع حلقة الترابط التوحدي ويساعد على بناء التنوع والفردية.

وفيما يتعلق بمسألة العدوانية فإننا نعتقد أن فرويد وعلى الرغم من الأهمية الخاصة التي يعطيها لدوافع الموت لا يطرح على بساط البحث أهمية البعد النرجسي لظاهرة العدوان. إذ يتكامل البعدان -علاقة الفرد بأناة من جهة ودوافعه من جهة أخرى. وفي هذا الخصوص يمكن القول إن طبيعة الظواهر النفسية تتطلب من المحلل النفسي أن يجري عمليتين هما: تحديد هدف الأنا وتحليل دينامية الدافعية. ونحن نعتقد في هذا الصدد أن فرويد استطاع أن يقلص المسألة التي تفصل بين هذين الجانبين. فهو يؤكد ألا وجود لغايات خالصة وألا وجود لعمليات عمياء. فالمحركات الدافعية تحمل وبشكل مسبق دلالة ما قبل شخصية. بينما وعلى خلاف ذلك فإن المعنى الممكن إعطاؤه للأنا والذي يقدم نفسه للإدراك يبقى تابعاً أو يأتي فيما بعد. والسؤال الذي يبقى هنا هو مشروعية الحديث عن دافع الموت أو دافع العدوان. وفيما يلي سنعمل على إعادة النظر في هذه المسألة في ضوء المعطيات المعاصرة للأبحاث العلمية.

الأنا الأعلى LE SUR-MOI:

يشكل كل من الإحساس اللاشعوري بالذنب ومناهضه العلاج ظاهرة ينطلق منها فرويد لبناء اثنين من أهم تصوراته هما: دافع الموت ومفهوم الأنا الأعلى sur moi Leويبدو لنا أن الفكرتين متكاملتين.

ففي واقع الأمر لا يمكن للحياة الدافعية أن تفسر لنا بمفردها أشكال تجلياتها الخاصة بينما يستطيع المفهوم البسيط للأنا الأعلى أن يبين، كما يعتقد فرويد الطابع الشيطاني للمقاومات والعقاب الذاتي (Auto - Punition).

يجد التحليل الفرويدي لمفهوم الأنا الأعلى (Sur-moi) تبريره هنا وذلك ليس لأنه يكمل نظرية دوافع الموت بل لأنه يؤكد العلاقات القائمة بين التأنيب الداخلي والعنف. ويمكن تلخيص الطروحات الفرويدية التي تهمنا هنا في ثلاثة مسارات: أ-يسعى الأنا الأعلى (Surmoi) بشكل رئيسي إلى مواجهة العدوان ب - وهو وكالة تقوم بعملية الهدم الذاتي. ج - ويمكنه أن يتحول إلى مصدر للسلوك العدواني.

تعود فكرة الصراع بين الوعي والانفعالات إلى العهود القديمة. ومن هنا يستعرض فرويد وجهات نظر جديدة حول هذه المسألة وحول أصالتها، وهو في صدد ذلك يسجل منذ البداية تلميحات مهمة حول هذه المسألة. ففي رسالة له إلى فلييس (Fliess) عام 1897 وهو العام الذي كان خصباُ بالنسبة لفرويد كتب يقول:" إن هناك رقابة مشابهة لهذه التي توجد في الصحف الرسمية تمارس دورها في مجال الحياة النفسية وان هذه الرقابة مسؤولة عن العبثية التي تظهر في الهذيانات، وتكمن الفكرة الجوهرية لفرويد هنا في رأي قوامه أن الإنسان يتمثل معايير وقيما تشكل منطلق التأنيب الذي يظهر في الحلم والجنون. وفي هذا الصدد يشير فرويد بان الفرد الذي لا يمكن أن يتجزأ هو منذ اللحظة التي يبدأ فيها التأنيب كائن ممزق في داخله.

ينظر فرويد إلى الجنسية بوصفها المجال المفضل للتبكيت النفسي، وبالتالي فإنه يعترف تدريجيا بأهمية النضال ضد الاندفاعات العدائية والحقد والرغبة في التدمير. ويبدو النص الواضح حول هذه المسألة ومن غير شك في مقالته حول بؤس في الحضارة (Malaise dans la civilisation) حيث يطور فرويد هنا الفكرة التي تفيد بأن الأنا وبمساعدة العدوانية يتحول ضد نفسه ويراقب وبشدة العدوانية.

ولا يعني ما سبق أن أصالة فرويد كامنة في اكتشافه للحواجز الداخلية المناهضة للنزعات الجنسية وللعدوان، أو في اكتشافه أن هذه الحواجز الداخلية تشكل جانبا من الحياة النفسية فحسب، بل تكمن هذه الأصالة في أهمية أبحاثه الخاصة بالجانب الدينامي للمراقبة أيضاً. فالأنا الأعلى يؤدي عمله وكأنه يقوم بدور يعمل من خلاله الكائن على مراقبة نفسه وبطريقة يمكنه فيها أن يفخخ نفسه أو أن يعمل على تدميرها. فالأنا الأعلى ليس مجرد كابح: بل هو أحيانا عامل من عوامل الهدم الذاتي (auto destruction)

ما كنا لننتظر علم نفس الأعماق لنعرف بان الإنسان ومن اجل أن يجسد إنسانيته يجب عليه أن يوجه العنف إلى ذاته، ومع ذلك فإن تعاليم فرويد تجاوزت هذه الفكرة وحدودها. لقد تحدث فرويد منذ عام 1901 عن انطلاقة التكامل الخاص وعن التشويه الذاتي والانتحارات اللاواعية. فهو يعلن أن عنف الإنسان الموجه إلى ذاته يمكن أن يتحول إلى صيغة لا إنسانية فالأنا الأعلى الموجه الضروري للفرد خلال سنوات حياته يتحمل وبسهولة في هذه الحالة إلى خائن كبير.

لقد استطاع فرويد أن يعيد بناء مشكلته القديمة الخاصة بمقاومة المرضى للجهود العلاجية المبذولة من أجلهم. ففي الصفحات التي يكرسها لدراسة حالات تبعية الأنا، وفي الفصل الأخير من كتاب الأنا والهو (Le Moi et le Ca) يعلن فرويد كما هو الحال في منشوراته الأولى:" أنه لا يمكن لنا بسرعة أن نفسر ردود الأفعال السلبية للمرض وذلك بمعنى الإرادة اللبيدية أو الكبرياء. فالمرضى المستائين -وذلك عندما يظهر التحليل وجود تقدم صحي - يعانون من إحساس بالذنب لم يعترفوا به فهم ضحايا أنا أعلى لا يرحم.

خلال الفترة الأخيرة من عمله، وحتى اللحظة التي كرسها لدراسة المجتمع، يؤكد فرويد شيئا فشيئا على أهمية العدوانية والسادية، التي يظهرها الفرد إزاء نفسه، ومن غير شك فإن الأنا الأعلى المفروض إلى حد ما من قبل الآباء يعزز قيم العقاب والثواب، ولكن مع ذلك يوجد هناك عند الأفراد عملية بناء ذاتية خاصة بالحجج النقدية فالفرد هو في نهاية الأمر أن لم يكن حذراً يصبح عدواً لنفسه.

يعبر أريكسون (Erikson)جيداً عن فكرة أساسية في النظرية الفرويدية عندما كتب يقول:" إن بقاء الوعي الإنساني في مستواه الطفولي خلال حياة الإنسان برمتها يشكل موطن المأساة الإنسانية (1950) فالأنا الأعلى يبدو في حقيقة الأمر وفي وقت واحد بوصفه مصدراً ممكناً للتدمير الذاتي والعنف الموجه إلى الآخر.

ذكرنا منذ قليل، وفي محاور عدة، أن السلوك العدواني انعكاس لصراعات نفسية ولتعارضات بين الدوافع، ولا بد لنا من المرور على تتمة مهمة وقيّمة لفرويد حول هذه الفكرة. يبين فرويد أن الفرد لا يتحول إلى العدوان من أجل تدمير من يهاجمه أو من يجعله مذنباً فحسب بل يصبح عدوانياً بالتحديد لأنه يشعر بالذنب. لقد اكتشف فرويد في تحليله لحالة الصغير هانس (Hans) أن الأطفال يظهرون شراستهم من اجل أن يتعرضوا للعقاب والتخلص من إحساس الذنب الصادر عن توهماتهم. ويلاحظ فرويد بالتالي أن هناك أفعالا قاسية ترافق أحيانا عملية انخفاض الضغط النفسي. وهو يفسر هذه الحالة المدهشة بوصفها طريقة لإعطاء الأفكار الوهمية (Fantasmes) مضموناً موضوعياً ولبناء إحساس عميق بالذنب على المستوى الأوديبي، وفي هذا الإطار تلاحظ الشدة التي يمارسها الأنا الأعلى الجانح وفي المكان الذي قلما ينتظر توقعه.

وفي هذه المناسبة يمكن الإشارة إلى مساهمة فرويد في مجال علم الجريمة وإلى قدرته العبقرية في قلب التصورات الجارية حول السلبية النفسية، وهو من هذه الزاوية يعلن بان السلوكات الرقيقة يمكنها أن تخفي هوامات Fantasmesقاتلة، وان العدوانية الظاهرة هي في بعض الأحيان انعكاس لنضال الفرد ضد اندفاعاته النفسية الخاصة.

العنف في الثقافة:

يبين فرويد في كتاباته الأخيرة ترابط مفهوم العدوان بمفهوم الثقافة. ويحاول فرويد في هذا المستوى أن يبرهن أنه على مدى التاريخ كانت العملية الثقافية تستمد طاقتها من الدافع الجنسي ودوافع العدوانية. ومع ذلك لا يمكن لهذه الدوافع أن تعبر عن نفسها بطريقة موضوعية: فالإنسانية لم تتكون في واقع الأمر إلا من خلال عملية تسامي Sublimation خاصة بالدوافع الأولية. ويشرح لنا فرويد في كتابه المهد Le moise أن التطور في مجال الحياة الروحية يتطلب إبعاد الدافعية وصدها. هذا ويقدم تطور القيم الثقافية كالأخلاق والدين على أساس صد الطاقة الشبقية والدافعية.

فالدوافع الجنسية ونزعات تأكيد الذات والعنف والتي تبدو في مجموعها كمحركات للحضارة Moteurs تشكل في الوقت نفسه المخاطر الأساسية التي تهدد المجتمع. ففي البداية يتحدث فرويد عن التضاد بين الدافع الجنسي والحضارة ولكنه وفي محصلة لاحقة يعترف بأهمية الضغط بين الاندفاعات العدوانية والمجتمع في بناء الحضارة نفسها. ومن أجل استجلاء هذه المسألة سنذكر بعض المقاطع المستلة من ثلاثة كتب أساسية له.

يشرح في كتابه مستقبل الوهم Avenir D` une Illusion بأن المعاناة والردع الدافعي لا يعنيان تخطي ضرورة العمل الحيوية وان هناك نزاعات تدميرية لا اجتماعية وضد ثقافية عند جميع الناس ([10]).

وتشكل هذه الفكرة واحدة من المحاور الأساسية لكتابه شقاء الحضارة حيث كتب فرويد في هذا الخصوص: إن نزعة العدوان التي تستطيع أن نلمس وجودها في أنفسنا وفي الآخرين تشكل العامل الأساسي الذي يشوش علاقتنا مع المقربين وهي تؤدي إلى نوع من الهدر في الطاقات الثقافية الممكنة وهي بذلك تشكل تهديدا لأسس المجتمع المتمدن (...) حيث يتوجب على الثقافة أن توظف فعالياتها لكي تضع حدا لاندفاعات الناس العدوانية وان تعمل على احتواء مظاهر هذه العدوانية بمساعدة التأهيل النفسي الخاص بردود الأفعال.

يدافع فرويد في إطار محاضراته الجديدة عن هذه الفكرة ذاتها وخاصة في الوقت الذي يستعرض فيه تصوره لدافع الموت؟ وهو يحدد ذلك بدقة عالية عندما يستعرض ملاحظاته حول مفهوم الإحساس بالذنب. فالثقافة تنمو على حساب الدوافع الجنسية التي تتعرض لكبت المجتمع من جهة والتي تغدو قابلة للتوظيف من أجل أهداف أخرى من جهة أخرى. وهذا يعني أن اعترافنا بالدوافع الجنسية هو شرعي وينسحب ذلك بدرجة أكبر على الدوافع الأخرى وخاصة الدوافع العدوانية وهي الدوافع التي تجعل الحياة الاجتماعية شاقة وتهددها بصورة مستمرة. فالإلزام الذي يفرضه المجتمع على الفرد لتحديد عدوانيته يمثل ربما تضحية الفرد الأولى والأهم.

ويبدو لنا أن تصور فرويد للإنسان مشبع بالتزمت والتراجيدية. فالكائن الإنساني يتأرجح بين نزعتين إحداهما تشده نحو الآخر والأخرى تشده إلى نفسه، وهو في معاناته هذه لا يجد الحلول المتوازية. فحب الآخرين يقوده إلى خيبة الأمل الشديدة بينما يؤدي به غياب هذا الحب إلى النرجسية التي تدفع إلى المرض أو إلى خيبة الأمل أو إلى الموت ولا يمكن تركه هنا في هذه الحالة لسيطرة نزعاته العدوانية. ولكن المنع والرفض الخالص للعنف يؤدي إلى نزعة التدمير الذاتي، وفي هذا السياق يمكن القول إن العصاب Névrose والألم النفسي ليسا مجرد حادثة عابرة بل هما تعبير عن وضعية سيكولوجية محكومة بعواملها الموضوعية.

ومن بين المصادر الأساسية الثلاثة للألم الإنساني: الاضطرابات الفيزيولوجية، وصعوبات الحياة الاجتماعية، والكوارث الطبيعية، تعد صعوبات الحياة الاجتماعية هي الأكثر إيلاما. فالثقافة الخاصة بالنوع الإنساني تشكل مصدرا حقيقيا للآلام والمعاناة. وتأخذ هذه القضية أهميتها في كتاب فرويد (Das unbehagen) الذي يبين العوامل الاجتماعية للأمراض النفسية، وهو يتساءل في هذا الصدد إذا كانت الثقافة والتقدم الحضاري يبرران شرعية الآلام المعاصرة.

أ - يكمن السبب الأول للألم الذي يعزى إلى الثقافة في وجود صراعات ساخنة بين الدوافع الفردية ومتطلبات الحياة الاجتماعية. ولا يوجه فرويد هنا إصبع الاتهام إلى المعايير السائدة وشدتها المفرطة - وذلك ما يطلق عليه ماركو القمع المفرط Sur - répression بل إلى جوهر الثقافة والصراعات الأساسية الناجمة عنها.

لقد أكدنا منذ قليل على أهمية هذه النقطة، وهنا يمكن القول أيضا بأن قوانين الحياة الاجتماعية - التي تجسد بجوهرها رموز العنف - لا تستطيع أن تمارس دورها من غير اللجوء إلى العنف. وبالإضافة إلى ذلك فإن السلطة القائمة لا تكتفي بمنع إشباع بعض الحاجات الدافعية بل تعمل أيضا على إحداث تغيرات حقيقية داخل الفرد نفسه.

ب - يؤدي النقد الرئيسي الذي يوجهه فرويد إلى التنظيم الاجتماعي - ولا سيما في داخل المجتمعات التي يقال عنها متحضرة - إلى ولادة وتعزيز إحساس الإنسان بالذنب. ففي كتابه التوتم والتابو Totem et Tabou يعلن فرويد أن النظام الاجتماعي يقوم على الإحساس بالذنب الخاص بجريمة قتل الأب الأول، وفي هذه المرة يعترف بأهمية العقيدة الدينية ولكنه يعترض على الشكل الاستبدادي الذي يأخذه الأنا الأعلى على أثر التعزيزات الاجتماعية.

لقد أعلن فرويد على مدى حياته مبدئين متناقضين ظاهريا ولكن مع ذلك يمكن النظر إليهما من زاوية التكامل وهما: مبدأ التقشف والزهد Renoncement ثم مبدأ التسامي Sublimation وهما المبدآن اللذان يشكلان شرط الوجود الإنساني. ومع ذلك لا يمكن وضع حد نهائي لعملية إرضاء بعض النزعات الدافعية وخاصة في مجال الحياة الجنسية لأن ذلك يؤدي إلى إحداث اضطرابات نفسية ويؤدي إلى تعزيز العصاب والميل إلى التدمير.

يسير فرويد في أعماله اللاحقة إلى مصدر آخر للألم والقلق وهو الخطر الناجم عن الإنسانية نفسها: دمار الإنسانية الناجم عن الإنسانية نفسها. وهنا يدهش المرء لقدرة فرويد التنبئية وخاصة لأن هذه النبوءة سبقت حادثة هيروشيما Hiroshimaبخمسة عشر عاماً وهي التي يعبر عنها فرويد بالصيغة التالية: لقد استطاع البشر حالياً أن يتقدموا كثيراً في مجال السيطرة على الطبيعة ولكن ذلك يشكل مصدراً جديداً للدمار وما يؤسف له انهم يعرفون ذلك ومن هنا ينجم التوتر الحالي والبؤس والقلق.

هذا ويعتقد فرويد أن قدر الإنسان مأساوي وانه لا يمكن لأي نظام سياسي أن يحقق السعادة الكاملة للجميع. وهو في هذا السياق يصف البديهيات الماركسية بأنها أوهام لا تستند على أسس موضوعية. وهو على سبيل المثال لا يعتقد أن مبدأ إلغاء الملكية الخاصة يمكنه إيجاد الحلول لمشكلات العنف بمفرده. ولكن هذا كله يبقى بالنسبة له نوعاً من اليوتوبيا وذلك لأن دافع العدوان ونزعات المحافظة ذات سلطان راسخ الجذور في سلوك البشر.

ولنا الحق هنا أن نتساءل إذا كان فرويد يسعى عبر محاولاته هذه، التي يرى فيها أن بؤس الحياة الاجتماعية ينبع من الثقافة ومن الطبيعة الفيزيائية للإنسان، إلى إيجاد الحلول الأساسية لمسائل الحياة السياسية والاجتماعية. وبدقة أكبر ألا يمكن لفطرية “دوافع الموت “ أن تكون أيديولوجية رجعية تسعى إلى إخفاء أسرار العنف الكامن داخل البنى الاجتماعية، أو إلى تبرير العنف والعدوان والبؤس الاجتماعي.

حاول كثير من الباحثين التأكيد على أن نظريات فرويد كانت صيغة فكرية للأيديولوجية السائدة في عصره، ولا سيما هذه التي تعبر عن وضعية المجتمع الصناعي. وأفضل مثال على ذلك ما نجده في السوسيولوجيا المعرفية عند ريسمان David Resman الذي يدرس الاتجاهات الرئيسة في فكر فرويد ويبين إلى أي حد تبدو جدية فرويد في أعماله وإلى أي حد كان يغلب عليه طابع السخرية والهزل.

ويجدر بنا في هذا السياق أن نشير إلى نقد فروم Frommالذي يوجه انتقاداته إلى رأي فرويد في التوازن بين مبدأ الواقع ومعايير المجتمع الأبوي المستغل. لقد استطاع فرويد أن يصف بدقة أن هدف التحليل النفسي، وأن يعلن بأن التربية هي مساعدة الفرد على أداء حياة متوازنة قدر الإمكان ومساعدته على تحقيق التكيف في عمله. إن تأكيده على الضرورة وشكوكيته في المحاولات الثورية توحيان بأنه كان متأثراً بمثاليي مجتمع يسيطر فيه ما يسميه ماركوز Marcuse مبدأ الريع والعائدات Principe de rendement.

ينطوي التحليل النفسي على مفهوم " تحليل عقيدة التحليل النفسي " Analyse de la doctrine de la Psychanalyse. وعلى سبيل المثال يمكن الربط بين مفاهيم عديدة مع مفهوم الضرورةNécessité e والمركب الأبوي Complexe paternel عند فرويد. وفرويد نفسه يقدم إمكانية مثل هذا التفسير وذلك عندما يحاول البرهنة على أن القدر (المصير)Destin هو إسقاط للصورة الذهنية الأبوية، أو انه تجسيد مادي للأنا الأعلى. ونحن هنا لن تتوغل في هذا المسار المحفوف بالمصاعب.

نعتقد أن نظرية فرويد التي لم تصل إلى كمالها قابلة لرؤى نقدية كما يقول فرويد نفسه. وهي بنفسها قادرة على إجراء سلسلة من التصفيات الخاصة بطروحاتها. فالمفاهيم الفرويدية تقود في نهاية المطاف إلى طرح تساؤلات ذات طابع راديكالي. وإذ يلاحظ أن فرويد يتبنى منهجا يعتمد على التحديد الموضوعي وعلى رفض التلميحات الغامضة في نسق توجه دائم نحو نزعة نقدية. وذلك كله يجعلنا نعترف بأن التحليل الماركسي الذي تناول الجوانب العلمية لنظرية التحليل النفسي يبرر وجودها ويقف في عونها نحو نمو يقظ.

خلاصة:

في رسائله إلى ماري بونابرت Marie Bonaparts في مغرب حياته بصدد العدوانية يعلن فرويد أن هذا الموضوع لم يحظ بالأهمية الكاملة، وأن هذا الإهمال يتبدى في الكتابات السابقة التي عالجت المسألة بطريقة فجة وسطحية وهي كتابات لا تستحق الانتباه.

لقد حاول مؤسس التحليل النفسي أن يضع إطارا تفسيريا قادرا على تحجيم أوهام العقل وإسقاط أقنعة الرغبة. وحاول في هذا السياق أن يرسم خداع الآيروس Erose ومع ذلك فإن منهجه في التفسير يسمح أيضا بالاعتراف بعمل تاناتوس Thanatos الذي يجري بصمت.

لقد بينت محاولاته كيف يمكن للرغبة أن تسيطر على الذكاء، وهو في هذا الاتجاه يسلط الضوء على الأشكال المعقدة لبنية العنف، ويسعى عبر هذه المحاولات إلى رسم حدود العلاقة التي تربط الفرد بالجماعة. ومن هذا المنطلق فإن فرويد يأخذ مكانه بين المفكرين الذين عملوا على تفسير حوادث القرن العشرين مثل ماركس Marx ونيتشه Nietzsche وهو كسابقيه (ماركس ونيتشه) أبدع طريقة جديدة في التحليل حظيت بإعجاب الجميع واحترامهم. حيث قدر له أن يتناول الحقائق الجوهرية لعصره وبين أن الافتراضات القائمة والتفسيرات الجارية مجرد أوهام أو أكاذيب.

لقد قدر لفرويد- كماركس ونيشته - أن يسقط القناع عن العدوانية والعنف المجهول الناجم عن الإرادة الطبيعية والروح النبيلة. لقد بين نيتشه كيف يُصنَّع العبيد بآلية ضعفهم وكيف ينظم هؤلاء العبيد رؤيتهم للخير والشر من خلال هذه الفضيلة: فضيلة الضعف الوجودي الشامل. أما ماركس فقد أدرك عبر دراساته الاقتصادية علاقات الفائدة والربح والسيطرة. أما فرويد فإنه استطاع أن يعلّمنا الطريقة التي نصغي فيها إلى نداء الليبيدو Libido والكراهية La haine وكيف نكتشف خداعهما. وأنه لمن المؤكد أننا نستطيع أن نجد تأملات من هذا النوع عند باسكال وعند روشوفلد Rochefould وعند فولتير Voltaire ومع ذلك يمكننا القول إن التفسير العلمي لهذه الظواهر بدأ يتكون في مطلع القرن العشرين على يد فرويد الذي يعتبر وبدون منازع وأحدا من أبرز أنصار التفسير العلمي للسلوك الإنساني.

ولم يتوقف فرويد عند حدود الكشف عن شيفرة العنف ورموزه. بل تعدت جهوده حدود الكشف إلى مقامات التفسير. لقد قدر فرويد عاليا رأي أناتول فرانس Anatole France الذي أصاب كبد الحقيقة عندما كتب يقول " إنه لمن الصعب جدا لرجل يملك السلطة أن يمتنع عن الإفراط في ممارستها.

يبين فرويد، في إطار النص المخصص لعلم النفس الذي وصف بالتوحش بأن المعالج يرتكب خطأ كبيرا وذلك عندما يفاجئ المريض بتنبؤاته. وهنا هذا الخصوص يرسم فرويد الطريق نحو نظرية متكاملة للممارسة التحليلية. حيث يطالب تلامذته أن يمارسوا نوعا من التحليل الذاتي لسلوكهم وبواعثهم اللاشعورية التي تحركهم.

لقد علمنا مؤسس التحليل النفسي بأنه يجب أن نسمع الكلمات من خلال الحروف، وأن الإشارة البسيطة جدا تنطوي على دلالة تتكلم. يقول مالديني Maldiney في هذا الخصوص" إن التحليل النفسي يتهيأ دائما ليأخذ الآخر من خلال الكلمة والإشارة وأي تعبير وذلك لأن هدفه ليس أن يأخذ المرء بل أن يفهم. وتأسيسا على هذه المنهجية ظهرت استراتيجية تحليل نفسي صارمة تعتمد الصرامة النفسية والتشدد. وهي مواقف ليس له أية علاقة مع الموقف الذي بدأه فرويد وسار على هديه. فالتحليل هو من حيث المبدأ استسلام كلي لسماع ما يقوله المريض وإدراك للدلالة وسعي إلى تحرير اتجاهات جديدة للمعاني من أجل إيصال المريض إلى حقيقته الخاصة.

لقد دشن فرويد نموذجا علاجيا يذكرنا فيه " بأنه لا يجب أن نرد على الحديث العنيف بالعنف بل الاستماع والاحترام والمسالمة، وبالتالي فإن عالم النفس - الذي يهتدي بإضاءات هذا النموذج - يدرك بأن العدوانية والعنف هما فخان لا يجب عليه أن يمتلك إزاءهما ردود فعل وفقا لاندفاعاته الأولية الساذجة. إذ يجب عليه أن يستمع دون حكم الأفكار المسبقة، ودون انفعال ويتوجب عليه إزاء العنف الذي يبديه المريض أن يتخلى عن القول المنظم وعن قوة التدخل. فهو يشاهد لعبة العنف ولكنه يدرك جيدا أن العنف مجرد إشارة وأن الخوف والعدوان يتلاشيان عندما يجد المريض كلماته المناسبة للتعبير والاستماع.

لقد حاولنا أن نحلل المعطيات الأساسية لفرويد حول العدوانية ولم نشأ أن ننهك أنفسنا في عرض نصوص أدبية أو نقدية. وعندما يريد أحدنا أن يعرف ما يقوله فرويد حقاً عليه أن يلجا من البداية حتى النهاية إلى أعمال فرويد الأساسية في هذا الخصوص وسيدرك بعمق وأصالة هذه المعاناة العلمية التي أحاطت فرويد من أجل بناء رؤيته العلمية إلى مسألة العنف والعدوان.

لقد شاهدنا واستمعنا كثيرا قبل أن نأخذ موقفا من نظرية فرويد في العدوانية. لقد جاء موقفنا من فرويد على صيغة حوار كما يحدده دومينيك (Dominique Pir) قائلاً: "يجب على كل واحد منا أن يضع جانبا ما هو عليه وما يفكر به وذلك من أجل فهم وتقييم وجهة نظر الآخر إيجابيا وذلك من غير أن يشاركه الرأي".

"ومع ذلك كله فإننا لا نريد أن نصنف أنفسنا بين هؤلاء التلاميذ الذين اندفعوا بكل حماس ليرددوا بطريقة قهرية ما قاله المعلم، وكأن أقواله وتعاليمه نهائية وإلى الأبد. هؤلاء التلاميذ يتابعون النظر إلى نصوص فرويد بوصفها نصوصا مقدسة تمتلك على المعرفة المطلقة، وهم ينتهون بذلك أيضاً إلى الاعتقاد بأن البحث التحليلي المعاصر توجهه الحكمة القائلة "أنا موجود إذن أنا أفكر" فنحن نعلم اليوم أن فرويد الذي قضى حياته برمتها وهو يتساءل يدعونا اليوم وعلى خلاف ما ذهب إليه هؤلاء إلى موقف معارض هو تجاوز الأفكار الأولى المكتسبة ثم إعادة تشكيلها وإعادة بنائها"

ونحن في النهاية ندرك بأنه لا يمكن لجميع عناصر نظرية ما أن تكون قد برهنت واختبرت على نحو كلي، وندرك أيضا أن خصوبة نظرية ما مرهونة في نهاية الأمر بمدى رقيها التجريدي، ومدى تماسكها المنطقي، ومدى امتلاكها للمفاهيم المعقلنة والمفاهيم القابلة للملاحظة، ومن غير ذلك فإن النظرية تتحول إلى ميثولوجيا أسطورية أو إلى نوع من الخطابة البلاغية.

***

علي أسعد وطفة

كلية التربية – جامعة الكويت

................

هوامش المقالة ومراجعها:

[1] Sigmund FREUD, Moïse et le monothéisme, traduit par Anne Berman, Paris. Gallimard. P 75.

-[2]Jacques Van Rillaer: L’agressivité Humaine , Ed. Pierre Mardaga , Paris, 1988.

[3] علاء اللامي، خرافة العنف الدموي في ضوء العلوم الحديثة: رؤية تحليلية في غرائز التدمير والانتقام والحروب، مجلة الزمان الجديد، العدد 36، ديسمبر/كانون الأول، 2002، صص 68-81، ص69.

[4] - Dollard J., DoobL., Miller N., Et Autres, Frustration et agression, University Press 1939.

[5]- FREUD (S.) Totem et tabou, trad. S. Jankélévitch, 7e éd. Payot, Paris, 1977.

[6]- النرجسية Narcissisme عشق الذات: يقصد بها التحليل النفسي تلك المرحلة التي يتميز بها الفرد إلى اتخاذ الفرد إلى اتخاذ ذاته موضوعا لعشقه. وهو ميل يشتد في الحالات المرضية وخاصة الأمراض العقلية. في الأسطورة القديمة كان نارسيوس مأخوذا بجمال صورته التي تنعكس ماء النبع الذي سقط فيه، ثم تحول إلى زهور تحمل اسمه كما تقول الأسطورة القديمة.

[7] - FREUD (S.), Considérations actuelles sur la guerre et la mort, [1915], in Essais de psychanalyse, Payot, Paris,1981.

[8] - الاكتئاب Mélancolie: مرض عقلي من أهم أعراضه انخفاض النشاط الحركي والانطواء وانعدام الاهتمام بالعالم الخارجي والأرق والرغبة في الانتحار.

[9]-Freud S., «Au-delà du principe de plaisir» [1920], in Essais de psychanalyse , Payot, paris,1981.

[10] -FREUD (S.), L’Avenir d’une illusion, trad. M. Bonaparte, 5e éd., P.U.F., Paris, 1980.

 

من أعجب العجب أن تتقدّم العلوم الكونية والعلمية ويتأخر العلم بالإنسان، وربما كان موضع العجب في تلك الصعوبات التي تمَّ منذ القدم “تجهيل” الإنسان من أجلها : تجهيله بحقيقة ذاته، فهو لن يعرف سرَّ الحياة ولا سرّ الموت أبداً، ولم يدرك أبداً سِرَّ الرُوح الإنساني، ولن يعرف شيئاً من أسرار التكوين البشري. إنّ علم الإنسان بالإنسان متأخرُ جداً عن علم الإنسان بالطبيعة والفلك والكيمياء والميكانيكا والأسلحة النووية والبيولوجية!

صحيحُ أن هنالك محاولات شاقة ومُضنية بُذِلتْ من جانب العقل البشري لمعرفة الحقائق الكبرى، ولكن المدى لا يزال بعيداً، والوصول إلى سرِّ الحياة يكاد يكون من المستحيلات، وذلك لأن تركيب العقل نفسه – فيما يقول برْجُسون – يتصفُ بعجز طبيعي عن فهم الحياة. فلا يعني مطلقاً تقدُّم العلم المادي معرفة الإنسان نفسه بنفسه؛ فتأخُّرُه في هذا المجال مقدَّمُ على تقدُّمه في العلم المادي.

لكن القرآن الكريم عنى عناية بالغة بالإنسان، والتفكير في الدّين مجموعٌ بين دفتي القرآن ومحمول عليه، يتحرّك في إطاره ولا يخرج عنه. وما من تفكير في الدين لا يمسّ القرآن في صميم الصميم لا يعوّل عليه؛ لأنه بالحقيقة يبني الإنسان من جهة النفس والعقل والقلب والروح والسر كما يبنيه من جهة البدن والهيئة والجسم والقالب سواء.

ولا بدّ لقائل أن يتسأل فيقول : إذا كان التفكير في الدين نفسه أوسع عناية وأشمل خطاباً من الدين الإسلامي وأعمّ من ذلك بكثير من حيث إنه يتجاوز القرآن إلى سائر الأديان الكتابية الأخرى السابقة عليه من يهودية ومسيحية، ناهيك عن الديانات الغير كتابية ممّا تضمّنه الفكر الشرقي القديم في مصر والهند وفارس والصين وغيرها من أمم الأقوام البدائية والحضارات السالفة، فهل يجوز على هذا كله، اختزال كل تفكير في الدين في الإسلام فقط أو في الدّين الإسلامي، وهل يقتصر التفكير في الدين على الإسلام وحده أو على القرآن، مُهملاً بذلك سائر الأديان والعقائد الأخرى؟

بداهةً؛ لا يمكن لقارئ لديه أدنى اضطلاع على مقارنة الأديان، ولا لباحث في القرآن على التعميم، أن تغيب عنه مثل هذه اللفتة، فإنّ الفرق كبير جداً بين تراث بشري قام على الدين، وبين أصل الدين نفسه حين أظهره الله تعالى بالهدى ودين الحق على الدين كله. غير أن المنطقة التي نتحدّث منها ولا نغفلها لم تكن بغائبة عن هذا التفكير في الدين عموماً، وعلينا من ثمّ تحديدها بما يناسب علّة هذا التفكير في الدين، وبما يخضعه لها من حيث كونها مبعث شمولٍ لحركة الوعي الخاصّ بها على الجملة فضلاً عن التفصيل.

لم تكن منطقة الإظهار في القرآن بالمنطقة التي ينفصل فيها الوعي الكوني عن هيمنة المقدّس واحتوائه.

ــ منطقة الإظهار:

في القرآن الكريم نقرأ قول الله تعالى :”هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً” (الفتح : 28). لا حظ التعقيب أنه سبحانه أشهد نفسه على هذا الإظهار كما أشهدها على الإرسال. وقوله تعالى : “هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون ” (التوبة : 33، والصف : 9). ولا بدّ لهم من كراهة. ويشدّد على نفس الآية في سورة الصف في حين لم يذكر آية سورة الفتح إلا مرة واحدة، ولم يكررها كما كرر التعقيب “ولو كره المشركون” مرتين في التوبة وفي الصف، فهو سبحانه إذ أرسل رسوله بالهدى ودين الحق أشهد نفسه على الإرسال والإظهار؛ فأعجز وتحدى، ولم يكررها في القرآن كله في حين كرر التعقيب “ولو كره المشركون” في آية التوبة وآية الصف، لتوكيد الإعجاز وتشديد التحدي، وتكفي شهادته سبحانه على منطقة الإظهار : أشهد نفسه على حكمه، وتحدى وأعجز، وكفى بالله شهيداً.

أما كراهة المشركين للإرسال والإظهار في آيتين؛ فتنبيه لتحدي الإعجاز : إظهار دين الحق على الدين كله.

من هذه المنطقة يظهر الدّين الحق برسالة الرسول الخاتم مهيمناً على سائر الكتب السماوية الأخرى بمطلق ما جاء فيه من هدى، ومن دين الحق. وعليه؛ يصبح التفكير في الدين هو بالأساس تفكيرٌ في القرآن مع كفاية الله للشهود الذي أرسل، وللهداية التي أوجب، وللدين الحق الذي ارتضاه.

وما دام تفكيراً في القرآن فهو لا شك تفكير يصدر عن منطقة الإظهار. تلك المنطقة التي أرسل الله منها رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله؛ فالتفكير فيها ومنها هو تفكير بهذه المثابة في الدين كله، لكن ليس أي دين ولا كل دين بل دين الحق، بمشكاةٍ من الوعي النبوي، على هداه، وعلى شرطه، لا على هدى غيره ولا على شرط سواه.

لم يكن تفكيرٌ في الدين بخارج عن منطقة الإظهار. ومنطقة الإظهار هذه هى أكمل درجة تتحقق فيها الخاصّة الذاتية للقرآن لتستولي على جميع الخصائص الذاتية فيه؛ لأنها منطقة الوحي الذي أظهر الله فيها رسوله بالهدى ودين الحق ولأن الدين إذا كان فيه الحق ففيه الباطل الذي خضع لتحريفات أصحابه وتبديلات رؤسائه.

غير أن الإسلام ظهر من منطقة الإظهار بدين الحق وكمل بهذا الظهور هدى، ثم هيمن بالرقابة والنقد والتصحيح على ما سبق من أديان، هيمن عليها بإضافة وجه الحق منها واستبعاد الباطل الذي تم تشويهه بأيدي رجاله ممِّن أقاموا فيه قيام الأوصياء. وفي منطقة الإظهار التي أرسل الله فيها الوحي الإلهي، نزل بالقرآن الروح الأمين على قلب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه؛ ففي القرآن خلاصة الكتب السماوية المتقدّمة. وقد جاء بالناموس الأعظم لكمال الحالتين الدنيوية والأخروية، وآخى بين طبيعتي الإنسان الجسدية والروحية، وأنه أنزل للعالمين أجمعين، وروعيت فيه مصالحهم على قسطاس مستقيم. وقد رُبيت على أسلوب هذا القرآن أمة قبل بضعة عشر قرناً؛ فنالت به على مدى سنين قليلة ما لم يصل إليه غيرها في القرون العديدة، وبلغت من بسطتي العلم والملك، ما لم يتهيأ لغيرها في مثل الزمن القصير الأمد.

وبما أن الإسلام آخر الأديان الموحاه فقد امتاز على غيره امتياز الأخير من كل شيء؛ فأصبح له على سائر الأديان امتيازاً؛ لأن الأخير من كل شيء مزيّة ليست لما تقدّمه. وقد صرح القرآن الكريم أن محمداً رسول الإسلام آخر المرسلين، وأنّه أرسل للناس كافة أجمعين :” وما كان محمدٌ أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم المرسلين” (الأحزاب :40) ..”وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً” (سبأ : 28). وهذا ما لم يصرح به كتاب منزل حتى الكتب الموجودة بيننا للآن، فقد يؤخذ من كتاب “بوذا” أنه أرسل لإصلاح ديانة البراهمة. ويؤخذ من كتاب “موسى” أنه أرسل لبني إسرائيل. وكذلك كتاب عيسى عليه السلام بأنه أرسل إلى بني إسرائيل أيضاً. فلم تكن هنالك دعوة في هذه الكتب إلى أمم العالمين. ولكن نبوته صلوات الله وسلامه عليه، عامة، تامة، شاملة، عالمية. وهذا ممّا يجب أن يلفت النظر لدين الإسلام ولنبي الإسلام، ويجعل له مزية على غيره من الأديان. وبما أن الإسلام دين عام فقد شرّعه الخالق لربط الشعوب، أبيضها وأصفرها وأحمرها وأسودها.

محا الله امتيازات الأجناس والعناصر بمنطقة الإظهار والهيمنة، فأرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون، فلم يعد من هدى ولا من دين الحق سوى دين الإسلام ونبي الإسلام. أمّا من حيث الهيمنة، فإنَّ القرآن الذي نزل بالحق أشتمل على الصحيح الثابت من الأحكام وهو مصدق لما بين يديه من الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل، وهو مُهيمن عليها، رقيباً وشاهداً على ما سبقه من الكتب، يقرُّ الحق ويظهر خطأ ما حرَّفوه : “وأنزَلْنَا إلَيكَ الكتابَ بالحق مُصَدِّقاً لِمَا بينَ يديه من الكتاب ومهيمناً عليه؛ فَاْحْكُم بينهم بما أنزل اللهُ، ولا تتَّبع أهواءَهم عمَّا جَاءَكَ منَ الحق، لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكُم أمةً واحدةً ولكن ليَبلُوَكُم في ما آتَاكم، فاستبقُوا الخيرات، إلى الله مرجعُكُم جميعاً فيُنبّئُكُم بما كنتُم فيه تَختَلفُونَ” (المائدة :48).

وفي حديث ابن عباس أن بعض علماء اليهود قالوا : يا محمد : نحن أحبار اليهود، ولو اتبعناك لاتبعك اليهود كلهم، وإنّ بيننا وبين أناس من قومنا خصومة، ونريد أن نتحاكم إليك، فإنّ قضيت لنا أعلنا صدقك. فلم يقبل عليه السلام فأنزل الله فيهم ذلك إقراراً له على ما فعل.

قضى الإسلام بما تقرّر في كتابه العزيز من أوامر ونواهٍ على العصبيات، وقرّر مبدأ المساواة العامة، وصرح بأن الإنسانية كلها في ظل هذا الدين أسرة واحدة، أبوها آدم وأمها حواء، وأنه ما صارت شعوباً وقبائل للتنازع وللتقاتل ولكن للتعارف ولتبادل المنافع، فقال تعالى مخاطباً النوع الإنساني كله :”يأيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم” (الحجرات : 13).

ومن منطقة الإظهار هذه، قصد القرآن تربية الإنسان؛ ليكمل بنيانه الجسدي والروحي والعقلي والنفسي والخُلقي، وجعله صالحاً لمواجه ضروب الحياة المنوعة بكل ما فيها من حق وباطل، ومن خير وشر، ومن رزيلة وفضيلة، ونهج في تربيته مناهج يجب تمييزها جملة، ثم مشارفتها تفصيلاً، وفيما أشار الأستاذ الفاضل محمد فريد وجدي في مقدمة المصحف المفسر، فقد خاطب العقل، وناجي العواطف، وحاسب السرائر، وآخذ الضمائر، وأدب الحواس، وهذّب الملكات، وعدّل القوى، وقرر العقائد، ودعمها بما يناسب كلا منها من براهين، وحكى حال العالمين من حيث الدين، وأرى مواقع البطلان من معتقدات سائرها، وقاد الكتائب، ودوّخ الممالك، ومَصّر الأمصار، وشيّد المدنية الفاضلة، وسنّ الشرائع الكاملة، ووضع دستور الحكومة، وصبّ الأمة على قالبه المحكم، ووضع للمعاملات ناموسها، وشرع للبصيرة شرعتها، وركب للأفئدة علاجها، وخاطب كل نفس على قدر وسعها، وأتى بذلك كله منثوراً في السور على النحو الذي أراد الله عز وجل، بحيث إن بعضه يكمل بعضه الآخر ويوضحه، أو يرى وجهاً آخر منه.

ولا شك كان المقصد السامي الذي نزل القرآن من أجله فأصابه (هو تربية الإنسان تربية صحيحة، وإبرازه أمام الوجود بشراً سويّاً، حاصلاً على كمال طبيعته الجسدية والروحية، متمتعاً بجمال حالتيه الصورية والمعنوية، وهو لأجل إبلاغ الإنسان هذه المكانة العليا عملياً فعلياً، لم يتوجه إليها من قبيل النصائح المجرّدة، والمواعظ العارية؛ بل حاولها من كل مظانها العمليّة؛ بإدخال الإنسان في مقتضياتها ولوازمها، وتوريطه في متعلقاتها وأسبابها؛ ليدفع الإنسان إليها اندفاعاً طبيعياً قسرياً؛ ليكون في كماله الديني سائراً على منهاج كماله الجسمي كيما يكون مسوقاً بنواميس طبيعة لا يستطيع أن يتخلص منها.

ومعنى هذا أن القرآن من منطقة الإظهار كاشف لقارئه عن خصائصه الذاتية التي توجد فيه وحده ولا توجد في سواه، وأنه في أمره لنا أن نتديَّن بالدين الحق الذي لا يقاربه باطل لأنه مرسل بالهدى على حكم الاعتقاد؛ لم يتركنا عند الأمر بالتدين وكفى نؤوله كما نشاء؛ بل علمنا كيف نبحث عنه، وهدانا للأعلام التي تستدل بها عليه، وعيّن لنا القسط الذي نستطيعه من إدراكه، ونصب لنا ميزاناً نزن به محصول الفكر والنظر في جميع ما ذكر.

(وللحديث بقيّة)

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم

هل للإنسان إمكانية القيام بالفعل والاختيار باراته الحرة، أم أن هناك قوة غيبية تجعله مجبرا على أفعاله واختياراته؟

عودة إلى نقاش قديم الجواب الكلامي الإسلامي، في تصورات لاتجاه الاعتزالي والأشعري أنموذجا، من خلال الدراسة التحليلية للدكتور عبد الحكيم أجهر1.

لن نختلف إلى حد ما أن الممارسة الكلامية لم تكن ممارسة لاهوتية في جوهرها وأساسها، إذ حاولت أن تتجاوز تلك القضايا والإشكالات اللاهوتية التيولوجية بمعناهما التقليدي وتوسلت بالمناهج الفلسفية العقلية المنطقية خلال انفتاح الحضارة الإسلامية على الثقافات الأخرى، خاصة اليونانية وما أبدعته في مجال المنطق؛ طبعا في مرحلة نضج الممارسة الكلامية. ومن بين الإشكالات التي أثارت الفكر الإنساني منذ قرون هي إشكالية العناية الإلهية بالعالم، وبتعبير آخر هل الصانع حينما أبدع هذا العالم هل وضعه تحت عنايته أم لا؟ وهذا الإشكال سيعبر عليه في التراث الكلامي بمسألة الاختيار والجبر، بعبارة أخرى هل الإنسان مجبر على اختياراته ومسير في كل أفعاله، أم أن له حيز من الحرية والإرادة؟

لقد حاول العديد من الفلاسفة والمفكرين بل حتى الفقهاء ورجال الدين الإجابة عن هذه الإشكالية، وطبعا معهم العديد من المتكلمين، ومادام القرآن والسنة هما مصدري التشريع لدى المسلمين، ومادام علم الكلام كما قيل عنه "قنية2 إسلامية خالصة" فقد لجأ المتكلمون لهما، أي للقرآن والسنة، كمحاولة للإجابة عن هذا الإشكال. ولكن ما واجههم في البداية هي إشكالية التناقض والتعارض بل التضاد الظاهر بين الآيات القرآنية، ولهذا وجدوا أنفسهم مضطرين لإعمال التأويل لرفع كل تناقض وتعارض ظاهر، وكان من نتائج ذلك أن كل فرقة كلامية قادتها مسألة التأويل إلى نتائج مخالفة لنتائج الفرق الأخرى رغم انطلاقهم من نفس العقيدة.

إن الذين يقولون بالجبرية يعودون إلى النصوص الدينية التي تؤكد على أن قدرة الله قدرة مطلقة في العالمين السماوي والأرضي، والذين يقولون بالإرادة يعودون كذلك للنصوص التي تدعم تصورهم. وانطلاقا من ذلك فإن الطائفة الأولى ترى أن الإنسان مجبر في كل أفعاله واختياراته؛ واستدلالهم على ذلك أننا إذا نسبنا للإنسان القدرة على الفعل وقلنا إنه هو الذي يفعل فمعناه أنه يخلق، وبالتالي سيكون مشاركا لله في الخلق، وتجنبا لهذه النتيجة التي هي مناقضة لصفة من صفات الله، ومخالفة لأصل من أصول العقيدة أرجعوا كل الأفعال إلى الله. أما الفرقة الثانية فإنها تقر بالإرادة الإنسانية الحرة واستدلالهم على ذلك أننا إذا أقررنا بالجبرية فإننا سنسب إلى الله الظلم، إذ من الغير المعقول أن يحاسب الله عبدا على فعل لم يرتكبه بإرادته. وكما هو معلوم فإن من التوحيد أن ننزه الله عن كل الصفات القبيحة، وفي مقدمتها صفة الظلم، ومن العدل أيضا أن ننزه الله عن القيام بالأفعال القبيحة وفي مقدمتها أن يظلم عباده بعقابهم على فعل لم يرتكبونه، وبذلك أقروا بالعدل الإلهي كي يتجنبوا مخالفة أصل من أصول العقيدة.

لقد تركت لنا الحضارة الإسلامية إرثا كلاميا فلسفيا منطقيا كبيرا بخصوص هذه الإشكالية، وإذ سنشير فيما يلي لتصور كل من المعتزلة والأشاعرة فإننا بذلك لا نحاول أن نقزم من شساعة التصور الكلامي للفرق الكلامية الأخرى، لأن المسألة تحتاج إلى وقت وجهد وتفرغ للبحث، لذلك سنقتصر على فرقتين بارزتين أشار لهما الدكتور عبد الحكيم أجهر في الفصل الأول من كتابه3.

لقد اختلف المعتزلة مع الأشاعرة في مسألة قدم أو حدوث صفة الإرادة، بحيث عرفها المعتزلة بأنها "ما يتم التخصيص بها، تخصيص وقوع الفعل على وجه دون وجه" وبذلك اعتبروها مخلوقة أو حادثة لأن القول بأزليتها يشمل تعلقها بأفعال الشر والقبح في العالم، باعتبار أن المعتزلة يربطون بين الإرادة والفعل، ذلك لأن جميع أفعاله يجب أن يريدها لكونها أفعال خيرة وأنه لا يصدر عنه إلا ما هو حسن، وبالتالي تصبح الشرور والقبائح في العالم من مسؤولية الإنسان وليس الله، أي أنها تنسب للإنسان وليس لله. وعلى خلاف ذلك فإن الأشاعرة قالوا بقدم الإرادة واعتبروها شاملة ومطلقة مثلها مثل القدرة والعلم. إن أفعال الله حسب التصور الكلامي الأشعري لا يرتبط بما هو أصلح فقط بل يرتبط بكل ما هو حسن وقبيح، ذلك أن إرادة الله إرادة شاملة ومطلقة لكل شيء، لأن القول بعكس ذلك يقودنا لاعتبار أن الله مستكرها ومغلوبا لأن البشر قد يرتكبون بعض المعاصي التي حرمها الله عليهم وبالتالي إذا نفينا شمولية إرادة الله فإن الله بذلك سيكون مغلوبا ومستكرها.

أما بخصوص القدرة الإلهية كصفة فقد أجمع جل المتكلمين على قدمها وأزليتها. كما اتفق المعتزلة فيما بينهم على مبدأ أساسي وهو قولهم باستحالة مقدور بين قادرين، بمعنى أن الفعل الواحد لا يمكن أن يقوم به أكثر من فاعل واحد وهذا الفاعل الواحد إما أن يكون الله وإما أن يكون الإنسان ولا يجوز القول بأنهما يشتركان في الفعل الواحد لأن أي محاولة للإشراك بينها سيؤدي حتما إلى تقليص دور القدرة الإنسانية، وبالتالي ستطرح إشكالية المسؤولية الأخلاقية في العالم وعن أصل القبح والشر. من دون أن يعني هذا أن القدرة الإنسانية هي قدرة لها استقلالية مطلقة باعتبار أن مصدرها هي القدرة الإلهية ذاتها، هذه القدرة الأخيرة توزعت في العالم حقيقة وليس مجازا وحينما تقبع هذه القدرة أو القوة الإلهية في محل ما في العالم، يصبح هذا المحل فاعلا بتلك القدرة ومتصرفا بها على نحو مستقل.

كما اتفق معظم المتكلمين على أن الإنسان لا يستطيع القيام بأي فعل حتى تتوفر فيه الاستطاعة للقيام به، والاستطاعة هو عرض يخلقه الله في الإنسان ليصبح قادرا على القيام بالفعل، ولكن في المقابل إختلفوا في إشكالية الزمن، أي الوقت الذي يخلق فيه الله عرض الاستطاعة هذا، فالأشاعرة وغيرهم من الفرق الكلامية كالطحاوية والماتريدية أقروا بأن الله يخلق عرض الاستطاعة في الإنسان مع نفس الوقت الذي يقوم فيه بالفعل، وبذلك أبدعوا مفهوما جديدا في الممارسة الكلامية وهو مفهوم "الكسب" ذلك أن الإنسان قبل قيامه بأي فعل يحتاج لعنصرين أساسين وهما الإرادة والقدرة، فأما الإرادة فهي من الإنسان وأما القدرة فإنه يكسبها من الله وبالتالي فإن الكسب هو منزلة بين منزلتي الجبر والاختيار، باعتبار الحرية التامة والمطلقة هي لله وحده كما أن الإنسان ليس مسيرا ومجبرا في كل أفعاله واختياراته، وبالتالي تكون نتيجة ذلك أن الإنسان يتحمل كامل مسؤوليته في قيامه بأفعاله دون أن يؤثر ذلك على إرادة وقدرة الله. أما المعتزلة فقد اعتبروا أن الحرية والإرادة الإنسانية هي لطف ثان من الألطاف الإلهية بعد لطف العقل والنقل وفي ذلك يتجلى عدله تعالى بأن لا يعاقب عباده إلا بعدما يهب لهم العقل ويرسل لهم الرسل ويهب لهم الإرادة ويحاسبهم بقدر القدرة التي وهبها لهم، ويستدلون على ذلك أن الله إذا كان يسير العبد في كل أفعاله فهذا يعني أن الذي يعصي الله يطيعه وأن المؤمن والغير المؤمن كلاهما يطيعان الله والأكثر من ذلك أن الغير المؤمن يكون يوم القيامة مستحقا للثواب بدخوله للجنة لأنه أطاع الله. وبذلك قالوا المعتزلة بأن عرض الاستطاعة يخلقه الله في الإنسان قبل قيامه بالفعل بزمن، وهذا الزمن يخول فيه للإنسان القيام بالفعل وممارسته سواء القيام بنفس الفعل أو بضده أو حتى تركه.

وانطلاقا من كل ذلك فإن الأشاعرة قد وقفوا موقف وسط بين "النقيضين" وذلك حينما اعتبروا أن القدرة مخلوقة من الله لأن الله خالق لكل فعل بوصفه الخالق المباشر للقدرة، كما أن الله هو من خلق الإنسان وكل ما يصدر عن هذا الإنسان إنما هو مخلوق من عند الله، دون أن يعني هذا أن الأشاعرة يعتبرون أن الله هو من يقوم بالفعل بدلا من الإنسان أو أن الإنسان مقصي من الفعل تماما، ذلك أن الفعل يعود للفاعل. إضافة لذلك فإن تأكيدهم على أن الاستطاعة يتم فقط زمن القيام بالفعل ووقوعه يتم من خلاله ضمان شمولية القدرة الإلهية وعدم استقلال القدرة الإنسانية عنها. وبذلك سيؤكد الأشاعرة على أن القدرة الإنسانية ليست قادرة على الإحداث والإيجاد ولكنها مؤثرة بوصفها امتداد للقدرة الإلهية ذاتها عكس المعتزلة، خصوصا تصور أبي علي الجبائي، حيث أكدوا أن القدرة الإنسانية تمكنه من الخلق والإبداع وهي قدرة فاعلة حرة مستقلة عن مصدرها، أي عن القدرة الإلهية.

***

يونس موحيا - باحث مغربي

الكلية متعددة التخصصات الناظور، جامعة محمد الأول بوجدة

...................

1- عبد الحكيم أجهر، التشكلات المبكرة للفكر الإسلامي وتحولها الى أنساق عقلية دراسة في الأسس الأنطولوجية لعلم الكلام الإسلامي، المركز الثقافي العربي، (ط1)، الدار البيضاء، المغرب، 2005.

2- بمعنى أن علم الكلام نشأ في البداية من رحم الثقافة الإسلامية قبل أن ينفتح على التراث الأجنبي، اليوناني بالخصوص، لذلك فهو علم إسلامي خالص.

3- عبد الحكيم أجهر، (م س)، ص 43 وما بعدها، ص 73 وما بعدها.

"لا بد من مسحة جنون في عقل الحكيم" (أرسطو).

"لكل حصان كبوة ولكل صارم نبوة ولكل حكيم هفوة" مثل سائر

1- مقدّمة: لم يعرف الفكر الإنساني نظيرا للسمو الأخلاقي الذّي نجده في فلسفة كانط وأعماله، وقد لقب بفيلسوف الواجب الأخلاقي لإبداعاته الرّائدة في تقديم نظرية أخلاقية لا مثيل لها في تاريخ الفكر الإنساني. وقد تجلت مواقفه الفلسفية الأخلاقية في جليل أعماله وعظيم مؤلفاته ولا سيّما في كتبه: "أساس ميتافيزيقا الأخلاق ((1785[1]ونقد العقل العملي (1788)[2]، وميتافيزيقا الأخلاق (1797)[3]. وبرز هذا الاتّجاه أيضا في كتابه "رسالة في الأخلاق والدين"[4]، كما تناول هذا الجانبَ في كتابه المعروف" في التربية"(On education) وكرّس أهم محاوره للتربية الأخلاقية، وقد اتّضحت هذه الأخلاق في كتابه السلام الدائم "Perpetual Peace"(1795)[5]. وكان هذا الموضوع الأخلاقيّ متواترا في معظم أعماله غالبا عليها بصورة مستمرة وثابتة، لذلك استحقّ لقب فيلسوف الأخلاق بكلّ جدارة وامتياز كنتيجة طبيعة للجهود الجبارة الّتي بذلها في هذا المجال.. ومن الطبيعي أن نظرية كانط الأخلاقية بلغت أرقى مستوى من مستويات التفكير الأخلاقيّ الذي يبحث في الفضيلة وشروطها الإنسانية. وقد جعل من الأخلاق غاية الوجود بل غاية الخلق الكوني للطّبيعة والإنسان. وعلى هذه الصورة من الإنتاج السامي في مجال الأخلاق والواجب تبدو نظرية كانط وكأنها دعوة نبوية رسولية إلى تمثل الأخلاق كدين عالمي.

ولكن على الرّغم من هذا السّموّ الأخلاقيّ الّذي وسَم فلسفة كانط وحمله على أن يجعل الإنسانَ غاية قصوى والقانونَ الأخلاقيّ قيمة إنسانيّة عليا، وعلى الرّغم من قوّة الدّعوة إلى السّلام الإنسانيّ والتّآلف بين البشر من أجل نصرة هذه القيم، فإنّ هذا الفيلسوف لم يستطع أن يُخفي البعد العنصريّ الّذي رشح بوضوح في فلسفته الأنثربولوجية. ولم يكن للسماء الصافية في فلسفة كانط إلاّ أن تتلبّد بغيوم سوداء مخيفة تمثلت في مواقف عنصرية مُشينة في تفكيره. ولا يخفى على من اعتاد أن يتأمل في السمو الأخلاقي لفلسفة كانط أن يصاب بالذهول والصدمة عندما يتعرّف إلى أفكاره العنصريّة التي أثارت عاصفة من النقد والتحليل والتفكير. والمشكلة الكبرى التي تواجه القارئ قبل الفيلسوف أنه لا يمكن التوفيق إطلاقا بين نقيضين متطرفين لا يمكن الجمع بينهما أبدا؛ أي بين السمو الأخلاقي الذي عرفت به فلسفة كانط والأنثروبولوجيا العنصريّة الّتي صرح بها في بعض مقالاته وأعماله.

وقد مثّلت آراء كانط العرقية العنصرية صدمة أيضا للمفكرين والباحثين الّذين حاولوا بشتى الطرق أن يجدوا تبريرا مقبولا لهذا الانشطار الهائل ما بين القيمة الأخلاقية التي يجسّدها كانط والتوجهات العرقية التي ظهرت بوضوح في بعض أعماله الفكرية. وتبعث مثل هذه المفارقة الحادّة المُحيّرة على الشّكّ في فلسفته بمجملها.

2 - نزعة عنصريّة صريحة:

شابت أعمال كانط الأنثروبولوجية كثير من الإشارات العنصرية التي لا تليق بمقامه الفلسفي السامي. وتتمثل هذه النزعة العنصرية في دعوته إلى تصنيف الأجناس البشرية بحسب المعايير العرقية وفق سلم سيكولوجي وفيزيائي يحتل فيه أصحاب البشرة البيضاء المكانة العليا في مراتب التفوق والذكاء، مشيرا إلى أنهم أكثر الأنواع البشرية ذكاءً وفاعلية ومقدرة على بناء الحضارات. ثم يأتي أصحاب اللون الأصفر في الدرجة الثانية، ويأتي أصحاب البشرة السوداء في الدرجة الثّالثة، وفي الأسفل الهنود الحمر الذين صنفهم على أنهم أسوأ الأجناس وأقلهم تطوراً وذكاءً [6]. وعلى هذا النّحو يقسّم كانط البشر إلى أربعة أعراق متباينة في سلم انحداري من حيث القدرة والقدر:

1-العرق الأبيض أو ذوو البشرة البيضاء الّذين لديهم كل المواهب السيكولوجية وكل السمات العقلية والقوى الحافزة على بناء الحضارة وفهم العالم عقليا.

2-العرق الآسيويّ أو ذوو اللون الأصفر، وهم يمتلكون قابلية للتعليم المجسد وليس للتعليم الفلسفي المجرد.

3-العرق الأسود، هم من أصحاب اللون السود الذين يمكن تعليمهم بوصفهم خدما.

4-العرق الأحمر، وهم السكان الأصليّون لأميركا غير القابلين للتعليم على الإطلاق[7].

وعلى الأرجح فإنّ هذا الهرم العرقي هو أكثر الجوانب وضاعة في تفكير كانط عن العرق. وبالرغم من غموض نوايا كانط لتصميم هذا الهرم وإطلاقه فإنه لا يمكن لأحد أن ينكر حقيقة أن هذا الهرم يقرّ بالأفضلية للعرق الأبيض[8]. ويبدو أن هذا التّصنيف قد تمّ تحديده ليس على أساس اللون فحسب بل على أساس المواهب الفطرية المختلفة بين الأعراق الإنسانية، ويشرح "آيز" (Emmanuel Chuckwud Ieze ) هذه النقطة جيدًا فيقول:

“الموهبة حسب المفاهيم الكانطية في العرق والأخلاق هي عنصر تضمنه الطبيعة للعرق الأبيض؛ فهم الأعلى مراتب فوق كل الأنواع البشرية والمخلوقات الأخرى، يليهم بعد ذلك “الصُّفر”، ثم “السُّود”، وأخيرًا “الحُمر”. يمثل لون البشرة عند كانط العامل الفارق الذي سيحدد ما إن كان العرق مستقرًا في درجة عليا أو دنيا، ويحدد كذلك الموهبة من انعدامها، وأيضًا القدرة على استيعاب المنطق وإدراك الفكر الأخلاقي. لذلك لا يمكن القول إنّ لون البشرة عند كانط ما هو سوى جزء بسيط يشكل المظهر الخارجي، بل العرق بالنسبة إليه بمثابة الدليل لمثلٍ أخلاقية ثابتة وغير قابلة للتغيير، قد يُحرم الإنسان الأسود على سبيل المثال من وصفه كـ” إنسان كامل” بما أن الإنسانية الكاملة لدى كانط تنطبق فقط على الأوروبيين البيض" [9]. ثم يصرح كانط بذلك في كتابه “الجغرافيا الطبيعية” إذ: “تتجلى الإنسانية بشكلها الأمثل في العرق الأبيض. الهنود الصُّفر لديهم قدر أقل من الموهبة، والزّنوج أقل من الصُّفر منزلة، والأدنى مستوىً بينهم هم الأمريكيون" [10].

ومثل هذه الصورة العرقية - وهي صورة تقليدية - تدل بوضوح على أن كانط، الملقب برائد التنوير والنقد، لم يستطع أن يمارس النقد أو التفكير العقلي النّقديّ في هذه الوضعية، ولم يستطع أن يكون على مستوى الفكر التنويري في هذا الجانب بل كان متأثّرا بالنزعة العرقية الشوفينية، وغرق في نزعة تفوّق الرجل الأبيض. وفي هذا الأمر إدانة لفلسفته الأخلاقية برمّتها، لأنّ التقسيم العرقي القائم على احتقار بني البشر وازدرائهم لا يليق بالنظام الأخلاقي والقيم الأخلاقية التي نادى بها كانط في مختلف أعماله الفلسفية ولا سيّما الأخلاقية منها. فأي أخلاق هذه التي يزدري فيها الفيلسوف الأعراق البشرية ويحقرها ويدنس طهارتها؟ وقد كان كانط فظا متوحشا في هجومه على الأعراق الأخرى ولا سيّما العرق الأسود، فاستخدم أفظع النعوت وأبشع الصفات في وصف العرقين الأسود والهنود الحمر. وقد جاء في كتابه "الإحساس بالجميل والجليل "[11] وصف مؤذ ومخيف للسّود. بقوله:

“زنوج القارة الإفريقيّة بطبيعتهم لا يملكون إحساسا يدفعهم للارتقاء فوق التفاهة والوضاعة. السيد هيوم يتحدى أن يأتي أحد بمثالٍ واحد على زنجيٍ أظهر أدنى قدر من الموهبة، كما أنه يؤكد أن من بين مئات الألوف من السود الذين انتقلوا من مواطنهم (وبالرغم من أن الكثير منهم قد تحرر من العبودية) لم يبرز أيٌ منهم، ولو فردًا واحدًا، أو يطرح ما فيه منفعة للمجال العلمي أو الفني، أو متضمنًا لما يستحق الإشادة به. وبالرغم من أن الكثير من البيض كانوا من طبقاتٍ فقيرة، فإنه من خلال مواهبهم الفذة نالوا مكانةً محترمة في العالم"[12].

ويُشتَهر عن كانط موقف مخجل يكشف سعارا عرقيّا أبداه عندما قام بتقييم تصريح أدلى به رجل إفريقيّ، فأعرب بتهكم شديد اللهجة قائلا: "كان ذلك الوغد أسود البشرة بالكامل من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه، وهو أكبر دليل على غباء ما قاله. وهذا يعطي تفسيرًا منطقيًا لِمَ نعتنا ما قاله هذا الرجل الأسود بالغباء أو الجهل..... لذلك، لا يمكن المجادلة بأن لون بشرة كانط كان مجرد خاصية فيزيائية. بل هو، بالأحرى، دليل على صفة أخلاقية ثابتة وغير قابلة للتغيير"[13].

وعلى هذا الأساس يستنتج كانط وبطريقة مهينة للإنسان والإنسانية "أن زنوج إفريقيا لا يثيرون في النفس الإنسانية أيا من المشاعر الراقية، وهذا يجعل التخلص منهم أمرا لا تهتز له المشاعر الإنسانية، ومن ثم لا يمكن تجريم ما يفعله المستعمر الأوروبيّ في إفريقيا "[14]. ويتمادى كانط بشكل استفزازي ومقرف في هجومه العرقي ضد السود وينصح بأن يُجلَدوا “باستخدام عصا البامبو أفضل من السوط، حتى يعاني الزنجي آلامًا مضاعفة، فجلد الزنوج سميك ولن تضنيه ضربات السوط الخفيفة، والحرص واجب في حال استخدام البامبو حتى لا يموت"[15].

ويبدو لنا أن كانط كان وفيا لنظرية ديفيد هيوم العنصرية التي يعلن فيها تحقيره للعرق الأسود وللأفارقة. وهو ما يوضّحه قوله المذكور سابقا في كتابه "ملاحظات" في عام 1764. ويقول كانط في سياق آخر "إنني ميال إلى الظن بأن الزنوج متدنون بشكل طبيعي عن البيض، فنادرا ما سمعنا عن أمة متحضرة تنتمي لهذا البشرة، ولا أيّ فرد بارز في نطاق الفعل والتأمل العقلي، وليس ثمة صناع مبدعون بينهم، ولا فنون ولا علوم، ومن ناحية أخرى فإن أكثر الشعوب غلظة وبربرية بين الجنس الأبيض كالألمان القدامى والأتراك الحاليّين لا يزال لديهم شيء سام"، ولعلّه يتبين أن هيوم يستبعد السود من دائرة البشر، ولا يتصور أن يخرج من بينهم مبدعون "[16].

ولم يتوقف هجوم كانط المتوحش ضد السود فقط، إذ لم تسلم منه أي من الأعراق الأخرى، وهو يطعن في السمات الأخلاقية والسيكولوجية للآخر من بوابة الإشادة والتمجيد بالعرق البيض منتج الحضارة والتاريخ.

ويقول مؤرخ العبودية مايكل زيوسكي (Michael Olszewski): “إذا كان المرء جاداً في توضيح العنصرية، وهدم آثارها، يجب عليه أيضاً أن يعيد النظر في فلسفة كانط؛ لأن هذا الفيلسوف أسهم في كتاباته الأنثروبولوجية في تأسيس العنصرية الأوروبية". [17] في الواقع، ميَّز كانط بين العديد من “الأجناس”، وأصدر أحكاماً قيميّة حول تفوّق العرق الأبيض وقدراته الفكريّة، مشيراً "إلى أن العرق الأبيض يتميز بقدرته على تحقيق كمال النوع الإنساني لأنه يسمو على باقي الأعراق ويتفوق عليها. وقد تناولت بولين كلينغيلد (Pauline Klingeld) [18] أستاذة الفلسفة في جامعة غرونينغن (University of Groningen) هذه المسألة وبينت بوضوح بأن الغاية الأولى من تقسيم كانط للبشرية إلى “أعراق” كان في البداية من أجل استكشاف الخصائص الفيزيائية للكائنات الإنسانية، مثل: القضايا المتعلقة بلون البشرة والعيون والشعر والطول وحجم الدماغ والسمات الفيزيائية والفيزيولوجية الأخرى.

ويحثنا رونيه أوغيغا (Renee Ogiga) على التساؤل في هذا السياق: ما الذي يجب أن يتبادر إلى أذهاننا ونحن نُفكر في فيلسوف ندين له بأعظم نظرية في الأخلاق عندما يعلن أن السود “ليس لديهم شعور بالطبيعة”، وعندما يشدد على القول بأن الأمريكيين الأصليين ليست لديهم القدرة على التحضر [19]. وماذا يخطر في بال المتلقي إذ كان فيلسوف الأخلاق ينال أيضا العرق الأصفر ويطعن في أهل الصين، ويقلل من شأنهم ولاسيما عندما ينظر باحتقار ودونيّة إلى الفيلسوف الصيني "كونفوشيوس" حيث أنكر ذات مرة وجود فلسفة في سائر بلاد المشرق، وقال إنّ "الكونفوشيوسية" لم تضف أية تعاليم جديدة على العقيدة الأخلاقية المصممة في الأصل للملوك والأمراء الصينيين. بل ذهب إلى حد اعتباره أن أيّا من مفاهيم الفضيلة والأخلاق لم يدخل عقول الصينيين أبداً"[20].

ولا يتورع كانط عن مهاجمة الأمريكيين الأصليين (الهنود الحمر) فيرى "أن مَلكة العقل لديهم ناقصة بطريقةٍ أو بأخرى، ويصفهم في كتابه الجغرافيا الطبيعية، فيقول: تثقيف الأمريكيين وتعليمهم أمرٌ مستحيل؛ فهم لا يملكون دوافع تحفيزية، إذ تنقصهم العاطفة والشغف. لا يقعون في الحب وبذلك لا يشعرون بالخوف أيضًا، لا يلاطفون بعضهم البعض، وكلامهم قليل جدًا، لا يهتمون بأي شيء، وهم بطبيعتهم كسالى"[21].

ثم يقارن بازدراء بين الأمريكيين الأصليين والزنوج، فيقول:" يستطيع المرء أن يصف الزنوج بأنهم عكس الأمريكيين تمامًا؛ إنهم عطوفون وشغوفون، حيويّون جدًا، ويتحدثون كثيرًا. تعليمهم أمرٌ قابل للتحقيق، لكن كخدم وعبيد فقط. هناك مجالٌ لترويضهم وتدريبهم، فهم يملكون دوافع تحفيزية كما أنهم حساسون للغاية، ولأن لديهم حِسٌ بالكرامة والشرف فهم يخافون الجَلد"[22]. وما الذي يتبادر إلى الذهن عندما ينتقل كانط إلى الهجوم العرقي على الهندوس فيقول أيضا: "أما بالنسبة للهندوس، فإنّ طبيعتهم تقترب كثيرا من طبيعة البيض، لكن حدودهم تظهر عندما تأتي المسألة المتعلّقة بتعلّم المعارف... ويصفهم كالتالي:

“دوافعهم التحفيزية قوية لكنهم يقفون عند حد معين من الكمون. جميعهم يبدون كالفلاسفة، ومع ذلك يمكن القول إنّهم ميّالون لمشاعر الغضب والحب، وهذا سبب تفوقهم في التعليم بدرجاتٍ عالية، لكن تفوقهم يقتصر على مجالاتٍ معينة كالفنون، أما إجادة العلوم فليست من مميزاتهم، فقدراتهم لا تسع لفهم النظريات والأفكار المجردة. الرجل الهندوستاني الناجح هو من وَصلَ لمنزلة رفيعة في الفنون المضللة وحصل على ثروة طائلة، وعلى الرغم من بدء تعليمهم مبكرًا إلا أنهم دائمًا ما يبقون على حالهم، فيصلون لمرحلة محدودة من التقدم ليقفوا عندها" [23]. أوليس غريبا أيضا عندما يمضي فيلسوف الواجب ليطعن عرقيا في سكان تاهيتي واصفا إياهم بالعقم الحضاري، وفي ذلك يقول: “لم يقم سكان تاهيتي بزيارة مناطق أخرى أكثر تحضرًا، وهكذا مقدرٌ لهم أن يعيشوا في خمولهم لآلافٍ من القرون. لا يستطيع أي شخص أن يقدم إجابة مرضية للسؤال (لِمَ هم موجودون في الأساس؟) ويتابع كانط هجومه العرقي الشرس ضد هذه الفئة من البشر ليقول "فالحال لن يتغير سواء كان سكان هذه الجزيرة مجموعة من الخراف والماشية أو رجالا منشغلين بالمتعة فقط" [24].

ويُستنتج ممّا تقدّم أن كانط رسخ نمطا من التفكير العنصري، فجعل من الاختلاف بين البشر اختلافا عرقيا فطريا، وقد شجع على تأسيس ما يسمى بالبيولوجيا العنصرية، وزعم أنّ الأعراق الإنسانية المختلفة لا يمكنها أن تصل إلى درجة واحدة من التحضر. وعلى هذه الصورة يبدو لنا أن الفكر التنويري الأخلاقي عند كانط كان منسوجا إلى حدّ ما بخيوط العنصرية والعرقية البغيضة المتعارضة في جوهرها مع العقل والتّنوير كليهما.

وقد أودع كانط كثيرا من أفكاره العنصرية هذه في مقال له نشره في عام 1775 حمل عنوان "في الاختلاف العرقي بين البشر"(On the Different Races of Man). وقد أكّد كانط في هذا المقال على ثبوت العرق وديمومته، ووضّح كيفية اختلافه مع مفكرين آخرين مثل فولتير[25]. وهذه النظرية باتت محل شكٍ لدى غالبية العلماء في عصرنا الحالي[26]. ويبدو أن كانط كان يريد أن يقيم البرهان على أن العرق الأبيض هو العرق الوحيد القادر على الاستئثار دون سائر البشر بالفضائل العقلية والثقافية فيقول “العرق الأبيض بطبيعته يمتلك كل المواهب والدوافع، لذلك هو يستحق المعاينة والدراسة عن كثب أكثر من غيره" [27].

ويتلخص رأي كانط العنصري في العبودية بقوله: "بعض الناس، بطبعهم، غير قادرين على السعي وراء مصالحهم، ومن الأنسب لهم أن يكونوا "أدوات حية" ليستخدمها أشخاص آخرون. وقال: "العبد جزء من السيد، جزء حي لكنه منفصل عنه جسديا"[28].3019 كانط

3 - المأزق العنصري:

كان هذا التّناقض الحادّ في فلسفة كانط بين التّعالي الأخلاقيّ والانحدار العرقيّ العنصريّ مثار اهتمام العلماء والمفكرين والفلاسفة حول الكيفية التي يمكن بها النظر إلى هذا الانشطار. وهو الأمر الذي لم يحدث في التاريخ؛ لأن كانط تميّز بنظريته الأخلاقية على خلاف الفلاسفة العنصريين الذين لم يقدموا نظرية أخلاقية سامية، فجاءت نزعتهم العنصرية على نحو لا يثير الاستغراب بالنّظر إلى منطلقاتهم الفلسفية مثل: هيوم (Hume)، وفولتير (Voltaire)، وهيغل (Hegel)، وشوبنهاور (Schopenhauer)، وتشارلز داروين (Charles Darwin)، وآرثر دو غوبينو (Arthur de Gobineau).، ومن بين هؤلاء جميعا ينفرد كانط بفلسفته الأخلاقيّة السامية فلسفة الفضيلة والحق والواجب. وهنا نقع في مواجهة انشطارية بين العمق الأخلاقي لنظرية كانط من جهة ونزعته العنصرية من جهة أخرى، وهذا التناقض الحاد قد يؤدي إلى اهتزاز كبير وخلل عظيم في منظومته الفلسفية، ويشكك متابعيه في القيمة الأخلاقية لفلسفته على نحو كلي. وقد يتعذر التوفيق ما بين الأمرين وإيجاد الجسور بين جنبات الانشطار المعرفي: أي ما بين السمو الأخلاقي في فلسفته الصفائية والنزعة العنصرية في توجهاته الأنثروبولوجية. وإذا كان هذا الأمر يدخل في بوابة الاستحالة فسنجد أنفسنا أمام موقفين أحلاهما مرّ: إما أن نرفض كانط كليا كنتيجة طبيعية للانشطار الفكري والتعارض المطلق ما بين العنصرية والفضيلة، وإما أن ننظر في ثنائية النزعتين العنصرية والأخلاقية وكأننا أمام فيلسوفين مختلفين في شخص واحد، أي كانط فيلسوف الأخلاق أو كانط فيلسوف العنصرية.

ويوقعنا هذا الأمر في إشكال مأزقي معقد يأخذ الصورة التالية: إذا رفضنا كانط بكليته كنتيجة لهذا التناقض الانشطاري بين الخير والشر في فلسفته، فإننا سنخسر القيمة الفلسفية الهائلة التي يتضمنها فكره الفلسفي، ونضيّع ما حققه من إنجازات مذهلة في مجال الفكر الفلسفي، ولا سيّما الفكر الأخلاقي الذي يتميز بسموه ومطلق نزعته إلى الخير والحق والفضيلة والجمال. وليس هذا مرغوبا أبدا، إذ لا نملك إلاّ أن نعجب بما قدمه كانط للفلسفة والمعرفة الفلسفية. أمّا الخيار الباقي أمامنا فهو يتمثّل في الأخذ بكانط الأخلاقي وتجاهل كانط الشرير. وهذا ما يحدث عمليا، فأغلب المفكرين والباحثين يقومون بتجاهل مقصود للجانب العنصري الشرير في فلسفة كانط.

وهذا ما خبرناه نحن أنفسنا في جامعاتنا، فعندما درسنا في الجامعة في قسم الفلسفة في جامعة دمشق كان كانط الأخلاقي حاضرا، وتم إسدال الستار من قبل أساتذتنا على الجانب العنصري في شخصيته. وعندما اكتشفنا هذا البعد الشرير في شخصه انتابتنا موجة من القلق والصدمة والتّوتّر، حتى إنّني كنت من الّذين لم يصدّقوا بأن كانط كان على هذه الصورة الشريرة في نزعته العرقية.. لقد كان كانط يومض في قلوبنا وعقولنا على صورة منارة أخلاقية تتوهج بالفضيلة، وفجأة اكتشفنا بعد تخرجنا من الجامعة أن جانبا آخر شريرا يتلبس شخصه كانط، وأنّه يرتدي ثوبا مخيفا مختلفا عن الصورة المثالية التي رسمناها له.

وعلى خلاف أساتذتنا، رأينا نحن ألاّ نخفي هذه الحقيقة عن طلابنا ومريدينا، فقدمنا كانط في صورته الأخلاقية، وأردنا أن يعرفوا ويعرف قرّاؤنا أنّ هذا الفيلسوف العظيم وقع في إثم العنصريّة المقيتة ولم يستطع التّحرّر من ردائها الثّقافيّ، ولم نغفل هذه الخلفيّة لدى فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر.

ومن الطبيعي أن يقوم بعض المفكرين بتطهير كانط من أدرانه الأخلاقية وتقديم الأعذار المتمثلة في السياق التاريخ والثقافي للعصر الذي عاش فيه مع هيمنة الثقافة العنصرية التي كانت قائمة، ومثل هذه الأعذار الّتي تُصطنع لا تستطيع أن تصمد أمام حقيقة أخرى وهي أن كانط كان فيلسوف النقد والتنوير، وهو الذي حثّنا على تحكيم العقل ورفض التقاليد الفكرية القائمة التي لا يمكنها أن تصمد أمام العقلانية والعقل المتوقد، وقد كان يتهكم من هؤلاء الذي لا يُعملون عقولهم ولا يفكّرون بطريقة نقدية.، وها هو الفيلسوف العملاق لم يستطع أن يفكر نقديا أو علميا أو حتى أخلاقيا في الظاهرة العنصرية فكرّسها، بدلا من أن يقوم بنقدها وتصفيتها ومهاجمتها من منطلق أن العنصرية العرقية أمر شرير وقاتل وخطير، ولا يمكن أن يقبل في العقل الموضوعي والأخلاقي. وكما أن هذه الفكرة تتناقض كلّ التّناقض مع فكرة الإخاء الإنساني التي نادى بها كانط وأشاد بعظمتها. وفي كل الأحوال نحن لا نريد أبدا للفكر أن يضيّع ذلك الوميض الأخلاقيّ والفكري الجميل المتوهج في فلسفة كانط النقدية والتنويرية. ويقتضي منّا تمشّينا في هذه السّبيل أن نكون على حذر في طَرق المسألة لنوضّح أبعادها ولنُبقيَ على القيمة الفكريّة الأخلاقيّة لهذا الفيلسوف الرّائد.

حاول بعض المفكّرين تبرئة كانط فذهبوا إلى أن مواقفه العنصرية جاءت في مرحلة من مراحل تفكيره، وإلى أنّه قد تراجع في مراحل لاحقة عن هذا النمط من التفكير العنصري الّذي شكل ثغرة كبيرة معيبة في فلسفته. وقد أشارت بولين كلينغيلد إلى أنه بينما كان كانط بالفعل مدافعًا قويًا عن العنصرية العلمية (Scientific racism)[29] في معظم حياته المهنية، فإن "آراءه حول العرق قد تغيرت بشكل كبير في الأعمال المنشورة في العقد الأخير من حياته على وجه الخصوص، لقد رفض كانط بشكل لا لبس فيه الآراء السابقة المتعلقة بالتسلسل الهرمي العرقي والحقوق المتضائلة أو الوضع الأخلاقي لغير البيض في السلام الدائم "[30]. ففي السلام الدائم يقدم كانط حججا قويّة ضد الاستعمار الأوروبي، ويرى أن هذا الاستعمار يتناقض مع الأخلاق ويتعارض مع الحقوق المتساوية التي يتمتع بها السكان الأصليون. وترى كلينغيلد" أن هذا التحول في وجهات نظر كانط في وقت لاحق من الحياة غالبًا ما يتم نسيانه أو تجاهله في الأدبيات حول الأنثروبولوجيا العنصرية لكانط، وأن هذا التحول يشير إلى اعتراف متأخر بحقيقة أن التسلسل الهرمي العرقي كان غير متوافق مع إطار أخلاقي عالمي[31]. وتقول كلينغيلد في هذا السياق: “لقد دافع كانط عن التسلسل الهرمي العرقي، على الأقل حتى بداية تسعينيات القرن الثامن عشر”. ولكن لاحقاً، ابتعد عن هذه الفكرة، في عمله "نحو مشروع السلام الأبدي” (1795)، وفي “ميتافيزيقا الأخلاق” (1797) انتقد الاستعمار وقدم فئة جديدة من “المواطنة العالمية".. [32] وهنا أيضا يمكن اللجوء إلى المنهج الانتقائيّ فنسقط كانط الفيلسوف الشاب ونحيي كانط فيلسوف الكهولة والمشيب فنتغاضى عن طيشه الشبابي باستحضار حكمته الّتي وجدها في مشيبه فغفرت له قديم خطاياه.

ومن اللاّفت للاهتمام أن كانط قضى معظم حياته العلمية يحاضر في الأنثروبولوجيا والجغرافية، وقد درّس هذين المقررين في الجامعة على مدى اثنين وسبعين فصلا دراسيّا كاملا. والغريب في الأمر أن كانط نفسه لم يبتعد عن مدينته الصغيرة "كونيغسبرغ"(Königsberg) التي ولد فيها وعاش ومات، ومع ذلك يعطي لنفسه أهلية الحكم على الشعوب وتصنيفهم عرقيا دون أن يشاهد أيا من هذه الشعوب في الواقع والميدان ليختبر ذكاءها ويرسم سماتها السيكولوجية ويحدد قدراتها العقلية ويصنفها في فئات متباينة، وليحكم على بعضها بالعقم الحضاري والسقوط العرقي.

ويؤخذ على كانط في هذا السياق أنه اعتمد كليا على الروايات والحكايات والأساطير والصحف والرحالة الذين كتبوا عن عادات الشعوب وأخلاقهم. ومنهجية الحكايات غالبا ما تكون باطلة كليّا ولا يُعتدّ بها علميا في تقرير خصائص الشعوب وتحديد مصائرها العرقية. وقد عرفنا منهجيا كيف يرحل الأنثروبولوجيون بعيدا إلى مقار الشعوب ومناطق سكنها البعيدة ليعيشوا ويتعايشوا مع السكان الأصليين لهذه الأمم والشعوب والقبائل سنين طويلة، بغرض دراستها واستكشاف عاداتها واستلهام ثقافاتها. من أمثال: إدوارد بيرنت تايلور ( E. B. Tylor)، وجيمس فريزر(James George Frazer)، وفرانز بواس (Franz Boas)، وبرونسيلاف مالينوفسكي (Bronislav Malinowski)، ورادكليف براون ( Radcliffe Brown)، ومارغريت ميد (Margaret Mead)، وزورا نيل هيرستون (Zora Neale Hurston)، وروث بندكت (Ruth Benedict)، وكلود ليفي ستروس(Claude Levi-Strauss)، وكليفورد جيرتز (Clifford Geertz). هؤلاء الذين قضوا حياتهم يتعايشون مع الشعوب البدائية البعيدة حتى أصبحوا جزءا منها، وبعضهم ضحى بحياته من أجل التماس الحقيقة وفهم ثقافات الشعوب التي درسوها. وما يراد قوله هنا إن الأنثربولوجيا الحقيقية هي هذه التي تلتمس حياة الشعوب وتلامس ثقافتهم وتغوص في ملابسات حياتهم ووجودهم، وليست هي الأنثروبولوجيا المتعالية على الواقع، كهذه التي رأيناها عند كانط والتي تبدو لنا أنها تسبح في فضاء عاجي فترى الكون على صورة سراب أرضي أو سديم سماوي.

والغريب أن أنثروبولوجيا كانط لم تكن أكثر من حكائيّة تقوم على تصورات واهية وغير علمية على الإطلاق. ومن المتعارف عليه علميا أن الأنثروبولوجيا تعتمد منهجا علميا أساسه التفاعل بين الباحث وموضوع دراسته، وهو المنهج الذي ينطلق من أن اكتشاف الحقيقة لا يكون إلا بالتعايش معها، وأنّ إدراكها لا يكون إلا عندما يصبح الباحث نفسه جزءا من الحقيقة. ويقصد بذلك حالة التماهي بين الباحث وموضوع دراسته. ولكن أنثروبولوجيا كانط قد سجلت ودونت في غرفته الصغيرة التي تطل على واجهة القلعة في مدينته الصغيرة. ومهما يكن الأمر فإن هذه الأنثروبولوجيا لم تكن إلا عرقية واهمة قائمة على الأساطير والحكايات والأوهام العنصرية الماثلة في عقل كانط.

فالمصادر التي اعتمدها كانط كانت قاصرة ومحدودة، إذ كان يكتفي بمنشورات السفر التي عُرفت بنمطيتها منذ ذاك الوقت، لدرجة أنّه هو نفسه اعترف بضعف دقتها، يقول مكارثي: في هذا السياق “كان كانط يتكالب على قراءة تقارير الرحلات كافة، سواء كانت مكتوبة من قبل مستكشفين، أو تجار، أو مبشرين، أو مستوطنين، أو مَن كان على اتصال مباشر مع نفوذٍ من خارج البلاد. كانت هذه التقارير حينها المصدر الأساسي في أوروبا لمعرفة طبيعة البلدان الواقعة وراء البحر. وقد حذّر كانط مرارًا من ضعفها، إلا أنه استند إليها في أفكاره العرقية[33].

ومن المؤكد أن كانط كان منغمسا في الثقافة الفلسفية التي سادت في زمانه، في حين كان من المتوقع لفيلسوف النقد هذا أن يوظف أدواته في تمحيص هذه الظاهرة والكشف عن أبعادها العنصرية ورفضها لتتناسب مع نظريته الأخلاقية المتسامية، ولكن كانط فوت هذه الفرصة ووضع نفسه تحت رهان الاغتراب الثقافي والعنصري الغالب على عصره، وكأنه كان يريد أن يتفوق على هيوم في رؤيته العنصرية ويبزه في هذا الميدان. ومن مخاطر هذه الرّؤية العنصريّة عند كانط أن قارئه سيتأثّر بما في هذه الرّؤية من انفعاليّة وتجنّ، فيتّخذ بصفة مطلقة موقفا سلبيّا من مجمل فلسفته.، وقد يجر هذا الكثيرين المهتمّين بهذا الشّأن إلى احتقار الفلسفة والفلاسفة ولا سيّما الفلاسفة العنصريّين الذين سقطوا في الحضيض.

ليس لنا أن نتجاهل إذن تأثير السّياق التّاريخيّ في تلوين التّفكير الكانطيّ بصبغة عنصريّة. لكنّ قَصْدَنا أن نرى مسألة التّعارض المشار إليه - بين سموّ كانط الأخلاقيّ وانحطاطه العنصريّ - من جانب آخر يتيح حلّ الإشكال أو على الأقلّ التّخفيف من حدّته. ومن ثمّ المساعدة على قراءة فكر هذا الفيلسوف بما لا يُفقد وميضه وألقه.

لقد اجتهد المفكرون في إلقاء حبال الإنقاذ لانتشال كانط من سقطته الأخلاقية المميتة. وظهرت مئات المقالات التي حاولت أن تعيد الاعتبار للفيلسوف وأن تقدم له طوق النجاة. وتركزت هذه المحاولات في المقارنة بين كثير من الفلاسفة العمالقة الذين قدموا تصورات عرقية ومع ذلك بقيت فلسفتهم شامخة ولم يؤثر ذلك التقليل من قيمة الفيلسوف أو فلسفته، وخير مثال على ذلك الإشارة إلى أرسطو (Aristotle)[34] الذي كان متشبعا بالأفكار العنصرية ضد المرأة والعبيد والأمم الأخرى. ويشار إلى أن أرسطو كان يدافع عن العبودية ويراها ضرورة حضارية، ووصل به الأمر إلى اعتبارها مفيدة للعبيد، أما نظرته إلى المرأة فكانت مخيفة في عنصريتها، إذ كان يرى أن "المرأة من الرجل هي بمثابة العبد من السيد وكالعمل اليدوي من العمل العقلي، وهي رجل ناقص توقف نموه في مرحلة دنيا من مراحل التطور الإنساني، والذكر متفوق بالطبيعة على المرأة، والمرأة دون الطبيعة، والأول حاكم والثانية محكومة، وهذا المبدأ ينطبق بالضرورة على جميع أفراد الجنس البشري"([35]).

والسؤال هل يجب علينا أن نسقط فلسفة أرسطو لأن جانبا عنصريا قد تخللها نقطة استفهام [36]. وبناء عليه، هل يجب أن نسقط فلسفة كانط لما تخللها من عيوب عنصرية؟ ألا يؤدي هذا الإسقاط إلى خسارة كبيرة في الفكر الفلسفي بما يحمله من قيمة معرفية أصيلة؟

هل يجب أن نسقط فلسفة أرسطو وأفلاطون وهيوم وفولتير وهايدجر وهيغل والآخرين لأنهم كانوا عنصريين في بعض توجهاتهم الفلسفية؟ ألا يعني ذلك إسقاطا للفلسفة برمتها؟ والإجابة بالطبع أنه لا يمكن للتوجهات العنصرية التي تخللت هذه الفلسفات بل لابستها أن تؤدي إلى إسقاطها كلّيّا؛ فالقيمة المعرفية لهؤلاء الفلاسفة العنصريين أكبر بكثير من أن تتعرض للسقوط كنتيجة لوجود جوانب عنصرية فيها. وجل ما يمكن أن نقوم به هو أن نتجاهل هذا البعد العنصري، وننطلق في رحاب هذه الفلسفة استكشافا لما تنطوي عليه من قيم معرفية عظيمة. علينا أن نسائل الفلسفة الكانطيّة بالأدوات النّقديّة الّتي نستلهمها منها، فنصير قادرين على تنزيلها في سياقها والتّمييز بين جوانبها المختلفة المضيئة والقاتمة، وإجراء الاختيار بين ما هو من متعالياتها وما هو من سقطاتها... وبذلك نساهم في تجاوز المأزق الّذي يعترضنا ونحن نقرأ آراء كانط وفلسفته العنصرية.

وهناك عدد كبير من هؤلاء الذين انبروا للدفاع عن كانط وتبرير موقفه المخل بالقيمة الأخلاقية لفلسفته السامية، فذهب بعضهم في هذا الاتّجاه إلى القول إنّه "لا يُعقل أن نتوقع أن يثبت الفيلسوف دون زلة أو تناقض في كل مؤلفاته. لذلك علينا أن نعيّن أقاويل كانط العنصرية كأخطاء أو انحرافات لا بدّ من تجاهلها أمام فلسفته. علاوةً على ذلك، عندما ننظر لشخصية كانط نرى أنها تعكس فلسفته الأخلاقية وليس فكره العرقي، وهذا ما يجب أخذه بعين الاعتبار"[37].

كما يوجد من يحاول - في مواجهة هذا المأزق المعرفيّ الأخلاقيّ - الفصل بين شخصية كانط وفلسفته، وهذا يعني أن الموقف العنصري ينتسب إلى شخصية كانط وليس إلى فلسفته. وهذا الموقف التبريري يعاني من الضعف ولا يمكن التعويل عليه أبدا لأنه يأخذنا إلى استنتاجات مضللة، إذ لا يمكن الفصل موضوعيا بين شخص الفيلسوف وفلسفته، وما قيمة فلسفة لا يلتزم بها صاحبها ولا يأخذها بعين الاعتبار؟ فالفكر لا يمكن أن ينفصل عن المفكر ولا سيّما في الأنظمة الفلسفية الكبرى، والنّبيّ ألزم من غيره بواجبات دعوته.

ولعلّ هذه الفكرة الّتي تدعو إلى الفصل بين الإنتاج الفلسفيّ وصاحبه مماثلة لما يفعله دارسو الأدب البنيويّون في تعاملهم مع النّصّ الإبداعيّ. إذ هم ينظرون إليه في ذاته ومقطوعَ الصّلة عن صاحبه. بل يذهبون إلى اعتبار كاتبه كائنا غائبا لا وجود له فلا يُؤبَه له. وكذلك حَقّ - بكثير من التّجوّز - الإقبالُ على نصّ كانط وتبيّن قيمته، وأمكن الوقوف على عظمة الفيلسوف كانط بغضّ الطّرْف عن شخصه وتفكيره العنصريّ.

وذهب فريق آخر من الباحثين إلى حل أزمة الانشطار والتّناقض بين موقف كانط العنصري وموقفه الأخلاقي، معتقدين أن "عنصرية كانط ببساطة تنطلق من اعتقاده أن الآدمية توجد في العرق الأبيض فقط أما باقي الأعراق فلا. وهذا يعني أن كل شخص لا ينتمي للعرق الأبيض لا يعتبر إنسانا، وهنا تكمن الكارثة العنصرية بأكثر مظاهرها الوحشية. وهنا يمكن أن نجد حلا يتمثل في العمل على تعميم مفهوم الإنسان ليشمل جميع الأعراق دون استثناء. وإذا لم يستطع كانط أن يواكب مُثل عصر التنوير وقيمه التسامحية كالمساواة، لأنه حصر الإنسانية والكرامة في العرق الأبيض دون سواه، فإنه ينبغي علينا أن نصحح توجّهه الأخلاقي للنظر إلى الإنسانية كلها بوصفها عرقا واحدا هو العرق الأبيض، أو أن نوسع مجال فلسفته لتشمل جميع الأعراق. وهذا يعني أنه يجب علينا أن نسقط الجانب العنصري في فلسفة كانط لتستقيم هذه الفلسفة وتصبح أكثر فعالية في توجيه الإنسانية نحو الفعل الأخلاقي. ويستطيع "أصحاب هذا الموقف أن يطرحوا حجة إدراكنا المسبق أنه لا جدال في حقيقة تساوي الجميع، وإنما يكمن الخطأ في الاعتقاد أن ليس الكل يندرج تحت مسمى الـ”إنسان”، ويعتبر هذا اعتقادًا بعديًّا خاطئًا، وبهذه الطريقة نكون صُنّا الجوهر بعيدًا عن الآراء الخبيثة"[38].

4- خاتمة:

لقد حاولنا في هذا العمل تناول الجانب المظلم في العطاء الفلسفي لكانط فيلسوف النقد والتنوير، وقمنا باستجواب بعض المواقف العنصرية التي تميزت بالعنف والمشاكسة العرقية. فحاولنا تفسيرَ هذا التناقض الانشطاري بين فلسفة الواجب في صفائها وأنثربولوجيا التعصب العرقي كنموذج لأكثر الوجوه الظلامية في المنظومة الفلسفية عند كانط. ومهما يكن الأمر فإن تقييم موقف كانط يجب أن يأخذ بلا شكّ بمختلف وجهات النظر، والمهم في ذلك كله أن نجعل من فهم التناقض بين السمو الأخلاقي والسقوط العنصري عند كانط أمرا ممكنا... والشيء الذي يبقى حيّاً في الأذهان أن فلسفة كانط عصيّة على السقوط لما تتمتع به من حصانة فكرية عالية المقام فيما يتعلق بسموها الأخلاقي. وعلينا أن نغض النظر – مع التحفظ - عن جانب السقوط الأخلاقي في مستنقع العنصرية، ونحاول أن نرتقي إلى شموخ الفلسفة الكانطية التي تشكل قوّة تنوير هائلة لا تغيب عنها شمس الحضارة الفلسفية على وجه الإطلاق ولا تخبو جذوتها لأنّ الحاجة إليها مستمرّة.

لا بدّ إذن من تقدير متكامل الأبعاد للفكر الكانطيّ الّذي أضاف إلى الإنسانيّة منهجَ النّقد والتّنوير، ولم يسلم رغم ذلك من الوقوع في بعض الأخطاء. فأثبت أنّه إنتاج إنسانيّ نسبيّ قابل لأن يُتجاوَز ويُطوّر. ومن هنا راهنيّته وتحدّيه للقرّاء بأن يسائلوه. ولا يكون ذلك إلاّ بالإمعان في قراءته وفهمه.

***

بقلم : د. علي أسعد وطفة

................

[1]- Immanuel Kant, Groundwork for the metaphysics of morals, tr. T. K. Abbott, edited with revisions by Lara Denis. Peterborough, ON: Broadview Press. Canada. 2005.

[2]- Emmanuel KANT, Critique of Practical Reason, in The Cambridge Edition of the Works of Immanuel Kant: Practical Philosophy, ed. by M. Gregor (Cambridge: Cambridge University Press)1996.

[3]- Immanuel Kant, The Metaphysics of Morals, Op.

[4]- Emmanuel Kant, Lettres sur la morale et la religion, Op Cit.

[5] - Immanuel Kant, Perpetual Peace and Other Essays, Op. cit.

[6] - حسن العاصي، عنصرية الفلسفة، ليّ الأعناق في صراع الأعراق، شبكة النبأ، ا لأحد 28 نيسان 2019 https://annabaa. org/arabic/authorsarticles/19083

[7] - لويد ستريكلاند، كيف أصبحت الفلسفة الغربية عنصرية، بايتل، 10 يناير 2019, http://bitly. ws/oqsn

[8] - Immanuel Kant, On the Different Human Races. “Kant and the Concept ofRace: Late 18 th Century Writings."Trans. and ed. by Jon M. Mikkelsen. Albany: StateUniversity of New York Press. New York, 2013, P 46.

[9] - Emmanuel Chuckwudi Eze, The Color of Reason: The Idea of “Race” in Kant’s Anthropology. “Postcolonial African Philosophy: A Critical Reader."Ed. Emmanuel Chuckwudi Eze. Lewisburg, PA. Blackwell Publishing. 1997. pp103- 140. P 119.

[10]- فيكتور أبو نذير غويرا، كيف نتعامل مع عنصرية كانط داخل القاعة وخارجها، ت: فاطمة مصطفى، تدقيق: دليلة ميمون حكمة، 19/9/2010 ,. http://bitly. ws/oq23

[11] - يميز كانط بين الشّعور بالجميل والشّعور بالجليل، فالشعور بالجميل ( the beautiful) هو شعور مبهج يبعث على الفرح والابتسام، أما الجليل (Sublime) فهو شعور مبهج مصحوب بالخوف والرهبة كأن يقف المرء أمام أمر عظيم فيشعر أمامه بالإعجاب والرهبة،

[12] - Immanuel Kant, Observations on the feeling of the Beautiful and the Sublime,trans. John T. Goldthwait. Berkeley: University of California Press, 1960. P. 111-113.

[13] - Immanuel Kant, Observations on the feeling of the Beautiful, ibid.

[14] - محمد عبد الرحمن، مبدعون عنصريون وقتلة.. ديفيد هيوم طالب بقتل أصحاب البشرة السمراء.. وكانط يدّعي أنّ الزنوج لا يستحقون الحياة.. مارك توين تمنى إبادة الهنود الحمر.. نيتشه أستاذ هتلر وهايدجر روج للنازية.. وسارتر دعم الصهاينة ضد العرب، الناشر موقع: اليوم السابع، الأحد، 28 يوليه 2019. http://bitly. ws/oqgU

[15]- فيكتور أبو نذير غويرا، كيف نتعامل مع عنصرية كانط داخل القاعة وخارجها، مرجع مذكور.

[16] - محمد عبد الرحمن، مبدعون عنصريون وقتلة، مرجع مذكور.

[17]- رينيه أغويغا، ما علاقة الفيلسوف كانط بمقتل جورج فلويد العنصري في الولايات المتحدة الأمريكية؟ كيوبوست، الإثنين 21 سبتمبر، 2020. http://bitly. ws/oqc8

[18] - Pauline Kleingeld is Professor of Ethics and its History. She is internationally renowned for her work in the area of the philosophy of Immanuel Kant, contemporary Kantian ethics and philosophical cosmopolitanism and its history.

[19]- رينيه أغويغا، ما علاقة الفيلسوف كانط بمقتل جورج فلويد العنصري، ذ مرجع مذكور.

[20] - حسن العاصي، عنصرية الفلسفة، ليّ الأعناق في صراع الأعراق، شبكة النبأ،

الأحد 28 نيسان 2019 https://annabaa. org/arabic/authorsarticles/19083

[21]- فيكتور أبو نذير غويرا، كيف نتعامل مع عنصرية كانط، مرجع مذكور.

[22]- فيكتور أبو نذير غويرا، كيف نتعامل مع عنصرية كانط، المرجع نفسه.

[23]- فيكتور أبو نذير غويرا، كيف نتعامل مع عنصرية كانط، المرجع نفسه.

[24]- فيكتور أبو نذير غويرا، كيف نتعامل مع عنصرية كانط، المرجع نفسه.

[25] - Immanual Kant, on the Different Races of Man. In E. W. Count, This Is Race, 16–24. New York, Shuman. 1775.

[26] - Ibid, Immanual Kant, on the Different Races of Man1775.

[27]- فيكتور أبو نذير غويرا، كيف نتعامل مع عنصرية كانط، مرجع مذكور ..

[28] - أغنيس كالارد، عارض فكرة المساواة الإنسانية.. هل يجب أن نلغي أرسطو ونعتبره عدوًا؟ ترجمة وتحرير نون بوست، 3-8-2020، https://www. noonpost. com/content/37842

[29] - العنصرية العلمية (Scientific racism): اعتقاد علمي يعطي أدلة بتفوق بعض الأعراق على غيرها. وقد حظيت هذه النظريات العرقية بكثير من المصداقية في الأوساط الفكرية تاريخيا. لكنّها فقدت مصداقيتها في العصر الحاضر. وتعتمد العنصرية العلمية على توظيف الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) وبالأخص علم الإنسان الحيوي المختص بدراسة التطور البشري، وعلم القياسات البشرية، وعلم قياس الجماجم، وغيرها من التخصصات أو التخصصات الزائفة، في دعم نظرية تصنيف البشر إلى أجناس بشرية منفصلة جسديًا، بحيث تكون أجناس معيّنة أكثر رقيًا من أجناس أخرى.

[30]- رينيه أغويغا، ما علاقة الفيلسوف كانط بمقتل جورج فلويد، .. مرجع مذكور.

[31]- رينيه أغويغا، ما علاقة الفيلسوف كانط بمقتل جورج فلويد، .. مرجع مذكور.

[32]- رينيه أغويغا، ما علاقة الفيلسوف كانط بمقتل جورج فلويد، .. مرجع مذكور.

[33]- فيكتور أبو نذير غويرا، كيف نتعامل مع عنصرية كانط، مرجع مذكور.

[34] - أرسطو "Aristotle" ويُسمى بـ "أرسطوطاليس" عند الفلاسفة العرب عاش في الفترة (384م - 322م)، وهو فيلسوف وعالم موسوعي ومؤسس لعلم المنطق، ومن أشهر فلاسفة اليونان. له العديد من الإنجازات في العلوم الطبيعية مثل: الفيزياء والطب. درس في مدرسة أفلاطون التي تُسمّى بأكاديمية أفلاطون لمدة تزيد عن العشرين عامًا. قال عنه الفيلسوف كارل ماركس وغيره من فلاسفة الفلسفة الحديثة إنّه من أعظم مفكري العصور القديمة في تاريخ الفلسفة.

[35]- ويل ديورانت، قصة الفلسفة، مرجع مذكور، ص 97.

[36] - أغنيس كالارد، عارض فكرة المساواة الإنسانية، مرجع مذكور.

[37]- فيكتور أبو نذير غويرا، كيف نتعامل مع عنصرية كانط، مرجع مذكور.

[38]- فيكتور أبو نذير غويرا، كيف نتعامل مع عنصرية كانط، مرجع مذكور.

 

ملخص البحث: إن العصر الوسيط لم يكن مرحلة غير مهمة في تاريخ الفكر الإنساني، بل كان عصرا غنيا بالمجادلات والتحليلات الفلسفية والعلمية، وطبعا لن نستثني ضمن هذه المرحلة الفلسفة في العالم الإسلامي. لقد كانت الفلسفة الإسلامية جامعة لكل العلوم العقلية، وأن ما أنتجته لم يكن إعادة تعريب الفكر اليوناني أو “أسلمة” تلك القضايا الفلسفية والإشكالات العلمية وإضفاء طابع “الأسلمة” عليها، وهذا هو مقصدنا من هذا البحث الذي يتناول أهم التصورات التاريخية والفكرية لأهم الباحثين والمستشرقين..

تمهيد

إن التراث العلمي والفلسفي للحضارة الإسلامية يمثل معلما بارزا من معالم شخصيتها وحضورها على المستوى الإنساني؛ فقد تمكّنت هذه الحضارة إبّان قرون ازدهارها الحضاري بالعبور من ثقافة التلقي إلى ثقافة الإبداع والابتكار ونقلها نقلة نوعية جعلتها تحتل الصدارة في البحث العلمي ردحا من الزمن، إذ تمكّنت من استقطاب العديد من المبدعين من كل الأعراق والحضارات والأديان والطوائف، مما أدّى ذلك إلى إحداث ثورة علمية وفلسفية كبيرة لم يشهد لها التاريخ القديم مثيلا، كما أنه مؤشر من مؤشرات تفردها وخصوصيتها، إضافة إلى حضورها على المستوى الإنساني. وقد كان من مخرجات هذه الثورة؛ مخزونا تراثيا ضخما يمثل كنوزا علمية كبرى في كل المجالات وذلك بشهادة القريب والبعيد. ويتجلى هذا التراث الضخم في اهتمامهم بالعديد من القضايا الفلسفية والإشكالات العلمية؛ وذلك بعد عودتهم إلى ما خلّفته الحضارات الأخرى ومحاولة الاستفادة منها، وقد كان من نتائج هذه العودة أن اتهمهم العديد بأنهم مجرد نقلة للعلم والفلسفة الموجودان في الحضارات الأخرى، بل راح البعض إلى اعتبار العصر الوسيط بأكمله عصر الجهل والظلام. فبأي معنى اعتبر هؤلاء بأن العصر الوسيط عصر الجهل والظلام؟ وما صحة حكمهم هذا؟ وهل فعلا العرب/المسلمين في السياق الوسيطي مجرد نقلة للعلم والفلسفة؟ وما دعواهم في ذلك؟ وما أهم تصوراتهم والاعتراضات التي وجّهت لهم؟

1- العصر الوسيط: تحديدات تاريخية كمدخل لمعالجة إشكالية "الجمود الفكري"

يعد العصر الوسيط مرحلة مهمة في تاريخ الفكر الفلسفي والإنساني بشكل عام، حيث يلي المرحلة اليونانية.[1] ويبدأ العصر الوسيط -من الناحية الفكرية- انطلاقا من القرن التاسع الميلادي. وفي المقابل نجد اختلافات واضحة، وتباينات كبيرة لدى المؤرخين للتأريخ لهذه المرحلة -من الناحية التاريخية-. وبسبب هذا الخلط بين المرحلتين (التاريخية والفكرية) تعاطى العديد من المؤرخين المعاصرين على الفلسفة الوسيطية (الإسلامية والمسيحية) دون تدقيق بحثي ومعرفي، ولم يؤرخوا لها إلا باعتبارها واسطة بين المرحلتين، اليونانية والحديثة، ويظهر ذلك بشكل واضح في تسميتها ب”الوسيط” فهي بمثابة قنطرة نعبرها ولا نعمرها أو هي عبارة عن مرحلة تخزين فقط، ولهذا نجد أن المؤرخ الفرنسي (إيمييل برييه) يعتبر في كتاباته التأريخية لتاريخ الفلسفة بأن العصر الوسيط قد أخفى معالم العقلانية اليونانية، كما ”أدان هيغل فلسفة العصور الوسطى”[2] وفي عمله التأريخي نجده من ”بين ألف وثلاثمائة صفحة رصد فيها تاريخ الفلسفة رصدا زمنيا خصص مائة وعشرين صفحة فقط للحقبة الوسطى التي استمرت ألف عام، وأفرد ثمانمائة صفحة للفكر القديم الذي امتد عبر ألف ومائتي عام، وأربعمائة صفحة للفلسفة الحديثة التي استمرت لمائتي عام”[3] كما نجده أيضا (أي هيغل) قد أعطى صورة سيئة عن الفلسفة في السياق الإسلامي، حيث اعتبر أن لا أهمية لها من حيث المحتوى وأشار في المقابل إلى أنها ليست بفلسفة حقيقية،[4] والأكثر من ذلك اعتبار (أنتوني جواليب) أن ”النتاج الفلسفي للحقبتين القديمة والمعاصرة بشكل عام ليس أكثر إبداعا فحسب، بل أسهل فهما بالنسبة إلى القارئ المعاصر من التعليقات المطولة والممارسات الجدلية التي لفظتها العصور الوسطى. وفي ظل ضِيق الوقت والمساحة، فمن الأفضل أن نترك فلسفة العصور الوسطى تتيه في غاباتها المظلمة التي تغطيها الأشواك”[5]. وبالتالي، فإن هؤلاء المؤرخين ينظرون إلى الفلسفة في السياق الوسيطي بنظرة تحكمها القطيعة الابستمولوجيا، واعتبار العصور الوسطى عصور الجهل والظلام، إلا أن الحقيقة التاريخية-الأكاديمية العلمية تؤكد عكس ذلك تماما، إذ لا يمكن الحديث عن وجود فراغ في التاريخ؛ لأن الإقرار بذلك لا ينسجم لا منطقيا ولا عقليا باعتبار أن تاريخ المعرفة الإنسانية هو تاريخ تراكمي عبر العصور؛ لأن كل استشهاد يتبعه اشتهاد وتقود تلك الاشتهادات إلى اكتشافات ترغمنا بالضرورة عن اتخاذ مسارات أخرى.

وانطلاقا من كل ذلك، فقد اعتدنا كثيرا السماع بأن العرب/ المسلمين في السياق الوسيطي لم يبدعوا في أي شيء خاص بهم، وأن كل ما أنتجوه عبارة عن نقل وترجمة للعلوم التي كانت موجودة عند الحضارات الأخرى التي سبقت الحضارة الإسلامية، بل إن البعض قد اعتبر بأن هذه الحضارة قد فشلت حتى في شرح تلك المؤلفات التي تعود إلى الحضارات الأخرى. إلا أن الحقيقة التاريخية تخبرنا عكس ذلك؛ إذ أكد العديد من الباحثين والدارسين للعصر الوسيط الإسلامي بأن للعرب/ المسلمين فضلا كبيرا في إحياء الفلسفة والعلم من جديد بعدما كانتا مهملتين -نوعا ما- في عصر الحضارة الرومانية لكونهم قد تألقوا في الجانب القانوني أكثر من جهة، ومن جهة ثانية لم تدعم هذه الإمبراطورية الفكر الفلسفي بشكل كبير؛ لأنها لم تكن مرغوبة لدى جميع الفئات، بالخصوص القادة السياسيين وبعض الأباطرة، باعتبارها كانت محط شبهة، وهذا ما يفسر غياب اهتمام رسمي بها[6]، ومن جهة ثالثة ما خلّفته هذه الإمبراطورية إثر سقوطها والتي نتج عنها انقسام المجتمع الغربي بين القبائل الجرمانية وساد فيها نوع من الحروب وعدم الاستقرار السياسي، وهو الأمر الذي انعكس بشكل سلبي على العلم والفلسفة بشكل عام، حيث تمتد هذه الفترة من النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي إلى النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي، وهي نفس الفترة التاريخية التي يمكن أن تسمى بعصر الفوضى والعشوائية وأحيانا يجوز لنا وصفها بمرحلة الجهل والظلام وبعصر الجمود الفكري؛ لأن الوضع السياسي والاجتماعي المضطرب أثر على المجال الفكري، وكان هذا التأثير واضح فيه الجانب السلبي أكثر، فانتقلت بذلك الفلسفة (وقد كانت الفلسفة آنذاك جامعة لكل العلوم العقلية) من مكانتها وأصبحت “مشردة” وما كان أمامها من حل سوى الرضى بالقبول بأن تكون خادمة للاهوت والاحتماء في الكنيسة ومدارسها التي كانت تسمى ب “الدير” (جمع أديرة) التي حاولت أن تقزّم من مهام الفلسفة فجعلتها حبيسة تفسير بعض القضايا اللاهوتية التيولوجية والاستغناء عن تلك الجرأة التي كانت تملكها الفلسفة بتحليلها للإشكالات في المرحلة اليونانية، ويعبر (أنتوني جواليب) عن هذه المسألة بالقول: ”فبعد أن التقت الفلسفة بالعقيدة المسيحية غرقت في سبات عميق”.[7] ويقول المؤرخ (ديفيز) عن بداية العصر الوسيط -من الناحية التاريخية- ”يبدأ التاريخ الوسيط بالانهيار الذي حل بالإمبراطورية الغربية وبخضوع العالم اللاتيني لغزاته الجرمان”[8] ويضيف قائلا: ”إن الأسباب المباشرة الواضحة التي أودت بالإمبراطورية الغربية هي أسباب عسكرية وإدارية، ترجع إلى نقائص وعيوب في نظام الجيش وفي نظام الموظفين الإداريين ... إن بداية ونهاية تلك الكارثة التي حلت بالإمبراطورية هي الإغارات الموفقة التي قام بها الجرمان على إيطاليا.”[9]

2- المقاربة الاستشراقية للفلسفة والعلم في السياق الوسيطي الإسلامي

إن من أهم المقاربات التأريخية التي تهمنا في موضوعنا هذا هي المقاربة الاستشراقية لإشكالية الفلسفة والعلم في السياق الوسيطي الإسلامي، والتي حاولت أن تجيب عن التساؤل الآتي {هل فعلا هناك إضافة علمية إلى تلك العلوم التي أخذتها الحضارة الإسلامية من الحضارات الأخرى، أم إن الأمر يقتصر فقط على “نقل للأمانة العلمية”}. يمكن أن نميز في هذا التصور الاستشراقي بين مرحلتين أو بين مدرستين كبيرتين؛ فالمدرسة الأولى هي المدرسة الاستشراقية الكلاسيكية التقليدية التي اعتبرت بأن دور العرب/ المسلمين في السياق الوسيطي قد انحصر على نقل التراث العلمي والفلسفي من الحضارات الأخرى، خاصة اليونانية، إلى الحضارة الغربية في العصر الحديث، والمدرسة الاستشراقية الجديدة التي قامت على رؤية مخالفة للمدرسة الأولى وذلك بداية من خمسينات وستينات القرن الماضي، بحيث لامست هذه المدرسة جوانب من الإبداع والتجديد في الفلسفة والعلم العربي-الإسلامي وأن الأمر لا يقتصر على النقل والترجمة فقط.

أ- التصور الاستشراقي الإتباعي:

المستشرقين الكلاسيكيين التقليديين يعتبرون بأن لا فضل للعرب/ للسلمين ليشكروا عليه إلاّ فيما يتعلق بنقل وحفض الأمانة العلمية وردها لأصحابها. فهؤلاء المستشرقين الكلاسيكيين التقليديين يقرّون بأن العرب/ المسلمين في السياق الوسيطي كانوا مجرد نقلة وسعاة بريد بلغتنا المعاصرة، ويستدلون على ذلك بأن فكرهم ومنهجهم لا يتضمن أي جديد وتجديد، باعتبار أن دورهم الأساسي قد انحصر على تقديم مجموعة من الترجمات للعديد من المؤلفات العلمية والفلسفية التي تعود إلى الحضارات الأخرى، اليونانية خاصة، إلى اللغة العربية والحفاض عليها. فرغم اعتبارهم أن الحضارة الإسلامية كان لها فضل كبير في الحفاض على هذا التراث العلمي والفلسفي الضخم والتي ساهمت في بناء وتأسيس العلم الحديث وقضاياه، إلا أنهم بالرغم من ذلك يحاولون تقزيم دور هذه الحضارة في اعتبارها مجرد مرحلة تخزين فقط. وقد عبّر عن هذه النزعة الباحث في العلوم العربية (رشدي راشد) بما يمكن تسميته ”بالنزعة الغربية”، بحيث لخص موقفهم من خلال القول بالنزعة الغربية التي تدعي بأن العلم علم غربي ولا يمكن أن يكون إلاّ غربي. ويتجلى هذا بشكل واضح فيما عبّرت عنه الباحثة (يمنى طريف الخولي)[10] بالقول ”وعبر فجوة باهتة مظلمة هي العصور الوسطى قام فيها العرب بدور ساعي البريد أو حفظ الأمانة العلمية الذي أدخل عليها بعض التجديدات، انتقل العلم من الإغريق إلى أحفادهم وورثتهم الشرعيين في غرب أوروبا. هكذا تبدو قصة العلم من ألفها إلى يائها قصة غربية خالصة”[11]

ولعل من بين الأسماء البارزة في هذا التيار الاستشراقي الكلاسيكي ذو الرؤية السلبية اتجاه العصر الوسيط الإسلامي، نجد (أرنست رينان Ernest Renan) الذي تعتبر أطروحاته من بين الأطروحات التي أثّرت في العديد ممن عاصروه وقد ساروا على نهجه، خاصة بعد إحدى المحاضرات التي ألقاها بجامعة السوربون عام 1883م والذي أعلن فيها بصريح العبارة أن ”العرق السامي لم يشتهر إلاّ بخصائص سلبية تقريبا فهو لم ينتج لا ميثولوجيا، ولا ملحمة، ولا علم، ولا فلسفة، ولا أدب، ولا فن تشكيلي، ولا حياة مدنية”،[12] ويضيف في كتابه “ابن رشد ومذهبه“ قائلا ”ما يكون لنا أن نلتمس عند الجنس السامي دروسا فلسفية، ومن عجائب القدر أن هذا الجنس الذي استطاع أن يطبع ما ابتدعه من الأديان بطابع القوة في أسمى درجاتهم لم يثمر أدنى بحث فلسفي خاص، وما كانت الفلسفة قط عند الساميين إلاّ اقتباسا صِرفا جدِيبا وتقليدا للفلسفة اليونانية”.[13] فتصوره هذا قد انعكس على مجموعة من أطروحات المستشرقين الأوائل ممن عاصروه، حيث صرّح في كتابه ”تاريخ اللغات السامية” أنه أول من قرر أن الجنس السامي دون الجنس الآري، لذلك وثق به بعض ممن عاصره بسبب معرفته باللغات السامية وزيارته لبلدانها.[14]

كما نجد (بيير دوهيم Pierre Duhem) الذي أرخ لمسيرة تطور العلم لم يعطي للعلم في السياق الإسلامي أهمية كبيرة. وقد توقف (مصطفى عبد الرازق) عند مجموعة من هذه الأطاريح الاستشراقية وخصّ منها قدرا كبيرا ل (أرنست رينان) باعتبار أن أطروحاته قد تلقت تأثيرا كبيرا على الدراسات اللاحقة. غير أنه لم يسلم من الانتقادات سواء من قِبل بني جلدته أو غيرهم، إذ اتهموه بكونه يحمل معاداة للسامية (وهذا واضح من خلال ما أشرنا إليه سابقا) وللإسلام، كما اعتبروا أن حكمه هذا ناتج عن جهله لِما للعرب/المسلمين من مصنفات ومؤلفات وإبداعات غير ما ترجموه وشرحوه.

وإلى جانب هؤلاء، نجد أطروحة المستشرق (تينمان Tennemann) الذي اعتبر أن المسلمين قد فشلوا حتى في شرح مؤلفات أرسطو نفسه وأن شرحهم هذا شرح مضعف، بل مشوّه لمذهبه. ويخلص إلى كون المسلمين قد عجزوا عن إبداع فلسفة خاصة بهم وذلك راجع لِما يتضمنه القرآن الذي يعوق النظر العقلي الحر وسيطرة حزب الأغلبية، أي حزب السنة، إضافة إلى سيطرة سلطة أرسطو المستبدة على عقولهم وميلهم نحو التأثر بالأوهام.[15]

كما نجد المستشرق الهولندي (دي بور) قد أصدر حكما قاسيا نوعا ما على الفلسفة الإسلامية، فقد نزع عنها القدرة على الإبداع والابتكار، ويعتبر أنها لا تتجاوز مستوى النقل والاقتباس من الفلسفة اليونانية.[16]

إن هذا المشروع الفكري لـ(مصطفى عبد الرازق) من خلال كتابه (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية) تمكّن من الوقوف عند العديد من أطروحات المستشرقين بل حتى أطروحات المسلمين التي تنفي عن الفلسفة الإسلامية أي إبداع وتجديد واعتبارها مجرد (علوم دخيلة) حيث قام بتفنيدها عبر توسله بعدة مناهج مختلفة وبمنهجية صارمة ودقيقة،[17] ولعل أهم منهج اعتمده (مصطفى عبد الرازق) في مشروعه الفكري هذا هو منهج المقارنة وذلك عبر استحضاره لعدة أراء استشراقية ومقارنة بعضها مع بعض، ليبدي بعد ذلك رأيه وملاحظاته بخصوص أوجه التشابه والاختلاف والتناقض بين كل تلك التصورات.

وقد كان غرضه الأساسي من كل ذلك؛ تأكيده على أن الفلسفة الإسلامية لم تكن مجرد إتّباع للفلسفة اليونانية وغيرها، بل هناك فعلا فلسفة إسلامية خالصة، وهذه الفلسفة الإسلامية تتضمن كل من تلك الفلسفة بمعناها التقليدي و علم الكلام ثم علم أصول الفقه إضافة إلى التصوف، وهذا ما يؤكده بالقول ”وعندي أنه إذا كان لعلم الكلام ولعلم التصوف من الصلة بالفلسفة ما يسوغ جعل اللفظ شاملا لهما فإن (علم أصول الفقه) المسمى أيضا: (علم أصول الأحكام) ليس ضعيف الصلة بالفلسفة، ومباحث أصول الفقه تكاد تكون في جملتها من جنس المباحث التي يتناولها علم أصول العقائد الذي هو علم الكلام، بل إنك لترى في كتب أصول الفقه أبحاثا يسمونها (مبادئ كلامية) هي من مباحث علم الكلام، وأظنّ أن التوسع في دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية سينتهي إلى ضم هذا العلم إلى شُعَبها”[18]

إذن، فالمقاربة المنهجية المتّبعة من قِبل (مصطفى عبد الرازق) هي مقاربة تقوم على ركيزتين أساسيتين؛ إحداهما هي نقد التصور الاستشراقي المجحف في حق الفلسفة الإسلامية الذي حاول -كما وضحنا- نزع الاصالة والإبداع عن الفلسفة العربية الإسلامية واعتبارها مجرد تقليد واستنساخ للفلسفة اليونانية، أمّا الثانية فتتعلق بإثبات الأصالة للفلسفة الإسلامية من خلال اعتباره أن الفلاسفة المسلمين لم يكتفوا بالترجمة والشرح والتلخيص للمؤلفات اليونانية بل أضافوا عليها عدة إضافات إبداعية مهمة من جهة، ومن جهة ثانية اعتباره أن العرب/المسلمين قد أبدعوا فلسفة إسلامية خالصة وهم لم يطّلعوا بعد على التراث الفلسفي اليوناني، وتتجلى هذه الفلسفة في كل الإنتاجات الفكرية للمذاهب الفقهية والكلامية والصوفية، حتى وإن تأثّرت هذه المذاهب فيما بعد بالإنتاجات اليونانية (المنطق، الإلهيات، ...) فإن ذلك لم يمحو جوهرها وروحها.

ب- التصور الاستشراقي الإبداعي:

إن هذه التصورات الاستشراقية الكلاسيكية التقليدية ذو الرؤية السلبية اتجاه الفلسفة والعلم في السياق الوسيطي الإسلامي ستبدأ أطروحاته في الاضمحلال شيئا فشيئا وذلك ابتداء من خمسينات وستينات القرن الماضي بظهور جيل جديد من المستشرقين، إذ ما يميزهم بشكل عام هو محاولتهم ”اعتبار الأشياء كما هي وليس كما يجب أن تكون” أو بعبارة أخرى ”دراسة العلوم العربية لذاتها”[19]. فقد قامت هذه المدرسة الاستشراقية الجديدة بدراسة العلم والفلسفة في الحضارة الإسلامية في العصر الوسيط في سياقاته الثقافية، الاجتماعية، السياسية، الدينية ... وذلك بمعزل عن مقارنتهما بما أنتجته الحضارة الغربية في الأزمنة الحديثة، باعتبارها ليست المعيار الذي من خلالها نقيس به علمية وفلسفية القضايا والإشكالات، إضافة إلى أن البيئة الحضارية والسياق التاريخي مختلفين، لذلك فمن الغير المعقول إقامة مقارنة بينهما، بل حتى وإن كانا في سياق زمني واحد فإن تلك المقارنة لا تجوز أيضا لأن الحاجة الفكرية هي من تفرض علينا البحث عن إشكالات ومحاولة حلها دون غيرها. وما ميّز هذه المدرسة الاستشراقية الجديدة بشكل خاص؛ كونها قد انتقدت نزعة التمركز الغربي للعلم واعتباره نتاج له فقط. فقد أصبحنا نتحدث لأول مرة -مع هذه المدرسة- عن تعميم هذا العلم وإعطائه بعدا كونيا، ومحاولة ”رد الاعتبار” للحضارات الإنسانية جميعها لكونها قد ساهمت في تطور هذا الصرح العلمي والمعرفي الضخم الذي وصل إلى العصر الحديث بشكل أو بآخر. ومنه، لا يمكننا الحديث عمّا يسمى بالقطيعة الإبستمولوجيا مع العصر الوسيط بشكل عام، ومع السياق الوسيطي الإسلامي بشكل خاص، وانتقال المعرفة والاجتهاد الفلسفي والعلمي من الحضارة اليونانية مباشرة إلى العصر الحديث، لأن ذلك يصعّب علينا فهم هذين العنصرين [أي الفلسفة والعلم] في السياقين الحديث والمعاصر، إذ لا يتم هذا الفهم إلا في ضَوء ما أنتج في العصر الوسيط الإسلامي، وفي ارتباطها بسياقاتها وشروطها الحضارية وخصوصيتها الثقافية.

إذن، إذا كان الجيل الأول من المستشرقين يتميّزون بنزعة “غربية العلوم” واعتبارهم القرون الوسطى، الإسلامية خاصة، مرحلة فراغ عبارة عن واسطة لانتقال العلم والفلسفة من المرحلة اليونانية إلى الحديثة، واعتبارها مرحلة تخزين فقط بالرغم ما فيها من حركة علمية، فإن هؤلاء المستشرقين الجدد قد نفوا ذلك تماما. إذ اعتبر الأوائل [في سياق دفاعهم عن نزعة غربية العلوم] أن العلم الحقيقي هو ذلك العلم التجريبي الذي يمكن أن نتحقق من فرضياته ونتائجه تجريبيا، ويؤكدون على كون هذه الخاصية لم تعرف في العصر الوسيط الإسلامي وأنها موجودة فقط في العلم الحديث والتي تمتد جذورها مباشرة إلى العلم اليوناني، غير أن (رشدي راشد) على لسان (باسكال كروزيت Pascal Crozet) يرفض هذه الأطروحة ويعتبر أن حتى هذه المقارنة ليست بالمقارنة العلمية، وقد أكد على وجود مجموعة من مظاهر العلم التجريبي في الحضارة الإسلامية، كما يؤكد على أن هذه الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية التقليدية لهذه الحقبة الزمنية وما أبدع فيها من علوم ومعارف، كان الغرض الأساسي منها اكتشاف الأصول الهيلينينية والهلنستية لهذه العلوم،[20] أي ما معناه أن هذه العلوم لم تتم دراستها دراسة موضوعية، أو كما عبرنا عنها سابقا بأنه يجب ”اعتبار الأشياء كما هي وليس كما يجب أن تكون: أي دراسة العلوم العربية لذاتها”[21] كما أن هذه الحقبة الزمنية تمت دراستها بخلفية مسبقة وذلك يتعارض مع الشروط العلمية للأبحاث والدراسات الأكاديمية المحكمة. وبالتالي فإن (رشدي راشد) يرفض من جهة اعتبار العلم ذو نشأة القرن السابع عشر الميلادي وما بعده من جهة، ومن جهة أخرى يرفض حصر البعد العلمي في العلوم الغربية فقط.

تركيب

عموما، يمكن القول بشكل عام بأن أطروحات المستشرقين الكلاسيكيين التقليديين كانت متهافتة في جوهرها وأساسها من جهة، ومن جهة ثانية كونها قد طرحت في فترة زمنية كان الشائع فيها حول الفلسفة الإسلامية أنها مجرد نقل وترجمة وشرح للفكر العلمي والفلسفي اليوناني وغيره، لذلك انساق العديد من المستشرقين في تلك الفترة وراء هذه المغالطة التي كان أساسها مبني على تهافت عرقي وإيديولوجي، ومن جهة ثالثة صعوبة الوصول إلى تلك الإبداعات الإسلامية الخالصة في تلك الفترة إلى جانب تلك الشروحات والتعليقات على العلوم والفلسفات التي تعود إلى الحضارات الأخرى. وبالتالي يجوز لنا أحيانا أن نقول بأن موقفهم -نوعا ما- مبررا باستثناء بعض الأطروحات ذات البعد الإيديولوجي والعرقي أكثر منه علمي. فهذه الدراسات كان لها دور سلبي على مجال التأريخ للعلوم، لكونها تضع إسهامات الحضارة الإسلامية في العلم والفلسفة خارج التاريخ، وهو أمر يصعّب علينا فهم العلم والفلسفة في السياق الحديث باعتبار أن العديد من الفلاسفة والعلماء قد عالجوا مجموعة من القضايا والإشكالات التي طرحت بالأساس في العصر الوسيط الإسلامي، حتى وإن لم تطرح فيها فإن إشكالاتها قد تبلورت بشكل واضح في تلك المرحلة، لذلك فإن تلك القضايا والإشكالات في العصر الحديث هي امتداد لتلك الإشكالات التي طرحت في العصر الوسيط الإسلامي، ولابد من وضعها في سياقها التاريخي من أجل فهم مضمونها جيدا.

3- الإرث العربي الإسلامي مساهما في تشكل الفلسفة الغربية المتأخرة:

إن تلك الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية التقليدية تسقط عن الحضارة الإسلامية مساهمتها في النهضة العلمية الحديثة من خلال ما قدمته من ترجمات وشروحات وتعليقات وتأويلات للمؤلفات الفلسفية والعلمية التي تعود إلى الحضارات الأخرى، خاصة اليونانية، إضافة طبعا للنقد والتشكيك والتصويب والتصحيح والترميم الذي رافق هذا الشرح. لأن البومة[22] بعدما فشلت بالمرور عبر روما وعبر بيزنطا بمضيق البوسفور إلى باقي بلاد أوروبا لكونها قد اصطدمت بموانع كثيرة أبرزها الحروب بين القبائل الجرمانية إثر سقوط الحضارة الرومانية -كما أشرنا إلى ذلك سابقا- حيث صعّب عليها ذلك المرور بارتياح، لذلك عادت للانطلاق مجددا بالعبور من البلدان الإسلامية رغم أن المسافة طويلة، حيث تطلّبت قسطا غير يسير من الزمن لأن الحكمة كما يقول الباحث (محمد اشو) ”لا تمر في أي مكان كان، وإنما تسير في المسالك الآمنة، والحضائر العامرة، والمراكز الثقافية النشيطة”[23] وبسبب مرورها على البلدان الإسلامية فقد توقفت عند العديد من المحطات، وداخل هذه المحطات تعرّضت للترجمة والشرح والتأويل والتعليق والتجديد ... لتنتقل بعد ذلك إلى الغرب الأوروبي في صورة جديدة قابلة للفهم والإدراك بعكس ما كان متصورا في ذهن الأوروبيين. ولعل أبرز هذه المحطات التي ترجم من خلالها هذا الإرث العربي/الإسلامي إلى اللغة اللاتينية نجد صقيلية التي اهتمت بشكل كبير بما هو علمي، ثم طليطلة التي ترجم من خلالها العديد من المؤلفات الفلسفية وعن طريقها وصلت إلى أوروبا، وكان هذا سببا رئيسيا للأوروبيين في فهم بعض الفلسفات ذات البعد العقلاني والمنطقي، خاصة الفلسفة الأرسطية التي اعتبروها فلسفة صارمة غير قابلة للتأويل لكونها تتعارض مع المبادئ المسيحية، وفي هذا الصدد يقول (أنتوني جواليب) ”... لم يكن ألبرت ليجد الكثير ليقوله لو اتّفق دائما مع ارسطو. فالعقيدة المسيحية جعلت الاتفاق التام ضربا من المستحيل. لقد قال أرسطو إنّ العالم كان موجودا على الدوام، ولكن المسيحيين كانوا يعرفون أنه لم يكن موجودا. وقد قال أرسطو إنّ الرّوح لا تبقى بعد الموت، ولكن المسيحيين كانوا يعرفون أنها تبقى. وما قاله أرسطو عن المادة تضمّن أن القربان المقدس كان أمرا مستحيلا من الناحية المنطقية، وهو ما لم يكن مقبولا. ولم يكن ربّ أرسطو مهتما تماما بما يفعله الإنسان، ومن الواضح أن هذا كان مشكلة في حدّ ذاته” ويضيف بالقول أنه ”دائما ما كانت أفكار أرسطو يتلقاها الجمهور بحذر وجدّيّة، فقبل كل شيء كان يجب توفيقها مع تعاليم الإيمان، ولم يعْنِ هذا حذف بعض الفقرات المسيئة فحسب بل التوفيق بين مبادئ المسيحية والمبادئ الأرسطية“[24] ولهذا السبب تبنّت الكنيسة الأفلاطونية في زيّها الأوغسطيني كمذهب رسمي لها لحوالي ثمانية قرون متتالية لكونها تتميز بالمرونة في فكرها وبالتالي فهي قابلة للتأويل بما ينسجم مع اللاهوت. غير أن هذا الغموض الذي كان يكتنف حول الأرسطية سيزول بدخول الترجمات والشروحات والتأويلات العربية الإسلامية على الفكر الأرسطي إلى الغرب الأوروبي، يقول (أنتوني جواليب) في هذا السياق ”وصلت مقالات أرسطو إلى الغرب الأوروبي مصحوبة بتعليقات ضخمة ومثيرة ألفها الباحثون العرب. وبالكاد شرَع أساتذة الجامعة المسيحيون في تعلّم كل هذه الحكمة ونقلها دون أن يكون لهم رأيهم الخاص؛ ولذلك لم تُسْتَقْبَل أفكار أرسطو وتُقَدَّم كما هي بأي شكل”.[25] والمقصود بالعبارة الأخيرة (لم تستقبل أفكار أرسطو وتقدّم كما هي بأي شكل) أي أن الأوروبيين لم يتعرفوا على الأرسطية مباشرة ممّا قاله أرسطو نفسه، بل تعرفوا عليها من خلال تلك الترجمات والشروحات العربية الإسلامية التي حاولت أن تخفف من حدة وصرامة الفكر الأرسطي. وانطلاقا من ذلك سيعتبر العديد من الدارسين للعصر الوسيط أن دخول الأرسطية للغرب الأوروبي فجر القرن الثالث عشر الميلادي بمثابة نهضة علمية وفكرية حقيقية ثانية بعد النهضة الفكرية والأدبية الأولى بزعامة القائد (شارلمان) والتي تُعرف ثورته بالثورة الكارولينجية بداية من القرن التاسع الميلادي. ودخول هذه الأرسطية بواسطة الحضارة الإسلامية إلى الغرب الأوروبي؛ مهّدت الطريق ومكّنت هذه المجتمعات بالعبور إلى الأزمنة الحديثة.

كما ساهم العديد من علماء الفلك العرب/المسلمين في هذه النهضة العلمية في العصر الحديث من خلال ما قدموه من تشكيكات وتصحيحات وتصويبات وترميمات على العديد من النماذج الفلكية التي تعود إلى الحضارات الأخرى منها الهندية والفارسية وخاصة اليونانية من خلال كل من نموذج أفلاطون وأرسطو وخصوصا النموذج الفلكي الذي قدّمه (بطليموس) في كتابه “المجسطي”، إذ حاولوا التأكد من صحة المعطيات الفلكية الواردة فيه فلجأوا إلى المراصد، وقد كان من نتائج ذلك؛ أن صاغوا العديد من النظريات الفلكية كمحاولة منهم لإصلاح المجسطي وقد قادهم ذلك حسب بعض الدارسين للعصر الوسيط الإسلامي أن مهدوا الطريق لما أصبح يُعرف بالثورة الكوبرنيكية، ويُمكن العودة إلى بعض النماذج الفلكية في هذا الإطار كالنموذج الذي قدّمه ابن الهيثم في كتابه “الشكوك على بطليموس”، نصير الدين الطوسي في كتابه “التذكرة في علم الهيئة”، مُؤيد الدين العُرضي، ابن الشاطر، ثابت بن قرة وغيرهم العديد. وهكذا يتضح لنا كيف ساهمت هذه الحضارة الإسلامية في النهضة العلمية الحديثة، وهي الفكرة التي انطلقنا منها لعرض هذه المعطيات التي تؤكد على الإسهام الكبير الذي لعبته هذه الحضارة في بناء الحضارة الغربية.[26]

4- إنصافا للتاريخ:

قبل ختم هذا الموضوع لزام علينا أن نوضح ثلاث نقاط أساسية، إذ يتعلق الأمر:

النقطة الأولى: اعتبار العلم والفلسفة في السياق الإسلامي مجرد نقل للتراث العلمي والفلسفي اليوناني وغيره، وإعادة البحث في قضاياه وإشكالاته، هي في آخر المطاف مسألة عادية باعتبار أن المعرفة الإنسانية بشكل عام ليست ذو نشأة محددة، ويمكننا الاستدلال على ذلك من خلال نموذج الحضارة اليونانية نفسها؛ إذ أكد العديد من الباحثين في حقل الفلسفة أن الحضارة اليونانية قد استفادت بالكثير من حضارات الشرق القديم بحيث حاولت تكييف تلك العلوم والمعارف وفق خصوصياتها الحضارية وشروطها الثقافية وظروفها السياسية، وهو نفس الأمر الذي قامت به الحضارة الإسلامية، ولكننا نجد بعض المؤرخين يعتبرون أن الفلسفة والعلم في السياق الوسيطي الإسلامي مجرد نقل وتقليد للفلسفة والعلم اليوناني ولكنهم لا يقولون ذلك عن الحضارة اليونانية، وهذا نوع من التناقض. إضافة إلى كون أن المعرفة الإنسانية مرتبطة في سياقها التاريخي وأن الأمر لا يقتصر على أن كل حضارة أو مرحلة بحثت في إشكالات مخالفة للأخرى، بل هي مرتبطة في جوهرها وأساسها، لأن كل إبداع معرفي هو نتيجة للعديد من الأسباب التي سبقته وهو رهان للإشكالات التي ستأتي من بعده، وهذا ما يؤكده المؤرخ (ديفيز) حين حديثه عن الأحداث التاريخية بالقول “إن أي تقسيم للتاريخ إلى عصور أو فترات لهو تقسيم غير طبيعي، وكلما زاد التقسيم دقة، كلما بعد عن أن يكون طبيعيا، فكل حدث تاريخي هو نتيجة لعدد لا يحصى من الأسباب، وهو بالتالي نقطة بداية لعدد لا يحصى من الآثار المترتبة عليه. فاللغة والفكر ونوع الحكم والسلوك والعادات- كل هذا يطرأ عليه تغير تدريجي غير محسوس، حتى لنستطيع القول بأن كل عصر هو مرحلة انتقال للعصر الذي يسبقه، ولا يمكننا فهمه فهما تاما إلا إذا نظرنا إليه على أنه وليد الماضي ووالد المستقبل”[27]

إن عودتنا للتصورات الفلسفية القديمة مثل عودة الفلاسفة المسلمين للإبداعات الفلسفية، اليونانية خاصة، لا يعني كما يقول (إتيان جيلسون) أن الفلاسفة حراس المقابر لأن العودة المتكررة إلى الماضي لا يعني إخراج الموتى من قبورهم، وإنما مرد ذلك إلى أن في فلسفتهم أجوبة لأسئلتنا في الحاضر، وهذا ما يفسر عودة الفلاسفة المسلمين إلى الفلاسفة الذين سبقوهم للاستفادة منهم لأن الأفكار الفلسفية لا تموت بموت أصحابها.

لقد أكد العديد من الباحثين والدارسين على أصالة الفلسفة الإسلامية من جهة، ومن جهة ثانية التأكيد على وجود فلسفة عربية إسلامية، مثل الباحث (محمد اشو) الذي اعتبر أن الفلسفة العربية الإسلامية أسهمت، بشكل أو بآخر، في صناعة التاريخ الفكري للبشرية، وأن الأمر أصبح بمثابة مسلمة.[28]

النقطة الثانية: تتجلى أساسا في اكتشاف العديد من المستشرقين الجدد المحايدين لعدة نصوص تؤكد فعليا على وجود لمسة إبداع عربي إسلامي على تلك العلوم والفلسفات. والمفارقة العجيبة في هذا السياق تكمن حينما يتم اكتشاف بعض المخطوطات والكتب، بل حتى بعضا من صفحات كتاب ما يعود إلى العصر الوسيط بشكل عام، يتهافت عليه الجميع حتى أصحاب الدعوة القائلة بظلامية وسوداوية القرون الوسطى، الإسلامية خاصة. لذلك لا يجب علينا أن ننساق وراء هذه المغالطات الإيديولوجية والادعاءات الباطلة، وأن نحتكم في المقابل للدراسات الأكاديمية العلمية.

النقطة الثالثة: تتعلق بتهافت الأطروحة القائلة بأن الحضارة الإسلامية قد انحصر دورها على الترجمة والشرح فقط، وهذه المسألة مسألة خاطئة لأن هذه الحضارة مرّت على ثلاث مراحل أساسية يتعلق الأمر ب:

المرحلة الأولى: هي مرحلة الترجمة فقط، وذلك بترجمة العديد من المؤلفات الفلسفية والعلمية حسب الحاجات الفكرية والحضارية التي كانت مطروحة آنذاك عبر العديد من المؤسسات العلمية الكبرى التي ستسهر على تقديم العديد من الترجمات العالية الدقة، أو بلغتنا المعاصرة اليوم؛ ترجمات علمية أكاديمية صارمة، من خلال رعاية هذه الترجمة من قبل العديد من الأمراء والسلاطين مما شجّع هذه الحركة العلمية وشيوع الفكر الفلسفي والعلمي عموما، وبذلك ساهمت في إعطاء دفعة للفكر الفلسفي العقلاني، ومن بين أشهر هذه المؤسسات نجد ”بيت الحكمة”.

المرحلة الثانية: تتعلق بمرحلة الاستيعاب، وذلك باستيعاب تلك العلوم والفلسفات التي ترجمت إلى اللغة العربية من الحضارات الأخرى.

المرحلة الثالثة: هي مرحلة الإبداع، وذلك بعد التشكيك في تلك النظريات التي تمت ترجمتها واستيعابها وتصحيحها عبر ترميم هفواتها، فأدى ذلك بهم إلى تأليف العديد من الكتب والمؤلفات التصحيحية والتصويبية والتي تشكل لبّ وجوهر الإبداع عندهم.

خاتمة

خلاصة القول، إن المسلمين في السياق الوسيطي قد اهتموا بالعلوم وبالفلسفة إذ قاموا بترجمة العديد من المؤلفات التي تعود للحضارات الأخرى، لكنهم لم يكتفوا بنقلها فقط، بل توسعوا فيها وأضافوا إليها إضافات علمية هامة والتي تعتبر أساس البحث العلمي الحديث. ولهذا السبب وجدنا في تحليلنا لهذا الإشكال العديد من المؤرخين المنصفين والمحايدين الذين اعترفوا بذلك رغم بعض التصورات التي حاولت جاهدة نزع الأصالة والإبداع والتجديد عن الحضارة الإسلامية، وبالتالي فإن هذه الحضارة تمثل حلقة مهمة في سلسلة الحضارات الإنسانية لكونها قد أسهمت في وضع أساس للحضارة الإنسانية الحديثة بنصيب موفور وأن فضلها عليها واضح غير منكور، والحق أن هذه الحضارة قد أحدثت ثورة علمية وفلسفية عمّ خيرها كل أرجاء العالم الإنساني ككل. وفي الأخير لا يسعنا إلا أن نقول بأنه واجب علينا جميعا محاولة كشف أسرار تلك الدراسات والأبحاث التي أنجزت في العصر الوسيط الإسلامي، فهي تستحق أن ننفض عنها غبار السنين بالدراسة والفهم والتحقيق … لعلّنا نكشف بذلك عمّا تحتويه من كنوز لاتزال فاعلة حتى اليوم.

***

يونس موحيا

باحث مغربي- الكلية متعددة التخصصات الناظور

جامعة محمد الأول بوجدة

 ............................

قائمة المراجع

باللغة الأجنبية

Ernest Renan, L’islamisme et la science: conférence faite à la Sorbonne, le 29 mars 1883.

Pascal Crozet, (les sciences arabes entre Antiquité et âge classique: la constitution d'un nouveau champ en histoire des sciences), 2004. ffhalshs-01191455f (CNRS), communication faite a l'occasion de la journée (Hommage a Roshdi Rashid), le 15 juin 2004.

باللغة العربية

أ- الكتب:

أنتوني جواليب، حلم العقل، ترجمة يوسف كرم، دار فاروس للنشر والتوزيع، القاهرة، 2016.

مصطفى عبد الرزاق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، مؤسسة هنداوي، 2021.

ه. و. ديفيز، أوروبا في العصور الوسطى، ترجمة عبد الحميد حمدي محمود، الطبعة الأولى، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1958.

يمنى طريف الخولي، فلسفة العلم في القرن العشرين. الأصول_الحصاد_الآفاق المستقبلية، عالم المعرفة، 264، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ديسمبر 2000.

ب- الأبحاث:

محمد اشو، غيوم المربكي وتوما الأكويني أصداقة أم مظاهر (حمّى تاريخية)، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، 06 يناير 2023.

محمد الشبة، منهج مصطفى عبد الرازق في دراسة الفلسفة الإسلامية، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، قِسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، 17 نوفمبر 2022.

ت- الندوات:

فؤاد بن أحمد، ندوة حول: الفلسفة والكلام وتاريخ العلوم في سياقات المسلمين: أسئلة التاريخ والراهن، الجلسة الأولى، المداخلة الرابعة بعنوان: البحث في الفلسفة في مجتمعات المسلمين: تقليد حديث وموضوع في طور البناء، الكلية متعددة التخصصات الناظور، جامعة محمد الأول بوجدة، المغرب، 28 مايو 2022.

محمد اشو، ندوة حول: الفلسفة والكلام وتاريخ العلوم في سياقات المسلمين: أسئلة التاريخ والراهن، الجلسة الاولى، المداخلة الأولى بعنوان: الفلسفة العربية الإسلامية في صلب التاريخ الإنساني، الكلية المتعددة التخصصات الناظور، جامعة محمد الأول بوجدة، المغرب، 28 مايو 2022.

هوامش

[1] إذا استثنينا المرحلة الهيلينينية والهلنستية ومرحلة الأباء وخطباء روما، باعتبارها كمراحل وصل بين المرحلتين الأساسيتين (اليونانية والوسيطية)

[2] أنتوني جواليب، حلم العقل، ترجمة يوسف كرم، دار فاروس للنشر والتوزيع، القاهرة، 2016، ص308

[3] نفسه

[4] فؤاد بن أحمد، ندوة حول: الفلسفة والكلام وتاريخ العلوم في سياقات المسلمين: أسئلة التاريخ والراهن، الجلسة الأولى، المداخلة الرابعة بعنوان: البحث في الفلسفة في مجتمعات المسلمين: تقليد حديث وموضوع في طور البناء، الكلية متعددة التخصصات الناظور، جامعة محمد الأول بوجدة، المغرب، 28 مايو 2022. ولمراجعة تقرير الندوة يمكن الإطلاع عليه إلكترونيا من خلال موقع : مؤسسة البحث في الفلسفة والعلوم في السياقات الإسلامية، (ندوة) الفلسفة والكلام وتاريخ العلوم في سياقات المسلمين: اسئلة التاريخ والراهن.

[5] أنتوني جواليب، حلم العقل، مرجع سابق، ص 308-309

[6] محمد اشو، غيوم المربكي وتوما الأكويني أصداقة أم مظاهر (حمّى تاريخية)، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، 06 يناير 2023، ص 9

[7] أنتوني جواليب، حلم العقل، مرجع سابق، ص 307.

[8] ه. و. ديفيز، أوروبا في العصور الوسطى، ترجمة عبد الحميد حمدي محمود، الطبعة الأولى، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1958، ص 13.

[9] نفسه، ص 14.

[10] أستاذة فلسفة العلوم ورئيسة قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وقد أسهمت في نشر الثقافة العلمية وأصول التفكير العلمي والعقلاني بالعشرات من المقالات والبرامج التلفزيونية والمحاضرات العامة.

[11] يمنى طريف الخولي، فلسفة العلم في القرن العشرين. الأصول_الحصاد_الآفاق المستقبلية، عالم المعرفة، 264، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ديسمبر 2000، ص 34.

[12] Ernest Renan, L’islamisme et la science: conférence faite à la Sorbonne, le 29 mars 1883.

[13] مصطفى عبد الرزاق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، مؤسسة هنداوي، 2021، ص 16.

[14] نفسه

[15] مصطفى عبد الرازق، مرجع سابق، ص 12-13.

[16] محمد الشبة، منهج مصطفى عبد الرازق في دراسة الفلسفة الإسلامية، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، قِسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، 17 نوفمبر 2022.

[17] من أجل معرفة موسعة وصارمة حول هذا الموضوع، يمكن مراجعة البحث المحكم ل: محمد الشبة، منهج مصطفى عبد الرازق في دراسة الفلسفة الإسلامية، مرجع سبق ذكره.

[18] مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، مرجع سابق، ص 27.

[19] Pascal Crozet, (les sciences arabes entre Antiquité et âge classique: la constitution d'un nouveau champ en histoire des sciences), 2004. ffhalshs-01191455f (CNRS), communication faite a l'occasion de la journée (Hommage a Roshdi Rashid), le 15 juin 2004.

[20] نفسه

[21] نفسه

[22] ترمز البومة في الثقافة اليونانية القديمة وفي أوروبا إلى الحكمة والفلسفة.

[23] محمد اشو، غيوم المربكي وطوما الأكويني أصداقة أم مظاهر (حمّى تاريخية)، مرجع سابق، ص 8.

[24] أنتوني جواليب، حلم العقل، مرجع سابق، ص 314-315.

[25] نفسه، ص 315.

[26] لابد من الإشارة أننا لا نؤكد على ما يسمى بالأطروحة الإتصلانية التي تنفي القطيعة الابستمولوجيا أو عن الأطروحة الإنفصلانية التي تدافع عن القطيعة الابستمولوجيا لأن هذا موضوع آخر ومختلف.

[27] ه. و. ديفيز، أوروبا في العصور الوسطى، مرجع سابق، ص 9.

[28] محمد اشو، ندوة حول: الفلسفة والكلام وتاريخ العلوم في سياقات المسلمين: أسئلة التاريخ والراهن، الجلسة الاولى، المداخلة الأولى بعنوان: الفلسفة العربية الإسلامية في صلب التاريخ الإنساني، الكلية المتعددة التخصصات الناظور، جامعة محمد الأول بوجدة، المغرب، 28 مايو 2022.

لمراجعة تقرير الندوة يمكن الإطلاع عليه إلكترونيا من خلال موقع : مؤسسة البحث في الفلسفة والعلوم في السياقات الإسلامية، (ندوة) الفلسفة والكلام وتاريخ العلوم في سياقات المسلمين: اسئلة التاريخ والراهن.

لقد أقدم علماء الغرب وغيرهم البحث التاريخيو - الفكري والاجتماعي مثل أطروحات شبينجلر وهيجل وبارك ورودنسون وكما يسقط أرنست وجيرتز في منهج هيرمينيتيكي يبحث في اعماق الفكر وكواليس السلوك ومبادىء المجتمع وأفكاره وعقائده التي تحرك الاجتماعي ثقافيا في الدولة القطرية أو دولة – الأمة المعاصرة والحديثة، فكان أن انتهى الاستعمار إلى إدراك خفايا الشعائر والطقوس الإسلامية وإثرها فهم الدرس وأخذ المنهج الروحي عنهم ولكن بتحور متغطرس، كما بدأ بتدرس القيم والعادات والافكار والعقل الإسلامي وجعل من ألاف المسلمين المهاجرين، دفعة روحية وتغذية مانعة للميوعة ورافعة للتعالي الإنساني.

يشكل الصوفية كشكل من الخطاب التقليدي، وهو ممارس بديل عن الخلل السياسي والميع الإجتماعي في بعض تطورات التاريخ والحضارة؛ داخليا وعالميا ... أي هو خطاب لاحق مباشرة للحدث الانفصالي للدين عن الدولة، ونشأة الأمة الاسلامية وظهور الفتن وسيطرة الطوائف وتدخل الأجانب في حكم المناطق العربية، بالاضافة إلى سيادة ظروف القمع والظلم والقهر الاجتماعي، وبالتالي إنكسار نفسي وروحي لمعظم الطبقات الاجتماعية التي ابتعدت عن السلطة طوعا أو كرها، فهي إما رافضة لسلطة جديدة ناشئة أو داعية لفكرة سياسية جديدة مما يؤكد شدة العلاقة القائمة بين التصوف والسياسة في المجتمع الإسلامي . فالتصرف كان شاهدا ظرفيا في الحدث السياسي الإسلامي، بحيث ابتعد عن ملاذ الدنيا وحياة الرفاه ولجأ إلى التقليد الديني أو للدعوة السرية أو البحث النظري والفلسفي في ظواهر الكون والطبيعة وقراءة الفلسفات القديمة وتفسير القرآن والسنة النبوية تفسيرا باطنيا وعميقا .

وقد المشرق والمغرب وفارس وتركيا، مراكز توسع أفقي وعمودي للصوفية، عكس الخليج والحجاز نحيث مجدت الصوفية ضربات فكرية وتهرب إجتماعي منها حيث التصادم المباشر والسريع مع الغرب المتوسطي والتعدد الثقافي، مايلزم لأخذ الموذج الصوفي لتساهليته لحفظ الدين وتماسك المجتمع.. لقد حلل الخطاب الصوفي إشكالية العلاقات السائدة بين الله والبشر ودرجات الإيمان وأنواع الكائنات كالجن والملائكة وعلاقتهم بالله والبشر، وتفسير الظواهر الطبيعية كالريح والمطر والعواصف والزلازل والأمراض وتحليل القدر والمكتوب وحادثة خلق الإنسان وأصله، وكيفية نشوئه وكيفية حلوله في ذات الله وحلول روح الألوهية وتناهي الإنسان فيها، الشيء الذي أحدث ضجة كبيرة بين أهل الكلام والمعتزلة والأشاعرة والفلاسفة في الفكر الاسلامي القديم، حيث نسجل المناظرات بين أبن عربي وابن رشد والغزالي وأبي حامد والبسطامي وأبي القاسم الجنيد، وأبي طالب الملكي والحلاج وصهيب الرومي وحتى ابن خلدون كان فقيها وقاضيا ومتصوفا .

شكلت الحركة الصوفية مظهرا ثقافيا متقدما وروحيا متعاليا على المجتمع الإسلامي وعلى قواعده الأخلاقية مثل الخروج عن السياسة وأنظمة الحكم وابتعادا عن الظواهر العادية والحقيقية. وانقسموا إلى فئات منها:

- التصوف الأشعري: السني وما حفظ الفروض والنوافل الأساسية وترك الحرية لإضافات غير محرفة.

- التصوف الشيعي: وهو ما ظهر أول الإسلام من مراقد وخلوات وحوزات شيعية كتجمع فكري وعائلي.

- التصوف الفلسفي: الذي نجده عند الحلاج والسهروردي وإبن عربي.

وهكذا تأثر بالفلسفة والأديان الفارسية والهندية والصينية. وكانت لهم مواقف متعددة ومتغيرات حول المجتمع وحول المواقف السياسية . فمنهم من شكل معارضة، ومنهم من اعتكف ولجأ إلى الزهد، ومنهم من لزم الصمت، وكان ذلك تجنبا للفوضى والعنف وبهدف نشر السلم الاجتماعي في مجتمع يتميز بسيطرة مختلفة . حيث كان المجتمع الاسلامي " .في وضعيات كرستها مقولات نجد في كتاب جاك بيرك وعلنر وجيرتز في فلسفة العمق العقائدي في المغرب الإسلامي الحديث.

وهنا يمك الرجوع إلى تقديمات حليم بركات وعبد القادر جغلول وهواري عدي ونور الدين حقيقي وهشام جعيط والعروي؛ من حيث المقاربة الإجتماعية للفعل التكاملي للمجتمع، وليس تنميط فلسفي حسب الوردي أو الجابري، وإنما حسب مقاربىة إبن خلدون من خلال الدين والعادة والرابط المعاشي وهو تحليل حول الطابع الروحي والتقليدي للمجتمع العربي والمغاربي والعالم الثالث . ونظرية ابن خلدون الذي وصفت المجتمع الإسلامي بالرعوية والقبلية. كما يقول أن " هناك من المرابطين من كان طرفا في النزاعات والصراعات ولكنهم لم يستطيعوا أن يكونوا قضاة وأعضاء في الحل "

وقد كانت لهم مكانة علمية وسياسية في الأمر والنهي وحل النزاعات حسب عدي ." فقد كان دور المرابط ليس أساسيا في السلم عندما ينشأ النزاع بين قبيلتين فقط ولكن أيضا داخل القبيلة الواحدة "، حيث يرى لويس غاردي ذلك وهو الباحث الكبير في التراث الإسلامي وتاريخه الذي واجه عدة انتقادات علمية ومنهجية من طرف البعض، وخاصة المفكرين العرب الحداثيين الذين نهلوا من الفلسفة الغربية ودرسوا التاريخ العربي والإسلامي على يد هؤلاء المستشرقين .

يقول غاردي: "إن التصوف كان مهمشا في الحياة العامة . فقد كان عنصرا من الحياة الاسلامية الحضرية في العصور الكلاسيكية، وقد كانت هناك حلقات كبيرة . مثل حلقة رابعة العدوية التي تعزف الناي وتدعو إلى العشق الإلهي في مدينة البصرة في عهدها". ولكن يجب ملاحظة أنه تواجدت إلى جانب الصوفية، كجماعة علمية ودعوية للإسلام، جماعات معادية لها، وهي جماعات سياسية وأخرى فلسفية ولاهوتية وأصولية وفقهاء من المعتزلة وفقهاء الحنفية، أي أنصار المذهب الحنفي الذي أنشأه أبو حنيفة النعمان في العهد العباسي ليضع نظاما متطورا من الشرائع والقواعد الإسلامية. إن الحالة الروحية للصوفية هي حالة توحد مع الله بالتجربة، لهذا اعتبرت الصوفية فرقة كافرة وخارجة عن الدين.وتقوم بالزندقة، إذ حاربها العلماء والفقهاء . وهكذا شاركت السلطة ورجالها وأهل العلم في محاربة الحلاج الذي اعتمد نظرية الحلول والتماهي مع الله وطرد من الأماكن المقدسة وقام الناس بتكفيره .

وقد نلاحظ في بداية ظهورها صرامة القضاء الإسلامي مع هذه الجماعة وتعليماتها ومواقفها وبالتالي شكلت تيارا هامشيا في الواجهة الإسلامية لتلك الفترة التي يسود فيها الإسلام الرسمي . منذ ذلك الحين نشأت مؤلفات ضخمة تدافع عن تلك الحركة وذلك المذهب وتؤسس له مبادئه وتعاليمه المذهبية التي تميزه عن الإسلام السني والإسلام الرسمي المسيطر .

كان تطور الفكر الغربي الحديث والأدب الأوروبي مرتبطا بكل جدارة بالإنتاجات الاهوتية المسيحية واليهودية من العهد الأو والثاني، ثم الفلسفة اليونانية قليلا ثم بالمنتوج الإسلامي الذي ترجم أهم إنتاجات اليونان . وهكذا تحمل الإسلام عبء التثاقف الكوني لمرحلة عشرية قرنية، وحمل الثقافات العربية والفرسية والامازيغية والتركية والإفريقية بكل ذكاء وكل إشتمال معنوي ومادي ورمزي في تفاعلية وتناظرية متوازية ومتواصلةمع التاريخ.فكان نتيجتها أن تكامل تصور العقل والإنسانية ووحدة التفاعل الإنساني الحضاري وضرورته.

وقد مثلت مرابع فكر النهضة متكأأ عضيما على التجذر الإسلامي على إنسانيات القرون الوسطى مثلما نجد عند مقالات وميكيافيلي وكتب توماس مور وبودان والحركة الإنسانية للنهضة.

وتواصل المسار حتى ظهرت المشاعر الأوروبية من حيث الملامح، طبق نزعات التوجهات الدينية والفكرية للثقافة الحداثية الصاعقة المختلفة عن المدونات المسيحية وتقاليدها، مما جعل هذا التيار، يجد مقاومة شديدة من طرف علماء الإسلام وعلماء اللاهوت المسيحي وعلماء الفقه أحيانا لأنه هناك طرفين في البحث العلماني المتحرر. ونتج عنه تيارين. فكان منه:

تيار غرائبي ساخر

وتيار غرائبي إيجابي

وتيار إغرابي وإستلابي، يريد الإحتواءوإستيلاء على حضارة الإسلام....

لقد كان البحث العلمي ومنجم عنه من رفاهيات فنية وروائية، دافعية للترقي الإقتصادي لإعادة بعث للهجوم الصليبي أحيانا بصورة فكرية ولكنه في الجانب الآخر لعب الطرف المدني والحيادي الإنساني إعادة احياء التراث الإسلامي والأمازيغي والإفريقي إلى الحياة، وهذا لا يمكن إنكاره، .

وجعل البحث عن المجتمع المدني والدولة الوطنية وسيادة الأمة؛ اساليب للتكتل والتنميط الهوياتي للمجنمع الغربي ثم بناء اطر التنمية والتطوير ونقل التكنولوجيا والديمقراطية وحقوق الإنسان ولإستشراف محطات لتوقف ونبذ الذات الىثمة حين الإستعمار والفكر الدائري النرجسي .مع العلم أن المسلم اليوم لم يقرأ الكل فكري الغربي والذي لازال غامضا في عدائيته أو عشقه للمنتوج الإسلامي .

***

عتيق العربي - الجزائر

الوقوف أمام الخطابات الدينية التي تناولت آية وأخبار ضرب المرأة يكشف لنا بوضوح عمق مشكلة الخطاب الديني التقليدي والتنويري، فيشعرك بالحيرة هل هو يتجمل أم يُخادع! هل يجتزأ عن عمد أم أنه وقع في الاجتزاء دون قصد! ويظل السؤال الذي يؤرق من يُطالع كتب المفسرين والفقهاء ومعاجم اللغة وأشعار العرب لماذا الخطاب الديني يُخفى أنه يقوم بعملية اختيار للمدلول وأنه يسكت عن مدلولات أخرى؟ لماذا يُغفل البعد الاجتماعي للآية القرآنية؟!

أبدأ بتناول المدرسة الإخبارية أو مدرسة الحديث كما تحب أن تُسمّى نفسها، فسنجدها أكثر صراحة وأكثر إيلاما في طرحها، فسنة الله في كونه من منظورهم أنّ للرجال قوامة بمعنى ولاية وسلطة وإمارة على النساء، ويمتنع أن تكون للمرأة مثل ذلك على الرجل، وعلة ذلك من منظورهم أن الله فضل جنس الرجال بقوة الجسم والعقل والإنفاق بقدرة على السعي للكسب لا تستطعها النساء لضعف قدرة الجسمية والعضلية، وهذا من منظوري صحيح إذا كنا سنتكلم عن مجتمع عرب الجزيرة العربية الأول حيث كان الرجل لا المرأة هو الذي يُحارب ويأتي بالغنيمة وهو الذي يخرج للصيد وفي رحلات تجارية تخترق الصحارى المقفرة وليست المرأة لكن حركة الاجتماع انتقلت بنا إلى مكان آخر ينبغي أن تتغير معه مفهوم القوامة التي تحمل مدلولا اجتماعيا وليس دينيا كما حاول الفقهاء والإخباريين، فالرجل والمرأة في مجتمع اليوم يستويان أمام القانون كلاهما مواطن تتولى الدولة حمايته، كما أنه لم يعد الكسب قاصرا على ما كان شائعا في البيئة العربية الأولى بما يمنح الرجل تفوقا، فالقوامة الاجتماعية التي تُؤسس لتفوق ذكوري حلّ بدلا منها قوامة المشاركة.

وإذا عدنا إلى تناول مدرسة الحديث لقضية ضرب المرأة فسنجدها ترى المرأة أمّا قانتة طائعة لزوجها أو ناشزة غير طائعة لزوجها، وأن النشوز داء دواؤه ثلاث: عظة ثم هجر في المضاجع ثم ضربٌ، فتُضرب ضربا يحصل به تأديبها، ولا يحصل به جُرح امتثالا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم "اتَّقوا اللهَ في النِّساءِ؛ فإنَّكم أخذتُموهنَّ بأمانِ اللهِ، واستحلَلْتُم فُروجَهنَّ بكَلِمةِ الله، ولكم عليهنَّ أنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا تَكرَهونَه، فإنْ فعَلْنَ ذلك فاضرِبوهنَّ ضَربًا غيرَ مُبَرِّحٍ". [أخرجه مسلم ١٢١٨]. ويتوقف الزوج عن الضرب التأديبي إذا حصلت الطّاعة الظاهرة. وإذا انتقلنا إلى المدرسة الأصولية/ الفقهية فسنجد المذاهب السنية الفقهية الأربعة متفقة على أن علاج نشوز المرأة هو الضرب إذا لم ترجع بالوعظ والهجر، واشترطوا باتفاق بينهم ألا يكون الضرب مبرِّحا.

نخلص من ذلك إلى أن المدرسة الإخبارية/مدرسة الحديث، والمدرسة الأصولية/ الفقهية وأقوال المفسرّين الأوائل اتفقت على أن الضرب غير المبرّح بغرض تأديب الزوجة الناشز مشروع ومأمور به، على ألا يكون الضرب على الوجه والمهالك لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت". [أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة في سننهم].

هذا عن التراث فإذا عدنا إلى الخطاب الديني المعاصر فسنجده في مأزق بين التراث ومدلول الآية من جانب وما انتهت إليه العرف الإنساني الذي يُبشّع أي شكل من أشكال العنف ضد المرأة، ويراه انتهاكا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، وأمام الخطاب الإنساني العام وحركة الاجتماع المندفعة للإمام وجدت الخطابات الدينية نفسها مضطرة إلى اتّخاذ موقف من التراث والآية القرآنية بين متجاهلٍ يقفز إلى الأمام.. وبين مجتزئ يُحاول أن يُخفي جانبا من المدلولات والأخبار ويستدعى بحماسة جانب من تلك المدلولات والأخبار بما يتسق مع واقعه، وليس لديه مانع أن يلوى عُنق اللغة.

فدار الإفتاء المصرية على صفحتها اكتفت بنشر هذه العبارة: "الرجال لا يضربون النساء"، وهي عبارة تحمل إشكالية أكثر منها حلا؛ لأنها تتعارض مع الأمر القرآني للمؤمنين في سورة النساء بضرب الزوجة اللاتي يخافون نشوزهن، فما فعلته دار الإفتاء المصرية أنّها قفزت إلى الإمام حيث انتهى الخطاب الإنساني، فإذا كان المجتمع الدولي ومواثيق حقوق الإنسان ترى ضرب الزوجة ضد معاني الإنسانية فالمسلمون قفزوا إلى هذا المكان يقفون معهم على خط واحد، ولن تدخل في جدال مع النّص القرآني الكريم.

ومن أمثلة القفز إلى الأمام المادة الإعلامية التي قدّمها الداعية الشاب الأستاذ مصطفى حسني، فعند حديثه عن ضرب الزوجة لم يقترب من الآية لكن تناول الموضوع من منظور الإحصائيات والدراسات الاجتماعية فآليات خطابه يختارها بما يُناسب ذوق جمهوره، فتجاهل الآية القرآنية، والتراث المصطدم مع الواقع وانطلق إلى الآثار العلمية والاجتماعية لضرب الزوجة، مؤكدا أن ضرب الزوجة الحامل يُفقد جنينها كثيرا من وزنه، كما أن الأولاد يتوارثون العنف.

والقفز إلى الأمام ليس الطريقة الوحيدة المتّبعة لمواجهة إشكالية اصطدام التراث الفقهي والآية القرآنية مع حركة الاجتماع، فهناك تأويليات للنص القرآني من أشهرها ما بدأه الدكتور طه علواني الذي أوّل فاضربوهن بمعنى فأبعدوهنّ، وهذا يتنافى مع الاستعمال العربي، فإفادة "ضرب" معنى الإبعاد يرتبط بالفعل "ضرب" اللازم الذي لا يتعدى إلا بحرف جرّ مثل "يضربون في الأرض" بمعنى يتنقلون ويبتعدون، أما ضرب المتعدي إلى مفعول عاقل بلا حرف جرّ فلا يُفيد سوى الضرب وهو كما قال ابن منظور صاحب لسان العرب: "الضرب معروف" به جاءت لغة العرب ونطقت أشعارهم.

وفي محاولة لنزع فتيل الأزمة بين التراث والآية القرنية من جانب والحاضر والخطاب الإنساني المعاصر الرافض لضرب المرأة مهما كان الدافع من جانب آخر أكّد شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب أن ضرب الزوجة مباح مقيد أو استثناء من أصل ممنوع، فالضرب ممنوع إلا أنه يُباح للزوج كدواء لمرض النشوز، فالشيخ سكت عن قول الإخباريين والفقهاء بمشروعية الضرب بغية التأديب بضابط ألا يكون مبرّحا، وميّز فضيلته بين فقه صحيح وفقه غير صحيح، وقال إنّ ضرب الزوجة لا يعدو عن كونه ضرب الضرورة أو الاستثناء ثم عاد، وجعله تأديبا عندما ضرب مثالا بضرب الأم لابنتها وضرب المربّي اليتيم الذي يحتاج تأديبه إلى الضرب إلا أنه اشترط أن تكون النية التأديب وليس العدوان، فعاد مرة أخرى إلى معنى التأديب في لغة الفقهاء، ثمّ سكت فضيلة الإمام عن الماضي، وانطلق من الواقع متمنيا أن يُجرّم الضرب في حياته، وأكّد على أن الإنسانية لا تقبل أن يضرب إنسان إنسانا، والإسلام بوصفه دين الفطرة لابد أن يتسق مع الإنسانية، يذهب معها حيث ذهبت.. إلا أنه عاد وقال بمشروعية الضرب فـ"هو الدواء لعلة النشوز، فالمرأة الناشز هي المرأة المتكبرة، والضرب هو رمز لجرح كبرياء تلك المرأة، حتى لا ينهدم المعبد/ الأسرة فنلجأ إلى أخف الضررين، وهو الضرب حفاظا على الأسرة، فالضرب على إطلاقه لأي سبب من الأسباب لا يُمكن أن تأتي به الشريعة أو نظام يحترم الإنسان، فضرب الزوجة استثناء من أصل ممنوع وُضع له شروط من أهمها النشوز، أما المرأة غير الناشز فلا يجوز ضربها، حتى لو وصل الخلاف إلى شتمها الزوج". وجانب من طرح الإمام يُمكن أن يُبنى عليه فحركة الاجتماع والإنسانية حكَمٌ على نتاج الفقهاء وأقوال الإخباريين الذين شرّعوا ضربَ المرأة ضربا غير مبرّح تأديبا لها، فيقول فضيلة الإمام صراحة "من يُشرّع لضرب الزوجة على الإطلاق فقد ظلم للقرآن الكريم والفقه الإسلامي الصحيح". ويحذر القائمين على الفتوى من إباحة ضرب الزوجة على إطلاقية الحكم.

وتعليقا على ما قاله شيخ الأزهر جاء ردّ الأستاذ إسلام البحيرى، بأنّ النشوز في الآية بمعنى الخيانة، فهو ميل الزوجة عن زوجها، فيكون الضرب في هذا السياق الاجتماعي مشروعا، وليس النشوز بمعنى الاستعلاء عن طاعته، ويؤكد قوله بسياقات الآية السابقة واللاحقة، ويرى أن رأيه على نقيض ما وصفه بأقوال التراثيين التي تُرددها المؤسسة الدينية.. والواقع أن ما طرحه البحيري هو قول تراثي هو الآخر حملته بعض مرويات ابن جرير الطبري في تفسير الآية، فتفسير ابن جرير الطبري جمع العديد من المرويات المتناقضة، فمن يريد أن يتحدث عن اللطف والرقة في الضرب سيختار مروية ابن عباس عن الضرب بالسواك التي تستدعيها الخطابات الدينية كثيرا. ومن يريد أن يتحدث عن العنف فسيختار ما روي عن الزّهري بأن الرجل لا يقتصّ منه لزوجته في ضرب ونحوه فلا قصاص منه إلا إذا قتلها، وما دون ذلك لا قصاص فيه، وإلى جوارهم مروية ابن جرير الطبري في تفسيره رواية أبي جعفر والسدي الشارحة لقوامة الرجال بأنّها سلطة تأديب النساء، ورواية لقتادة تقول إن الآية نزلت لأن رجلا من الأنصار لطم امرأته فجاءت تلتمس القصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص، فنزلت الآية "الرجال قوامون على النساء" لتمنع النبي صلى الله عليه وسلم من القصاص، وإن كانت هذه مروية مرسلة لا يعتد بصحتها، فتفسير الطبري موسوعة جمعت بين الصحيح وغير الصحيح والمتطرف والمعتدل من الآراء.

وكما اختار الأستاذ إسلام البحيري من مرويات تفسير بن جرير الطبرى، اجتزئ الشيخ عبدالله رشدي هو الآخر فالضرب عنده بالسواك فحسب، وكأننا أمام مروية واحدة وليس عشرات المرويات والأخبار، فالضرب بتعبير الشيخ رشدي "ضرب على أطراف الأصابع كما تفعل مع ابنك الصغير وتقول له هذا كخ.. الضرب كده حاجه لطيفه ليس بالمعنى الذي يتبادر إلى ذهنكم". فهو فرّغ الضرب من ملوله اللغوي ومدلوله الفقهي، وابتعد به عن أجواء البيئة العربية التي قال الرسول صلى الله عليه وسلم مستنكرا: "لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم". [أخرجه البخاري ٥٢٠٤، مسلم ٢٨٥٥].

من ناحية ثانية لا يخلو تناول الشيخ عبدالله رشدي من الهجوم على المختلف معه، فلسنا أمام اختلاف تأويلات وإنما هو من منظوره شغبٌ على القرآن الكريم، فالمخالف له في مواجهة مع القرآن وليس معه، وينطلق من استعلاء بالتراث الذي يُدخله في بنية المقدس، فيقول عن التراث الفقهي "نُظمٌ لا وجود لها إلا في الدين الإسلامي"، ولا يخفى ما في هذا من مغالطة خلط المقدس بغير المقدس؛ لذا يُخفى ويجتزئ ليصل إلى نتيجة مقررة عنده سلفا وهي أن "من يقول: بإباحة الضرب هذا خبل وجنون وضحك على العقول". وكأننا لسنا أمام طرح مستقر في بنية خطابنا التراثي الفقهي والإخباري لضرب الزوجة الناشزة تأديبا لها ضربا غير مبرّح، ويكرر الشيخ عبدالله رشدي الخلط بين المقدس وغير المقدس بتكراره لتعبير "الشرع الشريف" إشارة منه إلى كلام الفقهاء، وهذا على خلاف طرح فضيلة الإمام الأكبر الذي جعل الفطرة الإنسانية ضابطا في الفهم وأداة في نقد الفقه لمعرفة الصحيح منه وغير الصحيح، وكما قدّم الأستاذ إسلام البحيرى وجها في كلمة ناشز حملته آراء التراث إلا أنه بعيد عن المعجمية العربية والذاكرة الشعرية، فعل الشيخ رشدي الأمر نفسه فالنشوز عنده ليس تكبرا عن الطاعة ولا خيانة زوجية لكنه على حد تعبيره: "فقدان المرأة لمعاني الأدب بتطاولها على زوجها بالسبّ والضرب"، وهذا بعيد عن المعجمية العربية.

أخيرا يظل المدخل اللغوي المعاصر والمدخل المقاصدي الأكثر علمية والأقدر على تفكيك إشكالية آية الضرب مع الواقع الاجتماعي المعاصر، فالطرح المقاصدي يتحدث عن زوال الحكم بزوال علته، فالضرب لا يحقق غايته من إصلاح بل يؤدى إلى نقيضه مما يؤدي إلى زوال حكم الآية، ويرى المدخل اللغوي أن الآية خطاب له سياقات تاريخية وثقافية لمجتمع عربي ما زالت حديث عهد بجاهلية على حد قول النبي صلى الله عليه وسلم للسيدة عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت الكعبة وجعلت لها بابين" فالآية لا تقدم مقاربة لأحكام سيكون لها صفة الديمومة كالمعنى الإنساني في آية "وجعلنا بينكم مودة ورحمة" لكنها خطاب يشتبك مع واقع اجتماعي في أول سلم الإنسانية يحاول ترشيده وفق آليات الاجتماع وثقافة العرب في تلك اللحظة التاريخية، فلا نقيس حركة اجتماع المندفعة نحو التغيير وتعزيز القيم الإنسانية بما كانت عليه المجتمعات الأولى، ولا نطالبها بأن تفكر بعقلية إنسان اليوم، فالإسلام لا يتعجل الإصلاح الاجتماعي، وإن حثهم وحثنا على أن نمضي في طريق تعزيز المعاني الإنسانية والأفكار العقلانية، فتلك الغاية التي ينبغي أن ينطلق نحوها المسلمون في تشريعهم المتغير استجابة لحركة الاجتماع، المستفيد من كل الطروحات الإنسانية أيا كان مصدرها.

***

أ. د. عبدالباسط سلامه هيكل

نورمان فيركلف نموذجاً

"في واقعنا المعاصر يتعرض الإنسان في مجتمعاتنا، كغيره من المجتمعات الإنسانية، إلى مجموعة من الخطابات في حياته اليومية. وتزداد الخطابات كثافة في أوقات الأزمات. ولا نستطيع الجزم ببراءة الخطابات من أغراض الهيمنة على وعي متلقيها، لاسيما إذا كان منتج الخطاب من حائزي السلطة أو ممن يسعون إلى حيازتها، وخصوصاً إذا كان سياق إنتاج الخطاب وتداوله سياق أزمة يبلغ فيها الاستقطاب بين الأطراف ذروته "(1).

لقد ظهر التحليل النقدي للخطاب critical discourse analysis منذ تسعينيات القرن العشرين بوصفه توجهاً جديداً في تحليل الخطاب في الأوساط الأكاديمية في أوروبا الغربية. ومع نهاية القرن كان يمثل أحد أكثر توجهات تحليل الخطاب استقطاباً للباحثين. ويحدد فان دايك (أحد مؤسسي التحليل النقدي للخطاب) موضوع التحليل النقدي للخطاب بأنه دراسة الكيفية التي يقوم بها النص والكلام بتقنين وإنتاج ومقاومة اعتداءات السلطة الاجتماعية وهيمنتها ولا مساواتها. وأن المحلل النقدي للخطاب يسعى إلى فهم اللامساواة الاجتماعية والكشف عنها تمهيداً لمقاومتها. ومن ثم فإن التحليل النقدي للخطاب له توجه عام يستهدف توعية البشر بالتأثيرات المتبادلة بين اللغة والبنى الاجتماعية، تلك التأثيرات التي لا يعيها البشر غالباً(2).

وفي ذات السياق، كتب نورمان فيركلف عام 1985 مقالاً بعنوان: الأهداف النقدية والوصفية في تحليل الخطاب، داعياً إلى نزع الألفة عن الإيديولوجيات التي تتجسد غالباً في تشكيلات خطابية إيديولوجية، وذلك بتبني تحليل خطاب ذي أهداف نقدية، يبرز كيفية تحديد البنيات الاجتماعية لسمات الخطاب، وكيفية إسهام الخطاب بدوره في تحديد البنيات الاجتماعية. وبعد عدة سنوات، يؤلف فيركلف كتابه المؤسس لمقاربة الجدلية العلائقية في التحليل النقدي للخطاب تحت عنوان: اللغة والسلطة عام 1989، وفيه تظهر النزعة النقدية في دراسة اللغة واضحة، خاصةً في دراسة العلاقات غير المتساوية في السلطة الاجتماعية. ويظهر كذلك البعد النضالي المقاوم لهذه العلاقات غير المتساوية في السلطة(3).

تعتبر اللغة جزء من المجتمع، وليست خارجة عنه بصورة ما، كما أن اللغة عملية اجتماعية، يتحكم فيها المجتمع، أي إنها تخضع لتحكم جوانب أخرى (غير لغوية) في المجتمع، فأما الظواهر اللغوية فهي اجتماعية، بمعنى أنه حيثما تكلم الناس أو أنصتوا أو كتبوا أو قرؤوا، فإنما يفعلون ذلك بطرائق يحددها المجتمع، ولها آثار اجتماعية، وحتى حين يصل وعي الناس بفرديتهم إلى ذروته ويتصورون أنهم برئوا إلى أقصى حد من الآثار الاجتماعية – في أحضان الأسرة على سبيل المثل – فإنهم يستخدمون اللغة أيضاً بطرائق تخضع للأعراف الاجتماعية، والظواهر الاجتماعية لغوية، من ناحية أخرى، بمعنى أن النشاط اللغوي الذى يجري في السياقات الاجتماعية – شأن جميع ألوان النشاط اللغوي- ليس مجرد انعكاس أو تعبير عن العمليات والممارسات الاجتماعية، بل يمثل جزءاً من هذه العمليات والممارسات، كالمنازعات حول معنى بعض العبارات السياسية(4).

في حقيقة الأمر بات مصطلح " الخطاب " مصطلحاً شائعاً في عديد من أفرع المعرفة، منها النظرية النقدية وعلم الاجتماع وعلم اللغة والفلسفة وعلم النفس الاجتماعي وغير ذلك حتى إنه أصبح يترك دون تعريف كأنه صار من المسلمات. وهو يرد بكثرة في تحليل النصوص الأدبية وغير الأدبية، وربما كان له النطاق الأوسع من الدلالات الممكنة بين المصطلحات النظرية الأدبية والثقافية(5).

يشار إلى الخطاب عموماً بأنه وحدة تواصلية إبلاغية، متعددة المعاني، ناتجة عن مُخاطِب معين، وموجهة إلى مُخاطَب معين، عبر سياق معين. وهو يفترض وجود سامع يتلقاه، مرتبط بلحظة إنتاجه، لا يتجاوز سامعه إلى غيره، وهو يدرس ضمن لسانيات الخطاب، وفي معجم أكسفورد يعرّف الخطاب بأنه: عملية الفهم التي تمر بنا من المقدمة حتى النتيجة اللاحقة، وهو أيضاً الاتصال عبر الكلام أو المحادثة، القدرة على المناقشة. ويعتقد اللساني الفرنسي إيميل بينفينيست بأن الخطاب هو كل تلفّظ يفترض متحدثاً وسامعاً يكون للطرف الأول نيّة التأثير في الطرف الثاني بطريقة ما، ومن ثمة فهو يميز بين نظامين من التلفظ هما الخطاب والحكاية التاريخية. فالخطاب قوامه جملة الخطابات الشفوية المتنوعة ذات المستويات العديدة وجملة الكتابات التي تنقل خطابات شفوية أو تستعير طبيعتها وهدفها شأن المراسلات والمذكرات والمسرح والأعمال التعليمية، ويختلف عن الحكاية التاريخية في مستويين اثنين هما الزمن وصيغ الضمائر(6). ويعرف جيوفري ليتش ومايكل شورت الخطاب بأنه " تواصل لغوي يُنظر إليه باعتباره عملية تجري بين متكلم ومستمع، أو تفاعل شخصي يحدد شكله غرضه الاجتماعي. والنص تواصل لغوي (سواء شفاهي أو مكتوب) ينظر إليه باعتباره رسالة مشفرة في أداتها السمعية أو البصرية ". ومن المفكرين من يضعون الخطاب في تضاد مع الإيديولوجيا، فيقول روجر فاولر على سبيل المثال: " الخطاب كلام أو كتابة ينظر إليه من منظور المعتقدات والقيم والمقولات التي يجسدها، فهذه المعتقدات والقيم تمثل طريقة للنظر للكون، تنظيم للتجربة أو عرضها – الإيديولوجيا- بالمعنى المحايد غير الازدرائي. وأنماط الخطاب تحيل مختلف صور عرض التجربة رموزاً، ومصدر صور العرض هذه هو السياق الصريح الذي يرد الخطاب ضمنه "(7).

كما يعرف فوكو الخطاب بأنه النطاق العام لكل الجمل، أحياناً باعتباره مجموعة متفردة من الجمل، وفي أحيان أخرى باعتباره عملية منضبطة تفسر عدداً من الجمل. أي إن كل كلام أو نصوص ذات معنى وتأثير في عالم الواقع تعد خطاباً(8). وأخيراً الخطاب في البحث النقدي هو فعل النطق أو فاعلية تقول، وتصوغ في نظام ما يريد المتحدث قوله، هو كتلة نطقية لها طابع الفوضى، وحرارة النفس، ورغبة النطق بشيء ليس هو تماماً الجملة، ولا هو تماماً النص بل هو يريد أن يقول. انطلاقاً من هذا، فالنص غير الجملة، والجملة عبر الخطاب غير الخطاب، لأن الخطاب هو فاعلية يمارسها مخاطب يعيش في مكان، وفي زمان تاريخي تسود فيه العلاقات الاجتماعية بين الناس(9). وتحليل الخطاب النقدي حسب فيركلف هو تحليل النصوص والحوار بالاستعانة بعلم اللغة من منظور ملتزم سياسياً(10).

يعتبر التحليل النقدي للخطاب أحدث مقاربات تحليل الخطاب ذي التوجه اللساني. وتعني بدراسة العلاقات الجدلية بين اللغة والخطاب والمجتمع، والسلطة التي تكرسها تلك العلاقات على صعيد الممارسة الاجتماعية، وما تحدثه من تغيرات اجتماعية. طبيعي أن تتعدد الرؤى وزوايا النظر لدى المتخصصين الأوائل داخل هذه المقاربة، لأن الممارسات الاجتماعية، وسياقاتها الفعلية متعددة ومتقاطعة (عنصرية، تربية، تعليم، سياسة، إعلام، فن، تاريخ، فلسفة، العالم الرأسمالي، العولمة... ). ويعزى هذا التعدد إلى الطابع البيني الذي تتسم به هذه المقاربة، إذ إن ارتباط الدراسة اللغوية الناقدة للخطاب بالممارسات الاجتماعية جعل المقاربة منفتحة على حقول معرفية شتى، وأجبر الباحثين على استحضار أجهزة مفهومية ونظريات ونماذج فلسفية ونفسية وتربوية واجتماعية في مناهج التحليل(11).

بذلك ينظر إلى " الخطاب " باعتباره مصطلح يستخدم في مجموعة متنوعة من الحقول المعرفية المختلفة، ويمكن أن يدل على كثير من الدلالات المتباينة. إذ يمكن أن يعني الخصائص الشكلية للمنتجات السيموطيقية التي تجعلها " تتضام معاً " كأنماط معينة من " النصوص "، كما يمكن أن يدل على طرق الناس في استخدام اللغة والأنظمة السيميائية لإنجاز أفعال اجتماعية بعينها. أو أن يدل على نظم المعرفة العامة التي تنظم ما يقوله الناس ويكتبونه أو يفكرون فيه. وتحقيقاً لفهم موضوع المقال نعرّف الخطاب تعريفاً عاماً باعتباره طرق الناس في إنشاء وإدارة حياتهم الاجتماعية باستخدام مختلف الأنظمة السيميائية. هذا التعريف، بالطبع، يضع الخطاب في علاقة لصيقة مع الممارسات الاجتماعية. فمن ناحية، تنتقل الممارسات الاجتماعية نوعاً ما من خلال الخطاب – أي إن الخطاب يستخدم كأداة لإنجاز الممارسات الاجتماعية. ومن ناحية أخرى، يلعب الخطاب دوراً هاماً في الحفاظ على الممارسات الاجتماعية وإعادة إنتاجها ونقلها. ومن ثم يكون " تحليل الخطاب " من خلال هذا التعريف هو دراسة طرق تأثير مختلف " تقنيات صناعة النصوص " ( بما في ذلك أنظمة سيميائية مثل اللغات، وكذلك وسائل الإعلام مثل التلفزيون وأجهزة الكمبيوتر) على المعاني التي يصنعها الناس في مواقف مختلفة، وعلى كافة الأفعال التي يقومون بها، وعلى أنواع العلاقات التي ينشئونها، وعلى الهويات التي يصبحون عليها. ولكي يستطيع محلل الخطاب أن يجري هذا النوع من الدراسات، فعليه أن يلتفت عادة إلى أربعة أمور(12):

- النصوص: كيف تعيننا تقنيات صناعة النصوص المختلفة في التوليف بين العناصر السيميائية لتشكيل نصوص معترف بها اجتماعياً ويمكن استخدامها للقيام بأنواع مختلفة من الأفعال المعترف بها اجتماعياً.

- السياقات: وهي الأوضاع الاجتماعية والمادية التي تؤلف في إطارها النصوص وتستهلك، ويتم تبادلها وتمتلك.

- الأفعال والتفاعلات: ما يفعله الناس مع النصوص، وخاصة ما يقومون مع بعضهم البعض.

- السلطة والإيديولوجيا: كيف يستخدم الناس النصوص للهيمنة والسيطرة على الآخرين وصياغة رؤية بعينها للواقع.

وبطبيعة الحال تركز مختلف مقاربات الخطاب على هذه الأبعاد بدرجات مختلفة، ولكنها كلها، بطريقة أو بأخرى، تأخذها بعين الاعتبار، وتسعى لفهم طريقة عملها معاً: أي، كيف يؤثر السياق على شكل النص ومعناه، وكيف تشكل النصوص مختلفة الأشكال أفعالاً وتفاعلات متباينة الأنماط، وكيف يعكس استخدام الناس للنصوص في الفعل والتفاعل داخل سياقات محددة الإيديولوجيات وعلاقات القوة، ويسهم في إعادة إنتاجها. وبعبارة أخرى، تسعى كل مقاربات الخطاب لفهم العلاقة بين المستوى " الجزئي " للخطاب الذي يتصل بطريقة تضافر النصوص واستخدامها في ممارسة أفعال بعينها في حالات محددة، والمستوى " الكلي " للخطاب الذي يتصل بالطريقة التي تعكس بها النصوص نظماً اجتماعية بعينها وتساعد في تكريسها(13).

ويمكن النظر إلى مفهوم النقد في التحليل النقدي للخطاب من حيث نقد معياري (قيمي) وآخر تفسيري، فهو نقد معياري بمعنى أنه لا يصف الوقائع القائمة بوضوح فحسب، ولكن أيضاً يُقيّمها بحيث يقيّم إلى أي مدى تتوافق مع القيم المختلفة التي تكون نوعاً ما موضوعاً للنزاع تُقبل باعتبارها أساسية للمجتمعات العادلة أو الراقية مثال: معايير محددة لرفاهية الإنسان سواء مادية أو سياسية أو ثقافية. وهو أيضاً تفسيري يسعى إلى تفسير كيف ولماذا أصبحت تلك الوقائع (ممارسات الخطاب) على ما هي عليه في مجتمع ما وفي ظل ظروف اجتماعية وإيديولوجية معينة، وبالتالي اقتراح الأساس لتغيير تلك الممارسات. فعلى سبيل المثال: يفترض المحلل أن تلك الوقائع نتائج للبنى أو الميكانيزمات أو القوى التي يسعى لاختبار واقعيتها مثال ذلك: يمكن تفسير أشكال اللامساواة في الثروة والدخل والحق في الوصول لجميع السلع الاجتماعية والحق في التعليم من حيث هي نتيجة للميكانيزمات والقوى المرتبطة بالرأسمالية أو بأنماط معينة من الرأسمالية.

إن النظرية النقدية ليست مجموعة موحدة من المنظورات، بدلاً من ذلك فهي تشكل: مدرسة فرانكفورت وما بعد البنيوية وما بعد الحداثة ودراسات الاقتصاد السياسي والدراسات الاستعمارية الجديدة والنظرية النقدية العرق والدراسات النسوية وما إلى ذلك. وتهتم النظريات النقدية عادةً بقضايا السلطة والعدالة والأساليب التي يبني الاقتصاد السياسي والإيديولوجيات حول العرق والطبقة والنوع الاجتماعي والدين والتربية والتوجهات الجنسية من خلال النظم الاجتماعية وإعادة إنتاجها أو تغييرها. وينطلق المنظرون النقديون من بعض الفرضيات حول العالم الاجتماعي، والتي تتمثل في:

إن الفكر تتوسطه علاقات السلطة التي تتشكل تاريخياً.

إن الوقائع ليست محايدة، ودائماً ما تكون متضمنة في السياقات.

إن بعض الفئات الاجتماعية تحظى بامتيازات دون غيرها، مما يؤدي إلى تفاوتات في حق الحصول على الخدمات والسلع والنتائج(14).

إن هناك نمط سائد من " الهيمنة السياسية " المرتبطة بالرأي العام، بعبارة أخرى، إنها نقطة الاتصال بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، بين القبول والإكراه. فعندما تريد الدولة الشروع في عمل غير شائع، فإنها تستعد لتثير الرأي العام المطلوب مسبقاً، أي تركز على حالات معينة من المجتمع المدني وتنظمها.

لذا تعتبر اللغة العامل المركزي في تشكيل الذوات والقهر، هذا إلى جانب أن التحليل النقدي للخطاب يهدف إلى استكشاف خصوصيات الهيمنة من خلال السلطة، والتي تأخذ أنماطاً عديدة: إيديولوجية وفيزيائية ولغوية ومادية وسيكولوجية وثقافية. ويبدأ المحللون النقديون باهتمام نحو فهم أوضاع اللامساواة وكشفها وتغييرها، وتختلف نقطة البدء في التحليل استناداً إلى أين يموضع المحلل السلطة ويُعرفها، حيث يموضعها المحلل النقدي للخطاب في اللغة من حيث هي ممارسة اجتماعية، وكذلك أين يموضع الهيمنة، في العرقية أو البنى الرأسمالية أو الخطاب " نظم الحقيقة " أو النظام الأبوي أو الطبقية. وعلى الرغم من ذلك، قد تتخذ السلطة أنماطاً تحريرية أو قمعية، والتي تشمل الأبعاد التاريخية والمادية والخطابية ويتم تشريعها عبر الزمن والناس والسياقات.

أما فيما يتعلق بمفهوم الخطاب في إطار التحليل النقدي للخطاب نجد أن المنظور المثالي الامبيريقي للغة لم يستطع أن يأخذ في الاعتبار أن اللغة نفسها تعتبر مجال للممارسة الاجتماعية، والتي بالضرورة قد تشكلت بواسطة الظروف المادية التي تحدث فيها تلك الممارسة. وهذا يتطلب مفهوماً بديلاً للغة، والذي يدرك أن الألفاظ سواء في أفعال الكلام أو النصوص، تؤدي أكثر من مجرد تسمية الأشياء أو الأفكار الموجودة بالفعل، كما يتطلب تصوراً لكيف يمكن أن ينتج استخدام اللغة آثاراً اجتماعية واقعية، وكيف يمكن أن تكون سياسية وإيديولوجية، ليس فقط من خلال الإشارة للأحداث السياسية، لكن تصبح اللغة نفسها أداة لممارسة السلطة وموضوعاً لها. وهكذا يمكن تعريف مفهوم الخطاب من حيث هو استخدام اللغة كممارسة اجتماعية، أي إن الخطاب يتحرك ذهاباً وإياباً بين البناء العالم الاجتماعي وانعكاسه. في هذا السياق، لا يمكن اعتبار اللغة محايدة، لأنها منغمسة في التشكيل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي(15).

- تحليل الخطاب عند نورمان فيركلف: يرى فيركلف أن الدراسات النقدية للخطاب تقوم على ثلاثة مفاهيم أساسية هي النقد والتفسير والفعل السياسي. ويرى أن التفسير هو الجسر الرابط بين النقد والفعل السياسي. ويقصد فيركلف بالتفسير إبراز العلاقات السببية والجدلية بين الخطاب والعناصر الأخرى المشكلة للحياة الاجتماعية، وهو أمر يسمح في نظره بتوضيح ما يحتاج إلى التغيير وكيفية القيام بتغييره. ويقسم فيركلف مقاربته التي امتدت على مدار ثلاثين سنة إلى ثلاث مراحل، عُنيت كل مرحلة بانشغالات معينة، وتعرضها لها كالآتي:

المرحلة الأولى: يُمثلها كتاب فيركلف اللغة والسلطة الصادر عام 1989، وقد انصرف في هذا الكتاب إلى نقد الخطاب الإيديولوجي لكونه يعمل على إعادة إنتاج النظام الاجتماعي الموجود وهدف إلى التوعية بكيفية إسهام اللغة في هيمنة بعض الأفراد على الآخرين، وذلك رغبة في التحرر الاجتماعي ويعتبر فيركلف هذه المرحلة راديكالية وأن مناطها نقد الإيديولوجية والسلطة في الخطاب وخلف الخطاب. " أو بمزيد من الدقة، الروابط بين استعمال اللغة وعلاقات السلطة غير المتكافئة، خصوصاً في بريطانيا الحديثة، ويقول فيركلف في هذا السياق كتبت هذا الكتاب لغرضين أساسيين: الأول نظري، وهو المساعدة على تصحيح ظاهرة واسعة الانتشار ألا وهي التقليل من أهمية دور الذي تضطلع به اللغة في إنشاء علاقات السلطة الاجتماعية والحفاظ عليها وتغييرها. والثاني عملي، وهو المساعدة على زيادة الوعي بالأسلوب الذي تسهم به اللغة في تمكين بعض الناس من السيطرة على البعض الآخر، لأن الوعي يمثل الخطوة الأولى على طريق التحرر"(16).

المرحلة الثانية: يُمثلها كتاب الخطاب والتغير الاجتماعي عام 1992(17)، الذي ركز فيه على نقد الخطاب بوصفه جزءاً من التغيير الاجتماعي من أعلى إلى أسفل. ويرجع تطوير هذه النسخة من التحليل النقدي للخطاب في هذا الكتاب إلى ما شهدته بريطانيا من انتقال إلى الليبرالية الجديدة، وقد اهتم فيركلف في هذه المرحلة بكيفية إعادة بَنْيَنَةِ الخدمات العامة وفق نموذج السوق الذي تقوده الليبرالية الجديدة، واهتم بصورة خاصة بكيفية توظيف الخطاب في إشاعة مفاهيم الرأسمالية الجديدة في الجامعات، وذلك باعتبار الطلبة مستهلكين، والجامعات، مقاولات وتقييم النتائج من حيث الجودة، إلى غير ذلك من المفاهيم الاقتصادية. وبدأ فيركلف بتجسير العلاقة بين البعد اللغوي والبعدين الاجتماعي والاقتصادي وذلك بتطوير مفاهيم إجرائية من قبيل: نظام الخطاب الذي اقتبسه من ميشيل فوكو، والتناص الظاهر الذي استعاره من جوليا كريستيفا. ونظر إلى التغير انطلاقاً من إعادة وضع نظام خطاب معين في سياق نظام خطاب آخر كما يتجلى ذلك في دمج نظام خطاب الاقتصاد الرأسمالي الجديد بخطاب التربية بالجامعات والنتيجة هي تغير في مستوى الخطابات والأجناس (أجناس جديدة أو أجناس هجينة) والأساليب (الهويات والكينونات الخطابية كالمستهلكين والمقاولة إلى غير ذلك).

المرحلة الثالثة: يُمثلها كتاب تحليل الخطاب السياسي: منهج لطلبة الدراسات العليا (2012)، وترتبط هذه المرحلة بالأزمة المالية والاقتصادية لسنة 2007 التي أصابت بريطانيا والعالم بأسره. ويركز فيركلف في هذه النسخة من الدراسات النقدية للخطاب على نقد الخطب الاستشارية التي ألقيت لتجاوز الأزمة الاقتصادية. وتتميز هذه المرحلة بمعالجة المفاهيم الأساس للمرحلتين السابقتين معالجة مختلفة، فالإيديولوجيا تدرس انطلاقاً من المقدمات والنتائج، والنوع (الفعل) يُنظر إليه بوصفه مظهراً أولياً للخطاب، والخطابات والأساليب (التمثيل والهوية) يعاملان بوصفهما مظهرين من مظاهر الفعل. وفي هذا الإطار تقيم الحجج العملية التي يستند إليها السياسيون في خطبهم تنتقد أسسها وتفسر بنياتها وغاياتها.

ويشير فيركلف إلى أن هذه المراحل يُكمل بعضها بعضاً بطريقة تُدمج فيها الاهتمامات الأولى بالفرضيات الجديدة. ولو أردنا أن نوجز هذه التغيرات قلنا إن فيركلف ابتدأ أولاً بدراسة علاقة السلطة بالخطاب ثم تخصص في دراسة هذه العلاقة بالتركيز على بُعد التغير، أي كيف يسهم التغير الخطابي عن طريق مزج أنظمة الخطاب في تعزيز علاقات السلطة بل تكريس اللامساواة في المجتمع وترسيخها(18).

إن الهدف الأساسي لهذه المقاربة هو دراسة الروابط بين استعمال اللغة والممارسة الاجتماعية، إذ يركز فيركلف على دور الممارسات الخطابية في الحفاظ على النظام الاجتماعي، وفي التغيير الاجتماعي. كما أن هذا الإطار التحليلي لتحليل الخطاب يعزز مبدأ أن النصوص لا يمكن أن تفهم أو تُحلل في عزلة، فهي تفهم فقط في ارتباط بشبكات النصوص الأخرى وبالارتباط بالسياق الاجتماعي. ويدرس فيركلف الخطاب ‏انطلاقاً من ثلاثة أبعاد:

1- بُعد الممارسة الخطابية: تُعنى مرحلة تحليل الممارسة الخطابية في مقاربة فيركلف الجدلية العلائقية بدراسة إنتاج النص واستهلاكه. ويمكن تقسيمها إلى مرحلتين فرعيتين هما: المرحلة الفرعية الأولى مرحلة إنتاج النص، وتُدرس فيها ظاهرتان خطابيتان هما: " التناص والبيخطابية "، حيث يشير التناص إلى ظاهرة اقتباس كلام الآخرين وأساليبهم في تلفظاتنا، ولكل اقتباس آثار اجتماعية وثقافية وسياسية، وهو ما يدعو إلى الوقوف بالتناصات الموجودة في النصوص ودراسة تاريخ استعمالها. وقد ميّز فيركلف بين التناص الظاهر (الاعتماد الواضح على نصوص أخرى) والتناص المُكوّنِ (البيخطابية). كما اهتم بالخصوص بدراسة البيخطابية، وميز فيها بين نوعين: بيخطابية إبداعية تمزج بطرق جديدة ومعقدة خطابات مختلفة مؤدية إلى تغير خطابي ومن ثم تغير اجتماعي وثقافي، وبيخطابية تقليدية تمزج الخطابات بطرق متعارف عليها، وتعمل على تثبيت نظام الخطاب المهيمن. أما المرحلة الفرعية الثانية تُعنى باستهلاك النص، وتُدرس فيها ظاهرة الانسجام ويضيف إليها فيركلف أيضاً شروط ممارسة الخطاب. ويُعنى الانسجام بدراسة التضمينات التأويلية للسمات التناصية والبيخطابية لعينة الخطاب، أي تأثيرات هذه الظواهر الخطابية في الجمهور، ويدعو في هذا السياق إلى دراسة استجابة الجمهور، وإن كان لا يقوم بذلك في أبحاثه ويكتفي بإسقاط تأويلاته على استجابة الجمهور. أما شروط ممارسة الخطاب فتهتم بدراسة نوعية النصوص وتأثيرها في الجمهور.

2- بُعد تحليل النص: وتُعنى هذه المرحلة بوصف أنظمة الخطاب المحدّدة في الممارسة الخطابية، ويتبع الوصف مقاربة تبدأ بالبعد الفكري وتنتقل إلى البعد البيشخصي ثم تنتهي بالبعد النصي. وتتضمن الوظيفة الفكرية أربع مقولات عامة هي: نحو التعدية، ونحو التصنيف والاستعارة، وإخفاء الفاعلية. أما الوظيفة البيشخصية فتتضمن مقولات التحكم في التفاعل، ونحو الصيغة والأفعال الكلامية، والضمائر. وتُعنى الوظيفة النصية بدراسة علاقات الاتساق والانسجام، وكل ما من شأنه أن يحقق وحدة للخطاب سواء أكان لغوياً (اتساق، انسجام) أم معرفياً (استعارة، إيديولوجية).

3- بُعد الممارسة الاجتماعية: ويدرس أثر نظام الخطاب في المجتمع: هل يقوم بإعادة إنتاج المجتمع، محافظاً بذلك على الوضع القائم كما هو، أم يعمل على تثوير المجتمع ومحاولة تغييره. وتدرس ضمن هذا البعد الآثار الإيديولوجية والسياسية للخطاب في المجتمع(19).

- الخطاب والإيديولوجيا والهيمنة: كما ذكرنا سابقاً، تأثر فيركلف في هذا السياق إلى حدٍ ما بتصور (فوكو) للسلطة، بوصفها منتجة ومقيدة في آن واحد، وأنها ليست محض قمع واستبداد، أو شيء يمكن امتلاكه بل فعل يُمارس، ويقول إنه يمكن تصور السلطة من حيث عدم التماثل بين المشاركين في الأحداث الاجتماعية وكذلك من حيث عدم المساواة بينهم في القدرة على التحكم في كيفية إنتاج النصوص وتوزيعها واستهلاكها في سياقات اجتماعية معينة. كما ركز على جانبين أساسيين لعلاقة السلطة / اللغة هما: السلطة داخل الخطاب والسلطة وراء الخطاب. ويتناول البعد الأول الخطاب باعتباره موضع تُمارس فيه علاقات السلطة وتتجسد فعلياً، أما البعد الثاني فيتناول نظم الخطاب باعتبارها تتشكل بواسطة علاقات السلطة، حيث تعتبر " السلطة من وراء الخطاب "، هي الغاية في الصراع على السلطة، لأن السيطرة على نظم الخطاب تعد آلية قوية إلى حدٍ كبيرٍ تساعد في الإبقاء على السلطة بشكل مؤقت.

لا تنحصر السلطة في اللغة وحسب، بل قائمة في أشكال وأوضاع مختلفة، ومن بينها النمط المادي بمعنى استخدام القوة المادية لإرغام الآخرين على الانصياع للسلطة، ويشير ذلك إلى أهمية التمييز بين ممارسة السلطة من خلال القسر بشتى أنواعه وممارسة خلق القبول أو على الأقل الإذعان للسلطة، حيث تعتمد علاقات السلطة في الواقع العملي على كليهما، وإن كان ذلك بنسب متفاوتة في كل حالة، لكن بإمكان الكتلة المهيمنة السيطرة وممارسة السلطة بتكلفة ومخاطرة أقل، إذا استطاعت إيجاد قبول جماهيري لها وتعتبر الإيديولوجيا الآلية الأساسية لإنتاج هذا القبول، وبالتالي فإن للخطاب أهمية اجتماعية كبيرة في ممارسة السلطة. يقول فيركلف في هذا السياق " إن الإيديولوجيات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالسلطة، لأن طبيعة الافتراضات الإيديولوجية الكامنة في أعراف محددة تعتمد على علاقات السلطة التي ترتكز عليها الأعراف، ولأنها وسيلة لإضفاء الشرعية على العلاقات الاجتماعية القائمة ومظاهر التفاوت في السلطة، خلال التواتر وحسب لطرائق السلوك العادية المألوفة، وهي التي تقبل دون مناقشة وجود هذه العلاقات وأوجه التفاوت في السلطة. ويعني ذلك أن الإيديولوجيات وثيقة الارتباط باللغة، لأن استعمال اللغة أشد صور السلوك الاجتماعي شيوعاً، كما أنها صورة السلوك الاجتماعي الذي نعتمد فيه أكثر من غيره على الافتراضات المنطقية "(20).

استعان فيركلف بمفهوم " الهيمنة " عند " غرامشي "، وهو مفهوم سياسي متجذر في التمييز بين القمع والتأييد كآليات بديلة للسلطة الاجتماعية وفقاً لمنظور غرامشي فإنه يمكن اعتبار السياسة صراع من أجل الهيمنة، ويشير هذا المفهوم إلى نمط ما للسلطة الاجتماعية والصراع على السلطة في المجتمعات الرأسمالية، والذي تعتمد فيه الكتلة المهيمنة في ممارستها للسلطة على الطوعية والمشاركة لخلق التوافق أو على الأقل الاذعان للسلطة، بدلاً من استخدام مصادر القوة المادية فقط(21)، ويركز أيضاً على أهمية الإيديولوجيا في الحفاظ على علاقات السلطة. ويعد الخطاب، بما في ذلك هيمنة وتطبيع تمثيلات معينة، بعداً هاماً للهيمنة، وأن الصراع داخل الخطاب أو من وراء الخطاب هو صراع من أجل الهيمنة(22).

يمكن استخدام مفهوم الهيمنة أيضاً بفاعلية في تحليل الدور الإيديولوجي الذي تؤديه نظم الخطاب في الحفاظ على علاقات السلطة غير أن يصبح تشكيل اجتماعي معين للاختلاف السيميائي / الخطابي (تمثيلات وأنماط خطابية وأساليب معينة) مهيمناً، بحيث يتم قمع أو احتواء تمثيلات وأنماط خطابية وأساليب أخرى بديلة داخل نظام خطابي معين بشكل كامل بدرجة أكثر أو أقل، وبالتالي لن ينظر إليها بوصفها قسرية - بمعنى أن هذا التشكيل الاجتماعي المهيمن يجسد أحد أنماط التشكيلات الاجتماعية الممكنة لرؤية العالم - بل تبدو طبيعية وشرعية ومحايدة، وقد أشار فيركلف إلى هذا بمصطلح التطبيع وفي موضع آخر التعميم، أي تصبح تمثيلات وأنواع خطابية وأساليب معينة في سياق نظام خطابي محدد جزءاً من الحس المشترك الذي يضفي الشرعية على بقاء علاقات الهيمنة.

لقد وجهت مقاربة التحليل النقدي للخطاب أهمية كبيرة للتأثيرات الإيديولوجية للممارسات الخطابية، باعتبار أن الإيديولوجيات تمثيلات للعالم، وأن السلطة الإيديولوجية تتمثل في إمكانية تطبيع تلك التمثيلات لتصبح جزءاً من " الحس المشترك " اليومي المسلم به من قِبل مجتمع ما أو على مستوى عالمي. تأثر فيركلف بمفهوم الهيمنة الذي يقترن وفقاً لغرامشي بسيرورات صناعة المعنى، والتفاوض خلالها من أجل هيمنة وتطبيع تمثيلات معينة وتهميش غيرها دون استخدام القوة المادية، وبالتالي تكون هناك كتلة اجتماعية مهيمنة تمارس السلطة، وتسعى باستمرار لتأكيد سلطتها، وكتلة اجتماعية تظل تقاوم من أجل هيمنة تمثيلاتها، حتى تتمكن من ممارسة السلطة، وذلك لأن وضعية الهيمنة ليست بوضعية تامة أو أبدية. هكذا يحدد فيركلف مفهوم الإيديولوجيا بطريقة تمكنه من تحديد علاقات السلطة المستبدة ونقدها(23).

بذلك يمنح مفهوم الهيمنة الوسيلة التي من خلالها يمكن تصور السلطة باعتبار أنه يتم التفاوض عليها، وذلك فيما يتعلق بقدرة الناس على التصرف - إلى حد ما - كفاعلين اجتماعيين لديهم إمكانيات المقاومة، وكذلك تحليل الممارسة الخطابية كونها جزء من ممارسة اجتماعية أكثر شمولاً تتضمن علاقات السلطة. يمكن اعتبار الممارسة الخطابية جانباً من جوانب الصراع من أجل الهيمنة الذي يساهم في إعادة إنتاج نظام الخطاب أو تغييره، الذي هو جزء من الممارسة الاجتماعية، وبالتالي إعادة إنتاج علاقات السلطة القائمة أو تغييرها. فعندما تصاغ العناصر الخطابية التي تشكل نظام الخطاب وفق أنسقة جديدة، يحدث التغيير الخطابي الذي يعد ركيزة لإحداث التغيير الاجتماعي. يقول فيركلف " الإيديولوجيات ممثليات لجوانب من العالم، ويمكن إبانة إسهامها في إقامة العلاقات الاجتماعية المرتبطة بالسلطة والسيطرة والاستغلال، وصياغة هذه العلاقات أو تغييرها "(24).

- الخطاب باعتباره ممارسة اجتماعية: في حقيقة الأمر، نظر فيركلف إلى اللغة من وجهة نظر الخطاب من خلال المقولة التالية: " اللغة باعتبارها شكلاً من أشكال الممارسة الاجتماعية "، فما هو المعنى الدقيق الذي تحمله هذه العبارة؟ أولاً: إن اللغة جزء من المجتمع وليست خارجة عنه بصورة ما، وثانياً: إن اللغة عملية اجتماعية، وثالثاً: إن اللغة عملية يتحكم فيها المجتمع، أي إنها تخضع لتحكم جوانب أخرى (غير لغوية) في المجتمع.

بناءً على ذلك، يرى فيركلف أنه لا توجد علاقة خارجية بين اللغة والمجتمع بل علاقة داخلية وجدلية. فاللغة جزء من المجتمع، والظواهر اللغوية ظواهر اجتماعية فعلاً، وإن تكن من نوع خاص، والظواهر الاجتماعية ظواهر لغوية (إلى حد ما). فأما الظواهر اللغوية فهي اجتماعية بمعنى أنه حيثما تكلم الناس أو أنصتوا أو كتبوا أو قرؤوا، فإنما يفعلون ذلك بطرائق يحددها المجتمع ولها آثار اجتماعية. وحتى حين يصل وعي الناس بفرديتهم إلى ذروته ويتصورون أنهم برئوا إلى أقصى حد من الآثار الاجتماعية - في أحضان الأسرة على سبيل المثال - فإنهم يستخدمون اللغة أيضاً بطرائق تخضع للأعراف الاجتماعية. كما إن الطرائق التي يستخدم الناس اللغة بها في أشد لقاءاتهم خصوصية وحميمية لا تقتصر على الخضوع للعلاقات الاجتماعية التي تحدد صبغتها الاجتماعية بل إن لها أيضاً آثاراً اجتماعية بمعنى الحفاظ على هذه العلاقات (أو في الواقع تغييرها)(25).

كما أن الظواهر الاجتماعية لغوية، من ناحية أخرى، بمعنى أن النشاط اللغوي الذي يجرى في السياقات الاجتماعية (شأن جميع ألوان النشاط اللغوي) ليس مجرد انعكاس أو تعبير عن العمليات والممارسات الاجتماعية، بل إنه يمثل جزءاً من هذه العمليات والممارسات. فالمنازعات حول معنى بعض العبارات السياسية مثلاً من الجوانب الثابتة المألوفة في السياسة. فالناس أحياناً يتجادلون صراحة حول معاني بعض الألفاظ مثل: الديموقراطية، أو التأميم، أو الإمبريالية، أو الاشتراكية، أو التحرر، أو الإرهاب. وكثيراً ما يستخدمون الألفاظ في معانٍ بارزة الاختلاف والتضاد إلى حدٍ ما، وما أيسر العثور على نماذج ذلك في المناقشات بين زعماء الأحزاب السياسية، أو بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية. وتعتبر هذه المنازعات أحياناً مجرد مقدمات أو فروع شجرة من العمليات والممارسات الفعلية للسياسة، ولكنني أقول إنها ليست كذلك، بل إنها في ذاتها سياسة، إذ يتمثل جانب من السياسة في المنازعات والصراعات التي تحدث داخل اللغة وحول اللغة(26).

ولكن المسألة ليست مسألة علاقة متناظرة بين اللغة والمجتمع باعتبارهما وجهين متكافئين لكيان كل واحد. فأما الكيان الكلي فهو المجتمع، واللغة عنصر من عناصره. وإذا كانت جميع الظواهر اللغوية اجتماعية، فليست جميع الظواهر الاجتماعية لغوية، وذلك على الرغم من وجود عنصر لغوي كبير عادة، وإن كان كثيراً ما لا يلقى التقدير الصحيح، حتى في الظواهر الاجتماعية التي تقتصر على كونها لغوية محضة (مثل الإنتاج الاقتصادي).

والنتيجة الثانية المترتبة على اعتبار اللغة ممارسة اجتماعية، ترى أن اللغة عملية اجتماعية يتم فيها تمييز الخطاب عن النص، على اعتبار أن النص مُنتَجٌ لا عملية، فهو منتج لعملية إنتاج النص. ولكن فيركلف يصر على استخدام مصطلح الخطاب في الإشارة إلى عملية التفاعل الاجتماعي برمتها، التي لا يمثل النص إلا جزءاً منها. وهذه العملية تتضمن إلى جانب النص عملية الإنتاج، التي يعتبر النص من نواتجها وعملية التفسير التي يعتبر النص من مواردها. ومن ثم فإن تحليل النص لا يمثل إلا جزءاً من تحليل الخطاب، الذى يتضمن أيضاً عمليتي الإنتاج والتفسير. النتيجة الثالثة المترتبة على النظر إلى اللغة باعتبارها ممارسة اجتماعية، أي إنها تخضع لتحكم جوانب اجتماعية أخرى غير لغوية. فموارد الأعضاء التي ينهل منها الأفراد حتى يتمكنوا من إنتاج النصوص وتفسيرها موارد معرفية بمعنى أنها توجد في رؤوسهم، ولكنها اجتماعية بمعنى أن لها أصولاً اجتماعية، فهي وليدة المجتمع، وطبيعتها تعتمد على العلاقات والصراعات الاجتماعية التي ولدتها، كما إن طرائق انتقالها جماعية، وتتسم في مجتمعنا بالتفاوت في توزيعها. والناس يستوعبون ويتمثلون ما أنتجه المجتمع وأتاحه لهم، ويستخدمون هذه الموارد المستوعبة في ممارساتهم الاجتماعية، ومن بينها الخطاب(27). وهذا يتيح للقوى التي تشكل المجتمعات موقعاً ذا أهمية حيوية داخل نفس الفرد، ولكن فاعلية هذا الموقع تعتمد على كونه غير ظاهر بصفة عامة. أضف إلى ذلك أن التحكم الاجتماعي لا يقتصر على طبيعة هذه الموارد المعرفية، ولكنه يسري أيضاً على أحوال استخدامها، فعلى سبيل المثال، نجد أن الاستراتيجيات المعرفية المتوقعة في إطار الأعراف تختلف عندما يقرأ المرء قصيدة عنها عندما يقرأ إعلاناً في إحدى المجلات. ومن المهم أن نسحب حساب أمثال هذه الاختلافات عند تحليل الخطاب من منظور نقدي. وهذا يعني باختصار شديد أن الخطاب يتضمن الأحوال الاجتماعية وهكذا فعندما ننظر للغة باعتبارها خطاباً وممارسة اجتماعية، فإننا نلتزم لا بتحليل النصوص وحسب، ولا بتحليل عمليتي الإنتاج والتفسير وحسب، بل بتحليل العلاقة بين النصوص والعمليتين وأحوالهما الاجتماعية.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

........................

(1) بسمة عبد العزيز : سطوة النص: خطاب الأزهر وأزمة الحكم، صفصافة للنشر والتوزيع، ط1، 2016 (بتصرف). بالرجوع إلى مجلة بدايات، العدد: 15، بيروت، خريف 2016.

https://bidayatmag.com/node/781

(2) عماد عبد اللطيف: من الوعي إلى الفعل: مقاربات معاصرة في مقاومة الخطاب السلطوي، مجلة ثقافات، مجلة علمية محكمة تعنى بالدراسات الثقافية تصدرها كلية الآداب بجامعة البحرين، 2009، ص (69).

(3) سعيد بكار: التحليل النقدي للخطاب: مفهوماته ومقارباته، مجلة الخطاب، المجلد: 16، العدد: 2، الجزائر، جوان 2021، ص(446).

(4) عبد الخالق مرزوقي: أحاديث نورمان فيركلف حول اللغة والسلطة، موقع ساقية، 15 أغسطس 2021.

(5) سارة ميلز: الخطاب، ترجمة: عبد الوهاب علوب، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 2581، ط1، 2016، ص(13).

(6) سعيد يقطين: تحليل الخطاب الروائي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط3، 1997، ص(19).

(7) سارة ميلز: الخطاب، مرجع سبق ذكره، ص(15- 17).

(8) المرجع السابق نفسه، ص(18).

(9) عبد الحليم سحالية: الخطاب بين الدرس اللغوي العربي القديم واللسانيات، مجلة حوليات التراث، جامعة مستغانم، الجزائر، العدد: 09، 2009، ص(169). وعيسى بوفسيو: النظريات اللسانية الحديثة وتحليل الخطاب، مجلة دفاتر مخبر الشعرية الجزائرية، الجزائر، المجلد: 5، العدد:2، 2020، ص(10).

(10) سارة ميلز: الخطاب، مرجع سبق ذكره، ص(177).

(11) مؤلف جماعي: التحليل النقدي للخطاب: مفاهيم ومجالات وتطبيقات، إشراف وتحرير: محمد يطاوي، المركز الديمقراطي العربي، ألمانيا (برلين)، ط1، 2019، ص(10).

(12) ودني هـ. جونز، وأليس شيك، وكريستوف أ. هافنر: تحليل الخطاب والممارسات الخطابية، ترجمة: محمود أحمد عبد الله، مجلة الحكمة، 21/ 09/2017.

-Rodney H. Jones, Alice Chik and Christoph A Hafner (eds.): Discourse and Digital Practices: Doing discourse analysis in the digital age, Routledge press, 2015.

(13) المرجع السابق نفسه.

(14) دينا سعيد سيد متولي: سياسة التعليم من منظور التحليل النقدي للخطاب، مجلة دراسات تربوية واجتماعية، كلية التربية، جامعة حلوان، المجلد: 27، العدد: ديسمبر 2021، ص(56-57).

(15) المرجع السابق نفسه، ص(58-59)

(16) نورمان فيركلف: اللغة والسلطة، ترجمة: محمد عناني، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 2555، ط1، 2016، ص(15).

(17) لمزيد من القراءة والاطلاع انظر: نورمان فيركلف: الخطاب والتغير الاجتماعي، ترجمة: محمد عناني، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 2593، ط1، 2015.

(18) سعيد بكار: التحليل النقدي للخطاب: مفهوماته ومقارباته، مرجع سبق ذكره، ص(453-454).

(19) المرجع السابق نفسه، ص(456-457). ولمزيد من القراءة والاطلاع في هذا البُعد انظر: نورمان فاركلوف: تحليل الخطاب ( التحليل النصي في البحث الاجتماعي)، ترجمة: طلال وهبه، مراجعة: نجوى نصر، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2009، ص(63 وما بعدها).

(20) نورمان فيركلف: اللغة والسلطة، مرجع سبق ذكره، ص(16).

(21) انظر فقرة (الهيمنة والعالمي والخاص): نورمان فاركلوف: تحليل الخطاب ( التحليل النصي في البحث الاجتماعي)، مرجع سبق ذكره، ص(101 وما بعدها).

(22) دينا سعيد سيد متولي: سياسة التعليم من منظور التحليل النقدي للخطاب، مرجع سبق ذكره، ص(71-72).

(23) المرجع السابق نفسه، ص(72-73).

(24) نورمان فاركلوف: تحليل الخطاب ( التحليل النصي في البحث الاجتماعي)، مرجع سبق ذكره، ص(35).

(25) نورمان فيركلف: اللغة والسلطة، مرجع سبق ذكره، ص(42).

(26) المرجع السابق نفسه، ص(43).

(27) المرجع السابق نفسه، ص(44).

الأساس الرمزي الأوديبي لنشأة الأخلاق والحضارة

(توجد عقدة أوديب في أصل الحضارة الغربية)... جاك لاكان

1- مقدمة: يوظف فرويد الرموز الأسطورية في تفسيره لنشأة الأخلاق والدين والحضارة، ومن أجل هذه الغاية يلجأ إلى حيّزين أسطوريين، يتمثل الأول في الأسطورة الولائمية بطابعها الأنثروبولوجي الاجتماعي، في حين يتمثل الثاني في الأسطورة “الأوديبية” بتجلياتها السيكولوجية التربوية، وفي كلتا الأسطورتين تتجلى جريمة قتل الأب وغشيان المحارم. وتشكل هاتان الأسطورتان مادة فرويد المميزة في الاستكشاف الرمزي لعمليات التشكل التاريخي للقيم والأخلاق والأنا الأعلى والحضارة. وهو في الوقت الذي يوظف فيها الأسطورة الأولى (مقتل الأب والتهامه) لتفسير منشأ الحضارة الإنسانية بمضامينها الأخلاقية العامة، يوظف الثانية (الأسطورة الأوديبية) في تفسير نشأة الأنا الأعلى والتكوين الخلقي للأفراد في المستويين السيكولوجي والتربوي؛ ولا يخفى على المتأمل وجود تقاطعات كبيرة بين الطاقة الرمزية لكل من الأسطورتين، وتجانس أكبر في الكيفية التي توظف فيها هذه الرمزية لتفسير نشأة الأخلاق والحضارة، إذ تنطلق كلتاهما من موجبات الخطيئة الأصلية (قتل الأب) واللعنة الأبدية (غشيان المحارم) في تفسير ولادة الأخلاق والقيم والضمير الأخلاقي.

ومما لا شك فيه أم جانبا كبيرا من عبقرية فرويد تكمن في قدرته الهائلة على توظيف الرموز والأساطير في إضفاء المعاني والدلالات على مكونات الحياة الأخلاقية والنفسية في المجتمع، حيث تتجلى هذه العبقرية في التوليف الخلاق بين الواقع الأسطورة والتاريخ والرمز والعلم والدين في تفسير الجوانب الخفيّة للحياة الاجتماعية والأخلاقية والسيكولوجية في حياة المجتمع والأفراد والجماعات.

وفي هذه الصورة الفسيفسائية للتوليف الفرويدي، بين الأسطورة والرمز والواقع، تقع محاولتنا للتأمل في الكيفيات التي يوظف فيها فرويد المعاني والدلالات الرمزية التي في تفسيره لجوانب تاريخية وسيكولوجية قد تبدو عصية على الفهم والتحليل. ومهما يكن الأمر، فالرحلة في الإبداعات العبقرية الفرويدية تضع القارئ في دائرة الشعور بالرهبة والرغبة والشوق المفعم بالإثارة المعرفية والوجدانية. فالرموز المكتنزة في الأساطير تمتلك طاقة معرفية هائلة أحسن فرويد توظيفها واستثمارها في استكشاف جوانب مظلمة وغامضة من الحياة الإنسانية، وقد أجاد بحسه العبقري المعهود أن يوظف مقولات التابو والطوطم والسحر والدين والأسطورة في فهم الطبيعة البشرية واستجلاء غموضها، وأكد عبر تقصياته المذهلة هذه أنه يجب على الإنسانية أن تستلهم الحكايات والمخطوطات والرموز والأساطير لاستكشاف المكنونات الدفينة للتاريخ الإنساني إرواءً للظمأ البشري المتقد إلى المعرفة.

2- الوليمة الطوطمية:

يستلهم فرويد أسطورة القتل الأول (الوليمة الطوطمية)[1] في استكشاف المنشأ الأول للحضارة الإنسانية، وتفيد هذه الأسطورة أن جماعة من البدائيين في الغاب الأول، يحكمها أب ذكر قوي، كان قد استحوذ نساء القبيلة جميعهن، وفرض نظاما من التحريم الجنسي الصارم على أبنائه وأفراد العشيرة، وتحت تأثير القمع المستمر، والكبت الشديد لدوافع الأبناء وميولهم الجنسية، غضب الأبناء وثاروا على أبيهم فقتلوه والتهموه، وعلى الأثر، وقع الأبناء في صراع مميت على تركة الأب، فدبت الفوضى بينهم، ونشب الصراع المميت، فاقتتل الأخوة، وهدرت دماؤهم، في ظل غياب سلطة الأب وهيبته والنظام الذي وضعه.

يتناول فرويد هذه الأسطورة الولائمية بالدراسة والتحليل والتفكيك الرمزي لعناصرها على نحو سيكولوجي، فالأبناء كما يرى فرويد، كانوا يناصبون الأب المتسلط الكراهية والعداء نظرا للتحريم الجنسي الصارم الذي فرضه عليهم، ولكنهم كانوا في الوقت نفسه يدينون له بالحب والولاء والتقدير والإعجاب، إذ كان الأب لهم نموذجا وقدوة يتماهون به ويرغبون في أن يكونوا على صورته. وعندما وضعوا نهاية مأساوية لوجوده، كابدهم الندم وعصرهم الحزن، وأشقاهم الألم، فأقاموا تحت تأثير هذا الندم والحزن طقوسا “طوطمية” [2] تكريما للأب، وتكفيرا عن إثمهم العظيم، وتأسيسا على هذا الموقف التكفيري أسسوا نظام التحريم، ثم شيدوا نظاما من المقدسات التي حظروا بوجبها على أنفسهم ما كان الأب قد حرّمه عليهم في سابق الأحوال، فنشأ التحريم والقانون ونظام التقديس وجرت العادات والتقاليد على تكريس هذه المبادئ التحريمية و” الطوطمية” فنشأت القيم وظهرت الأنظمة الأخلاقية في المجتمع [3].

وينطلق فرويد في تأكيد هذا التصور الأسطوري على نتائج الأبحاث الأنثروبولوجية حول نظام التحريم في القبائل البدائية في أستراليا، حيث عُرف عن البدائيين عيشهم في جماعات صغيرة، يسيطر عليها أب ذكر قوي. وبينت الدراسات الأنثروبولوجية أن هذه القبائل البدائية تعتمد نظام تحريم صارم يحظر بموجبه على أفراد القبيلة إقامة علاقات جنسية مع الجنس الآخر في القبيلة نفسها (مع أبناء الطوطم الواحد)، حيث تكون أي امرأة في القبيلة محرما على أي رجل فيها [4].

وقد بينت الدراسات الأنثروبولوجية أيضا أن كل جماعة تختص بطوطم (حيوان أو طير)، وهذا الطوطم يرمز إلى روح الأب الأول للعشيرة التي تقوم بحماية القبيلة ودفع الخطر عن أبنائها، ويحتل “طوطم” القبيلة مرتبة التقديس والتحريم “التابو” [5]، حيث لا يجوز قتله أو صيده أو أكله، وبموجب هذه العقيدة الطوطمية يلتزم أبناء القبيلة أو العشيرة التزاماً مقدّساً بألاّ يقتلوا طوطمهم على مستوى النوع وهذا يشمل كل أفراد الطوطم على العموم [6].

وقد بينت هذه الدراسات أيضا أن للعشيرة طقوسا إباحية تجري في أوقات معينة ولفترة معينة يستباح فيها “الطوطم” المقدّس بصورة احتفائية في مناسبات معيّنة، وفي هذا الطقوس يؤكل لحم الطوطم الذي سبق تحريمه المحرّم. وتأتي هذه الاستباحة في سياق وظيفي اجتماعي يتعلق بطبيعة الحياة في هذه المجتمعات البدائية.

يحاول فرويد عبر هذا التصور الأسطوري الأنثروبولوجي أن يفسر نشأة الأخلاق في المجتمعات الإنسانية البدائية القديمة، حيث شكل قتل الأب وأكله مزيجا من التناقض الوجداني الهائل الذي تمثل في الثورة على الأب والندم على قتله واستباحة دمه، فتحول إحساس الأبناء القتلة بالذنب إلى عذاب مرير ترجموه إلى طقوس “طوطمية” اتخذت مع الزمن طابعا دينيا مقدسا، وتحولت تدريجيا إلى أنظمة أخلاقية تحريمية تحوّل فيها التوتم الأبوي إلى مقدس ديني، وقد أسس هذا المقدس لاحقا للعرف والقانون والأنا الأعلى الأخلاقي في المجتمع [7].

يحاول فرويد استكشاف الطاقة الرمزية المكتنزة في “الوليمة الطوطمية” فالوليمة (أكل الأب) تأخذ دلالة “الخطيئة الأصلية”، وهي الخطيئة الأزلية المتحولة إلى هاجس وجودي ما فتئ يقض مضاجع الإنسان في سعيه الدؤوب للتحرر من التبعات الأخلاقية للخطيئة الأزلية والتكفير عنها [8]. لقد قرر الأبناء في هذه التراجيديا الإنسانية التنازل التدريجي والمنظم عن إشباع ميولهم البدائية الوحشية لصالح النظام الاجتماعي، وقد شكل هذا التنازل – كما يرى فرويد- أساس النظام والعدالة والقانون والقيم الأخلاقية في المجتمعات الإنسانية، وقد شكلت هذه الأنظمة – وفقا لهذه الرؤية -مهد الحضارة ومنطلقها الإنساني، وذلك لأن الحضارة لا تقوم إلا على مبدأ الإيثار ونكران الذات وتنظيم الاشباعات الغريزية تنظيما اجتماعيا أخلاقيا يراعي مبادئ العدالة والحق والخير والجمال.

يبين فرويد في هذا السياق أن التخلي الإرادي الواعي عن الإشباع المباشر للرغبات الطبيعية والميول البدائية، ولاسيما الجنسية منها، قد أصبح بديلا لعملية المنع القسري الخارجي (سلطة الأب المقتول)، ومن ثم فإن الضبط الذاتي لعملية إشباع الرغبات والميول قد أسس للمعايير والقيم الأخلاقية في المجتمع، وعلى هذا النحو تشكلت الحضارة الإنسانية وبنيت صروحها كنتيجة طبيعية لعملية الانتصار الأخلاقي للإنسان في مواجهة الدوافع الهمجية الأولى [9].

حاول فرويد، في مسار التفكيك الرمزي للوليمة الطوطمية، استكشاف الأسباب التي تجعل أفراد القبيلة يستبيحون طوطمهم في أوقات معينة وطقوس محددة، ومن أجل هذه الغاية يلجأ فرويد إلى تفسير هذه الظاهرة سيكولوجيا، إذ يعتقد بأن هذه الاستباحة الجديدة لرمز الأب هي استعادة لذكرى فعلتهم الإجرامية ضد الأب، وهي حادثة وجودية مؤلمة يجب أن تبقى في الذاكرة من أجل تعزيز الدورة الحيوية للقيم والأعراف المتصلة بالتحريم من جديد، ومن أجل تجديد الشعور بالندم والألم والاستغفار على نحو يجعلهم يرسخون إيمانهم من جديد بكل القيم التي أسست على مبدأ تحريم المحارم وتقديس الأب. فالإنسان هنا يكرر جريمته بقتل الأب من جديد والتهامه رمزيا (قتل الطوطم والتهامه) وهذا القتل الجديد يؤجج الشعور بالندم من جديد ومن ثم يحي الطاقة الحيوية للإنسان في التأصيل الأخلاقي للقيم والمحرم والتابو من جديد.

وفي دائرة التفسير الرمزي لنشأة الأخلاق يركز فرويد على مفهوم “التابو” أي المحرم ويتمثل التابو في مشاعر الخوف من الأرواح والطبيعة. فالتابو يأخذ صورة طاقة لاواعية تتحرك في أعماق العقل الباطن وتعمل على ضبط التصرفات الغرائزية لدى الإنسان البدائي، وقد تجلى هذا التابو لدى البدائيين في نوعين من التحريم الأساسي: تحريم قتل “الطوطم” أكانا حيوانا أو نباتا أو جمادا من جهة، ومن ثمّ تحريم العلاقات الجنسية بين الأفراد الذين ينتمون الى طوطم واحد من جهة ثانية.

ويقدم فرويد إشارات واضحة إلى أهمية الأحلام ودورها في نشأة الدين والمحرم عند البدائيين فظهور الموتى في الأحلام كان عاملا كافيا لترسيخ فكرة خلود الأرواح وقدرتها على التأثير. فعندما قتل الأب تجلى لأبنائهم في أحلامهم، وهذا التجلي أثار خوفهم وفضولهم، فبدؤوا بالصلاة للأموات من الآباء والأجداد خوفا من غضبهم وانتقامهم، ويتجلى هذا الخوف في سياق الملاحظات الأنثروبولوجية حول القبائل البدائية، إذ تبين بعض الدراسات الأنثروبولوجية أن محاربي “جزر التيمور” العائدين من انتصاراتهم على العدو، محملين برؤوس أعدائهم المقطوعة، يقومون بتقديم الأضاحي لتهدئة أرواح أعدائهم، فيطلبون منها الغفران في طقوس غريبة إذ يخاطبون فيها أرواح الضحايا قائلين “لا تغضبوا منا يا أخوتنا، تلك هي مشيئة الحرب والقتال، إنه القدر والمصادفة أن تكون رؤوسكم مقطوعة اليوم لا رؤوسنا، وكان يمكن أن نكون مكانكم، ولكن القدر شاء لنا أن ننتزع النصر عليكم، ولولا ذلك لكانت رؤوسنا اليوم مكان رؤوسكم، وإننا نحتفي بكم اليوم ونقدم لكم هذه الأضاحي لتبقى أرواحكم في هدوء وسلام، فأقبلوا منا صولتنا وأضاحينا واجعلونا نعيش بهدوء وسلام.” ثم يبدأ المحاربون بالبكاء على أعدائهم ويرددون “لماذا كنتم أعداءنا؟ ألم يكن بإمكاننا البقاء أصدقاء؟ كي لا يهدر دمكم ولا تقطع رؤوسكم؟” [10].

3- اللعنة الأبدية: أوديب الحضارة.

يوظف فرويد” الوليمة الطوطمية” لتفسير المنشأ التاريخي الاجتماعي للحضارة، ولكنه ومن أجل تفسير الصيرورات السيكولوجية لتشكل الأخلاق وولادة الأنا الأعلى يلجأ إلى الأسطورة الأوديبية التي تفيض بالثراء الرمزي وتتدفق بالدلالات السيكولوجية.

تأخذ “أسطورة أوديب” ترجمتها الفرويدية في مفهوم “عقدة أوديب” وهي صورة أخرى لوليمة أوديبية رمزية تأخذ مجراها في العملية التربوية حيث يولّد فيها الأب المقتول طاقة جديدة لتوليد القيم والأخلاق والأنا الأعلى.

وأوديب (Œdipe) ملحمة أسطورية يونانية رواها سوفلكس تحت عنوان «الملك أوديب» عام، 496 قبل الميلاد، وتقول هذه الأسطورة إن العرّاف أنبأ لايوس Laius ملك طيبة Thebas أن ابنه الذي سيولد سيقتله حين يكبر (أي أن الابن سيقتل أباه الملك)، ومع ولادة ابنه المنتظر (أوديب) وتجنبا للخطر المحدق به أمر الحراس بقتل الطفل، ولكن الحراس أبقوا على حياته ورموه بعد أن أوثقوا قدميه وجرحوا كعبيه، وتروي الأسطورة ـ أن أحد الرعاة وجده وحمله إلى ملك كورنيث الذي تبنّاه وأطلق عليه اسم “أوديب” كناية عن أقدامه المتورمة. وعاش الطفل في كنف أبيه المتبني دون أن يعرف شيئا عن قصته المحزنة وهو يعتقد بأنه الابن الحقيقي للملك أي للملك كورنيث، وعندما كبُر أوديب وشبّ عن الطوق أنبأته العرافة – من جديد- أنه سيقتل أباه يوما ما، فأصيب بحالة من الدهشة والصدمة والخوف والاستهجان واعتقد باستحالة أن يقتل أباه الذي أحبه (أي: ملك كورنيث) فقرر أن يصد القدر ويعاند النبوءة الإلهية، وخوفا على أبيه من نفسه، قرر أن يهجر كورنيث إلى الأبد كي يتجنب الخطيئة الأزلية أي قتل الأب، فغادر المدينة، وشاءت الأقدار أنه في ترحاله التقى بأبيه الحقيقي فوقع شجار بينهما أضطر فيه الابن إلى قتل أبيه دون أن يعرفه، ثم تابع طريقه إلى مدينة طيبة مدينة الأب الحقيقي ليتوج ملكا عليها مكافأة له بعد أن أنقذ المدينة من وحش أسطوري يدعى أبو الهول ثم يتزوج ملكتها يوكاسته Iocaste دون أن يعرف بأنها أمه الحقيقية أيضا. وحينما كشف أحد العرافين هذه الحقيقة فجع أوديب بقدره المخيف ومصيره المرعب وعرف أن اللعنة الأبدية قد وقعت عليه فأذهله المصاب العظيم فلم يكن منه إلا أنه فقأ عينيه وهام على وجهه يندب حظه المخيف، فانطلق يجوب الدروب في البراري ندما وحزنا وتأسفا وتكفيرا، أما أمه فقد شنقت نفسها حتى الموت لما وقعت فيه من فظاعة الأمر وهول المصيبة الأخلاقية. وقد ورد ذكر مأساة أوديب في «الأوديسة» لهوميروس تلميحاً مختصراً جداً، وفيها أنه قتل والده وتزوج والدته من دون أن يعلم، وأن أمه يوكاسته انتحرت شنقاً حين تكشفت لها الحقيقة؛ أما أوديب فقد ظل يحكم طيبة حتى مات. وقد وصفها أرسطو[ر] في كتابه «الشعر" Peri Poiētikēs بأنها أكمل نموذج لمأساة عرفها الإنسان".

يستلهم فرويد هذه اللعنة الأبدية الأوديبية ويوظف إيقاعاتها الرمزية من جديد في تفسير نشأة القيم والأخلاق والتحريم. فأوديب يقتل الأب دون أن يعلم، ويتزوج الأم دون أن يدري، وهذه الجريمة المزدوجة قتل الأب وغشي المحرم تقوده إلى أعظم الندم فقأً للعين وشنقا للجسد وتيها في مفازات الأرض تكفيرا عن العرض والذنب. وهنا يجري النظر إلى الندم والتكفير والعقاب الذاتي لأوديب على أنه بداية التشكل الأساسي للقيمة الأخلاقية والمحرم والأنا الأعلى.

ولا يقف فرويد عند حدود رمزية الأسطورة في بعدها التاريخي والاجتماعي بل يتجاوز هذا البعد التاريخي ليوظف هذه الرمزية في العملية التربوية برمتها مستخدما مفهوم “العقدة الأوديبية “. كمنطلق لنشأة الضمير والأخلاق لدى الطفل. والعقدة هي مجموعة من الأفكار والتصـورات اللاشعورية والمشحـونـة بشحنة وجـدانية قوية، والمتعارضة في مضمونها بحيث تشمل في آن واحد الحب والكـراهية نحـو موضوع واحد. وتتمثل هنا في الصراع الأبدي بين كراهية الأب وحبه بين الخوف منه والشعور بأنه مصدر الأمن في آن واحد.

4- الوضعية الأوديبية:

يفكك فرويد العقدة الأوديبية إلى رمزيتها السيكولوجية والتربوية، ويستخدم مفهوم الوضعية الأوديبية ليفسر لنا الصيرورة الأوديبية في المجال التربوي، وليتبناها منطلقا منهجيا في فهم الطبيعة الإنسانية بما تنطوي عليه من تكوينات وبنى وإشارات ورموز. والوضعية الأوديبية هي الحالة العاطفية للطفل التي تبدأ من الثالثة إلى الخامسة من العمر، حيث تظهر لدى الطفل الرغبات العاطفية الموجهة نحو الأب من الجنس المخالف له. ويقابل هذا حالة من العدوانية والغيرة تجاه الأب المماثل له في الجنس حيث تولد عند الطفل رغبة يتمنى عبرها موت أبيه من الجنس نفسه. وبعبارة أخرى أكثر وضوحا، يرى فرويد أن عقدة أوديب هذه كامنة في الفطرة الإنسانية، فالطفل يميل ميلا طبيعيا عاطفيا إلى الجنس الذي يقابله من الأبوين وكل من الأبوين يميل ميلا طبيعيا عاطفيا إلى الجنس الذي يقابله من الأبناء (الطفل يحب الأم أكثر من الأب بينما تحب الطفلة الأنثى أباها أكثر من الأم وبالمقابل فإن الطفل يكره الأب المجانس له جنسيا بمعنى أن الطفلة تكره أمه وتحب أبيها كما أن الطفل يكره أباه ويحب أمه) [11].

يؤكد فرويد في هذا السياق على خطورة الطريقة التي يتم بها الخروج من الوضعية الأوديبية وأهميتها، فطريقة التجاور لهذه المرحلة تلعب دورا حاسما في تحديد هوية الطفل واتزانه الوجداني في مرحلة الرشد، وهذا يعني الكيفية التي يتجاوز فيها الطفل هذه المرحلة تشكل الركيزة الأساسية للتكوين السيكولوجي عند الفرد ولاسيما فيما يتعلق بنظرة الطفل وموقفه من السلطة والحب والعلاقات العاطفية والجنسية.

يفترض فرويد أن الطفل في الغالب يتجاوز هذه المرحلة بسلام أي يتجاوز كراهيته إلى الجنس المقابل له من الأبوين، إذ يتوجب على الطفل أن يتجاوز كراهيته للأب فيما بعد الثالثة من العمر وأن يكوّن علاقة صداقة وحب مع والده وهكذا هو الحال بالنسبة للطفلة الأنثى في علاقتها بأمها.

وتتأثر الوضعية الأوديبية بالطريقة التي يعتمدها الآباء في حل هذه الإشكالية والخروج بالطفل من الوضعية الأوديبية (أي تحقيق المصالحة بين الجنسين المتقابلين بين الآباء والأبناء) تترك آثارها النفسية وتؤثر في بناء التصور الذي يكوّ نه الفرد عن نفسه وعن قدراته (تصوراته ومواقفه الخاصة بجنسه وأفعاله وإمكانيات تأكيد الذات).

وفي مواجهة الرغبات العدوانية والرغبات العاطفية المستهجنة عند الطفل، تعمل الأسرة على إصدار تهديدات وتوجيه عقوبات مختلفة القوة ضد الطفل الأوديبي وفقا للتقاليد الخاصة بالعائلة (التهديد بالخصاء مثلا عند فرويد). وتوجد أمام الأسرة إمكانيات متعددة للخروج من هذا المأزق الوجودي الذي يتمثل في بنية هذا الصراع الأوديبي. فعلى سبيل المثال يكون التسلط والمنع قويا في العائلات الطهرية التقليدية في مواجهته هذه الرغبات الأوديبية. وعندما يواجه الطفل هذا التسلط والمنع يعمل على إخفاء كل ما يتعلق بالجنس (عنصر من عناصر العقلية الطهرية التي توجد في شكل طبيعي في هذه العائلات). وقد شكلت رؤية فرويد لأهمية هذه المرحلة الأوديبية منطلقا منهجيا اعتمده علماء النفس في تحليل وتفسير مظاهر نفسية متعددة أهمها عقدة التمرد.

فالمتمرد هو شخص لا يستطيع أن يخرج من دائرة العقدة الأوديبية، ولذلك فهو لا يستطيع أن يواجه السلطة التي تأخذ طابعا أبويا كما أنه لا يستطيع أن يتوافق مع الحب الذي يأخذ طابعا أموميا أو صورة علاقات جنسية. فهو يعيش حالة حصار وقلق إزاء هاتين الحقيقتين وبالتالي فإن سلوكه يتميز بدرجة عالية من الآواليات الدفاعية. فالشخصية التمردية ترفض أية سلطة (الدولة – الرؤساء – المعلمون) والمتمرد يأخذ مكانه دائما إلى جانب جميع هؤلاء الذين يناضلون ضد الاستبداد، وهو يحاول أن يحقق ذاته بالانتماء إلى جماعات إنسانية هامشية.

أما فيما يتعلق بالعلاقات الجنسية فإن نرجسيته تشكل عقبة كبرى في سياق علاقاته العميقة والمتعددة فهو يعيش في المجتمع، وينظر إليه كأم سيئة تطعم طفلها بقسوة وتكاد تخنق طفلها من كثرة الطعام. ولذلك فهو يدافع عن نفسه ضد هذا الطعام. ولذلك فإن الديموقراطية هي أم سيئة تصدر عنها أخلاق الاصطفاء والغدر التي لا تلبي لديه حاجات الأنا المركزية. وباختصار فإن طريقة خروج الطفل من العقدة الأوديبية يحدد له مواقفه اللاحقة من السلطة والحب والعلاقات الجنسية كما تحدد له إمكانياته في تأكيد ذاته وهويته.

5- العقدة الأوديبية:

عندما لا يستطيع الطفل تجاوز الوضعية الأوديبية بسلام يقع في دائرة العقدة الأوديبية، بمعنى إذا لم يستطع التصالح مع الأب وتأكيد حبه له فإن ذلك يجعله طفلا أوديبيا، أي طفل معقد أوديبيا ويترتب على هذا نسق من العيوب الخلقية والنفسية والجنسية عند الطفل.

وهنا تكمن التوظيفات الرمزية التي يستخدمها فرويد لتفسير تشكل الأخلاق عند الفرد في صورة الأنا الأعلى والضمير الأخلاقي، فالخوف من الأب والإعجاب به أيضا يقع في مرمى التشكيل الديني للفرد في مرحلة الطفولة، فهناك تشابه كبير بين صورة الله الذي يؤمن به الفرد وبين صورة الطفل المكتنزة عن أبيه في مرحلة الطفولة. فالأب بسلطته وجبروته يخيف الطفل ويرحمه ويحميه. ومن هذا المنطلق يرى فرويد وجود علاقة كبيرة بين التصورات الدينية وبين الفعاليات التربوية للطفولة الأولى عند الفرد ولا سيما في علاقة الأب بأبنائه التي تتسم بفعاليات الخوف والكراهية من جهة، والشعور بالولاء والمحبة من جهة أخرى. وهنا يتبنى فرويد الطاقة الرمزية لما يسميه “عقدة أوديب” التي تأخذ طابع عقدة نفسية يقع فيها الابن بكراهية الأب والابنة بكراهية الأم مع نزع من الحب يشد الطفل دائما إلى الجنس المقابل له بين الأبوين. والابنة بحب أبيها حبا مفرطا مصحوبا بكراهية الابن للأب وكراهية الابنة للأم [12].

ويكمن جوهر نظرية “فرويد” في تصوره قوامه أن الطفل يرهب أباه وفي الوقت يحبه ويعجب به ويخشى فقدان حبه له، ولذا فإنه يتخلى ذاتيا عن تصوراته الغرائزية ويكبح رغباته ومخاوفه الأولية، ولكن هذه المخاوف والتصورات تبقى دفينة العقل الباطن الذي يبقى مسكونا بهواجس الكراهية والخوف البدائي من الأب، وترتسم هذه المخاوف والتصورات الآثمة في صورة “عقدة أوديب” التي تأخذ طابع عقدة نفسية ماثلة في أعماق العقل الباطن. ومن أجل الاستمرار في قهر الدوافع الوحشية الأولية وقهر الميول الوحشية يلجأ الفرد إلى الدين والأخلاق كقوة جبارة تطرح نفسها بديلا لقوة الأب وجبروته. [13]. وعلى هذا النحو يشعر الفرد بالراحة والاستقرار لشعوره بانتهاء الصراع بين التمرد على الأب والاستسلام له الذي يتجلى في هيئة تقلص الصراع بين الرغبة الغرائزية “عقدة أوديب” والمستوى الأخلاقي المطلوب اجتماعياً.

6- الأنا الأعلى:

يمثل الأنا الأعلى الضمير الأخلاقي الذي يتشمل في دوامات الصراع بين الميول الغرائزية والأوامر والنواهي والعادات والتقاليد في المجتمع. ويصف فرويد الضمير بأنه “الأنا الأعلى” وهو المنطقة الأكثر قدسية في الكيان السيكولوجي للفرد، فالأنا الأعلى هو المحكمة العليا في الكيان الإنساني، وهي محكمة معنيّة بإصدار الأحكام الأخلاقية، وتوجيه الفعل الإنساني توجيها أخلاقيا ينشد الخير والحق والجمال، ويرفض الباطل والشر والفساد. وإذا كان الأنا الأعلى هو الضمير الأخلاقي فإن فرويد يرى بأن” الهو” وهي منطقة الغرائز والميول في الكيان النفسي يمثل منطقة الشهوة حيث يعبر عن مطالب الجسد تلبية للرغبة والميول الطبيعية الغرائزية في الإنسان. وعلى هذا النحو يتجلى الأنا الأعلى في صوت الحق والضمير والقيمة الأخلاقية في الوقت الذي يعبر فيه” الهو” عن صوت الشهوة والرغبة والميل والعاطفة والهوى. والحياة الأخلاقية تكون بالصراع الأبدي ما بين الأنا الأعلى وما بين الهو منطقة الرغائب والميول والشهوات، إنه صراع الجسد والعقل بل هو صراع النور والظلام في كيان الفرد النفسي.

وهنا ومن جديد تتضح الرمزية الخاصة بعقدة أوديب، وباختصار فإن كراهية الطفل للأب وغيرته منه وميله الطبيعي لقتله بطريقة إيهامية خيالية فالطفل يرغب بقتل الأب ولكنه لا يستطيع ولكن مجرد التفكير بالقتل هو قتل رمزي وهذا القتل الرمزي يؤدي إلى الشعور بالندم والشعور بالندم هو أصل في تكوين الأنا الأعلى والكيان الأخلاقي عند الطفل لاحقا، وهذا ستمثل في المصالحة بين الأب والابن وتخلي الطفل عن عقدته في النزعة إلى القتل والتدمير.

7- خلاصة: الأخلاق بين أسطورتين

توجد وشائج عميقة بين الأسطورة الأوديبية والأسطورة الطوطمية من حيث الدلالات والرموز والمعاني. ففي كلتاهما نجد تجليات الخطيئة الأزلية الأولى لمقتل الأب وانتهاك حرمته، وفي كلتاهما نجد طابعا مأساويا يتخلله انتهاك المحارم، كما نجد في الأسطورتين صورة للندم الأزلي الذي يؤدي إلى نشوء التحريم والتقديس والتعظيم الذي يؤسس بدوره إلى نشوء القيم والدين والأخلاق.

وفي هذا المقام، يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار، بأن الأسطورتين ليستا مجرد محض خيال جامح، إذ بينت دراسات ميثولوجيه كثيرة أن الأساطير ذات منشأ واقعي في جوهرها، إذ تستقي مصدرها الحيوي من الواقع، وتقوم في الوقت نفسه بالإضاءة على هذا الواقع. وما الأسطورة في نهاية الأمر سوى حكايات قديمة نسجها العقل بالخيال فأحياها بطاقة رمزية تمتلك القدرة على إضاءة الواقع وتقديم تفسيرات وامضة للحياة بما تنطوي عليه من أسرار وخفايا وخبايا. فمقتل الأب الأول ليس حقيقة أنتروبولوجية فحسب بل هو حقيقية نشهدها في عالم الحيوانات وتجمعاتها الأساسية، ولاسيما عند بعض جماعات القرود والأسود وأفراس النهر، حيث تكون العلاقات الجنسية مقتصرة على الذكر الأقوى في الجماعة، ومحرمة على غيره من الذكور. وهذا الأمر ليس غريبا أيضا عن الحياة الاجتماعية للإنسان تاريخيا، ففي العهود الإقطاعية الحديثة نسبيا من تطور المجتمع الإنساني، كان الإقطاعيون في كثير من المقاطعات في أوروبا وغيرها يمتلكون الحق بمضاجعة أي امرأة في إقطاعاتهم، وكان لهم الحق- بل الواجب أحيانا – في فض بكارة أي عروس قبل زفافها النهائي وذلك تأكيدا للحق الأبوي في التملك والسلطة.

يعتقد بعض المؤرخين، في هذا السياق، بأن قصة أوديب تمتلك أصلا تاريخيا حقيقيا، ومع ذلك يستحيل تخليصها من العناصر الأسطورية التي شابتها وأضفت عليها هذا الزخم الرمزي، وقد ورد ذكرت مأساة أوديب في «الأوديسة» لهوميروس تلميحاً مختصراً جداً، وفيها أنه قتل والده وتزوج والدته من دون أن يعلم، وأن أمه يوكاسته انتحرت شنقاً حين تكشفت لها الحقيقة؛ أما أوديب؛ أما أوديب فقد ظل يحكم طيبة حتى مات.

ومما لا شك فيه أن أسطورة أوديب قد شكلت موضوعا حيويا لقضايا متعددة أبرزها قضية المصير أو مسألة القضاء والقدر. فمثير من الباحثين تناولوا مسألة الحرية والقدرية في مسؤولية أوديب عن جريمة القتل التي أرتكبها بحق الأب وجريمة غشيان المحرم التي اقترفها بحق الأم. ومن الواضح أن القصة تتنبأ بمصير أوديب حتى قبل أن يولد. وهذا التنبؤ يمكن أن يقرأ بوصفه استلابا لحرية الإنسان أو بأنه «المقدر» و "المكتوب".

وهذا الأمر ينسحب بوضوح على أسطورة القتل الأول حيث كانت هذه الأسطورة انعكاسا طبيعيا للحياة الاجتماعية لدى القبائل البدائية وليس غريبا أن تكون هذه الأسطورة حقيقة أنتروبولوجية دامغة عاشتها الشعوب الإنسانية في مراحل تاريخية محددة.

ومما لا شك فيه أن نظرية فرويد في نشأة الأخلاق والحضارة واحدة من نظريات عديدة حاولت كل منها أن تقدم رؤية محددة وتصور شمولي لعملية انبثاق الحضارة والأخلاق في المجتمع الإنساني. ولكن نظرية فرويد تمتاز على ما غيرها بأنها اعتمدت الطاقة الرمزية المكتنزة للأساطير في تفسير عدد كبير من القضايا الوجودية للمجتمعات الإنسانية، فاكتست بطابعها الجمالي والسحري الذي جعلها من أكثر النظريات انتشارا في النصف الأول من القرن التاسع عشر.

ومما لا شك فيه أن هذه النظرية، كغيرها من مقولات فرويد وتصوراته، قد تعرضت للنقد السيكولوجي والسوسيولوجي دون انقطاع على مدى قرن من الزمان، ولكن هذا النقد المتواصل المتدفق أضفى على النظرية والمقولات الفرويدية مزيدا من السحر والبهاء والقوة، فكانت نظريته هذه أشبه بالنوابض الفكرية التي ما أن تلمس حتى تنهض بقوة أكبر مما هو متوقع لها.

ويمكن القول في نهاية هذا المقال: إن فرويد قد أحسن توظيف الرموز المكتنزة في الأساطير واستثمرها في استكشاف جوانب خفية من الحياة الإنسانية على نحو يتصف بالرشاقة والجمال، ولا ريب في القول بأن امتلك قدرة مذهلة على الجمع بين الرموز والأساطير والواقع في تفسيره لنشأة الدين والقيم الأخلاقية والحضارة، وقد تميز التفسير السيكولوجي الذي قدمه لمسألة الأخلاق بطابعه الجمالي والفلسفي الذي كان وما زال مثار جدل وحوار على أشده منذ عهد فرويد حتى اللحظة الراهنة.

***

علي أسعد وطفة

كلية التربية -جامعة الكويت

......................

مراجع الدراسة وهوامشها:

[1] إشارة إلى قتل الأب والتهامه من قبل الأبناء.

[2] احتفالات وطقوس تجريها القبائل البدائية لعبادة الأسلاف والأجداد. و” الطوطم” رمز يأخذ صورة حيوان أو نبات يرمز إلى روح الأب أو الجد.

[3] سلطان الزغول، تطبيق شعري لنظرية قتل الأب عند فرويد، جريدة الرأي، السبت 17 تموز 2010، www.alrai.com/pages.php?news_id=323690

[4] – Durkheim, E., Les Formes élémentaires de la Vie religieuse, Paris, puf, 1968

[5] التابو” يرمز إلى المحرم لدى القبائل البدائية.

[6] إذا كان الطوطم صقرا على سبيل المثال فهذا يعني تحريم قتل أو أكل جميع الصقور.

[7] سيغموند فرويد، الوثن والمحظور، نيويورك : ماكميلان، 1918.

[8] – Sigmund FREUD, Totem et Tabou, Interprétation par la psychanalyse de la vie sociale des peuples primitifs, (Traduit de l’Allemand avec l’autorisation de l’auteur en 1923 par le Dr S. Jankélévitch. Impression 1951),

[9] جيانا كردي، الحضارة والكبت. من وجهة نظر التحليل النفسي، موقع القديسة تيرزا،

http://www.terezia.org/section.php?id=1127.

[10] رندا قسيس، في أصول الأخلاق : نظرة أنتروبولوجية، ميدل أيست أونلاين، 6/6/2009، http://middle-east-online.com/?id=79615

[11] هناك مثل شعبي كويتي يقول “البنيّة تخطف قلب أبوها” ؛ و”كل فتاة بأبيها معجبة”، كما يقول أحد الأمثال العربية. وفي هذه الأمثال تعبير عن الميل الوجداني المتقابل بين الجنسين بين الأبناء والآباء.

[12] أوديب حكاية أسطورية إغريقية قديمة تفيد بأن أوديب ” قتل أباه (ملك طيبة) وتزوج أمه دون أن يعرفها في ظروف غامضة، ولما اكتشف الأمر فقأ عينيه وهام على وجهه.

[13] سيغموند فرويد، الوثن والمحظور، نيويورك : ماكميلان، 1918.

الطفولة مبتدأ الانطلاق

(عندما أتحدث مع طفل يثير في نفسي شعورين: الحنان لما هو عليه، والاحترام لما سوف يكونه"... لويس باستور

مقدمة

تروي القصة أن الأب كان بصدد قراءة صحيفته المفضلة في الصباح، وما أن بدأ بتصفح الجريدة حتى بدأ ابنه الصغير يدور حوله بشقاوته وشغبه وتساؤلاته التي ضايقت الأب ومنعته من متابعة القراءة والاستمتاع بصحيفته. وحين تعب الأب من شغب الصغير ومضايقاته خطر له أن يلهيه عنه بعض الوقت كي يتسنى له متابعة الاستمتاع بصحيفته فأخذ صفحة من الجريدة تنطوي على خريطة العالم ثم مزقها قطعا صغيرة وأعطاها للصبي طالبا منه إعادة تجميع الصفحة على صورة الخريطة، وذلك كي يشغل الطفل، ثم عاد لقراءة صحيفته بهدوء وصفاء، وقد أخذه الظن بأن الطفل سيبقى مشغولا بقية اليوم بترتيب الصفحة وجمعها، ولكن المفاجأة أن الطفل قد عاد إليه بعد دقائق معدودة وقد أنجز المهمة، إذ قام بترتيب الخريطة على نحو صريح صحيح... ! فسأله الأب مذهولا: هل كانت أمك تعلمك الجغرافيا يا بني .؟! رد الطفل قائلا: لا يا والدي. فقال له إذن كيف استطعت أن تعيد جمع الخريطة بهذه السرعة، عندها أجاب الابن: كانت هناك صورة لإنسان على الوجه الآخر من الصفحة، وعندما أعدت بناء الإنسان، أعدت بناء العالم ... كانت عبارة عفوية، ولكنها كانت جميلة وذات معنى عميق: "عندما أعدت بناء الإنسان، أعدت بناء العالم". وهذا هو بيت القصيد في مقالتنا هذه التي تبحث في قضية بناء الإنسان والحضارة عبر البناء الأصيل للطفل والطفولة منبع العطاء ومنهل الرجاء.

لقد أدركت الأمم العظيمة، وأدرك فلاسفتها الأفذاذ، أن أسرار القوة الحضارية للأمم تتجسد في قدرة كل منها على العناية بصغارها وتفجير طاقاتهم وصقل مواهبهم. فالرسالة الحضارية اليوم للأمم والشعوب تتعيّن بتوفير الشروط الموضوعية لتحقيق نماء الطفولة وإطلاق مواهبها، لأن طاقات الأمم الإبداعية كامنة في أطفالها بوصفهم ينبوع كل إبداع وعطاء وجمال.

إن بناء الإنسان هو الفعل المبدع الخلاق الذي يفوق بعظمته كل إبداع وكل ابتكار إنساني ممكن. ومن هذا المنطلق يترتب على عملية البناء هذه أن تنطلق من المراحل الأولى المبكرة من طفولة الإنسان. فالطفولة بدعة الله في الإنسان وآية من آيات الله في الطبيعة، إنها كون خلاّق يضاهي القوى الكونية العليا في مدى عظمته وروعته. وهي في النهاية الصورة المثلى التي يتجلى فيها ثالوث القيم: قيم الحق والخير والجمال.

و"الإنسان أثمن وأغلى وأعظم ثروة تملكها الأمم"، تلك هي الحقيقة العلمية التي بدأت تجلجل بقوة في مختلف أركان الكون منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين حتى اليوم، وهي الحقيقة التي تنادي في عقول المفكرين وتسطو في أعماق الوعي العلمي عند الباحثين والمبشرين بعالم أفضل. ولا يرتبط هذا القول بشعارات ذات طابع أخلاقي، بل يجسد منظومة من الحقائق العلمية الملموسة الاقتصادية والاجتماعية؛ لقد أصبح الاستثمار في تربية الإنسان هاجس الأمم المتقدمة، وغدا هدفا يتصدر استراتيجياتها التنموية وخططها النهضوية، وينطلق هذا الهاجس من حقيقة علمية قوامها أن توظيف رؤوس الأموال في التنمية البشرية لا يضاهيه في مردوده وعائداته الاقتصادية والاجتماعية أي استثمار آخر في أي حقل من حقول الإبداع والإنتاج الإنسانيين.

لقد ولّدت الثورة المعلوماتية الهائلة إيمانا راسخا بأن تربية الإنسان وتنميته هي منطلق كل نهضة حضارية وكل تطور في مجال المعرفة الإنسانية. وبدأت هذه الحقيقة تضرب جذورها في أعماق الوعي الإنساني منطلقة من أن الإصلاح الاجتماعي والنهوض بالمجتمع حضاريا يجب أن يبدأ بثورة إبيستيمولوجية في ميدان التربية والتعليم، لأن الثورة التربوية في مجال بناء الإنسان وإعداده تشكل منطلق بناء المجتمع وتثويره في مختلف مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

وإذا كانت النهضة التربوية هي الشرط الأساسي لعملية الإصلاح التربوي والتغيير الشامل في المجتمع، فإن النهضة التربوية ذاتها يجب أن تنطلق من العمق الاستراتيجي للتربية في المجتمع المتمثل في تربية الأطفال وإعدادهم منذ مرحلة الطفولة المبكرة، لأن الطفولة تشكل شرط الضرورة والكفاية لنهضة تربوية حقيقية.

إن أية محاولة للنهوض بالتربية وتطويرها أو إصلاحها لا تبدأ بمرحلة الطفولة هي محاولة تسير نحو قَدَرِ الإخفاق والفشل. وقد لا نكون مبالغين إذا قلنا بأن الإخفاقات التي تعاقبت وتتابعت في مشاريع النهضة التربوية والإصلاح التربوي في الوطن العربي قد أخفقت لأنها انطلقت من المكان الخطأ والعنوان الخطأ، ولأنها في نهاية الأمر لم تنطلق من الطفولة بوصفها العمق الاستراتيجي للإصلاح والتطوير في التربية والمجتمع في آن واحد.

لقد آمن أغلب المفكرين، منذ عهود بعيدة، بأن الثورة التربوية يجب أن تبدأ في مرحلة الطفولة المبكرة وأن تنطلق منها، وأن مثل هذه الثورة هي نواة النهوض والتنوير الشامل في مجال الحياة المجتمعية، وذلك لأن مرحلة الطفولة تشكل المنطقة الجيولوجية الأعمق في نسيج الوجود الإنساني، وفي هذا التكوين الأعمق تكمن نفائس الأمم وذخائرها الإنسانية وطاقاتها البشرية الأولية.

إن فكرة إصلاح المجتمع عبر إصلاح الناشئة فيه قديمة قدم التاريخ. لقد أعلن أفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد بأن لا يمكن إصلاح مدينة بصغار أفسدهم كبارهم، ومن أجل هذا الإصلاح يقترح أفلاطون في جمهوريته إخراج جميع الأطفال ممن هم دون الخامسة إلى ظاهر المدينة، وتربيتهم في معسكرات خاصة تشرف عليها الدولة تربية عقلية وتربية أخلاقية متميزة، وذلك من أجل إصلاح شؤون المدينة والخروج بها من دائرة الفساد إلى دائرة التنوير والحق والعدالة والحرية.

وتجد فكرة أفلاطون صداها ورجعها في كثير من مراحل تطور المجتمعات الإنسانية. وشواهد الإيمان بأهمية تربية الصغار وإصلاحهم من أجل إصلاح المجتمع تتجاوز حدود العدّ والحصر، ولكن تجدر الإشارة في هذا المقام إلى فكرة التربية السلبية الحرة عند روسو التي يرى فيها بوضوح كبير ألا إصلاح في المجتمع إلا من خلال بناء أجيال حرّة قادرة على صنع التاريخ بمعايير تربوية وأخلاقية جديدة.

فالأمم الكبيرة هي الأمم التي وجدت في الأطفال ينبوعا ثرّا للعطاء واستمرارية في القدرة على النهوض والبناء. ويبدو اليوم أن درجة عناية الأمم بأطفالها ورعايتهم لها تحدد درجة كل أمة من هذه الأمم في السلّم الحضاري وفي الموقع المتقدم الذي سجلته في سلم العلم والمعرفة العلمية.

إن الشرارة الأولى التي تنطلق منها النهضة والتنوير والحضارة في أية أمة من الأمم تنقدح شعلتها بداية في عالم الطفولة والأطفال، فيتوهج الوعي المجتمعي بأهمية مرحلة الطفولة ودورها في بناء الحضارة والإنسان. فالطفولة تشكل العمق الاستراتيجي الإنساني للمجتمع، وهذا العمق يأخذ تجلياته في أبعاد ديموغرافية وبيولوجية وثقافية وإنسانية بالغة التنوع والشمول. وكل بداية حضارية أو نهضوية لا تبدأ من هذا العمق هي بداية سطحية عابرة ومؤقتة ولن تؤتي أوكلها أبدا.

وليس في التأكيد على الأهمية الصارخة للعناية بالأطفال وتربيتهم ما يخضع للشعارات الرنانة أو للأيديولوجيات البراقة أو ما يمت بصلة إلى العقائد الغراء. إن الطفولة هي أهم الطبقات في تكوين المجتمعات الإنسانية من حيث خطورتها وأهميتها، وليس في هذا القول ممالأة أو مجانبة للصواب، بل تلك هي الحقيقة التي تنضح بمصداقية علمية تتجاوز حدود الشك وتتعالى على شطحات الوهم والظنون. فالسنوات الخمس الأولى من حياة الفرد تأخذ أهمية فريدة متفردة تقرّها العلوم الإنسانية والتطبيقية بمطلق التأكيد. فالطفولة تشكل الطبقة الأعمق في حياة الفرد منفردا وفي حياة الكيان المجتمعي حيث يتحد الأفراد. وقد حظيت حقيقة الأهمية الكبرى لمرحلة الطفولة على إجماع المفكرين والعلماء والعارفين.

وقد أصبح اليوم، من تحصيل الحاصل ومن بديهيات القول، أن يؤكد جميع الدارسين والباحثين والمفكرين بأن الطفولة والطفولة الأولى هي منطلق البناء التربوي وجذوته. ويمكن للباحث اليوم أن يفرد نسقا يأخذ مداه طولا وعرضا من أسماء العلماء والمفكرين الذين يؤكدون أهمية هذه المرحلة منذ بدء الحضارة الإنسانية حتى اليوم.

فالإصلاح التربوي يجب أن يبدأ من العمق لكي يكون إصلاحا حقيقيا وجوهريا، وهذا العمق الذي يجب أن ينطلق منه هو العمق الاستراتيجي للتربية الذي يتمثل في مرحلة الطفولة المبكرة. ولكي يكون هذا الإصلاح استراتيجيا يجب عليه أن يكون علميا، ومن أجل أن يحقق هذا الطابع العلمي يجب أن ينطلق من بناء فهم علمي يتميز بطابع الشمول والعمق لمرحلة الطفولة ذاتها بمعانيها وطبيعتها وقانونياتها الحاكمة. وهذا يعني أنه ومن أجل إحداث التغيير الشامل والمثمر في التربية يجب علينا أن نفهم وندرك طبيعة العملية التربوية في أكثر مراحلها خطورة وأهمية إدراكا علميا يتميز بالرصانة والأصالة والشمول والعمق.

وتأسيسا على هذه المحاكمة ينهض القول بأن تحقيق الشرط الأساسي للثورة التربوية المجتمعية الشاملة يجب أن يبدأ بتكوين وعي علمي يتصف بالشمول والأصالة عند طبقة المربين بعامة وعند مربيات ومربي الأطفال بشكل خاص. ومن هنا تأخذ التربية في مرحلة الطفولة المبكرة أهمية مركزية وإستراتيجية. وبناء على ذلك ومن أجل تحقيق الشرط الأساسي لكل إصلاح أو تثوير تربوي يجب أن نبدأ بإعداد المربيات والأمهات إعدادا علميا يمكنهن من تمثل معطيات المعرفة الإنسانية في مجال تربية الطفولة بما ينطوي عليه هذا الحقل من معارف علمية ونظريات وممارسات وتجارب. ويجب على هذا التوجه ألا يقف عند حدود المربيات والباحثات في مجال الطفل وشؤون الطفولة بل يجب أن نيّسر ونعزز وعيا تربويا يشمل مختلف المربيين والمربيات في المجتمع على امتداد الساحة الوطنية في أي مجتمع من المجتمعات المعنية. فالمعرفة العلمية بطبيعة الأطفال وأهمية مرحلتهم واستيعاب التجارب العلمية والخبرات والنظريات يشكل الخطوة الأولي في أي إصلاح تربوي جوهري يسعى إلى إصلاح المجتمع وتحقيق نهضته.

فعالم الطفولة عالم لم يكتشف بعد، ولم يتحقق الطموح الإنساني في استكشاف المعالم النهائية لهذا العالم، وأن الإنسانية تحتاج إلى عقود وربما قرون من الزمن للكشف عن ماهية هذه الطفولة بأعماقها الإنسانية والسيكولوجية. فالطفل يمتلك على قوى داخلية هائلة وخفيّة نجهل حدودها وأبعادها وآفاقها منذ لحظة ولادته. والسؤال الجوهري الذي يفرض نفسه بقوة الضرورة هنا هو: هل يمكن للمربين أداء دورهم التربوي كما يجب إذا كانوا يجهلون ماهية الطفولة وطبيعة الأطفال؟ وهنا يجب علينا أن نعترف بأننا على الأغلب ما زلنا نجهل طبيعة الطفولة، وأطفالنا مازالوا بالنسبة لنا كائنات مجهولة فيما يتعلق ببنيتهم وطاقاتهم الكامنة، ونحن لا نستطيع أن نقدم شيئا مهما للأطفال إذا لم نستطع أن نكتشف فيهم هذه القوى الداخلية لديهم وننميها.

لقد بدأ الاعتراف اليوم بأن الأطفال يمتلكون قدرات خفية هائلة، ويجسدون قدرة نامية يجب أن تحظى بالعناية، وأن تخضع لمبدأ الاستثمار. ولا يوجد اليوم ما يمنع الأطفال الصغار من أن يكونوا تجريبيين مندفعين ومتحمسين أو مكتشفين ورواد في مجال العلم والمعرفة.

ومن هذا المنطلق بدأ وعي تربوي جديد ورؤية حداثية جديدة تتكون وتأخذ أبعادها حول بنية الطفل واتجاهات نمائه، فالطفل ليس كائنا متلقيا وحسب، إنه مبدع منذ البداية، ولو تفحصنا تصوراته للعالم وتعبيراته الانفعالية لوجدناها –على بساطتها- تعبيرات وتصورات مبدعة، وهذه الأصالة الفطرية هي مفتاح النمو السوي للأطفال وهي- لكي تفصح عن ذاتها إفصاحا كاملا – تقتضي منا معاونة الطفل على الاقتراب التلقائي من العالم والدخول في علاقة حميمة مع البشر والحياة، وهي علاقة تربط الطفل بالعالم دون أن تمحو هويته الثقافية أو تشوهها، وهذه هي مسؤولية الكبار نحو الطفل آباءً كانوا أو معلمين. وإذا غابت هذه الحقيقة عن المربين فإنهم سيكونون على وعي منهم أو من غير وعي أداة لتخريب النمو السوي في الطفل وذلك عبر أفانين غامضة.

إن الخطر الأكبر في حياتنا المجتمعية يتمثل في جهل المربيين بالأصول العلمية لتربية الأطفال. ويكمن هذا الخطر في قانون تربوي قوامه أن التربية التي لا تقوم على أسس علمية تؤدي إلى تدمير الأطفال نفسيا وعقليا واجتماعيا. وبناء على هذا القانون التربوي فإن أية تربية نقدمها للطفل تلحق به الأذى وتدمره إذا لم تكن تربية علمية مستوفية لشروط الوعي العلمي، وهذا يعني أن التربية في مرحلة الطفولة يجب أن تقوم على وعي علمي رصين ومتكامل وأصيل بمختلف معطيات الطفولة وتربية الأطفال.

والسؤال الذي يقفز إلى العقل مباشرة: هل التربية التي نعتمدها اليوم في تربية أطفالنا تربية علمية تأخذ بأسباب العلم الحديث ومعطياته؟ والجواب سرعان ما يومض بسؤال جديد: هل يمتلك مربونا الوعي العلمي الرصين بأحدث وسائل التربية ونظرياتها في مستوى تربية الأطفال؟ وبناء على هذين السؤالين يقوم الاستنتاجان التاليان:

- إن تربية الأطفال تربية بنائية نمائية حقّة مرهونة بمستوى وعي المربين بقضايا الطفولة وأصول التربية ونظرياتها وقانونياتها وأصولها السيكولوجية والاجتماعية.

- إن غياب مثل هذا الوعي المتكامل بطبيعة التربية وأصولها في مستوى الطفولة يؤدي إلى نتائج عكسية، أي أن التربية هنا تهدم ولا تبني، تفقر ولا تغني، تأخذ ولا تعطي، وباختصار التربية الجاهلة تتحول إلى عامل هدم وتخلف وانهيار وتراجع إنساني وأخلاقي.

والسؤال الذي يرمي بنفسه هنا هو: إلى أي حدّ ينتشر الوعي التربوي العلمي المتكامل والحديث بين المربين آباء وأمهات ومعلمين في عالمنا العربي؟ والجواب هو افتراض قوامه أن التربية العربية في مجال الطفولة المبكرة مازالت تربية تقليدية، وتقليدية مغرقة في القدم، وأنها لم تتحول إلى تربية تأخذ بمعاني التربية الحديثة التي تعتمد أفضل السبل العلمية في تنمية الأطفال وفي تحقيق ازدهارهم. ويترتب على ذلك أن التربية السائدة هي تربية تعتمد مبدأ الهدم لا البناء ومبدأ الإفقار لا الإغناء.

وتأسيسا على ما سبق يمكن القول بأنه يتوجب علينا، في مطلع هذا القرن الحادي والعشرين، مفكرين وسياسيين وعلماء وكتاب ودارسين أن نمارس دورا تنويريا يهدف إلى بناء وعي تربوي أصيل ومتقدم في عالم الطفولة والأطفال. وبناء هذا الوعي يجب أن ينطلق من اعتبارين أساسيين هما:

أولا - اعتبارات ذاتية في الطفولة عينها: حيث يتوجب علينا أن نؤكد من جديد بأن الطفولة يجب أن تكون غاية الغايات ونهاية كل طموح إنساني في مجال التربية والتعليم، وهذا التوجه ينبع من اعتبارات دينية وأخلاقية وإنسانية ووجدانية تتجاوز حدود كل وصف وتصنيف.

ثانيا – اعتبارات حضارية وإنسانية ونهضوية: فالطفولة تشكل نقطة انطلاق كل محاولة نهضوية أو حضارية، لأنها كما أسلفنا، تشكل العمق الاستراتيجي في المجتمع والحياة، والطبقة الأعمق في التكوين الإنساني، ولذلك فإن أي محاولة للنهضة بالمجتمع لا تأخذ هذا التوجه بعين الاعتبار ستمنى بالإخفاق والفشل، وبالتالي فإن أي محاولة أخرى تنطلق بعيدا عن هذه المرحلة لن تحظى بأي نجاح ممكن أو محتمل وبالتالي فإن درجة الإخفاق تكون أكبر كلما كانت المسافة الفاصلة بين مرحلة الطفولة ونقطة الانطلاق أبعد.

وهنا وفي هذا السياق يتوجب أن نذّكر بأن التربية العلمية الحديثة في مستوى الطفولة تشكل الشرط اللازب في كل إصلاح تربوي ممكن ومحتمل، وأن الإصلاح التربوي يشكل العمق الاستراتيجي للإصلاح الاجتماعي برمته، ومن هذا المنطلق يجب أن نقول بأن الرهان الحضاري لوجودنا وحياتنا المجتمعية يتمثل في مدى قدرتنا على إيجاد تحولات عميقة وبنيوية في أساليب تربية الأطفال والعناية بهم وتنشئتهم وفقا لأحدث معطيات المعرفة العلمية والنفسية. ويبقى أن نقول أيضا بأن بناء الوعي التربوي، بأهمية مرحلة الطفولة وبأهمية العلم الحديث والطرائق التربوية في تربية الأطفال، يجب أن يتجاوز حدود التخصص العلمي، وهذا يعني أن الوعي الذي نتحدث عنه يجب أن يكون وعيا شاملا يتغلغل في مختلف شرائح المربين في المجتمع من آباء وأمهات ومربيات وعاملين وسياسيين. وإذا ما بقي هذا الوعي سجين فئة متخصصة أي إذا لم يستطع أن ينفلت من عقال التخصص ودوائره الضيقة فإننا لن نستطيع أبدا أن نحقق ما تصبو إليه النفوس الطيبة من أمل في أصلاح الإنسان والمجتمع. إن إصلاح المجتمع لا يكون إلا بإصلاح الإنسان وإصلاح الإنسان إلا بإصلاح الطفولة وهذا يعني أن الطفولة تشكل المبتدأ والخبر في كل عملية تربوية تسعى إلى تحقيق الإصلاح في التربية والمجتمع والإنسان.

وبقي أن نقول بأن التربية التي تسود في مجتمعاتنا تعاني من هيمنة أسطورية لمفاهيم وتصورات تقليدية صَدَّأها الزمان وخددتها الأيام، وأصبحت تغلب عليها الأوهام التربوية، وأنه يجب علينا اليوم أن نحقق ثورة في المفاهيم التي تتصل بالطفولة وتربية الأطفال وعلينا أن نقتلع كل الأعشاب الضارة وخضراء الدمن التي نبتت في تربة التربية التي ننهجها حاليا في تربية الأطفال. ولأنها تربية ابتعدت عن المنهجية الصحيحة فإنها تدمر وتؤذي وتقتل وتضعف وذلك بدلا من أن تبني وتصلح وتحيي وتقوي، لأنه في التربية الحديثة حكمة تقول: كل ما لا يحيي يميت وكل ما لا يبني يهدم. ومعيار البناء الصحيح وفقا للتربية الحديثة هو الوعي والوعي العلمي بأصول التربية الحديثة ومفاهيمها واتجاهاتها ونظرياتها وأسسها السيكولوجية.

وأخيرا يطيب لنا أن نردد هذه الأبيات الخالدة للشاعر السوري بدوي الجبل في حب الطفولة وجمالها شعراً يقول :

ويارب من أجل الطفولـة وحدهـا

أفض بركات السلم شرقاً ومغربـا

*

وصن ضحكة الأطفال يا رب إنهـا

إذا غردت في موحش الرمل أعشبا

وأخيرا نقول إن الطفولة رمز البراءة في الطبيعة وعنوان الطهارة في الإنسان، فيها تتألق أجمل القيم وأصفاها، وتترامى معها أبهى المعاني وأنقاها، إنها سحر في الطبيعة وإبداع الله في الإنسان، وعندما تزدهر الطفولة يفيض العالم بالحب والجمال والعطاء، وذلك لأن الطفولة مبدأ العطاء ومنهل الرجاء ومبتدأ الانطلاق، وإذا ما استطاع مجتمع أن يتعهدها يفيض العالم بالحب ويزدهر والجمال ويضوع بالعطاء

***

ا. د. علي أسعد وطفة

 

عناصر تشكيل العقل الغربي في وعيه بالإسلام

يعود الاهتمام الغربي بدراسة الإسلام وتاريخه واتجاهاته الفكرية والاجتماعية إلى ما قبل مرحلة تشكيل الوعي الاستشراقي، وهي المرحلة اللاهوتية المسيحية؛ إذ بدأ الوعي دينياً لاهوتياً (مسيحياً)، وانتهى مركّباً من عدة اتجاهات ومدارس غربية، بالتزامن مع الصراعات العسكرية بين الدول المسلمة والدول الاوروبية، ثم موجات الغزو والاحتلال الأوروبي للبلدان الإسلامية منذ القرن السادس عشر الميلادي.

أما المرحلة الجديدة من الدراسات الغربية؛ فقد بدأت في نهاية السبعينات، مع اندلاع الثورة الإسلامية الإيرانية، ثم أخذت - تلك الدراسات - شكلها الحالي في مطلع الثمانينات مع إعلان الحركة الإسلامية العراقية عن نفسها، وصولاً إلى تأسيس حركة المقاومة الإسلامية في لبنان(1). ويشتمل الإهتمام على دراسة تيّارات النهوض الإسلامي وجذورها العقدية والفقهية والتاريخية، ورموزها وأهدافها، والقواعد الفكرية السياسية والفكرية التي تشكّل بعضها دوافع لتأسيس تيّارات الصحوة والنهوض الإسلامي. فخلال الثمانينات تأسست في الغرب مئات المراكز واللجان والمجموعات البحثية لدراسة الصحوة الإسلامية الجديدة، وصدرت آلاف الكتب والبحوث والمقالات في هذا المجال. وقد ذكرت بعض المصادر أن وكالة المخابرات الأمريكية (C.I.A) موّلت خلال عام 1983 أكثر من (120) مؤتمراً وندوة لدراسة (ظاهرة) الصحوة الإسلامية وجذورها(2).

ومنطلقنا هنا في تقويم الوعي الغربي بالإسلام والمسلمين وفهمه وتفكيك عناصره، ليس ردود الفعل تجاهه، أو وعي التناقض المسبق مع معاييره، بل المنطلق هو تكوين وعي موضوعي به، من خلال استقراء اتجاهات أكبر عدد ممكن من التيّارات والرموز التي تمثّل العقل الغربي. فالنظرة الواقعية للغرب ولبناه العقلية والفكرية والاجتماعية، ليست نظرة ستاتيكية ذات أحكام جاهزة وفي إطار إتجاه فكري وثقافي محدد، كما هو الحال مع النظرة الغربية للإسلام والمسلمين وعموم الشرق، وإن كانت هناك بعض الثوابت في هذا المجال، والتي يحاول بعض المفكّرين المسلمين تحويلها إلى بنية فكرية في مقابل الاستشراق، أطلقوا عليها عنوان: «الاستغراب»(3).

يقف فهمنا الواقعي لوعي الغرب بنا على دعامتين:

1- وعينا بذاتنا وعياً موضوعياً، والذي يتضمّن اكتشاف هذه الذات والعودة إليها وإعادة إنتاجها.

2- وعينا المستقل لبنية العقل الغربي ومعاييره في فهمنا وتقويمنا.

ويشتمل هذا الفهم على قواعد الوعي الغربي وخلفياته وأهدافه، إضافة إلى الوعي اللاهوتي السلطوي والاستشراقي والاستعماري، ومعاييره ومناهجه، وأساليبه وإفرازاته؛ إذ أن العقل الغربي الذي ينتج هذا الوعي المتجدد بالإسلام والمسلمين والصحوة الإسلامية ومظاهر الصعود الإسلامي، ليس أحادي العامل، بل يتشكل من أربعة عناصر أساسية، متمازجة ومتشابكة في نشأتها وتأثيراتها المتبادلة، هي: لاهوت السلطة والخطاب الاستشراقي والنزعة الإستكبارية وفكر النهضة الاوروبية:

1-لاهوت السلطة:

تأسس التحالف بين سلطة الدولة المطلقة والسلطة الدينية المسيحية في أوروبا، على يد الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول (272 ـــ 337 م)، خلال انعقاد المجمع المسكوني المسيحي الأول في روما (305 م)، أي بعد ثلاثة قرون من ميلاد عيسى المسيح، وهو تحالف تخادمي بين سلطة الإمبراطور وسلطة الكهنة، وقد نقل المسيحية الروحية الناصرية التي جاء بها السيد المسيح، الى مسيحية سلطوية، عنوانها "لاهوت السلطة"، وهو اللاهوت الجديد الذي حوّل الإمبراطور الروماني قسطنطين الى قدّيس، له الحق في نشر المسيحية الجديدة (القسطنطينية) واحتلال أراضي الغير واستعباد الشعوب، وفرض الدين الجديد عليها بالذبح والسيف، باسم الرب والمسيح والصليب. وقد اختلف هذا اللاهوت اختلافاً بنيوياً عن المسيحية العيسوية التي كانت السائدة آنذاك؛ فالأولى هي المسيحية الروحية الأخلاقية الاجتماعية، الخالية من التشريع ومن النظم السياسية والاقتصادية، والثانية هي المنظومة المسيحية السلطوية الإستعمارية، التي نشرت المسيحية في اوروبا والعالم بالسيف والقهر، وهي التي أسست لنظام الاستبداد الديني الكنيسي.

لقد تبلور لاهوت السلطة الأوروبية من خلطة عجيبة، جمعت بين:

1- تعاليم روحية أخلاقية بشّر بها النبي عيسى المسيح.

2- عقيدة أسسها بولس (5- 67 م)، الذي يعد المؤسس الحقيقي للعقيدة المسيحية، التي تتمحور حول شخصية السيد المسيح حصراً. وتمكن بولس، عبر هذه العقيدة، من تحويل التعاليم المسيحية من انشقاق ديني يهودي الى ديانة مستقلة على أرض الواقع. مع الإشارة الى أن بولس هو يهودي روماني أصلاً، وكان يضطهد المسيحيين الأوائل بعد عروج السيد المسيح، ثم زعم أنه رأى نور السيد المسيح في الطريق، وطلب منه الإيمان به، وأن يصبح رسوله الى العالم، لذلك أسمى نفسه بولس الرسول.

3- شريعة يهودية توراتية، لأن السيد المسيح لم ينشىء شريعة مستقلة عن الشريعة اليهودية، لذلك فإن المسيحيين الأوائل اعتمدوا التوراة ككتاب عقيدة وتشريع وتاريخ، وعدّوه العهد القديم، مقابل الإنجيل الذي يمثل العهد الجديد.

4- أنساق فلسفية يونانية، أغلبها إفلاطونية.

5- عرفان غنوصي.

6- مثيولوجيا وثنية رومانية.

7- ايديولوجيا سلطوية استعمارية أسسها الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول، الذي كان ذو طموحات سياسية إمبراطورية توسعية لاتنتهي، ولم يكن يعنيه الجانب الديني، بقدر ما يحقق له طموحاته.

ويعد تأسيس الديانة المسيحية الجديدة على يد قسطنطين، التأسيس الثالث للمسيحية، بعد التأسيس الأول على يد النبي عيسى المسيح ثم التأسيس الثاني على يد بولس الرسول. وقد فرضت هذه الديانة الجديدة على أوروبا، عصوراً مظلمة قاسية من التخلف والمرض والجوع والاستبداد والحروب والانكسارات، عرفت بــ "العصور الوسطى"، لأنها ديانة تركيبية متحولة وافدة لا تنتمي إلى أوروبا في الجذور الاجتماعية، ولأنها باتت سلطة قمع للعقل والعلم والمعرفة والكلمة وإرادة الإنسان، وأداة سلطوية استكبارية، نجحت في تأسيس امبراطورية استعمارية رومانية مترامية الأطراف، بعد أن استولت على أراضي الشعوب وخيراتها، واستعبدتها، وفرضت عليها المسيحية القسطنطينية. ولذلك؛ لاتوجد ايديدلوجية دينية على مر التاريخ، انتشرت بالسيف والقهر، كما انتشرت المسيحية القسطنطينية، بل أن هذه الايديولوجيا قمعت مسيحيي الشرق الأصلاء، وذبحتهم، ودمّرت كنائسهم، وفرضت عليهم اتّباع المسيحية الأوربية. وبمراجعة سريعة لما فعلته الجيوش المسيحية القسطنطينية الرومانية بمسيحيي مصر وفلسطين والشام؛ يتبين مدى تعارضها البنيوي مع المسيحية الأصيلة ومع تعاليم السيد المسيح.

وما لبثت المسيحية الرومانية المتحولة أن انتشرت في جميع البلدان الأوروبية، ثم سار على نهج قسطنطين جميع أباطرة الغرب من بعده، وباتت المسيحية ديانة أوروبية، ليس في نكهتها العامة، بل حتى في جوهرها؛ فحين اعتنق الملوك والأمراء الأوروبيين الديانة المسيحية البولسية القسطنطينية، فإنهم حوّلوها أيضاً الى ديانة أوروبية داعمة لامبراطورياتهم وملكياتهم وإقطاعياتهم، ومشرعِنة لها دينياً، أي أنهم أخضعوا المسيحية للنظام الإجتماعي السياسي السائد في أوربا؛ إذ لم تؤثر المسيحية الأصلية في واقعهم الروحي والأخلاقي والاجتماعي، بل استحال السيد المسيح نفسه أميراً أو فيلسوفاً إغريقياً ورومانياً وجرمانياً وانجلوسكسونياً في شكله وهيئته التي تصورها التماثيل واللوحات الأوروبية القديمة، والأفلام السينمائية الحديثة، فالمسيح الأوروبي رشيق طويل، أبيض البشرة، أزرق العينين، أشقر الشعر، صغير الفم، إغريقي الأنف، وهي مواصفات لاتنطبق بتاتاُ على سكان فلسطين من الكنعانيين والعبرانيين والسريان وغيرهم.

ثم حمل القساوسة الأوروبيون المستعمرون، ديانتهم هذه، الى أفريقيا والأمريكتين واستراليا وشرق آسيا، برفقة القوات المسلحة الإستعمارية البرتغالية والإسبانية والفرنسية والبريطانية والبلجيكية والأمريكية والهولندية، وحينها لم تقتصر الديانة المسيحية الأوروبية على كونها ديانة أوروبية سلطوية، بل باتت ركيزة أساسية من ركائز الإستعمار الأوروبي للبلدان الأخرى، وكثير منها بلدان إسلامية أو تسكنها كثرة سكانية مسلمة. وكان المستعمرون الأوربيون ينظرون الى هذه الشعوب باعتبارهم كفاراً وعبيداً لهم، بوصفهم شعب الله المختار، كما تؤكد التعاليم التوراتية والتلمودية التي ضمّتها المسيحية القسطنطينية الى لاهوتها السلطوي. وهنا يكمن تحديداً العنصر الاول في الوعي الغربي بالإسلام والمسلمين.

وقد بدأ التمرد الأوروبي على المسيحية القسطنطينية الرومانية يبرز تدريجياً خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، متخذاً أشكالاً فكرية أحياناً وقانونية أخرى وسياسية ثالثة وعلمية رابعة، مناهضةً لسلطة التابوهات اللاهوتية السلطوية، الكنيسية والثيوقراطيات الملكية المتحالفة معها، حتى استحال هذا التمرد صراعاً مستداماً بين سلطتي الكنيسة والحكم المطلق من جهة، والنخب الأوروبية العلمانية المتطلعة الى النهوض والبناء والتغيير من جهة أخرى، حتى أنتج هذا الصراع نهضةً شاملة خلال القرن الثامن عشر، عرفت بعصر التنوير وعصر النهضة الأوربية. وكانت العلمانية (Secularism / Laicite)، هي عنوان هذا العصر، والتي تعني باختصار "الدنيوية" وفصل الشريعة الدينية والمؤسسة الدينية عن الشأن الدنيوي، وخاصة مايرتبط بالدولة والحكم والتشريع، أو بكلمة أدق فصل سلطات الدولة ونظامها السياسي وتشريعاتها عن التشريعات الكنيسية، ومنع الكنيسة من أي تدخل في شؤون الدولة، بما في ذلك الشؤون القانونية والسياسية والافتصادية والعسكرية، واعتبار التشريع وإدارة الدولة وسلطاتها شأناً بشرياً محضاً لاعلاقة للاهوت به.

وقد أدخلت النخب الأوروبية العلمانية على معادلات الصراع هذه؛ عناصر قوة جديدة تتمثل في مخرجات التطور الفكري الميداني التراكمي، وأهمها: العقلانية المنهجية، والتجريبية العلمية، والديمقراطية السياسية والتشريعية، والليبرالية الاجتماعية والاقتصادية. وهي المذاهب التي تحولت الى نظم قائمة، قنّنت كل مجالات الفصل بين الدين والدنيا، وبين الكنيسة والدولة، وكانت بمجموعها أدوات تدمير للتخلف والاستبداد الثيوقراطي، بشقيه المتحالفين: السياسي (الدولة) والديني ( الكنيسة).

وهنا؛ يمكن القول بأن النهضة العلمانية الأوربية، قضت على ثلاثة عشر قرناً من الهيمنة المطلقة للمسيحية الأوروبية القسطنطينية، وأعادت المسيحية الروحية الاجتماعية نسبياً الى جذورها الفلسطينية، كما أعادت أوروبا نسبياً الى جذورها الالحادية العلمانية. وبكلمة أخرى؛ فإن عصر التنوير والنهضة الأوروبية، لم يكن ثورة على دين عيسى الأخلاقي، ولا على الدين بشكل عام، بل على السلطة الثيوقراطية الاستبدادية المتمثلة بسلطة المؤسسة المسيحية الأوروبية القسطنطينية.

إلّا أن المفارقة الكبرى تكمن في احتفاظ العقل الأوروبي العلماني النهضوي بعنصر لاهوت السلطة في نظرته للآخر ولأراضيه ومقداراته، سواء كان مسلماً أو وثنياً، رغم التحول البنبوي في العقل الأوروبي بعد تحوله الى العلمانية، وإسقاط تحالف لاهوت السلطة بين سلطة الكنيسة وسلطة الملك؛ إذ بقيت الحملات العسكرية الأوروبية تصطحب معها ممثلي الكنيسة والإرساليات والمبشرين القساوسة، وتدعمهم بقوة السلاح لفرض المسيحية على الشعوب المحتلة، أو للحصول على الشرعية الدينية في احتلال أراضي الغير ونهب ثروات الشعوب واستعبادها. وكان المحتل الأوروبي يعد العامل الديني هو عامل بقاء مستدام لاحتلاله؛ فإذا اعتنقت الشعوب المحتلة الديانة المسيحية؛ فإن الاوربيون سيضمنون ولاء هذه الشعوب لها، بفعل المشترك الديني، ولأن السيد المسيح هو الذي شرعن لهذا الاحتلال والاستعباد!(4).

2-الخطاب الاستشراقي:

شكّلت الخلفية الاستشراقية الفكرية عنصراً مهماً في تشكيل وعي العقل الغربي بالإسلام والمسلمين. ورغم أن ظاهر الخطاب الاستشراقي ودوافعه، ظل يتمحور حول محاولة فهم الإسلام واتجاهاته الفكرية والمذهبية، وانعكاسات ذلك في حركة الواقع، إلّا أنه كان ولايزال يعطي للدول الغربية والمجتمعات الغربية فهماً شبه دقيق لواقع المسلمين وطرائق تفكيرهم وأساليب اختراقهم والسيطرة عليهم، كما يحدد - بأسلوب مباشر أو غير مباشر - النظم السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي ينبغي على البلدان الإسلامية أن تطبقها، أي أن الخطاب الاستشراقي تقدم فهماً لما يحتاجه الغرب في كل مرحلة. وكان ملفتاً أن الخطاب الاستشراقي عمل بكل ثقله بعد العام 1979 على الدخول إلى عمق البنية الإسلامية لفهم ما تستبطنه من تعاليم وأصول تشكّل الدوافع والدعائم لحراك الاستقلال الشامل والصحوة والنهوض، واستشراف مستقبل هذا الحراك واكتشاف احتمالاته، ومحاولة التحكّم ببدائله.

والاستشراق هو خطاب وبنية فكرية، وليس مجرّد أعمال وبحوث وتقارير أكاديمية، وإن كانت هذه الأعمال هي التعبير الخارجي عن ذلك الخطاب؛ إذ يعرفه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد بقوله: ((الاستشراق أسلوب غربي للسيطرة على الشرق، واستبنائه (إعادة تشكيله)، وامتلاك السيادة عليه. أي إعادة إنتاج الشرق سياسياً، واجتماعياً، وعسكرياً، وعقائدياً وتخيلياً في مرحلة ما بعد النهضة))(5)، ما يعني أن الإستشراق ـــ غالباً ـــ يمثّل سلطة فكرية علوية أو أداة فكرية استعمارية، هدفها السيطرة وإعادة البناء، ولذلك؛ كانت قوى الاستعمار القديم والحديث، ولا سيما فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، وراء تشكيل حقل الدراسات الاستشراقية الغربية، كامتداد للوعي الكنيسي بالإسلام والمسلمين.

وتتميز أغلب الدراسات الاستشراقية الأولى بالهجوم المباشر على الإسلام وعقيدته ورموزه من منطلق ديني ينسجم مع قواعد لاهوت السلطة. أما الدراسات التي تلتها، ولا سيما في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين والعقود الأولى من القرن الماضي؛ فكانت تمارس الدور نفسه، ولكن تحت غطاء أكاديمي وعلمي. وهذه الدراسات - بالخصوص - هي التي شكًلت الوعي الغربي بالشرق والإسلام والمسلمين(6). وتذكر بعض الاحصاءات أن الفترة بين عاميْ 1800 - 1950م، أي خلال قرن ونصف القرن، أفرزت (60) ألف كتاب ودراسة في الغرب، عن الشرق، بما فيه المنطقة الإسلامية. وهذا ما يشير بوضوح إلى هيمنة العقل الاستشراقي في الغرب وقوته وسعته، وفي الوقت نفسه، تؤكد أهمية الشرق للغرب كـ«مَعْجَبة»، كما يصطلح عليه الروائي الفرنسي «فلوبير»(7).

وكما هو واضح من النتاجات الحديثة؛ فإن الكاتب الغربي أو المستشرق الجديد، يفكر - عادة - بعقلية استشراقية ذات بنية جاهزة، أسسها المستشرقون السلف الأكثر تأثيراً في خطاب الاستشراق أمثال: الإنجليزي «وليم لين». والفرنسيين «دي ساسي»، و«راينهارت دوزي» و«ارنست رينان» خلال القرن التاسع عشر الميلادي، إضافة إلى مساهمة الروائيين الفرنسيين «فلوبير» و«دو لامارتين»، وكذلك من جاء بعدهم من المستشرقين الإنجليز والفرنسيين والألمان والأمريكيين وغيرهم، والذين شكّلوا بنية خطاب الإستشراق الغربي الحديث، خلال النصف الأول من القرن الماضي، وأبرزهم: «هاملتون جيب»، «لويس ماسينيون»، «فلهاوزن»، «غولد سهير» و«دنكن مكدونالد»، و«مرجليوث». كما كان لجهود بعض السياسيين الغربيين كـ«بنيامين دزرائيلي» و«كرومر» و«جيمس بلفور» و«لورانس» أثر بارز في هذا المجال.

وفي النتيجة؛ فإن الخطاب الاستشراقي ساهم مساهمة أساسية في تشكيل الوعي الغربي الثابت بالشرق وبالإسلام، وقلّما تمكّن كاتب غربي معاصر من الإفلات منه؛ لأنه يمثّل جزءاً من وعي الذات الغربية، رغم أن بعضهم يدّعي منهجاً جديداً في الدراسات الإنسانية ينسجم مع الفكر الليبرالي الحديث، في مقابل الفكر الأصولي الغربي الحديث، إلا أن الدراسات الأكاديمية الاستشراقية غالباً ما تكون أصولية، أي إنها تعيد إنتاج البنى والأفكار نفسها، وفقاً لمتغيرات وأحداث المرحلة الجديدة(8).

3- النزعة الاستكبارية الاستعمارية:

بدأت النزعة الاستكبارية الأوروبية الحديثة بالظهور خلال القرن الخامس عشر الميلادي، بالتزامن مع الحملات الاستكشافية العسكرية لقارتي أمريكا (قبل أن يتسميا بهذا الاسم) وأفريقيا والبلدان الإسلامية وشرق آسيا، وهي نزعة قديمة، تمثل امتداداً للنزعة الرومانية والاغريقية، وخاصة النزعة الاستكبارية المشرعنة بلاهوت السلطة المسيحية.

وكما ذكرنا؛ فإن دول أوروبا العلمانية الديمقراطية الليبرالية الناهضة، التي أسقطت تحالف لاهوت السلطة؛ لم تتخل عن النزعة الاستكبارية القسطنطينية اللاهوتية، التي تتضمن استخدام الديانة المسيحية كداعم استعماري، بل احتفظت بهما معاً، واكتفت بالفصل بينهما فقط؛ إذ سلبت من الكنيسة حق تدخلها بشؤون الدولة، وصادرت سلطتها التشريعية والسياسية، لکنها احتفظت لنفسها بمنافع المسيحية والتبشير المسيحي كسلطة روحية، لتستمر في استخدامها كركيزة استعمارية ضد الشعوب التي تحتلها، وهي مفارقة أوروبية أخرى؛ إذ لم يرض الأوروبيون العلمانيون التنويريون لأنفسهم أن تكون الديانة المسيحية سلطة معرفية وسياسية عليهم، لكنهم فرضوها بالقوة على الشعوب المحتلة، كجزء من سلطة المستعمر.

لذلك؛ كانت الدولة الفرنسية التي تأسست بعد الثورة الفرنسية وأسست للنظام الديمقراطي الغربي ولمنظومة الحقوق والحريات الليبرالية، كانت الى جانب الدولة الليبرالية الديمقراطية البريطانية؛ أكثر الدول توسعاً استعمارياً، واحتلالاً لأراضي الغير، واستعباداً للشعوب، ونهباً لثرواتها. وكانت الإمبراطوريتان العلمانيتان الفرنسية والبريطانية تصطحبان المبشرين المسيحيين في كل حملاتهما الاستعمارية، وتدعمان تأسيس الإرساليات التبشيرية، وتؤسسان الكنائس والمؤسسات الكهنوتية في البلدان المحتلة، لأنهما كانتا مقتنعتين بأن اخضاع الشعوب المحتلة المستعبدة لسلطاتهما، لايستتب إلّا باتباع هذه الشعوب لدين المحتل وايديولوجيته(9).

4- فكر النهضة الاوروبية:

لم تكتف جيوش الاحتلال العلماني الأوروبي، وخاصة البريطاني والفرنسي، ثم الأمريكي، بفرض دينها المسيحي على الشعوب المحتلة، كما مر، بل أرغمتها أيضاً على اعتناق العقيدة العلمانية الغربية بجذورها الوثنية الأوربية؛ فكانت المسيحية الأوروبية، بنسختها الروحية الجديدة، والعلمانية الأوروبية بثوبها الليبرالي الديمقراطي، هما القاعدتان الايديولوجيتان اللتان تمكّن الاستعمار الغربي من خلالهما فرض وجوده ومصالحه على الشعوب الأخرى، حتى بعد خروج جيوشه وسلطاته المباشرة من البلدان المحتلة، ومنحه استقلالها الشكلي، أي أن العلمانية كانت ولاتزال أهم قاعدة للاحتلال الفكري والسياسي والاقتصادي الغربي المستدام لبلاد المسلمين.

وكانت نتيجة هذا المنهج الاستعماري، القوي في بنائه؛ ظهور نخب سياسية وثقافية عميلة فكرياً، ومشبعة بأدبيات المحتل ومفاهيمه ومصطلحاته ولغته، لكنه تشبعٌ قشري سطحي، لا يرقى الى فكر الاستقلال السياسي والاقتصادي الغربي، ولا الى النهضة العلمية والتكنولوجية الغربية، لأن الغرب فرض أدبياته ومفاهيمه الفكرية والسياسية على هذه النخب، وسلبها إرادة الاستقلال والنمو والتطوير الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي. وهكذا ظل بناء السلطة، والتمسك بها، هو الهمّ الأساس للنخب العلمانية المحلية في البلدان العربية والمسلمة، سواء كانت في السلطة أو في المعارضة، العسكرية منها والمدنية، وليس همها بناء الدولة ونظامها السياسي وسلطاتها، واقتصادها وتعليمها ووسائل استثمار ثرواتها. كما قامت سياسات هذه النخب في بناء السلطة، على محاربة الإسلام وشريعته، وليس على ما يفرزه الواقع الاجتماعي للشعب وقاعدته الدينية، لأن الاستعمار الغربي زرع في عقول هذه النخب بأن مشكلة بناء الدولة والتطور الاجتماعي والاقتصادي والعلمي هو الدين وتشريعاته، ويجب التخلص من هذه التشريعات المتخلفة الرجعية التي تعيق كل أنواع التطور والتقدم، أسوة بما فعلته النخب الغربية حين تخلصت من هيمنة الدين خلال عصر النهضة والتنوير.

ولعل من أهم أسباب نفوذ العلمانية والليبرالية الى مجتمعات المسلمين: احتكاك النخب المحلية بالغرب والانبهار بانجازاته المادية، واليأس من الحلول المحلية للاستبداد السياسي، والتخلف بكل تمظهراته العلمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية. هذه الأسباب دفعت بعض المثقفين والسياسين العرب والمسلمين الى البحث عن علاجات وأفكار نقدية للواقع، فوجد قسم منهم في الماركسية أو القومية العنصرية أو العلمانية والليبرالية، دواءً لأمراض المجتمعات العربية والمسلمة، هذا فيما لو أحسنا الظن بهذه النخب، وأنهم لم يكونوا عملاء فكريين وسياسيين للغرب والشرق. بيد أن هذه المستحضرات الدوائية الفكرية الاجتماعية، لم تكن لتصلح لكل بيئة، بل ثبت أن استخدامها خارج بيئتها الغربية، وخاصة بهدف مواجهة الإسلام وشريعته، تؤدي الى مضاعفات خطيرة، لأنها مادة فكرية وايديولوجية اجتماعية، وليس كأدوية الطب وعلوم الهندسة والزراعة والصناعة، والتي يمكن استخدامها في كل مكان وعلى كل البشر، بصرف النظر عن نوعية الدين والعرف، وهو ما لا يمكن تعيمه على الأفكار والمذاهب الاجتماعية والسياسية والنظم القانونية، لأن هذه الفلسفات والأفكار تتعرض تعارضاً عميقاً مع الإسلام وشريعته، ومع الأعراف والبنى الاجتماعية للمسلمين.

هذا فضلاً عن أن العلمانية والرأسمالية والليبرالية هي القواعد التي قام عليها الإستعمار بكل ألوانه، فالعلمانية بعد أن طردت الدين من الحياة والدولة والقانون، فإنها توجهت لاحتلال أراضي الغير واستعباد الشعوب، بحثاً عن الموارد الخام والمواد الطبيعية وأسواق جديدة. أما الليبرالية فهي الايديولوجيا الاجتماعية التي بررت للغرب المستعمر الغازي كل أنواع الغزو الثقافي والفكري للمجتمعات الغربية والمسلمة، وفرض الحكام العملاء والدعاية للمثقفين التغريبيين.

وربما كان من حسن حظ الاستعمار الغربي وسوء حظ الشعوب المسلمة؛ إن عطش النخب العلمانية المحلية الى السلطة وصراعاتها عليها، واندفاعها للتعبير عن عمالتها السياسية للغرب، وكذا اندفاع النخب الثقافية باتجاه التعبير عن عمالتها الفكرية للغرب، وانبهارها بتطوره العسكري والعلمي والتكنولوجي؛ قد راكم من أميّتها الفكرية، بحيث لم تلتفت الى الفرق الهائل بين الدين الإسلامي وبين الدين المسيحي، بنسختيه الروحية والسلطوية، بل وعدم الالتفات الى خديعة التعميم العلماني الغربي لمفهوم الدين. وفي المقابل؛ لعب التفوق الغربي في جانب المكر والخديعة، وفي الجانب العسكري والاستخباري؛ دوراً أساساً في تمرير هذا الفهم الغربي للدين.

أما "العلمانية المستوطنة"(10)؛ فنقصد بها العقيدة العلمانية المترجمة أو الممنتجة في البلدان الأخرى غير الغربية، أي أنها العلمانية الأوروبية نفسها، ولكنها الصيغة التي استخدمها الأوروبيون كجزء من عناصر الاستعمار القديم والحديث، لترافق جيوش الاحتلال الأوروبي العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي، في حملاتها وغزواتها، ويتم توطينها في البيئات المحتلة الجديدة، وخاصة البيئات المستعمَرة العربية والمسلمة، وفرضها أمراً واقعاً فكرياً وقانونياً واجتماعياُ وسياسياً واقتصادياً، بمساعدة عملاء المحتل المخابراتيين والسياسيين والثقافيين، وكذا النخب الثقافية المنبهرة بالتطور العلمي والاقتصادي والسياسي الغربي، وأغلبهم ممن سافر الى أوروبا أو درس فيها، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الاول من القرن العشرين. أي إن العلمانية المستوطنة هي علمانية غير موضوعية وغير واقعية، لأنها سلعة مصدرة قسراً من أوروبا، ومفروضة بالقوة على البلدان العربية والإسلامية، بصورة مونتاج معرفي، أو نتاج مترجم أو معرّب.

وقد ساهمت أنظمة الاستبداد والتخلف والفساد في البلدان العربية والمسلمة، ولا سيما في الدولتين المستقلتين الأكبر حينها، العثمانية والقاجارية، في خلق الذرائع والمسوغات لعلمانيي البيئة العربية والإسلامية، لطرح العقيدة العلمانية كدين جديد منقذ من كل أنواع الاستبداد السياسي والديني، والتخلف العلمي والمعرفي والاجتماعي، والجوع والفقر والفساد الاقتصادي. وبالتالي؛ تعاضدت أضلاع مثلث: الإستعمار، والنخب العلمانية المحلية، وأنظمة الحكم المحلية، على توطين العلمانية الأوروبية في البلدان العربية والمسلمة، ومحاولة إعادة انتاجها بصيغ هجينة، لتتلاءم مع البيئات المحلية.

وللعلمانية الأوروبية تجليات متعارضة أحياناً، فهناك العلمانية المقترنة بفلسفة الإلحاد، كالوجودية، والعلمانية المقترنة بالإلحاد والمتعارضة مع الليبرالية، كالماركسية (الشيوعية) والاشتراكية، والعلمانية المقترنة بالليبرالية وأصالة الفرد، وهي العلمانية الغربية القائمة حالياً، والعلمانية بثوبها القومي الشوفيني، وهي ايديولوجيا تقوم على التمييز العرقي. ولا يعنينا هنا القواعد التفصيلية لهذه المذاهب الفكرية، بل ما يجمعها من قاسم مشترك، يتلخص في رفض أية علاقة للدين ومؤسسته بالدولة وسلطاتها وتشريعاتها. كما لا تعنينا المناخات الأوربية التي انتجت العقيدة العلمانية، بل محور بحثنا يدور حول موضوع العلمانية في البلدان العربية والإسلامية، والتي أسميناها "العلمانية المستوطنة"(11).

معايير وعي الغرب بالإسلام

يمكن القول إن الخلل الجوهري في فكر الغرب وثقافته، يكمن في التباين والتناقض بين معاييره النقدية التقويمية في وعي ذاته، ومعاييره المتعصبة الأصولية في وعي الآخر، أي أن الغرب لا يريد أن يفهم الإسلام كما هو، بل كما يريد أن يكون المسلمون عليه. وربما هناك عدد قليل جداً من الدراسات الغربية(12) احتوت على فهم قريب من الواقع للإسلام كنظام شامل للحياة، حيث مكّنها ذلك من وعي دوافع تيّارات الصحوة والنهوض وأسسها الفكرية، وذلك من خلال منهج آخر، انتقدت فيه المنهج الغربي السائد في الدراسات السسيولوجية للظواهر الاجتماعية، ومنها ظواهر النهوض الإسلامي. ورغم ذلك؛ فإن هذه الدراسات المستقلة في دوافعها، سارت بالاتجاه نفسه، لأنها اضطرت لاستخدام المعادلات والمصطلحات ذاتها في التحليل والاستنتاج.

وبشكل عام؛ يمكن استخلاص أهم خصائص ومعايير الوعي الغربي بالإسلام، كما يلي:

1- إنها تحاول فهم الإسلام من خلال المسلمين، أو من خلال الظواهر الخارجية للمجتمع وليس العكس.

2- تقويم حراك النهوض الإسلامي من خلال الرؤية الغربية نفسها، وليس من وجهة النظر الإسلامية، أو من وجهة نظر تيّارات النهضة.

3- إن وعي الغرب بحراك النهوض الإسلامي ليس وعياً مستقّلاً بوجود مستقل، بل هو جزء من وعي الغرب بذاته، لأن الشرق، وخاصة المسلمين، يمثّل «الآخر» بالنسبة لـ«الذات»، أي الغرب، و«التمثيل» بالنسبة «للحقيقة»، و«الأطراف» لـ«المركز»، وإن هذا «الآخر» الخارجي هو امتداد لعناصر الخارج في نظام «ميشيل فوكو»، وهي: الانحراف والشذوذ والجنون(13).

4- إن الشرق (الناقص الضعيف!) لا يمكنه وعي ذاته وعياً حقيقياً إلا من خلال وعي الغرب لها.

5- الرؤية الغربية تقتطع حراك النهضة الإسلامية الحديثة من سياقها التاريخي، وتدرسها كظاهرة ضمن مرحلتها الزمنية فقط، أما الخلفيات والأبعاد التاريخية والعقائدية؛ فإنها تستعيرها جاهزة من لاهوت السلطة والخطاب الاستشراقي.

6- أنها تعتمد النظريات الغربية الجاهزة في علم الاجتماع وعلم الاجتماع السياسي، كنظرية «أريكسون» في الشخصية والقيادة الدينية، أو نظرية «ماكس فيبر» في قدرة القيادة الكاريزمية (الملهمة)، فضلاً عن آراء فلاسفة اجتماعيين آخرين أمثال «ماركس» و«دوركهيم» و«برغر»، الذين يؤكدون على أن منطلق الالتزام الديني وزيادته، هو الحرمان الاجتماعي والاقتصادي. ثم تُخضع الحراكات الإسلامية للتقنيات المنهجية لهذه النظريات (حسابات وإحصاءات ورسوم بيانية).

هذه الخصائص والمعايير تجعل العقل الغربي متخبّطاً في معلوماته وتحليلاته ونتائجه، بالنظر لوعيه الذاتي بالإسلام ومرتكزات النهضة فيه، وبدوافع تيارات النهوض الإسلامي الجديد وأسسها العقدية والفكرية، وعلى حد تعبير أحد الكتّاب الغربيين: إن ما نعرفه عن هذه الجماعات أقل مما لا نعرفه، والذي نعرفه وصلنا مشوّهاً ومرتبكاً(14)، هذا إضافة إلى المنهج المنحاز في التفكير، وعدم الموضوعية في استنباط النتائج. ويطلق «روجيه غارودي» على هذا الوعي أو الرؤية تسمية «الأصولية الغربية اللاواعية والمميتة»، التي تُستخدم كمسوّغ ايديولوجي لكل تجاوزات الاستعمار(15). في حين يصف باحث آخر العقل الغربي الاستشراقي، بأنه العقل الذي يعتبر الغرب الحقيقة والمركز والقوة، ويصور الشرق تصوراً استعمارياً عرقياً وفوقياً(16).

وبالتالي؛ فالوعي الغربي بالاسلام والمسلمين والحركات الإسلامية هو وعي استعماري سلبي مرعب، شكله القساوسة والمستشرقون، ويغذّيه الباحثون الأكاديميون، وتنشره وسائل الإعلام ضمن إيحاءات نفسية سلبية، وتستثمره السلطات العسكرية والسياسية والاقتصادية. أي أن مظاهر الوعي الغربي هذا تمثّل الإفرازات الخارجية لوعي الغرب الايديولوجي بذاته وبالآخر ، وطبيعة تعامله السلطوي مع مفرداته، وفي مقدمتها الإنسان المسلم ونهوضه الجديد. وفضلاً عن الأهداف الستراتيجية والتاريخية للغرب، والتي تمثل إرادة عقله ووعيه بإزالة أي عنصر للنهوض الإسلامي، وتدمير أي مستقبل مستقل ونام وناهض للمسلمين؛ فإن أهم الأهداف المرحلية لهذه الإرادة، والتي تنفذها الأنظمة الغربية عبر حملات الغزو الإعلامي والثقافي والتآمر السياسي والمخابراتي والحصار الاقتصادي والتهديدات العسكرية:

1- المحافظة على صورة مشوّهة عن الإسلام في العقل الغربي الشعبي، والحيلولة دون تأثّر سكان الغرب بالمد الإسلامي أو التدين (الأصولي) كما يسميه الخطاب الغربي.

2- تحميل الإسلام وزر ممارسات المسلمين وتخلفهم، بما في ذلك الممارسات الإرهابية لبعض التيارات المحسوبة على الإسلام، والتي ساهم الغرب نفسه في صناعتها، بهدف اتهام الإسلام بأنه يحمل في ذاته مكامن العنف والإرهاب، وأن الحركات الإسلامية المقاومة والنهضوية هي الوجه الآخر للجماعات الإرهابية تلك.

3- ملء ما يسمّى بمناطق الفراغ الفكري في المجتمعات الإسلامية، من خلال الترويج لمبادئ العلمانية والليبرالية والعقلانية بشكلها ومضمونها التقليديين في الغرب، كبديل فكري ومنهجي وتنظيمي للمسلمين.

4- دفع أنظمة البلدان الإسلامية، لتطبيق العلمانية الليبرالية وإلزاماتها الحقوقية والثقافية، مع إعطاء بعض الحريات وتجنب مظاهر القمع الاجتماعي، ورفع شعارات إسلامية (معتدلة)، كمحاولة لتقويض ما يسمونه بالنزوع الشعبي نحو الحركات الإسلامية كخيار سياسي وفكري.

5- إظهار (فشل) النماذج الإسلامية المعاصرة، كالجمهورية الإسلامية الإيرانية، والحركة الإسلامية العراقية، والمقاومة الإسلامية اللبنانية، والمقاومة الإسلامية الفلسطينية، وعدم صلاحيتها سياسياً وثقافياً واجتماعياً لحل مشكلات الإنسان المعاصر، بوصفها تمثل «الإسلام الأصولي»، وتقديم ما يسمى بــ «الإسلام المعتدل»، والذي عُرف بـ «الإسلام الامريكي»(17)، كبديل عنها.

المصطلح: أحد مظاهر وعي الغرب بالإسلام

من أهم مظاهر الوعي الغربي وإفرازاته، التسميات والمصطلحات التي يعرّف بها الواقع الإسلامي والحركات الإسلامية وتيارات النهوض، وهي مفاهيم تحمل فهماً مسبقاً وأحكاماً جاهزة لا تمت إلى الموضوعية والبحث العلمي بصلة، ويراد بها التعتيم على حقيقة الواقع الإسلامي وتشويهه. ووفق هذه القاعدة؛ فإن الدراسات الغربية تقسم المسلمين إلى ثنائيات متعارضة، تنسجم مع وعي الغرب بالظواهر والأحداث التي تمثل الآخر المختلف، وليس لهذه الثنائيات وجود عقدي إسلامي؛ فمثلاً تضع مصطلح «المسلم» في مقابل «الأصولي»، و«المتديّن» مقابل «المتعصّب» أو «المتطرّف»، و«الإسلام المعتدل» مقابل «الإسلام المتشدد».

كما تضع لكل مفردة أو مصطلح تعريفاً خاصاً، فالإسلام السياسي (political Islamic) هو الإسلام الذي لا يؤمن بالفصل بين العقيدة والسياسة، ويقف في صف المعارضة لاستلام السلطة. أما الإسلام الثوري (Revolutionary Islam) أو الراديكالي (Radical Islam) فهو الإسلام الذي يهيئ المجتمع لصنع ثورة في داخله تطيح بالبنى الوضعية التي يقف عليها، والإسلام الرسمي (Official Islam) هو الذي تتبناه الحكومات المحافظة أو العلمانية، ويرادف - غالباً - الإسلام التقليدي (Traditional Islam)، ويقابل الإسلام الشعبي (Popular Islam) الذي يتبناه الجمهور المؤمن بحركة النهوض الإسلامي.

وهناك مصطلحات أطلقت لتوصيف النهضة الإسلامية، كالغضب المقدس، الهياج الإسلامي، تيّار التشدد، ولكن مصطلح «الأصولية الإسلامية» (Islamic Fundamentalism) يبقى هو الأبرز على الإطلاق؛ إذ يؤكد الغربيون على أنه التعبير الأفضل، والأكثر انطباقاً على (الظاهرة!). ينسب هذا المصطلح إلى المفكر المسيحي الماركسي المصري أنور عبد الملك(18)، كان قد وضعه بالانجليزية كمرادف لمصطلح «السلفية»، ثم تبنّاه الغربيون فيما بعد. والملفت أن بعض الكتّاب والمثقّفين المسلمين، قد استعمل ذات المصطلحات التحريفية التي يصوغها الغرب، وتبنّاها كمسلمّات، ولعلّ أحد أسباب ذلك هو ضعف أدبيات الصحوة، فروجيه غارودي المسلم - كنموذج - يقول: «إن الأصوليات، كل الأصوليات، سواء أكانت تكنوقراطية، أم ستالينية، أم مسيحية، أم يهودية، أم إسلامية، تشكل اليوم الخطر الأكبر على المستقبل»(19) أي أنه يصنف الصحوة الإسلامية كأصولية، بل ويقرنها بالأصوليات الأخرى!

وبمراجعة سريعة لجذور المصطلح - بغض النظر عن مصاديقه - نجد أنه ينطوي على انحراف كبير في الفهم والتشخيص. فمعجم لاروس (الفرنسي) الصادر عام 1984 يعرّف الأصولية بأنها «موقف جمود وتصلّب». في حين تحدد الطبعة الصادرة عام 1979 الأصولية بـ«الأصولية الكاثوليكية» فقط. ومن هنا فالأصولية تعني لدى الغرب: الجمود، العودة إلى التراث والماضي، الانغلاق التحجر المذهبي، التعصّب، وكل ما هو مضاد للحداثة والمعاصرة والعلمية والانفتاح والاعتدال والتسامح والتطور والانماء والعقلانية.

والمدلول الآخر للأصولية هو الأقلية المنعزلة في المجتمع. يذكر أن المصطلح أطلق - بادئ الأمر - على حركة مسيحية بروتستانتية متعصبة ظهرت في أمريكا في بدايات القرن الماضي ويتميز أعضاء هذه الحركة - كما تشير قواميس اللغة والمعاجم الغربية - بالتعصب إلى حد الجهل، والتمسك الحرفي بالكتاب المقدّس، وأنهم أقلية منعزلة عن المجتمع. كما وضعت كلمة الكنيسة الأصولية في مقابل الكنيسة المعتدلة المتأثرة بالتجديد والعصرنة.

ويفهم من ذلك أن خلفية إطلاق الغرب مصطلح الأصولية على الصحوة الإسلامية تتمثّل في محاولة تقريب الصورة إلى ذهن المواطن الغربي، الذي يدرك جيداً ما تعنيه الأصولية المسيحية أولاً، وثانياً الإيحاء للذهنية الغربية التي تكره الأصولية المسيحية - غالباً - بخطورة الصحوة الإسلامية؛ لأنها وجه آخر للأصولية الكاثوليكية في أوروبا والأصولية البروتستانتية في أمريكا.

وفي الوقت نفسه، انتقد بعض الباحثين الغربيين - أمثال «لورانس بروك» - استعمال تعبير الأصولية، لعدم وجود دلالة لها في الفكر العربي. في حين فنّد معظم الباحثين والمستشرقين هذا الانتقاد؛ لأن التعبير - حسب ادعائهم - يكفيه أن له دلالة في العقل الغربي، الذي يفهم أن هذه (الظاهرة) هي أصولية وحسب، وذلك انطلاقاً من كون الحقيقة المطلقة لجميع الظواهر الاجتماعية والكونية، هي وعي العقل الغربي بالظاهرة، بل لدلالاتها التاريخية والفكرية، وتأكيدها البعد السياسي للإسلام أكثر من بعده الديني(20). وهذا الفهم - هو الآخر - فهم ناقص ومشوّه؛ لأن الأصولية، حسب المداليل السلبية الغربية الاصطلاحية، ليس لها ارتباط من قريب أو بعيد بالأصولية في مدلولها الإسلامي، فالأصوليون - حسب المدلول الاصطلاحي الإسلامي - هم المتخصصون بعلم أصول الفقه، أو أصحاب النزعة لاستخدام أصول الفقه في عملية الاستنباط الفقهي، في مقابل النزعة الإخبارية.

وفي السنوات الأخيرة بدأت الدراسات الغربية تعي ظواهر أخرى في مجتمعات المسلمين، غير ما تصطلح عليه بالأصولية الإسلامية والإسلام المحافظ، وأبرزها ظاهرة «إسلام النخبة»(21) أو «اليسار الإسلامي»(22)، أو «الإسلاميون الحداثّيون» (Islamic Modernists)، كتيّار وسط بين المتطرفين (Extremists) والتقليديين، وهؤلاء يتميزون بكونهم نخباً وجماعات تتصدى لقيادة المجتمع ثقافياً وفكرياً وليس سياسياً.

ويرجع بعض الكتّاب المسلمين - ربما عن حسن نيّة - سبب ظهور الأصولية في العالم الثالث إلى الأصولية الغربية، التي يعتبرونها العلة الأولى المتسببة في ولادة كل الأصوليات الأخرى، كردّ على أصولية الغرب، إذ إن «الأصولية في العالم الثالث ولدت جراء زعم الغرب، منذ النهضة فرض نموذجه الإنمائي والثقافي»(23). ومعنى ذلك أن الصحوة الإسلامية هي مجرد ردّ فعل ضد الأصولية الغربية. وهذا الزعم خاطئ هو الآخر، رغم محاولته تعرية ادّعاءات الغرب، وردّ تهمه إليه، لأنه يؤكد - في جانب منه - كون الغرب هو «المركز»، وهو مصدر التأثيرات، وما عداه «أطراف» ومتأثرون ليس إلاّ! فضلاً عن أنه ينفي الأصالة والعمق التاريخي والفكري والاجتماعي عن الصحوة.

وعي الغرب بالنهوض الإسلامي الجديد

ظل الحديث في الأوساط الفكرية والسياسية والاجتماعية، الغربية والإسلامية، عن مستقبل النهوض الإسلامي الجديد، وما سيؤول إليه وضع التيارات الإسلامية في المرحلة القادمة، يتزايد باطراد بمرور الزمن، منذ تحقيق انجازاته الأُولى خلال العام 1979. وتختلف نتائج المقاربات في هذا المجال، وفق المقدمات والأسس والمناهج الاستشرافية التي يستخدمها كل اتجاه في تحليله ومعالجته لهذه الموضوعة. وهناك ثلاث رؤى أساسية في هذا المجال، تمثل نتاج جهود بحثية واسعة، هي: الرؤية الغربية، رؤية العلمانيين في المنطقة الإسلامية والرؤية الإسلامية الذاتية. ولا شك أن كلاً من هذه الرؤى تشتمل على عدة رؤى فرعية، تختلف فيما بينها في كثير من التفاصيل، بل وفي الأسس والمناهج أحياناً، ولكن يبقى أن هناك قاسماً مشتركاً بين اتجاهات كل رؤية، يمكن أن نعتبره الإطار الفكري العام للرؤية:

1 - الرؤية الغربية:

تستند الرؤية الغربية - غالباً - في معالجتها وتحليلها لموضوع النهوض الإسلامي الجديد إلى نظريات علماء الاجتماع الغربيين، وخاصة الاثنولوجيا والانثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع الديني، وهي نظريات جاهزة ومفصّلة على مقام النظام الغربي ومناهج تفكيره، وهي نتاج وعي العقل الغربي بالإسلام والمسلمين وفق العناصر الأربعة التي تشكله.

والنتائج الأولية التي تقدمها هذه الرؤية تؤكد أن ظواهر النهوض الإسلامي الجديد بعد العام 1979 هي ظواهر طارئة وليست أصيلة أو متجذرة؛ إذ نشأت ردّ فعل على مجموعة من الأزمات الاجتماعية في بلاد المسلمين، أبرزها: أزمة الهوية الاجتماعية الدينية السياسية، أزمة شرعية الأنظمة الحاكمة، أزمة الثقافة والسلوك المجتمعي، الصراع الطبقي، الفقر، التخلف، الشعور بالتبعية للغرب، الأزمة النفسية، ضعف قيادة النخب الحاكمة المتغربة وسوء إدارتها. وبتعبير آخر، فإن الصحوة الإسلامية، على وفق ذلك، ليست ظاهرة حقيقية، وإنما تمثّل، وبرزت نتيجة لضغوط الغرب وهيمنته، وممارسات الأنظمة الحاكمة وتبعيتها وأساليب حكمها وممارساتها القمعية، وما نشأ جراء ذلك من أزمات اجتماعية، كما أن الظواهر النهضوية الإسلامية اللاحقة لقيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إنما هي محاولة للتشبّه بالنموذج الإيراني.

وبهذا التوصيف؛ بات بإمكان الرؤية الغربية أن تحدد مستقبل النهوض الإسلامي الجديد، وكأنه حتمية تاريخية؛ فهي حين تعتبر هذا النهوض مجرد ظاهرة اجتماعية محدودة ومنعزلة وغير أصيلة؛ فإنها ترفض أن يكون لهذه الظاهرة بنى حضارية وفكرية وسياسية واقتصادية حقيقية، تحقق لها الاستمرار والنمو والتمدد وتمثيل الشعب والإمساك بقرار الدولة، وبالتالي؛ فهي ظواهر ليس لها أي مستقبل، وزائلة بزوال أسبابها وعوامل ظهورها، وبانهيار نماذجها الناجحة الصاعدة.

ووفقاً لمناهج الدراسات المستقبلية؛ فإن البديل الذي تطرحه الرؤية الغربية، هو بديلها الذي تريده وتخطط له، وقد اختارته من بين مجموعة الاحتمالات، بهدف التحكّم به وبناء مقوماته المستقبلية، وهو الاسلام العلماني الليبرالي المدجن، أو مايسميه الغرب الإسلام المعتدل كما أشرنا. ويهدف الغرب من وراء إعلاناته المتكررة المركّزة عن رؤيته لمستقبل النهوض الإسلامي الجديد، ووصفها بالرؤية العلمية المتجردة، ومحاولة زرعها في عقول المسلمين ووعيهم، من خلال مختلف الأساليب والوسائل؛ يهدف إلى أن يفرض على المسلمين وعيه بذاتهم وجودهم ومستقبلهم، في محاولة قسرية لإعادة إنتاجهم واستحضارهم وتحديد مستقبلهم، على المستويين النظري والعملي. وجزء من هذا الوعي أن يشعر المسلم - دائماً - بالدونية والضعف، وعدم الثقة بالنفس والمستقبل، والهزيمة المستدامة تجاه الغرب وقيَمه ومعاييره وتفوقه الشامل. أي أن الغرب حين يضع المسلمين أمام الحتميات والخيارات والبدائل التي يفرضها؛ فإنه يقدر أن كثيراً من المسلمين سيتبنون خيارات الغرب، بوعي أو بدونه.

2 - رؤية العلمانيين في البلدان الإسلامية:

من نقطة الخيارات الغربية، ينطلق العلمانيّون في المنطقة الإسلامية، في تحديد رؤيتهم لمستقبل النهوض الإسلامي الجديد، لأنهم يعتمدون بدائل الغرب ومحدداته، ويستعيرون مناهجه في التفكير والتحليل والاستنتاج. ورغم أن هؤلاء يستندون في تكوين رؤيتهم إلى مقدمات أقرب للواقع من مقدمات الرؤية الغربية، إلا أنهم يخرجون بنتائج أكثر تطرفاً في عدم موضوعيتها، وأكثر بعداً عن الواقع من الرؤية الغربية. والسبب في ذلك يعود إلى أن علماني البلدان الإسلامية يعيشون الواقع الإسلامي من جهة، وأن مظاهر النهوض الإسلامي الجديد ومستقبلها يعنيهم بشكل مباشر من جهة أخرى، ولذلك؛ فإنهم يسقطون أمانيهم وطموحاتهم وأهدافهم على رؤيتهم؛ فتكون النتائج غير موضوعية إلزاماً وبعيدة عن الواقع.

وهذا النمط من العلمانيين هم أدوات الغرب في محاولة إعادة إنتاج الواقع الإسلامي، من خلال مشاريعهم الهادفة لعلمنة المجتمع، وفرض الأنماط الاجتماعية الغربية عليه. ويلاحظ أن بينهم من يحشر نفسه في زاوية دفع التهم التي يكيلها الغرب للمسلمين، لكنه يمارس عملية الدفاع بأساليب سلبية، وبثقافة وسلوك متغربين، وبما ينسجم مع خيارات الغرب وأطروحاته، وذلك نتيجة لحساسية العلماني المفرطة تجاه الاتهامات الغربية. وربما يرفض بعض العلمانيين الغرب السياسي أو الغرب المحتل والمستعمر، لكنه يندفع وراء التبلس بثقافة الغرب وسلوكه، لينتج ما يسمونه العلمانية الشرقية أو الليبرالية الشرقية بالعقلانية الشرقية أو المسلمة، لردّ تهمة لا عقلانية الشرق. أو تفصيل مفاهيم الحداثة والمعاصرة بلباس (مسلم)، لردّ تهمة التحجر والجمود وعدم التكيّف مع النمو والتطور، ويرفع لافتة «العلمانية» بقوة، ليقول بأن الغرب مخطئ حين يتهمنا بالتخلف الفكري، والفهم الطولي للواقع، والإيمان السطحي.

ويشترك الخطاب العلماني المحلي في البلاد الإسلامية مع الخطاب الغربي في ضرورة التخلص من التيارات الإسلامة وحراكاتها النهضوية، وتحذير الشعوب المسلمة منها، وأنها ظاهرة طارئة غير أصيلة، وأنها ستنتهي بنهاية العوامل التي أدت الى ظهورها، ويجد علمانيو المنطقة الإسلامية، بمن فيهم الأنظمة العلمانية الحاكمة، أن من واجبهم مواجهة مفردات النهوض الإسلامي بكل الوسائل، من خلال عزل التيارات الإسلامية عن الشعوب، تمهيداً للقضاء عليها. ويتمثل جزء من هذه المواجهة في ملء ما يسمونه بالفراغ الفكري والاجتماعي الناشئ عن فشل الأطروحات العلمانية المستوردة، بأطروحات أكثر بريقاً وواقعية، تقترب من بعض مظاهر الإسلام، بما يشبه « الإسلام المعلمن » أو «العلمانية المؤسلمة»(24)، وهي توليفة أكثر خطورة في المواجهة من العلمانية الأصلية، لأنها تقرأ الإسلام بغير أدواته، وتحاول توظيفه للأهداف العلمانية الأساسية نفسها.

3 - رؤية النهضة الإسلامية لنفسها:

تستند رؤية تيارات النهوض الإسلامي الجديد لنفسها إلى معطيات وحقائق التكليف وسنن الله في الخلق، لقراءة معالم مستقبلها. ورغم أن هذه الرؤية تتفرع إلى عدة رؤى ثانوية - كما مرّ - تبعاً لتعدد الاتجاهات الإسلامية، واختلافها في أساليب التحرك، والأسس الفكرية التفصيلية لكل منها؛ إلّا أن هناك قاسماً مشتركاً بين رؤى هذه الاتجاهات، يتمثّل في حقيقة أن التكامل البشرية يكمن في الإسلام، وأنه شريعة وعبادة ومعاملات ودولة ونظام سياسي وإقتصادي وقانوني، وهو دين المستقبل كما هو دين الماضي والحاضر، وأنه الحبل الذي يربط دنيا المسلم بآخرته.

ومن أبرز المعطيات والحقائق التي تستند إليها هذه الرؤية:

1- الفراغ الفكري والروحي العالمي، الذي حدث في أعقاب انهيار أو تصدّع كثير من الأفكار والمدارس الوضعية الغربية والشرقية، وبروز مؤشرات التصدّع في المجتمعات والنظم الغربية، وهو ما يؤكده المفكرون الغربيون أنفسهم، ولا سيما في نظام الولايات المتحدة الأميركية واجتماعه واقتصاده(25).

2- القوة الذاتية الهائلة التي يمتلكها الإسلام كنظام شامل للحياة، يمتلك أبلغ الحجج في الإجابة على تساؤلات الإنسان المعاصر وحل مشكلاته وتلبية حاجاته المختلفة، النفسية والعقيدية والاجتماعية والاقتصادية.

3- التطور النوعي والكمي في الخطاب الإسلامي المعاصر، وتمكنه من بلوغ متطلبات المرحلة والتناغم معها، وقدرته المتنامية على الإقناع والنفوذ، خاصة مع صعود بعض النماذج الإسلامية السياسية الناجحة، والتي تفوقت في نموها ونهوضها جميع الأنظمة العلمانية في البلدان الإسلامية، كالنموذج الماليزي والنموذج التركي والنموذج الإيراني.

4- المد الإسلامي العقدي والإيماني الشعبي، وبروز المظاهر الشاملة للالتزام بالدين، والإيمان به نظاماً لحياة الفرد والمجتمع، وهي مظاهر لم تكن مألوفة في العقود الأولى للقرن الماضي وحتى عقده السابع.

5- النتائج المشروطة التي تفرزها السنن الإلهية وقوانين التاريخ، وهي تسير في مصلحة النهوض الإسلامي الجديد.

وبالتالي؛ فإن النهوض الإسلامي الجديد هو مسعى جاد لبلورة ذات مستقلّة رصينة للمسلمين، لها أبعادها المتكاملة تاريخياً وحضارياً، ووعي هذه الذات المعاصرة بمعزل عن وعي الغرب لها، وانطوائها على عوامل النمو الإنساني والتقدم العلمي والتكنولوجي.

كيف تكون العلاقة المتوازنة للمسلمين بالغرب؟

مرت العلاقات بين الغرب والمسلمين، بمراحل مختلفة، منذ بدء عملية الاحتكاك الثقافي بين الطرفين في أواسط العصور الوسطى؛ فقد مثلت المرحلة الأُولى حالة من التفاعل الثقافي والاحتكاك المنتج، ولم تتضمن أهدافاً سلطوية على المستويين الفكري والسياسي، رغم أن العالم الإسلامي كان في ذروة تألقه الثقافي والسياسي والعسكري، في مقابل التخلّف القياسي الذي كان يسود الغرب؛ فقد اقتبس الغرب من الحضارة الإسلامية ـ خلال هذه المرحلة ـ معظم عناصر نهوضه. والملفت للنظر، أن ما اقتبسه الغرب من مدنية المسلمين وحضارتهم، كان يدخل في إطار المشتركات العامة، الأمر الذي حال دون حصول أي نوع من أنواع التبعية للعالم الإسلامي، على العكس مما حدث في المرحلة اللاحقة، حين تغيّرت موازين المعادلة.

وفي المراحل اللاحقة التي بدأ فيه الواقع الإسلامي بالتراجع والتفتت، تغيّرت طبيعة العلاقة الغربية الإسلامية وآلياتها؛ إذ أدخل فيها الطرف الغربي مضامين جديدة، تزامناً مع بدايات تشكيل العقل الغربي الحديث، خلال مرحلة "عصر النهضة" الأوروبية. حينها اتجه الغرب الناهض الى تشكيل منهجه الجديد في معرفة الإسلام والمسلمين، وبلورته بالتدريج، من خلال الخلفية اللاهوتية السلطوية والوعي الإستشراقي والفكر العلماني والمعارف المنهجية الجديد، وخاصة في مجالات علم الاجتماع والانثربولوجيا والاثنولوجيا، إضافة إلى قاعدة التفوّق الاقتصادي والسياسي والعسكري.

وكانت النتيجة أن أصبح وعي الغرب بالإسلام والمسلمين، يمثّل جزءاً من وعي الغرب بذاته، كما ذكرنا سابقاً؛ فالغرب في إطار هذا الوعي ـ كما يقول مفكّروه ـ هو «الذات» و«العقل» و«القوة» و«الحقيقة» و«المركز». أما العالم الإسلامي فهو بالنسبة له يمثّل «الآخر» و«الجنون» و«الضعف» و«التمثيل» و«الأطراف»(26).

هذا النزعة الاستكبارية الفوقية، كرّست الغرب بوصفه منظومة ايديولوجية (فكرية ـ سياسية)، وليس مجرد بقعة جغرافية، وجعلته يعطي الحق لنفسه بانتهاج مختلف أساليب الغزو والسيطرة والنهب تجاه العالم الإسلامي. ويتضح هذا المنهج من خلال الخطاب الغربي الحديث ومنهجه المعرفي. ولعل بريطانيا وفرنسا خلال القرنين التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، والولايات المتحدة الأمريكية منذ النصف الأول من القرن العشرين وحتى الآن، تمثل التجسيد الحقيقي للرؤية الغربية المتفوقة تجاه الآخر.

ولاشك أن المسلمين، وعموم دول العالم الثالث والجنوب، لايستطيعون تغيير الرؤية الغربية تجاهم، وليست لديهم القدرة الواقعية على تفكيك العقل الغربي، وإعادة صياغته، كما نجح الغرب قبل ذلك مع العقل المسلم غالباً، إلّا أن المسلمين بإمكانهم تشكيل رؤية واقعية متوازنة تجاه الغرب، تستند الى معايير العلاقة المتوازنة، والندية النسبية، والمصالح المشتركة، والممانعة الإيجابية، فلا رفض للمنتج الفكري والعلمي والسياسي والإقتصادي والثقافي للغرب بالمطلق، ولاقبول له بالمطلق، بل يكون الرفض والقبول معيارياً، وخاضعاً لمتطلبات الواقع، ولضوابط التكوين العقدي والفكري والثقافي الإسلامي.

هذه المعيارية تحول دون الإنغلاق على الذات وحرمان الواقع الإسلامي من الإقتباس من النتاجات الغربية المحايدة المقبولة معيارياً، وفي الوقت نفسه تحول دون الإنسحاق والهزيمة أمام الغرب ونتاجاته وصادراته، أو الحيادية تجاه معاركه مع المسلمين، لاسيما معارك الخنق السياسي والغزو الإعلامي والحصار الإقتصادي والاختراق الاستخباري والتنكيل النفسي والضربات العسكرية.

***

د. علي المؤمن

...................

الإحالات

(1) أنظر: علي المؤمن، "سنوات الجمر: مسيرة الحركة الإسلامية في العراق"، الفصل السابع.

(2) انظر: فهمي هويدي، إيران من الداخل، ص 36.

(3) وفي مقدمتهم الدكتور حسن حنفي، الذي ألّف كتاباً في أكثر من (900) صفحة تحت عنوان «مقدمة في علم الاستغراب»، دعا فيه إلى دراسة الغرب، في مقابل «الاستشراق».

(4) علي المؤمن، العلمانية المستوطنة بين الإيمان المسيحي والشريعة الإسلامية (دراسة)، ص 6-24.

(5) إدوارد سعيد، الاستشراق: المعرفة.. السلطة.. الإنشاء، ص 39.

(6) انظر: د. محمد دسوقي، "الفكر الاستشراقي: تاريخه وتقويمه"، ص 40 - 70.

(7) إدوارد سعيد، الاستشراق، ص 198 - 202.

(8) علي المؤمن، مقدمة كتاب "الفكر الاستشراقي: تاريخه وتقويمه" للدكتور محمد الدسوقي، ص 5 -6.

(9) أنظر: علي المؤمن، "القرن العشرون: مائة عام من العنف"، ص 9، و"العلمانية المستوطنة"، مصدر سابق، ص 16.

(10) أنظر: علي المؤمن، العلمانية المستوطنة (دراسة)، مصدر سابق.

(11) المصدر السابق، 12- 19.

(12) ومن أبرزها كتاب الدكتور هرير ديكمجيان - أمريكي من أصل إيراني مسيحي - الأصولية في العالم العربي وكذلك كتاب الصحفية الأمريكية روبن رايت، الغضب المقدس، وعدد آخر من دراساتها التي نشرتها في مجلة فورين أفايرز.

(13) إدوارد سعيد، الاستشراق، ص 4 - 6، من مقدمة كمال أبو ديب.

(14) انظر اوفرن بنغيو، الشيعة والسياسة، مجلة مدل إيسترن ستديس، نقلاً عن: علي المؤمن، سنوات الجمر، ص 315.

(15) انظر: روجيه غارودي، الأصوليات المعاصرة.. أسبابها ومظاهرها، ص21 - 22.

(16) الاستشراق، ص 6، من مقدمة كمال أبو ديب.

(17) وهو ما طرحته تفصيلاً مؤسسة راند الأمريكية في مؤتمراتها وندواتها وبحوثها خلال العقدين الأخيرين. أنظر: شيربل بينارد، «الإسلام المعتدل»، سلسلة تقارير مؤسسة راند.

(18) أنور عبد الملك، في كتابه: "نهضة مصر"، والذي ترجم مصطلح "السلفية" الى مصطلح (Islamic Fundamentalism) أي "الأصولية الإسلامية" عندما ترجم كتابه الى الإنجليزية.

(19) روجيه غارودي، ص 10.

(20) هرير دكمجيان، الأصولية في العالم العربي، ص 87.

(21) ويقصد بها النخبة المثقفة، وليست النخبة السياسية أو الحاكمة، ويعد "تيار اليسار الإسلامي" في مصر، أحد نماذج ظاهرة إسلام النخبة، وهو التيار الذي نظّر له المفكر المصري الدكتور حسن حنفي. انظر: ماذا يعني اليسار الإسلامي؟، مجلة اليسار الإسلامي كانون الثاني 1981، ص 5 - 48.

(22) المصدر السابق.

(23) روجيه غارودي، ص 12.

(24)أنظر: علي المؤمن، النظام السياسي الإسلامي الحديث، ص 53.

(25) انظر مثلاً: كتاب الإفلاس 1995: الانهيار القادم لأمريكا، للاقتصادي الأمريكي هاري فيجي.

(26) أنظر: ادوارد سعيد، الاستشراق.

خلاصة الدراسة:

إن الدول في المجال العربي على نحوين: دول أيدلوجية تعمل بمختلف الوسائل بما فيها القهرية لتعميم أيدلوجيتها واقتحام مجتمعها بكل فئاته ومكوناته وشرائحه في بوتقة أيدلوجيتها.. وكل طرف أو مكون يرفض الانضمام إلى هذه الأيدلوجيا، فيمارس بحقه النبذ والإقصاء والعنف المادي والرمزي.. لهذا فإن صلة هذه الدولة بمواطنيها يتم عبر الأجهزة الأمنية، وإذا توفرت فيها بعض أشكال الديمقراطية، فهي شكلية وتمارس الاستبداد والقهر بقفازات ناعمة..

ودول تقليدية تعتمد في بنيتها الأساسية على حكم العائلة أو العشيرة أو أي شكل من أشكال الانتماءات التقليدية وهي أيضا بحكم بنيتها حاضنة للبعض وطاردة للبعض الآخر..

ولعل أحد الفروقات الأساسية بين الدولة الأيدلوجية والدولة التقليدية في التجربة العربية المعاصرة، هي أن كلا الدولتين وديكتاتوريتين واستبداديتين، واحدة باسم الأيدلوجيا الدينية أو الأيدلوجيا التقدمية، والأخرى باسم حكم العائلة وتقاليد المجتمع والحياة العامة في البلد..

فكلاهما ديكتاتوريتان تمارسان الاستبداد والإقصاء والنبذ بكل صنوفه.. ويضاف إلى هذا أن الدول الأيدلوجية هي بطبيعتها أيضا دولا قمعية.. بمعنى أن لأجهزتها الأمنية سطوة وصلاحيات هائلة لإدامة الاستقرار وحماية السلطة.. فهي دول ديكتاتورية وقمعية في آن.. وفي ظل هذه الدول فإن الأقليات الدينية تعاني العديد من المآزق والمشاكل المتعلقة بحريتها الدينية ومستوى مشاركة أبناءها في الحياة العامة..

وقناعة الدراسة الأساسية: أنه إذا لم تتغير بنية الدولة في المجال العربي من دولة أيدلوجية أو تقليدية إلى دولة مدنية – تشاركية – تعددية محايدة تجاه عقائد مواطنيها، فإن مشاكل الأقليات ستستمر وتزداد استفحالا..

والذي يزيد أزمة الأقليات في هذا السياق، هو طبيعة فكرها السياسي المحافظ، الذي يجعلها تحذر من الانخراط في مشروعات الإصلاح الوطني..

لهذا فإن الدراسة تعتقد: أن تطوير فكر الأقليات السياسي، ودفعه نحو الانخراط في مشروعات الإصلاح والتفاعل الخلاق مع قضايا التغيير السياسي، يساهم في معالجة مشكلة الأقليات في الدول العربية المعاصرة.. وتطوير الفكر السياسي للأقليات للخروج من نفق المحافظة إلى رحاب الإصلاح يعني النقاط التالية:

1- الانخراط في مشروعات سياسية وفكرية عابرة للمكونات التقليدية ومتجاوزة للانتماءات الطبيعية، والمساهمة في بناء كتل وطنية تطالب بالإصلاح وتعمل من أجله..

2- الانعتاق من ربقة الانكفاء والانزواء، وكسر حواجز الانطواء، والتفاعل الكامل مع شركاء الوطن..

لأننا نعتقد أن الطائفية في المجال العربي تمارس على نحوين أساسين وهما: النحو الأول: الطائفية الغالبة وهي تمارس طائفيتها بتبني سياسات النبذ والتهميش والإقصاء للآخر المختلف والاستمرار في دفعه عبر وسائل قسرية وناعمة للمزيد من الانكفاء وبناء الحواجز النفسية والاجتماعية والسياسية مع الآخر المختلف الديني أو المذهبي أو القومي..

والنحو الآخر: هي الطائفية المغلوبة وهي طائفية معكوسة تبرر انكفاء الذات وتسوغ المفاصلة الشعورية والعملية.. فإذا كانت الطائفية الغالبة تمعن في سياسات الإقصاء والتمييز، فإن الطائفية المغلوبة تمعن في سياسات الانعزال والنظرة النرجسية للذات.. والتحرر من النزعة المحافظة في الفكر والسياسة، يقتضي العمل على نقد وتفكيك أسس ومتواليات الطائفية المعكوسة المتعشعشة في نفوس وعقول الكثير من أبناء الأقليات الدينية والمذهبية والقومية في المجال العربي..

3- بناء العلاقة ونظام الحقوق والواجبات على أساس المواطنة المتساوية مع الاحترام التام لخصوصيات المواطنين الدينية والمذهبية..

والمواطنة بحمولتها القانونية والدستورية، هي بوابة الانتقال بمجتمعاتنا من حالة السديم البشري إلى المجتمع التعاقدي الذي يضمن حقوق الجميع، ويفتح المجال القانوني للجميع للمشاركة في بناء الأوطان واستقرارها السياسي والاجتماعي..

مفتتح:

ثمة مسائل وقضايا شائكة وحيوية في آن، تثيرها التطورات الإقليمية والدولية اليوم.. حيث مستويات التفتيت ودرجات التشظي. حيث الكيانات السياسية الكبيرة وما تسمى بالإمبراطوريات، التي قامت بالقوة واستمرت بالقهر والغصب والإرهاب. هذه الكيانات والتي تمتلك ترسانات عسكرية ضخمة بدأت بالتلاشي. حيث استيقظت كل الوطنيات والأثنيات والقوميات المقموعة خلال السنين المنصرمة وبدأت تبحث عن ذاتها وكيانها وخصوصياتها.

والذي يزيد المشهد قساوة ورعبا، هو تكاثر بؤر العنف الكامنة والصريحة والمفتوحة على كل احتمالات الفوضى وهوس استخدام القوة بلا وعي وبصيرة وعقل.

ولا نبالغ حين القول: أن تسعير التوترات وإشعال بؤر العنف بكل أصنافه وأشكاله، واستيقاظ كل التنوعات والخصوصيات، كل هذا من جراء العقلية الاستبدادية والعنفية، التي سادت في مناطق عديدة من العالم، واستخدمت كل قوتها وجبروتها وغطرستها لمحو خصوصيات الأمم والمجتمعات، ولطمس حقائق تاريخية ومجتمعية متجذرة في العمق الحضاري للأمم والأوطان.

- الاستبداد جذر الأزمة:

فالعنف والقهر والاستبداد، هو الذي أيقظ الخصوصيات بنحو سلبي، كما أن إرهاب الدولة وغطرستها وتغّولها وسعيها المحموم لدحر ما عداها، هو الذي أدى إلى تسعير التوترات وتفجير الاحتقانات في مواضع ومناطق عديدة من العالم.

وعلى هدى هذا نستطيع القول: أن كل الكيانات والوجودات، التي تأسست على قاعدة الوحدة القسرية والقهرية لتنوعاتها وتعدداتها، فإن مآلها الأخير هو التشظي والتفتت، والإمبراطوريتين السوفيتية واليوغسلافية نموذجان صريحان لذلك.

فالوحدة القهرية لا تفضي إلى استقرار مستديم، بل تؤسس لاحتقانات وانفجارات ونزاعات جديدة محورها التداعي والتآكل الوحدوي، واليقظة العنيفة لكل الخصوصيات والهويات المقموعة.

ولا ريب إننا بحاجة إلى حياة سياسية سليمة، تفسح المجال لكل التعبيرات والقوى بدل إقصائها وقمعها، وإلى فضاء عام حر، يساءل الواقع، وينقد الممارسات، ويحاسب المقصرين والمستهترين بالقانون. ونحتاج أيضا إلى مواطنة نشطة تعبر عن آمالها ومصالحها ونفسها بمشاركة سياسية وديمقراطية فاعلة، لبلورة الخيارات والرهانات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الوطنية.

والتمييز بكل صوره وأشكاله، والتهميش بمجالاته وآلياته، لا يفضيان إلى الوحدة والاستقرار السياسي والمجتمعي، وإنما يؤسسان الظروف الذاتية والموضوعية معا لتشظي الواقع، واستيقاظ العصبيات بكل زخمها وعنفها وعنفوانها.

وإن منطق الاستبداد يؤبد الأنظمة، ولا يفضي إلى الاستقرار، وإنما يفاقم العيوب، ويعمق التوترات، ويفجر الخصوصيات.

وإننا بحاجة إلى تحول نوعي وتطور استراتيجي في فكرنا السياسي والاستراتيجي، يعمق خيار الديمقراطية في واقعنا، ويسعى نحو صناعة حقائقه ووقائعه، ويحارب كل موجبات الاستبداد وحالات التهميش والتمييز، ومواقع النبذ والإقصاء.

لهذا نحن بحاجة أن نعيد قراءة مسألة الأقليات والخصوصيات الذاتية في المجالين العربي والإسلامي.. وهذا ما نحاوله في السطور القادمة..

- مفهوم الأقليات:

بعيدا عن المضاربات الأيــدلوجية والسياسية، بإمكاننا أن نحدد معنى الأقليات بأنها: التكوين البشري، الذي يتمايز مع جماعته الوطنية في أحد العناصر التالية (الدين ـ المذهب ـ اللغة ـ السلالة). وهذا التمايز تعبير عن التنوع الطبيعي بين البشر.

فالأقليات هي " أي مجموعة بشرية تختلف عن الأغلبية في واحد أو أكثر من المتغيرات التالية: الدين أو اللغة أو الثقافة أو السلالة. ولا يعني ذلك كل من يختلف عن الأغلبية في أحد هذه المتغيرات هو مناوئ للقومية العربية أو لمطلب الوحدة. فهناك من بين أفراد بعض هذه الأقليات من ناضلوا في سبيل قضية الوحدة، وأسهموا مساهمات رائدة في الفكر القومي العربي. لذلك فإن توصيف جماعة معينة كأقلية لا يعني بالضرورة أي حكم مسبق على اتجاهاتها نحو مسألة الوحدة. والعبرة كما قلنا هي ما إذا كان أي من هذه المتغيرات (الدين ـ اللغة ـ الثقافة ـ السلالة) يضفي على مجموعة بشرية معينة قسمات اجتماعية ـ اقتصادية ـ حضارية تلون سلوكها ومواقفها السياسية في مسائل مجتمعية رئيسية " (1).

" والجماعة الأثنية تستخدم في العلوم الاجتماعية، لتشير إلى أي جماعة بشرية يشترك أفرادها في العادات والتقاليد واللغة والدين وأي سمات أخرى متميزة بما في ذلك الأصل والملامح الفيزيقية والجسمانية " (2).

وبالتالي فإن الحديث سيتجه إلى الأقليات الأقوامية والدينية والمذهبية.. " ففي أفريقيا السوداء، التي يناهز تعداد سكانها اليوم (750) مليون نسمة، توجد (54) دولة، وتوجد في مقابلها (2200) أثنية تتكلم بمثل هذا العدد من اللغات. وفي آسيا أكبر قارات العالم من حيث تعداد السكان، يعيش اليوم (5ر3) مليار نسمة، يتوزعون بدورهم على أكثر من (2000) أثنية وينطقون بأكثر من (2000) لغة ويعتنقون ديانات شتى.

فاندونيسيا مثلا، وهي رابع أكبر دولة في العالم، ويقطنها (215) مليون نسمة، يتوزعون على (300) أثنية وينطقون بـ (365) لغة. والفليبين، بلد الـ (100) أثنية ولغة. ويصل تعداد الأثنيات والأقليات الأثنية في لاوس إلى (70)، وفيتنام إلى (55)، وتركيا إلى (66)، وإيران إلى (21) وبنغلاديش إلى (52) والنيبال إلى (30).

وفي العالم اليوم (188) دولـــة أعضاء في منظمة الأمم المتحدة، ولكن هناك في المقابل (8000) أثنية و (6700) لغة.

ولقد أقرت كندا في عام (1988م) لسكانهـــا الهنــــود (850) ألفا يتوزعون بين (600) قبيلة بوضعية ثقافية خاصة، وأفــــردت بندا خـــاصا من قانــــونها الاتحادي (البند 27) لتكريس حق الأفراد الذين ينتمون إلى أقلية أثنية أو لغوية أو دينية في التمتع بتقاليدهم الثقافية الخاصة وبممارسة شعائرهم الدينية والتكلم بلغاتهم الخاصة وتعليمها. ولقد أنشأت كندا أخيرا للهنود المعروفين باسم (الأينويت) من سكانها منطقة مستقلة ذاتيا لها برلمانها الخاص وعاصمتها الــخاصة ومدارسها الخاصة، وحتى شــركة طيرانها الخاصة، مع أن تعداد الهنود الأينويت لا يزيد عن (35) ألف نسمة. والسويد أباحت تعليم (265) لغة في مدارسها، بما فيها لغات الجاليات المهاجرة كالعربية والسريانية والتركية. وأقرت ايطاليا في عام (1999م) قانونا تشريعيا لحماية الأقليات اللغوية، ومنحت وضعية إدارية وثقافية خصوصا لخمس من محافظاتها في جزيرتي صقلية وساردينيا وفي جبال الألب والتيرول " (3).

وإن درجة التميز وحدته وعمقه الاجتماعي والسياسي وأهدافه وتطلعاته القريبة والبعيدة، مرهون كل هذا إلى حد بعيد إلى طبيعة التعامل الذي تمارسه السلطات السياسية والاجتماعية. فإذا كان التعامل جافا وبعيدا عن مقتضيات العدالة والحرية، فإن الشعور بالتميز الذي يفضي إلى تمييز وتهميش من قبل السلطات، سيؤدي إلى المزيد من التميز والتشبث بالخصوصية، وسيدفعه هذا الشعور العميق بالتميز بتبني خيارات واتجاهات تزيد انفصاله الشعوري والعملي عن المحيط العام.

إما إذا كان التعامل مرنا وسياسيا وبعيدا عن العقلية الأمنية و ممارساتها وهواجسها وأعمالها، فإن درجة الشعور بالتميز تتضاءل وإمكانية الاندماج الطوعي تتعمق وتتواصل.. فـ " ملاحظة التميز في هذه الصفة أو الصفات المشتركة في أفراد جماعة معينة، وتباينها عن جماعات بشرية أخرى، ينطوي على عنصر ذاتي وعلى عنصر موضوعي. العنصر الموضوعي هو وجود الاختلاف أو التباين بالفعل في أي من المتغيرات المذكورة أعلاه (اللغة، أو الدين، أو الثقافة، أو الأصل القومي والمكاني، أو السمات الفيزيقية). أما العنصر الذاتي فهو إدراك أفراد الجماعة وإدراك الجماعات الأخرى القريبة منها لهذا التباين والاختلاف. وهو يؤدي إلى الشعور بالانتماء إلى جماعة معينة في مواجهة الجماعات الأخرى " (4). فدرجة الشعور بالتميز الذي يؤدي إلى تبني سياسات واتجاهات انفصالية يرتبط بشكل أساسي بطريقة التعامل السياسي والاجتماعي والقانوني مع هذه الأقليات.

فالسلطة النابذة والمستخدمة لكل أنواع القوة المادية الغاشمة لفرض الاندماج وتغييب التميز الطبيعي، تزيد بشكل أو بآخر من فرص بذور مشكلة الأقليات وعقدها الاجتماعية والسياسية.. أما السلطة التي تبحث عن نظام للتضامن والتعامل الحسن والحضاري مع هذه الأقليات، نظام يلبي متطلبات الأقليات الدينية والثقافية والتعليمية والاجتماعية، كما يلبي متطلبات الوحدة والاستقرار.

هذا النظام المرن والحيوي، هو الذي يزيل كل التوترات، ويحد من نزعات التهميش والتميز.. بل نستطيع القول: أن النظام السياسي والاجتماعي المرن والمتسامح، يتمكن من توظيف الشعور بالتميز لدى المجموعات البشرية، في بناء الوطن وإزالة كل عناصر التوتر.. أي أن الديمقراطية تجعل دور التميز دورا وحدويا، اندماجيا، بعيدا عن كل أشكال التقوقع والدوائر المغلقة. فالمساواة في الحقوق السياسية والمدنية، يجعل كل المجموعات البشرية، تباشر دورها الإيجابي في الحفاظ على أمن الوطن ومكتسباته السياسية والاقتصادية والحضارية. وهذه المساواة لا تتأتى إلا بتحقيق المشروعية الدستورية والمؤسسية للاختلاف والتنوع والتعدد في الوطن الواحد.

ولا بد من القول: أنه كلما قلت وتضاءلت مستويات الاندماج، كلما برزت في المجتمع مسألة الأقليات وتداعياتها السياسية والاجتماعية والثقافية.

بمعنى أن وجود الأقليات في أي فضاء اجتماعي، يتحول إلى مشكلة، حينما يفشل هذا الفضاء ولعوامل سياسية واجتماعية وثقافية عديدة في تكريس قيم التسامح واحترام الآخر وصيانة حقوق الإنسان والمزيد من الاندماج والانصهار الوطني. حينذاك تبدأ المشكلة، وتبرز الخصوصيات الذاتية، وتنمو الأطر التقليدية لكي تستوعب جماعتها البشرية بعيدا عن تأثيرات المحيط وإستراتيجياته المتجهة صوب فرض الانصهار وقهر الخصوصيات الذاتية.

إن الأقليات كمفهوم وواقع مجتمعي، لا يكون في قبال ومواجهة القوميات والوطنيات، ويسيء إلى جميع هذه المفاهيم من يجعل من مفهوم الأقليات مواجها لمفهومي القومية والوطنية، لأنه من المكونات الأساسية لكل قومية ووطنية هويات متعددة أما دينية أو مذهبية أو أثنية أو لغوية.. ولعل من الأخطاء الكبرى أن " تعالج الطائفية كما لو كانت إحدى ترسبات التاريخ الأيدلوجي العربي وتجلياته المرضية، وتفسر بقاءها ببقاء الجهل واستمرار الأميّة، أو تربط أحيانا بينها وبين الوعي الديني بشكل عام. وهي ترى أن الحل الوحيد لها هو مواجهتها بالوعي القومي والعلماني وبالتنوير الفكري والقضاء على من يمكن أن يتهم بنشرها والعمل على الترويج لها. وهي لا تجعل منها إذن قضية كبرى من قضايا التنمية والتطور السياسي و الاجتماعي العربي، وإنما قضية ملحقة بغيرها. وتنظر إلى التهابها الراهن في بعض المواقع كأثر من آثار تراجع الأيدلوجية القومية العربية. فبالتأكيد على هذه الأيدلوجية القومية والدعوة لها ونشرها يمكن في نظرها القضاء على الطائفية، وهذا يعني باختصار أن الوعي الطائفي هو نقيض الوعي القومي، وأن هذا النقيض أصبح يعبّر عن الماضي أكثر مما يعبر عن المستقبل، وأنه لا بد زائل من تلقاء نفسه متى ما تم التأكيد على الوحدة والشعور القوميين وضرب على يد كل من يسعى إلى استغلال الشعور الطائفي البغيض والمتقادم " (5).

ولا نبالغ حين القول: أن أحد الأسباب الرئيسة لسقوط الإمبراطوريات وتداعي الكيانات السياسية الكبرى، كان بفعل الاستبداد وغياب الحريات النوعية الناظمة للعلاقة والمصالح بين مجموع التعبيرات والأطياف المتوفرة في المجتمع. وإن هذه الإمبراطوريات والكيانات والدول، بدأت الانحدار حينما ساد التمييز بين القوميات والأثنيات، وغاب التضامن الداخلي على قاعدة المواطنة الواحدة، وبرزت كل النزعات الاستبدادية، التي حاولت الاستفادة من كل أسباب القوة للغلبة على الأطراف الداخلية الأخرى.

ومسألة الأقليات بكل عناوينها ومسمياتها، من المسائل الحساسة في المجالين العربي والإسلامي، وتحتاج إلى قراءة ودراسة عميقة لواقعها وصولا إلى بلورة رؤية حضارية متكاملة في طريقة التعامل معها وكيفية اندماجها الطوعي والاختياري مع النسيج الوطني والمجتمعي. ولعلنا لا نعدو الصواب حين القول، أن الكثير من النكبات الاجتماعية والانفجارات السياسية، كان من جراء عدم التصدي الجاد لعلاج هذه المسألة في الواقعين العربي والإسلامي.

- نقد العلمانوية:

على المستوى التاريخي، نجد أن علمانية الحركة القومية، وعلمنة مشروع الوحدة، لم يلغ مسألة الأقليات ولم يعالجها وفق نسق حضاري يحترم خصوصياتها ويشركها على قدم المساواة في اجتراح دورها في مشروع الوحدة. وعلى المستوى الواقعي، نجد أن العديد من الكيانات السياسية العلمانية، لم تستطع أن تتجاوز عصبيات الواقع والدوائر التقليدية المتوفرة في المجتمع. بمعنى أن العديد من الوجودات السياسية العلمانية، هي عبارة عن يافطة حديثة لواقع تقليدي، عصبوي.. فالكثير من الأحزاب هو واجهات لواقع تقليدي. لذلك فإن العلمانية في التجربة العربية والإسلامية، لم تستطع أن تتجاوز بشكل حضاري خصوصيات الواقع ودوائره الخاصة المتوفرة. فلا يزال المجال العربي إزاء علمانية مبدونة (إذا جاز التعبير). حيث تمارس الاضطهاد والاستغلال بمضامين موغلة في القدم. فالتجربة العلمانية العربية، مارست السياسة بآليات متخلفة وتنتمي إلى عصور الانحطاط، واستقوت على غيرها من الوجودات والتعبيرات، بالاستقواء بالعصبيات التي جاءت على المستوى النظري كحل لتجاوزها ومنع تأثيراتها السلبية.. فالممارسة العلمانوية أضحت في مناطق العالم العربي، ممارسات طائفية، حيث الاحتماء بطائفة ضد أخرى، وممارسات قومية شوفينية، حيث الاستناد بقومية وقمع القوميات الأخرى.. وهذا أدى في المحصلة النهائية إلى أن التجربة العلمانوية العربية، أنتجت وبزخم جديد كل الصراعات والنزاعات الداخلية، والتي جاءت كوصفة نهائية لعلاجها وإسقاط موجبات بقائها. فتحولت على مستوى التجربة العملية، إلى إضافة جديدة إلى الصراعات العميقة التي كانت تعاني منها مجتمعاتنا. وهذا يدفعنا إلى القول: أنه حينما تغيب الديمقراطية والحريات النوعية، تتحول كل الشعارات والمضامين الحديثة، إلى واجهات لإنتاج الأزمات التقليدية والعقد الكامنة في المجتمعات العربية والإسلامية.

فالديمقراطية هي الشرط الذي لا بد منه للسير نحو تطوير البنى السياسية والثقافية والاقتصادية للمجتمع..كما أن الديمقراطية هي التي تدفع السيرورة الاجتماعية للتعاون والتضامن والاندماج بين الأقليات على أسس أكثر عدالة وتسامحا ومساواة.. فالاستبداد والديكتاتورية، هي التي جعلت الواجهات الحديثة ذات محتوى أو طابع طائفي أو قومي محض.وبهذا غابت المواطنية، وسادت البنى الطائفية والقومية المغلقة والمنعزلة في آن..

فالأمن الشامل والدائم، هو وليد العدل السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وكل محاولات وإجراءات استتباب الأمن لا فعالية لها ما دام مفهوم العدل لم يتحقق في الواقع المجتمعي. وترتكب الدول والمجتمعات أخطاءً فادحة، حينما تنشد الأمن والاستقرار بعيدا عن متطلبات العدالة وحقائق الحرية والمساواة. والدين كمنظومة مفاهيمية متكاملة، ليس هو مصدر التعصب الطائفي أو الأثني، وإنما الأوضاع السياسية والاقتصادية الشاذة والظالمة، هي التي تدفع المجموعات البشرية المتضررة من هذه الأوضاع إلى البحث عن وسائل لحماية ذاتها في خصوصياتها وإنتماءاتها العميقة. كما أن المجموعات البشرية المستفيدة من الأوضاع، فإنها تتشبث بخصوصياتها، لكي تحافظ على مكتسباتها ومصالحها. لذلك فإن مصدر التعصب والتطرف، هو الأوضاع السياسية والاقتصادية الظالمة، التي تمارس فرزا عميقا لكل فئات المجتمع على قاعدة انتماءاتهم المذهبية والأثنية والسياسية والأقوامية.

والقضاء على هذا التعصب والتطرف، لا يتم عبر محاربة الدين وأشكال التواصل معه بل عبر مواجهة الظروف السياسية والاقتصادية، التي عمقت هذا التعصب، وعملت على بناء واقع سياسي على قاعدة التمييز والتهميش لفئات اجتماعية، والامتيازات والثروات والمناصب لفئات اجتماعية أخرى.. فالأداء السياسي الظالم والبعيد عن مقتضيات العدالة والمرونة والتسامح، هو المسئول عن كل حالات التعصب والتطرف بكل أشكاله ومستوياته.

وإن الاستقرار السياسي والمجتمعي، القائم على احترام تعدديات المجتمع وتنوعه الفكري والسياسي، هو الذي يؤدي إلى نضوج خيار التمازج والتداخل والتواصل المتبادل بين مجموع تعبيرات المجتمع والأمة.

ويبدو أننا من دون فهم واقع الأقليات والأثنيات في المجالين العربي والإسلامي، وبلورة المعالجة الحضارية لهذا الواقع. من دون هذا سيبقى الواقع الداخلي والمجتمعي للعرب والمسلمين، يعاني الكثير من الأزمات والاختناقات والنكبات، لأن العديد من الصراعات والحروب الصريحة والكامنة، تجد جذورها ومسبباتها العميقة في هذا الواقع الذي يتم التعامل مع الكثير من عناوينه وقضاياه بعيدا عن مقتضيات العدالة والديمقراطية.

وحينما نلح ونصر على ضرورة قراءة هذه المسألة ودراستها بشكل معمق، لا نريد تبرير واقع الانقسام والتجزئة، أو نشجع أصحاب المصالح في الخارج للاستفادة من هذا الفسيفساء أو التناقضات، وإنما نريد إعادة بناء مفهوم الوحدة الوطنية على قاعدة أكثر حرية وعدالة ومساواة. ولا يمكننا الوصول إلى ذلك دون الاعتراف بهذه المشكلة، والعمل معا من أجل بلورة المعالجة المناسبة لها.

فإننا نقف بقوة وحسم ضد كل محاولات التفتيت والانقسام، كما إننا نقف بنفس الدرجة ضد كل محاولات التجاهل والظلم والتعسف والتعدي على الحقوق تحت أي مبرر كان.فالوحدة الوطنية الصلبة، لا تبنى على أنقاض تجاهل حقوق الأقليات بل إننا نرى أن بوابة الوحدة الوطنية، هو أن ينال المجتمع بكل قواه ومؤسساته وفئاته الحرية اللازمة للتعبير عن آماله ومطامحه، وإدارة شؤونه بما ينسجم ومصالحه العليا.

وعندما ينال المجتمع حريته، وتتعمق في فضائه الممارسة الديمقراطية، تزول كل هواجس الخوف، وتضمر كل نوازع الاستقلال الذاتي والانفصال. فالديمقراطية بكل آلياتها ومؤسساتها ومقتضياتها، هي التي تعمق خيار الوحدة الداخلية، وتبنيه على أسس متينة وقواعد حضارية صلبة. فالتعدد الثقافي واللغوي في سويسرا (حيث هناك ثلاث مجموعات ثقافية ـ لغوية كبرى) لم يمنعهم من بناء وحدة داخلية حضارية تعطي لكل مجموعة حقوقها دون أن تنحبس وتنعزل هذه المجموعة عن المحيط العام ومتطلبات الوحدة الوطنية. كما أن الديمقراطية الهندية، هي التي سمحت لأربعين جماعة ثقافية ـ لغوية، من بناء دولة مقتدرة ومجتمع ديمقراطي يمتلك تجربة تاريخية متواصلة في الحرية والتسامح بين المجموعات المتعددة التي يتشكل منها المجتمع الهندي.

فالتعدد والتنوع لا يمنعان الاندماج والوحدة الاجتماعية والوطنية.. الذي يمنع كل هذا هو الاستبداد وغياب العدالة والمساواة. فلو توفرت الديمقراطية وتجسدت العدالة السياسية والاقتصادية، فإن الاندماج والوحدة الداخلية تكون متحققة من جراء ذلك..

- العدالة سبيل التعايش:

ولا يمكن أن تتعايش التنوعات كلها في إطار أمة واحدة ووطن واحد، إذا لم تسود قيم العدالة الواقع الذي تعيشه هذه التنوعات.. فالظلم بكل صوره وأشكاله، يفتت التنوعات ويشرذمها ويؤسس لمنطق الحروب والنزاعات المفتوحة بينها. ولا سبيل لتعايش حضاري بين التنوعات والتعبيرات المختلفة، بدون عدالة، تلغي كل حالات التهميش والتمييز، وتمنع سيادة منطق الغلبة والإلغاء، وتحافظ على كل أسباب العدالة في نمط العيش وأشكال العلاقة.

والعدالة التي نعتبرها سبيل التعايش الحضاري بين مختلف التنوعات تعني:

1) نبذ كل أشكال التمييز والإقصاء والإلغاء، واعتبارها من القضايا الرئيسة التي تهدد وحدة الوطن وأمنه. فحقائق التنوع بشكل مجرد لا تهدد الوحدة، ولا تلغي حالة التعايش، ولكن الذي يهدد الوحدة الاجتماعية والوطنية، ويلغي مستويات التعايش في الدائرة الوطنية، هو التأسيس الظالم على هذه التنوعات، عبر ممارسة كل أشكال التمييز ضد كل تنوع أو تعبير.

فالذي يهدد الوحدة، هو التمييز والتهميش والإقصاء. ولا سبيل لإنجاز مقولة العدالة، إلا بنبذ كل أشكال التهميش والإقصاء الذي تتعرض إليه بعض التنوعات. وهنا يتطلب أيضا الوقوف بحزم ضد كل محاولات التشويه التي تتعرض إليها بعض المدارس العقدية والفكرية والسياسية، وذلك لأن السماح إلى المغرضين إلى تشويه سمعة الآخرين الذين هم جزأ لا يتجزأ من الوطن والأمة، يعد وفق كل المقاييس تعريض كل مكاسب الوطن ووحدته الداخلية للكثير من المخاطر والأزمات. لذلك فإن رفضنا ونبذنا لكل أشكال التمييز والتهميش، لحرصنا الدائم على التعايش السلمي والوحدة الوطنية.

2) تكافؤ الفرص الوظيفية والإدارية والسياسية والثقافية، فلا يعقل أن تمنع كفاءة من خدمة وطنها من موقع تخصصها وتميزها بفعل انتماءها العقدي أو الاجتماعي أو السياسي. إن مقتضى العدالة، أن تكون جميع الفرص متاحة للجميع والأكفأ هو الذي يتحمل المسؤولية , فلا عدالة حقيقية إذا منعت بعض المواقع عن بعض الفئات والشرائح، كما لا تعايش حضاري بين التنوعات، إذا سادت عقلية الاستثناء والإقصاء لأسباب لا تنتمي إلى عالم العدالة والحضارة والإنسانية.

3) صيانة الحقوق الدينية والسياسية والثقافية، فلا يكتمل عقد العدالة، إلا بالعمل على صيانة حقوق الأقليات الدينية والسياسية والثقافية، عبر مؤسسات وقوانين دستورية، تتجاوز استقطابات اللحظة، وتؤسس لسياق وطني، يصون حقوق الأقليات كسبيل لتوطيد موجبات الوحدة الوطنية والاجتماعية.

4) تطوير النظام السياسي وإرساء دعائم ومتطلبات الديمقراطية فيه. وذلك لأن الداء الأكبر الذي يعرقل الاصلاحات ويعمق الفروقات الأفقية والعمودية في المجتمع، هو الاستبداد. ولا يمكن أن تحترم أقلية ما في ظل نظام سياسي مستبد. فلا بد من إرساء دعائم الديمقراطية على المستوى السياسي وتطوير وتوسيع بنية النظام السياسية والاجتماعية، حتى تتسنى الظروف المفضية إلى صيانة حقوق الأقليات ومشاركتها الفاعلة في بناء الوطن وتطوير الأمة. وإن تذويب الفوارق التقليدية المتوفرة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، يتطلب تأسيس الممارسة الديمقراطية التي تعلي من شأن القيم الإنسانية، ويتم تجاوز كل الحواجز التي تحول دون التلاحم الوطني المطلوب. ولمؤسسات التعليم والإعلام أدوار ووظائف رئيسية في هذا المجال.. بمعنى أن المناهج التعليمية في مختلف المراحل المدرسية وكذلك البرامج الإعلامية والثقافية بحاجة دائما إلى إبراز قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والتسامح، والابتعاد التام عن كل ما يجرح أو يشين بفئة أو شريحة في المجتمع.

فمؤسسات الديمقراطية وأطر وأوعية المشاركة في الشأن العام، هي القادرة على تذويب الفروقات التقليدية. بمعنى هي القادرة على إزالة كل عناصر التوتر والتأزم بين الفروقات التقليدية.

- الحرية تعني غياب الإكراه:

فالمعنى البسيط والمباشر للحرية، يعني حرية الاختيار. ولا اختيار حر في ظل الإكراه. لذلك فإن الحرية تعني غياب الإكراه على المستويات كافة. بحيث أن الإنسان يمارس حقوقه ويلتزم بواجباته بعيدا عن الإكراهات المتعددة، التي تحول دون الممارسة السليمة لمفهوم الحرية.

وعلى المستوى التاريخي كان تطور مفهوم الحرية على الصعيد المجتمعي، هو من جراء نضالات مستميتة ومعارك ضارية من أجل تثبيت قيم الديمقراطية، وإنهاء كل عناصر الإكراه التي تحول دون التراكم الإيجابي لقيمة الحرية. ولا يمكن بأي حال من الأحوال، اعتبار القمع والإكراه والعنف، وسيلة من وسائل تنظيم الحياة الوطنية وضبط العلاقة بين السلطة والمجتمع. وذلك لأن هذه العناصر تزيد الأزمات وتعمق خيارات الإقصاء، وتزيد من فرص الحروب بين السلطة والمجتمع.

إن الحرية هي القيمة الأساسية التي تحقق مفهوم العدالة في بعدها السياسي والثقافي فلا عدالة سياسية بدون حرية سياسية تتجسد في حرية تشكيل الأحزاب والتكتلات السياسية وتجذير مفهوم تداول السلطة، كما أنه لا عدالة ثقافية، إذا لم تعطى الحرية لكل القوى والوجودات، لكي تعبر عن ذاتها وخصوصياتها الثقافية. فالعدالة لا تتأتى إلا بتوافر الحريات العامة على نحو حقيقي ونوعي.. فهي (الحريات بمعناها الشامل والمتكامل)، هي التي تنتج العدالة.. وإن الحرية هي التي حركت في نماذج تاريخية ومعاصرة عديدة، الأقليات أو زعامات وقيادات تاريخية تنتمي إلى الأقليات في مشروع الدفاع عن الوطن والأمة.

فالحرية هي التي توفر المناخ الطبيعي لتجاوز كل الحساسيات واستيعاب كل الأطياف والقوى في مشروع الأمة الجامعة والوطن المشترك. وبدون الحرية (أي مع سيادة الاستبداد) تنمو العصبيات، وتبرز الأطياف والخصوصيات وتتطلع إلى بناء كيانات خاصة بها. لأن مشروع الاستبداد همشها ومارس التمييز بأقسى صوره ضد وجودها وتطلعاتها المشروعة.

إن تسفيه مشاعر الآخرين، لا يقود إلى التضامن والوحدة، بل إلى الشقاء والمحنة. وهكذا نصل إلى حقيقة أساسية مفادها: أن اندماج الأقليات في مشروع الوطن والوحدة الوطنية أو القومية، يتطلب إعطائها الحرية لممارسة شعائرها وطقوسها الدينية وفسح المجال القانوني لتاريخها الثقافي، ولمساهمة ثقافتها الــراهنة في صياغة واقعها الخاص. حينذاك (أي حينما تمنح الأقليات الحرية)، سيتم الاندماج الطوعي والاختياري في مشروع الوحدة الوطنية والقومية. فطريق الوحدة يمر عبر الحرية فلا وحدة بدون حرية، ولا اندماج بدون قانون ودستور يحمي خصوصية الأقليات الدينية والثقافية.

وهذا لا يعني التشريع للكيانات الخاصة والدويلات الضيقة، وإنما نعتبر هذه الكيانات وليد طبيعي للاستبداد والديكتاتورية. لذلك فإن المطلوب احترام الخصوصيات الدينية والثقافية، لأنها الطريق الحضاري لخلق وحدة في الاجتماع السياسي.

- الحرية بوابة الوحدة:

لكي ترتفع الأقليات والاثنيات من دوائرها التقليدية وكياناتها الذاتية إلى مستوى المواطنة الجامعة، هي بحاجة إلى عوامل موضوعية وسياسية، تساهم في إشراك هذه الدوائر والكيانات في بناء مفهوم الأمة.

ولقد علمتنا التجارب أن التعامل القهري مع هذه الكيانات الأقلوية والإثنية، لا ينهي الأزمة، ولا يؤسس لمفهوم حديث للأمة والوطن، وإنما يشحن المجتمع بالعديد من نقاط التفجر والتوتر، ويدفع هذه الكيانات إلى الانكفاء والانعزال، وبهذا يسقط مشروع الأمة والمواطنة الجامعة.

وخيار القمع والاستبداد خلال العقود المنصرمة، وفي مناطق عديدة من مجالنا العربي والإسلامي لم يقض على هذه المشكلة، ولم يؤصل لمنظور وحدوي جديد، يتجاوز فيه بشكل حقيقي وعميق مشكلة الكيانات الخاصة.

وإنما أدى خيار الديكتاتورية والقمع، إلى مسلسل رهيب من التهميش والتمييز على مختلف الصعد بحق أبناء الأقليات والأثنيات.

وفي المقابل وأمام هذه الهجمة الشرسة ضد هذه الكيانات، مارست الأخيرة عملية انكفاء وانعزال من اجل الدفاع عن ذاتها وخصوصياتها الأثنية أو القومية أو الدينية أو المذهبية.وفي المحصلة النهائية كان الوضع عبارة عن قمع وتهميش وتمييز وإلغاء تمارسها مؤسسة الدولة تجاه هذه الوجودات، لتذويبها بالقوة والقهر في الدائرة الوطنية أو القومية الغالبة، وممانعة مستميتة من قبل هذه الوجودات، ألصقتها بخصوصياتها وشخصيتها التاريخية وانغلاق تام في الدائرة الخاصة. ومن جراء هذه المسألة لم ينجز مشروع الأمة الواحدة، ولم يتحقق الإجماع والوحدة الوطنية على قاعدة طوعية واختيارية.. وإنما جعل المسألة الوطنية في خطر عظيم ودائم من جراء هذا الخيار المتخلف في التعامل مع مسألة الأقليات والاثنيات والقوميات المتوفرة في مجالنا العربي والإسلامي.. فالاستبداد فاقم المشكلة، والقهر عمقها وأضاف لها أبعادا جديدة، والتهميش والتمييز المقصود، حرك كل الكوامن والخصوصيات باتجاه المزيد من التشبث بها والالتزام بمقتضياتها.

وهذا يعني أن الديكتاتورية والاستبداد، لم يدفع هذه الدوائر إلى مصاف الأمة الواحدة، كما أنها لم تشعر بالاطمئنان التام تجاه كل شعار ومشروع وحدوي، تقف وراءه مؤسسة مستبدة وديكتاتورية عسكرية أو سياسية. وذلك لأن هذا المشروع الوحدوي، يخفي في واقع الأمر صراعا أقلويا وعصبويا، يتجذر ويتعمق في وسط الأمة بيافطة وحدوية وتوحيدية..

والمشروع الوحدوي الذي يستند على الديكتاتورية والاستبداد،يفضي إلى المزيد من الفرقة والتشرذم والتشظي والبعد عن كل متطلبات الوحدة.

لأن الوحدة الوطنية أو القومية، لا تنجز على قاعدة إفناء التنوعات الداخلية، وإنما عبر توفير الحرية لها، ولكي تمارس دورها في بناء الوحدة.. والخطاب الوحدوي الذي حارب الأقليات والاثنيات والقوميات الأخرى، باعتبارها مضادات للوحدة أو طوابير خامسة للقوى المعارضة للوحدة، انتهى المطاف إلى إقليمية ضيقة، لا يرى إلا الإقليم القاعدة، ولا يحترم إلا مصالحه وتحالفاته وواقعه السياسي. لدرجة نستطيع القول فيها، أنه لا يوجد قطر من الأقطار العربية، من يتعاطى مع مشروع الوحدة من موقع الجدية والخطوات المرحلية الدائمة الموصلة إلى هدف الوحدة.. وإنما يتم التعاطي مع هذا المشروع كشعار يخفي المصالح والمطامع الإقليمية، ولتبرير وتسويغ واقع الحال.. فالوحدة سيرورة تاريخية يتداخل فيها السياسي مع الثقافي والاقتصادي والنفسي، وهي بحاجة إلى عمل يتراكم مع بعضه البعض، لكي تخلق الحقائق والوقائع الوحدوية الموصلة إلى مشروع الوحدة الشاملة. ولكن وبفعل النزعة الشوفينية والعدمية لمشروع الوحدة الشاملة، نجد المفارقات العجائبية. خطاب وحدوي مركزي، ووقائع قطرية ضيقة، عاطفة جياشة تجاه الوحدة، وواقع يتم تبريره وإسناده مضاد للوحدة وموغل في الدوائر الضيقة، شعار وحدوي يتطلع إلى الوحدة بشوق وشغف، ومسيرة التجزئة وشرعيتها تأخذ مسارها في الوجود والممارسة.

لذلك نستطيع القول: أنه ليس كل خطاب وحدوي، يوصل إليها، بل على العكس من ذلك في كثير من الأحيان.. الخطابات الوحدوية (على المستوى الفعلي) تعمق الفروقات القطرية، وتتعامل مع واقع التجزئة من موقع استراتيجي، ينشد إبقاء الأمور على حالها.

لذلك فإننا بحاجة أن نعيد النظر في مشروع الوحدة، بمعنى أن التجارب والممارسات خلال الأربعة عقود الماضية، أوصلتنا جميعا إلى طريق مسدود في مسألة الوحدة. ولعلنا لا نعدو الصواب، حين القول، أن جذر الإخفاقات ليس في العوامل الخارجية التي وقفت ولا زالت تقف ضد مشروع الوحدة، بل في العوامل الداخلية، التي هي بحق المعوق الأساس والجوهري لهذا المشروع. ولعلنا نكثف هذه العوامل الداخلية في محور واحد هو: العلاقة بين مشروع الوحدة والاستبداد.

والتجارب الوحدوية الفاشلة، التي عمقت بفشلها وتراجعها وسلبياتها حالات التجزئة، كان السبب الأساسي في تقديرنا لفشلها وإخفاقاتها، هو في اعتماد هذا المشروع على ديكتاتورية عسكرية وسياسية لإنجاز هذا المفهوم الحضاري.

كما أن الوحدة التي تستند في خلق واقعها ومسيرتها الفعلية على سلطة مستبدة، لا تنجز الوحدة، بل تعمق خيار التفتيت والتشظي تحت مسميات ويافطات عديدة. فالاستبداد لا يخلق وحدة، بل تشظيا وتفتتا وانزلاقا نحو الحروب الداخلية المميتة لكل حيوية وفعالية باتجاه الوحدة ومتطلباتها السياسية والاجتماعية.

ولا نبالغ حين القول: أن من الأخطاء التاريخية الكبرى، التي وقعت فيها مشاريع الوحدة والتوحيد في مجالنا العربي والإسلامي، هو اعتمادها عسكرتاريا ديكتاتورية ونخبة سياسية مستبدة لا ترى إلا بلون واحد ولا تتعامل إلا بعقلية ضيقة، صحرت الواقع الاجتماعي، وأفقرت العمل السياسي والمدني، وخلقت الحواجز النفسية والفعلية الكبرى التي تحول دون الوحدة والتوحيد. لذلك لم نجن من هذه التجارب والممارسات إلا المزيد من التشظي والتجزئة والتشرذم.

وكمون قيمة الوحدة في قاع الوعي والعاطفة، ينبغي أن لا يدفعنا إلى تبني خيارات فوقية وشكلية لانجازها. لأن الخيار الخاطئ يفاقم العقد، ويبرز إشكاليات جديدة، تزيد من أزمات وعقبات مسيرة الوحدة.

كما أن الميل التاريخي نحو الوحدة والتوحيد في المجال العربي والإسلامي، من الضروري أن نقرأه بعمق، حتى يتسنى لنا خلق آليات مناسبة، تدفع هذا الميل التاريخي نحو مسيرة تصاعدية، إيجابية، تتجاوز مناخات الواقع السيئة. فالأزمة دائما ليس في قيمة الوحدة وإيجابياتها وآفاقها الكبرى التي توفرها على مختلف الصعد، بل في الطريق الذي تنتهجه النخب للوصول إليها..

- الحرية شرط تجاوز الطائفية:

الحقائق التاريخية عنيدة، ومشروع الوحدة لا ينجز على أنقاضها. حيث تعلمنا التجارب أن كل المحاولات التي بذلت لتدمير هذه الحقائق التاريخية كشرط للوحدة باءت بالفشل، وذلك لأن هذه الحقائق متجذرة وتمتلك امتدادات عميقة في الجسم الاجتماعي.. لذلك نستطيع القول أن طريق الوحدة، لا يمر عبر محاربة هذه الحقائق، وإنما عبر احترامها وتوفير الحرية اللازمة لها، حتى تتوفر الظروف والمناخات المؤاتية لانخراطها الحضاري في مشروع الوحدة والتوحيد.

فالمشترك الوطني، لا يعني إلغاء الخصوصيات الدينية أو المذهبية والثقافية، وإنما يتطلب احترامها وفسح المجال لها، لكي تمارس دورها ووظيفتها في إثراء مفهوم الوحدة بمضامين حضارية، تتجاوز الرؤية الآحادية والنهج الإقصائي.

واحترام الأقليات وإعطاءها الحريات اللازمة يعني:

1. فسح المجال القانوني والاجتماعي والسياسي، لكي تمارس هذه الأقليات شعائرها الدينية بعيدا عن الضغوطات والتجاذبات. ومن الأهمية أن ندرك جميعا، أن من الحقوق الأساسية لكل إنسان، أن يمارس عقائده وشعائره في مناخ من الحرية والاحترام و القانون. وحينما لا تتوفر هذه الحرية، لا يعني انعدام ممارسة الشعائر،بل يعني أن الأقليات ستبحث لها عن طرق وأساليب أخرى لكي تمارس شعائرها وطقوسها.

2. فسج المجال الثقافي والسياسي، لكي تمارس الأقليات خصوصياتها اللغوية والثقافية. إذ أن لكل جماعة بشرية خصوصيات ثقافية. قمع هذه الخصوصيات، لا يفضي إلى وحدة، بل إلى أساليب جديدة، تمارس هذه الأقليات من خلالها خصوصياتها الثقافية.

لذلك فإن المطلوب دائما، أن لا تقمع ثقافة الأقليات، أو يتم التعامل معها بفوقيه واستعلاء.. المطلوب الحرية بكل آفاقها ومتطلباتها للثقافة والخصوصيات المعرفية لكل جماعة بشرية.

3. الشراكة السياسية والاقتصادية، حتى تنطلق الطاقات والقدرات في مشروع بناء الوطن وعمرانه.

والشراكة السياسية والاقتصادية، تقتضي تكافؤ الفرص، وفسح المجال للجميع بعدل للمشاركة في الإدارة والتسيير.

لهذا نستطيع القول: بأن مفهوم الشراكة السياسية والاقتصادية في بناء الوطن وإدارته تقتضيان إلغاء كل أشكال الإقصاء والتمييز، والشفافية في الإدارة وتسيير الشؤون العامة، ووجود عقد اجتماعي ـ سياسي ينظم العلاقة بين مختلف الدوائر والقطاعات، حتى تنتظم جميع الكفاءات الوطنية في مشروع البناء والعمران.

فالاستبداد والتمييز، لا يخلقان وحدة واندماجا، وإنما تحاجزا وانفصالا عميقا بين مجموع القوى والتعبيرات المتوفرة في الساحة. ولذلك فإنه لا شراكة حقيقية على المستويين السياسي والاقتصادي مع وجود الاستبداد السياسي، وذلك لأنه يفرغ هذه المقولة من مضمونها الحقيقي والفاعل. فالشراكة السياسية والاقتصادية، تتطلبان تفكيكا متواصلا للبنية الاستبدادية، حتى يتسنى للجميع وعلى قدم المساواة المشاركة في إدارة الشأن العام وتطوير الوطن وعمرانه وتنميته على مختلف الصعد والمستويات.

وبكلمة: إن العدل السياسي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ودلالات، هو الذي يوفر الأرضية المناسبة، لإنجاز مقولة الشراكة السياسية والاقتصادية لكل القوى والأطياف في البناء والإدارة والتسيير.

- الحرية طريق المواطنة:

إذا توفرت الحرية والعدالة، توفرت عناصر العقد الاجتماعي الحقيقي، الذي يحافظ على الاستقرار ويعمق عوامل الأمن الشامل. فتتوفر كل العناصر المطلوبة لمفهوم المواطنة الحقة. فلا مواطنة بدون حرية وعدالة، فهما طريق خلق المواطن الصالح المدافع عن منجزات وطنه ومكتسباته، والمدافع عن ثغوره وحدوده، وهو الذي يكافح باستماتة من أجل عزة الوطن وتطويره. فالإنسان المقموع والمضطهد في وطنه، لا ينمو لديه حسن المواطنية بشكل إيجابي، وذلك لأنه باسم الوطن يضطهد ويقمع، وتحت علمه وشعاراته الوطنية تهان كرامته وتنتهك حقوقه. لذلك فإن طريق المواطنة هو الحرية وصيانة حقوق الإنسان والدفاع عن كرامته الإنسانية.

إن هذه القيم والمبادئ، هي التي تخلق عند الإنسان الحس الوطني الصادق. وبدون هذه القيم، تضيع المواطنية،و إذا ضاعت المواطنية ضاع الوطن.لذلك لا وطن عزيز بدون مواطنية عزيزة.

وإذا توفرت الحريات العامة، فهذا يعني توفر المناخ الملائم لتعبئة طاقات المجتمع، وبلورة كفاءات نخبته، وازدادت إبداعاته ومبادراته. وكل هذه الأمور من القضايا الحيوية لصناعة القوة في الوطن. ويخطأ من يتصور أن القهر والاستبداد والأساليب الأمنية المختلفة، هي القادرة على خلق المواطنية وحالة الولاء الصادق إلى الوطن.

إننا ومن خلال التجارب التاريخية العديدة، أن الحرية والشفافية وسيادة القانون والمؤسسات الدستورية، هو الكفيل بتعميق حس المواطنة الصالحة. فشعب الولايات المتحدة الأمريكية، أتى من بيئات جغرافية متعددة، وأطر عقدية ومرجعيات فكرية وفلسفية متنوعة، ولكن الحرية بكل آلياتها ومجالاتها ومؤسساتها، وسيادة القانون والمؤسسات الدستورية، هي التي صهرت كل هذه التنوعات في إطار أمة جديدة وشعب متميز.

فالحرية وحدها هي القادرة على خلق المواطنة الصالحة، وبدونها تتحول كل المشتركات عوامل للجمود والتخشب والبعد عن الحيوية والفعالية في كل مجالات الحياة. وإن المجال الإسلامي خلال العقود الماضية، دفع ثمن تهميش أقلياته وممارسة أقسى أشكال التمييز تجاه هذه الأقليات. حيث الحروب العبثية، التي أهدرت الكثير من الطاقات والثروات، والتدخلات الأجنبية السافرة في مصالح واستراتيجيات هذا المجال، حيث وجدت في سياسة التمييز والإقصاء الأرض الخصبة لإرباك الساحات الداخلية للعرب والمسلمين. والمحصلة النهائية لكل ذلك الشعور بالضياع وضمور الحس الوطني الصادق، والبحث الشره على المصالح الضيقة، حتى ولو كان ثمنها حرية الوطن واستقلاله.

ولا نعدو الصواب حين القول، أن جذر هذه الأزمة هو الاستبداد السياسي الذي يلتهم كل فعالية، ويقمع كل أمل وحيوية، ويزدري من كل تطلع وطموح.

فالاستبداد يدمر الأوطان ولا يحفظها، ويمتهن كرامة المواطنين، ويدوس على مقدساتهم وتطلعاتهم.

وحدها الديمقراطية التي تعيد الاعتبار إلى الذات والوطن، وتعيد صياغة العلاقة بينهما، فتنتج وعيا وطنيا صادقا، يحفز هذا الوعي على الدفاع عن عزة الوطن وكرامة المواطنين.

فالاستقرار السياسي والمجتمعي، يتطلب باستمرار تطوير نظام الشراكة والحرية على مختلف الصعد والمستويات، حتى يتسنى للجميع كل من موقعه خدمة الوطن وعزته.

والمواطنة التي نراها شرط إنجاز الحرية على الصعيد المجتمعي، ليست شعارا يرفع أو يدّون في الأنظمة الإدارية والإجرائية، بل هي منظومة متكاملة من الحقوق والواجبات، تدفع باتجاه تنمية مشاركة المواطن في قضايا وطنه المختلفة.. " ومن أجل تجسيد المواطنة في الواقع، على القانون أن يعامل ويعزز معاملة كل الذين يعتبرون بحكم الواقع أعضاء في المجتمع، على قدم المساواة بصرف النظر عن انتمائهم القومي أو طبقتهم أو جنسيتهم أو عرقهم أو ثقافتهم أو أي وجه من أوجه التنوع بين الأفراد والجماعات. وعلى القانون أن يحمي وأن يعزز كرامة واستقلال واحترام الأفراد، وأن يقدم الضمانات القانونية لمنع أي تعديات على الحقوق المدنية والسياسية، وعليه أيضا ضمان قيام الشروط الاجتماعية والاقتصادية لتحقيق الإنصاف. كما أن على القانون أن يمكن الأفراد من أن يشاركوا بفعالية في اتخاذ القرارات التي تؤثر في حياتهم، وأن يمكنهم من المشاركة الفعالة في عمليات اتخاذ القرارات السياسية في المجتمعات التي ينتسبون إليها " (6)

فالمشاركة الواعية بدون استثناءات ووصايات في شؤون الأمة والوطن، وقدرة كل مواطن إلى الوصول بكفاءته إلى أعلى المناصب والمستويات بصرف النظر عن منبته ومذهبه وقوميته، هو الذي يثري مفهوم المواطنة، ويجعل إنجازه مرهونا إلى حد بعيد إلى الحرية والديمقراطية. فلا مواطنة حقة بدون ديمقراطية سياسية، تعطي لكل المواطنين حق المشاركة والتعبير والاجتماع والتنظيم والإدارة. فطريق المواطنة بكل متطلباتها وشروطها، يمر عبر الديمقراطية، فهي التي تحقق مفهوم المواطنة، وبدونها نبقى سديما بشريا لا يشترك في تقرير مصيره، ويمارس عليه كل أنواع التمييز والتهميش.

ولا شك أن أحد الأسباب الرئيسة لانهيار الوعي الوطني الصادق، هو عدم التعامل الجاد والديمقراطي مع مسألة الأقليات. إذ خضعت هذه المسألة للعديد من الاستقطابات السياسية المختلفة، وتم استخدامها كورقة في الصراعات السياسية، دون أن تنبري قوى نوعية للقيام بمبادرات سياسية جادة، تسعى نحو بلورة رؤية متكاملة وممكنة لهذه المسألة في المجالين العربي والإسلامي.

ولنا في التجربة النبوية في المدينة المنورة خير مثال ونموذج، إذ أن المواطنة التي شكلها رسول الله (ص) لم تلغ التعدديات والتنوعات، وإنما صاغ دستورا وقانونا يوضح نظام الحقوق والواجبات، ويحدد وظائف كل شريحة وفئة، ويؤكد على نظام التضامن والعيش المشترك. إذ جاء في صحيفة المدينة: " وإنه لا يحل لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثا، ولا يؤويه، وإنه من نصره وآواه فإن عليه لعنة الله وغضبه إلى يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل. وإنكم مهما اختلفتم في شيء (فيه من شيء)، فإن مرده إلى الله وإلى محمد (الرسول) وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما دامو محاربين.. وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين: لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم، وأنفسهم، إلا من ظلم، أو أثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه، وأهل بيته " (7).

فسبيل المواطنة الصادقة، ليس التوحيد القسري والقهري للناس، وإنما بالحرية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وكرامته، نخلق مواطنا صالحا وفاعلا وشاهدا.

ومواجهة تحديات الخارج المختلفة، لا تتم عبر قهر الناس ومصادرة حقوقهم وحرياتهم،وإنما على العكس من ذلك تماما. فمواجهة تحديات الخارج، تتطلب انبثاق قوة وحدوية وتوحيدية في داخل الوطن، تأخذ على عاتقها تجميع الطاقات وبلورة الاستراتيجيات، والاستفادة من كل القدرات والإمكانات. وهذه القوة الوحدوية، لايمكن أن تبنى على قاعدة القهر ومصادرة الحقوق والحريات،وإنما على قاعدة صيانة الحقوق والكرامات، ومأسسة الحريات. إن هذه القاعدة الحضارية، هي التي تفشل كل عمليات ومحاولات الاختراق للجسم الوطني، وهي القادرة على إفشال كل الرهانات التي تسعى إلى تجزئتنا وتفتيتنا وانقسامنا.. " والديمقراطية بهذا المعنى هي تعظيم لقدرات المجتمع وتحصين له ضد الانفجارات الداخلية والاختراقات الخارجية. روح الديمقراطية، مثل روح الفيدرالية، لا تكمن في الآليات الشكلية بقدر ما تكمن في معنى تعظيم المشاركة وتعظيم الاستفادة من قدرات كل التكوينات الاجتماعية – ـ الاقتصادية، دون قهر أو استغلال من إحدى هذه التكوينات للتكوينات الأخرى. فليست الديمقراطية الليبرالية، مثلا، هي الشكل الأوحد أو الأنسب لكل الأقطار في كل الحالات. ولكن الأنسب والأمثل هو إتاحة الفرص المتكافئة لأبناء كل الجماعات الإثنية للمشاركة في إدارة مجتمعهم، وفي إنتاجه، وفي خدماته " (8).

والمجتمع الاستبعادي والمغلق، لايمكن أن تنمو في محيطه قيم الديمقراطية والتسامح، وذلك لأنه يستند على نظام اجتماعي مغلق، يحارب كل محاولة نحو الانفتاح والتواصل، ويقف موقفا مضادا من كل عمليات إعادة بناء المجتمع على أسس ومعايير جديدة..

والمطالبة بالديمقراطية، والشعور بضرورتها وأهميتها لواقعنا الراهن، ليس وليد التقليد الصرف للآخرين وأطوارهم التاريخية، بل هو من صميم واقعنا ومسيس حاجتنا إلى هذه الحريات، حنى نتمكن جميعا من الخروج من المآزق الكبرى التي نعاني منها، وتحول دون إنطلاقتنا الحضارية..

إن الديمقراطية بثقافتها وآليات عملها والمناخ الذي تخلقه على مختلف الصعد، هي القادرة على تفكيك الكثير من العقد والأزمات بأقل خسائر ممكنة. وإن رفض هذا الخيار والنهج، يفاقم من العقد والأزمات، ويدخلنا جميعا في حقبة الانفجارات الاجتماعية والحروب الداخلية، التي لا تزيد أوضاعنا وأحوالنا إلا سوءا وتدهورا.

وحدها الديمقراطية والحريات السياسية والثقافية، هي التي تؤسس لطريق جديد لمعالجة الأزمات من جذورها، وتنهي موجبات ديمومتها بأقل خسائر ممكنة على جميع الصعد والمستويات.

ولا يوجد شيء مهما علا شأنه يعوضنا عن قيمة الحرية. فحينما تتوفر كل أسباب القوة الاستراتيجية والعسكرية والشعبية، دون قيمة الحرية، فإن هذه الأسباب لا تباشر دورها المطلوب، ولا تقوم بممارسة تأثيراتها المنشودة.

فكاريزما جمال عبد الناصر والشعبية العارمة التي اكتسبها، لم يلغ حاجتنا إلى الحرية. والأحداث والتطورات اللاحقة في التجربة الناصرية، أكدت حيوية هذه القيمة، بل إن " الشعور الذي تولد لدى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعد الهزيمة،والذي عبر عنه في مناقشات مغلقة ومفتوحة كثيرة. هو أن تحييد الجماهير وإقصاءها عن المشاركة في تشكيل القرار السياسي بالرأي ـ مهما كانت ثقتها في الصفات الاستثنائية لكاريزما عبد الناصر، ومهما كان اقتناعها بسلامة وصحة الاختيار أو القصد الوطني عند هذه الكاريزما ـ قد أسهم بشكل محسوس في إضعاف مركز القيادة السياسية، أمام مراكز القوى التي مارست صراعا على السلطة، استنزف قدرات هذا النظام، وعبث بمقدراته، ودفع به إلى هاوية الإخلال بأول واجبات أي نظام سياسي، ألا وهو الحفاظ على استقلال التراب الوطني " (9).

مع الحرية والديمقراطية، يبقى مشروع الوحدة ممكنا، وبدونها يبقى واقعنا ممزقا وراهننا متشرذما. ولاعلاج لمآزقنا العديدة إلا بالحريات السياسية الحقيقية التي تسمح لجميع القوى والتعبيرات من المشاركة النوعية في إدارة الشأن العام وتطوير الحقل السياسي والمدني الوطني. ومع الديمقراطية والحرية تبقى الأقليات عامل إثراء لمضامين الوحدة على المستويات السياسية والاقتصادية والحضارية.

وبدونها تبحث الأقليات عن مشروعها الخاص، وتتكور في دائرتها الخاصة.فيضيع الوطن الجامع، وتتبعثر مشروعات الوحدة والتوحيد.

وإذا أردنا للأقليات أن تعود إلى فضاء الوحدة ومجال التوحيد، فما علينا إلا إرساء دعائم الديمقراطية ومتطلبات الحريات الدينية والثقافية والسياسية، حتى تتجاوز مشروعاتها الخاصة وهواجسها الذاتية.

فالحرية والديمقراطية هي الوسيلة الحضارية الوحيدة، القادرة على إدماج الأقليات بشكل اختياري وإنساني مع النسيج العام. وذلك لأن الحريات تساهم بشكل أساسي في تنمية المشتركات وتفعيلها والدفع بها باتجاه خلق الوقائع السياسية والمجتمعية المنسجمة وحاجات و متطلبات القواسم المشتركة.

إن الاندماج العام، لا يمكن أن يتم إلا على أرضية سياسية جديدة، قوامها الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون والدستور. وبالتالي فإن عملية الاندماج منوطة في عناصرها الكبرى إلى الأغلبية، حيث بإمكانها عبر الخطوات السياسية الجادة والنوعية نحو الانفتاح وتغيير قواعد اللعبة السياسية، أن تجعل المناخ العام مؤاتيا مع خيار الاندماج الوطني العام.

فالتقدم السياسي باتجاه الحريات، هو الذي يعالج مشكلة الأقليات. بمعنى أن عدالة العلاقة وديمقراطيتها بين الأغلبية والأقلية، هو الذي ينهي العناصر النابذة والنافرة في العلاقة بين الطرفين.

***

محمد محفوظ

..................

الهوامش

(1) د. سعد الدين إبراهيم، تأملات في مسألة الأقليات، ص 18، دار سعاد الصباح، مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، القاهرة 1992م.

(2) المصدر السابق، ص 23.

(3) جريدة الحياة اللندنية، العدد (13923)، الأحد 29 أبريل / 2001م، مقال الاعتراف بحقوق الأقليات اعتراف بوحدة العالم وتنوعه. جورج طرابيشي.

(4) تأملات في مسألة الأقليات، ص 23، مصدر سابق.

(5) برهان غليون، نظام الطائفية من الدولة إلى القبيلة، ص 6، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، بيروت 1990م.

(6) مجلة المستقبل العربي، العدد (264)، (2/2001م). مركز دراسات الوحدة العربية، ص 118. دراسة الدكتور على الكواري: مفهوم المواطنة في الدولة الديمقراطية.

(7) الشيخ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، الجزء (19)، ص 110 ـ 111، الطبعة الثانية، مؤسسات الوفاء، بيروت 1983م.

(8) تأملات في مسألة الأقليات، ص 237، مصدر سابق.

(9) عمرو عبد السميع، أحاديث الحرب والسلام والديمقراطية ـ الكتاب الثالث، ص 15، الدار المصرية اللبنانية، الطبعة الأولى، القاهرة 1998م.

لا غرو في أن أنبياء المورمونية المعاصرين قد استفادوا من الحركات الإصلاحية والملل العقدية اليهودية المستحدثة مثل “الأدفنتست” (السبتيين) و”شهود يهوه” اللتين ذاعت أخبارهما في الربع الأخير من القرن التاسع عشر بأميركا؛ فجميعهم قد اتفق على جحد التراث العقدي ونقده والتشكيك في سلامة نصوصه، وقدرة أنبياء الملل الثلاث على تجديد شريعة الرب، وإزالة ما أفسده الأولون من اللاهوتيين الذين قادتهم أهوائهم على التجديف والدس والانتحال. وقد اتفق أيضاً أنبياء المورمون والسبتيين وشهود يهوه على أن الرب قد منحهم القدرة على تأويل الوحي على نحو يتفق مع ثقافة العصر واحتياجات الواقع الإنساني وما انتهى إليه العقل البشري من علوم ونظم ثقافات وقيم تحقق السعادة لمن يؤمن بالبشارة الجديدة التي خَصَّ بها الرب سكان الكرة الأرضية في الغرب – ليعلموا الأجيال المُقبلة حتى قيام الساعة – والمتمثلة في أصول المدنية في العلم والاستنارة.

وجميعهم قد اتفق أيضاً على النهاية الدرامية للعالم حيث القوة والعنف وإسالة دماء الخصوم الذين لم يؤمنوا بتعاليم الصهيونية المقدّسة. وحريٌّ بنا الإشارة في عجالة للأثر الصهيوني على الديانات الأمريكية المعاصرة وعلى رأسها المورمونيّة.

ــ الدعوة الصهيونية:

لم تعتنق المورمونية عقيدة شعب الله المختار اليهودية لتميز بين الساميين والآريين؛ بل تجاوزت ذلك إذ أمنت بأن الرب قد نسخ شريعته ورفع من قدر المؤمنين بالتعاليم الصهيونية التي دعا إليها رُسل المورمونية فهم وحدهم دون سائر البشر الذين سوف ينعمون بالخلاص والبركة والسعادة في الملكوت الأعلى وسوف تُكتب لهم العزة بعد أن يتم خلاصهم بهزيمة أعدائهم على يد جنود الرب وقيادة يسوع لجيوش الصهاينة الذين سوف ينطلقون من أورشليم وذلك استناداً على ما جاء في سفر المورمون الإصحاح العاشر (31) (فأستيقظي وانتفضي من الثرى يا أورشليم، نعم، وألبسي حللك الجميلة، يا ابنة صهيون)، كما جاء في الإصحاح الرابع عشر (6) (لا تعطوا القوس للكلاب ولا تطرحوا دوركم قدّام الخنازير؛ لئلاً تدوسها بأرجلها وتلتفت لتمزّقكم … إنه ستكون هناك عاصمتان في العالم: الأولى في أورشليم, والثانية في أميركا؛ لأن صهيون تخرج من الشريعة, ومن أورشليم تخرج كلمة الرب).

كما تشير العديد من الدراسات المعاصرة على ذلك التقارب الأيدلوجي الذي جمع بين الطائفة البروتستانتية والثقافة اليهودية الصهيونية في المجتمع الأمريكي منذ منتصف القرن التاسع عشر. ومن مظاهر ذلك التآلف، اهتمام عوام المثقفين وجل خواص الأكاديميين لدراسة اللغة العبرية وآدابها والفكر السياسي الصهيوني، وأدبيات شعب الله المختار، وأخبار يوم القيامة وعودة يسوع في نهاية الزمان. ويستشهد سمير مرقص في كتابه “الأصولية البروتستانتية والسياسة الخارجية الأمريكية” بتأثر نبي المورمون ومن بعده رجل الأعمال الأمريكي القس وليم بلاكستون (1841-1935م) الذي قاد الدعوة الصهيونية لإعادة اليهود إلى فلسطين واتخاذ القدس مركزاً لهم وذلك انطلاقاً من معتقده المورموني بأن جيش الخلاص سوف ينطلق من القدس في المستقبل،

ومن ثم كان لزاماً عليه استمالة المسيحيين الأمريكان إلى زعم الحق اليهودي في إنشاء دولة لبني إسرائيل، وقد عبر كتابه (عيسى قادم – 1878م) عن تلك الأفكار، فأسس منظمة (البعثة العبرية من أجل إسرائيل) في شيكاغو وهي لم تزل مستمرة في مهمتها حتى اليوم باسم جديد هو (الزمالة اليسوعية الأمريكية) والتي تعد قلب جهاز الضغط الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد شارك هرتزل (1860-1904م) في انتقاء النصوص التوراتية التي يجب التعويل عليها في دعوتهما الاستيطانية وتكوين جماعات أمريكية تروج للفكر الصهيوني المسيحي، وتوجّت هذه الجهود بوعد بلفور عام 1917م.

وتضيف الكتابات التاريخية بعض مظاهر تلك العلاقة التي ربطت بين المورمونيين البروتستانت والصهاينة موضحة أنه ليس هناك مجالاً للشك في أن حركة التهود التي طالت الاتجاهات الأصولية المسيحية – إلى درجة اقتباس بعض النصوص التوراتية وتوظيفها في رسومات وشعارات أمريكية تفيد وحدة التراث المسيحي اليهودي المشترك وما يتبعها من أخلاقيات وسياسات ليبرالية براجماتية والخلاص الفردي وتفعيل ما يسمى بالإنجيل الاجتماعي- لا يمكن إنكارها ودورها في الفكر السياسي الأمريكي.

وفي عام 1942م تأسست (الرابطة الوطنية للإنجيليين). وفي عام 1990 أضحى اليمين المسيحي المفعم بالتعاليم الصهيونية المحرك الأول للسياسة الأمريكية.

ونستنبط من ذلك كله أن المورمونيين قد لعبوا دوراً مهماً جنباً إلى جنب مع الديانات اليهودية الإنجيلية المعاصرة لتحقيق ما جاء في كتاب المورمون وأقوال “سميث” ومزاعم “هرتزل”.

وتكشف قراءتنا لأصول العقيدة المورمونية عن عدة حقائق:

- أولها: أن المورمونية ديانة وضعية ذات منحى أيديولوجي راديكالي ووجهة صهيونية شيفونية تسعى إلى نقد دونها من الديانات والملل والمذاهب، وتجعل إنجيل المورمون هو الشريعة الحقة والكتاب المقدس الناسخ لكل الشرائع والضامن الأوحد للنعيم والسعادة للبشر في الدنيا والآخرة.

- وثانيها: أن بنية الأفكار والمعتقدات المورمونية مُنتحلة ومُلفقة بتأثير من الفلسفات الشرقية، وعلى رأسها الفلسفة الرواقية، والكتابات الهرمسية والشيفونية الغربية، وشطحات الربانيين والتلموديين والحسيديين من اليهود، وفرقة القبالة الباطنيّة الحلوليّة المؤصلة لقضية نسخ الشريعة على يد الأنبياء المحدثين وبروتوكولات حكماء صهيون، وذلك كله تحت مظلة الماسونية المنتحلة لمعظم الفلسفات المعاصرة.

- وثالثها: أن سياستها في التبشير تنحو منحى براجماتي في إقناع الشباب على وجه الخصوص بأرض الميعاد الجديدة المتمثلة في المدنية الأمريكية حيث التقدّم العلمي والتكنولوجي والرقي والرخاء والحرية ونعمة الرب والإخلاص في طاعة يسوع والنعيم المنتظر في أورشليم التي سوف تشهد الخلاص النوراني القاهر لأعداء الصهيونية في حرب آخر الزمان التي سوف يُسحق فيها الشيطان وزبانيته.

- ورابعها: ادّعاء المورموني أن من اعتنق الديانة المورمونية سوف يتحرّر من جميع الشرائع والمعتقدات السابقة؛ فالخلاص المورموني الذي يتم بالعمادة يغفر كل ما سبق ويخلص العقل والقلب من كل العوائق التي تحول بين المورموني وما يحقق له السعادة والهناء والأمن والطمأنينة في كنف المجتمع الصهيوني الجديد.

- وخامسها: أن العقدية المورمونية قد ابتدعها المفكرون الصهاينة المتأخرون لفض النزاع القائم بين اليمينين اليهود المتعصبين للقديم والحداثيين العلمانيين الغربيين الأمريكان والروس والأوروبيين على وجه الخصوص، وذلك منذ القرن 19م، وقد ساهم التيار الإصلاحي الصهيوني المتمثل في حاخامات الألمان في تشكيل بنية المورمونية الجديدة للربط بين السياسة والدين في البرنامج التثقيفي للمورمونية، حتى يتمكن يهود العالم من وضع قومية معاصرة خاصة بهم من جهة، والتأليف بين الإنجيليين المسيحيين والعلمانيين في شتى بقاع الأرض من جهة أخرى، والقضاء على كل الأصوليات الدينية باسم وحدة الأديان أو فلسفة ما بعد الدين أو إحياء الديانة الإبراهيمية كما بيّنا فيما سلف.

والجديرُ بالإشارة أنّ التيار الصهيوني الماسوني قد وجد في العقيدة المورمونية إحدى الآليات لفض النزاع الذي شب بين اليهود اليمينين والعلمانيين الليبراليين في القدس منذ عام 1939م. وقد روج الاتجاه الصهيوني في ألمانيا وبولندا للأفكار التي توحد بين الزعامة الصهيونية والكتابات المقدّسة التي تتنزل على التلموديين من قبل الرب؛ وذلك لإقناع الإسرائيليين بقومية جامعة بين الدين والسياسة في سياق علمي معاصر.

وخليقٌ بنا التنبيه على وجود أوراق خفية وتعاليم مشفرة وأهداف غير معلنة لهذا التحالف الأمريكي البروتستانتي الصهيوني الذي يسعى لقيادة العالم تارة عن طريق الاقتصاد، وتارة أخرى عن طريق تفكيك المجتمعات اجتماعياً وأخلاقياً وسياسياً، وذلك كله لخدمة الصراع المنتظر قبيل يوم القيامة انطلاقاً من دائرتين مركزيتين أولهما القدس والأخرى من نيويورك.

- أشهر الديانات الأمريكية المناصرة للمورمونية:

تعد ديانتي الأدفنتست وشهود يهوا من أهم الديانات الصهيوماسونية ذات الأثر الأكبر على المورمونيّة المعاصرة من جهة، والمشروعات الفلسفية التي تدعو لوحدة الأديان أو نسخها في دين واحد أو ابتداع العديد من المصطلحات الميتافيزيقية مثل عولمية الأديان، وما بعد الحداثة الروحية، وفلسفة النبوة، والتأويل التفكيكي للنصوص المقدّسة واللاهوت النسوي.

- السبتيون:

فقد ظهر السبتيون عام 1844م على يد الأميركي وليم ميللر(1782-1849م) أي عقب ظهور كتاب المورمون بإحدى عشر عاماً، وكانت أشهر عقائدهم وأهمها على الإطلاق هو إيمانهم بالعود الثاني والخلاص الأخير. والحرب الفاصلة بين شعب الله المختار الذي يمثله السبتيون بقيادة يسوع ضد أبناء الأفاعي من الأغيار الذين لن يؤمنوا بعقيدتهم الجديدة من سائر الأمم.

وقد تميزت التعاليم المورمونية بالمرونة وعدم القطع في المسائل التي يمكن الشك أن يتسرب إليها وتحاشت كذلك التصريح بأحداث مستقبلية غيبية يصعب التنبؤ بها وعلى رأسها تحديد موعد يوم القيامة والصراع الأخير. في حين أن أنبياء “الأدفنتست” قد وقوعوا في هذا الخطأ مراراً؛ الأمر الذي دفعهم إلى انتحال الأكاذيب واختراق الأحداث, فقد صرح أحد لا هوتيهم ويدعى “حيرام إدسون” (1806-1882م) : أنّ المسيح قد هبط بالفعل من السماء إلى القدس عام 1844م، وانشغل بإكمال بعض الأعمال قبل المجيء إلى الأرض, سوف يقرّر موعد بدء الحرب عند الانتهاء ممّا يشغله”. ولم تقف الحكايات عند هذا الحد؛ بل جاءت العرافة الشابة “ألن هرمون” (1827-1915م)؛ لتخبر الجميع أن المسيح قد هبط في هيئة غير مرئية وبارك يوم السبت وجعله يوم الحسم بين الخير والشر دون أن يصرح بزمن قدومه وبداية الحرب. وقد صرحت أيضاً بأن الرب قد اصطفاها وأنعم عليها بالنبوة والعصمة والتنبؤ بالغيب؛ الأمر الذي جعل كل السبتيين يبجلونها ويرفعون قدرها لدرجة القداسة واعتبروا أقولها مؤيدة وناسخة للكتابات المقدّسة السابقة عليها. ولا تتفق عقدية “الأدفنتست” مع المورمونين في قداسة النبي ونسخ قانون الإيمان والمجيء الثاني للمسيح فحسب؛ بل تتفق معها أيضاً في أن كنيستيهما لم تخل من التدليس ودس الكهنة والكذب على الرب والتجديف. أمّا قضية الخلاص والسعادة الأبدية فللسبتيين رؤية مُخالفة أيضاً لكل الطوائف اليهودية والمسيحية بوجهٍ عام والمورمونية بوجهٍ خاص، ويتمثل ذلك في اعتقادهم بأن الخلاص الأبدي يمر بثلاث درجات : بدأت الأولى عام 1844م وتختص بمحاكمة جميع البشر (للفصل بين الأخيار والأشرار) ومازالت منعقدة جلساتها حتى الآن وتسمى بالدينونة التحقيقية. أمّا الدرجة الثانية فتختص بمحاكمة القديسين وأخذ آراؤهم أو شفاعتهم في الساقطين والعصاة من الإنس والملائكة والجن والشياطين.

أمّا الثالثة والأخيرة؛ فلا حكم فيها إلا للمسيح؛ ليفصل في الأحكام السابقة في الجلستين السابقتين ويصدر الحكم الأخير بالسعادة الأبدية على الأخيار والجحيم الأبدي على العصاة والأشرار وتسمى بالدينونة التنفيذية.

وللحديث بقيّة

***

بقلم : د. عصمت نّصار

 

 

أسهم الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن الحاصل على جائزة الإيسيسكو في الفلسفة والفكر الإسلامي عام 2006 من خلال سلسلة من الأعمال الفكرية منذ سبعينيات القرن العشرين في المنهجيات الحديثة في التحليل النصي والدرس التأويلي للنصوص، انطلاقا من قناعته بضرورة تجديد النظر في كثير من المفاهيم المنثورة من حولنا، فحصا ونقدا وتصحيحا وتنقيحا للخروج من تيه الأفكار الذي نعيشه، "والتيه في الفكر كالتيه في الأرض؛ إذ لا أهداف يعلمها التائه يقينا حتّى يتّجه إليها؛ ولا وسائل يملكها حقًّا حتى توصِّله إلى هذه الأهداف؛ والتِّيه الفكري الذي أصابنا ينطق به حال الشتات الذي يوجد فيه أهل الفكر بين أظهرنا؛ وهذا الشتات ألوان شتّى: شتات في المكان؛ فلا رواق يُظلّهم، ولا مجلس يضمّهم، ولا ملتقى يشملهم، ولا دار ندوة تؤويهم. وشتات في الزمان؛ فلا حضور في عالم القرار لأفكارهم، ولا أثر في أفق المستقبل لمواقفهم، ولا تحاور بين أفراد الجيل الواحد منهم، ولا تخاطب بين مختلف أجيالهم. وشتات في الأفكار؛ وهو أسوأ ألوان الشتات؛ فهذا واقع تحت طائلة التقليد، داعياً إلى الترديد والانكماش؛ وذاك واقع تحت طائلة التنميط، داعيا إلى التكيُّف والاندماج؛ وهذا يتشبّث بكل قديم خوفًا على فقدان الهوية؛ وذاك يتقلّب مع كل جديد، طمعا في التحقّق بالغيرية؛ وهذا كل يوم في إشْكال، فتارة يندمج وتارة ينكمش، وتارة بين بين، وذاك لا إشكال عنده، يفكّر لساعته لا يعدوها؛ لكن على تباينهم درج كلُّ واحد منهم على أن يفكّر مذكيا لنفسه، وهيهات أن يفكّر معترضا عليها! والحق أنه لو اشتغل بالاعتراض على نفسه، لأدرك أنه في تيهٍ عظيم، ولا سبيل للخروج منه إلا بالاهتداء إلى الأهداف الصالحة والوسائل النافذة".(1) وهذا ما دفع طه عبد الرحمن إلى الوقوف أمام علاقتنا الحتمية بالتراث على مستوى تصوّر موضوعه ومنهج قراءته، "فنحن في التراث كما نحن في العالم لا اختيار لنا معه ولا انفصال عنه".(2)

والتراث عند عبد الرحمن "عبارة عن جملة المضامين والوسائل الخطابية والسلوكية التي تحدّد الوجود الإنتاجي للمسلم العربي في أخذه بمجموعة مخصوصة من القيم القومية والإنسانية حيّة كانت أم ميتة".(3) ودائرة مصادر التراث الإسلامي العربي ليس مقصورة عنده على اجتهادات المسلمين بل تمتد؛ لتشمل النص الديني المؤسِّس مستندا في ذلك إلى "قول الله عز وجل: أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا (فاطر: 32) فمفهوم التراث موجود في هذا النص الديني، فالقرآن والسُنّة هنا إرث للمؤمنين، أي يندرجان في تراث المسلمين."(4) غير أنّ هذا التصور لا يخلو من إشكاليتين: الأولى اتكائه على الدلالة اللغوية لكلمة الإرث في القرآن الكريم؛ لتحديد مفهوم التراث متجاهلا أنّ المفهوم في التداول الإسلامي اكتسب أبعادا ثقافية أكثر تعقيدا من الدلالة اللغوية للفعل "ورث" الذي لا يُشير في القرآن الكريم سورة الفجر: 19 إلا إلى ما يتركه الميت من مال فيورث عنه، فالمادة اللغوية القرآنية الأقرب إلى مفهوم التراث في التداول الإسلامي هي المشتق "سنة - سنن" في إحدى مدلوليه في القرآن الكريم، وقد حملت مدلولين تبعا لقيد الإضافة، الأوّل: "سُنّة الله" فهي بمعنى القوانين الإلهية العامة الثابتة في الكون والطبيعة من جهة، والإنسان والمجتمع من جهة أخرى، والثاني: "سُنّة الذين خلوا من قبل" فهي المفاهيم والقيم والمعتقدات والتقاليد والمحددات للسلوك والأعراف التي كانوا عليها، فالسنّة بالمفهوم الثاني أقرب الدوال إلى مفهوم التراث.

الإشكالية الثانية: إدماج طه عبدالرحمن القرآنَ الكريم في بنية التراث يُضفي قداسة على التراث، وهذا - من ناحية - يختلف عن رأي مؤتمر الأزهر الأخير الذي أكّد في توصياته(5) على نفي القداسة عن التراث، وأنّ القرآن الكريم ليس جزءا منه، بما يؤسّس لفكرة قابلية التراث للنقد، كما يقودنا هذا الاختلاف حول مفهوم التراث بين عبدالرحمن والأزهر إلى تعدّد الصور الذهنية التي بُنيت حول "التراث" في فكر الإسلاميّين المعاصر، ومن ناحية ثانية يتنافى إدماج القرآن الكريم في بنية التراث مع طبيعته في كونه فكرا واجتهادا إنسانيا لا يتم بمعزل عن واقعه، فهو نتاج مباشر للمكان والزمان الذي أنتج فيه، ووفق الآليات المعرفية التي توفّرت له. كما أنّ التراث ليس معطى واحدا، بل هو متعدّد ومتنوّع، فلا يخضع لمنظومة فكرية موحّدة متجانسة، بل لمجموعة من الأنساق الفكرية المختلفة الرؤى والتوجّهات، ومن أمثلة ذلك الاختلاف حول تعريف "الإيمان" بين كونه قاصرًا على تصديق القلب وبين كونه مرتبطا إلى جانب تصديق القلب بالعمل (العبادات)، ومثل قضية المجاز في القرآن الكريم التي شهدت اختلافا وتنوعا في تراث الأشاعرة والحنابلة والمتصوفة والفلاسفة والمعتزلة وغيرهم... مما يجعل الباحث - شاء أم أبى - في حالة اختيار مع التراث الذي هو في واقعه متنوّع، فالباحث لا يقدّم التراث بالألف واللام الجنسية، وإنما يُقدّم اختيارا وموقفا من التراث.

وفي الوقت الذي نسلّم فيه بتنوّع وتعدّد مجالات واتجاهات التراث إلاّ أنّها تربطها بنية فكرية واحدة، يُمكننا الوقوف عليها من خلال اكتشاف العلاقات العضوية المُشكّلة لمختلف مجالات التراث من اللغة والنقد والبلاغة وعلم الكلام وعلوم القرآن وغيرها، وهذا ما أطلق عليه الدكتور طه عبد الرحمن "القراءة التكاملية" أو "مبدأ تكامل المعارف" احدى المبادئ التي انتهى إليها عبد الرحمن من طول اشتغاله على روح التراث الإسلامي، على حدّ تعبيره، "فلو أنّ الغرب أخذ بمبدأ "تفاصل" أو تباين المعارف، فالمعرفة الإسلامية تتداخل أقسامها تداخلا كاملا، بحيث يبدو الفقه موصولا بعلم الكلام، وعلم الكلام موصولا بالفلسفة، والفلسفة موصولة بأصول الفقه؛ فقد حصل في التراث الإسلامي تداخل قويّ بين المعارف إلى حدّ أنّ بعض العلماء جمعوا بين الطب والفقه أو بين الفلسفة وأصول الفقه. فلا مفرّ لنا عن التكامل، لندخل إلى الحداثة محتفظين بعلاقتنا مع التراث الذي لابدّ لاستئناف النظر فيه من البحث عن الحبل السري الذي يمكن أن يربط بين الإبداع والنهضة في لحظة من لحظات الفعل الحضاري"(6)، وفي هذا الإطار تنوّعت كتابات عبدالرحمن بين التأسيس لقراءة تكاملية اعتمادا على آليات التداخل المعرفي، والتقريب التداولي ونقد الخطابات التجزيئية والتفاضلية في قراءة التراث.

تنوّعت كتابات عبد الرحمن بين التأسيس لقراءة تكاملية اعتمادا على آليات التداخل المعرفي، والتقريب التداولي ونقد الخطابات التجزيئية والتفاضلية في قراءة التراث

وقد فسّر تلك المظاهر التجزيئية بأنّها وليدة تقويم يغلب عليه الانشغال بمضامين النص التراثي، ولا ينظر البتّة في الوسائل اللغوية والمنطقية التي أُنشئت وبُلِّغت بها هذه المضامين".(7) فميّز عبدالرحمن بين نظرة جزئية تفاضلية لا تتجاوز في دراستها المضامين المعرفية للتراث بوسائل تجريدية وتسيسيه منقولة مع نسيان الوسائل التي عملت في تأصيل وتفريع هذه المضامين التراثية، وبين نظرته هو القائمة على الشمولية التكاملية غير التجزيئية للتراث بوصفها منحى غير مسبوق، لكنّ الواقع المعرفي يُشير إلى أنّ من الباحثين من شارك عبدالرحمن بدايات ظهور هذا المنحى (القراءة التكاملية للتراث) منها الدراسة المبكّرة في مسيرة جابر عصفور عن "الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي" التي قدّم فيها قراءة للنقد والبلاغة في ضوء علاقتها بعلوم التراث كلّها من فلسفة وعلم الكلام وتصوّف وتفسير وعلوم القرآن وغيرها في أوائل سبعينيات القرن الماضي، كما لم يكن ارتياد الجابري أو أركون أو أبو زيد وغيرهم مجال الدراسات التراثية مقصورا على المضامين بل ركّزوا على بنية العقل المنتجة للتراث وأدواته الاستدلالية واللغوية في محاولة لاكتشاف التراث في سياقه التاريخي الثقافي الفكري.

وإذا انتقلنا إلى منهجية عبدالرحمن في قراءة التراث بوصفها الإشكالية التي تُميّز العقل "المتسائل" من العقل "المذعن" والعقل القادر على إنتاج المعرفة من العقل الذي يُلوّن المعرفة، أو يكرّرها، فسنجد أنّها لا تنتمي إلى العقلية الأصولية الرافضة للتجديد بشكل عام والحداثة بوجه خاص تلك التي تُؤمن بكفاءة السلف العلمية وكفاية المرجعية السلفية العلمية التي أخذوها عنهم، داعين إلى القطيعة المعرفية مع الغرب العدوّ الذي يرونه معرفيّا وسياسيا وحْدة واحِدة لا تتجزأ، فيتطابق المعرفي الفكري مع السياسي في العقلية السلفيّة الأصوليّة المشبعة بفكرة المؤامرة، إلاّ أنّ عبدالرحمن تأثّر بالفكر السلفي في التركيز على خصوصية العقل المسلم وخصوصية المعرفة التي يُنتجها، فلا يتعامل مع العقل المعرفي بالمعنى الإنساني العام...

ومن جانب آخر، لا ينتمى منهج عبد الرحمن إلى الحداثة العربية التي رأى في تقليدها للغرب نقيضا لفكر الحداثة القائم على الإبداع، فمثّل تعاطِي الحداثيين العرب مع التراث - من منظوره - أحد مظاهر أزمة علاقتنا مع التراث في مستوى تصوّر موضوعه ومستوى منهج قراءته، فعلى مستوى الموضوع تمّ التعاطي مع التراث بطريقة تجزيئية، وعلى مستوى المنهج خرجت عن المقتضيات المنطقية والمنهجية في المعالجة، "فاستندت إلى أساليب أقل ما يُقال فيها بأنها تعسفية، لم تتردّد في أن تُسلّط على التراث بعض المقولات الماركسية أو البنيوية أو التفكيكية؛ وهكذا، كان الباحث يتقلّب بتقلّب الأدوات التي كان يستخدمها الغرب، فيقوم باستنساخها وتطبيقها على التراث؛ وقد أزعجني هذا الأمر كثيرا، وجعلني أنظر إلى هذا الأعمال على أنّها لا تعدو كونها تمارين يتدرّب فيها العربي على استعمال هذه الأدوات المقتبسة؛ لذلك رغم تقديري لهذه المنهجيات الغربية، ورغم اعتباري للنتائج التي توصّلت إليها في تراثها الأصلي وفائدتها في الوصول إلى نتائج مهمة بالنسبة للدراسات الغربية، كنت لا أرى مثل تلك الفائدة بالنسبة لنقلها إلى التراث الإسلامي العربي؛ فقلت في نفسي لا بدّ من إيجاد منهجية تناسب خصوصية تراثنا، ولا تكون واردة من خارجه أو مسلَّطة عليه بتعسّف بل لابدّ لهذه المنهجية النقدية من أن تنبعث من الداخل؛ فالمطلوب إذًا هو أن نستمدَّ المنهجية التي نقوّم بها تراثنا الإسلامي العربي من التراث نفسه".(8)

فقراءة النص التراثي عند عبدالرحمن قائمة على "مطالبة النص بالتدليل على وسائله أو مضامينه"(9) بأدوات مأصولة، وليس بأدوات منقولة، واختار من بين تلك الآليات والوسائل الاستدلالية واللغوية التي أنشأت المضامين التراثية آلية أطلق عليها "المناظرة العقلانية" أو "العقلانية الحوارية" انطلاقا من أنّ الأصل في الكلام هو الحوار، فحقيقة الكلام الذي تكلّم به الإنسان الأوّل كانت حقيقة حوارية؛ فالحوار موصول بالفطرة بالوجود بالروح، ثم دخلت فيما بعد على الحوار تهذيبات وتقنيات وضوابط محدّدة... والحوار له أهمّية آلية وداخلية وخارجية.. فعلى المستوى الآلي يعطيك الحوار حقوقا ويوجب عليك واجبات، إذ يعطيك حق الاعتقاد والقول فتبدي الرأي الذي تريد، ويعطيك حقّ انتقاد الرأي والاعتقاد المخالف، كما يوجب عليك أيضا واجبات فمن اعتقد شيئا وادّعى دعوى لابد من أن يستدلّ عليها؛ أي يتولّى بنفسه تقديم الأدلة على صحة دعواه واعتقاده، كما أنّه لا بد للمنتقد الذي يُطالب بالأدلة من أن يستمع أولا إلى أدلة المدّعي قبل الدخول في الاعتراض على دعواه؛ وعليه فإنّ الحوار هو مجال لممارسة القوة الاستدلالية للإنسان فعن طريقه يمكنك أن تظهر قوتك العقلية وقدرتك الاستدلالية، فالحوار هبة إلهية للإنسان تُمكّنه من تطوير أساليب استدلالاته على الأشياء. وعلى مستوى الأهمية الداخلية والخارجية، فإنّ الحوار يعود بك إلى الأصل، وهو أنّ الإنسان ليس مفردا بل هو جمع، هو "ذات" و"غير" في الآن نفسه، بدليل أنّ الإنسان قد يحاور ذاته كما يحاور غيرها، فالحوار فرصة لمعرفة الغيرية أو الآخرية، وممارسة لمعرفة الذات من حواري مع الآخرين، فالحوار تحقيق للإنسانية بالتعرّف عليها وتنمية للقوّة الاستدلالية.

وليست "العقلانية الحوارية" عند عبد الرحمن منهجا لتصحيح المعرفة فحسب، بل وسيلة لتحصيل المعرفة والزيادة فيها أيضا؛ فالحوار أصلا هو البحث المشترك طلبا للصواب، سواء ظهر هذا الصواب على يد هذا الجانب المعتقد أو المدّعي أم ذاك المنتقد أو المعترض، فهو بخلاف الجدل القائم على طلب الغلبة والنصرة على الخصم. غير أنّ آفة الحوار في مجتمعاتنا الغضب، فيقول شخص قولا أو يرى رأيا فيتصدى له الآخر قائلا: "لا، رأيك غير صادق، والرأي الصواب هو كذا وكذا"، وهذا ينافى قواعد التناظر الذي يتطلّب السماع للرأي المخالف ومنحه فرصة عرض أدلته ثم أبدأ ليس برفض رأيه أو عرض رأيي بل بإبطال أدلته واحدا واحدا ثمّ بعدها أعرض رأيي المناقض له، فالأصل أنّنا لا ندخل الحوار إلاّ لنُبين لغيرنا أدلتَنا على صحة ما ندعيه، وليس لمجرّد إرسال الكلام على عواهنه، وليس الحوار أن أقول قولا وأن أترك الآخر يقول ضده. والآفة الثانية غياب اللغة التوصيلية الجيدة فخسر الفلاسفة المسلمون معركة الحوار؛ لأنّهم كانوا على خلاف المتصوّفة ينقصهم الكفاءة التبليغيّة، فكانت لغتهم غير توصيلية تكاد لا تبين؛ فتكلموا لغة عربية مشوهة بالترجمة الحرفية، فجاءت العبارات قلقة ركيكة مما جعل الأفكار مستغلقة على الأذهان، وهذا ما جعل الشروح تتسلسل ولا تنتهي يحاول الشارح تلو الآخر رفع ذلك الاستغلاق كل على قدره.(10)

ليست "العقلانية الحوارية" عند عبد الرحمن منهجا لتصحيح المعرفة فحسب، بل وسيلة لتحصيل المعرفة والزيادة فيها أيضا.

وهذا ما جعل عبدالرحمن يرى أنّ تأسيس حداثة بنسخة إسلامية لا يتمّ إلاّ بواسطة مدخلين أساسين؛ أوّلهما مدخل الترجمة المبدعة، وثانيهما: مدخل القراءة الحداثية للقرآن الكريم المصدر المؤسّس الذي ولَّد التراث الذي بين أيدينا، فالدخول إلى الحداثة يحتاج قراءة جديدة مبدعة للقرآن بالمعنى الإنشائي والجمالي، وتلك القراءة الحداثية للقرآن - من منظوره - أبعد ما تكون عن قراءة الحداثيين للقرآن الكريم التي تأثرت بالغرب في تعامله مع الإنجيل بخطط ثلاث للقراءة: الخطة الأولى أطلق عليها خطّة الأنسنة وهي محاولة ردّ النص الإلهي إلى نص إنساني، فيحاولون أن ينقلوا النص من شروطه الإلهية إلى شروط إنسانية بنقل الآيات القرآنية من الوضع الإلهي إلى الوضع الإنساني، والغاية من ذلك هي محو القدسية عن النص الديني؛ وخطة الأرخنة هي وصل النصوص بسياقها التاريخي وبظروفها، والغاية من ذلك هي صرف الأحكام التي جاءت في النصوص الدينية؛ أي صرف ما اصطلح على تسميته بالحُكمية أي صلاحية الأحكام لزمان آخر غير الزمان التي وردت فيه؛ إذ يحاولون أن يرفعوا عن النص القرآني قيمته الحُكمية، حيث تفقد الأحكام قيمتها الإجرائية، فضلا عن قيمتها التشريعية، سالكين طريقا يُخرج هذه الأحكام من مستواها التشريعي المحض إلى مستوى يتجاوز هذا التشريع تاريخيا. ويتجاهل أصحاب هذه الخطط أنّ فرقا بين تراثنا الديني والتراث الغربي، وهو أنّ تراثنا باستمرار فاعل فينا ولو على أقدار مختلفة، وخطّة العقلنة وتعنى تطبيق الوسائل العقلية المستخدمة في المجال العلمي على النص القرآني، وهذا يصرف أثر الغيبية عن النصوص القرآنية، وإقصاء كل ما له دلالة على اللامحسوس واللامعقول (بالمعنى العقلي الحداثي كما حدوده)؛ فكلّ ما يوجد في النص من مضامين غيبية، يعملون على إزالتها باعتبار أنّ هذا الغيب لا يمكن أن نراه أو أن نحسّه، وخطؤهم يكمن في أنّه ليس كل ما لا نراه أو لا نحسه، يلزم بالضرورة أن يبقى كذلك حتى بالنسبة إلى المستقبل القريب أو البعيد.. فالحداثيون العرب يردّون النص القرآني إلى ما هو بشري وعقلي وتاريخي، حيث يصبح مجرّد نصّ من إنتاج العقل العربي، ولم يفعلوا ما فعلوه متوسّلين بآليات ابتكرتها قرائحهم، حتّى يستحقّ أن يكون اجتهادا منهم، ولو أنّه اجتهاد باطل! وإنّما نقلوا وسائلهم النقدية عن الغرب، ونزّلوها على النص القرآني بتقليد أعمى واستنساخ مطلق؛ فكلّ ما وضعه علماء الغرب لدراسة نصوص الكتب المقدّسة -أي التوراة والإنجيل- من مناهج مقرّرة، وما توصلوا إليه من نتائج محددة، أخذه العلمانيون العرب وأنزلوه على القرآن الكريم بخصوصيته المسيحية وبتفاصيله السياقية والتاريخية التي تخص الممارسة الغربية للدين... فليس لهم القدرة على تمثّل الأدوات الإجرائية، واستيعاب المنهجيات العلمية التي وضعها الغرب، بل يسقطون هذه الآليات على تراث الإسلام دون نقد أو تمحيص لها."(11)

وقيّد عبدالرحمن الاستفادة من المناهج المعاصرة بأن تكون لها جذور في التراث، وأن يتّفق المنهج مع طبيعة الموضوع التراثي الذي ستقوم بمعالجته، فيقول: "عندما أحدّد طبيعة الموضوع التراثي الذي أنظر فيه، ويتبين لي أن الآلة المنطقية مفيدة في بيان خصائصه، فإنّي أعالج عمل هذه الآلة المنطقية مفيدة في بيان خصائصه، فإنّي أعالج عمل هذه الآلة داخل النص لا من جهة خصائصها التي أقرّها التراث فحسب، بل يُمكن أن أتوسّل أيضا في هذه المعالجة بالمستوى المعرفي والمنهجي الذي وصلته هذه الآلة في العصر الحديث لقد استفدت كثيرا من تطور الأداة المنطقية كثيرا داخل النص التراثي وهكذا أكون قد استعنت بالآلة المنطقية التي حققت تطورا وتقدما خارج التراث لدراسة الآلة داخل التراث، باعتبارها خاصية مميزة له، وخير مثال على تشبع التراث بالآلة المنطقية هو عنايته بالمناظرة فمعلوم أن منهج المناظرة يقتضي دخول شخصين على الأقل في حوار على أساس الوصول إلى نتيجة غالبا ما تكون معرفية؛ فكانت المناظرة عند المسلمين بمثابة وسيلة لتحصيل المعرفة، ولم تكن وسيلة لحل المشكلات الاجتماعية والسياسية فقط كما هو حالها اليوم؛ ولقد أُهملت المناظرة عند المسلمين لسبب واحد هو تقليد الباحثين العرب للغرب في دراسة التراث؛ فلما لم تكن المناظرة عند الغرب بمثل القوة والتوسع في إنتاج المعرفة اللذين كانا لهما عند المسلمين، فإنهم لم يولوها في دراستهم التاريخية النقدية لتراثهم أهمية كبيرة؛ ولما جاء الدارسون العرب لتناول تراثهم، اتبعوا خطواتهم، فلم يعطوا للمناظرة أيّة قيمة في دارستهم، ولربّما هذا الوجه الذي يُسهّل وصله بالمعاصرة والحداثة. ويتدخّل مع آلية المناظرة العقلانية عند عبدالرحمن النقد المنطقي الذي جعله بديلا للنقد التاريخي في قراءة التراث، فهو من منظوره آلية من داخل التراث تشبّع بها إلى درجة كبيرة كما في أصول الفقه، والفقه، والبلاغة؛ "فكان للآلة المنطقية دور كبير في إنتاج المعرفة الإسلامية؛ لذلك، كان استخدامي لها في الكشف عن روح التراث الإسلامي المتمثلة في المقاصد والقيم والمبادئ التي بُنى عليها التراث وتحّكمت في عملية توليده وتطويره؛ فإذا استطعنا أن نقف على هذه المبادئ التي تحكم التراث وتشكّل روحه، فبإمكاننا من خلال هذه الروح أن نحقّق نتائج إيجابية في الربط بين التراث والمعاصرة حتّى نستأنف العطاء ونتصل بالمعاصرة".(12)

وتقوم قراءة التراث عند طه عبد الرحمن كسائر مشروعه الفكري على ثنائيات، فكما تقوم الأخلاق من منظوره على ثنائية بين الهيئات والأفعال الروحية والظاهر والباطن، وتقوم الحداثة عنده على ثنائية بين واقع متمثل في تطبيقاتها وروح متمثلة في قيمها ومبادئها، كذلك يقوم التراث على ثنائية بين ذاكرة معرفية وروح أنتجت تلك المعرفة، فإعادة الماضي على مقتضاه القديم يستحيل عقليا وتاريخيا؛ لكن ما يمكن أن يُعاد من الماضي هو روح التراث الإسلامي متمثلة في استلهام القيم الإنسانية والأحكام الشرعية القطعية التي تخدم الإنسانية التي لا يمكن نهائيا أن تموت مع مرور الزمن، فالتراث يبقى في الذاكرة التي فيها الميّت والحي، فهناك قيم داخل التراث لم يعد من الممكن اليوم الدخول بواسطتها إلى الحداثة. فيؤسّس عبدالرحمن بذلك لعلاقة تفاعلية بين التراث والحداثة داعيا إلى الأخذ بروح الحداثة التي تكمن في مجموعة القيم والمبادئ التي علينا أن نبحث عنها دون أن نتوقّف أمام واقعها الذي ينقله البعض نقلا حرفيا، فهم تقليديّون، وإن ادعوا الحداثة، ولا أن نرفضها ونراها كفرا، فالحداثة أن يكون الإنسان حاضرا مبدعا في عصره لا في زمان غيره، فنستعيد من أسلافنا قدرتهم الإبداعية في الأخذ من اليونان واللاتين حتى نكون حداثيين، واستكمل الدكتور طه عبد الرحمن مجملا روح الحداثة في ثلاثة مبادئ، الأول: ألا تقبل بوصاية أحد على تفكيرك، ورأى أنّه ليس حداثيا فحسب، بل تراثيا يتّفق مع التصوّر التداولي الإسلامي لا رشد مع تقليد. والمبدأ الثاني: الفكر النقدي أن تكون لك القدرة على الاعتراض على ذاتك وغيرك وعلى الأشياء من حولك، فالاعتراض ليس محدودا بل هو شامل واسع. المبدأ الثالث الشمول، فالحداثة تنتشر في المجتمعات والمجالات كلّها، ولا يمكن حصرها في مجتمع مخصوص، ولا مجال مخصوص، فلا قطيعة بين الحداثة والدين أو الأخلاق فهي الروح التي ينبغي أن نأخذ بها اليوم، ونتوسّل بها كغيرنا من الأمم في تحقيق نهضتنا. إذا أردنا أن نصل التراث الإسلامي بالحداثة اليوم أو بالمعاصرة، فإنّنا في حاجة إلى الاستفادة من الصفات خاصة والمبادئ المميزة التي يقوم عليها التراث وهو ما أسماه ه بـ "مبدأ التداول"، ويقصد به أنّ التراث الإسلامي أو الحضارة الإسلامية كانت دائما تستوعب الوافد عليها أو المنقول إليها استيعابا يُخضعه للقيم المعرفية والقيم اللغوية والقيم العقدية الخاصّة به، فالتراث العربي لديه قدرة متميّزة على تحويل المنقول من ثقافة أخرى إلى مضمون يوافق مقتضيات وقيم الإسلام، فكلّما ورد علينا مضمون حداثي أو مضمون عصري أو مفهوما أو حكما تعيّن علينا أن نخضعه لهذه المقتضيات التداولية التي اختصّ بها التراث الإسلامي من قيم عقدية ولغوية ومعرفية.

فـ"الحداثة ليست في تجاوز المصادر الأصلية للتراث، وإنما أن نجدد استخدامنا لهذه المصادر، فنولد منه تراثا غير مسبوق نضيفه إلى ما سبق... وأدعو هؤلاء إلى قراءة حداثية مبدعة حقا تستجيب لما يبتغون هم، ولكن على الوجه الذي يجب وحيث يجب؛ فهم يريدون أن يرفعوا القدسية، فيمكن أن نرفع هذه القدسية حيث ينبغي، إذ يكفى أن نستبدل مكان هذا المقصد مقصدا آخر أوسع منه مثل "تكريم الإنسان" ومتّى كرّمنا الإنسان، تعين رفع القدسية عن الاجتهادات التي لم تعد صالحة لسلوكه ولا خادمة لوجوده؛ وعلى هذا ينبغي أن تغير المقاصد والغايات التي وظفها أهل التقليد لرفع القداسة ورفع الغيبية ورفع الحكمية، وأن نضع مكانها مقاصد أخرى تعمها وتحفظها جزئيا حيث أصابت، وفي المجالات التي يجب أن تحفظ فيها."(13)

وفي الوقت الذي أقرّ عبدالرحمن التفكير النقدي كأحد مبادئ الحداثة شكّك عبد الرحمن في جدوى القراءات النقدية للتراث، ورأى أنّها ليست سوى صدى لقراءات الغرب النقدية لتراثه الكنسي، مؤكّدا أنّ الغرب في بداية النهضة الأوروبية لم ينتقد التراث، بل عاد إلى التراث اليوناني دون نقد، وكان النقد للتراث الكنسي والسلطة الكنسية، وكان الغرب يعتبر تراثه جزءا من هويته، فاشتغال الغرب بالتراث كان تأييدا لمقوّماته وإحياء لقيمه، بينما أهل الاشتغال بالتراث على أساس مبدأ الحداثة من العرب تولّوا نقد التراث؛ لينتهوا إمّا إلى إلقائه كلّيّا والدعوة إلى الانفصال عنه، بحجة أنه لا يمكن أن ندخل عصر الحداثة إلا بتطليق هذا التراث تطليقا، لا رجعة فيه، وبعضهم رجع إلى ما يراه مقبولا من التراث، وهو نصوص الفلسفة اليونانية التي نقلت إلى العربية فهو مقبول عندهم من حيث كونه جانبا موصولا مع التراث اليوناني، وحاول بعض الحداثيين العرب البحث عن المفاهيم الموجودة في الحضارة الغربية مثل العقلانية في التراث بشكل انتقائي، فاتجه الأغلبية نحو التراث المعتزلي واعتبروه نقطة الانطلاق، وهذا تعاطي تجزيئي مع التراث ينتهى إلى ترك أغلب التراث، أو تنتهي إلى الانقطاع كليا، فالبحث عن مفاهيم موجودة في الأصل عند الغرب وفي ثقافته وتسليطها على التراث الإسلامي في شكل استنساخ لها من غير القيام بنقدها وتمحيصها، بل من غير التمكن من آلياتها هو أمر يتعارض مع مقتضيات البحث العلمي: فكم من مفاهيم أخذ بها الدارسون للتراث لم يتمكنوا من ناصية إجراءاتها ومن طرق استثمارها في التراث مما أفضى إلى نتائج فاسدة عن التراث.(14)

ولا تخلو منهجية عبدالرحمن في قراءة التراث من جوانب نتفق معها ونُؤسّس عليها، وجوانب أخرى نختلف معها ونُعيد التفكير فيها، فمن إشكاليات منهاجيته في قراءة التراث التعالي به عن النقد بزعم خصوصية الأدوات التي أنتجت مضمونه، وأنه لا يستقيم إخضاع مضامين التراث لأدوات تمّ إنتاجها في غير بيئته، ورأي في اعتماد العقل الحداثي على آلية نقد النصوص تقليدا للدراسات الغربية في محاولتها رد النصوص إلى سياقاتها التاريخية المنتجة لها، فهو يعتقد اعتقادا جازما بأنّه لابدّ من أن يقوّم التراث ويُنقد بحسب الأدوات التي استخدمت في إنتاجه، حتى يُعرف هل استوفى شرائط هذه الأدوات أم لم يستوفها.. وأنّه لا يجوز الاعتماد على أدوات أخرى لم تُنتج مضمونه إلاّ على سبيل المقارنة لا على سبيل التحقيق. فشكّك في جدوى قراءات الحداثيين للتراث، ووصفها بمحاولات تنقية أو استصلاح أو عقلنة للتراث، باعتبار أنّ قسما قليلا منه فقط ينسجم في رأيهم مع روح العصر، فقراءات الحداثيين للتراث قراءات مقلدة، وليس لها من الحداثة شيء؛ لأنّها تنقل وسائل وأدوات تخص الغرب وحضارته وتاريخه، وإن كان يتّفق معهم في حاجتنا إلى نهوض الإسلام إلى تجديد قراءة التراث، ولكنّه تجديد ينبغي أن نبدع فيه، فنأتي من عندنا بأدوات وآليات يحدّدها تاريخنا وتراثنا أي مجالنا التداولي الخاصّ بنا، فيتناقض عبد الرحمن مع نفسه حين يتحدّث عن الإبداع، وفي الوقت نفسه يُلزم بأن نستولد من التراث وسائلنا في تحديث هذا التراث، ويجعل القراءة الحداثية مقيّدة بما يجب وحيث يجب.. فما انتهى له الدرس اللغوي الحديث مثلا ليس نتاج فكر إنساني عام يصلح لدراسة النصوص العربية، فيستعلى بنصوص وخطابات التراث عن الخضوع لتلك النظريات اللغوية الحديثة، ويرى أنّ أدوات ووسائل القدامى هي الأجدى في التحليل والفهم ليس لشيء سوى لتراثيتها.

إنّها الإشكالية التي تغلّب عليها الشيخ عبد القاهر الجرجاني، فتفرّد عن معاصريه بتجديد ما زلنا نحتفي به إلى يومنا، وعجزنا نحن عن مواجهة إشكالية المنهج فلا تعدو قراءاتنا للتراث عن كونها عكوفا على القديم نقلا وترديدا فحسب، وإذا كان عبد القاهر قد أفاد لا من جهود سابقيه فقط، وعلى رأسهم "القاضي عبد الجبار الأسد آبادي المعتزلي"، بل من إنجازات "أرسطو" اليوناني في كتابه "الشعر" و"الخطابة"، فإنّ واجبنا كباحثين معاصرين أن نفيد من إنجازات المناهج الحديثة المعاصرة في "اللسانيات" و"علم تحليل الخطاب" و"السميولوجيا"، و"السرديات" إنّ التخوّف من هذه المناهج في دراسة التراث بدافع الخوف من الخطأ يتنافى مع الإسلام الذي جعل للمجتهد المخطئ أجرين، والتخوّف منها بدافع من الوقوع في التبعية يعكس ضعفا في الثقة بالنفس، ويوهم بقداسة التراث وتعاليه عن كونه اجتهادات صاغها القدامى في الوقت الذي نُقرّ فيه بنفي القداسة عنه وقابليته للنقد، القراءة الواعية للتراث لا سقف يحدّها ولا شروطا تعوقها سوى "التمكّن" المعرفي أي تمام العلم بشروط وأدوات "المعرفة" والتمرّس بأدوات البحث ومناهجه حسب المواصفات التي وصل إليها التقدّم المعرفي في عصر الباحث. وليس معقولًا، ونحن في القرن والحادي والعشرين، أن نتمسّك بشروط وقواعد القراءة العلمية التي وضعها أسلافنا تمسّكا حرفيا، ونتجاهل تطوّر أدوات المعرفة في عصرنا هذا. "إذا كانت علوم اللغة والبلاغة وعلوم القرآن من العلوم الأساسية التي اعتبر أسلافنا -على حق- أنّ الإلمام بها شرط من شروط التأهُّل للاجتهاد والقراءة العلمية المنتجة. فهل معنى ذلك أن نتمسك بمستوى علوم اللغة والبلاغة في القرن الخامس أو السادس الهجريين، وأن نتجاهل مستوى التقدم المُذهل الذي تحقق في مجال هذين العلمين! لماذا لا نستفيد في المنجزات المتغيرة للعلم والمعرفة في قراءة النصوص اللغوية والخطابات الفكرية"!(15) لماذا عندما نتحدّث عن تناول التراث وفق أدوات منهج التحليل اللغوي الحديث مثلا نراها محاولات لإخضاع التراث لمنهجيات غربية ألم تكن لغة العلم لغتنا في عصور التألق الحضاري، لماذا ألصقناها اليوم بالغرب وجعلناها مرادفة له!

من ناحية ثانية، تتمحوّر مركزية التراث في مشروع طه عبد الرحمن في كونه وسيلة لتثبيت الهوية، وأداة لدعم الإبداع، "فلا إبداع بغير تراث ولا هوية بغير تراث إذ يكون التراث بمثابة المرتكز الذي يسمح للإنسان أن يستجمع قواه ليمتدّ في المستقبل، فالماضي هو عبارة عن نقطة ارتكاز للاندفاع بقوة إلى المستقبل... ففي الماضي وفي إنتاجه كل ما يمكن أن يمدّ المسلم بأسس تثبيت هويته ودعم إبداعه."(16) ويُعلل ذلك بأنّ الإنسان بطبعه كائن متّصل واتصاله يكون بالزمان والمكان، واتصاله بالزمان يجعله يربط الماضي بالحاضر والمستقبل معا؛ فلابد لكلّ إنسان، كيفما كان حاله، من أن يكون له امتداد فيما سبق وامتداد فيما سيأتي؛ فعنده حاجة ميتافيزيقية أو روحية إلى أن تكون ذاته موصولة؛ ووجوب هذه "الموصولية" هو الذي يدفعه إلى الاهتمام بالتراث، فإنه يرجع إلى حالة الاتصال بالماضي باعتباره مقوّما من مقوّمات ذاته؛ لذلك كان الماضي يمدّ الإنسان بشيئين أوّلهما الهويّة فهذا الاتصال يوفّر للفرد البعد الثقافي الذي يجعله يحدد ذاته، مدركا تميّزه عن باقي أفراد الإنسانية، ولعلّ هذا ما دفع عبد الرحمن إلى عدم التفكير خارج مجال التداول الإسلامي التراثي، على حد قوله: "إذا انتابني ولو للحظات الشعور بأنّني أفكّر بعيدا عن هذا المجال، سرعان ما أعود إليه وأغوص بكلّيتي فيه؛ لأستخرج ما يمكن استخراجه من الحقائق".(17)

تتمحوّر مركزية التراث في مشروع طه عبد الرحمن في كونه وسيلة لتثبيت الهوية، وأداة لدعم الإبداع.

نتّفق مع عبدالرحمن في أنّ الماضي، وإن كان قد انقطعت صيرورته ولم يعد فاعلا إلاّ أنّه ما زال يتحرّك من خلالنا في وعينا به وتفاعله - إيجابا أو سلبا - مع سعينا لبناء الحاضر واستشراف المستقبل، غير أنّ التراث ليس هو الذي يُؤثّر في الحاضر على نحو أحادي الاتجاه فحسب، بل الحاضر أيضا يُؤثّر في التراث بالقدر نفسه، لأنّه ليس كيانا منفصلا عنّا، بل نحن مركز ذاك التراث نعيد تشكيله وفق الحاضر منه في عقولنا، لذا تتعدّد صور التراث بتعدّد العقول المستدعية للتراث، فكلّ قراءة للتراث ليست سوى محاولة لإعادة تفسيره من خلال الحاضر، ولا تبدأ تلك القراءة من فراغ بل من طرح أسئلة الحاضر التي تبحث لها عن إجابات داخل بنية التراث، ففي حالة الأسئلة المعلنة الصريحة الواضحة تكون آلية إنتاج المعرفة من التراث واضحة، وتكون القراءة قادرة على إنتاج وعي علمي بالتراث، وفي حالة السؤال المضمر تكون آليات القراءة مضمرة، وتكون القراءة للتراث مزيّفة للوعي متحيزة لموقف أيديولوجي، وإن تظاهرت بالموضوعيّة.

كما أنّ فكرة عبد الرحمن في التعامل مع التراث كجزء من الهويّة سرعان ما تتحوّل إلى كل الهوية في التداول الإسلامي، ومثل هذا الاختصار لهوية الإنسان في بعد واحد، وإن كان "الدين" فهو إشكالية كبيرة؛ لأنّ تلك الخصوصية المُغلقة تجعل الإنسان يحصر المعرفة في الدين، ويزعم امتلاكها، ومن تجلّيات تلك المشكلة أنّه وجدت جماعات تحتكر الإسلام، وتنسب نفسها وحدها إليه، والأدهى أنّها لا تحتكر جانب المعنى الديني فحسب، بل المعنى الاجتماعي والمعنى الثقافي والمعني السياسي، بالإضافة إلى المعاني الأخلاقية والروحية، ونصبت كل جماعة من نفسها سلطة حامية لفهمها الذي جعلته دينا.

ومن جانب آخر، يصبح الماضي بمثابة نقطة استقرار وجمود، فالاستغراق في الماضي هو أحد الأمراض الفكرية المزمنة للعقل المسلم التي تقتل فيها الإبداع أهمّ سمات المشروع الحداثي، فلا يتّبع مسار التطوّر الإنساني التقدّمي إلى الأمام، بل يقف عند نقطة من الماضي يريد الارتداد بالزمن إليها؛ بغية تطهير الحاضر بإعادته إلى الماضي، ويضيع الأفق المستقبلي بالارتداد إلى حلم الماضي، فنسعى إلى المستقبل ليس في نقطة زمن آتية، بل في نقطة زمنية ماضية، ويقتل الإبداع بالتقليد، وتتحوّل الحداثة إلى عمليّات طلاء مستمرة لتقديم الموروث التراثي في صورة الحداثي.

أخيرا إذا كان التراث الذي بين أيدينا تشّكل في مصنفات من خلال اللغة التي هي ظاهرة اجتماعية ثقافية وموجّهة إلى متلقٍّ اجتماعي تاريخي، فلماذا لا نقرؤه من خلال المناهج التي انتهى إليها الإنسان حديثا في تحليل النصوص اللغوية، لماذا نتعامل مع تراثنا ولغتنا كاستثناء! لماذا لا نفتح الباب للاختلاف في الفهم والقراءة والتفسير، الجهل لا يحارب بالجهل بل بالمعرفة العلمية التي تهدف إلى إطلاق حيوية البحث والتفكير وإعلاء شأن العلم في هذه الأمّة... إنّ وقوع بعض الدراسات في التعسّف على مستوى النتائج لا يقتضي رفض المناهج العلمية المتبعة في تلك الدراسات، وإنّما حصر الرفض في التطبيقات الخاطئة أو المتعسّفة في استخدام الأدوات المعرفية، وتظلّ جميع نصوص التراث نصوصا لغوية موصولة بالسياقات الاجتماعية والثقافية التي تشكّلت فيها، لا تكتفي القراءة العلمية الدقيقة باكتشاف دلالاتها في سياقها التاريخي الثقافي الفكري، بل تتعدّى ذلك إلى ضرورة الوصول إلى "المغزى" المعاصر للنصّ التراثي في أيّ مجال معرفي، وإذا كنّا في حالة خوف من ضياع الهويّة والقلق من حالة التبعيّة الثقافية الكاملة للآخر، فإنّ الوعي العلمي بحقيقة تراث وكيفية تكوّنه والعوامل التي ساهمت في حركته وتطوّره حتّى وصل إلينا سيُساعدنا على الصمود والتصدّي والمقاومة بل والتجاوز والتأسيس والمضيّ في البناء المعرفي.

***

بقلم عبد الباسط سلامة هيكل

....................

(1) د. طه عبد الرحمن (2013)، الحوار أُفقا للفكر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، ص 7

(2) د. طه عبد الرحمن (2011)، حوارات من أجل المستقبل، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، ص 13

(3) ا. د. طه عبد الرحمن (1993)، تجديد المنهج في تقويم التراث، بيروت، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، ص 19

(4) السابق، ص 19

(5) توصيات مؤتمر الأزهر "قراءة التراث الإسلامي" موقع فيتو، القاهرة، 8 مارس 2018

(6) الحوار أفقا للفكر، ص 48

(7) تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 75، 76

(8) تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 237

(9) السابق، ص 81

(10) ينظر: الحوار أُفقا للفكر، ص 25: 37

(11) د. طه عبدالرحمن، روح الحداثة المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، ص١٦١، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/المغرب، الطبعة الأولى، 2006

(12) الحوار أفقا للفكر، ص 79

(13) روح الحداثة، 32، 33

(14) يُنظر: تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 257: 237، روح الحداثة: ص 35: 54

(15) ينظر: د. نصر حامد أبو زيد، دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة، ص ص 7، 8

(16) الحوار أُفقا للفكر، ص 60

(17) السابق، ص 62

 

من الطبيعي القول، أن الشدة والغلظة لا تفضيان إلى وحدة وطنية حقيقية، لأنهما يعملان على إلغاء كل الخصوصيات التي تساهم في إثراء مفهوم الوحدة. كما أن الإنحباس الضيق والقشري في الخصوصيات السوسيولوجية، يؤدي إلى التحاجز، ويمنع تطوير حالات العيش الواحد.

والثقافة لا تنمو وتتطور إلا في إطار احترام كل الخصوصيات والتنوعات، هذا الاحترام المستند إلى إطار قانوني وإنساني، يقوي من خيار الوحدة على قاعدة التنوع. فالخصوصيات تتحرك في فضاء الوحدة، كما أن الوحدة لا معنى لها على الصعيد الإنساني والواقعي إلا بفسح المجال لكل الخصوصيات، لكي تعبر عن ذاتها اجتماعيا وثقافيا وسياسيا.

فلكي تزدهر ثقافة شعب ما ( كما يعبر إليوت ) ينبغي ألا يكون شديد الاتحاد ولا شديد الانقسام . ففرط الوحدة قد يكون ناشئا عن التحلل وقد يؤدي إلى الاستبداد أيضا. وكلا الطرفين يعوق اطراد النمو في الثقافة.

الثقافة وخصوصيات المجتمع:

فالثقافة الوطنية ليس إنتاج خصوصية دون أخرى، وإنما هي نتاج الحراك والتفاعل بين الخصوصيات المتوفرة في الفضاء الوطني كلها. فمن خلال تنمية الجوامع والمشتركات، وتفاعل الخصوصيات مع بعضها، والتواصل بين مختلف الفعاليات الثقافية والأدبية والإبداعية، تتشكل مقولة الثقافة الوطنية. فهي نتاج المجتمع بكل خصوصياته وتنوعاته المعرفية والتاريخية.

فتغييب الخصوصيات لا يثري الثقافة، بل يجدبها، ويخرجها من دائرة الفعل التاريخي في الواقع المجتمعي. وإمعان السياسي في إبراز خصوصية واحدة، أو العمل على تذويب وصهر الخصوصيات الصغرى في خصوصية كبرى بوسائل قسرية، لا يؤدي إلا إلى المزيد من التشظي الاجتماعي والثقافي .." فالإفراط في عزل الثقافة عن معناها الخلاق، وبالتالي عن كيفيتها في إنتاج المجتمع الذي نعيش فيه، إنما يؤدي إلى خلق ثقافة مركزية منغلقة تتصور الوجود الاجتماعي من خلال تصورها، وتوجه الخطاب الثقافي (بمعناه الشامل في الحياة) من خلال ما تنتجه النخبة المركزية من أفكار تتصل بكيفية إنتاجها للمجتمع . ويورث هذا السياق السوسيولوجي للثقافة المركزية سلسلة طويلة من الإشكاليات يوازي حجمها حجم التنوع في المجتمع (ديمغرافيا وثقافيا)، وتكون ـ عادة انعكاسا لمجتمع تسوده علاقات متنوعة ومتغيرة مع الثقافة المركزية (السلطة) تتوزع بين التحالف، والولاء والانقسام والاختلاف والتمرد والعزلة. إلى آخر هذه السلسلة الطويلة من المواقف التي تنتج ثقافات موازية ومتصارعة أحيانا . ولعلنا نلاحظ الآن أن حجم إشكاليات الثقافة في دول الخليج يتفاوت فيها بمقدار ما ترثه من التنوع الثقافي "(الثقافة وإنتاج الديمقراطية، إبراهيم عبدالله غلوم، ص 121، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 2002م).

فالهوية الثقافية لمجتمعنا ووطننا، تتشكل من مجموع التشكيلات الاجتماعية المتعددة في منابتها وميراثها الديني وتحولاتها الثقافية، وإن أي تنكر لواحد من هذه المصادر، يفضي إلى انقسامات مجتمعة عميقة. وإن استخدام القوة والغلبة والقسر في عملية التنكر والتغييب، لا تزيد الأمور إلا تفتتا وانقساما وتشظيا.

فالتعصب الأعمى لبعض الخصوصيات والعمل على إلغاء وقهر الخصوصيات والتنوعات الاجتماعية الأخرى، يؤسس لمشروع حروب اجتماعية مفتوحة، تهدد بمتوالياتها النفسية والعملية أسس الاستقرار وعوامل الوحدة في الإطار الوطني والاجتماعي.

وذلك لأن عقلية التعصب والإلغاء، تمنع من تبلور خيار الشراكة والمشاركة لكل التنوعات في بناء الوطن وتطوير المجتمع على مختلف المستويات.

من هنا تجد أن مختلف الصيغ والطروحات التي تتداول في الساحة، لإنجاز الاستقرار وحماية الوحدة الوطنية، تصاب بالتكلس والخمول ولا ترقى إلى ممارسة دور حقيقي في الإطار المرسوم لها، وذلك بفعل أن هذه الصيغ تستند إلى خيار استبعاد العديد من مكونات التأثير والقوة من القيام بدورها في هذا السياق. فالتجانس الثقافي في الإطار الوطني، لا يأتي بالقسر وقانون الغلبة والتغييب، وإنما هو وليد حياة ثقافية واجتماعية مفتوحة على كل الاجتماعات والقراءات والآراء، وتدخل عبر أطر ومنابر وطنية في عملية حوار وجدل ثقافي لتنمية الجوامع وضبط الاختلافات والتمايزات وصياغة مشروع ثقافي وطني على قاعدة التنوع في إطار الوحدة.

التعددية الثقافية والاستقرار:

وإن التعدد الثقافي بحاجة إلى نمط من الإدارة ينطوي على قيم الحوار والاحترام والتسامح، حتى يتسنى له المساهمة الجادة في إثراء مفهوم الثقافة الوطنية. فالثقافات الهامشية لا تموت حينما يستخدم تجاهها القسر والقهر والإلغاء، وإنما تتمرس وتتمكن من استيعاب كل مفاعيل الإلغاء والقهر. بينما إعطاؤها الحرية والسماح القانوني والإعلامي للتعبير عن ذاتها، يساهم في امتصاص العناصر الإيجابية ويحول دون تأثير الواقع المجتمعي بعناصرها السلبية. فمبدأ المشاركة في بناء وتسيير الوطن، هو القادر على اجتراح وقائع وحقائق تزيد من فرص الاستقرار السياسي والاجتماعي، ويحمي الوحدة الوطنية من كل المخاطر والتحديات. ولا شك أن " هناك منفعة، مصلحة يقتنصها الجميع في سياق النظر إلى الثقافة بوصفها شراكة في الإنتاج واعترافا عقلانيا شاملا بالتنوع. سنجدها تتجسد بصورة أساسية في توفر إمكانيات أوسع وأعمق في الاستثمار الثقافي، إن سباقا حقيقيا نحو الموضوعية يتحقق من جراء استثمار التنوع. بل إن النزوع الذاتي حينئذ يتمثل بوصفه تروعا إلى الموضوعية والعلموية، ومن شأن ذلك أن يعيد ترتيب الأشياء والأولويات في ضوء استراتيجية الفعل لا رد الفعل، وفوق أرضية مهيأة لامتلاك أدوات المعرفة وإنتاجها أيضا" (الثقافة وإنتاج الديمقراطية، مصدر سابق، ص 153).

الانفتاح الثقافي أولا:

 والانفتاح الحقيقي على قوى المجتمع ومكوناته المتعددة، لا يبدأ من الاقتصاد والسوق، وإنما من الثقافة. لما تشكله هذه المقولة من تعبير عميق عن مكنونات الإنسان ونسيجه الاجتماعي وعلائقه الإنسانية. فالانفتاح الاقتصادي ليس بديلا عن الانفتاح الثقافي. ونستطيع القول في هذا الإطار: أن أفق الانفتاح الحقيقي يتشكل ويتبلور من الثقافة وأنظمتها الاجتماعية.

لذلك فإن الانفتاح الثقافي الحقيقي، هو بوابة الانفتاح في مختلف المجالات والمستويات. وإذا كانت الرقابة معرقلة لحركة الاقتصاد والتجارة، فإن الرقابة في الحقل الثقافي مميتة للثقافة، ومعيقة للإبداع، وكابحة للتطور والتقدم. فكما أن التشريع الديمقراطي للحركة الاقتصادية يزيد من فرص الاستثمارات والإنتاج، كذلك فإن إرساء دعائم قانون وطني يعطي الحرية للمثقف وأطره القائمة والمرتقبة، سيساهم في تطوير الحركة الثقافية، وسيدخلها في مرحلة جديدة من العطاء والإبداع المتميز في كل الحقول.

ولعلنا لسنا بحاجة إلى إثبات، أن فسح المجال للثقافة والمثقفين من القيام بدورهم ووظائفهم العامة، لا يضر بمفهوم الأمن الوطني، بل هو رافد من روافد تعميق خيار الأمن والاستقرار في الوطن والمجتمع.

والحوار الثقافي والتواصل الفكري بين مختلف المكونات والتعبيرات، لا يهدد الاستقرار الاجتماعي، وإنما يثريه ويزيده صلابة وتماسكا.

وإن الاشتغال الثقافي والسياسي على إلغاء التنوعات الاجتماعية ومنعها من التعبير عن ذاتها ثقافيا وإعلاميا وسياسيا، لا يصنع نسيجا اجتماعيا متماسكا، وإنما هذا الاشتغال يزيد من تمسك هذه التنوعات بخصوصياتها،وبحثها عن سبل أخرى للتعبير عن ذاتها ثقافيا وسياسيا.

وجماع القول في هذا الإطار: إننا بحاجة إلى رؤية سياسية واجتماعية جديدة في التعامل مع التنوعات والتعدديات (التقليدية والحديثة) المتوفرة في مجتمعنا ووطننا. وهذه الرؤية قوامها أن هذه الحقائق لا يمكن نفيها وإقصاءها من الواقع المجتمعي، وإنما نحن بحاجة إلى التعامل معها على قاعدة الاحترام وفسح المجال القانوني لها للتعبير عن ذاتها، وذلك لإثراء مفهوم الوحدة الوطنية، وتمتين جبهتنا الداخلية في وقت نحن أحوج ما نكون إلى التراص والائتلاف وتجاوز الثغرات الداخلية للبناء الوطني.

التنوع والقانون:

  فالبناء القانوني السليم، وسيادة القانون، وتوسيع حق المشاركة في الشؤون العامة كلها عوامل تساهم في توطيد أسباب الوحدة الوطنية، وتعمق من خيار البناء والعمران، ولا يمكن الحصول على الاستقرار والتقدم الثقافي والاجتماعي من خارج حركة المجتمع بخصوصياته وتنوعاته. لذلك فإن الإنصات إلى حقيقة التنوع والتعدد في المجتمع، هو البداية الحقيقية والخطوة الأولى في مشروع الاستقرار وبناء الوحدة الوطنية على قاعدة صلبة وذات عمق تاريخي. فالتنوع والتعدد في المجتمع ليس انقساما وتشرذما، وإنما هو حقيقة تاريخية ومجتمعية ينبغي أن ننطلق منها في عملية التوحيد والائتلاف، وتشريع قوانين وطنية جريئة، تحمي التعدد، وتتعامل معه باعتباره جزء من قوة الوطن ومنعته.

فالوحدة الوطنية هي محصلة كل الجهود والمبادرات التي تطلقها جميع التنوعات والتعدديات في إطار ترسيخ خيار العيش المشترك(الواحد) والوحدة الداخلية للمجتمع.

الوحدة وحق الاختلاف:

فالوحدة الحقيقية ليست ضد حق الاختلاف واحترام المغاير، كما أن حق الاختلاف لا يعني التشريع للفوضى والانقسام والتشرذم. فالتنوع المحاط بالحرية والتسامح، هو الذي يصنع الوحدة، وهو الذي يضبط الاختلاف لكي لا يتحول إلى تفتت وتشظي، وهو الذي يجعل احترام المغايرين وسيلة الاستيعاب والتفاعل.

فقد مضت أزمنة التوحيد القسري وإلغاء الخصوصيات، وذلك لأن هذه التجارب البشرية لم تزد الواقع الإنساني إلا تشتتا وانقساما وحروبا. وأي فئة أو مجموعة بشرية تتطلع إلى السيادة والغلبة على قاعدة نفي التنوعات ومحاربة مظاهر التسامح والاختلاف فإن مآلها السقوط والفشل، وذلك لأن جميع القوى الإنسانية أدركت أن القهر لا يلغي حقها في التعبير عن ذاتها، وأن الاستبداد ليس سبيلا إلى التمكن والاستقرار، بل على العكس من ذلك حيث أنه هو الذي يساهم بمتوالياته الاجتماعية في تكثيف لحظات الإحساس والشعور بالذات وخصوصياتها المتعددة. فنحن مع " احترام الاختلاف بوصفه سبيلا للاتفاق، والاعتراف بالتباين بوصفه دليلا على العافية، وتأكيد أنه ما من أمل في سلام البشرية ما ظلت حضارة من الحضارات أو ثقافة من الثقافات أو أمة من الأمم تمارس قهرا سياسيا أو فكريا أو أخلاقيا على غيرها من الحضارات أو الثقافات أو الأمم بدعوى أن الطبيعة والتاريخ ميزاها على غيرها بما لا يمتلكه سواها، فمستقبل البشرية مرهون بالاحترام المتبادل، والتخلي عن رواسب التمييز العرقي أو التعصب المذهبي، والتسليم الذي لا رجعة فيه بأن إنكار الخصائص الثقافية أو الحضارية لشعب من الشعوب، إنما هو نفي لكرامة هذا الشعب وكرامة الإنسانية جمعاء " (راجع مقدمة كتاب: التنوع البشري الخلاق، تقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية، الطبعة العربية، المشروع القومي للترجمة (27)، 1997م).

ولكن السؤال هو: كيف نتيح لحالة التنوع أن تقودنا إلى التعايش والوحدة وليس إلى الانقسام والحروب. ولا ريب أن الإجابة على هذا السؤال المركزي، يعد من القضايا الأساسية التي تساهم في خلق رؤية جديدة لواقع التعدد والتنوع في واقعنا ومجتمعنا. وأن صون الحقوق الثقافية والسياسية للتنوعات هو السبيل الذي يوصلنا إلى أن تكون حالة التنوع طريقا للتعايش والوحدة بدل أن تكون سببا للانقسام والحروب. وما نود أن نبلوره في هذه الدراسة، هو الحقوق الثقافية للتنوعات والتعدديات المتوفرة في فضائنا الاجتماعي. فما هي حقوق التنوعات الثقافية؟

الحرية الثقافية:

وذلك عبر السماح لكل التنوعات الاجتماعية من توفير مصادرها الدينية والفكرية، حتى يتسنى لكل الأجيال من التواصل المباشر والحر مع هذه المصادر.

وهذا من الحقوق الثقافية الأصيلة والرئيسة لكل التنوعات الاجتماعية، بصرف النظر عن أحكام القيمة تجاه هذه المصادر. وإن كل أشكال محاربة وإقصاء هذا الحق الطبيعي، يعد وفق المقاييس الإنسانية والحضارية، تجاوزا نوعيا وخطيرا على قيم التعددية والتسامح وحرية العقيدة والرأي والتعبير.

لهذا فإننا نرى أن التنوعات الاجتماعية، بحاجة إلى إطار قانوني في إطار وحدة الوطن والمجتمع، حتى يتسنى لها من خلال هذا الإطار ممارسة شعائرها والتعبير عن ذاتها الثقافية، وتتواصل بحرية مع مصادر وأمهات كتبها الدينية والتاريخية والعقدية.

وإن منع هذه التنوعات من التواصل الحر مع مصادرها العقدية والثقافية، تحت دعاوى الحفاظ على الوحدة والوئام الاجتماعي، لا يؤدي إلى إرساء دعائم الاستقرار الثقافي والاجتماعي، بل العكس من ذلك تماما. إذ أن هذا المنع، يزيد من الاحتقانات، ويوفر فرصا عديدة لتجاوز القانون والدخول في مواجهات تهدد حالة الاستقرار والوحدة الوطنية .

فالحرية الثقافية بكل مفرداتها وآفاقها، حق طبيعي لكل التنوعات، وعلى مؤسسة الدولة أن تصيغ وتبلور قانونا يكفل هذا الحق لكل التنوعات والتعبيرات الثقافية والاجتماعية المتوفرة في المجتمع.

وإن الوحدات الاجتماعية والسياسية والوطنية القائمة اليوم في أصقاع الدنيا، ليس بسبب التجانس التام بين مكونات هذه الوحدات. فهي قائمة على التعدد واحترامه . والطريق الذي تعلمنا إياه التجارب لوحدة المتنوعين هي في خلق النظام الاجتماعي والثقافي والسياسي المتوازن والمرن في آن .

بناء الأطر والمؤسسات:

فتشكيل الأطر والجمعيات والمؤسسات الثقافية والأدبية والإبداعية الأهلية، هو حق ثقافي ـ طبيعي لكل التنوعات المتوفرة في المجتمع.

وهي مؤسسات تعنى بتنمية العمل الثقافي الوطني، واستيعاب كفاءات الوطن، والمساهمة في معالجة بعض المشاكل الاجتماعية والثقافية، والتي تتطلب تكاتف الجهود في سبيل بلورة رأي وموقف وطني تجاهها .

والتنوعات الاجتماعية، تعبر عن ذاتها الثقافية والاجتماعية من خلال هذه الأطر والمؤسسات، وتعمل على توفير كل متطلبات الساحة الثقافية والأدبية .

وإن غياب هذه التشكيلات القانونية، هو الذي يساهم في تشرذم النخب الثقافية والأدبية أو في انخراطها في أطر وأوعية غير رسمية تمارس من خلالها دورها ومسؤوليتها .

وإن المرحلة الراهنة تتطلب إطلاق مؤسسات المجتمع المدني (التعاقدي) لكي تمارس دورها في بناء الوطن وتنمية المجتمع وإشاعة ثقافة العمل المؤسسي، بحيث يتوفر الإطار القانوني لكل المبادرات الفردية والأهلية، التي تتطلع إلى تشكيل مؤسسة أو بناء جمعية وهيئة.

الحماية القانونية:

فصيانة حقوق الإنسان واحترام كرامته وخصوصياته الذاتية والثقافية، والعمل على سن القوانين والأنظمة التي تحول دون التعدي على هذه الحقوق أمر مطلوب في هذا السياق. فالاختلافات المذهبية والقبلية والعرقية والدينية، لا تبرر بأي شكل من الأشكال التعدي على حقوق الآخرين . فكل القناعات الدينية محل احترام وتقدير . والاختلاف في الفكر والانتماء، لا يقود إلى التعدي على الآخرين في وجودهم وأفكارهم، بل على العكس من ذلك، حيث إننا مأمورون دينيا من احترام الآخرين وممارسة العدل تجاههم والإحسان إليهم .. قال تعالى [يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون] (سورة المائدة، الآية 8).

 وعن معاوية بن وهب قال: قلت له عليه السلام: كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قــومنا وبين حلفائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا؟ فقال: تنظرون إلى أئمتكم الذي تقتدون بهم فتصنعون، فو الله إنهم ليعودون مرضاهم ويشهدون جنائزهم، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم ويــؤدون الأمــانة إليهم. (موسوعة الكتب الأربعة في أحاديث النبي والعترة،أصول الكافي ج 2، محمد بن يعقوب الكليني، ص 600، دار التعارف للمطبوعات، بيروت 1990م).

فلا نحارب الآخرين بسبب أفكارهم وآرائهم، كما إننا ينبغي أن لا نمارس عملية الإقصاء والإلغاء تجاه الآخرين بفعل اختلافنا معهم في دائرة من دوائر الانتماء لدى الإنسان . فالمطلوب دائما وفي كل الأحوال، ومن كل الأطراف، هو العمل على صيانة حقوق الإنسان وعدم امتهان كرامته . فالإنسان مطلقا مصان في ذاته وكل ما يتعلق به من أمور وقضايا. " والاحترام يفوق التسامح، فهو ينطوي على موقف إيجابي تجاه الغير في تعددية خلاقة . ولا يمكن لأصحاب القرار أن يقننوا الاحترام بالتشريعات، ولا يستطيعون إكراه الناس على احترام الغير . ولكن يمكنهم أن يدعموا الحرية الثقافية باعتبارها من الدعامات التي تقوم عليها الدولة . والحرية الثقافية، على خلاف الحرية الفردية، هي حرية جماعية .

فهي تشير إلى حق جماعة من الناس في أن تتخذ ما تشاء من أساليب الحياة . والحرية الثقافية هي ضمان للحرية ككل . فهي لا تحمي الجماعة وحسب، بل تحمي حق كل فرد من أفرادها . والحرية الثقافية بحمايتها لمناهج حياة الغير، وتشجع على التجريب والتنوع والخيال والإبداع " (التنوع البشري الخلاق، مصدر سابق، ص 13).

المشاركة وتكافؤ الفرص:

إذ أن من الحقوق الثقافية لكل تنوع اجتماعي، حق المشاركة في الحياة الثقافية الوطنية وتكافؤ الفرص، بحيث أن الإمكانات الثقافية الرسمية تصرف وتوزع بالتساوي، ويحق لكل الكفاءات والطاقات الوطنية أن تصل إلى أعلى المناصب والمسئوليات الثقافية . وأن لا تكون للانتماءات الطبيعية أو الحديثة دور في منع أو تهميش إنسان أو طرف من ممارسة دوره ومسئولياته على الصعيد الثقافي . فكما أن الثقافة الوطنية هي محصلة التفاعل الخلاق بين مجموع التعبيرات والمكونات، كذلك آفاق الحياة الثقافية وإمكاناتها، فإنها مفتوحة للجميع بدون التنوعات والخصوصيات، وإنما على قاعدتها ومن خلال التعامل الحضاري معها تتم المشاركة في تفعيل وتنمية الحقل الثقافي في الوطن والمجتمع .

والسلم الاجتماعي والاستقرار السياسي لا يمكن أن يتحققان في أي مجتمع متنوع ومتعدد إلا على قاعدة نفي التمييز والتعامل الحضاري من كل أشكال التعددية في المجتمع ومشاركة هذه التعبيرات في البناء والإدارة وتسيير الشئون العامة، هو المؤشر الأقصى لارتقاء هذا المجتمع وتوفره على سلم مجتمعي صلب واستقرار سياسي متين .

وعلى هذا نستطيع القول: أن محاولات التطهير العرقي والتمييز الطائفي والتعصب الديني وممارسة العنصرية، كلها قضايا وممارسات لا تفضي إلا إلى المزيد من التدهور الاجتماعي والفوضى السياسية والانهيار المجتمعي .

فالكراهية لا تصنع استقرارا والإكراه لا يقود إلى تغيير حقائق التاريخ والمجتمع . فالمشاركة لا تحمي الجماعات الخاصة فقط، " بل تحمي المجتمع بأسره حاضرا ومستقبلا . وعدم التفرقة ليس شعارا يرفع أو مقولة تقال، بل هو نظام قانوني ينص على ذلك، وممارسة مستديمة من مختلف المواقع تؤكد على خيار المساواة واستيعاب جميع مكونات الوطن والمجتمع .

ويعرّف مصطلح عدم التفرقة في القوانين الدولية والإنسانية، بأنه المساواة في الفرص أمام الأفراد دون اعتبار للجنس والدين، والعرق، والأصل الاجتماعي، واللغة والثروة . وذلك في القانون وسلوك الحكومة والأعمال الفعلية .

وتؤكد التوجيهات الإسلامية على ضرورة أن يتعامل الإنسان مع الآخرين بمقتضيات العدالة . قال تعالى [ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم] (سورة فصلت، الآية 34) .

فالتعامل الإيجابي مع الآخرين، هو الكفيل على امتصاص تشنجهم واستيعاب سلبيتهم، فتتحول من جراء التعامل الأخلاقي الرفيع إلى معرفة متبادلة قائمة على الصدق والاحترام العميق، ونبذ كل أشكال الضغائن .

وعديدة هي القصص الإنسانية التي تـــــؤكد على هذه الحقيقة . ويكفينا أن نشير أن أخلاق الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم الراقية أدخلت الكثير من الكفار والمشركين إلى الإسلام . فأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم ومداراته للناس وحسن تعامله معهم نقلت الكثير من الناس من موقع معاداة الإسلام إلى موقع المؤمن المدافع عنه. لذلك جاء في الحديث الشريف (دار الناس تستمتع بإخائهم، وألقهم بالبشر تمت أضغانهم) (ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج 3، ص 240، الدار الإسلامية، لبنان) . و (ما كرهته لنفسك فأكرهه لغيرك، وما أحببته لنفسك فأحبه لأخيك، تكن عادلا في حكمك، مقسطا في عدلك، محبا في السماء، مودودا في صدور أهل الأرض) (ميزان الحكمة، مصدر سابق، ج 6، ص 86).

و(ثلاث خصال تجتلب بهن المحبة: الإنصاف في المعاشرة والمواساة في الشدة والرجوع على قلب سليم) (ميزان الحكمة، مصدر سابق، ج 2، ص 205).

فالعلاقات الاجتماعية والثقافية والسياسية في الإطار الوطني والإنساني، ينبغي أن لا تكون قائمة على أساس التمييز والمفاضلة، وإنما على قدم المساواة، والكفاءة بصرف النظر عن منبتها وأصلها هي التي تتحمل المسئولية العامة . ولقد نصت المواثيق الدولية على حق التعبيرات الدينية والثقافية في التمتع بثقافتهم وممارسة شعائرهم الدينية واستخدام لغتهم، والمشاركة في الحياة الثقافية والدينية والاجتماعية والاقتصادية والعامة، وفي عملية اتخاذ القرار فيما يتعلق بالأقلية التي ينتمون إليها وتكوين اتحاداتهم والرقابة عليها، وإقامة علاقات حرة وسلمية مع سائر جماعات الوطن أو مواطني الدول الأخرى ممن يمتون لهم بصلة قومية أو عرقية أو دينية أو لغوية .

وخلاصة الأمر: إن التنوع الاجتماعي حقيقة إنسانية وتاريخية، ونحن بحاجة إلى رؤية حضارية جديدة للتعامل مع هذه الحقيقة، بما يؤدي إلى توظيف هذا التنوع في سياق إثراء مفهوم الوحدة الوطنية وتعميق خيار التعايش الواحد والسلم المجتمعي.

***

محمد محفوظ

يستند المورمونيون في نسخهم واجتراءاتهم على الكتابات المقدسة بخاصة، والديانات الإبراهيمية (الزرادشتية، الصابئة المندائية، اليهودية، السامرية، المسيحية، الإسلامية، السيخية، الطائفة الدرزية، البابية، النصيرية، الراستفارية، المعتقدات الباطنية) بعامة، على كونها – أي الديانة المورمونية – واحدة من الديانات المكتملة الأركان (وحي، نبي، كتاب مقدس، معبد، عُباد وأتباع) وذلك فضلًا عن انتمائها إلى الديانات التوحيدية. ويبرر لاهوتيوها أيضا نسخهم للشرائع السماوية السابقة على دعوتهم بسنة تلك الأديان وعلى رأسها المسيحية والإسلام والفرق والملل والطوائف والمذاهب ذات الصلة بتلك.

وخليق بنا قبل الخوض في قضية نسخ العقائد عند المورمونيين الوقوف بالنقد والتحليل على مصطلح الديانات الإبراهيمية، وذلك لأهميته حيث المشكلات والقضايا التي تثار في محيطه العقدي والفلسفي والسياسي من جهة، ودوره في تشكيل بنية العديد من المصطلحات المعاصرة وعلى رأسها مصطلحي وحدة الأديان وما بعد الدين وهو كذلك من أكثر المصطلحات انتشارًا في الأبحاث الفلسفية المعاصرة المعنية بتاريخ ومقارنة الأديان وتطور الفكر العقدي في العالم بوجه أعم من جهة ثانية.

الديانات الإبراهيمية:

يصعب على الناقد المحلل التأصيل لهذا المصطلح في ضوء الكتابات التاريخية، ويرجع ذلك لندرة الوثائق من جهة، وتشعب المصادر من جهة أخرى. فالديانة الإبراهيمية قد أرخ لها اليهود في كتابهم المقدس بـ 1900 ق.م وجعلوها أصل لكل الملل اللاحقة التي يعتبرونها هرطقات باطلة وتجديفات كاذبة، وذلك باستثناء الديانة الموسوية التي جاءت بالتوراة بعد ضياع صحف إبراهيم وهي الشريعة الأم التي تحمل كلام الرب وناموسه. أما المسيحية فهي تعتبر نبي الله إبراهيم من أكابر الأتقياء وأوائل الأصفياء وهو أب كهنوتي للسيد المسيح وذلك بحسب ما ورد في إنجيل متى (1:1) وكذلك في رسالة غلاطيا للقديس بولس (16:3) وهو كذلك أب لبني إسرائيل بحسب بما ورد في أعمال الرسل (26:13)، وهو بالجملة أرفع وأسمى قدراً ومثالاً بشرياً على الإيمان بالإله، وقد أكدت ذلك أقوال يسوع بنفسه في العهد الجديد. وجاء القرآن مؤكداً أن الدين عند الله الإسلام، والإسلام هو دين الحنفية “ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ”.

وقد أضحت بذلك الديانة الإبراهيمية هي الأصل الملي والمصدر الشرعي للعقائد السماوية، الأمر الذي أعطى للمصطلح مشروعية الانتشار في الأحقاب التاريخية المتواترة رغم غيبة التوثيق التاريخي لبنية الفكرة والمصطلح معًا.

وللكتابات الماسونية رأي آخر فيحدثنا محمد رشاد فياض رئيس محفل الشرق الأعظم الذي تأسس عام 1717م ببريطانيا أن مصطلح الديانات الإبراهيمية كان يتردد بين الأساتذة الماسونيين وفي جلساتهم المؤسسة لفكرة وحدة الأديان ويقول في ذلك: “الميمات الثلاث في الموسوية والمسيحية والمحمديّة تجتمع هكذا في ميم واحد وهي ميم الماسونية، وأن باء البوذية والبرهمية تجتمع أيضاً في باء البناء – بناء هيكل الإنسان – ثم يقول: الماسونية ليست عمالة لأي ديانة أو عنصرية معينة، إنها عقيدة العقائد وفلسفة الفلسفات وبالمبادئ الإنسانية هي مزينة”.

وقد تردد هذا المفهوم بين أوساط المثقفين والساسة والفلاسفة، وبات شائعاً منذ عام 1811م في كتابات الروحيين وعلى رأسهم جماعة الثيوصوفية والفرق الباطنية الصوفية فضلاً عن المحافل الماسونية في مصر والشام وتركيا.

ثم جاء الفيلسوف والمستشرق الفرنسي لويس ماسينيون (1883-1962) الذي يعد بحق الآب الروحي لهذا المصطلح في الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر، فيرجع له الأثر الأكبر في الجمع بين التصور العقدي والتوظيف الماسوني والأيدلوجيّة السياسية، لهذا المصطلح، وذلك منذ مؤتمر الجزائر للمستشرقين عام 1906م، ومؤتمري الأديان في أثينا ولندن عام 1912م. ثم جماعة (البدلية) في دمياط بمصر عام 1934م مع ماري كحيل الحلبية (1889-1979م) التي أسست العديد من الجمعيات الخيرية للإخاء الديني أشهرها جماعة (إخوان الصف) بمصر عام1941. وأخيرًا أعلن صراحة عن مشروعه عن الديانة الإبراهيمية في مقاله الأشهر عام 1949م وكتابات تلميذه الكاهن الماروني اللبناني يواكيم مبارك (1924-1995م) الذي انصرفت جهوده لتدعيم الحوار بين الإسلام والمسيحية. وجميعهم كان يرمي إلى نسخ الأديان السماوية الثلاثة بالإضافة إلى بعض الديانات الوضعية والطوائف في سياق واحد؛ ليسهل في البداية السيطرة عليها بعد تحليل بنية ثقافاتها وإتاحة الفرصة أمام الماسونيين والسياسيين للتخطيط لتقسيمها.

في أخريات القرن العشرين يظهر في الأفق دور المخابرات الأمريكية والصحف الأوروبية والجامعات ذات الصلة المباشرة بالماسونية وعلى رأسهم جامعة هارفرد، ذلك للترويج للديانات الإبراهيمية بمعان ودلالات براقة تبعًا للثقافة السائدة المراد نشر المصطلح فيها. وذاعت رسالة وقصة السجين المصري في أمريكا ويدعى (سيد نصير- 1955م) وهو فنان بورسعيدي حصل على الجنسية الأمريكية وأدين بالتورط في قتل “الحاخام مائير كاهانا” زعيم حركة كأخ الإسرائيلية المتطرفة في 1990م وحكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفحوى رسالته هو ضرورة الجمع بين شتات الموحدين ودياناتهم وعلى رأسها الديانات الإبراهيمية السماوية (اليهودية والمسيحية والإسلام)، وتلقف هذه الرسالة الفيلسوف السويسري هانس كونج (1928-2021م) الذي جعل الأخلاق التطبيقية أساس الحوار بين الأديان الإبراهيمية وأقوى الروابط التي توحد بين المؤمنين بها وذلك في المؤتمر الذي دعا إليه تقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية الصادر عن اليونسكو عام 1995م.

والسياسيان الأمريكيان ديك تشيني (1941م) والرئيس أوباما (1961م) في مطلع الألفية الثالثة، ثم مع دعاة التطبيع وعلى رأسهم ترامب (1946م) ونتنياهو (1949م) عام 2020. وأخيراً اتفاق أبراهام الذي عقد في البيت الأبيض أغسطس 2020م بين الإمارات والبحرين وإسرائيل، فظاهره تسامح عقدي وباطنه علمنة ماسونية وجوهره تطبيع صهيوني وهيمنة أمريكية وما خفي كان أعظم.

والذي يعنينا في هذا المقام هو الكشف عن أبعاد المصطلح الذي تبنته الديانة المورمونية وبات البرهان الذي احتج به أنبياءها أمام الأغيار المعترضين على اجتراءاتها ونسخها للديانات السابقة عليها.

والجدير بالملاحظة في هذا السياق أيضا أن الديانة المورمونية في أمريكا لها نظير آخر في إفريقيا وهو متمثل في الديانة الراستافارية التي ظهرت عام 1930م بأثيوبيا وهي من أكثر المتأثرين بالمورمونية في معظم معتقداتها ولاسيما في قضية النسخ إذ جعلت من هيلاسيلاسي عوضا عن المسيح في قيادة الديانة المسيحية وحرب آخر الزمان.

وإذا ما عدنا للأعمدة الرئيسة التي تربط بين الديانات الإبراهيمية سوف نجدها تتلخص في : وحدانية الإله، المقصد العام لشريعة السماء، الإيمان بالبعث والآخرة حيث الثواب والعقاب، ذلك فضلاً عن يوم القيامة والصراع السابق عليه بين قوى الخير التي يقودها أحد الأبرار من الأنبياء أو الأتقياء (المسيا، يسوع، المهدي)، وأولياء الشيطان وقوى الشر.

حجية النسخ المورموني:

يجتهد أنبياء المورمونية المتتابعين في استنباط أدلتهم على مشروعية نسخهم للشرائع بحجتين : أولها نقلية مستمدة من العهد الجديد، والثانية عقلية لا ينكرها إلا المغيبون والحمقى لأنها تتصل بالواقع المعيش وكل مقتضيات العصر من علوم وفلسفات ونظم وسياسات. ومن الأدلة النقلية ما جاء به يسوع في العهد الجديد إذ قام بإلغاء بعض الأحكام وتعديل البعض الآخر؛ إذ جعل أسفار العهد الجديد (27) ناسخة لما ورد في أسفار العهد القديم (39)، وفضّل عطلة الأحد عوضًا عن السبت، معمدية المنتمين عوضًا عن الختان، والقربان عوضاً عن الذبائح، واستقبال القبلة إلى الشرق عوضًا عن جدارية “مزراح” بالقدس. كما عطل عقوبة الرجم للزاني والزانية التي رواها أبو التاريخ الكنسي يوسابيوسالقيصري (265-339م) لضعف مصدرها، وقدم التسامح والسلم على القتال والقصاص. وقد تحدثنا فيما سبق عن بعض التعديلات التي أجراها نبي المورمون على الكثير من المعتقدات اليهودية والمسيحية وها نحن نكمل ما بدأناه في السطور التالية.

جاء في إنجيل لوقا على لسان يسوع (36:39 – 5) قوله: “ليس أحد يضع رقعة من ثوب جديد على ثوب عتيق والا فالجديد يشقه والعتيق لا توافقه الرقعة التي من الجديد، و ليس احد يجعل خمرا جديدة في زقاق عتيقة لئلا تشق الخمر الجديدة الزقاق فهي تهرق والزقاق تتلف؛ بل يجعلون خمرا جديدة في زقاق جديدة فتحفظ جميعا، وليس أحد إذا شرب العتيق يريد للوقت الجديد لأنه يقول العتيق أطيب”.

يبدو أن جوزيف سميث تأثر بهذا القول عند تعديله أو نسخه للأقوال والأحداث والقصص والأحكام الشرعية الواردة في الكتاب المقدس، فجعل النسخ لاغيًا لما قبله وليس مكملًا أو معدلًا أو شارحًا، وبنفس المعيار أوّل قانون الإيمان ومفهوم الخلاص وحقيقة الصراع الذي سوف يأتي في آخر الزمان. غير أنه أهمل قول يسوع أيضاً الذي ورد في إنجيل متى (5- 22:17) ’’لا تظنوا اني جئت لانقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لانقض بل لأكمل، فاني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل؛ فمن نقض احدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا يدعى أصغر في ملكوت السماوات    وأمّا من عمل وعلم فهذا يدعى عظيماً في ملكوت السماوات؛ فإني أقول لكم إنكم ان لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السماوات، قد سمعتم انه قيل للقدماء لا تقتل ومن قتل يكون مستوجب الحكم، وأما أنا فأقول لكم ان كل من يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجب الحكم ومن قال لأخيه رقا يكون مستوجب المجمع ومن قال يا احمق يكون مستوجب نار جهنم’’.

ويشير القول السابق إلى وحدة الناموس وحرص يسوع على تصحيحه أو تعديله وليس إلغاءه كلية كما فعل أنبياء المورمون.

ويبدو أن نبي المورمونيين قد حاول الجمع بين المنحى التفكيكي في قراءة النص المقدس تارة والنهج البنيوي النسقي السياقي تارة أخرى، والتأويل الذاتي الحر تارة ثالثة. لذا قد اختلف المفسرون حيال موقف نبي المورمونية من الديانات السابقة، فذهب البعض إلى أن الأساس الذي أقام عليه دعوته النقضية قد انطلق من تعاليم أريوس المنطقي ولا سيما في قضية (الكروستولوجي) أو طبيعة المسيح وقانون الإيمان النيقي، في حين ذهب البعض الآخر إلى أن الأثر الأكبر الواضح في كتاب المورمون هو الأثر التوحيدي المصري والفكر العقدي الإسلامي الذي تأثر به سكان أميركا قبل نزوح الأوروبيين إليها أي في الفترة التي اكتشف فيها العرب المسلمون وجود القارة الأمريكية على الشاطئ الثاني من المحيط الأطلنطي أو بحر الظلمات كما كانوا يسمونه، حيث كان سكان هذه الأرض من الموحدين المؤمنين بوحدانية الإله من المنظور الإخناتوني والتعاليم الإسلامية.

وتشهد بذلك كتابات أمير البحار الأندلسي خشخاش بن سعيد بن أسود (871/957م). وعثور لويس بيركلي على آنية من الخزف تحوي نقوداً رومانية ترجع إلى القرن الرابع الميلادي وأخرى إسلامية تعود إلى القرن الثامن الميلادي وذلك في القرن التاسع عشر. وتقطع هذه القرائن بأن الأفكار العقدية والثقافة الرومانية والإسلامية كانت معروفة لسكان الأرض الأمريكية في تلك الأحقاب التاريخية. ونستخلص من ذلك كله أن الإشارات التي وجدت في كتاب المورمون تحدثنا عن الأثر المصري واليوناني وتعكس دراية نبي المورمونية بتلك الحقائق عند وضع روايته عن الألواح الذهبية المقدسة التي اتخذ منها حجّة على نبوته.

وللحديث بقيّة

***

بقلم : د. عصمت نصار

 

لقد اجتهد اللاهوتيون المورمونيون في ابتداع الكثير من المعتقدات عوضاً عن مثيلاتها في العقيدة المسيحية الأرثوذكسية والإنجيلية، لذا قوبلت بالارتياب في مصدرها والشك في مصداقية تعاليمها (من قبل جل الطوائف اليهودية والمسيحية معاً)، لأنها لا تحمل في بنيتها مقاصد مقبولة عند المُفكرين الوضعيين أو الفلاسفة العقليين من جهة، أو المتدينين العوام من جهة أخرى. في حين نجد من استهوتهم كتابات المورمونيين وأحاديثهم – التي روجت لها عشرات قنوات الإعلام من صحف وإذاعات وقنوات تلفزيونية ومواقع بحثية وجامعات لاهوتية بـ 15 لغة من بينها العربية والفارسية- لا يعبئون بجحود معارضيهم، بل زاد إيمانهم بتصريحاتهم الجامحة وشرائعهم الجانحة. ويبرر العديد من المحللين جرأتهم واجترائهم، بقوة نفوذ موجهيهم من أصحاب رؤوس الأموال والساسة والمشاهير من الفنانين والرياضيين. ناهيك عن الأموال التي ينفقونها في جمعياتهم الاجتماعية وقوافلهم التبشيرية، فقد بلغت دخول أثريائهم نحو 50 مليار دولار سنويا، وقد سعى منظريهم بشغل العديد من الوظائف المؤثرة في أمريكا ورُشح أحدهم وهو السيناتور ميت رومني  (1947- …) من قبل الحزب الجمهوري لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية عام 2012 رغم كراهية الأمريكان لهم ونفور المسيحيين واليهود من وجهتهم الصهيونية.

وترجع العديد من الدراسات (المعنية بنقد الديانات الحديثة) أن ادعاء أنبياء المورمونية بأنهم مفوضون في نسخ الشريعة (نقض، إلغاء، تعديل، تأويل) أو بالإضافة على ما ورد بها من أوامر ونواهي تبعاً لمقتضيات الواقع والثقافة السائدة، هو العلة الحقيقية لشطحاتهم وبدعهم. تلك الحقيقة التي كشفت بوضوح عن تأثرهم الكبير بالديانات الوضعية التي خرجت من رحم الحركات الصهيونية أو الاتجاهات اليهودية على أنها ثورات حداثية أو حركات إصلاحية من جهة، أو المخططات الماسونية من جهة أخرى. تلك التي أرادت مصادرة المذهب البروتستانتي إلى وجهتها الفلسفية النقديّة في قراءة النصوص المقدسة أو تخليص الديانتين اليهودية والمسيحية من الشرائع غير المقبولة في نظر الاتجاه العلماني المعاصر. وسوف نعرض في عجالة لأهم تلك المخالفات والمؤثرات.

ــ عقيدة الخلاص والفداء:

يميز المورمونيون بين الخلاص العام وهو “خلاص النعمة” لكل الموجودات المُكلفة من إنس وجان وشياطين، فجميعهم سوف يتم خلاصهم بموجب بعثهم من الموت وذلك بحسب أعمالهم منذ ولادتهم الأولى. وسوف ينقسم الذين تم خلاصهم وحسابهم في الملكوت السماوي إلى درجات يُقدرها إله السماء بغض النظر عن دياناتهم التي اعتنقوها منذ نشأتهم. فالبعث والحساب عند المورمونيين يُعد ضرباً أو درجة من درجات الخلاص. أما الفُجار من الإنس والجان فلا يُبعثون ولن يتم خلاصهم وذلك لإنكارهم الحقيقة الإلهية وكفرهم بالإيمان الرباني.

أما الخلاص الخاص فلا يحظى به إلا الأتقياء والأبرار وأصفياء الروح والأنفس، فهم دون غيرهم تبعث أرواحهم في المعية الإلهية فمعظمهم من المورمونيين والرسل والصالحين من أرباب الديانات الأخرى والذين شفع لهم ذويهم وأهدوا لهم كتاب المورمون بعد موتهم، فجميع هؤلاء سوف يُخلدون في مملكة السماء – شأن العودة الأبدية عند الهندوس وأفلاطون والاحتراق الكلي عند الرواقيين والنيرفانا عند البوذيين، أو عالم الخلود عند المصريين حيث الجيل الذهبي الذي تحدث عنه أفلاطون.

أما الأشرار والعصاة وشياطين الإنس والجن لهم مراتب أيضاً في الحساب الأخروي، فأشرار البشر يُحشرون في مكان يدعى “مملكة تلستال” وهي أدنى ممالك السماء لينالوا قدراً من العقاب على ما ارتكبوه من ذنوب وآثام، في حين يُسجن الشياطين في مملكة الجحيم الأبدي، بينما يسكن جاحدي النعمة وأرباب الخطايا من المورمونيين “مملكة تريستال” وهي أقل درجات التعنيف والتوبيخ وعدم القبول الإلهي، وذلك لأنهم شعب الله المختار الذين أمانوا بالمورمون غير أن الشيطان نجح في إغوائهم. وهؤلاء لن يخلدوا في عالم العصاة، بل سوف يقضون فيه حقبة من الزمان حتى يتم تطهيرهم ويحظون بالمغفرة الربانية.

فعقيدة البعث عند المورمونيين تتصل بعقيدة الفداء وعودة المسيح في آخر الزمان فقد أراد رب السماء أن يطمئن أبناء آدم من البشر وأقرانهم من الجن والعفاريت -الذين حاكوا البشر الآدميين في أفعالهم – بأن أباهم السماوي قد غفر خطيئة آدم وأرسل أكبر أبنائه الإلهيين وهو يسوع بن مريم ليُسفك دمه ويموت على الصليب فداءً وخلاصاً لهم. وسوف يتم لهم ذلك بعد قيامهم من بين الأموات فلا يُحاسبون على جحد آدم نعمة الميلاد البشري وخطيئته الأولى، ولكنهم سوف يُحاسبون عن خطاياهم اللاحقة وذنوبهم التي ارتكبوها رغم تحذيرهم من عقوبة مخالفتهم للناموس في حياتهم الأولى على لسان الأنبياء والرسل والمرشدين. كما أن العدل الإلهي يقتضي بألا يُخلّص سوى الأتقياء وأن ملكوت السماء لا تُفتح أبوابه إلا أمام الأخيار والأبرار ودونهم يسكنون طبقات أدنى؛ الأمر الذي يكشف زيف المعابد اليهودية رواية الكنائس المسيحية – في نظر المرمونيين – التي تُعلّم بأن مجيء المسيح وصلبه يكفي لخلاص من أمن به وبألوهيته.

وقد تأثر سميث في ذلك بعقيدة “الكارما الهندية” “الجزاء من جنس العمل”. وقد عدّل سميث بذلك شعار (شعب الله المختار) من اليهودية و(خراف بني إسرائيل الضالة) من المسيحية، وجعله حكراً على المورمونيين فقط.

ويمكننا أن نلاحظ تسامح أنبياء المورمونية مع الأغيار أي الذين لم يؤمنوا بتعاليمهم، ويتمثل ذلك في الاعتراف بخلاص خيارهم ونجاته من العقاب، وإن كان في مرتبة أدنى من المورمونيين، وذلك على العكس من الديانات السماوية الثلاث التي تؤكد أن شعب الله المختار في اليهودية والمسيحية هم الذين سوف يتم خلاصهم فقط، وإلى مثل ذلك ذهبت بعض الفرق الإسلامية المعاصرة مثل الخوارج وغلاة الشيعة وداعش ومن نحا نحوهم من الذين أولوا مصطلحي الفرقة الناجية وخير أمة.

 ــ معمودية الأموات:

لم تتوقف رسالة المؤمنين بالعقيدة المورمونية عند تعميد أبنائهم في سن الثامنة أو هداية ذويهم الأحياء ليتم خلاصهم، بل اضطلعوا بمهمة أخطر ألا وهي تخليص أباءهم الذين ماتوا على ضلالهم، وتصديقهم للديانات السابقة على البشارة المورمونية. ويختلف اللاهوتيون المورمونيون في ذلك عن سائر المذاهب المسيحية، ففي مقدور الكنيسة المورمونية أن تهب الخلاص والتوبة إلى الذين انتقلوا إلى الملكوت السماوي، ليس بالترحّم عليهم والدعاء لهم فحسب؛ بل باستدعائهم واستحضار أرواحهم والحديث معهم وإقناعهم بعقيدة المورمون. وذلك بتأثير من الجمعيات الروحية الحديثة التي أباحت الاتصال بعالم الأموات والاستعانة بهم في قضاء الحاجات؛ الأمر الذي يُناقض ما جاء في سفر التثنية من التوراة الذي نهى فيه الرب عن الاتصال بالعالم الآخر وأرواح الموتى والجن والعفاريت والسحر وكيد الشياطين، وقد توعد الرب من يفعل ذلك بالعذاب في الآخرة والخسران في الدنيا. غير أن اللاهوتيين المورمونيين نسخوا هذا النص. ويضيف كهنة المورمونية أن في مقدور اللاهوتيين الربانيين الإتصال بعالم الأموات الذين ينتظرون في البرزخ يوم القيامة في آخر الزمان فيستنهضوا أرواحهم ويبلغونها ببشارة المورمون ورسالة الرب التي هبطت على شعب الله الصهيوني الحقيقي الساكنين في أمريكا ويفوضهم الرب – شأن الربانيين التلموديين- في مخاطبة الأرواح الراغبة في التوبة والمتشوقة للخلاص المورموني الذي تبشر به كنيسة قديسو آخر الأيام في كل أنحاء الدنيا. ويزعمون أن تلك القدرات قد منحها يوحنا المعمدان لنبي المرمون وعلّمه معمودية هارون شقيق موسى وزوده بالنصائح التي وردت على لسان بطرس ويعقوب ويوحنا صاحب الرؤية وغيرهم من القديسين المسيحيين التي تجلت أرواحهم وظهرت صورهم للموعودين من اللاهوتيين المُكلفين بهداية سكان العالم الآخر، وقد نقلها بدوره لخلفاءه المورمونيين.

ويبدو تأثر اللاهوتيين المورمونيين بفرقة الربانيين اليهودية والحسيديين العلمانيين (الذين ظهروا في أخريات القرن السابع عشر وجمعوا بين السحر والشعوذة والكهانة والزهد والفكر الليبرالي والاقتصاد الرأسمالي والأخلاق الفردية في بنية آراءهم)، مع عدم تمسكهم بحرفية الكتب المقدسة الكلاسيكية، والترويج للتفكير العلمي ومصطلحات: النهضة والاستنارة والمدنية العلمانية والحداثة وما بعد الحداثة وغير ذلك من شعارات إصلاحية، وذاعوا ذلك كله بين الشباب المتطلع لغد أفضل من شتى الديانات. وقد نشطت الجماعات اليهودية المعاصرة في أمريكا منذ منتصف القرن التاسع عشر الحاملة لهذه الأفكار على وجه الخصوص، واتخذت من الليبرالية والرأسمالية والنفعية دستوراً لا غنى عنه للأمم الراغبة في التقدّم العلمي وقيادة العالم.

ــ تعدد الزوجات:

تحدثنا التوراة في سفر الملوك واحد الإصحاح 11 وسفر صموئيل الإصحاح 5 وسفر التكوين الإصحاح 29، 30 وسفر التثنية الإصحاح 21، وسفر أشعياء الإصحاح 4 عن العديد من الإشارات الصريحة بتعدد الزوجات. بينما في المسيحية قد استند اللاهوتيون على ما جاء في سفر التكوين (2:24) “لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسداً واحداً”، لتحريم التعدد، ويضيف “فيلو ثاؤس” (رئيس الكنيسة الكبرى المرقسية بالقاهرة سابقاً) في كتابه (قانون الكنيسة القبطية) عام 1876م “لا يجوز للمسيحي أن يتخذ سوى امرأة واحدة في الحال لا أكثر، وإن توفيت أو افترقت عنه شرعاً له أن يتزوج بأخرى”. أما في كتاب المورمون فورد في سفر يعقوب (2:2،27) أن الرب قد أستاء من تعدد الزيجات وكذا عادة التسّري فنصح المؤمنين بإتيان زوجة واحدة. ورغم ذلك نجد سميث نبي المورمونية يدعي أن يسوع قد أوحى له بالعودة إلى نصوص التوراة حيث التعدد ونسخ معتقد الكنائس الأرثوذكسية وما تبعها. وذلك رغم أنف الحكومة الأمريكية التي فرضت عقوبات مشددة على المورمونيين الذين أباحوا التعدد في ملتهم. ويبرر اللاهوتيون المورمونيون العودة إلى شعيرة التعدد بأن الرب سوف يكافئ المؤمنين مئات الزوجات والسراري بعد بعثهم في الجنة، وقد تزوج سميث نبي المورمونيين الأول بعشرات الفتيات اليانعات والسراري الفاتنات، الأمر الذي يقطع بعدم حرمانية التعدد عندهم غير أنهم حرموا الطلاق ولم يثبتوا في سجلات كنائسهم إلا من تزوج بمورمونية بيضاء وأعتبروا دونها تسرّي أو زواج متعة.

ــ العنصرية والشيفونية:

لم تتحرر المورمونية من العنصرية والشيفونية الغربية بوجه عام والعصبية اليهودية بوجه خاص، إذ رفضت تعميد أو قبول الزنوج تحت مظلة كنيستها، وذلك استناداً على ما جاء في سفر إبراهيم من إنجيل مورمون “أن الذين جاؤوا من صُلب كنعان ملعونون لأن كنعان كان أسود.” من صلب حام وقايين (أي قابيل) الذي قتل أخاه هابيل أبن أدم. وقد تسامح اللاهوتييون المورمونيون المحدثون فقبلوا الزنوج الذين جاؤوا طوعاً بغير بشارة طالبين الانضمام إلى الكنيسة المورمونية غير أن هذا الانضمام ظل غير رسمي ولم تتم لهم العمادة حتى عام 1954م وقد اشترط اللاهوتييون أنذاك قبول الزنوج كخدام أو عبيد دون أن يُمنحوا البركات مساواة بالمورمونيين البيض الأحرار، وذلك في الملكوت الأعلى. كما حذرت الكنيسة زواج المورموني الأبيض من الزنوج رجلاً كان أو امرأة لأن الرب يبغضهم ولا يبارك نسلهم. وفي عام 1978م خضعت الكنيسة الأمريكية لجمعيات حقوق الإنسان التي يقودها الماسونيون فسمحت للزنوج بالعمادة مع كراهتها لزواج المورمونيين البيض من الزنوج.

ــ بين الراديكالية والإباحية:

يحرم معظم المورمونيين تناول الخمر والتبغ والقهوة والشاي والمخدرات، ويرفضون العري والإجهاض والمثلية ويحرصون على عذرية الفتيات قبل الزواج واحتشام ملابسهن، ولا يسمحون بالعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، ويعتبرون الصلاة والصوم فروض واجبة ولها كفارة ويؤكدون على التماسك الأسري ورعاية الفقراء والمعوذين من المورمونيين. وتعد جامعة السياحة الدراسية بالقدس من أهم دعاة التعاليم المورمونية في الشرق الأوسط، غير أنها محظورة من قبل الفلسطينيين والإسرائيليين معاً، وبات التبشير بتعاليمها سرًا بين الفلسطينيين وغيرهم من الذين طمعوا في استكمال دراستهم في أمريكا. في حين نجد المورمونيين العلمانيين يبيحون التسري والتعدد الشرعي للزوجات، ولم ينكر نبيهم (وارين جيفز) كثرة زوجاته وعشيقاته؛ الأمر الذي انتهى به إلى السجن مدى الحياة. بيد أن بعض طوائفهم في ولاية يوتاه الأمريكية قد أعلنت تحريم الإباحية الجنسية والشذوذ والإجهاض، ومال قادتها إلى دراسة الفقه الإسلامي والأخذ عنه، ورحبوا بهجرة العراقيين والسوريين إلى أمريكا رغم معارضة أكثر من 30 ولاية لهذا الإجراء. وسعى الملياردير السياسي الموروني ميت رومني – حاكم ولاية ماساشوستس من عام 2003 إلى 2007- إلى الجلوس على كرسي الرئاسة في البيت الأبيض منافساً للرئيس أوباما، تحقيقا لما جاء في كتاب المورمون بشأن علو سلطان المورمونيين وقيادتهم العالم.

وقد اختلف الكثيريون من المحللين حيال تفسير تعاطف المورمونيين مع المسلمين، فبيّن أحدهم أن شعورهم بالاضطهاد داخل المجتمع الأمريكي هو الذي دفعهم لنحت روافض لهم أو صناعة أذرع وأبواق لعقيدتهم بين المسلمين في آسيا وأفريقيا، وقد أكدت ذلك صحيفة وول ستريت وصحيفة بلومبرغ وشبكة إن بي سي نيوز. والجدير بالذكر أن هناك مورمونيين غير محافظين على الثوابت الدينية أو الآداب التي حث عليها الكتاب المقدس غير أنهم منتسبون للفكر المومرموني كأيدلوجية صهيونية منفتحة على العالم بموجب منطق المنفعة وسلطة رأس المال. بينما كشف تفسيراً آخر عن نزعاتهم الصهيونية التي تنشد إضعاف طائفة الأرثوذوكس في مصر وتأييد الشيعة في سوريا ولبنان والعراق واليمن وذلك لضمهم جميعا للفكر المورموني في المستقبل لينطلقوا جميعاً من القدس للقضاء على كل الأغيار المناهضين بقيادة يسوع كما ذكرنا.

ويشير الكاتب الأمريكي مايكل دبليو هومر في كتابه (العلاقة الديناميكية بين الماسونية والغطاء المورموني)

The dynamic relationship between freemasonry and Mormonism 

والكاتب المصري رأفت ذكي في كتابه (المورمون صناعة الآلهة) وكذلك الكاتب اللاهوتي الأرثوذكسي حلمي القمص يعقوب (1950م- …) في كتابه (عبادات الشيطان وسلطان القديسين): أن تعاليم المورمونيين لا تخلو من الهرطقات الشيطانية وعلى رأسها إنكار ألوهية المسيح وقانون الإيمان ووقائع يوم القيامة الواردة في الكتاب المقدس بالإضافة إلى تأليه أنبياءهم وقادتهم الروحيين، أما تمسكهم بالفضائل والأخلاق الدينية لا يعدو أن يكون تمسكاً ظاهرياً، غير أنهم على النقيض من ذلك تماماً في السر وأن صهيونيتهم لا تخف على أحد، تلك التي تزعم أنهم مفوضون من قبل الرب بحكم العالم ومراجعة دساتيره وتعيين ملوكه وحكامه وأن روح يسوع سوف تحل في جسد كل من يتولى رئاسة أمريكا من المورمونيين لقيادة جيوش الرب للقضاء على الكافرين بملكه.

ويضيف بعض المعنيين بمقارنة الأديان المعاصرين: أن معظم الرموز التي يستخدمها المورمونيون منقولة حرفيًا من التعاليم الماسونية، ويستشهدون في ذلك بالعلاقة التي كانت تربط بين نبي المورمونيين “جوزيف سميث”، والمحافل الماسونية التي ضمت عقيدته إلى دعاتها ومنظريها وذلك منذ عام 1842م. ومن أشهر الرموز المشتركة بينهما (العين، خلايا النحل، المربع، الشمس والنجوم). غير أن الماسونيين قاموا بقتله لمخالفتهم. ثم انقسمت إلى شعبتين صهوينية يمينية وماسونية منذ عام 1966م.

(وللحديث بقيّة)

***

بقلم: د. عصمت نصار

 

إنّ من يتأمل تاريخ الديانات الوضعية الحديثة سوف يُدرك أنها قد انطلقت استجابة لآراء ونظريات ومذاهب وانقلابات سياسية وأهواء أخلاقية رغبةً في إصلاح قضايا اجتماعية وإرضاءً لنزاعات إنسانية، وذلك كله بعد  أن عجزت الديانات السماوية القائمة في زعم أربابها من تحقيق الأمن والسلم والسعادة للمؤمنين بها.

وبغض النظر عن البيئات الثقافية التي ساعدت في انتشار هذه المِلل، والمصدر الرئيس الذي حَبك وسَبك تلك التصورات الجامعة بين السياق الأسطوري والمسحة الروحية من جهة، والرؤى النقدية العقلية العلمية من جهة ثانية، والأزمة الأخلاقية والفراغ العاطفي والرغبة في إصلاح الواقع من جهة ثالثة، والتأكيد على قدرة الإنسان على خلق العالم الموازي الشاغل بالأسرار والغيبيات والمعجزات واجتذاب المؤيدين للحق المغترب والمهدي الغائب المؤيد من السماء من جهة رابعة، كل ذلك سوف يمكن المُفكك والمُؤول لهذه الأنساق الاعتقادية أن جميعها لم يضف على الواقع المعيش إلا مزيدٌ من القلق والخوف واليأس والاغتراب والرغبة في الانتحار والعنف والصراع وغير ذلك من الآلام التي يمسي فيها الإنسان بائساً حزيناً مستلباً.

وسوف يتعجب المتأمل من تلك الأكاذيب البدعية والحيل التي اصطبغت بها بنية جُل الديانات الوضعية، وتلك النسقية المضطربة الجامعة بين المقدس والمدنس، وذلك التلفيق بين العقيدة والفلسفة، وطرافة النسيج الخيالي الجاذب للعقلاء والمُفكرين قبل الجهلاء المُعدمين من العوام المعوزين في مجتمعات جحدت الغيبيات واتخذت من الإلحاد عقيدة حسيّة، ومن الشهوات المادية سبيلاً للعيش ودستوراً للحياة.

وخيرُ شاهد على ما سبق هو ما ورد في الديانات الأمريكية المعاصرة، وعلى رأسها المورمونية صنيعة الفكر الصهيوني الراغب دوماً في الترويج لهذه الأفكار العفنة المخربة.

أهم المعتقدات والشرائع التي روج لها المرمونيون:

أصول التبشير:

يقوم شبان من المبشرين الأمريكان بدق أبواب مساكن المرغوب في اجتذابهم وإقناعهم بالانتماء إلى الملة المورمونية حاملان العهد الجديد وكتاب المورمون ليعلمان بهما أهل الدار التي طرقا أبوابها شريطة أن يمضي سنتان على عملية التبشير قبل أن يعاود أحد المبشرين طرق أبواب هذه الدار ثانية وذلك لمنح الفرصة الكاملة أمام المريدين بالدخول إلى الملة طواعية بعد استيعابهم لأصول التعاليم وقواعد العقيدة عن طريق الحوار الدعوي الذي يتدرب عليه المُبشرين قبل مباشرتهم لأعمالهم، ويؤكد المؤرخون للمورمونية أن دور الدعاة المُبشرين – الذي بلغ عددهم نحو 30 ألف مُبشراً في نهاية القرن العشرين- لم يقف عند الدعوة والنصح والإرشاد بل أمتد إلى تقديم الكثير من المعونات المادية للفقراء ورعاية أسرهم اجتماعياً وصحياً وتعليمياً في الجامعة التي أُطلق عليها “بريغام يونغ”، وقد تأسست عام 1875م في مدنية بروفو بولاية يوتاه بأمريكا التي شيدتها الكنيسة المورمونية، وأضحى عدد طلابها نحو 25 ألف طالب.

ومن الطريف أن نجد أتباع المورمونية في مصر منذ عام 1977م، وذلك على يد بعض المبشرين العاملين بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. وقد احتجت الكنيسة الأرثوذكسية على السماح لهم بالتبشير العلني بحجة أنها عقيدة فاسدة ومخالفة ومناهضة لتعاليم الكنيسة المصرية؛ بل اعتبرتها  إحدى الفرق الضالة والمُهرطقة. وبلغ عدد المورمونيين الأمريكان في مصر عام 1995م نحو 500 مورموني. ثم توسع المُبشرون الأمريكان في جذب الأتباع من المصريين تحت ستار التبشير بالبروتستانتية والكنيسة الإنجيلية الأمريكية. وكذا إيعاد المستجيبين بالكثير من التسهيلات للعمل بأمريكا. وتشير بعض الدراسات المعاصرة إلى انتشار هذه العقيدة بين اللبنانيين والأفارقة، وذلك تحت رعاية الدبلوماسيين الأمريكان المنتمين إلى المورمونية منذ بداية الألفية الثالثة.

قدسية الكنيسة المورمونية وتكفير الأغيار:

الإيمان بأن كل الكنائس المسيحية السابقة فاسدة والتعاليم اليهودية التوراتية الواردة في الكتاب المقدس محرّفة ويبدو كل ذلك في أقوال سميث (نبي المورمونية) أن اللاهوتيين الذين زعموا بأنهم ينطقون باسم الرب أبناء زانيات وأرباب الفُحش والكذب والاجتراء على يسوع المسيح، وأن ما جاءوا به في كتبهم محض تلفيق وتدليس، وأن كتاب المورمون هو أصدق كتاب مقدس على الأرض، وأن الكفر بكل ما هو دونه واجب، وأن الشريعة المورمونية ناسخة لكل الديانات السابقة بما في ذلك الإسلام. وأن النبي (سميث) هو الذي تلقى كلمات المخلّص يسوع المسيح، ومن ثم كانت طاعته واجبة وكنيسته هي المرشد الصادق للطوباوية حتى آخر الزمان. وأن أي شك أو ارتياب في كتاب المورمون يرجع إلى حديث الشيطان ووسوسته، وكيد المُحرّفين الذين أخفوا بعض شذرات كتاب المورمون المقدّسة حتى لا يُفضح غييهم وإفكهم.

وقد قُوبلت هذه الآراء بالرفض والاستنكار من قبل كل الطوائف المسيحية وجُل المذاهب اليهودية ويستثنى من ذلك معظم الصهاينة والمسيحيين الإنجيلين الأمريكان الذين آمنوا بالمورمونيّة. وتتمثل أهم الاعتراضات في أن حديث “سميث” عن الكتاب المقدس يخالف الحقيقة، وأن العبارات المنقولة من أسفاره وإصحاحاته التي استشهد بها مُخالفة لمتن الكتاب المقدس نسخة الملك جيمس التي استغرقت ترجمتها إلى الإنجليزية الفترة من 1604م إلى 1611م، وظهرت طبعته الأولى عام 1612م. ويعني ذلك أن هذه الديانة قد أرتدى قساوستها عباءة المجددين والمصلحين لإنقاذ الشعوب التي تعاني من قسوة العوز المادي والفراغ الوجداني بخلاص دنيوي وسعادة أخروية للترويج لديانتهم .

نسخ قانون الإيمان وطبيعة المسيح:

أمّا زعم “سميث” بما جاء على لسان الرب يسوع المسيح بشأن قانون (الإيمان النيقي) المتفق عليه منذ 325م – وعُدل في 381م في مجمع القسطنطينية الأول – فهو لا يخلو من التدليس، ولا سيما المواضع التي ذكر فيها برهان نبوته وأخبار اليهود الصهاينة وكنيسة آخر الأيام وغير ذلك من الأكاذيب بداية من الألواح الذهبية ونهاية بنسخ الشريعة اليهودية وأقوال بطرس وبولس ويوحنا. بالإضافة إلى المسائل ذات الصلة بطبيعة السيد المسيح وخلاصه؛ فالإله في العقيدة المورمونية ليس مُشخصاً وليس له لحم ودم وطبيعة إنسانية كاملة كما يزعمون، وأنه لم يخلق العالم من العدم؛ بل كان عمله أقرب إلى التنظيم والتهذيب والهندسة شأن إله أفلاطون، وأن أبوته للبشر أبوة غير حقيقية قريبة الشبه بقصة ميلاد البشر في الأساطير الإغريقية والشرقية القديمة مثل (أسطورة الإله زيوس في الإغريقية)، والإله اندرا في الأساطير الهندية، والإله تينيا في الأساطير الأتروسكانية الإيطالية نحو 900ق.م، وكذا أسطورة إبيمثيوز اليونانية)، كما أكد المرمونيون أنه (أي يسوع المسيح) ليس إلهاً منفرداً للكون؛ بل هو عضو في مجمع الآلهة واختص بألوهية سكان العالم الأرضي، وأنه توأم الشيطان، وابن مريم من أحد آلهة السماء، وبكورة الاتصال الجنسي غير المباشر بين الآلهة والجنس البشري.

أمّا الروح القدوس فهو المسئول عن خلق أرواح الإلهة الصغرى في الكواكب الأخرى. وبذلك يُصبح الثالوث المُقدس المورموني على النقيض تماماً ممّا تؤمن به كل الكنائس المسيحية على اختلافها؛ فيسوع المسيح عند المورمونيين ليس إلهاً للكون بل هو عضو في مجمع الآلهة، وأنه مخلوق وليس خالق وله كل الصفات الآدمية وأنه ولد من اتصال جنسي بين الآب إله السماء والكون، ومريم – على نحو خاص- وكان ليسوع زوجات وأبناء وأنه مخلّص بالتفويض وليس له إرادة حرة مُطلقة، وأن الأقانيم الثلاثة التي تتحدّث عنها الأناجيل المسيحية ليست كياناً واحداً في شخص المسيح، بل هي أقانيم منفصلة في الوضع والحالة والزمان والقدرة ويستحيل جمعها في شخص واحد حتى على سبيل المجاز، وأن نصوص العهد الجديد مضطربة ومتناقضة في حديثها عن سيرة المسيح بداية من ولادته وصفاته ومعجزاته.

وعليه؛ لا يمكن الاعتماد أو الاحتجاج بها في سياق الحديث عن طبيعة المسيح. ومع ذلك كله فالعقيدة المورمونية تؤمن بمجد المسيح وقداسته وطهارته وصَلبه وعودته ثانية في آخر الزمان.

ويجمع اللاهوتيون المسيحيون على هرطقة تعاليم المورمونيين وتجديف زعمهم بأن نبيهم نبي آخر الزمان المتمم للشريعة والمُصحح لتحريف الكتاب المُقدس والناسخ للعقائد الإيمانية ومانح حرية تأويل الوحي للعقول البشرية بمعزل عن سلطة الكنيسة وأوهام القساوسة. وكل ذلك لا سند له ولا برهان على صحته عندهم. وينظر المجمع الكنسي لهذه العقيدة بعين الريبة والجحود ويعتبرها بدعةً مُحرمة يجب اجتنابها، وأنها من المعتقدات المهرطقة المعاصرة والمناهضة للاهوت المسيحي بعامة الأرثوذكسية بخاصة.

ويبدو بوضوح تأثر إنجيل مورمون بالعقيدة الآريوسية تلك التي وردت في كتاب “إلثاليا” الذي حرّره آريوس (256- 336م) بقلمه، وجاء فيه:

أن الإله واحد أزلي، غير مخلوق، لا بداية له ولا نهاية، وهو الحكيم الديان والذي لا ينقسم ولا يتحول ولا يتغير.

وهو الذي أنبثق عنه أبنه الوحيد يسوع، (أي أنه ابن بالتبني شأن غيره من المُختارين والمُصطفين) قبل كل الدهور، وبه خلق العالم وما فيه من الموجودات المحسوسة.

وأن يسوع لم يُولد كسائر البشر بل وجد بإرادة إلهية “كن فكان” فهو مخلوق ويستمد وجوده ومجده من الإله المُطلق (الآب)، فأضحى الكلمة التي لا تتغير، ومن ثمَّ كان وجود الآب سابقاً على كل الموجودات بما في ذلك الابن الذي خُلق بإرادة الإله قبل الزمن، وقبل كون العالم. هو قد نال حياته وكينونته من الآب، الذي أعطى مجده للابن، وأعطاه سلطاناً على كل شيء.

والخلاصة أن “جوزيف سميث” قد ذهب مع الآريوسيين إلى أن يسوع المسيح ليس إلهاً، وأنه ليس من جوهر الآب الخالق، كما أن الذي وُلد ونَمى وصُلب وتألم لا يمكن أن يكون الإله، ولا الكلمة الخالدة، بل هو الابن الذي تجسد في صورة يسوع البشري.

وإذا أمعنا النظر سوف نجد هذا التصور المورموني للقانون الإيماني الجديد قد تأثر إلى حد كبير بالكثير من الآراء الفلسفية المطربة والنحل العقديّة المجترئة، نذكر منها آراء البطريرك نسطوريوس (386- 451م) والفيلسوف الفرنسي أبيار أبيلار (1079- 1142م) والفيلسوف البوهيمي يان هوس (1369-1415م)، والفيلسوف الإيطالي جوردانو برونو (1548م- 1600)، والفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632- 1677م) وغيرهم من الذين وسموا بالهرطقة لانتصارهم للعقل وتشكيكهم في سلامة الكتاب المقدس.

الأبوة الإلهيّة والبنوة البشريّة:

يُعلّم “سميث” في كتاب المورمون والأحاديث التي روتها زوجته عنه، بأن إله السماء له مئات الزوجات اللواتي وهبهن القدرة على الحمل والإنجاب، ثم وهب هذا الحمل الروحي المادة الجنينية التي حولت النطفة الروحية إلى لحم ودم، وتشكل في هيئة البشر ومخلوقات أخرى لها طبائع مختلفة مثل (المردة والجن والعفاريت والشياطين) وذلك وفق إرادته. ولم يُدرك الأنبياء السابقين حقيقة إله السماء فوقعوا في التجسيد والتشبيه واعتقدوا أن أبوته للبشر أبوة مادية، وأن مواقعته للبشريات أو الجنيات مواقعة حسية (زواج ونكاح). والحقيقة أنه اتصال جنسي مجازي وأبوة ربوبية ميتافيزيقية (أقرب إلى فيض أفلوطين أو تصورات الغنوصيين أو الهرامسة التي حولت الوجود الروحي إلى وجود مادي) وعليه؛ فالبشر في رأي المورمونيين “أبناء الرّب”، والرب أي الإله أباً لهم من أم بشرية مخلوقة في زمن سابق على اتصاله بها، والأمهات قد تشكلت وفق تصور إله السماء فحملت ببشر وملائكة ومردة وشياطين وعلى رأسهم آلهة صغرى تحكم الأجناس والأمم. وقد منح الرب لهؤلاء الآلهة الصغار بعض قدراته وخصاله وطباعه، وذلك وفق ما صورته الأساطير المتواترة. أما الأبناء فينمون ويكبرون ثم تموت أجسادهم وتعود أرواحهم إلى سابق عهدها بعد تطهيرها فتعود إلى المعيّة الربانية، أو تُرد ثانية في ميلاد ثاني في أجساد أخرى وفق طبائعها الجديدة. وهو تصور أقرب إلى الفكر الهندوسي الرواقي والبوذي وسيوصوفي (تناسخ الأرواح) وغير ذلك من تصوّرات الجماعات الروحيّة.

(وللحديث بقيّة)

***

بقلم د. عصمت نصار

 

التصوف في سياقه العام، هو تلك التجربة الروحانيّة الوجدانيّة التي يعيشها المتصوف، الذي تخلى عن معطيات الحياة الماديّة واكتفى منها بما هو ضروري لاستمرار بقائه وقدرته على التواصل مع الله، الذي اعتقد بعض المتصوفة العرفانيين بأنهم قد وصلوا إلى التوحد معه، كما هو الحال عند الحلاج والسهروردي والبسطامي وذو النون وغيرهم، (1)، ومن أجل الوصول إلى هذا التوحد، لا بد من تربية النفس والقلب وتطهيرهما من الرذائل وتحليتهما بالفضائل، وأخيراً شد رحال للسفر إلى ملكوت الحضرة الإلهيّة، أو الذات الربانيّة، من أجل اللقاء بها وصالاً وعشقاً. أو بتعبير آخر، التصوف هو محبة الله والفناء فيه والاتحاد به كشفاً وتجلياً من أجل الانتشاء بالأنوار الربانيّة والتمتع بالحضرة القدسيّة. كما سموه بـ علم التصوّف، وعلم التزكية، وعلم الأخلاق، وعلم السلوك، أو علم السالكين إلى الله. (2).

إن معرفة المتصوفة، قائمة على القلب والحدس والوجدان والعرفان اللدنيّ، وهم بطرق المعرفة هذه يتجاوزون بالضرورة الحس والعقل، للذهاب إلى الباطن. وعلى هذا التوجه نحو الباطن، يأتي تأويل النص القرآنيّ من أهم الآليات الاجرائيّة لفهم الخطاب الصوفيّ ودلالاته.

إن التصوف الإسلاميّ يقوم على موضوعات بارزة تغني عوالمه النظريّة والعمليّة. وهذه المواضيع هي: المجاهدات، والغيبيات، والكرامات، والشطحات. كما ينبني التصوف على مجموعة من المقامات، والأحوال، والمرافئ الروحانيّة، ومجاهدة النفس ومحاسبتها، والايمان بالصفات الربانيّة ومحاولة استكشافها روحانيّاً ووجدانيّاً، ورصد الكرامات الخارقة التي قد تصدر عن العارف، أو السالك أو المريد، أو المسافر إلى الحضرة الإلهيّة، وهنا تبرز العوالم الخياليّة والإيهاميّة، في تكشف الأسرار الكونيّة ومفاتيح الغيب أمام العبد العاشق الذي انصهر في حب معشوقه النوراني. هذا وتتحول الممارسات والأقوال والعبادات العرفانيّة عند بعض المتصوفة، إلى شطحات لا أساس لها من الصحة والواقع، وتكون أقرب إلى عالم التخريف والأسطورة والأحلام.

والمتصوفة السنة، هم من ربط بين الشريعة الإسلاميّة النصيّة والعرفان الباطني. أي كانوا يستندون في دعواهم إلى الكتاب المقدس والسنة النبويّة.

وللمتصوفة مصطلحات كثيرة منها:

الأنس: هو فرح وسعادة غامرة تملأ القلب بالمحبوب الذي هو الله، وهو (حال) يصل إليه السالك، معتمداً على الله، ساكناً إليه، مستعيناً به. وفي الأنس ترتفع الحشمة وتبقى الهيبة مع الله، وبذلك يكون الأنس طمأنينة ورضا بالله . (3).

الاتصال: وهو أن ينفصل العبد بسره عما سوى الله، فلا يَرَى بسره غيرَه، ولا يسمع إلا منه. (4).

التجريد: التجريد أن يتجرد المتصوف بظاهره عن الأعراض، وبباطنه عن الأعواض، (أي: ألا يأخذ من عرض الدنيا شيئا، ولا يطلب على ما ترك منها عوضا: لا من عاجل ولا آجل)، بل يفعل ذلك لوجوب حق الله تعالى، لا لعلة غيره، ولا لسبب سواه، ويتجرد بسره عن ملاحظة المقامات التي يخلها، والأحوال التي ينازلها (بمعنى: السكون إليها والاعتناق لها).(5)

الوجد: ما صادف ويصادف القلب من فزع، أو غم، أو رؤية معنى من أحوال الآخرة، فتضطرب الجوارح طرباً، أو حزناً عند ذلك الوارد، وهي حالة يثمرها السماع، والاستماع للأشعار الملحنة بالأنغام، والأوتار، والدفوف، وغير ذلك، وهو من أحوال الصوفية البدعيّة، التي لم ترد في كتاب، ولا سنة، ولم يقلها سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين. (6).

التواجد: هو ظهور ما يجد في باطنه على ظاهره، ومن قوي حاله تمكن فسكن. (7).

الغيبة: أن يغيب عن حظوظ نفسه فلا يراها، وهي قائمة معه، موجودة فيه، غير أنه غائب عنها بشهود ما للحق. (8)

جمع الهمة: الهمة، بتعبير المتصوفة، هو ما يملك الانبعاث للمقصود صرفاً لا يتمالك صاحبها ولا يلتفت عنها، أو بتعبير آخر: ينبعث قلب المتصوف نحو المقصود، ونحو الطلب الذي يطلبه، ويستولي عليه كاستيلاء المالك على المملوك؛ بحيث لا يستطيع أن يتخلص من هذا النزوع طلباً للكمال. (9).

أهم رجالات التصوف في شقه الطرقي:

– عبد القادر الجيلاني – أحمد البدوي – أحمد الرفاعي. وابن عبدك – والشاذلي ... وغيرهم.

التصوف الفلسفي أو العرفاني:

انتعش التصوف العرفاني أبان العصر العباسي، في منتصف القرن الثالث للهجرة، مع انتشار الفكر الفلسفيّ في عصر المأمون، بسبب الترجمة للفكر اليوناني بشكل خاص. ومن هذه الحاضنة التاريخيّة ظهر :

1- الحلاج : ونظرية الحلول.

2- البسطامي : ونظرية الفناء.

3- ابن عربي: ونظرية وحدة الوجود.

4- وهناك كما بينا في الموقع السابق: السهروردي – وذو النون – وابن الفارض – وجلال الدين الرومي – ونور الدين العطار –الشبلي. - الحسن البصري – المحاسبي– القشيري – البسطامي – الجنيد – أبو نصر السراج – ابن المبارك – ومالك بن دينار.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

.....................

1- راجع كتاب مدارات صوفيّة - هادي العلوي. دمشق – دار المدى - 1997

2- الويكيبيديا.

3- (موقع نفحات الطريق. الأنس عند المتصوفة).

4- الويكيبيديا.

5- (للاستزادة في ذلك راجع موقع هنداوي. التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق.).

6- موقع الجمهرة . الوجد – (Islamic – content.com.

7- الويكيبيديا.

8- الويكيبيديا.

9 - (موقع نفحات الطريق.  الهمة عند الصوفية.).

10- للاستزادة في موضوع التصوف، راجع دراستنا عن التصوف بعنوان: (التجليات الفلسفيّة للتصوّف – التصوّف الإسلاميّ أنموذجاً). نشرت في العديد من المواقع الالكترونية العربيّة.

الصفحة 5 من 6

في المثقف اليوم