دراسات وبحوث

دراسات وبحوث

إن القلق قدیم قدم الإنسانیة، فالإنسان الذي عاش في عصور ما قبل التاریخ لم تكن حیاته البدائیة خالیة من مصادر القلق، رغم أن صراعه في ذلك الوقت كان ینحصر في مواجهة الحیوانات المفترسة ومحاولة التغلب علیها، وبصفة عامة فإن الإنسان في الأزمنة السابقة أكثر حظاً من هذا الزمن، فقد كان مصدر القلق لدیه من مصدر واحد، أما الیوم فتعددت مصادر القلق، فقد أصبح مجرد الاحتفاظ بالتوازن والسلام النفسي یستلزم جهداً فائقاً ومواجهة مستمرة في جبهات متعددة ضد مصادر القلق والتوتر.

یوصف القلق بأنه لعنة عصرنا ونحن جمیعاً معرضون له، لأن الحیاة المعاصرة تسعى بدون رفق لأن تضغط علینا بقوة ولیس هناك من لا یشعر بالاضطراب أحیاناً، لأنه لا یستطیع تحمل بعض أعباء حیاته الیومیة ومربكاتها التي تفوق قوة احتماله وطاقته. كما يمكن أن يتملك بعض الأشخاص سيل من مشاعر الخوف الذي يترك آثاراً سلبية لدى التعامل مع الآخرين، لتتولد مشاعر الارتباك والقلق لدى معايشة مواقف يومية اعتيادية، فتتحول لحالة من الرهاب الذي يعرف بالقلق الاجتماعي.

يعتبر اضطراب القلق الاجتماعي أحد أنواع الاضطرابات النفسية التي قد يصاب بها بعض الأفراد، حيث تتمظهر لديهم من خلال سيطرة الأفكار السلبية حيال اعتقادهم بالتعرض للإذلال أو الإحراج في الوسط الاجتماعي يشعرون فيه بالقلق من انتقاد الآخرين لهم، أو من خلال مراقبتهم، أو تكوين الآراء والأحكام حول شخصيتهم، أو ارتكاب الأخطاء في العلن بسبب قلة المهارات الاجتماعية التي يملكونها. وفي بعض الأحيان، قد يتحول هذا القلق إلى نوبة من الذعر، حيث يشعر الأشخاص الذين لديهم هذا الاضطراب بالخوف لمدة أيام أو عدة أسابيع من أحداث لم تحدث بعد، ومع أنهم يشعرون بأن أسباب هذا الخوف غير موجودة على أرض الواقع إلا أنهم لا يستطيعون تجاوز الخوف الذي لديهم بسببها.

وفي العموم، نجد أنه من الطبيعي أن يشعر الإنسان بالتوتر والقلق في مواقف الاجتماعية والمهنية معينة. فعلى سبيل المثال، قد يسبب الخروج في موعد عاطفي أو إلقاء عرض تقديمي أمام جمهور كبير الشعور بتوتر وهذا أمر طبيعي، ولكن في حالة اضطراب القلق الاجتماعي (الرهاب الاجتماعي) نجد أن التعاملات اليومية والروتينية تسبب المصاب قلقاً بالغاً، وارتباكاً وشعوراً بالحرج بسبب الخوف من أن تكون محل مراقبة أو حكم سلبي من الآخرين لذا توصف الحالة هنا بأنها حالة مرضية.

1- مفهوم القلق الاجتماعي:

يعرّف بأنه شعور بعدم الارتياح، مثل التوتر أو الخوف، يمكن أن يكون خفيفاً أو شديداً. وقد يعترض أي شخص. أما اضطراب القلق العام هي حالة طويلة الأمد تجعلك تشعر بالقلق حيال مجموعة واسعة من المواقف والقضايا، بدلاً من حدث واحد محدد. ويمكن أن يسبب أعراض نفسية (عقلية) وجسدية. ويمكن القول القلق الاجتماعي بأنه اضطراب مزمن يتميز بخوف مفرط وغير مبرر من الإحراج والهوان في المواقف الاجتماعية، مما يؤدي إلى ضيق شديد وعدم القدرة على أداء الوظائف اليومية. ويعد القلق الاجتماعي اضطراباً شائعاً، ويبدأ إجمالاً في الطفولة أو سنوات المراهقة، وإن لم يتم علاجه أدى إلى انطوائية ومشكلات نفسية متعددة.

وهكذا فإن السمة المميزة لاضطراب القلق الاجتماعي هي القلق الشديد أو الخوف من الحكم عليك، أو التقييم السلبي، أو الرفض في موقف اجتماعي أو أداء فعل ما مثل: احمرار الوجه أو التعثر في الكلمات، أو أن يُنظر إليهم على أنهم أغبياء أو محرجون أو مملون. ونتيجة لذلك، فإنهم غالباً ما يتجنبون المواقف الاجتماعية أو المواقف المتعلقة بالأداء، وعندما لا يمكن تجنب موقف ما، فإنهم يعانون من قلق وضيق كبيرين، كما يعاني العديد من الأشخاص المصابين باضطراب القلق الاجتماعي أيضاً من أعراض جسدية قوية، مثل: معدل ضربات القلب السريع، والغثيان، والتعرق، وقد يتعرضون لهجمات كاملة عند مواجهة موقف مخيف. على الرغم من إدراكهم أن خوفهم مفرط وغير معقول، فإن الأشخاص الذين يعانون من اضطراب القلق الاجتماعي غالباً ما يشعرون بالعجز عن قلقهم.

في حقيقة الأمر، لا تعتبر كل أنواع القلق مرضیة أو دلیلاً على اضطراب نفسي، فالقلق في حد ذاته ظاهرة طبیعیة، وإحساس، وشعور، وتفاعل مقبول، ومتوقع تحت ظروف معینة، وأحیاناً یكون للقلق وظائف حیویة تساعد على النشاط، وكذلك على حفظ الحیاة.

لذا سعى علماء النفس إلى تقسیم القلق إلى عدة أنواع ومنهم من اعتمد في تقسیمه للقلق على الأسباب التي أدت إلى نشأة القلق مثل فروید، ومنهم من اعتمد على الآثار المترتبة على القلق، ولكن أي كان المنطلق في تقسیم القلق فإن الباحث في هذا السياق یجد أن هناك شبه إجماع لدى علماء النفس في تقسیم القلق إلى قلق موضوعي، وعصابي، وقلق خلقي.

أ- القلق الموضوعي: وهو النوع الذي یدرك الإنسان أن مصدره خارجي، وهو عبارة عن رد فعل لإدراك خطر خارجي، أو لأذى یتوقعه الشخص مستقبلاً، ویسمیه العلماء عدة أسماء مثل القلق الواقعي، أو القلق الصحیح، والقلق السوي. وهذا النوع من القلق أقرب إلى الخوف ذلك لأن مصدره یكون واضح المعالم في ذهن الإنسان. ویطلق علیه أحیاناً القلق السوي، ویحدث في مواقف التحسب وتوقع حدوث ما لا تحمد عقباه كالخوف من الفشل، أو فقدان شيء، وأحسن الأمثلة لهذا الشعور هو قلق الطالب أثناء الامتحان أو قبله.

ب- القلق العصابي: وهو ینشأ نتیجة محاولة المكبوتات الإفلات من اللاشعور والنفاذ إلى الشعور والوعي، ویكون القلق هنا بمثابة إنذار للأنا لكي یحشد دفاعه حتى لا تنجح المكبوتات اللاشعوریة في التسلل إلى منطقة الوعي والشعور، وإذا كان القلق الموضوعي یعود إلى مثیرات خارجیة في البیئة فإن هذا القلق یرجع إلى عامل داخلي، وهو دفاعات الهو الغریزیة، التي توشك أن تتغلب على الدفاعات وتحرج الأنا إحراجاً شدیداً، لأنها تجعله في صدام مع المعاییر الاجتماعیة، وتجعله عرضة للعقوبات الذاتیة من جانب الأنا الأعلى. أي أن القلق العصابي هو الخوف من أن تخرج الحوافز الغریزیة للهو من دائرة السیطرة وهو یتضمن الخوف من العقاب الذي سیحدث. ویعني ذلك أن القلق العصابي توتر داخلي لا مبرر له، أي إنه حالة تهیؤ نفسي وبدني لمجابهة خطر موهوم، أو مبالغ فیه، بحیث لا یتفق التوتر الحاصل مع الظروف المؤدیة له.

ج- القلق الخلقي: هو نتیجة الصراع الذي سیحدث داخل الشخص، ولیس صراعاً بین الشخص والعالم الخارجي. وهو نوع من أنواع الخوف من الضمیر وینشأ عن الصراع مع الذات العلیا، وذلك نتیجة تحذیر أو لوم الأنا الأعلى للأنا، عندما یأتي الفرد أو یفكر في الإتیان بسلوك یتعارض مع المعاییر والقیم، التي یمثلها جهاز الأنا الأعلى أي إن هذا النوع یتسبب عن مصدر داخلي مثله مثل القلق العصابي الذي ینتج من تهدید دفاعات الهو الغریزیة، ویتمثل هذا القلق في مشاعر الخزي والإثم والخجل والاشمئزاز، ویصل هذا القلق إلى درجته القصوى في بعض أنواع الأعصبة، كعصاب الوسواس القهري الذي يصاحبه من السیطرة المستبدة للأنا الأعلى، ویخاف أكثر ما یخاف من لوم ضميره القاسي. كما ینشأ حین یحاول الفرد أن یخالف ما تعلمه من والدیه من مبادئ وأخلاق، وكذلك عندما یفكر في إشباع رغبات الهو، التي تتطلب منه أن یقدم على تجاوز كل ما هو محرم اجتماعياً ودينياً.

2- أعراض القلق الاجتماعي:

لا يعد الشعور بالخجل أو عدم الراحة في مواقف معينة بالضرورة مؤشراً على اضطراب القلق الاجتماعي، وبخاصة لدى الأطفال. وتتفاوت مستويات الشعور بالراحة في المواقف الاجتماعية تبعاً لسمات الشخصية وتجارب الحياة. فبعض الأشخاص متحفظون بطبعهم، والبعض الآخر أكثر انفتاحاً. وعلى العكس من العصبية اليومية، تشمل علامات اضطراب القلق الاجتماعي الخوف والقلق والعزلة بما يؤثر على العلاقات بالآخرين أو الأنشطة الروتينية اليومية أو العمل أو الدراسة أو غير ذلك من الأنشطة. وعادةً يبدأ اضطراب القلق الاجتماعي في بداية مرحلة المراهقة أو منتصفها، إلا أنه قد يبدأ أحياناً لدى الأطفال الأصغر سناً أو البالغين. وتنقسم أعراض القلق الاجتماعي إلى ما يلي:

أ- الأعراض الشعورية والسلوكية: قد تشمل مؤشرات اضطراب القلق الاجتماعي وأعراضه ظهور المؤشرات التالية بشكل مستمر مثل: (الخوف من المواقف التي قد يحكم فيها الآخرون عليك حكماً سلبياً، القلق من إحراج أو إهانة نفسك، الخوف الشديد من التعامل مع الغرباء أو الحديث معهم، الخوف من أن يلاحظ الآخرون أنك تبدو قلقاً، الخوف من الأعراض الجسدية التي قد تسبب شعورك بالإحراج، مثل احمرار الوجنتين أو التعرق أو الرعشة أو ارتجاف الصوت، تجنب فعل أشياء للآخرين أو الحديث معهم خوفاً من الإحراج، تجنب المواقف التي قد تكون فيها محور الاهتمام، القلق المسبق من نشاط أو حدث تخاف منه، الخوف أو القلق الشديد أثناء المواقف الاجتماعية، تحديد أدائك والتعرف على العيوب التي شابت تعاملاتك بعد موقف اجتماعي ما، توقع أسوأ العواقب الممكنة بسبب تجربة سلبية تعرضت لها أثناء موقف اجتماعي ما). وقد يعبّر الأطفال عن قلقهم من التفاعل مع البالغين أو أقرانهم عن طريق البكاء أو نوبات الغضب أو التعلق بالوالدين أو رفض الحديث في المواقف الاجتماعية. ويتمثل نوع اضطراب القلق الاجتماعي المرتبط بالأداء في شعورك بالخوف والقلق الشديدين أثناء الحديث أو تقديم أداء أمام جمهور لا في الأنواع الأخرى من المواقف الاجتماعية الأكثر انفتاحاً على العامة.

ب- الأعراض الجسدية: قد تصاحب مؤشرات وأعراض جسدية اضطراب القلق الاجتماعي أحياناً، وقد تشمل على ما يلي:  (احمرار الوجنتين، تسارع ضربات القلب، الارتجاف، التعرق، اضطراب المعدة أو الغثيان، صعوبة ملاحقة الأنفاس، الدوخة أو الدوار، الشعور بأن عقلك قد فرغ تماماً، توتر العضلات).

ج- الأعراض النفسية: وتتمثل في: (نوبة من الهلع التلقائي، الاكتئاب وضعف الأعصاب، الانفعال الزائد، عدم القدرة على الإدراك والتمییز، نسیان الأشیاء، اختلاط التفكیر، وزیادة المیل إلى العدوان).

د- الأعراض الاجتماعية: إذا كان المرء مصاباً باضطراب القلق الاجتماعي، فقد يكون من العسير عليه تحمل التجارب اليومية الشائعة (تجنب المواقف الاجتماعية الشائعة)، ومنها ما يلي: (التعامل مع أشخاص غير معتادين أو غرباء، حضور الحفلات أو اللقاءات الاجتماعية، الذهاب إلى العمل أو المدرسة، بدء محادثات مع الآخرين، التواصل البصري، المواعدة، دخول غرفة فيها أشخاص جالسون بالفعل، إعادة المنتجات إلى المتجر، تناول الطعام أمام الآخرين، استخدام مرحاض عمومي). وقد تتغير أعراض اضطراب القلق الاجتماعي بمرور الوقت. فقد تشتد إذا كنت تواجه كثيراً من التغيرات أو التوتر أو مطالب في حياتك. ورغم أن تجنب المواقف التي تسبب اضطراب القلق الاجتماعي قد يجعلك تشعر بأنك أفضل في فترة قصيرة، فإن الراجح أن قلقك سيظل موجوداً على المدى البعيد إذا لم تحصل على العلاج اللازم.

3- أسباب القلق الاجتماعي:

إن شخصية الإنسان عبارة عن مجموعة من المواقف المتكررة، باختلاف سماتها ومواصفاتها، ولم تكن الشخصية التي تراها وتتعامل معها في أي شخص وليدة اللحظة، بل هي تراكمات منذ أن فتح عينيه على الحياة، وفي هذا العنصر سنحاول توضيح الأسباب التي تدفع الإنسان للدخول في القلق الاجتماعي، وهي كالآتي:

 أ- الاستعداد الوراثي: تلعب العوامل الوراثية دور أساسي في الإصابة بالقلق الاجتماعي فقد أثبتت الدراسات أن الأطفال المولودين لآباء مصابين بالقلق الاجتماعي أكثر عرضةً لانتقال ذلك الاضطراب السلوكي إليهم من خلال الجينات الوراثية.

ب- الاستعداد النفسي: هناك عدد من الأسباب النفسية للقلق الاجتماعي، أبرزها بالرهاب، الإصابة بالاكتئاب والصدمات النفسية الناتجة عن الحوادث والاعتداء الجنسي وخاصةً في مرحلة الطفولة. بمعنى آخر ينحصر الاستعداد النفسي في الشعور بالتهديد الداخلي أو الخارجي الذي تفرضه بعض الظروف، والتوتر النفسي الشديد والأزمات والمتاعب والصدمات النفسية، والشعور بالذنب والخوف من العقاب وتوقعه.

ج- عوامل بيئية: تلعب العوامل الاجتماعية والبيئية السلبية المحيطة بالشخص دوراً سلبياً في التأثير على صحته النفسية، فهي قد تؤدي إلى الإصابة بالقلق الاجتماعي، والذي يصل إلى القلق الاجتماعي في حالة تواجد الشخص في بيئة عنيفة تفتقر إلى عنصر الأمان. حيث تزيد البيئة المشبعة بعوامل الخوف والهم من مواقف الضغط والحرمان وعدم الأمن واضطراب الحو الأسري ووقوع الكوارث الطبيعية والصناعية والحروب.

د- الناقلات العصبية: من المحتمل أيضاً أن يكون سبب القلق الاجتماعي الإصابة بالخلل في بعض المواد الكيميائية في الدماغ، والمعروفة باسم (الناقلات العصبية) حيث تعمل الدماغ على استخدام تلك الناقلات العصبية لإرسال الإشارات عبر الخلايا، هذا وقد أثبتت الدراسات أن هؤلاء من يعانون من القلق الاجتماعي لديهم خلل في تلك الناقلات العصبية.

هـ - بنية الدماغ: هناك وظائف في مناطق محددة في بنية الدماغ تعمل بالضرورة على الإصابة بالاضطرابات النفسية ومنها الرهاب الاجتماعي، فقد أثبتت الأبحاث وجود اختلافات في مناطق محددة بالدماغ لهؤلاء المصابين بالقلق الاجتماعي، وهناك 4 مناطق بالدماغ لها دور في هذا، وهي جذع الدماغ، الجهاز الحُوفِي، قشرة الفص الجبهي، والقشرة الحركية للدماغ.

و- النشأة غير السوية: تعد التربية والنشأة منذ الصغر أهم النقاط التي تؤثر على حياة الطفل في الكبر، حيث لابد من التعامل الصحيح مع الطفل لتعزيز المبادئ الصحيحة والسوية، حيث يجب منحه مساحة من الحرية، للإدلاء برأيه المستقل في حدود الأدب واحترام الكبير، وعلى الأم مراعاة عدم التسلط في اتخاذ القرارات المنزلية، خاصةً ما يتعلق منها بحياة الطفل، مثل: اختيار الملابس، نوع الطعام، ألوان الأغراض الشخصية، وهكذا من أمور كثيرة يستعملها شخصياً، فلابد أن تنطبق على ذوقه لا ذوقك أنتِ، وهنا يأتي دور الوالدين الفعال في تعليمه كيفية الاختيار الصحيح الذي يناسبه.

ز- فقدان الثقة في النفس: يعد فقدان الثقة في النفس من أهم أسباب القلق الاجتماعي، فاكتسابها يقلل من فرص وجوده، والعكس صحيح عندما يفقد الشخص الثقة في ذاته، يكون في حالة قلق وخوف من كل المجتمع، ومن أكثر ما يفقد الشخص ثقته في نفسه هو تعرضه للتوبيخ المستمر من المحيطين به أسرياً في نطاق العائلة، المدرسة، أو النادي الرياضي، فيكون الانتقاد السلبي هو طريقة التعامل دون ملاحظة أي إيجابيات يقوم بها الطفل، فيتم تسليط الضوء على السلبيات فقط، فيتحول الطفل لماكينة إخراج سلبيات، حيث يشعر الطفل دوماً بعدم وجود جدوى من فعل الأمر الإيجابي، فهو لا يرهق نفسه في فعل ما يرضيك، لأنه بكل بساطة يعلم جيداً أنك لا ترى الإيجابيات، بل تستمع فقط بنقده.

ح- تأنيب الضمير: عند النظر عامةً إلى بعض الأمور، تجد أن تأنيب الضمير هو تصرف محمود، حيث يريد الشخص محاسبة نفسه ومعرفة الأخطاء التي وقع فيها، والمعالجة فيما بعد، ولكن في حالة المريض المصاب بالرهاب الاجتماعي، يتغير مفهوم هذه الجلسات، لتصبح جلسات جلد وتعذيب بدلاً من جلسات تأنيب للضمير.

وعلى العموم يقوم الفرد في هذا السياق بمراجعة سلوكياته اليومية، بأقصى صورة ممكنة، وتسليط الضوء على السلبيات بطريقة مبالغ فيها، دون وضع أي مبررات أو أعذار في الاعتبار، فيزيد من قلقه وتوتره، ويدخل في حالة أرق وعدم القدرة على النوم، بسبب التفكير المستمر، والبحث عن السبب الذي أدي إلى حدوث ذلك، وكيف أنه ترك الموقف حتى وصل لذلك الحد، وفي حالة المرض المزمن، فهو يحبس نفسه في عزلة تامة، وتتطور حالته للاكتئاب، وفي حالات قد يفقد حياته من شدة القهر.

4- فلسفة القلق الاجتماعي عند إريك فورم:

اتسمت المجتمعات الغربية بانفصال الناس عن أنفسهم وعن مجتمعاتهم، ولقد حدث هذا على الرغم من التقدم العلمي، والنمو الصناعي المتزايد، والسعي وراء الطرق، التي توفر السعادة، وتجلبها، وتؤمن الرفاهية للإنسان، ونتيجة مباشرة لذلك الانفصال، أصبح هناك اضطراب في التفاعل فيما بين العوامل النفسية المؤثرة والوسط الاجتماعي المحيط بالفرد، وبمعنى آخر بين بناء الفرد وبناء المجتمع، فالحياة الصناعية تتسارع يوماً بعد يوم، ويتحول فيها الإنسان إلى شيء مما يصيبه بالقلق واللامبالاة بالحياة، وقد يدفعه هذا في بعض الأحيان إلى كره الحياة والتذمر منها.

 يشرح عالم النفس النقدي الألماني "إريك فروم" (1900- 1980) المشكلات النفسية لإنسان القرن العشرين، حيث قال: إن إنسان القرن العشرين قد تشيأ وأصبح " شيئاً ". لقد غادر مربع كونه إنساناً ليدخل في مربع كونه شيئاً من الأشياء التي تمتلك وتباع وتشترى، وهذا الإنسان أبرز معاناته تتلخص في القلق، فلا إيمان لديه، ولا قناعة، وقليل القدرة على الحب، يهرب إلى الانشغال الفارغ، إدمان الكحول، الانغماس المتطرف في الجنس، ولذلك تظهر عليه كل الأمراض النفسية الجسدية.

إن تطور وتقدم الصناعات الاقتصادية والتكنولوجيا المتطورة على حساب القيم الإنسانية هي من تقف خلف مخاوف "إريك فروم" أو ملاحظاته حول إنسان القرن الذي عاش فيه. لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا ماذا لو أن " فروم" عاش حتى عشرينيات القرن الحادي والعشرين؟ حيث أدت العوامل الاقتصادية إلى شعور الفرد بالتشيؤ، هذا الشعور الذي يجعل الإنسان يرى نفسه كأنه سلعة قابلة للتبادل التجاري، وهذا الأمر أثر بالفرد، وجعل شخصيته مسلوبة، ومعزولة عن إخوانه من أفراد جنسه، كما يشعر بالعجز والإحباط والانسحاب وعدم الأمن، بذلك لقد ازداد القلق أكثر، ازداد الشعور باللا جدوى، لقد دخل الإنسان عصر الاكتئاب والآلة، ويبدو أن الجيل الذي ينشأ حالياً خلف الشاشات المتنوعة، شاشات التلفاز والحواسيب والموبايلات ومواقع التواصل الاجتماعي، التي تزداد يومياً بعد يوم قد ينقض تماماً الفكرة الأزلية بأن الإنسان بطبعه كائن اجتماعي، لأن العلاقات الاجتماعية أصبحت شبه مفقودة لدى أبناء هذا الجيل في وقتنا المعاصر.

ومن انعكاسات التطور التقني أنه يؤثر سلباً في نفسية الإنسان وسلوكه، وكنتيجة مباشرة لهذا التقدم غدا الإنسان متلقياً سلبياً وكسولاً، وقد رافقه الشعور بالقلق، لأنه لا يرى معناً حقيقياً لحياته، فهو يضجر ويتغلب على ضجره بمزيد من التغيير المستمر للاستهلاك، ومحفزات الإثارة عديمة المعنى، وهذا ما يجعل تفكيره منفصلاً عن العواطف كما تنفصل الحقيقة عن الانفعال، والعقل عن القلب، فلا تستميله الأفكار لأنه غدا مفكراً بلغة الحسابات والاحتمالات، أكثر من تفكيره بالقناعات والالتزامات، وبسبب التكنولوجيا الحديثة فإنه يجري الآن تغيير كل نماذج الإنتاج والاستهلاك السابقة، ويجري أيضاً استبدال الإنسان المستقل بالإنسان الذي يتخذ قراراته بنفسه. ويرى فروم أن الأزمات التي تضاعفت أكثر في البلدان المتقدمة التي كانت قد وصلت بالمفاهيم الإنسانية إلى مراتب عليا تنحدر الآن، وكأن القرن السابق هو الزمن الأخير الذي كان يشهد الصعود الإنساني إلى أعلى مراتبه.

ويعتقد فروم أن الإنسان المعاصر ينحدر من ذلك الجبل نحو الهاوية مرة أخرى، نحو الأماكن السحيقة ونحو المنحنى الساقط، ولا نعرف من خلال تتبع التاريخ الإنساني كم مرة انحدر الإنسان أو مات تماماً على المستوى القيمي والإنساني، لكن في هذا العصر وهو على خلاف كل العصور السابقة نستطيع القول: إن الإنسان قد تحول إلى آلة ولا قيمة منفردة له دون النظر إلى حياته الصناعية أو الاستهلاكية. لقد كان هذا الإنسان هو نتاج صناعة الرأسمالية وغياب مفاهيم الإنسان التي تم التأسيس لها منذ أكثر من أربعة قرون، لكنه الآن يتهاوى ويفقد أهم خصائصه ليكون شبيهاً للآلة.

من المعروف أن الزيادة في الشيء خير، لكنها أصبحت في مجتمعنا المعاصر شراً إلى درجة أصبح السؤال يطرح وبإلحاح قصد المعالجة: هل تقود الوفرة والرفاهية الزائدة والفيضان عن الحد إلى سعادة المرء، أم هي سبيل نحو القرف والملل والخمول؟

يذهب فروم، وهو الممثل للجانب النقدي للحضارة المعاصرة في شقها النفسي أن الإنسان المعاصر أصبح مستهلكاً على الدوام وفوق حاجاته الأساسية، مما سبب له متاعب نفسية مقلقة. ويضرب لذلك مثلاً طريفاً هو: عندما تراقب شخصاً يأكل ويلفت انتباهك، ويتأكد لك أنه يأكل كثيراً، إلى درجة أنه يتناول الطعام من هنا وهناك، وكيفما اتفق، وكلما سنحت له الفرصة، ويلتهم الحلويات بخاصة وباستمرار، فإن هذه الشراهة والاستهلاك المفرط لا يكونا من أجل تحقيق الإشباع الفسيولوجي وضمان البقاء، بل هما من أجل طرد الخواء والإحساس بأننا من دون قيمة. إن الشراهة هي محاولة للتحرر من الضيق الداخلي. فالمرء الذي يعاني الملل، يحس وكأنه فارغ لا قيمة له، وكأن شيئاً ينقصه كي ينشطه، فيستجيب لأكل الطعام، وكأنه يقول في نفسه: إنني شخص أمتلك شيئاً، إنني لست لا شيء. ويعمل على المزيد من ضخ الطعام لطرد الخواء. باختصار، الفراغ مفزع، والأكل المبالغ فيه ما هو إلا محاولة بائسة لطرد هذا الفراغ. بعبارة أخرى، الاستهلاك الكبير هو إعلان أن الإنسان فاقد لقيمته.

خلاصة القول، إن الإنسان لا يبحث عن شيء في الحياة إلا عن نفسه، أي إثبات ذاته ككائن مطلق. لأنه باختصار، كائن يتجاوز المادية، ومحركاته لا يمكن أن تكون فقط فسيولوجية أو نفسية أو اجتماعية، فهناك عوامل أخرى كامنة، تشكل الحافز الأساسي المحرك للإنسان، فإثبات الذات لا يكمن في امتلاك شيء أو آخر لأنها ليست هي الهدف، فتملك ما يحلو لك، فلن تهدأ ولن ترتاح. فخلاص الإنسانية وخلقها للمعنى لا يكمن في الاستهلاك أبداً. فالإنسان لن يكون إنساناً إذا ما لم يتم السماح لمواهبه الذاتية بالتفتح عن طريق الحرية والنشاط العفوي والحب. فقد قطع الإنسان نصف الشوط في حضارته واستطاع أن يتحرر من عبودية الخارج ولم يبق إلا أن يتحرر من عبوديته الداخلية الذاتية ليصبح متحررا في ذاته لا في سياقات مفروضة عليه.‏

5- القلق الإيجابي يولّد الإبداع:

قد يبدو الحديث عن توظيف مشاعر القلق والتوتر المرهقة بطريقة إيجابية غير منطقي، إلا أن علماء النفس يؤكدون أنه يمكن تحويل تلك المشاعر السيئة إلى طاقة إيجابية. يفكر الإنسان بطبيعته في كل خطوة يقوم بها وهذا أمر عادي لمواجهة تحديات الحياة وما تحتاجه من قرارات ومواقف مناسبة، لكن إذا بالغ الإنسان في التفكير يدخل في متاهة تسمى التفكير المفرط أو فرط التفكير. وفق دراسات عديدة، يعتبر القلق الإيجابي من أهم المفاهيم التي تقود حياة الإنسان نحو الإبداع والتميّز، ويمكن أن يساهم هذا النوع من الإجهاد الإيجابي في مشاعر التفاؤل والإثارة حول الحياة.

وقد أثبتت الدراسات أن القلق الإيجابي يرتبط لدى فئات مهنية واسعة عادة بمشاعر الإثارة والتحدي بدلاً من القلق أو الخوف. وتقول الدراسات السيكولوجية إن الأشخاص الذين تنتابهم حالات القلق يشعرون ببعض الراحة والطمأنينة، فتجاوز الشعور بالقلق يفتح أمامهم سلوكيات تتسم بالإيجابية والعقلانية في التعاطي مع متغيرات الحياة اليومية. فالقلق الإيجابي هو قلق فكري يخلق التجديد في الحياة ويقود الأفراد نحو الابتكار والإبداع.

تلعب نظرة الفرد وشخصيته دوراً أساسياً في تحديد نوع القلق أم إيجابي أو سلبي، حيث يختلف ذلك وفقاً لنظرة الفرد لطبيعة المشكلة التي يواجهها والمهمة الموكلة إليه وطبيعة قدراته وشخصيته ومستواه التعليمي، كما أن الفكرة والعاطفة والشعور تجاه أمر ما تنتج هذا السلوك. فالفكرة قد تسيطر على الفرد وتؤثر على سلوكه وأدائه بشكل سلبي وهنا يكون القلق سلبياً. لذا يجب النظر إلى الأمور بطبيعتها دون تضخيم، وتحديد المهام الموكلة إلينا ومعرفة قدراتنا التي يمكن أن ننميها، فمع التدريب والهدوء يمكن أن ننظر إلى الأمور بشكل أفضل.

- الخاتمة:

 إذا كان لا يمكن دائماً منع اضطرابات القلق، فإن تعليم الناس أن يتبينوا الخطر الحقيقي من المخاوف أساس في الوقاية والعلاج. إلى ذلك، أثبتت الدراسات أن النوم المنتظم، والتنفيس عن المشاعر السلبية، وممارسة الرياضة المنتظمة، واستخدام أسلوب الاسترخاء مثل التأمل، والابتعاد عن المشروبات التي تحتوي على منبهات والتدخين، وتجنب استخدام العقاقير دون إشراف طبي، والتي يمكنها كلها أن تجعل نوبات القلق أكثر سوءاً. هذا وينصح بتناول وجبات الطعام بانتظام، حيث يساعد هذا على ثبات مستويات السكر في الدم، وبالتالي يمنع تقلّبات المزاج، إلى جانب الإكثار من تناول مشتقات الألبان القليلة الدسم، إذ تحتوي على كميات من الكالسيوم والمغنسيوم، مما يساعد على تهدئة الأعصاب. ويعتبر اللوز وبذور السمسم من الأغذية الغنية بالمغنسيوم. وعلى الصعيد الاجتماعي يساعد نظام الدعم الاجتماعي من خلال اختيار أصدقاء أو أفراد من الأسرة يمكنهم الاستماع للشخص والعكس صحيح. ويمكن أن يكون التفاعل مع أشخاص يتمتعون بروح الدعابة قراراً صائباً.

وهكذا نجد أن الإنسان يتكون من عنصرين أساسيين، الأول: العنصر المادي، المتمثل في جسم الإنسان وأعضائه، والثاني: العنصر الروحي. وهما عنصران هامان، لا تستقيم حياة المرء إلا بصلاحهما، ولكل من هذين العنصرين غذاؤه ودواؤه الذي يصلحه ويحفظ له توازنه، فإذا فقد هذا الغذاء والدواء حدث خلل في تكوين الإنسان، فيشقى في هذه الحياة، إما شقاءً مادياً، يتمثل في الأمراض والعاهات والآفات التي تصيب جسمه، أو شقاءً معنوياً، يتمثل في القلق والضيق وفقدان السعادة الحقيقية. إن سعادة الإنسان لا تكمن في حصوله على الدنيا وملذاتها، وإنما تكمن في إيمانه بالله تعالى، وحينئذ ينشرح صدره، ويقول الله تعالى   (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) (الأنعام: 125). كما أن من أهم أسباب الرضا والسعادة: الإيمان بقضاء الله وقدره، بحيث يعلم المرء أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وليس منه بد، وما أخطأه لم يكن ليصيبه مهما حاول أن يجلبه إليه، فكل شيء بقدر الله سبحانه وتعالى (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر:49). كما أن المعاصي تورث الوحشة، فإن التقوى والعمل الصالح يورثان السكينة والطمأنينة، فمن اتقى الله عز وجل فإنه لا يخذله أبداً، كما أن التقوى تبعد وساوس الشيطان عن الإنسان، وتبصره بالحق، وفي هذا الصدد يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف: 201). فالسير على منهج الله تعالى سبب من أهم أسباب السعادة، وقد تكفل سبحانه وتعالى بعدم الخوف والحزن للمتبعين لهدى الله سبحانه، قال تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:38).

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

.........................

- المراجع المعتمدة:

1. بيير داكو: الانتصارات المدهشة لعلم النفس الحديث، ترجمة: وجيه أسعد، دار الرسالة العالمية، دمشق، ط4، 2009.

2. فاروق السید عثمان: القلق وإدارة الضغوط النفسیة، دار الفكر العربي، القاهرة ، ط1، 2008.

3. یوسف الأقصري: كیف تتخلصین من الخوف والقلق من المستقبل؟ دار الطائف للنشر والتوزیع، ، القاهرة، ط1، 2002.

4. وليد سرحان وآخرون: القلق، سلوكيات (4)، دار مجدلاوي، عمان، ط3، 2014.

5. عبد الستار إبراهيم: القلق قيود من الوهم، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، ط1، 2002.

6. دافيد شيهان: مرض القلق، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد: 124، أبريل/ نيسان 1988.

7. ديفيد جي . أ. دوزيس، كيث إس . دوبسن: الوقاية من القلق والاكتئاب- النظرية والبحث والممارسة، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 2198، ط1، 2015.

8. هشام أحمد محمود غراب: القلق وعلاقته في بعض المتغیرات لدى طلبة الثانویة العامة لمدارس محافظات غزة، رسالة ماجستیر غير منشورة، الجامعة الإسلامیة، غزة، 2000.

9. علاء الدین كفافي: الصحة النفسیة، دار هجر للطباعة والنشر والتوزیع والإعلان، القاهرة، ط4، 1990.

10. إيريك فروم: الإنسان المستلب وآفاق تحرره، تقديم: راينر فونك، ترجمة وتعليق: حميد لشهب، شركة نداكوم للطباعة والنشر، الرباط، ط1، 2003.

11. إيريش فروم: الحب أصل الحياة، ترجمة: ناصر ناصر، دار الحوار، اللاذقية، ط1، 2013.

12. إيريش فروم، كينونة الإنسان، ترجمة محمد حبيب، دار الحوار، اللاذقية، ط1، 2013.

على الرَّغْمِ من الإرهاصات الفكرية المتتالية المُمَهِّدة لاكتشاف اللاوعي النَّفْسي والمُبَشِّرة به، وشيوع تداول مفردة اللاوعي في العديد من أدبيات القرن التَّاسع عشر العلميّة والفلسفيّة، إلاّ أنَّ المأثرة العظمى في اكتشافه وتسليط الضَّوْء على طبيعته ودوره وخصائصه ومظاهره تعود إلى عالِم النَّفْس النّمساوي الأصل سيغموند فروید (1856 - 1939)، الأب الرُّوحي المُؤَسِّس لمذهب التَّحليل النَّفْسي. ولهذه المأثرة بُعْدَان مترابطان: نظري يتمثَّل في بناء فرضية علميّة نَفْسيّة مُحْكَمة يُشَكِّل مفهوم اللاوعي النَّفْسي نواتها الصَّلبة؛ وعملي-علاجي يتمثَّل، في  استحداث تقنيَّة  علاجيّة فعَّالة زاوجت، على نحو خلَّاق، بين التَّداعيات الكلاميّة الحُرَّة وتفسير الأحلام. وهذه التِّقنيَّة هي الأداة المُعَوَّل عليها، عند أصحاب هذا المذهب، في فك رموز "الصُّنْدُوق الأسْوَد" الخاص برحلة كل واحد منّا النَّفْسيّة، واختراق خطوط دفاعاته  الدَّاخليّة إفساحًا في المجال أمام الذَّات لإخراج أثقالها وتفريغ مكبوتاتها.

ونظرًا لجِدّة هذا الاكتشاف وأصالته، قال فيه عالِم النَّفْس الإنكليزي ماكدوجال: "إنَّ احدًا من المفكرين منذ عهد أرسطو لم يوفَّق في فهم الطبيعة الإنسانيّة إلى مثل ما وفِّق إليه فرويد…"1. أما فرويد نَفْسه فقد أدرج اكتشافه في عِدَادِ أعظم الاكتشافات  والانْقِلابات العلميّة الجذريّة التي عرفتها البشرية على امتداد تاريخها الطويل. كما عَدَّه واحدًا من أقوى الإهانات والصَّفعات الثَّلاث التي انهالت الواحدة تِلْوَ الأُخرى على مركزيَّة الإنسان ونرجسيته المتضخمة، بدءًا من الصَّفعة الكوسمولوجيّة التي وَجَّهها كوبرنيكوس(1473-1543)- على جبهة علم الفلك- باكتشافه أنَّ الأرض ليست مركز العالم، بل الشَّمس، مرورًا بالصَّفعة البيولوجيّة  التي سَدَّدها داروين(1809-1882)- على جبهة علم الأحياء- باكتشافه أنَّ نوعنا الإنساني هو تَطَوَّر وامتداد للجنس الحيواني، وصولاً إلى الصَّفعة السيكولوجيّة التي صَوَّبَها فرويد شخصيًا- على محور علم النَّفْس- باكتشافه اللاوعي النَّفْسي، وأنَّ الوعي ليس قوَّامًا على النَّفْس، والأنا ليس سَيِّدَ  ذاته ولا رَبَّ منزله الخاص2. وهذه الصَّفعة، وفقًا لفروید، هي أشَدُّ الصَّفعات إيلامًا وأكثرها إذلالاً لكبرياء الإنسان، لأنَّها  أصابت خاصيته ومصدر عُجْبَه بنفسه واستعلائه. بالطبع، لا جدال في عَظَمَة هذه الاكتشافات العلميّة، إلاّ أنَّ فرويد سكت  عن كشوف عظيمة أُخرى لا تَقِلُّ شأنًا وشأوًا عن تلك الواردة آنفًا، أذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، تأسيس ماركس (1818-1883) للفهم المادي الجدلي للتاريخ. فمن دون الأخذ بعين الاعتبار اسهامات ماركس في فلسفة الاقتصاد السِّياسي والاجتماع يتعذر تكوين رؤية شاملة وعميقة عن حجم التَّحوُّلات النَّوعيّة التي طرأت على النَّظرة إلى الماهيّة الإنسانيّة. وأيًا يكن الأمر ويكن موقف المرء من هذه الفتوحات العلميّة المتحررة من أثقال الإرث اللاهوتي-الماورائي والمضادة له، فالثَّابت هو أنَّ مفاعيلها وارتداداتها تَعَدَّت حدود مجالاتها الأكاديميَّة المحض بوصفها معرفًة عن ظواهر طبيعيّة أو سيكولوجيّة أو اجتماعيّة، لتطال ما نعرفه من أمر أنفسنا والمقام الذي نحتله في الكون. وبالفعل،  فقد عَرَّى كل كشف من هذه الكشوف وجهًا من أوجه مركزيَّة الإنسان، ووَهْمًا من أوهام نرجسيته، وأبَان، في الوقت عينه، عن حقائق صادمة لم يكن الإنسان ليتوقعها أو حتى ليرغب في سماعها والحديث عنها: فاكتشاف كوبرنيكوس لم يدحض الاعتقاد بمركزيَّة الأرض فحسب، وإنَّمَا زعزع معه أيضًا كُلَّ ما انبثق عنه، وكُلَّ ما تأسَّسَ ونهض عليه من إدعاءات خادعة زيَّنت للإنسان أنَّه بؤرة المعنى، والمبتدأ والخبر. وكما شَكَّلَ، في اعتقادي، دحض كوبرنيكوس للنظرة القائلة بمركزيَّة الأرض  مُقَدِّمًة لدحض  مركزيَّة الإنسان، فكذلك أفضى تقويض مركزيَّة الإنسان بدوره إلى نفي مركزيَّة الأرض. فكل مركزيَّة من هاتين المركزيتين تضاعفت بالأُخرى وتمرأت فيها سلبًا أو إيجابًا، نفيًا أو إثباتًا. ولو تأمل واحدنا مليًا في المسألة لوجد أنَّ الإنسان بنى اعتقاده بمركزيَّة الأرض استنادًا إلى معطيات حِسِّيَّة زَوَّدَتْهُ بها حواسه التي تقوم مقام "أجهزة استطلاعاته واستخباراته". ونظرًا لكونه لا يحس بحركة الأرض ودورانها فقد ترأى دومًا له أينما وَلَّى وجهه أنَّ الأرض تستقر ساكنة في مركز العالم كله، وأنَّ الكواكب والأجرام السَّماوية تدور حولها. والأهم أنَّه رأى نَفْسه، كيفما جال بناظريه في الفضاء، في قلب دائرة تحتوي العالم الخارجي، فظَنَّ أنَّ مكانه من القَلبِ(المركز) هو القَلبُ كُلُّهُ،  وأنَّ ليس فيه لغيره مَوضِعُ. وإذا كان الاعتقاد بمركزيَّة الأرض قد وافق هوى الإنسان وطموحاته في الاستواء على عرش العالم، فإنَّ  الاعتقاد بمركزيَّة الإنسان، أوحى،  بدوره، إليه مَنْحَ الأرض-موطنه مكانًة استثنائية ومُمَيَّزة في الكون. وبالانتقال إلى داروين الذي أفضت أبحاثه الرائدة في أصل الأنواع إلى انكسار الصُّورة المُجَمَّلة والمتعالية التي كوَّنها الإنسان عن نَفْسه. وهي صورة تفيض نرجسيًة واستكبارًا أحلَّ فيها الإنسان رغباته وما يطمح إليه محل واقعه وما هو عليه. فلكم غالى الإنسان في التَّبرؤ من أصوله الحيوانيّة ومشى في الأرض مَرَحَا  مُدَّعيًا لذاته جوهرًا ربَّانيًا ونَفْسًا خالدة لا تبلى ولا تفنى، متباهيًا بِمَلَكَاته المعرفيّة الفائقة ومهاراته العمليّة الباهرة. بيد أنَّ ذلك كُلُّهُ  لم يُجْدِ نفعًا في حجب أو محو الوقائع الدَّالة على أواصر قرابته الشَّديدة مع الحيوانات العليا، والمُتَجَلِّية في تكوينه الجسدي واستعدادته النَّفْسيّة. فالإنسان أكثر حيوانية مما يعتقد ويزعم، وأقل رُوحانية مما يتوهَّم. ومن البديهي، طبقًا لهذه الرؤية المادية، ألا يكون الإنسان هو الخليفة المؤتَمَن والمخلوق منذ البدء في أحسن تقويم وعلى صورة اللَّه ومثاله، بل هو حصيلة سيرورة طبيعية مديدة من التَّحَوُّلِ والارتقاء؛ وعلى هدى من هذه النَّظرة التَّطورية إلى الإنسان يؤكد ماركس أنَّ  ماهيّة الإنسان ليست معطى ثابت ومجرد وقَبْلي، بل هي سِرُّ وجوده الواقعي وبُعْدَه الاجتماعي العميق على وجه التَّحديد الذي لا تنفك صيرورته عن التَّغيُّر والتَّجدد. فماهيّة الإنسان ليست في ذاته ولا في جسمه، إنَّمَا في تلك العلاقات والوشائج التي تتشكَّل عنده في سيرورة تفاعله وتاريخه الاجتماعيين. فالعلاقات التي ينسجها النَّاس في ما بينهم في مجرى إنتاج وإعادة إنتاج حياتهم تُشَكِّل، في الوقت عينه، مصدر تَكوّنهم الخاص بكل إمكاناتهم وتطلعاتهم. وكما ينعكس تَنَوّع الطَّبيعة  في الجسم البشري تعدُّدًا في أعضائه الحِسِّيّة، وتَطوُّرًا في بنيته العصبيَّة والدِّماغيّة، فكذلك يُوَّلِد غنى العلاقات الاجتماعيّة في الإنسان المَلَكَات والمواهب التي تتناسب مع الطَّبيعة الخاصة لهذه العلاقات.

وانسجامًا مع الاعتقاد بأسبقية الوجود على الوعي وأوَّليته يُطْلِق ماركس قوله الشَّهير:" ليس وعي النَّاس هو ما يُحَدِّد وجودهم، بل على العكس، إنَّ وجودهم الاجتماعي هو ما يُحَدِّد وعيهم".3  وإذا كان ماركس قد رام الكشف عن الضِّفاف الموضوعيّة التي تحد الوعي الاجتماعي وتشرطه، فإنَّ فرويد يعمد إلى إماطة اللثام عن الضِّفاف الذَّاتية النَّفْسيّة والإكراهات الخارجيّة التي تحد الوعي الفردي وتفرض حقيقتها عليه.

وعلى هذا الطَّريق، فقد احْدَثَ فرويد  "انْقِلابًا كوبرنيكيًا"  في ميدان علم النَّفْس قَوَّضَ به أوَّلاً، أوهام الوعي المتكثرة التي  لطالما غَذَّت  زهو الإنسان بنفسه واستعلاءه على الكائنات كافة، وصَدَّعَ، ثانيًا، أُسُس فلسفة الوعي عمومًا- النَّسخة الدِّيكارتيّة منها خصوصًا- التي جعلت من الوعي (الفكر) الحقيقة اليقينيّة المُطْلَقَة المؤسِّسَة لكل الحقائق الأُخرى، ومَنَحَتهُ  السِّيادة التَّامة على كامل فضاء حياة الفرد النَّفْسيّة  مستندةً في ذلك إلى تَصَوُّرٍ معيَّن لماهيّة الإنسان وقواه النَّفْسيّة قوامه المُسَلَّمَات والقناعات الآتية: أوَّلاً، الفصل الجوهري بين الرُّوحاني والمادي، بين النَّفْسِ والجسمِ. فما هو نَفْسي ليس بجسماني، وما هو جسماني ليس بِنَفْسي. فالجسم جوهر مادي ماهيته الامتداد، أما النَّفْس فهي جوهر رُوحاني ماهيته الفكر؛ ثانيًا، إنَّ النَّفْس (الفكر، الوعي، العقل) هي امتياز إنساني خالص. فالحيوانات، على ما يرى ديكارت، ليست سوى آلات مُعَقَّدة مُتْقَنَة الصُّنع لا نَفْس ولا لغة ولا فكر لها. أما الكلام على نُفُوس حيوانيّة فهو، في رأيه، من أكثر الأخطاء شناعًة4؛  ثالثًا،  العقل هو اسمى وأشرف ما في الإنسان  ومزيّته التي يتعالى بها على سائر الكائنات، كما يتضح ذلك من التَّعريف الفلسفي الكلاسيكي الشَّائع للإنسان على أنّه كائن عاقل وذات مُفَكِّرة؛ رابعًا،  إنَّ معرفة الفكر المباشرة لذاته ووجوده هي الحقيقة الأولى اليقينيّة المُطْلَقَة التي لا يرقى إليها أيُّ شَكٍّ. وبيانه، أنَّه يمكن للإنسان أنْ يجهل وأنْ يغفل وأنْ يسهو وأنْ يشكَّ في الأشياء والإحساسات والأفكار كُلَّها، لكن، في غضون ذلك، يبقى هناك معطى واحد واضح وأكيد ألا وهو الشَّكّ ذاته والتَّفكير. إذ وبمجرد أنْ يشكَّ الإنسان، فإنَّه، لامحالة، يفكر، لأنَّ الشَّكَّ مظهر من مظاهر التَّفكير وآلية من آلياته يُخْضِع بها الفكر حدوسه ومعطياته للمساءلة والفحص والتَّدقيق. وطالما أن الإنسان يُفَكِّر، فإنه من العبث افتراض عدم وجوده. ومن هنا جاءت مقولة ديكارت الشَّهيرة(الكوجيتّو): "أنا أُفكِّر، إذًا أنا موجود"5؛  خامسًا، إنَّ العقل هو البُعْد الإلهي في الإنسان وعلامة الصَّانع المميزة على درة تاج صنائعه؛ سادسًا؛ إنّ مكانة الوعي ونسبتة إلى الإنسان كمقام الله ونسبته إلى الموجودات. كما أنَّ الله يعلم دبيب النَّملة السَّوداء على الصَّخرة الصَّمَّاء في الليلة الظَّلماء، فكذلك يُدّرِك الوعي ذاته بذاته من غير واسطة ويُدّرِك غيره ويحيط علمًا بكل ما يدور في أعماق الحياة النَّفْسيّة من خواطر وتخيلات وأفکار ورغبات ومشاعر وانفعالات، فضلاً عن كونه  السَّيِّد والحاكم المُطْلَق الذي تأتمر بأوامره وتنقاد له جميع أفعال الإنسان وقواه النَّفْسيّة؛ سابعًا، مماهاة النَّفْس ومطابقتها مع الوعي والفكر. وليس الوعي والنَّفْس والعقل والفكر إلا أسماء مختلفة لشيء واحد، والمراد منها واحد أيضًا. ولا شكَّ في أنَّ أطروحة علم النَّفْس التَّقليدي الرَّئيسة التي قضت بإقصاء اللاوعي واستبعاده كُلِّيًا من فضاء الحياة النَّفْسيّة باعتبار أنَّ كُلَّ ما هو نَفْسي، سواءً أكان عملية شعوريّة أم وجدانيّة أم انفعاليّة أم عقليّة، هو واع، وكُلَّ ما هو واع هو نَفْسي، ليست في الحقيقة إلاّ أثرًا أو خلاصة مُكَثَّفة للقناعات المذكورة أعلاه.

ولما كان الشُّغْل الشَّاغل لفرويد هو تفكيك هذه القناعات وخلخلة بنيانها بُغْيَة مَدِّ الجُسُورِ، وفي الاتّجاهين، بين ما هو لاواع وما هو نَفْسي وردم الهوة الفاصلة بينهما، فقد بادر رائد التَّحليل النَّفْسي إلى تكريس عشرات المحاضرات والكتب والمقالات يُسَلِّط فيها الإضاءات الكاشفة على ماهيّة اللاوعي النَّفْسي، وتجلّياته وخصائصه، ونسبته إلى كُلٍّ من الوعي والنَّفْس والمكبوت. فلننظر في شأن هذه الإضاءات على التَّوالي مبتدئين بمفهوم اللاوعي  النَّفْسي.

إنَّ اللاوعي في مفهومه الفرويدي هو مجموع العمليات والظَّواهر النَّفْسيّة الباطنية العميقة التي يقع معظمها خارج تغطية الوعي ونطاق نفوذه المباشر. وتشمل مروحة اللاوعي طيفًا واسعًا من الظَّواهر والسَّيرورات النَّفْسيّة بدءًا من الغرائز والشَّهوات والحاجات المكبوتة، مرورًا بالمشاعر والانفعالات والأفكار المقموعة، وصولاً إلى الذِّكريات والأحداث والتَّجارب (الصَّدَمات) الحياتيّة الأليمة والمهينة التي وقع بعضها في مطالع الطُّفُولَة وقبل أي مرحلة واعية، وعَصَفَ بعضها الآخر بالإنسان في مرحلة عُمْريّة لاحقة واعية، لكن سرعان ما يقوم صاحبها بحجبها وكتمها أملاً في  تَصْفِيَتها ونسيانها من جهة، ودرءًا لصدام محتمل مع العالم الخارجي قد يرتد عليه وبالاً ونكالاً مُحَقَقًين من جهة أُخرى.  قصارى القول، إنَّ اللاوعي هو ذلك الحَيِّز النَّفْسي المؤلَّف من كُلِّ ما هو مكبوت ومُذِلٌ ومنسي ومطوي ومسكوت عنه.

ويتميز اللاوعي،  وفقًا لفروید، بجملة من الخصائص والسِّمَات، أبرزها: أ- اللاوعي قوَّة نَفْسيّة لا تُعْرَف إلاّ من آثارها ونتائجها؛ ب- اللاوعي قوَّة نَفْسيّة ديناميكية مؤثِّرة في أفعال الإنسان وانفعالاته ومشاعره وصحَّته النَّفْسيّة؛ ج- اللاوعي هو لُبُّ الحياة النَّفْسيّة ويشغل القسم الأكبر فيها؛ د- اللاوعي أقْدَم  وأسْبَق في الوجود على الوعي، ويستمر في التَّبَلْوُر بموازاته وخلف خطوطه الأمامية وفي غفلة منه.

وبالإتّفاق مع هذه الرُّؤية الجديدة إلى اللاوعي وخصائصه يمضي  فروید قُدُمًا في الإضاءة على نسبته  إلى كُلٍّ من الوعي والنَّفْس والمكبوت ذاته٠ وأوَّل ما يدعو إليه فرويد في هذا الصَّدد هو ضرورة وضع حد لغرور الوعي والكف عن المبالغة في تقدیر أهمِّيته.  فمع فروید لم يعد مستساغًا النَّظر إلى الوعي على أنَّه سَيِّد الحياة النَّفْسيّة ونجمها المُطْلَق والبطل الأوحد على مسرحها. ولم يعد أيضًا الأنا ممكنًا من دون الهُوَ، ولا اللاوعي منفصلاً عن النَّفْس، ولا الوعي مستقلاً ومنعزلاً عن اللاوعي. فما من شيء نَفْسي، بما في ذلك الوعي عينه، إلاَّ ويَحُفُّه قَدْرٌ من اللاوعي. فليس الوعي كُلِّيّ الحضور ولا كُلِّيّ المعرفة، والنَّفْس فيها من اللامعقول ما يعادل المعقول وربما يفوقه. وكلاهما وجهان لحقيقة نَفْسيّة إنسانيّة واحدة. وبالفعل، مع فرويد يتَّسع معنى النَّفْسي ليشمل كُلّاً من الوعي واللاوعي مع هيمنة ملحوظة للأخير على الأوَّل، يبدو فيها الوعي كمثل جبل الجليد المغمور حتى تسعة أعْشَاره في محيط اللاوعي. وإلى  هذا المعنى نَفْسه يذهب فروید حینما يُشَبِّه "اللاوعي بالدائرة الكبرى التي تحتوي الوعي داخلها كدائرة أصغر منها"6. وبتعبير آخر، إنَّ كُلَّ ما هو واع هو نَفْسي بالضرورة، لكن ليس كُلُّ ما هو نَفْسي هو واع حصرًا. وينطبق الأمر ذاته على علاقة اللاوعي بالمكبوت ونسبة واحدهما إلى الآخر. فاللاوعي النَّفْسي أكبر نطاقًا وأوسع ماصدقًا من المكبوت. ومعنى ذلك أنَّ المكبوتات بأنواعها وإنْ كانت تُشَكِّل الكتلة الأضخم في اللاوعي، إلاّ أنَّها لا تستغرقه استغراقًا تامًا ولا تستنفد حقيقته: "لأنَّ جزءًا من الأنا ايضًا - والله وحده يَعْلَم مقدار أهمِّية هذا الجزء - قد يكون لاواعيًا، بل هو لاواع من دون أدنى شَك. إنَّ كُلَّ ما هو مكبوت هو لاواع، لكن ليس كُلُّ ما هو لاواع هو مكبوت "7.

واستكمالاً للإطاحة بالوعي عن عرش الحياة النَّفْسيّة يُوَجِّه فروید صفعًة أُخرى للوعي طاولت هذه المرة شبهًة من شبهاته المعرفيّة، ومزعمًا من مزاعم علم النَّفْس التَّقليدي، وبخاصة، ذلك الإدِّعاء القائل بجبروت الوعي وقدرته على معرفة كل صغيرة وكبيرة، وكل شاردة وواردة في الحياة النَّفْسيّة. بالطبع، لا ينكر فروید ما للوعي من أهمِّية وقدرة على معرفة بعض الظَّواهر والسَّيرورات النَّفْسيّة، لكنَّه يُحذِّرنا من مغبّة الوثوق الأعمى بمعطياته، ومن المغالاة المفرطة في قدرته على الإلمام بأعماق الحياة النَّفْسيّة وخباياها الدَّفينة كافة. وليس في هذا الموقف الفرويدي أدنى افتئات على الوعي. فهو لا يطرد الوعي من أي أراضٍ يحتلها ولا يُجَرِّده من أي صلاحيات يملكها. فالقول بوجود لاوعي نَفْسي إلى جوار الوعي لا يستنفد الحقائق الجديدة التي يهدينا إليها التَّحليل النَّفْسي. ثَمَّة حقيقة أُخرى ألا وهي " إنَّ ما يُعْلمنا به الوعي عن طبيعة اللاوعي العميقة والحميمة  ناقصٌ ومحدود تمامًا كنقص معرفة الحواس الخمس بالعالم الخارجي وضَآلَة إلْمَامِها به"8. وكما أنَّ الحواس الخمس مُضَلِّلة ومخادعة ومحدودة ولا تلتقط من المثيرات والظَّواهر الطَّبيعيّة إلاَّ ما هو محسوس وظاهري وسطحي، فكذلك لا ينير الضَّوْء المعرفي الخافت المنبعث من شمعة  الوعي إلاَّ الجزء اليسير من قبو اللاوعي الحالِك العتمة والكبير. لكن التَّساؤل البديهي الذي تفرضه آراء فرويد في طبيعة اللاوعي هو: إذا كان اللاوعي في بُعدٍ من أبعاده هو قوَّة نَفْسيّة مجهولة وغامضة وعميقة لا تطفو محتوياتها على سطح الوعي وشاشة الذَّاكرة فأنَّى يمكن العِلْم به، والتَّحقق من وجوده، وإنشاء مقال (نظرية) عِلْمي فيه؟ والحال، فإنَّ إيضاح رؤية فرويد إلى هذه المسائل تحيلنا مباشرة إلى الكلام على تَجَلِّيات اللاوعي النَّفْسي  والأدِلَّة  على وجوده.

تَجَلِّيات اللاوعي النَّفْسي وأدِلَّة فرويد على وجوده:

يشهد تاريخ العِلْم على أنَّ الفرضيات والاكتشافات العِلْميّة الجريئة والجديدة التي تُحْدِث تحوّلاً جذريًا في اعتقاداتنا غالبًا ما تتعرَّض لموجة عارمة من الاعتراضات والانتقادات مصدرها علماء معتصمون (متمسكون) بحبل نظريات سائدة يخالونها مُنَزَّهة عن الخطأ، وعصيّة على التَّعديل والتَّفنيد. وفي الحقيقة، هذا هو قدر جميع الفتوحات العلميّة العظيمة أيًا كان مجالها وموضوعها. وبالطبع، لم تشذ فرضية اللاوعي النَّفْسي الفرويدية عن هذه القاعدة. فلكل بدء عظيم مِحْنَته، ولكل معنى مخاضه ومعاناته. وإذا كان السِّجال النَّقدي هو القابلة القانونية المُوَلِّدة لكل حقيقة تطمح لأنْ تكون  حقيقًة علميّة، فإنه لا عَجَبَ في أنْ يواجه مذهب التَّحليل النَّفْسي ما واجهه من رد ورفض ونقد من قِبَل علماء نَفْس الوعي وفلاسفته الذين لم ينكروا وجود لاوعي نَفْسي فحسب، بل جزموا أيضًا بفساد الرأي القائل به باعتباره قولاً ملتبسًا يَنمُّ عن تناقض منطقي في التَّفكير ولَغْو في التَّعبير. ومسوِّغهم في ذلك هو يقينهم المُطْلَق بأنَّ  كل ما هو واع هو نَفْسي، وكل ما هو نَفْسي هو واع، ومن ثم، كل ما هو غير نَفْسي هو لاواع، وكل ما هو لاواع هو غير نَفْسي ولا يمت إلى النَّفْس بأي صلة لا من قريب ولا من بعيد٠ ومن هنا لا يصح، في رأيهم، الكلام على لاوعي عند الإنسان خارج نطاق تلك السَّيرورات الفيزيولوجيّة التي تعتمل فيه ولا يشعر أو يحس بها إبَّان حدوثها كنمو الشَّعْر والأظافر وما شابه٠

وفي خِضَمِّ السِّجال العلمي مع المعترضين على فرضية اللاوعي النَّفْسي والمشككين في مشروعيتها كان لزامًا على فرويد ايضاح اشراقاته وبرهنة حدوسه بإِبراز ما في  حوزته من حجج وأدِلَّة وبراهين تثبت، أولاً، وجود لاوعي نَفْسي، وترفع، ثانيًا، الفرضية القائلة بوجوده إلى مصاف النَّظريات العلميّة9. ولمَّا كان منطق الكشف العلمي يشترط البيّنة على من ادَّعى، وأنَّ لا حقيقة إلاّ بالبرهان، فإنَّ السُّؤال الذي يتبادر إلى الذهن فوراً هو:  ما هي الأدِلّة والمُسوِّغات التي ساقها فرويد لإثبات صحَّة أطروحاته المذكورة أعلاه؟ بادئ الأمر وقبل الولوج في الإجابة عن هذا السُّؤال لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ أدِلَّة فرويد ترتكز، في مجملها، على تَجَلِّيات اللاوعي ومظاهره. ذلك أنَّ لا شيء مما هو لاواع ومكبوت يتلاشى أو يموت، لكنَّه يُجْبَر على الصَّمْت والسُّكُوت. ففي النِّهَاية لا مندوحة لكل ما يُغْرَس ويُكْبَت في أعماقنا النَّفْسيّة عن الظُّهور والانكشاف عاجلاً أم آجلاً بصورة أو بأخرى. فاللاوعي ومهما كَتَمَ أسْرَاره فضحته لنا ودلّتنا عليه آثاره التي تتخذ أشكالاً متعددة،ومن أبرزها:

1) الأفعال النَّاقصة parapraxis

ويدخل في عِدَادها: زلاّت اللسان وأخواتها (من مثل الغلطة الكتابية miswriting، الخطأ الطباعي mistyping، الخطأ السمعي mislistening، والخطأ في القراءة misreading)؛ والنِّسْيان (نسيان  الكلمات والأسماء والأشياء والوقائع والأحداث والأشخاص)؛  ضياع الأشياء أو إضاعتها؛ والمزاح (الفكاهة والنُّكات) ؛ والتَّصرفات غير المناسبة؛ والايماءات والتَّعابير والحركات والانفعالات التي تبدر من المرضى في سياق الجلسات العلاجية بما في ذلك الطريقة التي يدخل بها المرضى إلى العيادة وكيفية خروجهم منها: هل يغلقون الباب أم يتركونه مفتوحًا؟ وهل يشدّون على يد فرويد عند المغادرة أم لا؟ وغير ذلك من سلوكيات وطقوس. وبالاتفاق مع القناعة القائلة بأنَّ لجميع الظَّواهر النَّفْسيّة عللا وشروطا،  ولا يكون شيء منها جزافًا ولا اتفاقًا إلاَّ في النَّدْرَةِ، انطلق فرويد متسلحًا بمبدأ الحتميّة في الحفر والتَّنقيب عن أصل هذه الأفعال وما تستبطنه من معانٍ ودلالات. وعلى هذا الطريق خصَّ فرويد هذه الأفعال المغلوطة بمؤلَّف مستقل نشره عام 1901 بعنوان "علم نَفْس الحياة اليوميّة المَرَضِي" يُبَيِّن فيه بالأمثلة والشَّواهد الحياتيّة والعياديّة ما بينها وبين اللاوعي من ارتباط وثيق وإتصال عميق، نستعرض ههنا بإيجاز أهمها:

1-1) زلاَّت اللسان  lapsus linguae:

جرت العادة منذ القدم على عدم إيلاء زلاَّت اللسان أدنى اهتمام باعتبارها هفوة لفظيّة بريئة شائعة الحدوث عند النَّاس جميعًا لا تحمل في طياتها أي قصد مستتر ومعنى باطني. وذهب البعض إلى حد القول إنَّ محاولة صرف زلاَّت اللسان إلى معنى تحتمله هي بذاتها "إثم كبير" لما تضمره من خبث وسوء ظن بالإنسان. وعلى الضد من ذلك يولي فرويد زلاَّت اللسان أهمِّيَّة بالغة معتبرًا النَّظر فيها من حسن الفطن. فهي أصْدَق إنباءً من كل ما يبوح به الإنسان ويزعمه، لأنَّها تفضح زيف الكلام الظاهر وتكشف حقيقة السَّرائر. فهي ترجمان كل ما يكبته المرء من رغبات ويكتمه من مشاعر وآراء لا يجرؤ على المجاهرة بها والافصاح عنها، مثال ذلك:  ذات مرة حدّثت إمرأة فتيَّة فرويد عن زوجها المريض الذي استشار الطبيبَ في أمر الحِمْيَة الغذائية التي ينبغي له أنْ يتبعها فقالت:  لقد أكدَّ الطبيب لزوجي أنَّ لا ضرورة لأية حِمْيَة غذائية وأنَّ بإمكانه أنْ يأكل كُلَّ ما اشتهيه وأريده (بدلاً من القول كُلَّ ما يشتهيه ويريده). وبالفعل، فقد عبَّرت هذه الهفوة اللفظيّة عن ميل المرأة إلى السيطرة على زوجها وإملاء إرادتها عليه10. ومن الأمثِلة الأُخرى على الصِّلَة الوطيدة بين زلاَّت اللسان واللاوعي يذكر لنا فرويد زلَّة لسان رئيس مجلس النُّوَّاب النّمساوي الذي قال عند بدء الجلسة وافْتِتاحها اسمحوا لي باخْتِتَام الجلسة بدلاً من القول اسمحوا لي بافْتِتاح الجلسة فأبَان بهذه الزَّلَّة عن رغبته الدفينة في عدم انْعِقَادها  بسبب اقتناعه الراسخ بأنَّ لا خير يُرتجى منها11.

2-1) النِّسْيان:

على الرغم من أهمِّيَّة الدراسات التي ترد النِّسْيان إلى أسباب وعوامل فيزيولوجيّة أو عوامل أخرى من مثل قلّة الانْتِباه والتَّركيز، وانعدام المراجعة والفهم، إلاّ أنّها، في رأي فرويد، أهملت التَّأثير الذي يمارسه اللاوعي على النِّسْيان. إذ يرى فرويد في النِّسْيان آليًة لتصفية قضايا عالقة مقلقة، ووسيلًة لتحرير الذَّاكرة من أسماء وأحداث ومشاعر أليمة ومُذِلّة، وهو غالبًا ما يخفي وراءه مشاعر بغض وعدوانية تجاه شخص أو موضوع ما. ويضرب فرويد لنا مثلاً عن زوج شاب يعاني الأمَرّين في حياته الزوجيّة بسبب البرودة العاطفية التي تبديها زوجته تجاهه، وانعدام الود المتبادل بينهما. لكنَّ حدث ذات يوم  أنْ اهدته الزوجة كتابًا لعلمها بأنَّ فيه ما يستهويه ويعنيه، فشكرها على هذه الالتفاتة واعدًا إياها بقراءته. وتمضي أشهر عدة من غير أنْ يفي الزوج بوعده إلى أنْ تَذَكَّر الكتاب فجأةً فقام بالبحث عنه، لكنه اخفق في إيجاده بعد أنْ نسي تمامًا المكان الذي وضعه فيه. وصادف بعد مرور نصف سنة على تلقي الكتاب الهدية أنْ تمرض والدته العزيزة جدًا على قلبه مرضًا شديدًا فقامت زوجته برعايتها والاعتناء بها على أكمل وجه. والحال، فقد أفضى تصرُّف الزوجة الراقي والنَّبيل إلى إزالة التَّوتر العاطفي بينهما، الأمر الذي سرعان ما أسعفه على تَذَكَّر  موضع الكتاب المفقود12. ومن الأمثِلة على نسيان الأسماء يروي لنا فرويد حادثة اختلف فيها مع احد مرضاه حول عدد الفنادق في منتجع صيفي اعتاد عالِمنا، وعلى امتداد سبع سنوات متتالية، الاصطياف فيه، فجزم فرويد بوجود فندقين فقط، في حين أصرَّ المريض على وجود ثلاثة ومن بينها فندق "Hochwartner" وهو اسْم الفندق الذي نسيه فرويد وانكر وجوده تمامًا. وما أنْ تَيَقَّن فرويد صُدْقَ مريضه حتى طرح على نَفْسه سؤالين أولهما يتعلق بواقعة النِّسْيان ذاتها، وثانيهما يتعلق بالسبب الكامن وراء نسيان وجود الفندق المذكور آنفًا بالذات لا غيره. والحال،  فقد وجد فرويد أنَّ الأصل في ذلك، إنَّمَا مرده إلى التَّشَابُه الحاصل بين اسْمِ الفندق واسْمِ زميل له  يعمل في التَّخصص ذاته وتربطه به علاقة سيئة، وبالتالي، كان من شأن ذكر هذا الإسْم وكل ما يتصل به أنْ ينكأ في نَفْس فرويد جِرَاح "عداوة الكار" وضغائنها professional complex13.

3-1) الفكاهة (النُّكات والمزاح):

هي وسيلة ظاهرها كوميدي هزلي وباطنها جدّي يلجأ إليها الإنسان للالتفاف على الممنوعات والقيود والإكراهات الإجتماعيّة، وللتعبير عن رغباته وآرائه ومشاعره المرفوضة من المجتمع مبدِّدًا عبرها الشِّحنات السَّلبية النَّاجمة عن الميول المكبوتة، ولا سِيَّمَا، الجنسيّة والعدوانيّة منها.

4-1) التَّصرفات غير المناسبة (المغلوطة) faulty actions

والمقصود بها هو تلك التَّصرفات التي يأتيها الإنسان عفويًا في غير محلها وبما يتعارض مع الأعراف السَّائدة ومثالها حادثة يرويها لنا فرويد من تجاربه الشَّخصيّة مفادها أنَّ عالِمنا وفي بدايات عهده بمزاولة عمله طبيبًا ممارسًا كان يقصد بيوت بعض المرضى لمعالجتهم والوقوف على أحوالهم الصحّية فاتفق أنْ لاحظ ذات مرة أنَّه وما أنْ يصل إلى شقق بعض المرضى حتى يهم بالدخول من دون استئذان مستخدمًا المفتاح الخاص بمنزله عوضًا عن قرع جرس شقة المريض. وبعد التَّنَبُّه لهذا التَّصرف الخارج عن المألوف والتَّفَكُّر فيه وجد فرويد أنَّه يفعل ذلك على ابواب بيوت أولئك المرضى الذين يشعر بإرتياح كبير عندهم كما لو أنَّه في بيته14 .

2) الأحلام:

كانت الأحلام ولم تزل مَحَطَّ اهتمام البشر  ومثار دهشتهم وحيرتهم. إذ قلَّما  نجد ثقافًة أو عصرًا لم تكن فيه الأحلام موضوعًا خصبًا للتَّأويل ومادًة للدرس والتَّحليل. ويمكن القول إنّ علاقة البشر بالأحلام بقيت ردحًا طويلاً من الزمن مُعَلَّقة ومتأرجحة بين مقاربتين: واحدة غيبيَّة والأُخرى فيزيولوجيّة. فالأحلام، بموجب القراءة الأولى، ما هي إلاّ  بوابة تواصل مع عالم الغيب ورسائل توحي بها قوى ماورائيّة وما فوق إنسانيّة لا حول للإنسان في التَّحَكُّم بمواقيتها وبمضامينها.  وهي غالبًا ما تكون على نوعين: الأول هو الذي تكون الأحلام فيه إلهامًا ووحيًا ربّانيًا،وبالتالي، رؤى صحيحة صادقة تنبئ الإنسان عن أحداث مستقبلية، على سبيل التَّبشير بخير أو التَّحذير من شر مستطير، وتكشف له  أسرارًا خفية مما فات ومما هو راهن ومما هو آت؛  والثَّاني عبارة عن أضغاث أحلام ووساوس شيطانيّة. أما المقاربة الثَّانية  فلا ترى في الأحلام سوى استجابة دماغيّة إما لمثيرات خارجيّة مؤثرة على حواس الإنسان أو لعامل عضوي داخلي أو لما يُحَدِّث به الإنسان نَفْسه . وبالاتفاق مع هذه المقاربة يغدو  تفسير الأحلام ضربًا من ضروب الشَّعْوَذَة وهدرًا للوقت والجهد في ما لا طائل منه ولا معنى له. وإذ يستبعد فرويد كلتا المقاربتين، فإنه يَعُدُّ الأحلام واقعًة نَفْسيّة إنسانيّة أصيلة ممتلئة بالدلالات وزاخرة بالمعاني. لكن هذه المعاني تقررها معايير الأرض والحياة لا معايير السَّماء. فما يظهر في الحلم، إنَّمَا هو حقيقة إنسانيّة تعكس بصورة رمزية ومُكَثَّفة مشاعر الإنسان وذكرياته السَّحيقة ورغباته المكبوتة. ذلك أنَّ الأحلام هي أشد الظَّواهر النَّفْسيّة اتصالاً والتصاقًا باللاوعي. ولعل هذه الحقيقة هي السَّبب الكامن وراء ذلك الاهتمام الفائق والاستثنائي الذي أولاه فرويد للأحلام  شرحًا وتفسيرًا وتأويلًا، وتَوَّجَهُ عام 1899 بمؤلَّفه الشَّهير "تفسير الأحلام". ومن أجْل أنْ نفهم سِرَّ هذه الصِّلَة الوطيدة بين اللاوعي والأحلام لا بدَّ من التَّذكير أنَّ المشاعر والرغبات المقموعة لا تندثر من دون أثر مهما اشْتَدَّ الكبت وكثر، إنَّمَا تبحث عن الدُّروب والملاذات الآمنة البعيدة عن خطر المُعَاقَبَة وأعْيُن الرَّقابة الداخليّة والخارجيّة لتأخذ نصيبها من التَّعبير والتَّعويض والإشباع الخفي. ولا غرابة في ذلك طالما أنَّ حالة النَّوم هي إحدى أهم اللحظات التي يقتنصها اللاوعي ويترقبها بفارغ الصَّبْر لتحقيق ما صُدَّ من رغبات مُسْتَغِلاً التَّراخي الملحوظ حينها لقوى الكبت. إذ كلما قلَّت حظوظ الرغبة في الإشباع الحقيقي تعاظم شأنها في الوهم والخيال والحلم. فالإنسان لا يكبت شيئًا إلاَّ ليستعيده على مستوى آخر، ولا يهجر أو يُطَلِّق متعًة إلاَّ ويأمل الاستعاضة عنها  بمتعة  أكمل وأدْوَم وأجمل. ومن هنا كانت الأحلام هي الفضاء الأمثل الذي يحيي فيه اللاوعي كرنفالاته التَّنكُّرية، والملجأ الحميم الآمن الذي يستعيد فيه الإنسان فردوسه المفقود، والمُتَنَفَّس لمراجل غليان شهواته، والمَنْفَذ لانضغاط حرارة براكينها الناشطة. لذا، كانت الأحلام، بالنسبة إلى فرويد، هي المَنْجَم المطلوب للمُنَقِبِ عن اللاوعي والباحث فيه، وكان "تفسير الأحلام هو  الطريق الملكي via regia إلى معرفة اللاوعي النَّفْسي واكْتِنَاه أسراره"15.

3) التَّنويم وإيحاءات مابعد التَّنويم:

لعله لا مبالغة في القول إنَّ ظاهرة التَّنويم هي من أُولَى وأبرز الظواهر النَّفْسيّة التي لفتت أنظار فرويد إلى وجود لاعب نَفْسي آخر على مسرح الحياة النَّفْسيّة يلعب من وراء ظهر الوعي ويتلاعب به. فالتَّنويم هو السهم الذي أصاب كعب آخيل الوعي . فقد لاحظ فرويد إبَّان فترة التَّدرُّب على تقنية التَّنويم كما إبَّان فترة معالَجَة المرضى به جملًة من الوقائع الصادمة التي تفضح فراغات الوعي ومَواطن ضعفه16. وتتجلى هذه الوقائع على غير مستوى وصعيد بدءًا من  إطلاق  المرضى في أثناء التَّنويم العنان لمواجيد وأسرار حميمة لا يرغبون في البوح بها، واستعادتهم لذكريات وأحداث قديمة لفَّها النِّسْيان،  مرورًا بامتثالهم التَّام لإيحاءات الطبيب المنوِّم وتوجيهاته، وصولاً إلى أنَّ المرضى (والأشخاص عمومًا) وبعد ايقاظهم من التَّنويم لا يدرون خبرًا ولا يحيطون علمًا لا بما صَدَرَ عنهم من أقوال ولا بما بَدَرَ منهم وحَدَثَ معهم من أفعال، وانتهاءً بالاهتداء إلى الأسباب النَّفْسيّة اللاواعية للاضطرابات الهيستيرية.

4) الأمراض والاضطرابات السلوكيّة والنَّفْسيّة من مثل العصاب والهيستيريا والاكتئاب والوساوس القهريّة والرهاب والعدوانيّة وغيرها:

كان الاعتقاد السائد في أوساط طب الأمراض النَّفْسيّة والعصبيّة، عندما بدأ فرويد مسيرته المِهْنيَّة، أنَّ هذه الأمراض ما هي إلاّ نتيجة لعاهة في أحد أجهزة البدن أو خلل في الدِّماغ. ومن هنا كانت التقنيات والأساليب العلاجيّة تقتصر على الأدوية والعقاقير المُسَكِّنة (بما فيها جرعات مدروسة من الكوكايين) والمقويات والصَّدمات الكهربائية والحمامات الباردة منها أو السَّاخنة، هذا إلى جانب نصح المريض بتغيير طريقة حياته وأخذ إجازة والذهاب في رحلة بعيدة والتَّرَيُّض وما شابه، وذلك تبعًا لحالة المريض وطبيعة مرضه. والجدير بالذكر أنَّ فرويد نَفْسه وفي السَّنوات الأولى من ممارسته الطبيّة لم يَحدْ قيد أُنْمُلة عن هذه التَّقاليد العلاجيّة، لكنَّه سرعان ما أيقن بحدسه الثَّاقب خطل التَّفسيرات العضوية لأصل هذه الأمراض النَّفْسيّة، وعقم الطَّرائق  المفلولة المُتَّبَعة في علاجها. وأمام هذا التَّحدي راح فرويد مدفوعًا بالأمانة المِهْنيَّة وإرادة المعرفة يُنَقِّب في ما وراء ثنوية الجسم والوعي عن "الملفَّات السِّرِّية" للذات الإنسانيّة علَّه يجد فيها ما يروي تعطشه إلى القبض على الأسباب الحقيقية لهذه الأمراض النَّفْسيّة. وبالفعل، فقد أفضت بحوث فرويد المتواصلة والمضنية إلى نتائج غير مسبوقة مفادها أنَّ أسباب  العصاب والهيستيريا وغيرهما من الاضطرابات النَّفْسيّة والسُّلوكيّة ليست عضوية- حتى ولو كانت أعراضها بدنيّة- بل نَفْسيّة لاواعية متصلة بأحداث وذكريات أليمة ومكبوتات جنسيّة تعود إلى سنوات الحياة المبكرة الأولى. وهذه السَّنوات، في رأي فرويد، هي الفترة التَّأسيسية والأشد حساسيّة، لأنَّ أقسى أشكال الكبت وأخطرها تَحْدث بأكملها في أثنائها. فالطُّفُولة هي مفتاح الشَّخصيّة الإنسانيّة السَّوية منها وغير السَّوية على حد سواء. لذلك دأب فرويد على العودة بالعمل التَّحليلي إلى تلك الفترة من الحياة لاستجلاء تلك الحيثيات المطوية والمواقف المنسيّة التي أدَّت إلى المرض  مستثمرًا كل ما لديه من فن وحنكة في مساعدة المريض على تَذَكُّرِها، ورصد كل ما يظهر عليه من أعراض، وتفسير ما يراه من أحلام، وما يمر بخاطره من أفكار تتداعى تداعيًا حرًا. وإذا ما أفلح الطبيب في أنْ يعيد إلى ذاكرة المريض تلك المواقف التي أدت إلى الكبت ومَكَّنَه من التَّغلب على الشُّعُور بالمقاومة والحرج من البوح بها كان جزاء الأخير على هذه الاستجابة عظيمًا وعادت عليه بالنفع الكبير17.

5) نجاعة التَّحليل النَّفْسي وفعاليته العلاجيّة:

اتخذ فرويد من النجاحات المُحْقَّقة والنتائج الشفائية الباهرة التي يجترحها التَّحليل النَّفْسي في معالجة أمراض نَفْسيّة عُدَّت طوال قرون عصية على العلاج معيارًا للحكم على مصداقية فرضية اللاوعي وشاهدًا عمليًا على صحّة الأساس أو المبدأ النَّظري المُعَوَّل عليه في عملية التَّشخيص والعلاج. بعبارة أُخرى، فلو كانت فرضية اللاوعي النَّفْسي كاذبة لكان من المفترض بمفاعيلها التَّطبيقية ألاّ تعود بأي أثر طيب أو نفع يُذْكَر على المرضى النَّفْسيين، هذا إنْ لم تزد "طينهم" بِلَّةً. أما وأنَّ إنجازات التَّحليل النَّفْسي ماثلة للعيان فلا مهرب البتة من التَّسليم بحقيقة وجود اللاوعي النَّفْسي.

6) أفكار وخواطر ورغبات ومشاعر لا يدري الإنسان مصدرها ولا كيف تكوَّنت

كالحب أو الكراهية أو العدوانية تجاه شخص أو جهة ما لا موجب ظاهري  ولا مبرر واعي لها. فليس، على ما يرى فرويد، عند الإنسان البتة أية مشاعر عفويّة لا نستطيع أنْ نجد لها سببًا في أعماقنا إذا ما عرفنا جيدًا كيف وأين نبحث عنها.

وهكذا، خلص فرويد بالاستناد إلى هذه الوقائع مجتمعة وغيرها مما لا يتسع المجال لذكرها ههنا إلى إحداث نقلة نوعية في عِلْم النَّفْس تسمح بتعميق فهمنا لحقيقة الشَّخصيّة الإنسانيّة بمختلف أبعادها وقواها النَّفْسيّة. أما الإبانة عن ذلك فتأخذنا إلى رحاب مبحث مفصلي آخر من مباحث المذهب الفرويدي، وعنيت به مبحث الجهاز النَّفْسي.

البِنْيَة النَّفْسيّة للشخصيّة الإنسانيّة (الجهاز النَّفْسي):

في أعقاب دراسات عميقة وملاحظات وخبرات عيادية دؤوبة توصّل فرويد إلى قناعة راسخة جديدة مفادها أنَّ الظَّواهر والعمليات النَّفْسيّة هي أكبر وأعظم من أنْ يختزلها الوعي وحده. فإلى جانب الوعي هناك أيضًا اللاوعي الذي يحتل المساحة الأكبر من الحياة النَّفْسيّة ويفرض سلطانه عليها. وبالاتفاق مع هذه الرؤية الجديدة التي تُقَسِّم الظَّواهر والعمليات النَّفْسيّة إلى جزءين أساسيين: جزء واع وآخر لاواع، قام فرويد بتأطيرهما في هيئة (نسق، كيان) واحدة مُرَكَّبة متعارضة مكوناتها ومتعددة مستوياتها مُطْلِقًا عليها اسم البِنْيَة النَّفْسيّة للشخصيّة الإنسانيّة (الجهاز النَّفْسي). لكن السُّؤال الذي يطرح نَفْسه في هذا السِّياق هو: ما هي مُكوِّنات هذه البِنْيَة  ووظيفة قواها؟ وما هو نوع العلاقة بين مختلف مُكوِّناتها؟ وما هي انعكاسات (آثار، تداعيات) العلاقة القائمة بين مكوِّناتها على الذَّات الإنسانيّة ؟

بادئ بدء ينبغي القول إنَّ  فرويد قَدَّمَ تَصَوُّرَين متتاليين للبِنْيَة النَّفْسيّة: أولهما طوبوغرافي وثانيهما ديناميكي. ففي التَّصَوُّر الأوَّل مَيَّز فرويد في البِنْيَة النَّفْسيّة ثلاثة مستويات وهي: ما قبل الوعي preconscious؛ والوعي conscious؛ وما تحت الوعي subconscious. وفي مرحلة لاحقة إعتمد فرويد صيغة ثلاثية مُعدَّلة، لكن مُكَمِّلة لسابقتها، قوامها الهُوَ، والأنا، والأنا الأعلى. ففي كليهما تبدو النَّفْس الإنسانيّة جملة دوافع متنازعة واستعدادات متباينة. وتُذَكرنا هذه المقاربة الفرويدية إلى حد كبير (رغم إختلاف المُسَمَّيات والمضامين) بالترسيمة الأفلاطونية لبنية النَّفْس الإنسانيّة. فقد سبق لأفلاطون أنْ قَسَّمَ النَّفْس الإنسانيّة إلى جزءين أساسيين: جزء عاقل وجزء غير عاقل، ورتب قواها في سُلَّم تراتبي تعلوه القُوَّة العاقلة (النَّاطقة، النَّظرية، العالمة) وتليها القُوَّة الغضبيّة، وفي أدنى السُّلَّم تأتي القُوَّة الشَّهوانيّة. بالطبع، ليس من شأن هذا التَّشابه الهيكلي أنْ يبخس الإبداع الفرويدي أصالته وحقَّه. فما من اكتشاف إلاّ وله شجرة أنساب، وما من ابتكار وتجديد إلاّ وينطوي على قدر من المحاكاة والتَّقليد. ولكي لا نتوه عما نحن في سبيله سنشرع في التَّعرف إلى هذه القوى، حسب قراءة فرويد لها، تباعًا من الأقدم إلى الأحدث ميلادًا وظهورًا على خشبة مسرح الحياة النَّفْسيّة٠

الهُو:(Id) يعني به فرويد العنصر أو المُكوِّن الأوَّليّ Component  لعالم الإنسان الدَّاخلي وجهازه النَّفْسي. ويتألف الهُوَ من جملة الغرائز والشَّهوات والحاجات الحيوية الفطرية الموروثة بيولوجيًا في جُلِّها، والملازمة للإنسان من المهد إلى اللحد. ويشتمل الهُوَ على غريزتين أساسيتين: غريزة الحياة Eros ونواتها الليبيدو Libido (الطَّاقة الجنسيّة)، وغريزة الموت Thanatos التي تتجلى في النَّزعات العدوانية والميل إلى التَّدمير والتَّعذيب. هذا ويعمل الهُوَ، على ما يرى فرويد، وفقًا لمبدأ اللذَّة principle of pleasure، أي أنَّ غايته القصوى وهاجسه الأوحد هو العبُّ ما أمكن وتَيَسَّر من الملذَّات بأي ثمن كان غير آبه بكل القيم والظُّروف والنَّتائج والوسائل والإمكانات. فلا اعتبار يعلو على غايته هذه. إذ إنَّ الغاية بالنسبة إلى الهُوَ تُبَرِّر الوسيلة. لذا، ينعت فرويد الهُوَ بالقُوَّة العمياء اللاعقلانية واللاواعية الهوجاء. فالهُوَ مسكون بشبق لا تهدأ نيرانه ولا تخمد. ذلك أنَّ شهوات الهُوَ كالماء المالح الذي لا يزداد الظمآن منه شربا إلاّ إزداد به عطشا واشتعلت رغبته في الارتواء شوقا. أما رعشة نشوته فهي كالبرق الذي يضيء قليلا، ويذهب وشيكا، ويبقى راجيه في الظَّلام مقيما. ولمَّا كان الهُوَ قاصرًا بمفرده عن الظَّفر بمطلوبه والتَّنَعُّم بمرغوبه كان تَدَّخُّل الأنا أمرًا محتومًا. فالأنا باعتباره عقلاً مُدَبِّرًا وقُوَّةً تنفيذيًة هو المسؤول الأول عن  إشباع الهُوَ وتلبية مطالبه وترويض حصانه الجامح.

الأنا(Ego): هو المُكوِّن Component الواعي والعقلاني في معظمه من البِنْيَة النَّفْسيّة  للشخصيّة الإنسانيّة. والأنا لاحق وجوديًّا على الهُوَ، لكونه يبدأ في الظُّهور والتَّطَوُّر على نحو تدريجي ومتواصل بفعل التَّعَلُّم والتَّفاعل الإدراكي والحياتي مع العالم الخارجي. هذا وتقع على عاتقه مسؤولية القيام بإنجاز مهام ووظائف عدّة، من أبرزها:

 1- تَلَقِّي المعلومات عن العالم الخارجي ومنه، وكذلك معرفة ما يعتري الإنسان من حالات ويعيشه من تجارب وحفظها في الذَّاكرة.

2- تَجَنُّب الألم والأخطار.

3- تكييف الإنسان مع الواقع وحفظ وجوده.

4- محاولة التَّوفيق بين المطالب المتعارضة والمتناقضة التي تنهمر عليه  من قِبَل ثلاثة أسياد طغاة، وهم: المجتمع، والأنا الأعلى، والهُوَ، وبالتَّالي، إقامة توازن دقيق وتحقيق انسجام عميق بين الهُوَ والأنا الأعلى من جهة، وبين مجمل الشَّخصيّة الإنسانيّة والمجتمع من جهة أُخرى.

وفي ضوء ما تقدَّم صار واضحًا أنَّ حجم المهام والتَّحدّيات الجسام الماثلة أمام الأنا، لا بدَّ وأنْ تملي عليه العمل بمقتضى مبدأ الواقع principle of reality والتَّحلي بالمرونة وأقصى قدر من العقلانيّة والواقعيّة، ما يعني لزوم الأخذ بعين الاعتبار مجمل الإمكانيات والظروف والتَّداعيات عند حسم الخيارات واتخاذ القرارات، وإلاَّ فالأثمان باهظة والعواقب وخيمة على ما تَعَلَّمَه الأنا من تجاربه السَّابقة. ولكن هل ينجح الأنا دومًا في مهمته التَّوفيقية وفي إيجاد تسوية مقبولة لدى جميع أسياده؟ وما هي الخيارات والبدائل المتاحة له في التَّعامل معهم؟ وما هي العواقب (النَّتائج، التَّداعيات) المترتبة على الخيارات التي يتخذها؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة لا بدَّ لنا أوَّلًا من التَّعرُّف إلى طبيعة ووظيفة المكوِّن الثَّالث والأخير من مُكوِّنات البِنْيَة النَّفْسيّة المسمى بـ"الأنا الأعلى".

الأنا الأعلى (Super Ego):

هو جملة المبادئ والقيم والمعايير والوصايا الأخلاقيّة والدينيّة والاجتماعيّة المكتسبة التي تتيح للفرد التَّمييز بين الخير والشَّر، بين ما هو مقبول وما هو مرذول إجتماعيًا، بين المباح والممنوع، بين الحلال والحرام دينيًا. وهو، على ما يقول فرويد،  الوريث الشَّرعي لعقدة أوديب بعد أنْ ولَّت أيامها18.  وقد ربط فرويد نشوء الأنا الأعلى واكتسابه، زمانيًا، بالفترة العمرية الممتدة من 3 إلى 6 سنوات الموافِقة للمرحلة القضيبيّة Phallic phase الثَّالثة من مراحل التَّطَوُّر النَّفْسي-الجنسي للشخصيّة الإنسانيّة. ففي هذه المرحلة يقوم الأهل بتفعيل النَّشاط التَّربوي لنقل المبادئ والضوابط الأخلاقيّة-الاجتماعيّة إلى الطفل وغرسها في نَفْسه مستخدمين في ذلك وسائل وآليات شتى من مثل: التَّرغيب والتَّرهيب، الثَّواب والعقاب، المدح والذَّم، الرِّضَا والسّخط...وما شابه. لكن ضعف الطُّفل وحاجته الغريزية الماسة إلى الرِّعاية والأمن والبقاء يدفعانه إلى الدُّخول في تسوية غير متكافئة مع الأبوين يرضخ بموجبها للقواعد المفروضة عليه من قِبَلِهما، فيقوم بِتَشَرُّبها وتذويتها تدريجيًا بصورة لاواعية إلى أنْ تصير جزءًا مهمًا من هويته ومن البِنْيَة النَّفْسيّة  لشخصيته. قصارى القول، إنَّ الأنا الأعلى هوالتَّعبير المُكَثَّف عن ضمير الإنسان ومُثله العليا ideal self، وفي الوقت عينه، هو سفير الضَّوابط الاجتماعيّة والقائم بأعمالها المُعتَمَد لدينا والمقيم في ذواتنا. وينسب فرويد إلى الأنا الأعلى الأدوار والوظائف الآتية:

1- فرض وسَن قواعد سلوكيّة تضبط علاقة الإنسان مع نَفْسه ومع الآخرين.

2- مراقبة وتقييم تصرفات الإنسان وأفكاره ونواياه ومشاعره.

3- المحاسبة التي يمكن أن تكون قمعًا وكبتًا أو إثابةً (مكافأة وتشجيع)، وذلك تبعًا لطبيعة الأفعال التي يقوم بها الأنا. فإذا ما قام الأنا بعمل بطولي وأداء واجب أخلاقي فسرعان ما يبادر الأنا الأعلى إلى إثابته ومكافأته معنويًا فتشعر الذَّات عندئذ بالفخر والاعتزاز بقيمة ما فعلته. أما وفي حال قيام الأنا بالخضوع التَّام والأعمى للهُوَ، فإن الأنا الأعلى لن يقف مُتَفَرِّجًا مكتوف الأيدي، إنَّمَا سيسارع إلى تأديبه بشِدَّة ومعاملته بالطريقة التي يعامل بها الأب المستبد الصَّارم إبنه الصَّغير. لم يعد خافيًا أنّ الدَّور الذي يؤديه الأنا الأعلى على المستوى النَّفْسي للشخصيّة يشبه إلى حد كبير الدَّور المناط بالسُّلطات التَّشريعيّة والرَّقابيّة والقضائيّة في المجتمع والدَّولة.

وبعد أنْ استعرضنا البِنْيَة النَّفْسيّة بكل مكوناتها لا بدَّ من القول إنَّ هذه المكونات ليست معزولة ولا مستقلة عن بعضها بعضًا، إنَّمَا تتفاعل في ما بينها بصورة يغلب عليها التَّنازع والتَّوتر والصِّدَام، لأن توجُّهاتها متعاكسة ومطالبها متعارضة. وفي ظل علاقة مشحونة بالتَّوتر كهذه ليس في وسع الأنا النَّأي بنفسه واللامبالاة، لا سِيَّما، وأنَّه حريص كل الحرص على الوفاق مع  الأطراف كافة (المجتمع، والأنا الأعلى، والهُوَ) والتَّوفيق بينها. وللوفاق بينه وبين هذه الأطراف أهمِّية استثنائية  مبعثها إيجاد بر آمن ترسو فيه سفينة نجاة الذَّات.  لكن كل طرف من هذه الأطراف لا يكف عن تهديد الأنا بالويل والثُّبور وعظائم الأمور لاستمالته إلى جانبه وجعله خادمًا أمينًا ومُخْلِصًا له. وإزاء هذا الوضع يجد الأنا نَفْسه أمام ثلاثة بدائل وخيارات: الخيار الأوَّل وهو الخيار الأمثل، لكنَّه  الأصعب حيث يقوم الأنا بتلبية مطالب الهُوَ طبقًا لمعايير الأنا الأعلى القياسية وقواعده المنسجمة مع أعراف المجتمع وتقاليده الثَّقافيّة. وقد يحدث ذلك إما مباشرة أو بطريقة غير مباشرة عبر اللجوء إلى حيل وقائيّة وآليات دفاعيّة Self-defense mechanism من مثل التَّسامي Sublimation، والنُّكوص Regression، والإبدال Displacement،  والإسقاط Projection، والتَّحويل Transfer،   والتَّبرير وغيرها من آليات خفض التَّوتر وتهدئة الخلاف القائم بين أسياد الأنا الثَّلاثة. أما وفي حال فَشِل الأنا وأخْفَقَ في تحقيق الانسجام المنشود، لأي سبب كان، فإنه سيتخبط في مأزق مأساوي تتعارض فيه السَّعادة مع الواجب، القيمة مع المنفعة، مبدأ اللذَّة مع مبدأ الواقع، البُعد الطَّبيعي مع البُعد الثَّقافي، وسيجد نَفْسه في وضع لا يُحْسَدُ عليه، أي أمام واحد من خيارين أحلاهما مُرّ: إما الرُّضوخ والامتثال التَّام لإرادة الأنا الأعلى أو الانصياع للهُوَ والاستسلام له. ولِكُلِّ خيار من هذين الخيارين الأخيرين انعكاساته السَّلبية على الشَّخصيّة الإنسانيّة. ولا عجب في ذلك إذا ما عَلِمْنا أنَّ لكل واحد من هؤلاء الأسياد منزعه  الديكتاتوري وميله "الإمبريالي". فإنْ سيطر واحدهم وسَادَ تمادى، وإنْ هيمنَ  وطغى، لا محالة، بغى. فالالتزام الصَّارم بأوامر الأنا الأعلى وقيود العالم الخارجي من دون إعارة مطالب الهُوَ الإهتمام اللازم  يؤدي، حتمًا، إلى الكبت والقمع. وإذا ما بلغ الكبت أشَدَّه تقع الشَّخصيّة عندئذ في أسر اضطرابات نَفْسيّة شتى كالعصاب واليأس والاحباط. وما العصاب، مثلاً، إلاّ ثأر الهُوَ وانتقامه من الأنا عقابًا له على سوء حسمه للنزاع القائم بينه وبين العالم الخارجي. وفي المقابل، فإذا ما  تَخَلَّى الأنا عن التزاماته تجاه الأنا الأعلى والعالم الخارجي وساير الهُوَ في هواه وسارع إلى مراضاته، عندئذ، يتخذ الأنا الأعلى أقسى التَّدابير العقابيّة بحق الأنا ويزجَّه في أتُون معاناة نَفْسيّة وأخلاقيّة مصحوبة بتأنيب الضَّمير، والشُّعُور بالذَّنْب والخزي والعار والدُّونيّة والإثم والخطيئة19. إضافة إلى ذلك، وإذا ما استرسل الأنا في التَّراخي والانبطاح أمام زحف الهُوَ الكاسح وأفْرَطَ في الإبتعاد عن حقائق الأمور كما هي في الواقع أدى به هذا إلى ضرب من الجنون.

وهكذا، يمكن القول إنَّ هذه الحفريات الفرويدية في طبقات بِنْيَة الإنسان النَّفْسيّة ومتاهاتها الغائرة والمتداخلة، تسهم، بلا أدنى ريب، في تجديد فهمنا  لأسباب اضطرابات الإنسان النَّفْسيّة وطُرُق اجتنابها والتَّعافي منها. لكن، وفي المقابل، فالصورة الدراماتيكية التي قدَّمها فرويد عن الضُّغوط والإكراهات التي تثقل كاهل الأنا وتُقَيِّده قد تلقي ظلالاً من الشَّكِّ على حُرِّية الإنسان. رُبَّ سائل هنا يسأل أنَّى يمكن للإنسان أنْ يكون حُرًّا إنْ كان رمز السِّيادة ومركز السَّيطرة والقيادة فيه المُمَثَّل بالأنا (والوعي ضمنًا) فاقدًا لزمام أموره ومحكومًا من الجنبات التي فوقه وتلك التي تحته داخليًا، ومحاصَرًا خارجيًا؟ والحال، هذا سؤال مشروع ينحو بالمقال إلى الحديث عما بين اللاوعي والحُرِّيَّة من إتصال.

اللاوعي النَّفْسي والحُرِّيَّة:

لعلَّنا لا نحيد عن جادة الصَّواب إنْ قلنا إنَّ سؤال الحُرِّيَّة يأتي في طليعة المشكلات الفلسفيّة التي اثارتها فرضية اللاوعي النَّفْسي  الفرويدية. والحق، إنَّ المسألة المذكورة لا تُثَار تعسُّفًا أو اعتباطًا. ثَمَّة اعتباران إضافيان إلى جانب الاعتبار الوارد في التَّساؤل السَّابق دفعا فئةً من الفلاسفة والعلماء إلى القول إنَّ الحُرِّيَّة هي الأضْحِيَّة الأولى التي يُقَدِّمها التَّحليل النَّفْسي على مذبح اللاوعي. الاعتبار الأوَّل هو اعتماد فرويد مبدأ الحتميّة الصَّارمة في تفسير جميع الظَّواهر والاضطرابات النَّفْسيّة، الأمر الذي عدَّه هؤلاء شكلاً مُقَنَّعًا من أشكال الجبريّة استبدلت فيه الحتمية قوانين الطبيعة بالله، والفيزيقا بالميتافيزيقا. ولئن كانت الجبريّة والحتميّة، في نظر أهل هذه الفئة، متباينتين في الإسم، فإنهما مترادفتان في المعنى، لأنَّ مآلهما واحد  ألا وهو التَّعامي عما يمتاز به الإنسان من وعي وإرادة واختيار، وبالتَّالي، الحط بالإنسان إلى مرتبة الحيوانات والجمادات؛ والاعتبار الثَّاني هو تأكيدات فرويد المتكررة على التَّأثير الفاعل والخفي للاوعي في خيارات الإنسان وأحواله النَّفْسيّة. وهذا ما يعدَّه  هؤلاء شبهًا لا لُبْسَ فيه بكلام السَّحرة والمشعوذين على أرواح وجن وعفاريت شريرة تسكن الإنسان وتتملَّكه. لكن السُّؤال الذي يطرح نَفْسه هنا هو هل الحتميّة والجبريّة صنوان؟  وهل، حقًا، يُفضي  الاعتراف بوجود لاوعي نَفْسي إلى نفي  الحُرِّيَّة  الإنسانيّة؟  وهل قدر الإنسان أنْ يبقى عبدًا للاوعيه؟

وللإجابة عن هذه الأسئلة ينبغي لنا التَّمييز بين الحتميّة والجبريّة وتبیان الفروق الجوهرية بينهما. ولكي لا نسترسل في ما لا نرومه نكتفي بالقول إنَّ الجبريّة مذهب ينفي قدرة الإنسان على الاختيار والفعل ذاتيًا. فكل ما يجري  في العالم من أحداث وأفعال مُقَدَّر ومُحَدَّد سلفًا وأزَلاً من قِبَل قوَّة إلهية ولا مناص من وقوعه مهما كانت الظُّروف والشُّروط، وبالتَّالي، فلا حول ولا قُوَّة للإنسان أمام القوى الغيبيّة الماورائية التي تؤثّر فيه من دون أنْ يتَّصف أصلاً بالقدرة على التَّأثير فيها . وليس بوسع أحد أنْ يرد القدر ویُغَيّر مجرى الأحداث والمصير حتى ولو حاز على معرفة الأسباب والأقدار كلها. فلا فاعل، على الحقيقة، إلاّ اللَّه. أما الحتميّة فهي مبدأ فلسفي وعلمي ينص على أنَّ لا شيء يصدر عن عدم ويحدث من دون سبب، ولا شيء يتحوَّل إلى عدم. فكل ما يحدث في الكون يخضع لنظام أو لقانون سببي ما. الأسباب الواحدة عينها في الظُّروف والشُّروط نَفْسها تفضي دائمًا إلى نتائج مماثلة. وليس في هذا الموقف ما ينفي أنْ تكون أفعال الإنسان وقراراته واختياراته، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، من بين الشُّروط الضَّرورية أو الكافية لما يحدث. هي من هذه النَّاحية لا تلغي الفاعليّة الإنسانيّة الحُرَّة   على ما تفعل الجبريّة، بل على العكس تمامًا. إذ بإمكان الإنسان أنْ يمارس حضوره ويعزِّز فعالیته ويوسِّع نطاق حُرِّيَّته بقدر ما يستنطق الظواهر ويقبض على أسبابها وقوانينها. ولو كان العالم مسرحاً للصدف المحض والعبث والأحداث العشوائية، ولو انعدمت القوانين التي تحكم الظَّواهر الكونيّة سواءً أكانت طبيعيّة أم اجتماعيّة أم نَفْسيّة لما تمكَّن الإنسان أبدًا من معرفة خصائص الأشياء، ولكان الفشل الذَّريع هو التؤام  الشَّقيق والأخ الرَّضيع لنشاطاته العمليّة والعِلْميّة كافة.  فالإنسان لم يتدرَّج في تسخير الطَّبيعة لخدمة مآربه، ولم يخلق عوالمه الافتراضية ويجترح معجزاته التكنولوجيّة السَّاحرة إلاَّ بعدما أخذ يتبحَّر في تَعَلُّم لغتها واكْتِنَاه أسرارها، ولم يتخلص من بعض الأمراض الفتَّاكة إِلاَّ عندما عرف أسبابها وعمل على القضاء عليها. فالإنسان لا  يصبح حُرًّا وسَيِّد الطَّبيعة ونَفْسه ما لم يعرفهما حق المعرفة. فالمعرفة رافعة الحُرِّيَّة وقاطرتها وشرط إمكانها. ولا تُعقل سُلْطَة وحُرِّيَّة من دون معرفة ووعي. وقد سبق للفيلسوف الغزالي أنْ عبَّر عن هذه الحقيقة أبلغ تعبير بقوله: " فكل معروف داخل في/تحت سُلْطَة العارف واستيلائه دخولاً ما"20.

بناءً على ما تقدَّم يمكن القول إنَّ لا تعارض جوهري بين الحتميّة السيكولوجيّة والحُرِّيَّة إذا ما كفَّ الوعي عن التَّصرف كمَلِك مستبد مُكْتَف بالمعلومات التي تُزَوِّدَه به حاشيته المقربة منه، وأحْسَنَ الإنصات إلى التَّنبيهات والإشارات الصَّادرة عن أعماق الذَّات. فاللاوعي يستعبد الإنسان ما دام الأخير يجهله ويُمعِن في تجاهله، والوعي يُحَرِّره بقدر ما يُدرِك اللاوعي ويستكشفه. وهذا، بالضبط، ما يرومه أيضًا التَّحليل النَّفْسي ويسعى في سبيله: "فالغرض الأوحد من التَّحليل، على ما يؤكد فرويد، يتمثَّل في أنْ نعيد بنيان الأنا، وأنْ نحرره من قيوده، وأنْ نُرجِع إليه سيطرته على الهُوَ، تلك السَّيطرة التي فقدها في صدر الحياة حين كان لا يزال ناشئًا ضعيفًا لَيِّن العريكة طري العود وقليل الحيلة"21. وبالفعل، هذا خير دعم خارجي يمكن أنْ يتلقَّاه الأنا  في كفاحه الشَّاق  على دروب استعادة إرادته المسلوبة والتَّحَوُّل من عبد مأمور وخادم مقهور إلى والٍ مهاب وقور وفارس مقدام جَسُور. لكن كسب هذا الرِّهَان العظيم لا يغدو ممكنًا إلاَّ عَبْرَ حَثِّ الأنا على التَّخَلِّي عن نرجسيته، ودفع الوعي إلى التَّخَلُّص  من أوهامه وغروره بالانفتاح على اللاوعي ومحاورته ليغتني الوعي بكل ما يغنمه من اللاوعي، عندئذ، يصبح الإنسان أكثر حُرِّيّةً وقدرةً على تلافي اضطراباته والتَّحكُّم في سلوكيَّاته، وأهلاً لتحَمُّل مسؤوليّة أفعاله٠ فالمسألة ليست، في نهاية المطاف، إلاَّ حوار الإنسان مع ذاته ولأجله٠

***

د. علي صغير - كاتب وباحث لبناني

...................

الهوامش والمراجع

1) نقلاً عن المُقَدِّمة التي وضعها الدكتور إسحق رمزي للترجمة العربية لكتاب سيغموند فروید: مُقَدِّمة في التَّحليل النَّفْسي. دارالمعارف بمصر. ص 18.

2) لمزيد من التَّفصيل حول هذه الصَّفعات يرجى الإطلاع على مقالة سيغموند فرويد:  صعوبة في طريق التَّحليل النَّفْسي. ضمن مجموعات النَّظريات النَّفْسيّة الأساسية. موجز تاريخ التَّحليل النَّفْسي. (باللغة الروسية). سان بطرسبورغ. دار "أليتييا". 1998. ص 232-241.

3) كارل ماركس وفردريك إنجلز: المؤلفات الكاملة. المجلد الثَّالث عشر( باللغة الروسية). موسكو، بوليتازدات. الطَّبعة الثَّانية. 1959.ص7.

4) للإطلاع على تفاصيل الموقف الدِّيكارتي من القائلين بوجود نَفْس وعقل ولغة وذكاء عند الحيوانات اُنْظُرْ القسم الخامس من كتاب رينيه ديكارت: مقال عن المنهج. ترجمة محمود محمد الخضيري. مراجعة وتقديم الدكتور محمد مصطفى حلمي. الهيئة المصرية العامة للكتاب. الطَّبعة الثَّالثة. 1985.

5) المرجع السابق. ص 214.

6) Sigmund Freud: The Interpretation of Dreams. Wordsworth Edition Limited. 1997. p. 445.

7) سيغموند فرويد: الأنا والهُوَ. ترجمة الدكتور محمد عثمان نجاتي. دار الشُّروق. بيروت/القاهرة. الطَّبعة الرَّابعة. 1982. ص 32 .

8) Sigmund Freud: The Interpretation of Dreams. p. 445.

9) في الحقيقة، قلَّما نجد مُؤَلَّفًا  لفرويد خلت منه الإشارة تصريحًا أو تلميحًا إلى الحملات الشَّعواء التي طاولته بدءًا من الاستخفاف والتَّسفيه بالقيمة العلميَّة لفرضية اللاوعي النَّفْسي، ومرورًا بالطَّلب من الجمعيات الأكاديميَّة والمُؤَسَّسَات الطِّبِّيَّة المتخصصة في الأمراض العصبيَّة التي تحترم نفسها إلى إلقاء "الحرم العلمي" على كتابات فرويد والتَّبرؤ منها باعتبارها هرطقًة موصوفة، وإنتهاءً بالتَّجريح الشَّخصي به قدحًا وذمًّا وتَنَمُّرًا.

10) Sigmund Freud: Psychopathology of Everyday Life. New York. The Macmillan company. 1914. p.91.

11) Ibid., pp. 77-78.

12) Ibid., pp. 145-146.

13) Ibid., pp. 39-40.

14) Ibid., p.178.

15) Sigmund Freud: The Interpretation of Dreams. p.441.

16) تجدر الإشارة إلى أنَّ فرويد لم يعتمد التَّنويم كتقنية علاجية إلاّ لفترة وجيزة جدًا من الزَّمن. إذ سرعان ما استعاض عنه بتقنية علاجية مبتكرة تجمع بين التَّداعيات الكلاميّة الحُرَّة وتفسير الأحلام. أمَّا عزوف فرويد عن إستخدام التَّنويم، إنَّمَا مردّه إلى الإعتبارات الآتية: 1- الصعوبات التي واجهها فرويد في تنويم بعض المرضى؛ 2- إخفاق التَّنويم في تقديم حل جذري وعلاج نهائي للكثير من الاضطرابات النَّفْسيّة، ناهيك بكوننا لسنا على بَيِّنَة تامة من جميع المفاعيل والأعراض الجانبية التي قد يُسببها لمختلف المرضى؛ 3- خشية فرويد من الانزلاق بالتَّنويم إلى سحق شخصية المريض، ولا سِيَّمَا، وأنَّ التَّنويم لا يستقيم من دون سيطرة ذات على أُخرى.

17) سيغموند فرويد: مُقَدِّمة في التَّحليل النَّفْسي. ص 74.

18) المرجع نفسه. ص 109.

19) Sigmund Freud: New Introductory Lectures On Psycho-analysis. New York. Carlton House. 1933. pp. 108-109.

اُنْظُرْ أيضًا حول هذه المسألة كتاب فرويد مُقَدِّمة في التَّحليل النَّفْسي. ص 109.

20) أبو حامد الغزالي: مشكاة الأنوار ومصفاة الأسرار. شرح ودراسة وتحقيق الشَّيخ عبد العزيز عز الدِّين السَّيروان. بيروت. عالم الكتب. الطَّبعة الأولى، 1986. ص، 138.

21) سيغموند فرويد: مُقَدِّمة في التَّحليل النَّفْسي. ص 73.

 

بل حركة انسانية من اجل استقامة الأخلاق ولقيَم

ما نكتبه اليوم ليس من بنات أفكارنا.. بل مما كتبه الأخرون عنهم.أختلفت الأراء فيهم بين مُحبٍ وكارهٍ.. وبين مُكفرٍ، ومؤمن بهم.ومهما تعددت الاراد وأختلفت فمن حق الانسان ان يؤمن بما يرى ويعتقد، شرط ان لا يكون مشككاً بالحقيقة، ومفرقا للأخرين.. فحرية الرأي والفكر مصانة ومحترمة في الاسلام الصحيح، وليس اسلام الفقهاء المذهبيين المزيف.. لان التشريع الاسلامي قائم على البينات المادية، وأجماع الأكثرية من الناس، وان حرية التعبيرعن الرأي، وحرية الأختيار، هما أساس الحياة الأنسانية في الأسلام.

أجمعت الأراء على ان التسمية جاءت نسبة الى لباس الصوف من قبلهم، وقيل نسبة الى صفوة الفقهاء منهم.. وقيل جاءت من صفة الصفاء التي ادعوها لأنفسهم. فاصلها ينسب الى صوفة بن بشر قبل الاسلام كما يدعي البعض منهم.ومهما تعددت الاراء الا ان لفظ الصوفية غدا علماً مختصاًعلى طائفة محددة طغت به على اراء المشككين فيها ويقف ابن تيمية في المقدمة منهم.وهم ليسوا من المبتدعين للعقيدة كما يدعي ابن تيمية وغيره.لانهم لم يخرجوا على العقيدة والدين ولم يكونوا وسيلة من وسائل انشقاق المسلمين كما مورست من غيرهم من فقهاء الاخرين.

 الصوفية هي وحدها طريقة معينة في العبادة والاعتقاد، بل هناك طرقا اخرى مثل الشاذلية والرفاعية والطريقة الخلوتية وغيرها كثير.. ويدعي معارضوها انها طريقة خالفت النص القرآني الذي يقول: "وان هذا صراطي مستقيما فأتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم.. الانعام153".. لكن المقصود من الاية الكريمة كما تقول الصوفية : ان الاسلام هو طريق الهداية فلا تسلكوا سبل الضلال فتفرق بينكم، فالاية لا تدعو الى الامتناع عن الاجتهاد في الرأي بعيداً عن الشك في العقيدة.. بدليل الاية: " وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم اجمعين ، النحل 9". اما كثرة الاحاديث الكثيرة في تعدد الاراء في التفسيرفقد نشرت الاختلاف بين المسلمين دون تثبيت.

اما مفهوم التصوف ومعناه فهو يتلخص في الصفاء والنقاء والصدق في القول والعمل والاستقامة في العقيدة دون حرمان النفس من متع الحياة، يقول الفقيه سفيان الثوري المعروف باستقامته: "لولا ابو هاشم الصوفي احد منشئي مذهبهم ما عرفنا دقيق الرياء". وقال السهروردي انه مذهب جديد وسكت.اما الحلاج فكان رمزهم الذي لا ينسى حتى بعد اعدامه حين اتهم بالزندقة والكفر حين قال: انا الحق متشبها بالآله فهو لا يقصد الشك بل التمسك بصفات الآله الخالق العظيم.. لكن السلطة تخاف حتى من خيالها المظلم.. وقال الكثير بما يتخالف من الاراء التي لا يركن اليها في صحيح.

ان منشأ التصوف هومدينة البصرة في ديرة عبد الواحد بن زيد من اصحاب الحسن البصري، وفي الكوفة على يد مالك بن دينار وغيره كثير ولكن ليس بالمفهوم الخاص كما يفهمه الاخرون، بل بالزهد في العبادة والمبالغة فيها، حتى ترى المتصوف وكأنه انقطع عن الحياة.. لكن نكران هذا النوع من الزهد كان مفاجئا للكثيرين الاوائل الذي شهدوا عهد رسول الله(ص) ولم يروا لهذه العبادة والمغالاة فيها من اصل.ويقول المؤرخ ابن الجوزي: التصوف فكر ديني جديد نشأ عند الخائفين من النار والاخرة الذين عرفوا بالبكائين والزُهاد ولم ينتشر الا في عصر المتوكل العباسي.. بعد سنة 200 للهجرة.. ومهما قيل في تاريخهم لكن الاجماع يؤشر الى انهم حديثي عهد به ولم تُعرف الصوفيه على العهد النبوي.

ومن مصادر التلقي عندهم هو ما اخذ عن الرسول (ًص) يقظة او مناما والالهام الشخصي والفراسة وما اخذ عن الكشف الحسي والاحلام والملائكة والجن.. وعقائدهم المغالاة بعدم الانفصال بين الخالق والمخلوق.. لكن الولاية عندهم تقوم على الدين والتقوى وعمل الصالحات واجتناب المنكرات، وقيام الذكر كما في طريقة النقشبندية وطرق اكتشاف الخوارق كاخراج الافاعي من الجحور ومعرفة المفقودات ومكانها.وعندهم مبالغات المعرفة بلا حدود.. ويبدو انها من المبالغات التي لا تصدق..

ويبدو من خلال الدراسات لهذه الشريحة لم تظهر بما التزمت به من المغالاة في الزهد الا بعد الغزوات الاسلامية للشعوب والايغال في سلوكهم الاجتماعي من العيش المرفه والزواج المكرر واسر ابنا ء البلدان المفتوحة واخذ اولادهم ونسائهم والتمتع بهم مستغلين " الاية القرآنية: "وما ملمكت ايمانكم" كما يفعل الدواعش والقاعدة اليوم،  فجاء كرد فعل عنيف لهذه الحالة التي كانت تدعي الزهد والتبتل والمساواة بين المسلمين وغيرهم مما اسهم في ظهور المتصوفة من اصحاب الضمائر الحية الذين اختاروا العزلة على اراقة دماء الناس دون قانون.

ويبدو ان مراحل التصوف قد مرت باداور متعددة منها:

مرحلة القرنين الاول والثاني للهجرة التي جاءت على اثر تطبيق تعاليم الاسلام التشددية دون مرونة مما اوحي للبعص ان الزهد والتبتل في العبادة هي الاساس في الاسلام.

وفي المرحلة الثانية اي في القرنين الثالث والرابع الهجريين قد تطورت الحركة الصوفية مصحوبة بحركة فكرية اجتماعية منتظمة سميت بالتصوف فظهرت فيها المقامات الانشادية والمعرفة الفكرية والتوحيد لهذه الاتجاهات.ولكن رغم الالتزام بما جاءت به من اراء التوحيد الا انها تنوعت بين الصوفية المذهبية والحرة وكل له رأيه في العادات والتقاليد رغم التشدد والانحباس الفكري فيهما.

لكن هناك من التصوف الفلسفي الذي يحتوي على النظر العقلي منطلقا لافكار اصبحت تتجه الى الاتحاد والحلول في الرأي والتطبيق. لقد تطور هذا التوجه الفلسفي في القرنين الخامس والسادس الهجريين متأثراً بالفلسفة اليونانية الاشراقية كالمذهب الافلاطوني مثلا كما في توجهات الفيلسوف محي الدين ابن عربي الذي ادعى بوحدة الوجود في تربية النفس الانسانية والوحدة المطلقة في الحياة بالكشف والمساعدة وعدم اتباع الوسائل الشرعية التي اعتبروها مخترعة من الفقهاء.. وبمرور الزمن تعرضت الحركة الصوفية الى الاضطهاد فأصابها التدهور والركود. وللصوفين اراء كثيرة يطول الكلام فيها.

***

د.عبد الجبار العبيدي

في واحدةٍ من اجتماعات الفريق الاستشاري لقسم دراسات الأديان في بيت الحكمة، كان الحوار يدور حول تحضيرات لعقد مؤتمرٍ نوعي في العلوم الدينيَّة عامَّةً والإسلاميات المُعاصرة Contemporary Islamic خاصةً، شرط أنْ يختلف عن السَّائد والمُعتاد من المُلتقيات الثقافية، وتوصلنا إلى أنَّ حاجة المجتمع الإسلامي عامة والتجربة العراقية خاصة بل المُجتمع البشري المُعاصر إلى قوانين منظِّمة لسلوك الإنسان وتعظيم حضارته المدنية، فتوصلنا إلى فتح باب الحوار لأجل تحفيز العقل الفقهي الإسلامي نحو الاجتهاد في مجال الكُلِّيات ”النظريات العامة والنُّظُم المُجتمعية“ Public theories and Community systems.

فلسفة موضوع المؤتمر:

 تبدو فلسفة الموضوع حول الأفكار الاتية:

1. إنَّ الباري (عزوجل) الذي خلَق الكون والحياة والإنسان، قد أرشد الإنسان إلى ما يوصله إلى سعادة الدنيا والآخرة. ومقتضى ذلك أنَّ النبي (ص) رسم له طريق السعادة في الدنيا من خلال ايات التشريع المؤسسة للقوانين والأحكام الفقهية التي تُحدِّد وتُنظِّم السلوك البشري بما يُحقِّق له الرضوان والمغفرة يوم القيامة؛ لذلك فإنَّ عناية الإسلام بالدنيا تظهر من خلال الأحكام المُجتمعية ومنها إقامة الدولة والمُجتمع على مفاهيم الإسلام وبدا هذا واجبا دينيا على طلاب المعرفة الدينية لاسيما في نطاق الشريعة لذلك فإن الشريعةَ ليست روحية وأخلاقية فقط إنما هي مشروع حضاري أنساني طويل الأمد، ولعل هذهِ مقولة لا تحتاج إلى مزيدٍ من الأدلة، ولأن شمول الشَّريعة لمُقتضيات الدنيا إحدى أهمِّ الركائز التي يقوم عليها الاعتقاد ويجسدها الفقه المُجتمعي فإننا نتجه نحو فقه المجتمع والدولة، على افتراض أننا نرى أنَّ الشَّريعة (الخالدة) إلى يوم القيامة هي التي تُلبِّي حاجات الناس.

إننا نعني بالشَّريعة النصوص الدينيَّة الثابتة التي لا مناص من تحكيمها في عالمنا، بينما الفقه هو آراء الفقهاء الاجتهادية المُستمدة من نصوص الشَّريعة والتي تنطبع بطابع عصرها، فخلود الشَّريعة لا يعني خلود الفقه.

 وخلاصة القول إنَّ تكامل الفقه مع نصوص الشَّريعة يُفضي إلى صياغة الموقف الشرعي السليم للإنسان على تلبية متطلبات تعاقب الأجيال، وتعاظم الوقائع وانشطارها واتساع وتكاثر المُشكلات، بما يُحقِّق فعلاً مبدأ صلاحية الشَّريعة وفقهها لاستيعاب الأزمان والمدنيات والحضارات الإنسانية، وهذا ما له صلة شديدة بمقولةٍ عقائدية هي خاتمية الرسالة الإسلامية للرسالات السَّماوية.

وتجدر الإشارة إلى أن هناك إشكال في مثل هذا الجهد الاستنباطي – الفقهي وهو محذور الوقوع في صياغة النظرية الفقهية مصمَّمة على قياسات ومتطلَّبات العصر الراهن ولو على حساب الحكم الشَّرعي، وهنا يلزمنا وضع معايير عقلية برهانية في قبول الشَّرع لمتطلَّبات العصر صراحةً أو ضمناً أو التزاماً، لاسيَّما أنَّ المشكلات الجديدة التي تُشكِّل تحدياً معرفياً للسادة الفقهاء وعلماء الشَّريعة

 وتنقسم الوقائع إلى قسمين: وقائع جزئية خاصة بالفرد المُسلم، ووقائع عامَّة مجتمعية تتخطَّى نطاق الفرد إلى الجماعة أو المُجتمع، ومن تلك مشكلة التنمية الشاملة المُستدامة ومتطلَّباتها مثل: تحديد النَّسل، والقوانين المُلزمة المقيِّدة للحرية، سواءٌ حرية الإنتاج أو العمل بموجب تخطيط التنمية، والحدِّ من الإباحة العامَّة للاستيراد وضرائب الكمارك لحماية المُنتج الوطني، وإجبار الأجيال على اكتساب مهارات محددة على حسب حاجة البلد... إلخ. ممَّا يحد من الحريات لصالح متطلَّبات النمو الاقتصادي Economic growth، فهذا نوع من المُستجدات (كُلِّي). ومن ذلك نظرية المواطنة، وارتباط الفرد بالرقعة الجغرافية (الحدود السياسية) للبلد، وسريان القانون فيها، والولاء لها، والنَّزعة الوطنية مقابل الولاء للعقيدة الأممية، التي تعم المُسلمين عموماً في العالم، وإشكالية الحدود المفتوحة المتحركة.

إنَّ مثل هذهِ التبدلات الجوهرية في قِيَم العالم المعاصر وانشغالاته، تتطلَّب جهداً فقهياً منظَّماً لرسم النموذج الإسلامي المُقنِع والمناسب لتطلُّعات الإنسان ومصالحه وذوقه ودرجة تمدنهِ، وانسجامهِ كمُجتمع مع المُجتمعات العالمية؛ لأنَّه يعيش في عصر التواصل الاجتماعي وشبكة المعلومات التي صار العالم كلَّه بها قريةً صغيرة، فلا يمكن لجماعةٍ أنْ تنعزل عن بقية مجتمعات العالم المعاصر فنماذج التطوير الفقهي تتطلَّب أولاً إعادة دراسة الوقائع بصورةٍ عميقة، والتعرف على مقدار ضرورتها، ودراسة النصوص الشَّرعية، وفكِّ التعارضات للوصول إلى (نموذج إسلامي) ضامن للمقبولية الشَّرعية ومحقِّق للمعذري، وهو بنفس الوقت يحقِّق تطلُّعات الإنسان التي توصل إلى وسائله بعد عناءٍ تاريخي وكفاحٍ وتجارب ذات كُلَف بشرية ومادية، حتَّى انتهى إلى هذهِ التي تُسمَّى اليوم بـ(القِيَم المعاصرة).

2. أنَّ واحدةً من ثغرات عصور ما بعد النهضة في تجربتنا الفقهية أنَّ علماء الدين انقسموا إزاء الاجتهاد – كمبدأ – إلى موقفين:

أحدهما: رفض الاجتهاد وتحريمه والتمسك بالنصوص والعمل بأصالة الحُرمة حتَّى يتم الظَّفر بدليل الإباحة، وكان ذلك ممثلا في النَّفر الذي رفض أنْ يُفتي من الصحابة والتابعين، ومسلك الحنابلة والظَّاهرية وما نتج عنهم من الاتجاهات السَّلفية القديمة والوسيطة والحديثة والمُعاصرة. بل وجدنا هذا النَّمط من النَّهج موجودا حتَّى في الوسط الشيعي، إذ ظهرت في تاريخهِ بعد للألف الهجري فتراتٍ اختصَّ الناس برواية الحديث عن الأئمَّة وتوقفوا عن الاجتهاد، وظهر في القرن العاشر الهجري – قبل أربعة قرون – تيار الإخبارية الذي يُعطِّل العقلانية المنهجية والاجتهاد.

وثانيهما: المؤمنون بضرورة الاجتهاد وممارستهِ والتوسع فيه، وإشراك العقل الإنساني ”المؤهل“ في ملئ الفراغ التشريعي، وبناء الحياة على المبادئ الكبرى والقواعد الأساسية التي حدَّدتها الشَّريعة. وتفاوتت هذهِ النَّزعة في مراتبها بين متوسِّعٍ يُغلِّب العقل والمصلحة على النص، وبين مَن يتقيَّد بالنصوص في اجتهادهِ، وبين مَن يُخضع العقلانية كلِّها إلى فهمٍ تاريخيٍّ للنص.

لذلك، فإنَّ إنهاء حالة القطيعة مع عموم الاجتهاد مطلب إسلامي عقلاني يتبنَّاه المؤتمر، ويتبنَّى اجتهاداً معيارياً برهانياً نقدياً متوازناً يرعى قيمة النص رعايةً تامَّة ويرعى ضرورة إعمال العقل إعمالاً كاملاً. وتلك لعمري غايةٌ يصعب الوصول إليها إلَّا عن طريق الجهد الجماعي العميق للباحثين والعلماء، وكنا ولا نزال نأمل أنَّ المؤتمر سيُسهم بتحقيق هذا الهدف.

تتزامن مع القطيعة المعرفية ضد الاجتهاد نزعة انتقائية مذهبية، تُلزم بالرجوع فقط إلى مذهبٍ واحد، وتحكم ببطلان كلَّ ما هو عداه، ولا ترى عذراً لمَن يرجع لِمَا هو محدَّد له من الفقهاء المُلتزمين وحتى المُحافظين مذهبياً.

ثمَّة صورةٌ أخرى من صور القطيعة المعرفية، أنَّ النزاع بين مذهب الحنفية والشافعية أدى إلى حاجز نفسي من الإفادة من اجتهاد المذهب الآخر، ناهيك عن عدم قبول آراء فقهاء لم يندرجوا ضمن التصنيف الرسمي لِمَا يُطلق عليه بـ(أهل السُّنَّة)، كالزيدية والإسماعيلية والإمامية، على أن مذهب الإباضية وابن حزم وداود وغيره لم تندرج في مصنَّفات الفقه المُقارن التقليدية.

كلَّ ذلك يُشكِّل أصنافاً من القطيعات التي يحاول المؤتمر بالدعوة إلى فقه النظرية الكُلِّية أو فقه النُّظُم الاجتماعية أنْ ُيلغيها ويستفيد من كلِّ الجهود الاستنباطية التي ستنفع حتماً في تحقيق مرامه في إيجاد الأرضية التي تساعد على تحقيق فقه المجتمع لذلك نجد أن دعوة المؤتمر إلى نمطٍ جديد تركيبي للاجتهاد، تفنيداً لِمَا نشرته دراسات الاستشراق الغربية، من أنَّ العقل الإسلامي عقلٌ بسيط غير مركَّب، شديد العناية بالجزئيات ويهتم بالتفاصيل ويغادر عجزاً منه القضايا الشمولية الكبرى، ويهتم ويركِّب للوصول للبناء العام.

ولأنَّ الاجتهاد لصيق بعملية التجديد والتنوع الفكري، ولأنَّ الحاجة قائمة إلى التجديد والتنوع، فإنَّ المؤتمر يفتح الباب ويُسلِّط الضوء على الاجتهاد في الكُلِّيات. ويُهيِّئ الأذهان للانتقال من فقه الأفراد كأفراد، إلى فقه المُجتمع بوصفهِ مجموعة متجانسة من الناس لها متطلَّباتها كمُجتمع، ثمَّ فقه الدولة الذي هو أعمُّ من فقه الفرد، وفقه المُجتمع.

كذلك، يسعى المؤتمر إلى مواصلة التطور الذي حصل في المسار التاريخي لتطور المعرفة الفقهية، الذي انتقل من فقه الفرد وتكليفه الشَّرعي كفرد إلى فقه القاعدة الفقهية التي عرَّفوها بأنها: ”أصول كُلِّية مُصاغة في نصوصٍ موجزة تتضمَّن أحكاماً تشريعية جزئية“(1).

وانتقل البحث الفقهي من القواعد التي تُشكِّل ضابطة أغلبية إلى ضابطة كُلِّية تنطبق انطباقاً كلِّياً، كعِلمٍ مشتق من مباحث الفقه؛ لأنَّ علم القواعد قد تطور تطوراً علمي بحيث صار يُعنى بتجميع الفروع الفقهية وحصرها في صيغةٍ كبرى.

وإذا ما ألقينا نظرةً على فوائد علم القواعد الفقهية، فإننا نجد أنَّها تؤدي مهمة تجميع الفروع في إطارٍ نظري واحد، وتؤدي مهمة تسهيل تخريج الفروع على الأصول – كما فعل الزنجاني الشافعي (572-656هـ/1177-1258م) –

وتؤدي إلى إدراك مقاصد الشَّريعة كما فعل الشَّاطبي (538-590هـ/1144-1194م)، وأخيراً الإسهام في النهضة الفقهية؛ لذلك نجد مجموعة مصطلحات ومفاهيم ذات صلةٍ بالقاعدة الفقهية، مثل: (الأصل، الأساس، المبدأ، القانون الناظِم، الضَّابط، الدليل). يشير إلى مهامها المعرفية. وإذا كانت بعض القواعد الفقهية ناتج النص القرآني أو الحديث النَّبوي الشريف، فأنَّ بعضها الآخر مُستنبطٌ من استقراء الفقهاء(2)، ومنها ما هو متفقٌ عليه كقاعدة لا ضرر، ومنها المختلف فيه مثل: (لا يُنسب إلى ساكتٍ قول).

وقد اختلفت القواعد من جهة (مدى الاشتغال) فكانت كبرى تعمل في كلِّ مجالات الفقه، مثل قاعدة (لا ضرَر)، ومنها صغرى تعمل في عدَّة مجالاتٍ (الحرج)، ومنها ما يعمل في مجالٍ واحد، مثل: (البيِّنةُ على مَن ادَّعى).

وقد تساءل عددٌ من المحقِّقين ما إذا كانت القاعدة الفقهية رغم أنَّها تطورٌ معرفيٌّ مهم هل تصلح دليلاً على الحكم الجزئي أم لا ؟ وكانوا على رأيين: أحدهما يرى عدم كفاية القاعدة لئنْ ترقى إلى مستوى الدليل لأنَّها ظنية، ويلزم في الاستدلال أنْ يكون قطعياً، وعند هؤلاء فإنَّها ليست أكثر من قوالب جامعة لأغلبية الأحكام.

بينما ذهب آخرون إلى أنَّها تصلح للاستدلال بها طالما أنَّها تستند إلى نص أو عموم الدليل الشَّرعي، أمَّا المُستنبط باجتهادٍ فإنْ كانت مستنبطة باجتهادٍ صحيح كانت جديرةً بالدليلية، أو تولَّدت عن استقراءٍ تام (قطعي) وبهذهِ الحالة – كما يقولون – هي أولى من القياس؛ لأنَّه بعمومهِ ظنِّي؛ ولأنَّه يلحق الواقعة بحكمٍ (مفرد)، بينما القاعدة تلحق الواقعة بحكمٍ جامع لعددٍ من الأحكام.

ومن مراحل تطور البحث المنهجي في المعرفة الفقهية، الانتقال من مرحلة تقعيد القواعد إلى بناء النظريات الكبرى والشمولية، والتي هي نظامٌ حقوقي يدور حول موضوعٍ منبثةٌ أحكامهُ في أبواب الفقه كنظرية المُلكية، ونظرية العَقد، ونظرية الأهليَّة، ونظرية النيابة، ونظرية البُطلان والفساد، ونظرية الضمان(3)، ونظرية العرف (4). ولا يمكن حصر ”فوائد” النظرية الفقهية في كونها جامعة للمُتناثر، أو صيغة جديدة تُعيد نَظْم الجزئيات، إنَّما هي جمع المُتناثر ضمن رؤيةٍ فلسفية استقرائية تُفضي إلى تعليل التشريع وبيان مقاصدهِ ومآلاتهِ والقواعد الأساسية التي قامت عليها النظرية، كاستناد نظرية المُلكية إلى قاعدة (الناس مُسلَّطون على أموالهم)، وقاعدة العَقد لشوكت العَدوي على [إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ] ونظرية الالتزامات على [أَوْفُوا بِالْعُقُودِ].إلخ.

ويرى باحثون أنَّ نُضج تصنيف العلماء للنظريات الفقهية يُسهِّل التطبيق العلمي للشريعة في مجالات الحياة، ويكشف ممَّا يُتوَهَّم أنَّه متعارض من الأدلة والآثار، ولا يسمح ببناء رأي على نصٍّ مجتزأ بصورةٍ انتقائية، فضلاً عن أنَّه يُشجع على نقد التراث الفقهي كسبيل لتطويرهِ، مثل تطوير نظرية الضرورة والظروف الطَّارئة والإكراه. ثمَّ تؤدي النظرية دور الكاشف عن المقاصد والعِلل وأسرار التشريع.

والذي يجمع بين النظرية الفقهية والقاعدة الفقهية اهتمامهما بالبناء العام والشمولية المُستقاة من الجزئيات المتعددة، لهذا كان رأي الشيخ مُحمَّد أبو زهرة (1316-1394هـ/1898-1974م) أنَّ النظريات الفقهية تطورٌ على علم القواعد.

ثمَّة تطور أكثر رقياً في مسلك المعرفة الفقهية، هو ”الاجتهاد في مجال النُّظُم المُجتمعية“، والنظام هو مجموعة القوانين والمبادئ العامة التي تُنظِّم المجال الاجتماعي، ويكاد يحصل الاتفاق على أنَّ النظام المُجتمعي يضم مجموعة قوانين ومجموعة تشريعات ومبادئ عامة في موضوعٍ محدَّد. غير أنَّ الدراسات التي أنتجت نُظُماً إسلامية، كانت أقرب إلى السَّرد التاريخي منه إلى العرض الاستدلالي الفقهي، مثل: النُّظُم المالية والاقتصادية، والنظام التَّربوي والاجتماعي، وفي بعضها قَدَرٌ من السطحية والمرور العابر على الموضوعات والأحكام والمفاهيم، وقد غاب عن بعضها اكتشاف القواسم المشتركة بين الجزئيات.لكن من المؤسف أنَّ في بعضها قَدَرا من ضعف التتبُّع الاستقرائي، والخلط بين المسائل، وغلبة الأحكام الفردية، والبُعد عن الواقعية المُعاشة. وفي ظنِّي أنَّ المؤتمر سيحاول التنبيه على هذهِ الثغرات بغية تلافيها.

وعندي أنَّ جوهر ما يرمي إليه هذا المُلتقى العلمي، هو لفت الأنظار إلى المتغيرات المعاصرة، التي شكَّلت تحدياً في القرنين الماضي والجاري. والمُستجدات الكُلِّية والتبدلات الجذرية على مستوى العالم كلِّه فضلا عن العالم الإسلامي، وبعض بلدان المُسلمين.

مثَّل تحول القاعدة المعيارية للانتماء من (الأساس الديني) إلى الأساس الوطني ”الجغرافية السياسية والحدود” كأصلٍ وأساسٍ للمواطنة، بديلاً عن الرعوية المُعتمدة سابقاً، والديمقراطية بدل (الشورى)، والعَقد الاجتماعي بدل البيعة، وفصل السلطات بدل اجتماعها، وشكل الدولة بين الأنموذج الماضوي التاريخي ”نموذج الخلافة” وأنموذج الدولة العلمانية.

مثالٌ آخر، هو استحالة الجهاد الابتدائي لعدم تكافؤ القوة، وسقوط مبدأ دار الإسلام ودار الحرب والحدود التي تتسع بالفتوحات، وأنَّ النظام العالمي المعاصر ومواثيق الحقوق تتطلَّب نظاماً يُعنى بسلوك الدولة في النطاق الدولي(5). وتحول الجهاد إلى الدفاع والمُقاومة لكن مع الالتزام بالشرعية الدولية والقانون الدولي(6).

الأُسس الفلسفية لفقه النُّظُم المُجتمعية:

يستند فقه النُّظُم إلى مجموعةٍ من الأُسس،منها:

1. عقيدة الاستخلاف، وهي منتزعة من القرآن الكريم وتنص على أنَّ الله (عزوجل) الخالق المالِك الأصيل للكون، أناب الإنسان واستخلفه ضمن نيابة شروطهِ لعِمارة الأرض وإقامة العدل وعبادة الله، وهذا يقتضي أنْ يُمنح ترخيصاً بأن يستعمل عقله في بناء التشريعات على حسب المُحكم من النصوص، ومن أشكال استعمال عقلهِ: إعمال الاستقراء في بناء القاعدة الفقهية، أو النظرية الفقهية، أو النظام الفقهي؛ لأنَّ تلك الجهود عبارة عن استخدام الاستقراء في تتبع الجزئيات وإعادة ترتيبها وصياغتها على ترتيب المقدمات والأركان والنتائج والخلاصات، والعمل الأكثر أهميةً هي تخويله في الاجتهاد فيما لم يرد فيه نص(7).

2. الاستخلاص المنطقي من محدودية النصوص ولا محدودية الوقائع، ومعنى ذلك أنَّ نصوص القرآن والسُّنَّة المُطهَّرة (محدودة)، بينما وقائع ومشكلات الناس التي تتطلَّب حلاً شرعياً غير محدودة، ولا يجوز منطقياً أنْ يُهيمن المحدود على غير المحدود؛ لذلك أتاح الباري (عزوجل) للإنسان أنْ يُسهم في بناء التشريعات ملتزماً بالمُحكمات.

3- إنَّ دعوتنا أنَّ الإسلام شريعةٌ خاتمة للشَّرائع، وهي معين الأجيال إلى نهاية الزمن (يوم القيامة)، فلا بدَّ من فهمٍ متجدِّد للنصوص يتناغم مع الأزمان والمدنيات والحضارات والرٌّقي الإنساني، للقيام بالبرهنةِ على خاتمية الشَّريعة.

وعليه، يلزم الفقيه المُسلم أنْ يُتقن المناهج الجديدة ويطبقها على مضامين فقهية، مثل القواعد والنظريات والنُّظُم المُجتمعية.

أخيراً، أورد بعض المدوَّنات في التراث ممَّا اهتم بفقه القواعد أو النظريات أو النُّظُم. ففي باب القواعد كان الكرخي الحنفي (260-340هـ/874-952م) بمؤلَّفهِ (الأصول) من السابقين في هذا المضمار، وكان الزنجاني في ردِّ الفروع إلى الأصول. ومن ذلك كتاب أبي عبيد القاسم بن سلَّام (157-224هـ/774-838م) (الأموال)، وكتاب مُحمَّد بن الحسن الشيباني (132-189هـ/749-805م) (السِيَر الكبير)، وهو يُعنى بفقه العلاقات الدولية، وقد شرحه السَّرخسي (ت483هـ/1090م) في أربعِ مجلَّداتٍ. وكتاب (مجمَع الضَّمانات) في مذهب أبي حنيفة لابن غانم البغدادي (ت1030هـ/1620م). إنَّ هذهِ النماذج جزء ممَّا كُتب في تراثنا من الفقه الكُلِّي، لكن غلبة منهج الفقه الجزئي لم يجعل هذهِ المُحاولات الرائدة هي الشاخصة.

لقد وردتنا من إخواننا العراقيين والعرب وبعض البلدان عشرات الأبحاث التي تجاوزت المائة، وبعد عرض هذهِ الأبحاث على لجنةٍ علميةٍ مؤلَّفة من كبار الباحثين المشهود لهم بالعُمق والتخصص، ترشَّحت قرابة نصف ما وردنا من أبحاث لهذا المؤتمر. اهتمَّت عشرة أبحاثٍ منها بالمُشكلات الاجتماعية المعاصرة وتقديم الحلول الفقهية لها على شكل اجتهاداتٍ كُلِّية، ومثلها توغل معرفياً بالفقه المقاصدي، وناقشت عشرة أبحاثٍ الواقع العالمي المُعاصر، واعتنت خمسة أبحاثٍ بآليات تطوير مهارة الاستنباط، فكانت عبارةً عن جهود علمية جديرة بأنْ تُشكِّل مرجعاً للحداثة في مجال الفقه والأصول، وكتاب نفيس يُقدَّم للمكتبة العربية.

وإني إذ ألخِّص هذهِ الأبحاث، أدعو إلى ترجمتها إلى اللغات العالمية لتوسيع الإفادة منها. أرجو أنْ تكتمل فوائد وفرائد المؤتمر، وأنْ يُحقِّق أغراضه، وأنْ يتقبَّل الله من الباحثين.. والسلام.

***

الأستاذ المتمرس الدكتور

 عبد الأمير كاظم زاهد

 ...................

(1) الزرقا، مصطفى أحمد، المدخل الفقهي العام، ط2، (دمشق: دار القلم، 1425هـ/2004م)، ج2، ص965.

(2) سواءٌ عن طريق استخدام الاستقراء، أو الاستدلال.

(3) يُنظر: فيض الله، محمد فوزي، نظرية الضمان في الفقه الإسلامي العام، (بيروت، مؤسَّسة الرسالة، د.ت.).

(4) لمزيدٍ من التفاصيل، يُنظر: الزرقا، المدخل الفقهي العام، ج1، ص329.

(5) السيد، رضوان، ”تيارات النهوض والإصلاح.. المسار والصيرورة”، بحث منشور ضمن كتاب: مدخل لتكوين طالب العِلم في العلوم الإنسانية، ط2، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2013م)، ص209.

(6) المرجع نفسه، ص210.

(7) يُنظر: الوائلي، حيدر عبد الجبار كريم، مسالك الاستنباط فيما لا نص فيه.. دراسة مقارنة، أطروحة دكتوراه غير منشورة، جامعة الكوفة، كلِّية الفقه، 2018م.

 

أحسن الوصفَ والتوصيفَ فضيلةُ الإمام الأكبر شيخ الأزهر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب حينما قصد سرد المشهد الصوفي بأنه حالة ذاتية متفردة غير قابلة للتكرار، وأن لغة أصحاب هذه التجربة الروحية على اتساع مفرداتها تبدو ضيقة عاجزة عن الإفصاح بمكنونات اللحظة الصوفية قصيرة المدى وطويلتها المعروفتين بالحال والمقام، هذا ما جعل أهل التصوف أنفسهم لا هؤلاء الأكاديميون ضعاف الرؤية والتفكير وربما بصيرة التحليل أيضا يؤكدون صعوبة تعريف التصوف، بل كانوا أكثر حكمة من هؤلاء المعاصرين المنتسبين بفعل الوظيفة لا أكثر لا أقل على التصوف بحكم الدراسة والعمل والراتب الشهري وقتما لم يكترثوا بوضع تعريف دقيق حاكم وقاطع لمفهوم التصوف الإسلامي، وحسن صنعهم حينما امتنعوا عن التوصيف.

وهذه اللغة التي يستخدمها أهل الوجد هي بالضرورة تنبئ عن حالات من القلق المستدام المتواتر وليست ضلالات كما يظن البعض ويعتقد، بل مرد القلق ما يعتري الطائع المتصوف من رياضات روحية واجتهادات عقلية عن وعي وقصد شديدين. ويقول العلامة الإمام الكلاباذي واصفا لمقاماتهم وأحوالهم: "سبقت لهم من الله الحسنى وألزمهم كلمة التقوى وعزف بنفوسهم عن الدنيا صدقت مجاهداتهم فنالوا علوم الدراسة وخلصت علها معاملاتهم فمنحوا علوم الوراثة وصفت سرائرهم فأكرموا بصدق الفراسة ثبتت أقدامهم وزكت أفهامهم أنارت أعلامهم فهموا عن الله وساروا إلى الله وأعرضوا عما سوى الله خرقت الحجب أنوارهم وجالت حول العرش أسرارهم وجلت عند ذي العرش أخطارهم وعميت عما دون العرش ابصارهم فهم أجسام روحانيون وفي الارض سماويون ومع الخلق ربانيون سكوت نظار غيب حضار ملوك تحت أطمار أنزاع قبائل وأصحاب فضائل وأنوار دلائل آذانهم واعيه وأسرارهم صافية ونعوتهم خافيه صفوية صوفيه نورية صفيه ودائع الله بين خليقته وصفوته في بريته ووصاياه لنبيه وخباياه عند صفيه هم في حياته أهل صفته وبعد وفاته خيار أمته لم يزل يدعو الأول الثاني والسابق التالي بلسان فعله أغناه ذلك عن قوله" .

ومن العبث ما ظنه غلاة المستشرقين طعنا وكرها في التصوف الإسلامي حينما اعتبروه مجرد ظاهرة دينية تاريخية، وهذا ما دفع بعضهم مرهقين أنفسهم قبل عقولهم بالبحث عن روافد التصوف الإسلامي، ومن خرق العقل العربي العصي على التأويل ن جملة من العرب المتأخرين والمعاصرين أيضا ممن ينتسبون إلى الفلسفة الإسلامية والتصوف بحكم الاشتغال والامتهان (من المهنة) أنهم اغرورقوا مع هؤلاء المستشرقين الذين كان غالب بحثهم في التراث الإسلامي طعنا في مصادره وثوابته التي لا تقبل شكا أو ظنا في الثبوت أو التصديق، لكن أمثال ثولوك، ودوزي، وهورتن، وهارتمان، وأوليري، وجولدزيهر ظلوا سنوات طويلة وبعيد يؤكدون تأثر التصوف الإسلامي كظاهرة تاريخية بروافد مسيحية كنسية، وهندية، وفارسية قديمة، حتى الثقافة اليهودية كان لها حظ من إشارتهم التي تبدو لي ولقليل مثلي من التكهنات الخبيثة التي تسعى لتقويض أية سلطة دينية مطلقة بغير رافد أو عوامل تأثر.

لذا كان على العرب أن يكونوا أكثر وعيا بعدم نقل الكتابات التفصيلية التي تشير إلى نوازع التأثر من الديانات الأخرى للتصوف الإسلامي، وإرجاعه بصورة مطلقة إلى رافديها الأصيلين فقط ؛ القرآن الكريم والسنة النبوية العطرة لصاحبها (صلى الله عليه وسلم) .

لأن هذه الإشارات هي عملية أيديولوجية في المقام الأول، ولا ترتبط بالأبعاد المعرفية الثقافية التي تخدم الفكر الإنساني، وربما لأن التصوف الإسلامي الذي يمثل التجربة الروحية في الإسلام جاء متأخرا تأخر ظهور الدين الإسلامي بحكم كونه آخر الأديان الإلهية السماوية المقدسة والثابتة كان هذا الطرح الفكري، فضلا عن مثالب الغرب والإقرار بنظرية المؤامرة في إيجاد روافد ومصادر تأثير مباشرة كانت سببا للنزعة الصوفية في بلاد المسلمين.

وخير دليل على مطاعن المستشرقين صوب التصوف وأهله ما ألصقوه من عبارات وصفات وثمة سمات هي في جوهرها طعنا وذما حقيقيا له، فتارة نجد من يصف التجربة الصوفية بأنها كل ما هو شاذ وغريب، وتارة أخرى توصيفها بالخبرة الدرامية، لكن حقيقة الشهود الصوفي تفي وتصف التجربة بأنها البحث الدائم والمُلِحُّ عن معنى الوجود الإنساني، وهذا البحث هو عدة محطات أخلاقية ودينية لابد أن يمر بها الطائع لربه وصولا إلى أحوال ومقامات مهما اجتهد المفكرون في تقنينها وتجميعها إلا أنها تظل تجارب فردية خالصة غير قابلة للتكرار وغير خاضعة للتشابه.

هذه المحطات لابد وأن تبدأ في انطلاقها من بوابة الزهد، والثقافة الإسلامية تؤكد تحلي الصحابة رضوان الله عليهم بتلك السمة لاسيما وأنهم كانوا أكثر قربا من النبي (صلى الله عليه وسلم) وحياته، لكن المستشرقين بأمراضهم العنصرية وغلو تطرفهم الديني ودوافع مؤسساتهم الممولة لمشروعاتهم خبيثة الهدف أشارت إلى أن زهد الصحابة كان بغير تخطيط أو تدبر أو وعي تام أو حتى تنظيم، وكأن هؤلاء النجوم الزاهرة يسيرون في الحياة بتخبط وعشوائية، وهذا ما يأباه العقل وينفيه التاريخ الإسلامي الصحيح والسليم الذي يقبله القلب والعقل معا بفطرة صحيحة وسليمة. فنجد أن التصوف الإسلامي بدأ زهدا على يد كبار الصحابة الأوائل الأماجد الكرام ومن تبعهم من التابعين ؛ أبي عبيدة بن الجراح، وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وحذيفة بن اليمان، وسعيد بن المسيب وهؤلاء جميعا يمثلون مدرسة الزهد في المدينة المنورة.

وهذه المدرسة وغيرها من مدارس الكوفة وخراسان والبصرة اهتمت بقضايا الموت والحساب وفتن الدنيا وفساد الأحوال الزائلة، والخوف من الآخرة، وهذا ما أشار إليه أبو الوفا التفتازاني وصفا لملامح مدرسة الزهد الأولى بقوله: " ولعله قد تبين من أقوال بعض زهاد البصرة أنها كانت تدور حول معنى الخوف من عذاب الآخرة، وهو الخوف الذي يستتبع العمل الديني الجاد، والانصراف عن ملذات الدنيا بالتقلل في المآكل والمشرب، وغير ذلك مما لا يخرج عن حدود زهد النبي وصحابته" .

وشقيق البلخي أحد مشاهير مشايخ خراسان والصوفي القطب الكبير يمر بنا في رحلة سريعة عبر محطات رئيسة صوب المعنى الحقيقي للوجود الإنساني، ولعله من القلائل الذين رسموا التجربة الصوفية في شوارقها بصورة مختزلة جادة حينما اشار إلى التجربة بأنها تبدأ من محطة الزهد الذي يعني به أدب النفس بقطع الشهوات من الطعام والشراب على القوت الكافي، ومنعها من الشبع بالليل والنهار، مرورا بمحطات رئيسة مثل الخوف الذي لا يتم الزهد إلا به، ثم الشوق ومبتدا الدخول في الشوق إلى الجنة أن يتفكر في نعيم الجنة وما أعدَّ الله فيها لساكنيها من أنواع الكرامة والنعيم والخدم، هكذا يقول البلخي في نصوصه. ويعد الشيخ الجليل أبو علي شقيق بن إبراهيم الأزدي من أبرز من تحدث عن التقوى وخصال المتقين من أهل التصوف الإسلامي، ولسوء حظ الثقافة الدينية في مصر أن أهل الحب الإلهي والمعروفين بالمتصوفة يعانون قدراً كبيراً من التجاهل الإعلامي والغياب الثقافي لأنهم ارتبطوا فقط بالموالد والاحتفالات الشعبية البعيدة عن تعاليم الشريعة الإسلامية السمحة . وبات من الضروري إلقاء الضوء على هؤلاء الذين ظلمهم إعلام غافل وثقافة باهتة .

وتذكر كتب التأريخ الإسلامي المتصلة بحياة أقطاب الصوفية أن شقيق البلخي هو أول من تكلم في علم الأحوال ببلاد خراسان، ولقد تتلمذ على يد شيخ الصوفيين الباهر إبراهيم بن أدهم المتوفى في 161 هجرية، وله قصة مع هذا الأخير نوردها في هذه السطور، التقى إبراهيم بن أدهم وشقيق بمكة فقال إبراهيم لشقيق: ما بدو أمرك الذي بلغك هذا؟ قال: سرت في بعض الفلوات فرأيت طيراً مكسور الجناحين في فلاة من الأرض فقلت: أنظر من أين يرزق هذا فقعدت بحذاه فإذا أنا بطير قد أقبل في منقاره جرادة فوضعها في منقار الطير المكسور الجناحين فقلت لنفسي: يا نفس الذي قيض هذا الطائر الصحيح لهذا الطائر المكسور الجناحين في فلاة من الأرض هو قادر على أن يرزقني حيث ما كنت فتركت التكسب واشتغلت بالعبادة.

وما لبث التصوف في انطلاقه من محطة الزهد ليصل إلى محطات أخرى أكثر ارتقاء وازدهار بحكم ثراء الثقافة الإسلامية نفسها ونبوغ الفكر الإسلامي الذي أشرق على العالم كله لاسيما نهايات القرن الثالث الهجري وبداية القرن الرابع الهجري الذي يعتبر بحق العصر الذهبي للثقافة الإسلامية. فنجد التصوف الإسلامي لم يعتبر نفسه مجرد محض زهد أو تقشف أو حتى ملازمة لقطع الشهوات والرغبات الباهتة الزائلة، بل تحول المشهد الديني إلى ممارسات عقلية أقرب إلى الطرح الفلسفي كشف عن حقيقة راسخة وهي حضور الجانب العقلي وبزوغه في التجربة الروحية الخالصة.

فنجد الحارث المحاسبي الذي اشتغل بالتدريس وهذا ينفي شبهة التعطل والبطالة عن أقطاب الصوفية الكرام يسطِّرُ كتبا تعد من جواهر المؤلفات العربية التي تتحدث عن شوارق التصوف وأنواره مثل " كتاب الرعاية لحقوق الله "، وكتاب التوهم "، وكتاب " رسالة المسترشدين "، وفي كتبه جميعا نجد منحى تحليليا عميقا لأحوال النفس ومعالمها، وسردا يخلو من المبالغة والعلو في التعبير وهذا ما ميَّز كتابات عصر المحاسبي.

والحارث المحاسبي يواجه نفسه بسؤال ما المحبة الأصلية ؟ وفي سؤاله هذا يقرن بين القلب والعقل، إذ أنه يتحدث عن أمر الوجدان بلسان العقل والروية، فيقول عن المحبة الأصلية أنها حب الإيمان، مستدلاً بذلك من أن الله تبارك وتعالى قد شهد للمؤمنين بالحب له فقال: (والذين آمنوا أشد حباً لله) (سورة البقرة ـ آية 165) . يقول المحاسبي: " فنور الشوق من نور الحب وزيادته من حب الوداد، وإنما يهيج الشوق في القلب من نور الوداد، فإذا أسرج الله ذلك السراج في قلب عبد من عباده لم يتوهج في فجاج القلب إلا استضاء به، وليس يطفئ ذلك السراج إلا النظر إلى الأعمال بعين الأمان " .

والمستقرئ لتلك الكتابات يسهل عليه استنتاج التحول في تاريخ التصوف الإسلامي من الزهد في الشهوات وغايات الدنيا إلى تأصيل القيم الإسلامية مثل الحديث عن صفة الرياء، والتنبيه على معرفة النفس وسوء أفعالها والتحذير عن هوى النفس. كما جاد فيض الصوفي المكتوب في الحديث عن الوجد حلا ومقاما ؛ حيث  إن الوجد هو المعاناة الدائمة لتمحض الإنسان و بلوغ حريته الخالصة في الإخلاص للحق . أي أسلوب تراكم سره . ومن هنا قول عمر بن عثمان: "لا يقع على كيفية الوجد عبارة ,لأنها سر الله عند الموقنين" . ومقام الوجد كما أشار إليه ميثم الجنابي في دراسته الأكثر تميزا وإثارة وتشويقا الموسومة بـ " السماع لحقائق المطلق أو لعبة الوجدان والحقيقة في الإبداع  الصوفي " يعني السر، والسر هنا هو حقيقة الباطن . ولهذا قالوا "الوجد سر صفات الباطن "، أو حقيقة الأنا، أو حقائق الروح المبدع في معاناة تذوقه للمطلق في تجلياته اللامتناهية ,وفي مكابدة مشاهداته و مكاشفاته . أي في مقاساة نماذج الإبداع العيانية والرمزية في إخلاص التجربة الفردية . فالوجد ,كما يقول أبو سعيد ابن الإعرابي ,هو "ما يكون عند ذكر مزعج ,أو خوف مقلق، أو توبيخ على زلة ,أو محادثة بلطيفة ,أو إشارة إلى فائدة، أو شوق إلى غائب أو أسف على فائت، أو ندم على ماض، أو استجلاب إلى حال ,أو داع إلى واجب، أو مناجاة بسر. وهي مقابلة الظاهر بالظاهر والباطن بالباطن ,والغيب بالغيب والسر بالسر ,واستخراج ما لك بما عليك مما سبق لك " .

ولا يمكننا تغافل ذكر أبي سعيد الخراز ونحن بصدد الإشارة عن شوارق التصوف الإسلامي وروافده الأصيلة، لاسيما وأنه صاحب الأسفار الكثيرة التي صقلت تجربته الروحية التي بدت أكثر عمقا خصوصا وأنه كان ملازما للاضطهاد الذي صوب سهامه القاضي الحنبلي غلام بن خليل للصوفية والتصوف، كما أنه كان معاصرا للإمام الجنيد الذي تعددت ألقابه بين طاووس الفقراء وسيد الطائفة وشيخ المشايخ، وأبو القاسم الجنيد هو أحد أعلام التصوف الإسلامي ويعد في ذاته منارة مضيئة للعقل والقلب معا، وهو الذي أوسع حديثه في نعت القاصدين إلى الله، فيقول الإمام الجنيد: " اعلموا معاشر القاصدين إلى الله تعالى أن العبد كلما قصد إلى الله تعالى ومواصلته وقربه فأول ما يجب عليه أن ينطلق بالسير على مركب المنطلقين إليه، ويبرز إلى محبوبه ويرتحل عن الكلية إليه بترك إرادة حظه من الدارين " وختاماً لحديث الواصلين حكي أن ذا النون رأى رجلا يبكي في سجوده وهو يقول: اللهم ارزقني رزقا حلالا واسعا وزوجني من حور العين في الجنة، فقال له ذو النون: يا مسكين في الدارين تبكي، تبكي في الدنيا للخبز وفي الآخرة تبكي على الحور العين، فمتى تتفرغ لمولاك .

 ونال أبو سعيد الخراز قسطا من التربية والتعلم على يد كبير الصوفية بشر بن الحارث الحافي، فنجده يكتب كتاب " الصدق " حيث شرح فيه معنى الصدق والإخلاص عند الصوفي، وأفاض في حديثه عن الوصل والواصلين، ومن شوارق ما خطه بيان الفرق بين الواصلين والمقربين ؛ فيقول عن أهل الوصل:

" واعلم أن الواصلين إلى الله عز وجل وأهل القرب منه، الذين قد ذاقوا طعم محبة الله تعالى بالحقيقة وظفروا بحظهم من مليكهم، فمن صفاتهم: أن الورع والزهد والصبر والإخلاص والصدق والتوكل والثقة والمحبة والشوق والأنس والأخلاق الجميلة، وما لم يكن يمكن أن يوصف من أخلاقهم، وما استوطنوه من البر والكرم فذلك كله معهم، وساكن في طبعهم، ومخفي في سرائرهم، لا يحسنون غيره؛ لأنه غذاؤهم وعادتهم؛ لأنهم فرضوا ذلك على أنفسه فرضًا، وعملوا فيه حتى ألقوه، فلم يكن عليهم بعد الوصول كلفة، في إتيانه والعمل به، إذا حل وقت كل حال؛ لأن ذلك غذاؤهم، كما ليس لهم في أداء الفرائض ثقل ولا علاج " .

ثم يتجاوز الخراز حد توصيف علامات الواصلين واقفا عند مقام القرب، وواصفا أحوال المقربين، قائلا: " قلت: متى يألف العبد أحكام مولاه، ويسكن في تدبيره واختياره؟، قال: الناس في هذا على مقامين؛ فافهم، فمن كان منهم إنما يألف أحكام مولاه؛ ليقوم بأمره الذي يوصل إلى ثوابه، فذلك حسن وبه خير كبير، إلا أن صاحبه يقوم ويقع، ويصبر مرة ويجزع أخرى، ويرضى ويسخط، ويعبر ويراجع الأمر؛ فذلك يؤديه إلى ثواب الله ورحمته، إلا أنه معنى في شدة ومكابدة، وإنما يألف العبد أحكام مولاه، ويستعذب بلواه، ويسكن في حسن تدبيره واختياره بالكلية بلا تلكؤ من نفسه، إذا كان العبد آلفًا لمولاه ولذكره، وهو له محبٌّ وادٌّ، وبه راض، وعنه راض، فهل يكون أيها السائل، على المحب مئونة فيما حكم عليه محبوبه؟ كيف؟ وإنما يتلقى ذلك بالسرور والنعيم. هكذا قال في الخبر: حتى بعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة".

 أما أبو بكر الشبلي الذي طلب منه الحلاج سجادته لكي يصلي عليها قبيل صلبه فهو يمثل إشراقة لطيفة من إشراقات التصوف الإسلامي الرائق، ومجمل تجربته الروحية الذاتية تدور في فلك المحبة، ولقد أوضحت تجربته مدى عمق تفكيره وتأويلاته المستمدة من صميم القرآن الكريم، ولقد شرح مناسك الحج متجاوزا الشكل الظاهري إلى تحقيق كنه العبادة والفريضة التي تجسد المحبة المطلقة لله تبارك وتعالى .وبه نختتم سطورنا بشعره حين قال:

باح مجنون عامر بهواه

وكتمت الهوى فمت بوجدي

فغذا كان في القيامة نودي:

من قتيل الهوى ؟ تقدمت وحدي .

***

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

ـ أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية (م).

كلية التربية ـ جامعة المنيا ـ مصر.

تعتبر حوليّات الرّاهب القرطمينيّ [ق 9م] من الحوليّات السّريانيّة القديمة الّتي أرخت للإسلام المبكر في فترة مبكرة جدّا، ويرى الباحث العمانيّ في الإسلام المبكر قيس البلوشيّ أنّ "دراسة الإسلام المبكر في الرّوايات السّريانيّة حاجة مهمّة؛ لأنّ السّريان من أكثر الأمم حينها كتابة وتوثيقا، واللّغة السّريانيّة هي لغة العلم والمعرفة في تلك الفترة، ومن أهم معارفهم الحوليّات السّريانيّة، وهي شبيهة بالمذكرات؛ لأنّها تكتب الحدث وفق التّقويم السّلوقيّ" أي نسبة إلى الإمبراطوريّة السّلوقيّة في العصر الهلنستيّ، والعديد من الكنائس الأرثذوكسيّة ومنها حتّى السّريانيّة – كهذه الحوليّات - تستخدم التّقويم اليونانيّ أو اليوليانيّ – نسبة إلى يوليو قيصر -، حتّى تطوّر اليوم إلى التّقويم الغريغوريّ، الّذي نسميه بالتقويم الميلاديّ، فالسّريان يبدأون حوليّاتهم بالسّنة ثمّ ذكر الحدث الّذي وقع فيها، وهي طريقة سار عليها العديد من المؤرخين المسلمين أيضا في حوليّاتهم التّأريخيّة.

وهناك من المؤرخين السّريان الّذين سبقوا الرّاهب القرطمينيّ، وأرخوا للإسلام المبكر، مثل القسّ توماس أو توما القسّيس [ق 7م]، وهو معاصر للفتوحات الإسلاميّة، ومؤرخ الرّها يعقوب الرّهاويّ [ت 708م] من أشهر المؤرخين السّريان، بجانب حوليّة زيقونين في القرن السّابع الميلاديّ، وحوليّات خوزستان في القرن السّابع الميلاديّ أيضا.

وبطبيعة الحال ورد الإسلام المبكر في المصادر البيزنطيّة والأرمينيّة والقبطيّة واليهوديّة وغيرها، وتأتي أهميّتها في أربعة إشكالات تدرس اليوم، أولها هل يوجد شخصيّة تأريخيّة اسمها محمّد، أم تمّ اختراع ذلك لاحقا، والثّاني كيف نقرأ النّبيّ محمّد تأريخيّا بعيدا عن الجوانب اللّاهوتيّة، وينطبق مصاديق ذلك على حياته وسيرته وغزواته، ثمّ يتوسع إلى الإسلام المبكر في عهد الخلفاء والفتوحات، إلى الدّولتين الأمويّة والعبّاسيّة، والثّالث موقع الإسلام المبكر هل كان في مكّة والحجاز أم في موقع آخر، والرّابع تأثر المؤرخين المسلمين الّذي كتبوا تأريخهم وحوليّاتهم بالحوليّات المسيحيّة واليهوديّة، خاصّة فيما يتعلّق بالفتوحات، لكون بعضها شهود عيان، والعكس صحيح أيضا، مع مدى التّقابس في ذلك.

وتأتي أهميّة هذه المصادر لتجيب عن العديد من الأسئلة، بجانب تؤكد الحقائق الإسلاميّة أمام العديد من المشككين التّأريخيين في ذلك، مع معرفة ما يقوله الآخر، ونظرته إلى الإسلام المبكر، بجانب ما أشرنا إليه في قضيّة التّقابس والتّأثير، فمثلا ما طرحه الكاتب الكنديّ دان جيبسون في كتابه "القبلة الإسلاميّة المبكرة" من خلال مسحهه للمساجد الّتي بنيت بين القرن الأول الهجريّ [622م] وحتّى  263 هـ / 876 م، إذ يخلص أنّ المساجد في القرن الأول الهجريّ تتجه نحو البتراء عاصمة الأنباط في الأردن اليوم، وبدأ الاتّجاه إلى مكّة في القرن الثّاني الهجريّ، ومن ابتدع الاتّجاه إلى مكّة هو عبد الله ابن الزّبير [ت 73هـ]، والنّتيجة كما تلخص صفحة دراسات وأبحاث إسلاميّة معاصرة رأي دان جيبسون "أنّ الرّسول - صلّى الله عليه وسلّم - تلقى الوحي في البتراء، وأنّ قريش ربما كانوا سكان قرية اسمها خميمة تبعد 27 ميلا عن البتراء، وأنّ كلّ أحداث فجر الإسلام كانت في البتراء وليس في مكّة".

أمام هذا سنجد هذه الحوليّات تبطل هذه الرّؤية منذ فترة مبكرة جدّا، ولم تكتب تحت ضغط الزّبيريين أو الأمويين أو العباسيين، كما كانت خارج الخطّ اللّاهوتيّ الإسلاميّ، فيذكر المترجم السّريانيّ المعاصر بنيامين حدّاد عن بعض المصادر السّريانيّة أنّه في "السّنة 993ي (622م) السّنة الأولى للهجرة، فيها ابتدى ملك العرب [أي محمّد]، الجمعة 16 تمّوز من التّأريخ المذكور فيها هاجر محمّد عبد الله نبي المسلمين ، وأول ملوكهم، إلى مدينة بثرب، وملكها الاثنين الثّامن من شهر ربيع الأول، يوم الثّلاثاء الخامس  من تمّوز 635ي (624م) خرج النّبيّ محمّد لمحاربة بني قريش في موضع بدر، وانتصر محمّد، وكان عدد أصحابه 312 رجلا".

وتثبت حوليّات الرّاهب القرطمينيّ شخصيّة النّبيّ محمّد – عليه السّلام -، إذ يقول: "وفي سنة 923 يونانيّة [611م] ظهر محمّد كأول ملك للعرب، وذبح وقدّم الضّحيّة الأولى، وأطعم العرب على غير عوائدهم، ومنذ ذلك الحين ابتدأ حساب السّنين لديهم".

وإذا جئنا إلى حوليّات الرّاهب القرطمينيّ لمنصور بن مرزوق الباسبرينيّ (ق 9م)ّ، والّتي عثر عليها البرطريرك أفرام برصوم بطريرك أنطاكية للكنيسة السّريانيّة الأرثوذكسيّة [ت 1957م] "في خزانة للكتب تابعة للكنيسة السّريانيّة الأنطاكيّة في قرية (بسبرينا) في منطقة طور عبدين" عام 1911م، والمخطوط "يعود إلى القرن التّاسع الميلاديّ"،  وقد ترجم بنيامين حدّاد المخطوط إلى العربيّة، ونشره المركز الأكاديميّ للأبحاث في العراق.

تبدأ هذه الحوليّات بسنة ثلاثمائة وثمانيّة يونانيّة وفيها "تجسّد المسيح، وولد في سنة ثلاثمائة وتسعة (ــــــــــ2م)، وصلب في سنة ثلاثمائة و.........."، وتننهي بسنة 1130 يونانيّة (819م) وفيها "رسم مار ديونيسيوس بطريركا، وهو من دير قنسرين، وذلك في مدينة قالينيقوس ...".

وبالنّسبة إلى الإسلام المبكر فتبدأ الحوليّات من سنة 923م يونانيّة [611م] بظهور محمّد كأول ملك للعرب، ثمّ تؤرخ لوفاته عام 942 يونانيّة [631م]، ولا تشير إلى شيئ من حياته أو غزواته، وإنّما تدخل في مرحلة الخلفاء الرّاشدين من بعده،  "وملك بعده أبو بكر ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، وفي سنة 954م يونانيّة [634م] مات أبو بكر، ومللك بعده عمر بن الخطّاب إحدى عشر سنة ... وفي السّنة ذاتها دخل العرب سوريا واحتلوا دمشق، وفي سنة 947م يونانيّة [636م] نشبت حرب بين الرّوم والعرب على نهر اليرموك، واندحر الرّوم اندحارا كليّا، واحتل عمر جميع مدن بين النّهرين، وأول رئيس منهم دخل الرّها كان اسمه أبو بادر، وهو الّذي دارا وآمد (ديار بكر) وتالا ورأس العين أيضا .....  وفي سنة 954م يونانيّة [644م] قتل عمر الملك وهو يصلّي من قبل عبد هنديّ كان مملوكا لرجل قرشيّ، وخلفه عثمان بن عفّان، وحكم إحدى عشر سنة ونصف السّنة ... وفي سنة 967م يونانيّة [656م] قتل عثمان، وظلّ العرب بدون ملك ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، وكان يتولى أمر العرب في الغرب معاوية بن أبي سفيان، وفي الشّرق كان يتولى أمرهم عليّ بن أخطب" أي عليّ بن أبي طالب.

ثمّ بدأت الحوليات الحديث عن الدّولة الأمويّة من سنة 971م يونانيّة [660م]، وفيها "قتل عليّ، وملك معاوية عشرين سنة، وعقد صلحا مع الرّوم، وأوفد إلى بلادهم القائد عبد الرّحمن الّذي مكث هناك سنتين" وهذا مع تسلل من جاء بعده مع ذكر الأعوام والمدّة، ابتداء من ابن معاوية يزيد، ثمّ مروان، ولم يذكر معاوية بن يزيد لأنّ خلافته كانت من أربعين يوما إلى ثلاثة أشهر، ثمّ ابن مروان عبد الملك، ثمّ بعده ابنه وليد ووصفه بقوله: "وكان رجلا داهية، فاق من سبقه في الاضطهاد، وجمع الضّرائب، ومارس التّضييق على النّاس، وقطع دابر اللّصوص وقطّاع الطّرق، وبنى مدينة وسماها عين كارا"، ثمّ أخوه سليمان، ثمّ ابن عمّه عمر بن عبد العزيز بن مروان، ووصفه "وكان رجلا صالحا، وملكا رحوما أكثر من كلّ الملوك الّذين سبقوه"، ثمّ بعده يزيد [بن عتبة] بن عبد الملك، ثمّ بعده أخوه هشام بن عبد الملك، ووصفه "فاق أسلافه في إعمار البلاد، والاهتمام بالزّراعة وتربية الحيوانات، خلال فترة حكمه، وقام بشق ناظم من الفرات لسقي الأغراس والزّروع الّتي زرعت على جانبيه"، ثمّ بعده ابن أخيه الوليد بن يزيد، ووصفه "كان فارسا باسلا، من هواة الصّيد والقنص، محبّا للخمرة ولمجالس اللّهو والطّرب"، ثمّ بعده مروان بن محمّد، ولم يذكر يزيد وإبراهيم ابني الوليد، وذلك لأنّ الأول لم يدم حكمه أكثر من ستة أشهر على ضعف، والثّاني لم يحكم عدا دمشق، ووصف مروان "وكان هذا رجلا صارما قاسيا على العرب، وقد علّق وقتل منهم كثيرين في مدن سوريا".

ثمّ تدخل الحوليات في الدّولة العبّاسيّة مبتدأة بعبد الله بن محمّد، ووصفه بأنّه "أمر بتهديم أسوار المدن في سوريا"، ومن بعده أخوه عبد الله [الثّاني] بن محمّد [أبو جعفر المنصور]، ووصفه "في بداية حكمه قامت حرب طاحنة بين العرب والفرس، وانتشرت الفتنة والفاقة في سوريا، وأذاق هذا الملك أبناء الشّعب الأهوال والشّدائد، وفاق بقسوته جميع من سبقه من الملوك، فقد ضاعف الضّرائب"، ثمّ بعده ابنه المهديّ، ومن بعده ابنه موسى (الهادي)، ثمّ أخوه هارون (الرّشيد)، ثمّ ابنه محمّد (الأمين)، ثمّ أخوه عبد الله المأمون، "وظلّت بلاد سوريا كلّها بلا ملك فترة خمس عشرة سنة".

ومن الأمور المهمّة الّتي أرختها الحوليّات عن الدّولة الأمويّة القابلة للنّقد والمقارنة مع التّراث العربيّ والإسلاميّ أنّ عبد الملك بن مروان "عقد صلحا مع الرّوم دام ثلاثة أعوام، وكان يبعث لهم لدولة الرّوم خراجا قدره ألف دينار، وحصانا عربيّا كلّ يوم"، "وفي سنة 1008م يونانيّة [697م] سكّ العرب النّقود، وكانت خالية من الصّور، ومقتصرة على الكتابة"، "وفي سنة 1015م يونانيّة [704م] دخل عبد الله بن عبد الملك بجيش كبير، وسخّر عمّالا ماهرين، وبنى مصيصا الّتي في بلاد قيليقيا، وفي السّنة ذاتها صدر أمر، وبموجبه قتلت كلّ الخنازير"،  وفي عهد وليد بن عبد الملك سنة 1019م يونانيّة [708م] "غرق في نهر الفرات شبيب الحروريّ [شبيب بن يزيد الشّيبانيّ من زعماء الخوارج]، الفارس المعروف، والجنديّ البطل"، "وفي سنة 1021م يونانيّة [710م] غادر محمّد بن مروان الجزيرة، وحلّ محلّه مسلم بن عبد الملك، فجمع هذا عساكره، ودخل بلاد الرّوم، واحتل مدنا منها: طرندا وموسيا وموسسطيا، ودكّ حصونها، وأعمل فيها الخراب، وأخذ كلّ من فيها سبايا، وفي  سنة 1022م يونانيّة [711م] أوفد مسلمة حكّاما إلى كلّ أنحاء الجزيرة، فقاموا بمسح الأراضيّ، واحصوا الكروم والأغراس والدّواب والنّاس، وعلّقوا أختاما من الرّصاص في أعناق كلّ النّاس"، "وفي  سنة 1027م يونانيّة [716م] جمع سليمان [بن عبد الملك] القوات، فنزلوا البحر، وحلّوا في آسيا، واحتلوا مدينتي ساردي وفوركما، وحصونا أخرى، وقتلوا وساقوا الأهالي سبايا، وأمّا النّصارى هناك فقد أجلو وأخرجوا من هناك في أمان، وفي  سنة 1028م يونانيّة [717م] عاد سليمان، فجمع قواته في مرج دابق، وأرسل جيشا كبيرا تحت أمرة القائد عبيدة إلى بلاد الرّوم، فدخلوها، وحلّوا في بلاد تراقيا، ودخل عبيدة بلاد بورغار وغيرها أيضا، فشدّ عليه الملك الرّومانيّ الدّاهية لاون الحصار، حتّى اضطر عسكره إلى أكل لحوم وفضلات دوابهم"، وفي عهد يزيد بن عبد الملك "أمر باستئصال وتحطيم كلّ تماثيل النّحاس والخشب والحجر، وبإتلاف كلّ الرّسوم المعمولة بالألوان"، "وفي  سنة 1033م يونانيّة [722م] أرسل ضحاك [ضحاك بن قيس الحروريّ] .... قاموا باكتتاب السّكان كبارا وصغارا حتّى وليد يومه ... كما عمدوا إلى قصّ شعور الكثيريين، وخاصّة الّذين ثبت أنّ ديدنهم الكذب"، "وفي  سنة 1037م يونانيّة [726م] غزا مسلمة [بن عبد الملك] بلاد الرّوم، واحتلّ ناوقسريا بنطس وخرّبها، ونهب بلاد سوريا، وفي  سنة 1039م يونانيّة [728م] حمل مسلمة على بلاد التّرك، فواجهته قوّة كبيرة ردّت قواته على أعقابها، وقام بجمع عمّال يجيدون نقر الحجر ونجارين، وأعاد الكرة على بلاد التّرك فانتصر، وبنى في بلد التّرك الحصون والمدن الكثيرة".

الملحظ في هذه الحوليّات رغم معاصرتها للدّولة العبّاسيّة إلا أنّها تقتضب الحديث حولها، كما أنّها تعمّق الجانب السّلبيّ خلاف الدّولة الأمويّة، لما تعرّض له المسيحيون – فيما يبدو - من اضطهاد كبير في الدّولة العبّاسيّة مقارنة بالدّولة الأمويّة، كما تشير الحوليّات ذاتها إلى بعض الجوانب السّلبيّة في هذا، كالّذي ما فعله موسى بن مصعب اليهوديّ عندما تولى إمارة الجزيرة والموصل من إبادة واضطهاد للمسيحيين، بيد أنّ الباحث الأمريكيّ سيدني غريفث حاول الإجابة عن سرّ التّناقص في كتابه "المؤسّسات الكنسيّة تحت حكم الإسلام" رابطا بين التّناقص والحروب الصّليبيّة لاحقا، مع الإشارة إلى حالة ذلك في الإسلام المبكر بما فيها الدّولة العبّاسيّة أيضا.

***

بدر العبري - عُمان

كاتب وباحث

قضية ساخنة: عزوف الشباب عن الزواج

أغلب شباب اليوم، ذكورا وإناثا يعزفون عن الزواج، ومرد العزوف هو تغيّر إيقاع الحياة بشكل كامل، فضلا عن أسباب أساسية نوردها على النحو الآتي:

1- شخصية: منها قد يكون بعض الشباب مصابين بعقدة دونية الذات، وعدم كفاءتها لخوض تجربة الزواج التي تبدو لهم أنها ليست سهلة، وليس لديهم الاستعداد الذاتي لخوض التجربة. ومنها الشروط المُبالغ بها اللازم توفرها في الشريك؛ منها الجمال، مشاعر الحب، الثقافة، كمال الخُلق والأدب، الخبرة في إدارة المنزل، وغيرها؛ وهذه الشروط يختص بها الشباب الذكور. أما الشروط المختصة بالأناث؛ فهي وجوب توفّر الشريك على الشعور العالي بالمسؤولية، والاهتمام، والرعاية، والتكافؤ الطبقي، والتعليمي، والاقتصادي.

ومنها الرغبة في الحفاظ على حقهم في الحرية الكاملة؛ لأن الزواج يحد من حرياتهم، والهروب من روتين ورتابة الحياة الزوجية يُعد بالنسبة لهم الحل الأمثل. والرغبة في تحقيق الطموحات والأمنيات عبر مواصلة مشوار الدراسة، والحصول على الشهادات العليا، وتحقيق الاكتفاء المادي الذاتي. ومنها ردود الفعل السلبية إزاء الزواج إثر المرور بعلاقة، أو علاقات متعددة سابقة سبّبت الكثير من المتاعب النفسية والجسدية للشباب؛ فيعزفون عن الدخول في علاقات جديدة؛ تجنّبا لتكرار التجارب السابقة التي ربما تنتهي إلى ما انتهت اليه سابقاتها. والخوف من الطلاق عند الإناث أعلى منه عند الذكور؛ لان وتيرة الطلاق في مجتمعاتنا العربية مرتفعة وأسبابها كثيرة، لذا لا تحبّذ الفتاة الدخول في تجربة الزواج حتى لا ينتهي بها المطاف إلى الطلاق. في المجتمعات العربية حالات الطلاق في ارتفاع؛ ففي المجتمع العراقي تحدث تسع حالات طلاق في كل ساعة بواقع مائتي وإحدى عشرة حالة في اليوم[1].

2- اقتصادية: على رأسها غلاء المهور، وعدم الرغبة في تحمل المسؤولية الاقتصادية، وأعباء المعيشة التي ترهق وتثقل كاهل الشباب سيما الحياة الحاضرة فيها الوفرة والكثرة المادية بكل شيء؛ وقد لا يستطيع الشباب إيفاء متطلبات، وحقوق الحياة الزوجية الاقتصادية بسبب غلاء المعيشة، وارتفاع الأسعار. ومنها أيضا عدم توفّر فرص العمل، والوظيفة.

3- اجتماعية: ومنها اعتقاد الشباب بعدم وجود نظراء لهم أكفّاء على مختلف المستويات الشخصية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية.

4- التطور التكنولوجي: سبب جديد لعزوف الشباب عن الزواج. ثورة تكنولوجيا المعلومات أحدثت تطورا كبيرا على وسائل وقنوات التواصل الاجتماعي، فصار جيل اليوم جيلا ألكترونيا، والحياة الألكترونية انزلاقية سريعة مسخت القيم الجميلة، وفضائل المثل والأخلاق، وأدّت إلى إنفلات اجتماعي مرعب وهائل، وأذهبت جمال الحياة وصفوها، وبراءتها، وعفويتها، وأضحى الإنسان كائنا مستهلكا.

كيف يختار الشاب شريكة العمر وهي بين يديه بكل ألوانها؟

وهي سهلة لأن لا قيود معها في مسؤولية حياتية طويلة الأمد تستنزف المال والجسد. وجود المرأة الآن في الحياة وجود مشاع فوضوي حتى أكثر من الرجل، لدرجة أن حضورها الصاخب في كل مكان يُحدث تشويشا عند الشاب فيحتار من يختار، ومن يترك، وإذا اختار ربما تحصل غيرها أفضل. وجلّهم يعللّون عزوفهم عن الزواج بانفتاح الحياة، وتعدد الخيارات في العلاقات المتعددة، والمؤقتة العابرة.

هذا بالنسبة للشاب غير الملتزم بدين وشريعة، اما الملتزم فلديه حيل وحجج شرعية كثيرة.

الشباب المولع بالجسد لا يصلح للزواج لأن الزواج ليس عملية مادية ميكانيكية تُمارس وتنتهي، إنما هي مسؤولية معنوية تنطوي على الأخلاق، والقيم، والمثل، والاعتبارات التي لا يجب الزيغ عنها، والمسؤولية المعنوية هي بنظر المهووسين بالجسد قيود وسجون ينبغي التحرّر منها. وهذا تفسير ينم عن جهل، وجهل مركب؛ وهو اليوم تفسير الكثيرين العاجزين عن التمسك بكل متطلبات الحب، والزواج الواعي.

التقيتُ بعض الشباب والشابات العراقيين كلًا على انفراد، وسألتهم:

لماذا لا تتزوجون؟

الشباب كان جوابهم واحدا: انتهى زمانكم خالتنا، الزمان تبدّل، وبنات الزمان لا يحملن خصالكن، هن جيل الانترنيت والمعلومة الخاطفة، لذا فالعلاقة معهن أيضا زئبقية، سرعان ما تنزلق وتُستبدل. وصعوبات المعيشة، وغلاء المهور، وعدم الحصول على مرتب وظيفي، وأسباب اجتماعية كثيرة، وعدم التكافؤ في المستوى الطبقي، أو التعليمي، مثالها قد يتزوج شاب متعلم تعليما عاليا من فتاة أدنى منه مستوى أو أمّية، وغيرها أيضا هي من أسباب عزوفنا عن الزواج.

ونفس الجواب أدلت به الشابات: وأولاد الزمان خالتنا ليسوا مثل أجدادنا وآبائنا؛ هم ليسوا أوفياء بسبب الحياة الألكترونية التي مسخت القيم. بعد عام من الزواج يخون الزوج، ونكون نحن ضحايا في مجتمع لا يرحم المرأة، ويرحم الرجل، فمجتمعنا ذكوري. وعدم التكافؤ  في المستوى الاقتصادي، أو الثقافي، أو الاجتماعي. الزواج ليس واجبا حتى نسقطه؛ أو نرضي المجتمع، هو شراكة حياتية طويلة. تتزوج الفتاة المتعلمة تعليما عاليا من شاب أدنى منها في المستوى التعليمي، وقد تتزوج من شاب غير كفوء ماديا، وغيرها الكثير من أسباب عزوفنا عن الزواج.

هذه مفردتان، والمفردات كثيرة في وطن كالعراق الذي عانى من الحروب الخارجية والداخلية، وما حملت من تداعيات على الصعيد السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والثقافي، وانجرت  بدورها على مستقبل الزواج. ليس تشاؤما لكن الوضع الذي وصل اليه مجتمعنا سيبتلع مستقبل الأجيال القادمة -أعني جيل الأحفاد- الذي ربما لا يكون للزواج الدائم موقع في حياتهم الاّ العلاقات المؤقتة العابرة التي تختصر كل معوقات الزواج والارتباط الجدي، كأني أرى ذلك جليّا، الاّ ما ندر فيهم.

على ضوء ما ذكرنا فإن مسؤولية عزوف الشباب عن الزواج تقع على عاتق المجتمع أولا، إذ لابد أن يغيّر من أنماط عاداته وتقاليده واعتباراته، فما لم يتساهل الأهالي في تذليل معوقات الزواج كالشروط القاسية؛ ومنها غلاء المهور، والتحكّم بشؤون الإبن والبنت؛ والتزمّت بالتقاليد والعادات القديمة؛ فإن قضية زواج الأبناء تبقى صعبة غير متحققة. وعلى عاتق الدولة ثانيا إذ لابد أن تهيئ فرص عمل للشباب والشابات، ومنحهم قروضا لتسهيل الزواج. وعلى عاتق الشباب ثالثا؛ فإذا ما لم يحدّوا ويغيّروا من نمط اهتماماتهم؛ فإن حياتهم العاطفية وصحتهم الجسدية والنفسية مهددتان بالخطر والانهيار، وسيكون مستقبل مجتمعاتنا في منزلق خطير، وإذا استطاع من ترويض نفسه، واستيعاب المتغيرات الهائلة في إيقاع الحياة، واستطاع التأقلم معها ربما سينجح في إدارة دفة العلاقات المشتركة إذا تمتع برصيد عال من الحكمة، والذكاء العاطفي والإجتماعي. وعلى عاتق الباحثين في علم النفس والاجتماع رابعا، إذ لابد من أخذ قضية عزوف الشباب عن الزواج بدقة وجد ودراسة أسبابها، ووضع الحلول المناسبة، لأخذ الشباب ذكورا وإناثا على جادة الصواب، حتى يمكنهم ولوج عتبة الزواج دون خوف، ووجل بل بكل ثقة، واستعداد ذاتي، فالزواج يحقق الاستقرار، والأمان الجسدي، والنفسي، والعاطفي.

الانهيار المهول للعلاقة الزوجية في الوقت الحاضر

جيل القدماء أجدادا، وآباء، وأمهات حياتهم كانت بطيئة الإيقاع، لذلك تمتع جيلهم بمعاني القيم الجميلة، وفضائل المثل، وأصالة الأخلاق. وقد تمتعوا بكل فصول الحب ربيعا، وصيفا، وخريفا، وشتاء.

كان الانفصال بين الزوجين في زمن مضى ليس سهلا وإذا حدث فله أسبابه؛ منها عدم التوافق بالحب والاهتمام والتقدير، أو عدم التحلي بالحكمة والتروي في حل المشاكل الزوجية التي تنتج عن التقصير في أداء الحقوق الزوجية والعائلية المادية، أو صدور أفعال وسلوكيات غير سوية من قبل الزوجين، أو أحدهما؛ من قبيل سوء الخلق، أو العنف الجسدي والرمزي، أو عدم الإنجاب، أو مرض أحد الزوجين.

إذا كان زواج الجيل السابق مستقرا فإن الفضل يعود إلى أنهم لم يشهدوا عصر التطور التقني، والانفجار العلمي والمعرفي الذي أدى بالعالم أن يكون قرية صغيرة مرئية على شاشة بنفسجية سهلة الحمل بمختلف قنوات الاتصال، وتقدّم بشكل جاهز ألوان واشكال المغريات والبدائل الكثيرة للشركاء بشكل جاهز آني، ولحظي انزلاقي. وإن وجدت البدائل سابقا فهي قليلة لا ترقى إلى ما نراه اليوم من تعدد لا عدّ له، ولا حدّ. الزواج مستقرا كان، وكونه مستقرا؛ فإن هرمونات الجسم عند كلا الجنسين مستقرة أيضا لا يحرّكها أي مثير خارجي، كذلك لا تتشابك أو تختلط أنيما الرجل مع هرمونات جسده وما يريده، وأنيموس المرأة وهرمونات جسدها وما تريده.

سابقا إذا ما أقدم الرجل على الارتباط بإمرأة أخرى حسب الشرع أو العرف؛ فإنه قد يواجه خللا هرمونيا، بسبب عامل التقدم في العمر- مثلا؛ لكن اليوم وبسبب التغيير الحاصل، وسطو الانترنيت تعددت الخيارات لدى الجنسين. هما متواجدان في كل مجال واقعي، أو افتراضي، خاصة الرجل الذي مُنح امتيازات دينية، أو عرفية اجتماعية، أو حتى تخطى العرف الاجتماعي في هذه الأجواء في اختيار ما شاء له من النساء، إذ تنفجر عنده العقد التي خلّفها عزل المرأة عنه عقودا من الزمن، أو عدم ارتباطه بالمرأة في فترة مراهقته؛ فتحدث الخيانة، أو تتعدد الخيانات -كما يسميها علم النفس- وتتسبب الخيانة أو الخيانات المتعددة بكسر قدسية العلاقة فيما إذا اكتشفت من قبل أحد الزوجين، وربما تؤدي إلى انهيار العلاقة، أو الإبقاء عليها بشكل صوري ظاهري؛ فيما يسميها الدين والعرف الاجتماعي زواجا مؤقتا متعددا، أو دائما متعددا. وتُعتبر الأنانية هنا اللاعب الأكبر في الخيانة حيث يرى أحد الطرفين نفسه بأنه مهمّ، وأنه يستحق الأفضل والأحسن على الدوام، في حين يرى الطرف الآخر في درجة أدنى منه، فضلا عن الحق الشرعي الديني الممنوح له.

جيل اليوم لا يتمتع بفصول الحب الأربعة التي أوردناها، إنما حياتهم اللحظية الانسيابية السريعة لا تسمح بالمرور في كل فصول الحب، والفصول لديهم متشابكة. لا يسود حياتهم التأمل، والنظر البعيد والعميق، والتفكير الطويل والمراجعة. لذا يقعون في تخبط شديد عند وقوعهم في الحب؛ لأن خياراتهم غير ثابتة، ومتأرجحة، وغير متوازنة. في بعض الحالات حتى في نجاح الاختيار والارتباط يفترق الشريكان؛ لأن الملل والرتابة تدب إلى حياتهما، وينفصلان عن بعضهما بحجة تجديد الشريك، وهذه الحجة عادة عند أغلب الرجال.

نمط الحياة الجديد يدعو الناس إلى المزيد من الاستهلاك لتذهب عنهم لذة التأمل، والاستمتاع بلحظات الحب. وإيقاع الحياة غدا سريعا فأحدث تراكما في المسؤوليات التي يحتار كل من الشريكين بأيّها يفي، ولا يسمح لهما بالجلوس، والبحث، والحوار، وتداول الأمور الزوجية التي تخص العلاقة الثنائية.

وبسبب فوضوية السلوك الذكري فإن الأنثى أيضا أصيبت بتشوّه في المظهر الخارجي، وفي الطباع، والسلوك؛ فغشيتها عشوائية، وضبابية في الرؤية والنظر للرجل، والتعاطي معه، فلا الرجل يفهم المرأة، ولا المرأة تفهمه وسط هذه الفوضى العارمة.

العلاقة الزوجية عند جيل اليوم ينتابها الانهيار السريع سببه الأساس هو حدوث خلل في هرمونات الجسم عن كلا الجنسين؛ بسبب تعدد الخيارات الذي بدوره يسبب عدم توازن في الهرمونات، خاصة هرمون الدوبامين المسبب للنشوة والسعادة لدى الشباب، فبمجرد هبوط نسبته في الدم، يلجأ الشاب الى التخلص من الشريك السابق، والارتباط بشريك جديد فيرتفع الهرمون في جسمه، ويبقيه على الدوام في فضاء الانبهار والبهجة. وهذا ما يحققه العالم الافتراضي، ناهيك عن العالم الحقيقي الخارجي.

عند جيل اليوم تعدّدُ المغريات والخيارات بلا حدود في شبكات التواصل الاجتماعي يساهم في حالة تأرجح الهرمونات؛ فتكون بين حالات الارتفاع والهبوط السريع والمتعاقب أولا، وعدم وضوح صورة الأنيما والأنيموس الكامنين في اللاوعي، أو تشابك الأنيما وذاتها الظاهرية، والأنيموس وذاتها الظاهرية ثانيا، وعدم التريث والتأمّل في العلاقة العاطفية قبل وقوع العلاقة الجسدية، عبر المعاشرة لأشهر، والوصول إلى مرحلة النضوج الكلي للارتباط، أو عدمه ثالثا.

وجود كلا الجنسين بات مباحا بإسراف في كل قنوات التواصل الاجتماعي وغيرها، الذي يضجّ بكل المغريات على مختلف الصُعُد. وإذا أردنا تحكيم العقل لا الشرع فإن خطيئة الانفتاح غير المنضبط هي واحدة، الخطيئة عاقبتها واحدة أيضا على كل من الرجل، والمرأة. لكن يبقى على الطرفين تحديد كيفية حضوره في الفضاء الواقعي، والافتراضي. فمن كان رقيبه ضميره فإنه يحضر باحترام، واتزان، وممانعة، حتى لا يحدث ما لا تحمد عقباه (وكل يعطي ما عنده).

الاستخدام المفرط لقنوات التواصل الاجتماعي له مردوداته السلبية على العلاقات الزوجية. اليوم يسود الصمت العاطفي، أو الطلاق العاطفي بين الزوجين سببه برود المشاعر، فضلا عن هموم، ومشاغل الحياة الحديثة وتعقيداتها. وتتصاعد وتيرة الطلاق كل يوم، بسبب وجود البدائل المغرية؛ فتحدث الخيانات الزوجية. في الآونة الأخيرة "كشفت إحصاءات اجتماعية خلال السنوات العشر الماضية ارتفاع حالات الطلاق والخلافات الزوجية أمام محاكم الأسرة، وأوضح قانونيون أن أسباب عديدة تقف وراء تفاقم مشكلات الطلاق والخلافات الاجتماعية في مقدمتها مواقع التواصل التي تسببت في فضح خصوصيات الحياة الزوجية، ونشرت كثيرا من المشكلات بين طرفي العلاقة الزوجية بدوافع الانتقام، أو التشفي، أو التشهير، أو الإيذاء، كل هذا كان سببا في الطلاق وكثرته"[2].

المكوث طويلا في العالم الافتراضي والاستخدام غير الرشيد، وغير المتزن لمنصات التواصل الاجتماعي في الشبكة العنكبوتية يُعد العامل الأساس في الوقت الحاضر لانهيار العلاقة الزوجية، أو برود المشاعر بين الشريكين؛ وقلة، أو انعدام الجلوس مع الأسرة، وضعف التواصل بين أفراد الأسرة لانشغال كل بجهازه الخاص؛ فضلا عن الأضرار الأخرى التي يخلّفها المكوث الطويل في العالم الافتراضي التي منها مشاكل تنعكس على الصحة الجسدية، والنفسية، والعقلية؛ مثل الشعور بالإرهاق، والضعف، وارتفاع ضغط الدم، والاكتئاب، والقلق، وتشتت الفكر، والأرق، وقلة الإنتاج في كل مجالات العمل، وقد يؤدي الى فقدان الذاكرة المبكر.

"وجد باحثون في دراسة أجريت في جامعة الأمير سطام بن عبد العزيز في المملكة العربية السعودية عام 2021 أن أكثر من نصف المشاركين(59%) الذي بلغ عددهم 300 أفادوا أن الاستخدام الطويل لوسائل التواصل الاجتماعي أثّر في تفاعلاتهم الاجتماعية في العلاقات الأسرية والصداقات، وجعل التواصل وجها لوجه أصعب"[3].

كما أن للشبكة العنكبوتية إيجابياتها كذلك لها سلبياتها لمن لا يحسن استخدامها. المواقع الافتراضية تقدّم صورا وألوانا مختلفة للشركاء رجالا ونساء خاصة إذا كان الوقت الذي يمضونه طويلا مع العالم الافتراضي. وقد يقدم الشركاء لأنفسهم صورا مغرية للطرف الآخر لغرض الإعجاب والإغراء والارتباط؛ وهذا الفخ غالبا ما يقع فيه الرجال؛ لأن الرجل مخلوق بصري يهمّه النظر والاستمتاع بالجمال. النظر وهيمنة غريزة الاستحواذ بالأنثى لدى الرجل؛ هي الصفة الغالبة، والمستثنى هو رجل شاذ ولا ينطوي على الرجولة الحقيقية اذا لم يعدد الخيارات- حسب رأي أغلب الرجال، وهي حالة عامة. قصد الرجل من النظر هو البقاء في حالة الانبهار والانجذاب الدائم لجنس الأنثى كونه كائنا ظاهريا همه النظر، والمرأة كائنا حسيا عاطفيا همها الكلام الجميل، والاهتمام، والعناية.

ما أحوج مجتمعاتنا اليوم الى دراسات علمية رصينة من متخصصي علم المجتمع، والنفس، والعلاقات الأسرية والعاطفية حول الاستخدام الصحيح لوسائل التواصل الاجتماعي، وترشيد العلاقات الزوجية، والأسرية، والاجتماعية.

لعل أهم عامل يرتقي بالعلاقة الزوجية، ويحميها من الانهيار هو التخلص من الأنانية والانطواء على الذات المفرط، وتحريرها من آصار الرغبات والشهوات المفتوحة؛ هذا أولا، وترشيد استخدام منصات التواصل الاجتماعي، بتخصيص وقت محدد لها ثانيا. ويبدو الخلاص من سطوة الذات وأنانيتها، صعب التحقق عند أغلب الناس. التخلّص من الأنانية والتمحور حول الذات يمكّنان الوصول الى مرحلة الحب العميق الواعي، لا الإبحار في أمواج التيه في العالم الافتراضي، والواقعي.

نورد هنا مقولة جميلة لجلال الدين الرومي:

عندما يدفعك العالم كله للجثو على ركبتيك صلِّ، فأنت في الوضع المناسب للصلاة.

التوصيات والنتائج

بعد هذا الاستغراق الطويل في البحث حول العلاقة بين الرجل والمرأة نحن أمام ثلاثة أمور إن لم تكن أكثر هي:

1-عودة الحياة العاطفية بشكل جاد إلى مركز ثقلها الأول المتمثل بالفطرة والغريزة  الأولى، ونعني بها عودة الرجل إلى ذكورته ورجولته وخشونته؛ فالرجولة خُلقت لاحتضان المرأة وحمايتها ورعايتها، وعودة المرأة إلى أنوثتها ورقّتها؛ فالأنوثة خُلقت للعاطفة والنعومة والاحتضان والدفء. الذكورة والأنوثة كلاهما يتكاملان بالاجتماع. كل من الرجل والمرأة عليه أن يعي دوره الأساسي في الحياة؛ فالتشابك بين الدورين بسبب التطور ومسايرة الحياة ومتغيراتها أدى إلى أن تكون الحياة المشتركة بين الزوجين هي أولى الضحايا.

2- التوفّر على المحبة والرحمة عند الرجل والمرأة على حد سواء؛ فالمحبة تشمل كل ألوان الحب، والرحمة أكثر شمولا فهي تستوعب المحبة، والتسامح، والإيثار، والاهتمام، وكرم المشاعر.

3- يقظة الضمائر الحية من المصلحين، ومتخصصي العلوم النفسية والاجتماعية لانقاذ العلاقات البشرية بوضع مناهج في كل المراحل الدراسية لتعليم الجيل فن العلاقات، وكيفية استثمارها في بناء العلاقة المشتركة المستقرة والمتزنة في المستقبل.

4- عقد المؤتمرات والندوات الخاصة بموضوع وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيرها على العلاقات الاجتماعية بشكل واسع؛ لمناقشة سبل ترشيد الاستفادة من قنوات التواصل الاجتماعي التي غطّت آثارها بشكل كبير العائلة؛ والعالم الافتراضي اليوم عامل أساس من عوامل التأثير على العلاقة بين الرجل والمرأة، ومن نتائجها انهيار العلاقات العائلية؛ حينما تنهار العائلة تنهار المجتمعات، فالمجتمعات هي مجموعة عوائل.

في خاتمة القول يمكن أن نصل الى نتائج ربما حتمية، أو وهمية؛ هي:

إذا لم تنجح السبل المتقدمة فإن الهندسة الوراثية قد تعود بالبشرية إلى سابق فطرتها؛ فتنتج كائنات بشرية معدّلة جينيا، متوفّرة على التوازن، والترشيد العاطفي والسلوكي، خالية من العقد، وقادرة على الحب بشكل عميق، ومتبصّر، وواعٍ.

وقد تنتج الهندسة الوراثية بدافع تنظيم وتحديد سكان الأرض كائنات بشرية مكتفية بذاتها، غير ميّالة إلى الحب والزواج. وأعتقد أن هذا سيكون قريب التحقّق ربما.

***

إنتزال الجبوري

....................

[1] الباسل، ميمونة. موقع العربي الجديد(9/8/2022).

[2]  حمشو، عمار. وسائل التواصل الاجتماعي وأثرها على الأسرة المسلمة. مجلة مقاربات التابعة للمجلس  الإسلامي السوري(العدد الثامن)(محرم 1442هـ/ أيلول 2020م).

[3]  موقع أنا أصدق العلم. حقل سايكولوجيا. (11 يوليو 2022).

 

 

جريمة التغيير في الاسلام تقع على عاتق المفسرين الذين خططوا مع الخلفاء الامويين والعباسيين والسلطويين لتدمير الدين الاسلامي الصحيح، دين محمد الأمين، وجعله حجج دينية باطلة للمعادين، نحن نكتب الى أهل العلم والمفكرين، لا الى الجهلة والمتعصبين، الذين جعلوا من انفسهم خدمة للمتسلطين، كل هذا أختصر في تفسير المفسرين للقرآن الكريم وهم بالمئات كل لهم راي يختلف عن الأخرين، ولا ندري اين هو الصحيح، التنزيل والانزال، والمذاهب الدينية الباطلة، نموذجا في التطبيق، والا هل يعقل ان المرتبطين بالدين الصحيح يكونوا بهذا المستوى من خيانة الوصايا العشر والايات الحدية والقوانين الآلهية من اجل المال والمنصب، وتناسي القسم واليمين، مستحيل؟

يعرف التنزيل القرآني بأنه عملية نقل موضوعي للنص المقدس من القادر القدير الى خارج الوعي الانساني، أي دون الأدراك الشخصي له، لان القدر وجود موضوعي وليس سلوك انساني،  بينما الأنزال هو عملية نقل المادة المنزلة، من غير المُدرك اي من الله تعالى الى المُدرك الأنسان، أي الى الرسل والأنبياء ، هنا يدخل الأنزال النصي ضمن المعرفة الانسانية لتداولها بين الناس، وبداية انتقالها كقوانين لضبط حياة الانسان في الأرض، لذا فالنص المنزل يعتبر قانون لا يجوز أختراقه بالمطلق، وخاصة النص في الوصايا العشر (الأنعام 151-153) والآيات الحدية، وايات الاحكام كما في قوله تعالى:"وأتلُ ما أوحيَ اليكَ من كتاب ربكَ لا مُبدل لكلماتهِ ولن تجد من دونهِ مُلتحدا، أي لا ملجأ الا اليه، الكهف 27"، حكمة آلهية مرتبطة بنصٍ مقدس غير قابل للتغيير، عملية قانونية بحتة لم يدركها المفسرون. لكنها مخترقة من قبل سلطة المسلمين دون اعتراض الفقهاء والمفسرين عليها عبر الزمن الطويل، وهنا وقعوا كلهم في خطأ التقدير.

هذا التوصيف النصي ينطبق على وجود الانزال والتنزيل لشيىء واحد بأوقات مختلفة مثل القرآن فقط"نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا، الانسان 23"، والماء "وأنزلنا من السماء ماءأً طهورا، الفرقان 48"، والملائكة "ولو أننا نزلنا أليهم الملائكة وكلمهم الموتى، الانعام 111".أما في حالة وجود أنزال دون تنزيل كما في حالة الحديد "وأنزلنا الحديد، الحديد 25"، واللباس " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يوارى سوءاتكم وريشاً، الأعراف 26"، والمن والسلوى "ونزلنا عليكم المن والسلوى طه 80"، فان الانزال هنا هو عملية أدراكية للأنسان المنزل عليه النص فقط "اي للمعرفة لا غير". أما التنزيل فهو لغير المدرك.

وحتى تكون هناك حالة أنزال منفصلة عن التنزيل في القرآن، يجب ان يكون للقرآن وجود قبل الانزال والتنزيل، "في لوح المحفوظ، البروج 22" في هذه الحالة تُنفى أسباب النزول وليس لها أي معنى في القرآن، لأن تنزيل النص المقدس على الأنبياء (ص) هو حتمي سئُل عنه أو لم يسئل، والانبياء المرسلين لا فرق بينهم بالمطلق، لذا من الخطأ الكبير ان تقول ان محمداً(ص) هو اشرف الأنبياء "تفسير فقهي خاطىء"، لأن الانبياء جميعهم في موضع القداسة والاحترام الآلهي، لذا قال الله عن الاشياء التي تخص مواضيع القرآن بالذات مثل الغيبيات "يا أيها الذين أمنوا لا تسئلوا عن أشياءٍ أن تٌبدَ لكم تسوءكم وان تسئلوا عنها حين يُنزل القرآن تُبدَ لكم عفا الله عنها، المائدة101"، ولم يقل أبداًعن الأشياء التي تخص الأحكام أو تفصيل الكتاب لا تسئلوا عنها، فالغيبيات ليس لأحد علاقة بها، لذا قال القرآن: "ولو كنت أعلم الغيب لأستكثرت من الخير وما مسني السوء، الأعراف 188"هناا كل ما يقوله المفسرون من معرفتهم ادراك الغيبيات بمجملها كعذابات القبر والمنايا وعودة الروح وعودة الامام الغائب، فهي مجرد وَهَم غير مُدرك، أي ابتكار منهم على الحدس والتخمين.

ويبرر ذلك بالسؤال عن الوجود للقرآن قبل الأنزال والتنزيل، وعن ماهية هذا الوجود، فأن كان كذلك فأن الله بالمقياس اللغوي والمعرفي هو عربي. وبما ان كلام الله مطلق لأنه هوعين الموجودات ونواميسها، لكنه لم يقل سبحانه وتعالى عن نفسه أنه متكلم. فالنواميس التي تحكم الوجود خُزنت في لوح محفوظ وفي كتاب مكنون وضعه في أعلى علوم التجريد، وأعلى هذه العلوم هي الرياضيات لذا قال (وأحصى كل شيء عددا، الجن 28)، فالأحصاء هو التعقل والعدد هو حال الاحصاء، هنا كان القرآن في اللوح المحفوظ صيغة غير مدركة، فحين أنزَله على النبي ليبشر به الناس جرت عليه عملية التغيير في الصيرورة التاريخية - الصيرورة هي صراع الأضداد وهي القانون الحتمي الذي يحكم الكون والانسان والآله-، اي جعلة مدركاً للنبي حين قال: (أنا جعلناهُ قرآناً عربياً لعلكم تعقلون، الزخرف3)، أي كان له وجود مسبق قبل أن يكون عربياً فجعله عربياًعند التنزيل، وهنا جرت عملية التغيير في الصيرورة لينقل الى المدرك. أي كان القرآن قبل الأنزال غير مدرك، فأصبح بعد الانزال مُدركاً، ولا أحد يعلم بأية لغةٍ كان مكتوباً". كذلك التوراة والانجيل مرت عليهما نفس الحالة ثم نُقلا الى اللغات المتعارف عليها في وقتها، محمد شحرور، الكتاب والقرآن ص147 وما بعدها.

أما نزوله في ليلة القدر، فقد أُنزلَ القرآن جملة واحدة وليس مفرقاً (أنا أنزلناه في ليلة القدر، سورةالقدر1) لكن هذا ليس معناه نزول القرآن الى الارض دفعة واحدة، بل نزوله الى السماء الدنيا (الذي خلق سبعَ سموات ٍ طباقاً، الُملك 3)، وتم اشهاره في ليلة القدر (ليلة القدر خير من ألف شهر، القدر3) فالشهر هنا معناه الاشهار الأعلامي وليس الشهر بمعناه الزمني، لأن القرآن نزل على النبي بواسطة جبريل (ع) خلال ثلاثة وعشرين سنة في مكة والمدينة منطوقا لا مخطوطا، اي غير ملموسٍ كما في قوله تعالى:(ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوهُ بأيديهم لقال الذين كفروا ان هذا الا سحر مبين (الانعام 7)، لذا قال الكفار لماذا لم ينزل القرآن دفعة واحدة فيرد القرآن عليهم بقوله: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا، الفرقان 32) اي جاء بصف ٍواحد على نسق معين، لأن الترتيل لا يقصد به التلاوة كما وردت خطئاً عند المفسرين، وأنما يقصد ابه التنسيق في الآيات القرآنية ليبعدعنها التداخل، ونحن بحاجة الى تنسيقه الآن، بعد ان تداخلت الآيات في سور مفرقة اثناء جمعه في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان (رض) أما الوصايا العشرفقد جاءت الى موسى منسوخة على الواح كما في قوله (ولما سكت عن موسى الغضب اخذ الالواح وفي نسختها هدىً ورحمة للذين هم لربهم يرهبون، الاعراف، 154)، فكلمة الألواح تعني القرطاس الذي نسخت فيه الوصايا، وهنا الفرق بين ان نزل على موسى(ع) مكتوبا وعلى محمد (ص) منطقوقا، فحصل التداخل.؟

وهناك جملة امور يجب مراجعتها في الانزال والتنزيل منها: الانزال والتنزيل في أم الكتاب "الرسالة التي جاء القرآن تصديقا ً"، وهنا لم يخصص سبحانه وتعالى آية خاصة لتنزيل الكتاب، حين قال: (تنزيلُ الكتاب من الله العزيز الحكيم، الزمر1) لأن خصوصية فصل الأنزال عن التنزيل جاءت للقرآن وحده دون بقية مواضيع الكتاب، ولذا خصها وذكرها صراحة لأنها من خصوصياته وخاصة التي لا تدخل في الحكام الشرعية كما في لباس المرأة وزوجات النبي والممنوعات كالخمروالميسر وهي تخضع لنظرية الاجتهاد الشخصي ماعدا الحدود والعبادات المُجتهد فيهامن قبل الرسول (ص). أما التنزيل للملائكة فيعني نقلة مادية موضوعية خارج الوعي الانساني كنقل الصوت والصورة معاً عن طريق الأمواج التي ترى بالعين وتسمع بالأذن لكنهالا تدخل ضمن المدركات.

هكذا كان تنزيل الملائكة تنزيلاً مادياً ولكن دون ان يراها أحد كقوله تعالى: (تَنَزلُ الملائكةُ والروحُ فيها بأذن ربِهم من كل أمر، القدر4). وكذلك الانزال والتنزيل في المن والسلوى، فقد حصلت النقلة خارج الوعي الانساني بأن جاءهم المَن والسلوى دون ان يعلموا ماهي، ولأي سبب نزلت لذا قطع قوله: (كُلُوامن طيباتِ ما رزقناكم) ولم يدرك بني اسرائيل هذا الانزال الا بعد أكله. أما الأنزال والتنزيل للماء، فأنه يعطي ظاهرة قابلة للأدراك وهي من المدركات بقوله تعالى: (ألم ترَ ان الله أنزل من السماء ماء فَسَلَكه ينابيع في الارض، الزمر 21)، وهذا يعني ان ظاهرة جريان الماء في الارض هي ظاهرة قابلة للادراك الانساني فعليك دراستها للاستفادة الحياتية منها، وهذا ما يسمى اليوم بالهيدرولوجيا.

أما الظواهر التي حصل فيها الانزال دون التنزيل كما في قوله تعالى(وأنزلنا الحديد)، وفي قوله يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً)، فالانزال هنا مرتبط بالوعي الانساني، فاذا كانت هناك ظاهرة في الطبيعة موجودة موضوعياً ولكن لا يدركها الانسان وحصل أنزال لها، فهذا يعني أنها أصبحت من المدركات.وهنا يكمن التعريف الأساسي لنظرية المعرفة الأنسانية في القرآن حيث أنها تتلخص في الأنزال، أي أنه بالنسبة للأنسان يسبق الوجود الادراكَ، والأنزال كما نعلم هو عملية ادراك الموجودات.

ان عدم فهم هذه الظواهر الربانية من قبل المفسرين وعشرات الآيات التي جاءت في اول السور على هيئة حروف متقطعة، والكلمات الاعجمية، ترك سوء فهم ٍفي الحدود والتعليمات، فلم يستطيعوا التفريق بين الرسالة والنبوة وبين الكتاب والقرآن، مماجعل الناس محتجزين في أفكارهم، ضيقي الافق، فضاع العقل وضاع مفهوم القضاء والقدر والحرية الانسانية ومفهوم العقاب والثواب والمسئولية، لذا جاءت هذه المفاهيم رمادية التفسير في الادبيات الاسلامية ولم تترك اثرا معمقاً في نفوسهم وأفكارهم وتطبيقاتهم العملية الى اليوم بعد ان تلاعب بها المفسرون، فظلت المجتمعات العربية والاسلامية في سجن حديدي لا تستطيع الفكاك منه مما ولد ويولد لنا كل السلبيات التي لم نستطيع التخلص منها، وأهمها سلبيات الأجباروهي الاوامر التي جاءت من المفسرين ولا علاقة لها بالنص المقدس كما في الراغب الاصفهاني والزمخشري.ولان السلف لم يفهموا الانزال لذا لم يُذكروا الفرق بين لفظتي أُنزلت ونُزلت لذا بقيت الامور عائمة دون تثبيت.

نعم، القرآن صالح لكل زمان ومكان، ولكن بفهم الأرضية المعرفية للذين يستخدمونه وليس على الحدس والتخمين، وهذا هوألأقرار الصحيح به، لكننا بقينا نعتقد بأعجازه دون فهم لواقع التحقيق، من كل هذا التصور المبهم في التفسير، تبين لنا بالدليل ان نظريات المذاهب الاسلامية كلها طارئة ولا علاقة لها بالأسلام الصحيح، ونظرية الأئمة الاثنا عشر من اهل البيت وزج اسم الامام علي في آذان الصلاة، كلها اجتهادات شخصية بلا دليل حيث لا نص فيها، من هذا فنحن نعيش اليوم باسلام غيراسلام محمد (ص) الصحيح، هذا الاسلام الفقهي الجديد الذي ولد لنا السلطة الغاشمة مقرونة بباطل المذهبية الكبير، حتى أصبح السيف بديلاً عن العقل والقلم في العقيدة والتطبيق، فوقعنا في خطأ التقدير،

***

د. عبد الجبار العبيدي

.......................

* انظر الكتاب والقرآن، للاستاذ الدكتور محمد شحرور

جعفر نجم نصرلعل العنوان أو المصطلح المركب يبدو متناقضاً بين العرفان الذي هو تجربة ذوقية روحية باطنية فردية خارج دائرة المجتمع وانشغالاته ومصطلح السياسة الذي يشير إلى عملية بشرية اداتية لأدارة السلطة وشؤون الدولة عموماً، وهو أمرٌ دنيوي صرف ولا شأن له بعالم الباطن أو عالم الاخرويات.

ان سبب هذه الصدمة أو التناقض الظاهري بين العرفان والسياسة هو السياق التاريخي الثقافي لكلا المسارين العرفان والسياسة في العالم الاسلامي، فلقد ترسخ على مدى قرون خلت أن هنالك انفصالا كليا بين التجربة الصوفية والعرفانية وبين شؤون الدولة أو العمل السياسي، ولعل هذا الامر يعزى إلى اعتقاد الكثير من الباحثين ان العرفاء والمتصوفة هم مشغولون بعالم الباطن الروحي وبالتالي فهم منصرفون كلياً عن الشأن السياسي، أو بعبارة أخرى ان العارف أو المتصوف هو زاهد في الدنيا برمتها وبذلك فهو غير معنى بالسياسة ومفاتنها وشهواتها وسياقاتها السلطوية على الناس.

وهذا الأمر مناف لكثير من الحقائق التاريخية والاصول الثقافية التي تبين لنا أن ظهور المتصوفة والعرفاء في داخل الاسلام انما جاء بوصفه رد فعل ضد السياسة واهلها من الخلفاء والامراء والوزراء وقادة جيشهم، بل ان فعل المعارضة بحد ذاته هو فعل المتصوفة والعرفاء على طول الخط إلّا بحالات شاذة هنا وهناك، إذ قال الكاتب هادي العلوي عن تلك المعارضة عندهم لم يستعمل مشايخنا (يقصد المتصوفة والعرفاء) هذا المصطلح الذي هو من مستحدثات جيلنا لكنهم مارسوه بوصف انه مسلك للخروج من قيد الاغيار، وتعني المعارضة قطع العلاقة مع الدولة وأربابها والدعوة إلى - أو العمل على تغييرها، والدولة شيطان تتألف من شياطين وفعلها شيطاني وسلوك أربابها شيطاني، وشيطان من يعاملها ويتعامل معها، وتتألف منهم جملة الاغيار المقيمين في دار الضد والحس والشهوة، وهم عماد الظلم ومنشأ الظلمة والخلق منهم في بوار (1).

وهذهِ المعارضة تجسدت بمظاهر اجتماعية وثقافية بل وسياسية متعددة على مدى العصور، ولهذا وجدنا كبار العرفاء من اوائل المقتولين على ايدي السلطة(الحلاج، السهروردي، عين القضاة الهمذاني) وغيرهم الكثير، وإذ كان هؤلاء يناؤون السلاطين في العالم الاسلامي، فإن الكثير من المتصوفة في عصور لاحقة دخلوا في صراع مع السلطات السياسية الاستعمارية في عدد من البلدان لاسيما في شمال افريقيا.

وفي هذا السياق ينبغي التذكير بما قاله الكثير من الباحثين حول عصر ظهور التصوف والعرفان، والذي ظهر بوصفه أتجاه معارضة صامتة للوهلة الاولى ازاء عالم الاسراف والبذخ ومظاهر الفسق والفجور التي سادت العالم الاسلامي بعد تزاحم  الفتوحات وتضخم بنية الدولة الاسلامية من جهة مواردها المالية (الخراج) الذي بلغ حد التخمة.

إذ يذهب الباحث علي سامي النشار إلى ان الزهد ومظاهر التقوى كانت موجودة في القرن الاول الهجري، وان الكثير من هؤلاء الزهاد ظهروا معارضين لبعض الخلفاء أمثال ابو ذر الغفاري والحسن البصري وغيرهم الكثير، ولكن لم تظهر اللغة الاصطلاحية وتقعيد القواعد الصوفية والعرفانية إلّا في القرن الثاني الهجري، والامر الجوهري هو ان هنالك روحا للمعارضة كانت تسري في هذين القرنين ازاء ترف السلطة ومفاسدها (2).

ولا يخرج كامل مصطفى الشيبي عن ذلك الامر كثيراً ويزيد عليه بالحديث المفصل عن خصوصية المجتمع الكوفي وبداية تشكل حركة للزهد على نطاق واسع، أذ يقول: أما ميادين الزهد الكوفي فقد تعددت، فقد وجدنا فيها الزهد الاسلامي الاصيل القائم على التواضع في الملبس والمأكل والتزام تلاوة القرآن والخوف من عذاب الاخرة، ووجدنا في الكوفة الزهد المنبعث من عذاب الاخرة ، والزهد الاتي من الاحداث التي تناوبت عليها من قتل ذريع ومن خيانة ومن نصرة للباطل ومن حسرة على العجز عن رد الظلم. وسنرى أن الكوفة ستكون مثابة للبس الصوف في العالم الاسلامي كله وسيتبين لنا ان ذلك كان مقصوراً عليها، وكان تعبيراً عن معارضة سلبية، وفوق هذا كان في الكوفة أول من تسمى صوفياً وأول من قال بالولاية الصوفية (3).

يعلل الشيبي هذا السلوك ويربطه بما جرى في عصر الفتنة أبان الخليفة الثالث وثم تصارع معاوية بن أبي سفيان والامام علي بن ابي طالب وثورة الامام الحسين ونكص اهل الكوفة على عقبيهما، ومن ثم شعورهم بالندم الشديد ومحاسبة النفس، مما دفعهم إلى ذلك، ولكنهُ رغم ذلك يعد هذا الامر معارضة سلبية لأنهم لم ينصروا الحق وأهله آنذاك.

وتأسيساً على هذا العصر واعتماداً على أنموذج سعد بن أبي وقاص يرى الباحث السنغالي الاصل الفرنسي الجنسية سليمان بشير ديان ان المتصوفة كانوا انسحابيين من الحياة السياسية من جهة، وغير مدركين لتمامية وجود دولة اسلامية يوالونها أو يسعون دائماً لأقامتها من جهة اخرى!؟.

إذ يقول: يقف سعد بوصفه نموذجا مثاليا في عيون المسلمين لما يعنيه (القتال في سبيل الله بالأموال والانفس) خاصة الصوفيين منهم، عندما أصبح في نهاية حياته رمز التوجه الواضح الذي يقف أمام الدولة وجهاً لوجه. وخلال الفتنة والحروب الطاحنة التي شقت المجتمع المسلم، بدءاً من السنوات الاخيرة من حكم الخليفة الثالث عثمان (ت656م) إلى ان بلغت ذروتها في المعارك بين علي الخليفة الرابع، ومعاوية الذي تمرد عليه (بدءاً من عام 656م وحتى وفاة علي عام 661م) انسحب سعد بن أبي وقاص، ببساطة من المجال العام، رافضاً الانحياز وتأييد احد الطرفين في مسألة الخلافة السياسية - الدينية وعندما تم الضغط عليه ليفعل ذلك، نقل عنه انه قال : لن اشارك في القتال حتى تأتوني بسيف له عينان ولسان يقول هذا مؤمن وهذا كافر. يستدعي هذا الموقف ملاحظتين أثنتين، الأولى وثيقة الصلة بما يسمى الدولة الاسلامية، والثانية معنية بما يمكن تسميته بالنزعة الصوفية للانسحاب(4).

ثم يستمر ليقول: كان للطريقة التي انحسب بها سعد بن أبي وقاص من الميدان العام، حيث كان وجوده قد يعني الاجابة عن السؤال الصعب حول من يجب ان يكون الخليفة، إرث غني، وقد تبناها عدد من الفلاسفة والصوفيين ونظروا لها، وكان ابو نصر الفارابي (874-905م) الذي يمكن اعتباره مؤسس التراث الاسلامي للفلسفة السياسية المتجذرة في تعليمات أفلاطون احد هؤلاء، وتبعه في ذلك فيلسوف مثل ابن باجة (1085-1138م)، الذي اعتبر ان الدرس الرئيس الذي يمكن أخذه من فلسفة افلاطون هو أن: (المدينة الفاضلة) يوتوبيا مستحيلة، ولذلك فقد رفض مجرد فكرة تدخل (محب الحكمة Lover of Wisdom) في شؤون الدولة (5).

ان الباحث ديان هنا يمظهر مديات الانسحاب الصوفي من المجال السياسي ويجعله يأخذ منطقاً فلسفياً كذلك عاداً تجربة ابي وقاص انموذجاً متكرراً احتذى بهِ الفلاسفة والمتصوفة على حدٍ سواء، على اعتبار ان اليوتوبيا السياسية أمر مستحيل ومن ثم الانخراط في أي ممارسة سياسية هي أمرٌ عبثي، بل ليسهم في تلويث صاحبه واعاقته عن القيام بالعمل المثمر الخادم لشؤون المجتمع واعضائه.

ثم يستمر قائلاً: تقليد تقدير الانسحاب بالطريقة التي قام بها سعد بن أبي وقاص بوصفها رد فعل على حالة الشؤون العامة تم استحضارها كثيراً من فلاسفة حديثين، اعتبر محمد إقبال ان واحداً من الاسباب المبكرة لحالة التحجر التي وجد فيها الفكر الديني للإسلام نفسه بعد القرن الثالث عشر هو حقيقة أن أفضل العقول المسلمة انسحبت من حالة الوهن التي انتابت الشؤون العامة واختاروا مسار الانسحاب في تصور نيو- أفلاطوني يقدر الحياة التأميلة ''Viata Contempativa'' قبل كل شيء. يقول إقبال إن: الروح الغيبية الكلية في الصوفية المتأخرة حجبت رؤية الناس عن مفهوم مهم جداً في الاسلام كأدب اجتماعي، وبتقديمه امكانية التفكير المتحرر بجانبه التأملي، فقد جذب وأخيراً امتص أفضل العقول في الاسلام ولذلك، فقد تُركت الدولة المسلمة بشكل عام بأيدي متوسطي القدرة فكرياً، والاغلبية غير المفكرة في الاسلام، بلا شخصيات ذات معايير عليا لتقودهم، ووجدوا الامن فقط بالاتباع الاعمى للمدارس (6).

لا أعتقد ان اختيار شخصية مثل ابن ابي وقاص كان أمراً دقيقاً وملائماً بالنسبة لذلك العصر، وكان الاولى اختيار شخصية اكثر ورعاً وزهداً من قبل الاستاذ ديان، وكان جيل وعصر بن ابي وقاص يضم شخصيات مشهورة بالميل الصوفي والعرفاني الواضح امثال: عمار بن ياسر وابي ذر الغفاري وأضرابهم، إذ كان الانموذج هذا من كبار اصحاب الاقطاعيات والثروات بعد فتح العراق وعاش حياة ترف كبيرة (7).

ولربما كان الكاتب نفسه (ديان) لا يعرف الحق وأهله في ذلك العصر، فوجد ان ابي وقاص يمثل ذاته، أي انه اختاره، كأسقاط نفسي وذلك لعدم اتضاح الرؤية أمامه، ان انسحاب المتصوفة والكثير من الفلاسفة يرتبط بأمر جوهري لم يلتفت له (ديان) مطلقاً وهو (شرعية السلطة) هل كانت موجودة أم ان الحاكم والنظام هو منطق المغالبة المسند إلى (العصبية) بالمعنى الخلدوني؟ ان هذا الامر هو ما استشعره هؤلاء وليست مسألة علمانية الدولة آنذاك التي وجدوا فيها مبرراً للأنسحاب ولعدم نصرة طرف على آخر!؟.

ولعل محمد اقبال ادرك هذا الامر وزاد عليه ان الاسلام الطرقي هو الخطر الماحق لتجارب المتصوفة والعرفاء، لأن التنظيمات الصوفية أياً كانت (أخوانيات أو هياكل طرقية) أو نحو ذلك ستكون مبعثاً للبحث عن مصالحها المادية ومن ثم تدخل في هدنة مع الوضع السياسي القائم، وهذا ما جرى في المشرق والمغرب على مدى قرون إلّا حالات محدودة دخلت في صراع سياسي.

يقول الباحث بومدين بوزيد بهذا السياق: ظلت ظاهرة التحالف مع السلطة أو التمرد عليها ملازمة للطرقية الصوفية التي هي شبيهة ما ننعته اليوم بالإسلام السياسي، ولعل الصورة تتضح حين نعلم ان بعض الطرقيين كانوا مباركين للمستعمر الفرنسي، وهذا لا يطعن فيها كطريقة صوفية ولكن علينا ان ندرك التفاوت والاختلاف بين مرحلة وأخرى... (8).

وقد تزامنت مواقف بعض المتصوفة وأحكامهم الفقهية-الباطنية مع قيام بعض الانتفاضات وأستغلها المستعمر، كمنشور محمد الموسوم (3 فيفري 1883) الذي يحرم على أتباعه الثورة ويلغي من يتدخل في السياسة، كما استعمل الفرنسيون سمعة الشاذلية وطلبوا تأييدها في حربهم سنة 1914 فقد اصدر شيخ زاوية قصر البخاري فتوى مضمونها طاعة الفرنسيين لأنهم (أولو الامر) وهنا فسر أولي الامر بأنهم الحكام الفرنسيون، وقد كان اول الخارجين عن ثورة بوعمامة عام 1881 أتباع الزيانيين والتيجانية (9).

فلهذا كان المتصوفة والعرفاء الاوائل كأفراد هم أكثر مواجهة للأمر السياسي من التنظيمات أو الاسلام الطرقي، ولهذا الامر دلالة واضحة من جهة ان نفي المصالح بوجود الجماعة صعب بالنسبة للطرق ولزعمائها وليس لجميعها لأن بعضهم دخل في مواجهة مع المد الاستعماري كما نعلم أمثال (السنوسية) وغيرهم، هذا من جهة، ومن جهة اخرى فأن صلة تجربة الباطن بالنسبة للعارف مع عالم الظاهر (الدنيا وشؤونها) ستكون تجربة فردية ذوقية خاصة، لا تؤثر فيها الضغوط الحياتية التي ممكن مصادفتها في الطرق التي اصبحت مرتبطة اقتصادياً بحسب اتساع عدد أسر المريدين والذين لم تكتمل لديهم عملية السير والسلوك كما لدى كبار العرفاء، فلهذا كانوا يتأثرون سريعاً بالضغوط السياسية ويخضعون لها إلّا بعضا منهم وهم عدد ضئيل بطبيعة الحال.

ان المسألة معقدة للغاية، ولا يمكن اختزالها بسببين أو علتين وينتهي الامر، وذلك لأن الكثير من الامور متداخلة ضمن سياقات اجتماعية وسياسية واقتصادية فرضت نفسها على الكثير من الطرق الصوفية والعرفاء، ونحن هنا ليس بصدد الدفاع بقدر ما نبحث عن مشهدية سياسية متعددة الاوجه لممارسة العرفاء والمتصوفة في عصور متفاوتة.

في قبالة ذلك كله نجد ان هنالك دولة أو سلطة روحية تسيّر شؤونهم ان كان ضمن مديات علاقة العرفاء ببعضهم البعض أو من خلال علاقة المريدين المخلصين بوليهم أو شيخهم الروحي (شيخ الطريقة) ولقد تحدث الباحث حسن محمد الشرقاوي عن هذا الامر والذي أطلق عن عالم السياسة الباطنية هذا ومتعلقاته اسم (الحكومة الباطنية).

إذ قال لهؤلاء الصالحين، دولة وحكومة، ونظام رئاسة، وطاعة واخلاص، واحكام، واتصالات، ومجالس واجتماعات، وأوامر وتعليمات، وسلطات واختصاصات، وليس كما نراها في الحكومات المدنية، أو في القوانين الوضعية، أو في الدساتير والقواعد القانونية، وانما دستورهم لم يضعه من البشر أحد، وقانونهم لم يضعه احد من الناس، وانما خصهُ رب الناس، وخالق الموجودات، الحق تعالى إله العباد (10).

والاولياء يتصل بعضهم ببعض عن طريق المبشرات، وهي رؤى يراها المؤمن فتتحقق له، ويتقابلون بطريق التوجه رغم بعد الزمان والمكان ويلهمون الهاماً بالمغيبات، وحلول المشكلات، ودولتهم تقوم على مصادر ثلاثة: الرؤيا، والطاعة، والاخلاص،...، ويتأكد للدولة الباطنية وجودها بما يفيض الله على اعضائها من كشوفات وانتصارات وفتوحات، وفيوضات، وما يمن عليهم من نعم، ومنن وعطايا ومشاهدات، وتجليات، وما يتولاهم الله برعايته من رحمات، فيفتح عليهم، فيصبحون في عباده المخلصين، إذا قالوا صدقوا، وإذا وعدوا انجزوا، لهم فراسات وتوسمات ، ورؤى وكرامات، وحكم ومعارف ،وعلوم اشراقية عجز عنها الوصف ويقف امامها العقل حائراً (11).

بطبيعة الحال ان الحديث هنا عن حكومة روحية خاصة لا تسري سلطاتها الروحية على افراد المجتمع كافة، إذ هي مخصوصة بأبناء الطرق الصوفية وجملة العرفاء الموجودين، ولكن السؤال المحوري الذي يطرح هنا هو: هل لهذهِ الحكومة الباطنية تأثير على الدولة وسلطتها السياسية وسائر المؤسسات المرتبطة بها؟: وهل هؤلاء اعضاء هذهِ الحكومة الباطنية لهم أدوار أو وظائف سياسية، ومن ثم لديهم مواقف سياسية واضحة؟.

لا يمكن ان يكون لها اثر سياسي أو نشاط سياسي مباشر وواضح ولكن انعزالها وانسحابها عن المشهد السياسي بالضرورة سيكون ذا صيغة معارضة بطبيعة الحال، ولعل السلطات السياسية في الكثير من البلاد تسعى إلى ارضائها، لما لها من دور كبير في العملية الانتخابية كما في مصر والمغرب والجزائر على وجه الخصوص، ومن ثم فإن دورهم سلبي بنحوٍ ما، ولكن احدى ايجابياتهم هي ترشيد سلوك اعضائها أو مريديها الذين ينتشرون بين المدن والارياف بنحوٍ كبير، ولعل السلبية السياسية هي الطاغية عليهم عموماً.

ولكن المعوّل دائماً منذُ القرن الثالث الهجري إلى القرن المعاصر على العرفاء المتفرقين هنا وهناك في العالم الاسلامي، وهذا الامر هو الذي أشار اليه وأكده العارف الاكبر الشيخ محي الدين بن عربي، من خلال حديثه الدائم عن الولاية المطلقة لـ(الولي) العارف. وهذا ما فصلَ في وظائفه ومن جملته الوظائف السياسية في كتابه المبرّز في هذا الشأن (التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية) والذي يقابل فيه بين العوالم المادية والاجتماعية والباطنية، وقال عنه ابن العربي واصفاً: وهو مشتمل على مقدمة وتمهيد وأحدٍ وعشرين باباً من دقائق التوحيد في تدبير الملك الذي لا يبيد على الترتيب الحكمي والنظام الالهي، وجاء غريباً في شأنه ممزوجاً رمزه ببيانه، يقرأه الخاص والعام ومن كان في الحضيض الاوهد ومستوى الجلال والاكرام. (قد علم كل اناس مشربهم) ففيه للخواص اشارة لائحة وللعوام طريقة واضحة، وهو لباب التصوف، وسبيل التعرف بحضرة الترؤف والتعطف، يلهج به الواصل والسالك، ويأخذ منه حظه منه المملوك والمالك، يُعرب عن حقيقة الانسان وعُلو منصبه على سائر الحيوان، وانه مختصر من العالم المحيط مركب من كثيف وبسيط لم يبق في الأماكن شيء إلّا أودع فيه اول منشئه ومبانيه، حتى برز على غاية الكمال وظهر في البرازخ بين الجلال والجمال (12).

وهو يقابل بين الممالك الثلاث عالم الافلاك والاجرام وعالم الطبيعة (النبات والحيوان) وعالم الانسان كيما يصل بين تداخلهن وتمازجهن وتشابهن، ولكنه يولي لعالم الانسان أو المملكة الانسانية الحصة الاوفر لمقام الانسان (خليفة الله) وهنا تظهر ملامح الرؤية السياسية لديه والتي تتمظهر بحسب المنطق العرفاني والعالم الباطني للإنسان الكامل أو الساعي للكمال ضمن كافة شؤونه ومن ضمنها (الشأن السياسي) الذي لا يغيب عن أبن عربي.

إذ يقول: ولما أردنا ان نأخذ في مقابلة النسختين العالم الاكبر والاصغر على الاطلاق في جميع الاسرار العامة والخاصة، رأينا ان ذلك يطول وغرضنا من العلوم ما يوصل إلى النجاة في الآخرة، إذ الدنيا فانية داثرة، فعدلنا إلى امرٍ يكون فيه النجاة ويتمشى معهُ المراد الذي بنينا عليه كتابنا وهو: أنا نظرنا الانسان فوجدناه مكلفاً مسخراً بين وعدٍ ووعيدٍ، فسعينا في نجاته مما توعد بهِ وتخليصه لما وعد الله فأضطرنا الحال في اقامة القسطاس عليه من العالم الاكبر، فقلنا: أين ظهرت الحكمة من الخطاب والوعد والوعيد من العالم الاكبر؟ فرأنيا ذلك في حضرة الامر والنهي وحضرة الامامة ومقر الخلافة، فوجدنا الخليفة شاهداً، فيه ظهرت الحكمة وأثر الاسماء وعلى يديه تنفعل أكثر المكونات المخلوقة للباري تعالى. فتقصينا الاثر وأمعنا النظر في حظ الانسان من هذه الحضرة الامامية، فوجدنا في الانسان خليفة ووزيراً وقاضياً وكاتباً، وقابض خراجٍ وجبايات، وأعواناً ومقابلة اعداء، وقتلاً وأسراً  إلى إمثال هذا مما يليق بحضرة الخلافة التي هي محل الارث، وفي الانبياء انتشرت راياتها ولاحت علامتها، وأذعن الكل لسلطانها (13).

هي مقابلة تامة بين الدولة بالمعنى الخاص بأدواتها أو مؤسساتها باختلاف العصور وبين الانسان الحاوي لذات تلك الادوات، فالخليفة عنده هو الروح، والذي يضع لها واجبات ومشاغل خاصة، والوزير عنده هو العقل، والقاضي هو العدل، وهكذا يستمر ابن العربي في بيان معالم تلك الدولة أو الحكومة الباطنية التي تقابل عالم الظاهر والحس في الدنيا، وما مراده إلّا ليبين ان اصلاح الباطن كفيل بأصلاح الظاهر والتي في مقدمتها ( السلطة) ومؤسساتها الراعية لها، ونحيل القارئ إلى الكتاب للمراجعة والبحث عن المماثلة والمطابقة بين ما قاله ابن العربي وبين الدولة في صيغتها الواقعية.

لعل أحدهم يتساءل: هل ان المتصوفة مشغولون ومنهمون بمدوناتهم بحكومة الباطن اكثر من حكومة الظاهر؟ ام ان للأمر وجهة نظر أخرى؟ او توجد مواقف اخرى عن مواجهة العرفاء أو التصدي للشؤون السياسية وتحولاتها ان كانت لحاكم من أبناء البلد أو كان غازياً؟ بطبيعة الحال نحن نوهنا عن ألوان وصيغ التعاطي مع الشأن السياسي وعلى عدة مراحل تاريخية متباينة، ولعلنا سنجعل من سيرة ومواقف وتنظيرات العارف التركي سعيد النورسي (1877-1960) الملقب بـ(بديع الزمان) خير انموذج واجه أعتى وأبشع اشكال إنهاء الحياة الروحية واقصاء الدين عن الدولة والمجتمع إلّا وهي سياسات (العلمنة) التي أعتمدها كمال أتاتورك وأسلافه (  1881-1938 )، لأجل الوقوف عن معاني ودلالات (عرفان سياسي) مارسهُ الاستاذ النورسي إلى ساعة رحيله، وهو يتحدى ويقارع تلك السياسات التي أستدعت منهُ نهضة روحية بثها في مشروعه الفكري والروحي والاخلاقي (رسائل النور).

لعل في حدود المواجهة المباشرة كان النورسي ضد علمنة الدولة العثمانية بعد سقوط الخلافة وتولي أتاتورك الحكم كرئيس جمهورية، ولكن في حقيقة الامر ان المواجهة التي أقامها النورسي ازاء العلمانية كانت تنتمي إلى حدود وفضاءات أوسع لأنه جعل من مركزية القرآن الكريم مواجهة للمركزية الغربية وفي شتى القضايا، وهذا الامر ظل يعمل عليه إلى حين وفاته، وهذا ما أكدته (رسائل النور).

وذلك أنه لجدير بالاهمية والتأمل، ان مؤلف رسائل النور قد حدث له انقلاب مهم في حوالي سنة 1899م (1316ه) إذ كان يهعتم بالعلوم المتنوعة إلى هذا التاريخ لأجل استيعاب العلوم والاستنارة بها، أما بعده فقد علم من الوالي المرحوم (طاهر باشا) ان أوروبا تحيك مؤامرة خبيثة حول القرآن الكريم، إذ سمع منهُ ان وزير المستعمرات البريطاني قد قال: (ما دام هذا القرآن بيد المسلمين فلن نحكمهم حكماً حقيقياً، فلنسع إلى نزعه منهم)، فثارت ثائرته واحتد وغضب... وغير اهتمامه من جراء هذا الانقلاب الفكري فيه... جاعلاً جميع العلوم المتنوعة المخزونة في ذهنه مدارج للوصول إلى ادراك معاني القرآن الكريم واثبات حقائقه، ولم يعرف بعد ذلك سوى القرآن هدفاً لعلمه وغاية لحياته، واصبحت المعجزة المعنوية للقرآن الكريم دليلاً ومرشداً واستاذاً له حتى انه اعلن لمن حوله: (لأبرهنن للعالم بأن القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها ولا يمكن اطفاء نورها) (14).

والنشاط السياسي للنورسي مر بأطوار مختلفة ينبغي الاشارة اليها، لأنها تبين لنا كيف تحول من رجل كان على المحك بالشؤون السياسية بنحوٍ مباشر، وكيف تحول النشاط السياسي لديه عبر انتقاله الى (العرفان السياسي) وبطريقة مغايرة ولما أسماه هو في مذكراته بين (سعيد القديم) و(سعيد الجديد)، ولهذا الامر مغزى جوهري من جهة أن تركيزه على القرآن الكريم وتلمذة اتباعه في اجواء الفهم الجديد للقرآن أو استخراج جواهره المتنوعة، استدعى منه فهماً جديداً لمعنى ان يكون مواجهاً السلطات آنذاك.

مرحلة (سعيد القديم) تبدأ من السنوات المبكرة لشبابه حتى نفيه إلى (بارلا) سنة (1926م) وخلال هذهِ المرحلة حاول النورسي خدمة الاسلام عبر الانخراط في الحياة السياسية ومحاولة التأثير فيها، وعبر دعوته للإصلاح السياسي والتعليمي في عهد السلطان عبد الحميد، والقائه الخطب في الجوامع والساحات، ونشره للمقالات السياسية العنيفة في جريدة (وولقان) ومحاولته استمالة رجال الاتحاد والترقي وتسخيرهم لخدمة الاسلام، وتصديه للتيارات المُعادية للدين(15).

فلقد كان ينظر بعين الريبة والشك في رجال الاتحاد والترقي وكان يتهمهم بالتغريب وسحق الهوية الاسلامية، وهذا ما عبرت عنه مواقفه ابان أعلان المشروطية التي أيد دلالاتها وأهميتها في ادارة الدولة، ولكن كان يخشى من سطوة الحرية المنفلتة، التي يتزعمها رجال الاتحاد والترقي، ولهذا قال: ان اصحاب الافكار الفاسدة يريدون الاستبداد والمظالم تحت شعار الحرية، فلأجل إلّا نشاهد مرة اخرى تلك الاستبدادات التي دفنت في حفر الماضي ولا تلك المظالم التي جرت في سيل الزمان،...، إن هذا الانقلاب لو أعطى الحرية التي ولدّها لأحضان الشورى الشرعية لتربيها فتُبعث أمجاد الماضي لهذهِ الامة قوية حاكمة، بينما لو صادفت تلك الحرية الاغراض الشخصية، فستنقلب إلى استبداد مطلق، فتموت تلك المولودة في مهدها، يا أبناء الوطن، لا تفسروا الحرية تفسيراً سيئاً، كي لا تفلت من أيديكم، ولا تخنقونا بسقي الاستعباد السابق الفاسد في إناء آخر. وذلك لأن الحرية إنما تزدهر بمراعاة الاحكام الشرعية وآدابها والتخلق بالأخلاق الفاضلة(16).

والمركزية الغربية لا تغيب ناظريه حتى لو كان الشأن داخليا وخاصا للغاية، إذ ينوه عنها قائلاً: ان اوروبا تظن ان الشريعة هي التي تمد الاستبداد بالقوة وتعينه، حاش وكلا.. ان الجهل والتعصب المتفشيين فينا قد ساعدا أوروبا لتحمل ظناً خاطئاً من أن الشريعة تعني الاستبداد، لذا تألمتُ كثيراً من أعماق قلبي على ظنهم السيء هذا بالشريعة.... (17).

النورسي بعد ذلك اتخذ موقفا مغايرا من السياسة، ولعل الامر يبدو كمفارقة للوهلة الاولى، ولكن من يتمعن يدرك ان ممارسة الموقف من السياسة والسياسيين بطريقة جديدة نلاحظها بوضوح شديد بعد مجيء أتاتورك لسدة الحكم، ولعل هذهِ المفارقة تظهر لمن يرى جوابه عن السؤال الآتي: لم انسحبت من ميدان السياسة ولا تتقرب إليها قط؟ قال مجيباً: لقد خاض سعيد القديم غمار السياسة ما يقارب عشر سنوات علّه يخدم الدين والعلم عن طريقها، فذهبت محاولته ادراج الرياح، إذ رأى ان تلك الطريق ذات مشاكل، ومشكوك فيها، وان التدخل فيها فضول- بالنسبة إليَّ، فهي تحول بيني وبين القيام بأهم واجب، وهي ذات خطورة، وأن أغلبها خداع واكاذيب. وهناك احتمال ان يكون الشخص آلة بيد الاجنبي دون ان يشعر، وكذا فالذي يخوض غمار السياسة إما ان يكون موافقاً لسياسة الدولة أو معارضاً لها، فإن كنت موافقاً فالتدخل فيها بالنسبة إليّ فضول ولا يغنيني بشيء، حيث إنني لست موظفاً في الدولة ولا نائباً في برلمانها، فلا معنى -عندئذٍ- لممارستي الأمور السياسية وهم ليسوا بحاجة إليّ لأتدخل فيها، وإذا دخلت ضمن المعارضة أو السياسة المخالفة للدولة، فلابد ان أتدخل إما عن طريق الفكر أو عن طريق القوة، فإن كان التدخل فكرياً فليس هنالك حاجة إليَّ أيضاً، لأن الأمور واضحة جداً، والجميع يعرفون المسائل مثلي، فلا داعي إلى الثرثرة. وان كان التدخل بالقوة، أي بأن أظهر المعارضة بإحداث المشاكل لأجل الوصول إلى هدف مشكوك فيه، فهناك احتمال الولوج في آلاف من الآثام والأوزار، حيث يُبتلى الكثيرون بجريرة شخص واحد، فلا يرضى وجداني الولوج في الآثام وإلقاء الأبرياء فيها بناء على احتمال أو احتمالين من بين عشرة احتمالات، لأجل هذا فقد ترك سعيد القديم السياسة ومجالسها الدنيوية وقراءة الجرائد... (18).

ان الهاجس الدائم عند النورسي ليس اسقاط النظام السياسي، بل كل اعماله قبل موقفه انف الذكر وبعده، انما يقوم على ضرورة الاصلاح الدائم وبذل النصح، لكنه كان يدرك ببصريته الثاقبة ان المعارضة المسلحة وتغيير النظام بالقوة يقود إلى الفوضى وأسالة الدماء، وهذا ما رفضه بشكل قاطع، ولهذا لم يشارك بالثورة التي تزعمها سعيد بيران 13/2/1925(19)، فعرفانهُ السياسي كان يدور في فلك اصلاح الباطن كمقدمة لأصلاح الظاهر عبر انشاء واعداد جيل كامل تحت تربيته على المعاني الكلية في القرآن الكريم.

ان التحولات الهائلة التي حدثت بعد انهاء الخلافة وتأسيس الجمهورية التركية الحديثة، دفعت النورسي إلى اتخاذ مواقف سياسية متعددة، لاسيما بعد القرارات التي أقصت الدين من الدولة والمجتمع على حدٍ سواء، إذ قام أتاتورك إلى حين وفاته عام 1938 بكل ما ملكت يداه وما من شأنه انهاء الحضور الاسلامي في مختلف مجالات الحياة، ألغى الخلافة والمحاكم الشرعية، وعدل الدستور لإلغاء الدين من نصوصه، وحظر نشاط كل الفرق والطرق الدينية، وقام بتغييرات تطمس حتى بعض المظاهر الدالّة على ماضي إسلامي، مثل إلغاء الطربوش والحجاب، والابجدية العربية، والتقويم الهجري، وعطلة يوم الجمعة... مقراً، بدلاً منها، مظاهر غربية مثل: القبعة والحرف اللاتيني والتقويم الميلادي والتعطيل يومي السبت والاحد، ومضى أتاتورك أبعد من ذلك عندما فرض مبدأ العلمانية في الدستور وانشأ مؤسسات تابعة للدولة تشرف على الشؤون الدينية و(تضبط) حركة الائمة والوعاظ الذين تحولوا موظفين عند الدولة، كما ألغى الدروس الدينية من المدارس بموجب قانون (توحيد التدريس) أي بأختصار، وضع أتاتورك تركيا على سكة (العلمنة والتغريب) (20).

بوجهٍ عام حاربت السلطة الجديدة الدين، وطال اضطهادها كل من رأت منه عدم الامتثال لها، فأعدمت عدداً كبيراً من علماء الاسلام، وأصدرت بحقهم قانون الخيانة الوطنية، وهو القانون نفسه الذي تم بموجبه اعدام (الشيخ سعيد بيران) وسجنت أربعين عالماً من أصحابه بحجة قيامهم بحركة مقاومة كردية مدعومة من قبل الانجليز، على حين كانت في حقيقتها حركة إسلامية ضد النظام العلماني، كما أُعدم كثيرون غيرهم، وسجن وعذب آخر في محاكم الاستقلال التي أنشئت لتصفية الخصوم(21).

ان الاستبداد السياسي العلماني الجديد ذو القبضة الحديدة والعنيفة فرض على الاستاذ النورسي ممارسة تقية سياسية لأجل تمرير خطابه الروحي والنقدي ضمن سياقات خاصة، إذ بعد فشل ثورة الشيخ بيران اتهم النورسي بدعمها مما دفع السلطات إلى نفيه إلى قرية نائية في غربي الاناضول من أعمال (إسبارطة) أسمها (بارلا)، وكان تحت المراقبة الدائمة والمستمر’، وكما قال كاتب السيرة :كانت عيون السلطة تترصد الاستاذ وتراقب حركاته وسكناته لذا كان الاهالي يتجنبون الاقتراب منه والتحدث إليه، فكان يقضي اكثر قوته في البيت أو يخرج في فصلي الربيع والصيف إلى جبل وجام، ويختلي هناك بنفسه في قمة الجبل وبين الاشجار متأملاً ومتعبداً(22).

ولكن رويداً رويداً بدأت الناس تتجمع حوله بعدما بنى مسجداً في هذهِ القرية وبدأ في مشروعه العاكف على تجريد فهم آيات القرآن واستخراج المعاني والدلالات الكونية والروحية والاخلاقية والاجتماعية منها، وعن ذلك الامر قال النورسي: أخذتني الاقدار نفياً من مدينة إلى اخرى... وفي هذهِ الاثناء تولدت من صميم قلبي معانٍ جليلة نابعة من فيوضات القرآن الكريم... أمليتها على من حولي من الاشخاص، تلك الرسائل التي أطلقت عليها اسم (رسائل النور) إنها انبعثت حقاً من نور القرآن الكريم لذا نبع هذا الاسم من صميم وجداني، فأنا على قناعة تامة ويقين جازم بأن هذهِ الرسائل ليست مما مضغته أفكاري وانما هي إلهام إلهي (23).

ولكن هذهِ الرسائل لا يمكن ان تستمر دون هذهِ التقية السياسية التي مارسها الاستاذ وعبّر عنها بمبادئ معينة قائلاً: في زمن عجيب كزماننا هذا، لا بد من تطبيق خمسة أسس ثابتة، حتى يمكن انقاذ البلاد وانقاذ الحياة الاجتماعية بأبنائها من الفوضى والانقسام، وهذه المبادئ هي: 1- الاحترام المتبادل 2- الشفقة والرحمة

3- الابتعاد عن الحرام  4-الحفاظ على الامن 5- نبذ الفوضى والغوغائية، والدخدول في الطاعة (24).

وهو كان يتوخى نشر فكره وكسب الاتباع والمريدين عبر هذه الرسائل التي لا يمكن نشرها على نطاق واسع من دون الاعتماد على هذهِ المبادئ، ولهذا قال: والدليل على ان رسائل النور في نظرتها إلى الحياة الاجتماعية قد ظلت تُبث وتُحكم هذهِ الأسس الخمسة وتحترمها احتراماً جاداً محافظة بذلك على الحجر الاساس لأمن البلاد، وهو ان رسائل النور قد استطاعت في مدى عشرين عاماً ان تجعل اكثر من مائة الف رجل اعضاء نافعين للبلاد والعباد دون ان يتأذى أو يتضرر بهم احد من الناس، ولعل محافظتي إسبارطة وقسطموني خير شاهد وأبرز دليل على صدق ما نقول (25).

من يتمعن جيداً برسائل النور وبجملة المواضيع التي غطتها منذُ انطلاقها واهتمام الناس بها ومن كل الفئات والطبقات، انما يؤكد لنا ان الاستاذ النورسي أراد لتلك الرسائل ان تعبر عن مضامين القرآن الكريم المتعددة والتي تغطي كافة شؤون الحياة والوجود بشكلٍ عام كيما تكون هي (المعادل الموضوعي) لسياسات العلمنة وثقافتها التي ابتلعت كل جوانب الحياة آنذاك في تركيا.

ولعل الامر اللافت للنظر هنا أن علمنة الدولة التركية أسست جيلا واسعا من الشباب اللادينيين الذين كانوا يناصبون الاستاذ النورسي العداء، قبالة جيل روحي/ أخلاقي عمل الاستاذ على أعداده وتهذيبه، ولهذا كانت هنالك حرب مجتمعية خفية بني هذين الجيلين، جيل (العلمنة) وجيل (رسائل النور).

ولهذا قدم الجيل العلماني ومن خلفه السلطات السياسية والامنية المراقبة لنشاطات الاستاذ وجليه (القرآني الجديد) تهمة تشكيل جمعية سرية، والقيام بأعمال ضد النظام الحاكم وما يهدم أسسه... وأمثالها من التهم. وعلى إثر هذا أخذ الاستاذ النورسي وطلابه في 25/4/1935 وسيقوا مكبلي الايدي إلى (أسكي شهر) لمحاكمتهم، وكانت هنالك خشية من السلطات لحدوث ثورة واسعة فلهذا كانت الاجهزة الامنية وبرئاسة رئيس الوزراء آنذاك (عصمت إينونو) تراقب خطورة الموقف(26).

وهكذا اقتيد الاستاذ النورسي ومائة وعشرون من طلابه إلى سجن أسكي شهر ووضعوا في السجن الانفرادي والتجريد المطلق، وبدأت عمليات التعذيب الرهيب تنهال عليهم، لكن الاستاذ رغم الظروف الشاقة استمر في الارشاد والتوجيه، فتحول كثير من المسجونين إلى ذوي صلاح وتقوى (27).

لاشك في ان النورسي قد وجه جزءاً كبيراً من عنايته إلى مسألة (التربية الروحية) أو بالأحرى (التزكية)، كيف لا؟ وهي مفتاح الفهم لكل عملية تربوية تتغيا اخراج جيل قرآني رباني يُساهم من خلال (العمل الايجابي البناء) في خلافة الارض وعمارتها، والقيام بمسؤوليات الأمانة الملقاة على عاتقه بحكم اختياره وحمله لها (28)، وانطلاقات من القرآن الكريم الذي حث في الكثير من آياته على ضرورة التزكية، واتساقا مع تركيز النورسي على الجانب العملي في التربية الروحية، أكد بديع الزمان ان الطرائق إلى الخالق عز وجل كثيرة ومتعددة، لكن مردّها جميعاً إلى القرآن الكريم(29).

وبعد ان قضى مدة محكوميته في سجن (أسكي شهر) تم نفيه إلى مدينة قسطموني وقد بقي فيها ثماني سنوات، وهو يكتب رسائل النور ويرشد المجتمع، ويستمر في تهذيب الافراد آنذاك كيما ينظموا إلى الجيل القرآني/النوراني الذي عكف على تهذيبه قبالة جيل اللادينيين، ثم يستمر مسلسل الاتهامات له ولتلاميذه واتباعه بأنهم يألفون (جمعية سرية) تحرض الشعب على الحكومة العلمانية، ومحاولة قلب نظام الحكم، ثم تسمية مصطفى اتاتورك بـ(الدجال و(السفياني)(30).

ولقد حاولوا مراراً وتكراراً تسميم طعامه، ولكن بعض تلاميذه ينقذوه ويستمر النفي تلو النفي والسجن تلو السجن، تحت دعاوى الاتهام ذاتها التي تتكرر، وما خشيتهم منه ومن رسائل النور ومن تلاميذه، إلّا لأنهم جيل قرآني يمارس العرفان السياسي بنحوٍ من التقية المكثفة تحت مظلة نشر معارف القرآن الكريم المتعددة.

ما نريد ان نختم بهِ هو القول بأن الاستاذ النورسي على سيرة الاولياء والعرفاء وفي مقدمتهم أبن العربي، ذهبَ نحو أن اصلاح الباطن مقدمة جوهرية لا مهرب منها لإصلاح الظاهر، فإصلاح الدولة لا يتم من دون أفراد صالحين يقودون هذا الامر ويولونه اهميته، ومن دون هذهِ المعادلة لا طائل من الاندكاك بالعمل السياسي.

 

جعفر نجم نصر

.......................

المراجع:

(1) هادي العلوي، مدارات صوفية: تراث الثورة المشاعية في الشرق، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق - بغداد، ط2، 2007، ص49.

(2) ينظر: علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، الجزء الثاني، دار المعارف، القاهرة، ط7، 1977، ص63-65.

(3) كامل مصطفى الشيبي، الصلة بين التصوف والتشيع، الجزء الاول، منشورات الجمل-بيروت-بغداد، 2011، ص280.

(4) سليمان بشير ديان، الصوفي والدولة، مقالة في كتاب: ما وراء الغرب العلماني، تحرير: عقيل بلغرامي، ت: عبيدة عامر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط1، 2018، ص41-42.

(5) المصدر نفسه، ص47-48.

(6) المصدر نفسه،ص50_51.

(7)لتفاصيل أكثر ينظر: خليل عبد الكريم، شدد الربابة بأحوال مجتمع الصحابة، دار مصر المحروسة، القاهرة، ط1، 2011، ص328 وص334.

 

(8) بومدين بوزيد، التصوف والسلطة: جدل المقاومة والسلم ورمزية صاحب الوقت، دائرة الامة، الجزائر، 2012، ص85.

(9) المصدر نفسه، ص87.

(10) حسن محمد الشرقاوي، الحكومة الباطنية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1992، ص20.

(11)المصدر نفسه،ص20.

(12) محي الدين بن العربي، التدبيرات الإلهية في اصلاح المملكة الانسانية، دراسة وتحقيق وتعليق: د. محمد عبد الحي العدلوني الادريسي الحسني، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الجزائر، ط1، 2015، ص70.

(13) المصدر نفسه، ص77.

(14) بديع الزمان سعيد النورسي، كليات رسائل النور، سيرة ذاتية (المجلد 9)، اعداد وترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار سوزلر، القاهرة، ط6، 2011، ص88-89.

(15) ابراهيم سليم ابو حليوه، بديع الزمان النورسي وتحديات عصره، مركز الحضارة لتنمية الفكر الاسلامي، بيروت، ط1، 2010، ص30.

(16) بديع الزمان سعيد النورسي، المصدر نفسه، ص105-106.

(17) المصدر السابق نفسه، ص107.

(18) المصدر نفسه، ً241.

(19) ينظر تفاصيل اكثر: المصدر نفسه، ص243.

(20) محمد نور الدين، قبعة وعمامة: مدخل إلى الحركات الاسلامية في تركيا، دار النهار للنشر، بيروت، ط1، 1997، ص20.

(21) إبراهيم سليم ابو حليوه، بديع الزمان النورسي، مصدر سابق، ص65.

(22) بديع الزمان النورسي، سيرة ذاتية، مصدر سابق، ص259.

(23) المصدر نفسه، ص277.

(24) بديع الزمان النورسي، كليات رسائل النور، الشعاعات، المجلد (4)، مصدر سباق، ص384.

(25) المصدر نفسه، ص384-385.

(26) ينظر: بديع الزمان النورسي، سيرة ذاتية، مصدر سابق، ص295-296.

(27) المصدر نفسه، ص296.

(28) محمد حلمي عبد الوهاب، التصوف في سياق النهضة: من محمد عبده إلى سعيد النورسي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2018، ص145.

(29) المصدر نفسه، ص146.

(30) بديع الزمان النورسي،سيرة ذاتية ،مصدر سابق، ص375.

 

 

محمد بنيعيش1- بعدما بهت الذين كفروا أمام الذي رأوا في الصحيفة الظالمة من خلال تحقق معجزة الرسول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والتي كانت ذات قوة مضاعفة جمعت بين الصور المادية المتمثلة في انتقاء الحق من الباطل، كما ارتقت على كل العقول والتخمينات البشرية العادية إخبارا بالغيب كمعجزة معرفية وعلمية.

فقد لجأ الكفار، عوضا عن أن يسلموا ويستسلموا، إلى مضاعفة العناد والزيادة في نسبة ومقادير العداء للدعوة وصاحبها وأتباعه .

وفي هذه المرحلة سيتصاعد البلاء على أشده وعلى عدة مستويات، يمكن أن نستعرض بعض أوجهه مما قد لا تستطيع الجبال تحمله.بحيث هنا ستتداخل المراحل والأماكن والطموحات والآمال مصطدمة مع الإحباطات وخيبة الرجاء حتى قد بلغت القلوب الحناجر وترددت النفوس بين خيار البقاء أو الرحيل والإقامة أو الهجرة...

فكان عثمان بن مظعون السابق ذكره من بين الذين امتحنوا بعدما فرج الله عنهم ووجدوا السعة في أرض الحبشة حتى عادوا إلى مكة، متفائلين بالنصر والتمكين لمعطيات وأخبار وصلتهم ببصيص الفرج كان من بينها إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

بحيث قد اصطدم بالواقع الذي ليس له دافع، فوقع من جديد في الحصار من غير حصار الشعب وتم التنكيل به ومن معه من الصحابة الكرام الذين سلكوا نفس مسلكه في اختيار الجوار المقدس جوار الله العزيز الحميد.

أما بالنسبة إلى رسول الله (ص) وهو أشد الناس بلاء فلقد كان على موعد مع القدر في ابتلائه، وهو كأشد ما يكون من وسيلة لامتحان القلوب وصقلها على التسليم وتقبل ما يلائم وما لا يلائم بحسب علو المقام، كما أن فيه سبرا لصدق التوكل وحسن الظن بالله تعالى، وأنه لا يقدر للعبد إلا ما فيه سر عبوديته وحقيقتها، وسر شكره وحمده حيث لا يحمد على مكروه سواه .

وكيف لا يكون البلاء بهذا المستوى وهذا الصنف والرسول (ص) سيد الموحدين وهو سيد الخلق والرسل وهو أول العابدين في قبول امتحان سيده.

فلقد جاء القدر مباشرة، بعد معاناة الحصار والتطلع إلى الفرج و نسيان الأضرار والركون إلى تدارك الأنفاس وبسط الاستبشار، مختطفا أهم سند قومي ومدافع عصبي له (ص) وذلك بوفاة عمه أبي طالب، ثم بعده بزمن قليل، لا يتجاوز الأيام على عد الأصابع، زوجته وسنده العاطفي والمعنوي والمادي سيدة الصديقات في تاريخ أزواج الأنبياء والرسل من أولي العزم، أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، كما عبر عن ذلك ابن كثير في وصف ذوقي جميل إثر الحديث عن وفاة أبي طالب:"ثم من بعده خديجة بنت خويلد زوجة رسول الله (ص) ورضي الله عنها .وقيل :بل هي توفيت قبله والمشهور الأول .

وهذان المشفقان :هذا في الظاهر، وهذا في الباطن .هذا كافر، وهذه مؤمنة صديقة ر ضي الله عنها وأرضاها.

2- قال ابن إسحق:ثم إن خديجة وأبا طالب هلكا في عام واحد.

فتتابعت على رسول الله (ص) المصائب بهُلْك خديجة وكانت له وزير صدق على الابتلاء يسكن إليها، و بهُلْك عمه أبي طالب، وكان له عضدا وحرزا في أمره ومنعة وناصرا على قومه وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين "1 .

فعبارة هذا في الظاهر بالنسبة إلى أبي طالب وهذا في الباطن بالنسبة إلى السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها مع التمييز بين العقيدتين لدى كل من أبي طالب والسيدة خديجة رضي الله عنها لهو وعي دقيق وشفافية روحية في ملامسة الموضوع وطبيعة المرحلة ذات الارتباط بوجدان النبي (ص) .

إذ أبو طالب قد كان يمثل عصبية بالنسبة إليه (ص) وهي مع ما لازمتها من مؤازرة وثبات موقف وعدم تخلي عند الشدائد ستكون بلسما ودعامة معنوية على المستوى النفسي باعتبار بشريته (ص) وطبيعتها المحتاجة إلى المساندة المجتمعية، ابتداء من الأسرة والقرابة وانتهاء بالعشيرة والقبيلة أو الوطن...

فكان حينذاك رائد هذا الموقف هو أبو طالب بلا منازع، لما له من صفة قد تعوض عن مقام الأبوة بل هي نفسها ولكن في صورتها الفرعية المعاضدة بالعصبية وتبادل الحقوق والواجبات الأبوية والبنوة والتوارث ماديا ومعنويا.

ومما زاد في حزن النبي (ص) على عمه أبي طالب وأسفه ليس فقط لأنه مات وافتقد مساندته، لأنه يعلم يقينا وشهودا أنه منصور بإذن الله تعالى ولن يطاله من الكفار إلا ما أذن الله فيه كترقية وزيادة مقام له، ولكنه وهذا هو الأدعى إلى الحزن والشفقة والأسى أن عمه هذا قد مات على كفر ولم يعلن عقيدته وتصديقه لرسالة ابن أخيه، وهي نهاية كانت أصعب على نفس النبي (ص) من الموت نفسه.بحيث سيكون في الغالب قد اعتراه تأسف على سلبية المصير وسوئه الذي آل إليه أبو طالب بالرغم من مساندته له ونصرته كأعمال جليلة تحتسب له في دائرة الناجين .كما أن الموت على هذه الحالة وبحضرة صناديد قريش قد فتح فرصة ثمينة لهم لإعلان الشماتة بالنبي (ص) والمغالاة في الاستفزاز والمعارضة غير المحدودة لغاية إذايته جسديا والنيل من حريته بالمضيقات والتهديد بالتصفية العلنية .فكانت حينذاك وفاة أبي طالب ذات سلبية على نفسه أولا وذات انعكاسات مرهقة على النبي (ص) ومسار دعوته وأصحابه تبعا.

أما بالنسبة إلى السيدة خديجة رضي الله عنها فقد كانت شريكة حياته (ص) وأم أولاده ومسنده وملاذه في جسمه وروحه وعينه وعاطفته، وهو يرثها وترثه من كل الجوانب، وهي بهذا ستكون قد فاتت عمه أبا طالب من حيث قوة دعمها له (ص) ومركزيتها الجامعة بين التوافق الجسدي وبين الروحي العقدي، وهو الأهم والنقطة الأصعب في تمثل هذا الفقد، أي أنها كانت مؤمنة ومتحدة به روحيا وعاطفيا وجسديا ونسبيا.

ومن هنا فموت أبي طالب كما تذكر الروايات قد كان سابقا للسيدة خديجة رضي الله عنها وذلك كتمهيد للصدمة الكبرى الموالية وتأهب لتحملها، إذ المواساة النفسية النسبية، أي عصبة النسب التي كان يمثلها أبو طالب، ستكون أيضا مما توفرها له (ص) بحكم القرابة والعشيرة، ولكنها ليست كل شيء، بل الأهم هو المقام، أي مقام الصديقية الذي كانت تتمتع به السيدة خديجة ووصلت إليه بواسطة زوجها السيد الرسول (ص)، وهو أعلى مقام مساند للنبوة والرسالة ومناصر لها، سبق وتحدثنا عنه بتفصيل نسبي في كتابنا:نور الأمين ومقدمات إسعاد العالمين.

والنبي الرسول في مثل هذه المراحل الشديدة قد يحتاج إلى الصديقين لمؤازرته أكثر من احتياجه إلى المساندين، إذ هنا يتبين الفرق بين المقامين، بالرغم من أن الصديقين قد يكونون ضرورة مساندين، ولكن ليس كل المساندين قد يكونون صديقين.

3 - وعند هذا الفقد المضاعف جاء عام الحزن الكبير للنبي (ص) بفقد السيدة خديجة رضي الله عنها كصديقة مساندة وهو الذي تلا فقد أبي طالب كمساند غير صدِّيق.وهذا كما قلت قد كان فيه تدريج للنبي (ص) فيما يبدو أن القدر أراده له ليرتقي في عالم معرفة النفس وطب القلوب وانشراحها، وهي ممهدات إلى المعرفة الكبرى، معرفة الله تعالى وتحصيل الشهود بغير قيود وتحقيق الرؤية القدسية من غير حجاب ولا بواب، إذ البواب الأكبر والأجمل سيصبح هو سيدنا محمد (ص) نفسه، أول العابدين وسيد ولد آدم والخلق أجمعين.

وقد سمي العام بعام الحزن، أي أنه قد اكتمل دورته الزمنية بكل أحوالها وظروفها، وتعاقبت عليها جميع الشهور بتلوناتها وأسمائها، وأظلمت مظاهرها ومعابرها فغمت وعمت، وضاقت النفس وتألمت، فما كان بعد هذا الفقد والقبض والجلال إلا طلب الهجرة والترحال إلى ذي العزة والجلال:(حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)2 .

لكن محنة النبي (ص) قد طالت حتى محاولة هذا الخلوص نجيا نفسه، فحوصر في الداخل، في الشعب وخارج الشعب، ومنع من الذهاب إلى الخارج في إقامة إجبارية كأسوأ ما تكون هذه الإقامة وأشدها على النفس.

 

الدكتور محمد بنيعيش

كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب

.........................

1- ابن كثير: السيرة النبوية ج2ص122

2- سورة يوسف آية 110

 

اياد الزهيريلا شك بأن ظاهرة الأسطورة تعتبر ظاهرة ثقافية، فهي تمثل المحاولة الأولى للأنسان في سعيه لأنتاج المعرفة، وهي تعكس شوق الأنسان لرصد الحقيقة، والغوص في أعماقها، وهي ظاهرة أختص بها الأنسان عن غيرة من الكائنات الأخرى، هذا التميز كان نتيجة لما يتمتع به هذا الكائن البشري من قدرات عقلية خلقت فيه قابلية التفكير، وأثارت فيه النزعة الملحة لأشباع نزعته المعرفية. فالأسطورة كانت تعتبر الخطوة الأولى للأنسان القديم في تصديه لمحاولة تفسير ما حوله من ظواهر طبيعية أثارت في نفسه الخوف والدهشة، كما أثارت فيه الرغبة والأمل في معرفة كنهها، ولعل لتجنب مضارها، وجلب فوائدها. أن أول سرد أسطوري وضعه الأنسان كان هو أسطورة التكوين، لأن معرفة الكون الذي هو جزء منه كان هاجسه الأول، وكان هاجساً قوياً هزه من الأعماق، مما جعلها تحتل في نفسة مكاناً مقدساً، وقد سيطرة على عقله ومشاعره، وسجلت درجة الأعتقاد منزلة القداسة، حتى بات يزاول طقوساً وشعائر يعبر بها عملياً عن شغفه وأحترامه لها، كما يمكننا القول بأن هذا الأعتقاد شكل أول خطوات التدين عند الأنسان، ومن ذلك سجل الدين له حضور منذ بداية ظهور الأنسان، ومن ذلك لا يمكن لأحدنا أن يجد مجتمعاً أنسانياً خالياً من الدين، منذ الخليقة وليومنا هذا، فالدين حاجه نفسية وعقلية . فالأسطورة كانت باكورة التدين، وهذا ما جعل الباحث فراس السواح يصفها في كتابه (الأسطورة والمعنى ص 20) بأنها (حكاية مقدسة) . أستمرت سطوة الأسطورة على نفوس وعقول البشر لفترة طويلة كنمط تفكير أوحد، الى أن جاءت الفلسفة كنمط تفكير متقدم، أنتقل فيه الأنسان من الخيال والحدس ووعي المشاعر الى التفكير العقلي والمنطقي، ومن نظرة التسليم المطلق لما جاء به السرد الأسطوري الى فلترة عقلية تعتمد في قناعتها على المسلمات المنطقية . هذا التحول في النظرة هو الذي حدى بأفلاطون بجمهوريته بأن صرح بضرورة أبعاد الشعر عن الجمهورية الفاضلة التي تقوم على العقل، لأن السماح بالشعر يعني فتح الطريق أمام الأسطورة (الأسطورة والمعنى ص31). يتضح من كتابات الدكتور خزعل الماجدي، بأستخدام حسه الشعري الخيالي، في التحليل التاريخي للأسطورة، كما أن لأفلاطون كل الحق في أبعاده للشعراء من جمهوريته الفلسفية، وأن هذه الجمهورية حسب أدعاءه تقوم ركيزتها على المنطق، في حين أن الدكتور الماجدي هو في الأصل شاعراً ومجيئه للدراسات التاريخية متأخر على شاعريته، فمزج شاعريته في المنهج العلمي للدراسات التاريخية وخاصة الأسطورة، مما جعله يقع بالمحذور الذي حذر منه أفلاطون بضرورة أبعاد الشعراء من هذا المجال الذي يعتمد بشكل أساس على المنطق.

ولكي لا نطول في هذه المقدمة الضرورية، ننتقل الى الدكتور الماجدي في كيفية خلطه للأسطورة الرافدينية القديمة مع أسطورة قابيل وهابيل التوراتية، وهي أسطورة لست بصدد الدفاع عنها لأني أساساً لا أعتقد بصحتها بأعتبارها تمثل أيضاً سرداً أسطورياً، ولكن كُتبت على أيدي حاخامات اليهود، وهذا ما أكده بوكاي حيث يقول (كان الكتاب المقدس قبل أن يكون مجموعة أسفار تراثاً شعبياً لا سند له الا الذاكرة، وهي العامل الوحيد الذي أعتمد عليه في نقل الأفكار) (بوكاي دراسة الكتب المقدسة ص20 )، ولم أجد هناك مصدراً رئيسياً لها كما يدعي الماجدي في الأسطورة الرافدينية، الا اللهم قد يكون أوحت الأساطير الرافدينية لكتاب الأسفار التوراتية ببعض الأفكار أو أستنهضت بهم أيحاءً أسطورياً، ولكن بنفس الوقت لا يمكنني أن أنفي أفكاراً فيها كان مصدره النبي موسى عليه السلام، ولكن كما هو معروف للمطلعين على السرد الأسطوري أنه قد يبدأ من حقيقة معينه وينسجون عليها حبكة سردية كبيرة تغطس فيها الحقيقة الأولى، ويبقى الوجود الأكبر لما نسجه النساجون من سرد قصصي أسطوري يطغي على البذرة الأولى. أن خطورة ما يريد التوصل اليه الدكتور الماجدي هو سعيه الحثيث، وقصديته الواضحة الى ربط الأسطورة الرافدينية القديمة بالتوراة، متجاوز بها الى المسيحية ليختمها بالأسلام، وهذا مقصده المهم والنهائي. وأن حكاية قابيل وهابيل من خلال تحليل سرديتها التي ربطها الدكتور الماجدي ستكشف أن ليس هناك تناصاً تاماً، ولكن لا يمكنني الجزم بأنه ليس هناك أيحاءً قدمته الأساطير الرافدينية لكتبة التلمود والكابالا وأسفار أبو كريفا وغيرة من الكتب اليهودية التي تناولت حكاية قابيل وهابيل .لنذهب بعد هذه المقدمة الى رصد أدعاءات الدكتور الماجدي في ربطه بين حكاية قابيل وهابيل والأسطورة الرافدينية، وهي بالحقيقة أن هناك أكثر من أسطورة رافدينية يدرجها الدكتور الماجدي والتي يدعي أن التوراة والكتب اليهودية تناصت معها، وأول هذه الأساطير هي أسطورة (أنانا ودِموزي) التي جعل منها الدكتور الماجدي الجذر الذي أرتبطت به أسطورة التوراة، والتي جعل الماجدي من هابيل فيها نضيراً لدِموزي الذي يمثل اله الرعي في المعتقد الأسطوري السومري، وهنا يربطه الماجدي مع هابيل بأعتبار هابيل يمتهن الرعي أيضاً . أن عنصر مشترك واحد لا يشترط التناظر بين الأسطورتين، كما أن هناك أختلافات كثيرة تبعد كل مقاربة بينهم، فمثلاً أن دِموزي يمثل اله الخصب الذي يرعى الزرع،الذي هو مهم للرعي،وهذا يعني أنه ليس ممارس للرعي حتى نماثله مع هابيل الذي تدعيه التوراة أنه مارس الرعي، كما لدِموزي معبد يُعبد فيه أسمه (أي موش) وهو نفس المعبد الذي تُعبد به الآلهة أنانا،كما ذكر الماجدي في كتابه (أنبياء سومريون ص ٢٥٢) وهذه مفارقة في حين أن قابيل أنسان، كما أن هابيل أختلف مع أخيه قابيل، في حين أن دِموزي لم يختلف مع أنانا عشيقته وزوجته، بل أن أنانا شعرت بأنه لم يعد يهتم بها فغضبت منه، فأرسلته الى العالم السفلي غضباً عليه، ولكن بعد توسط الاله أنكي وشفاعته له أرجعت المياه الى مجاريها بين دِموزي وأنانا الالهين العاشقين، ولم يحدث أي جريمة قتل كما حدثت بين هابيل وقابيل، وأن الشفاعة التي حصل عليها دِموزي لم يحصل عليها قابيل من الله، لذى لا أرى أي حالة من التماثل أو التناظر بين حكاية هابيل وقابيل وبين الأسطورة الرافدينيه (دِموزي وأنانا)، فالرجل قد جارى ما فسره الآخرون وخاصة الغربيون في ربطهم هذا بين حكايتين لا رابط لهم، كما أن الماجدي مارس ربطاً تعسفياً يتماشى ونظرته الآيدلوجية التي تسعى الى نسف الأديان السماوية.

كما يمكننا الذهاب الى أسطورة أخرى يتعلل بها الدكتور الماجدي، ويعتبرها دليل آخر مضاف للتناص الحاصل بين الأدب الأسطوري الرافديني وما جاء من حكايات بين دفتي التوراة وغيره من كتب اليهود الأخرى . هذه الأسطورة هي أسطورة (أيميش وأنتين) و هي أسطورة لا علاقة لها بما جاءت به حكاية هابيل وقابيل، ولا علاقة لهما في فحوى الحكايتين، فأيميش وأنتين، هما ألاهين مخلوقين من قِبل الاله انليل، فكان الاله ايميش خُصص ليرعى فصل الصيف والرعي، أي لم يكن راعياً، بل يهيء ظروف الرعي، أي الحقول التي ترعى فيها الحيوانات أما أنتين خلقه لرعاية فصل الشتاء والفلاحة، وقد حصل خلاف بينهما، ولم يُذكر سبب الخلاف، ولكنهما أحتكما الى الاله انليل، والتي يذكر الماجدي أن الاله انليل فض الخلاف بينهما، وقد مال الى جانب الفلاحة والشتاء على الرعي والصيف، في حين أن حكاية التوراة قد بينت الخلاف وسببه، وهي تنافسهم على الزواج من أختهم (أقليما)، وأن الخلاف أنتهى الى مقتل أحدهما، في حين لم يبين في أسطورة (أيميش وأنتين) لا نوع الخلاف وسببه، ولم ينتهيا الى القتل كما حصل مع قابيل وهابيل، وهنا أسئل الدكتور الماجدي أي تشابه وتماثل بين هذه الأسطورة السومرية وماجاء بالتوراة؟، كما أن الباحث فراس السواح ذهب الى أن أنليل قد صالح أيميش وأنتين وأنتهى الأمر بمديح لأنليل (مغامرة العقل الأولى ص211). ولو ذهبنا الى أسطورة رافدينية أخرى أستطراداً بالدليل على لا تناصية التوراة مع الأسطورة الرافدينية في هذا الخصوص، والتي يسوقها خزعل الماجدي كدليل على هذا التناص هو أسطورة (أشنان ولاهار)، حيث يخلق انليل (ألاهار) النعجة، ويخلق (اشنان) الحبوب، وعندما تنافسى أحتكما الى أنليل، وحينها أنحاز انليل الى أشنان الهة الحبوب على حساب لاهار الهة النعجة، وهنا أيضاً تمثل هذه الأسطورة عكس ماذهبت الية حكاية قابيل وهابيل التوراتية، حيث نرى الاله انليل وقف الى جانب أشنان الهة الحبوب في حين أرتضى الله في النص التوراتي الى قبول تقدمة هابيل لحسن سيرته وتقواه، وأنه مجني عليه من قِبل أخيه قابيل، فالله التوراتي يقدم أسباب وجيه للرضى من هابيل والغضب على قابيل، في حين نرى أن الاله انليل يقبل عن أحدهم ولا يقبل من الآخر أنه  مجرد أمر مزاجي للأله أنليل.

أن خلاصة ما أُريد قولة أنني لست بصدد الدفاع عن التوراة، بل بصدد نفي التناص الذي يدعيه الدكتور خزعل الماجدي وغيره من الكثيرين، وكما بينا أنه دليل واهن ولم يقم على حجة يُعتد بها أو يمكن الركون أليها، وأن لا تناظر بين الأسطورة السومرية والحكاية التوراتيه فيما يخصل قابيل وهابيل، بل أنا أميل تماماً الى أن ما جاءت به التوراة والكتب اليهودية الأخرى هو من أنتاج المخيال اليهودي، وهم يمتلكون من الأمكانية ما تغنيهم من الأقتباس من غيرهم، وأن لم أنفي تماماً أنهم لم يأثروا بغيرهم، وهذا ما يحدث في كل زمان ومكان، كما أحببت أن أشير الى نقطة مهمة الا وهي أن القرآن الكريم لم يرد في نصوصه أي أشارة الى أسماء أبني أدم هابيل وقابيل، كما لا يردا حتى في الأحاديث النبوية، الا في حديث ضعيف عن طريق أبن كثير، وأن أبن كثير أعتمد على أبن عباس، وعبد الله بن عمر أبن العاص، وهؤلاء الأثنين وخاصة في مجال التاريخ القديم وقصص الأنبياء القدامى، وقصص الخليقة، يعتمدون كثيراً على أهل الكتاب، وأن هناك الكثير من الباحثين الأسلامين القدامى قد أعتمدوا كثيراً على ما يسمى بالأسرائيليات، وهذا ما نجده مثلاً في كتاب (بدائع الزهور في وقائع الدهور) لمؤلفه محمد بن أياس الحنفي، كما أن هناك بعض المفسرين القريبي عهد منا، قد ذكروا في تفاسيرهم أسما أبني آدم (قابيل وهابيل)، ومنهم محمد رشيد رضا، وسيد قطب، ومحمد جواد مغنية، وهم يعتبرون ذلك من الروايات الأسرائيلية (قصة أبني آدم...غسان عاطف بدران ص12-13).

ومما يجدر الأشارة اليه أن للشيخ محمد جواد البلاغي كتاب مهم بهذا الصدد تحت عنوان (الأكاذيب الأعاجيب)، كما هناك كتاب تحت عنوان (الموروث الأسطوري في تفسير أبن كثير) وهي أطروحة ماجستير في جامعة النجاح بفلسطين من أعداد (مؤيد أحمد سعيد خلف)، حيث تبين ولوج الأسرائيليات في التفاسير الأسلامية، وهناك الكثير الكثير في هذا الصدد . ان التلاعب بالتاريخ أصبحت لعبة تهوي الكثير ممن يسعى للشهرة، أو ينفذ من خلالها أجندة خطيرة، وهي مهام تقوم بها مراكز تنتمي لدوائر دول وجهات متنفذه عالمية تستخدمها كأدوات في حربها الناعمة ضد أديان ودول وشعوب يُراد تحطيمها بأدوات فكرية معقدة لا تحسن عملية النفاذ اليها ومعرفة حقيقتها، وخاصة الشعوب القليلة القراءة مستخدمين التاريخ الموغل بالقِدم والذي يتجنب دخوله الكثير لتشابك أحداثه، والشك في مصادره، كما أني لا أستطيع أن أزعم أن ليس هناك تناص في نقل الأفكار سواء على المستوى التاريخي أو الأدبي، وحتى العلمي والفني، ولكن ما أُريد الأشارة اليه أن ما قد تسلل من خيوط تناص في مواقع سردية أخرى، فهو تناص نقله الكتاب والباحثون والمفسرون في أطار التراث الثقافي التاريخاني، وهو ما حدث بالفعل في الكثير من السرديات، ولكن المهم هو الفصل مابين ما هو موروث ثقافي في مجال التفسير والتأويل، وبين ما يمثل النص الأصلي (الألهي) المتمثل بالكلام الذي أرسله الله سبحانه وتعالى للأنبياء، فالفرق كبير، ولكل منهما مصدره، ولكن الخطورة في دمجهما وأعتبراهما حالة واحدة، ويتمتعان بنفس الدرجة من المقام والقدسية، وهنا هو الخطأ الفادح لمن سهى، والخطيئة العظمى لمن أستهدف ورمى، محاولاً التشوية والتحريف.

 

أياد الزهيري

 

الصفحة 6 من 6

في المثقف اليوم