دراسات وبحوث
جعفر الحكيم: قراءة في رسالة بولص الى اهل غلاطية
حوارات في اللاهوت المسيحي (48)
شاول الطرسوسي، او كما يعرف في الأدبيات المسيحية بالقديس بولص او رسول الامم هذا الرجل الذي يعتبر من اهم الشخصيات المؤثرة في التاريخ المسيحي، تشكل رسائله جزءا كبيرا من العهد الجديد يصل الى ما يقارب النصف من أسفار هذا الكتاب الذي يعتبر نصا مقدسا وكلمة الله لدى المسيحيين.
وتعتبر هذه الرسائل على تنوعها وتعددها ذات أهمية كبيرة جدا للباحثين، ليس فقط من الناحية العقائدية وانما من الناحية التاريخية كذلك، ففي الوقت الذي تبين لنا دراسة هذه الرسائل مسيرة نشوء وتطور العقائد المسيحية في مراحلها المبكرة جدا،بنفس الوقت تسلط هذه الرسائل الضوء على بعض الخلافات والتباينات بين اتباع العقيدة الجديدة في تلك المرحلة.
تعتبر رسالة بولص الى اهل غلاطية واحدة من اهم الرسائل التي يتضمنها العهد الجديد لاحتوائها على مضامين مهمة تشير الى بدايات تشكل نوع جديد من الايمان، والذي سيتطور خلال فترة القرون الثلاثة الاولى، ليشكل لاحقا ما يعرف بالديانة المسيحية بعد مرحلة مجمع نيقية وما تلاها.
هذه الرسالة كتبها بولص الى اتباعه في منطقة غلاطية التي تقع في وسط منطقة الأناضول وكانت في ذلك الوقت جزء من الامبراطورية الرومانية وفي زمننا الحالي تقع ضمن أراضي تركيا في منطقة انقرة وحواليها ويعتقد الباحثون ان رسالة غلاطية قد كتبت في الفترة الواقعة ما بين عام 50 الى 57 ميلادي.
ويبدو ان الهدف الاساسي من كتابة بولص لهذه الرسالة هو إثبات شرعية رسوليته وكذلك لترسيخ مبادئ عقيدته بين اتباعه في غلاطية والتي تتلخص بأن البر والخلاص يتم عن طريق النعمة والايمان بالمسيح من دون الحاجة الى اتباع شريعة التوراة او مايعرف بالناموس.
بالاضافة الى ذلك، نلاحظ ايضا ان بولص في هذه الرسالة كان يحاول التحذير من جماعة مسيحية اخرى كانت قد بدأت التبشير في تلك المنطقة حيث نلاحظ انه يصف تلك الجماعة بإن بشاراتهم ملعونة ويحاول أن ينفي عن نفسه تهمة الكذب التي يبدو ان اولئك المبشرين المسيحيين كانوا يرمون بولص بها، وبالمقابل نجده يبادلهم الاتهام ويحذر منهم بل ويتوعد بالتهديد الذين يتبعونهم من اهل غلاطية، لانهم يتسببون بالبلبلة بين المؤمنين، ونرى في الإصحاح الثاني من هذه الرسالة، اشارات من بولص الى ان تلك الجماعة المسيحية المناوئة له هم من اتباع يعقوب البار والمعروف بيعقوب اخو الرب، رأس كنيسة أورشليم والذين صاروا يعرفون بأسم الابيونيين
الرسالة الى غلاطية يمكن تقسيمها الى محورين أساسيين لغرض البحث والتمييز بين مضامين محتويات الاصحاحات الخمسة التي اشتملت عليها.
وهذان المحوران هما المحور الايماني والمحور التاريخي.
المحور الايماني: اشتملت هذه الرسالة على العديد من الاشارات والتصريحات من بولص، ليس فقط حول ايمانه بالمسيح وما يترتب عن ذلك الايمان، وانما ايضا حول نظرة بولص الى نفسه والمنزلة التي يعتقد انه وصل اليها في تراتيبية قيادة المعتقد الجديد.
نلاحظ في مقدمة الرسالة ان بولص يدعي ان رسوليته ليست بتكليف احد من الناس، وانما بتكليف مباشر من السماء، من يسوع المسيح ومن (الله/الأب) الذي اقام يسوع من الاموات وكذلك نجده يدعي أن الله اختاره لهذه المهمة منذ كان جنينا في بطن امه، ويعتبر نفسه بمثابة ملاك من الله
في مقدمة الرسالة، نجد بولص يميز بشكل واضح بين الرب يسوع وبين (الله - الاب) الذي هو (الإله) الذي اقام المسيح من الموت، والذي جاء المسبح لتنفيذ مشيئته، وهنا ينبغي ان نضع في الاعتبار تاريخية هذا الكلام وزمنه السابق على زمن عقيدة الثالوث المقدس، التي تطورت لاحقا وترسخت وسادت بعد اكثر من قرنين من زمن كتابة هذه الرسالة.
في هذا المحور ايضا، تتوضح تعليمات بولص والتي تعكس ما كان يؤمن به حول موضوع الالتزام بتعاليم الشريعة / الناموس وحول موضوع الخلاص والبر، حيث نجده، يصر على ان الخلاص يكون بنعمة الايمان فقط، من دون الحاجة الى الناموس والذي اصبح لعنة بعد مجيئ المسيح لان المسيح بتضحيته وتعليقه على خشبة الصلب اصبح هو لعنة من اجل ان يفدي خطايا المؤمنين، فالمسيح حررنا من لعنة الشريعة لانه صار لعنة من اجلنا حين مات معلقا على خشبة.
ومن هذا المنطلق يشدد بولص على اتباعه والذين هم من غير اليهود على عدم حاجتهم الى الاختتان من اجل الدخول في الايمان الجديد، بل نجده يهاجم وبشدة المسيحيين الاخرين الذين يقولون بأن المؤمنين الجدد يجب ان يختتنوا، ويؤكد على ان نعمة الايمان وحدها تكفي لنيل الخلاص والبر، وهنا نجد تعارض واضح مع تعاليم رأس كنيسة اورشيليم، يعقوب البار والذي هو اخو يسيوع المسيح والذي كان يشدد على اهمية الالتزام بتعاليم الناموس،بالاضافة الى الايمان، من اجل نيل البر والخلاص كما جاء في (رسالة يعقوب) والتي تعتبر ايضا من اسفار العهد الجديد.
في المحور التاريخي: وهو الاهم في هذه الرسالة، نجد العديد من التناقضات والمراوغات وكذلك التجاوزات التي وقع فيها بولص وهو يوجه كلامه الى اتباعه من اهل غلاطية بنبرة فيها الكثير من الغضب والحنق وصلت في بعض الاحيان لدرجة التهديد والخروج عن اللياقة بل وحتى التجاوز بالشتم ونجده ايضا يكيل الكثير من الاتهامات الى المسيحيين المختلفين عنه بل وحتى الى تلاميذ المسيح مثل بطرس وبرنابا.
ويبدو ان تراشق الاتهام بالكذب كان على أشده بين بولص وبین جماعة المسيحيين من اليهود حيث نجد بولص في الوقت الذي ينفي عن نفسه صفة الكذب يرمي بهذه التهمة على خصومه (من المسيحيين الاوائل) والذين هم (اخوة دخلاء كذابين) ممن يفترون عليه والذين يبشرون بإناجيل اخرى غير انجيله معتبرا تلك الأناجيل بمثابة اللعنة وليس البشارة.
ولم تقتصر اتهامات بولص على تلك الجماعة المسيحية المختلفة معه وانما طالت ايضا تلميذي المسبح بطرس وبرنابا الذين اتهمهم بولص بالرياء والتلون، رغم ان التلميذ بطرس يعتبر بمثابة الصخرة التي اقام المسيح عليها كنيسته بما تمثله من رمزية في غاية الاهمية لصرح الايمان المسيحي
في هذه الرسالة تبرز علامات غضب بولص وتضايقه من تصرفات بعض الغلاطيين بحيث نجدهم يوجه لهم شتيمة من خلال وصفهم بالاغبياء !! ونجده يخاطبهم متعجبا ومتسائلا كيف وصل بهم الغباء الى هذا الحد؟
ويبدو ان بولص الذي كان يدعي التواصل مع المسيح بعد ارتفاعه للسماء لم يكن يعرف ان المسيح نفسه قد نهى وحذر من الاساءة اللفظية او الشتائم والسباب، وكان يعلم تلاميذه (من قال يا احمق، يكون مستوجب نار جهنم) متی 22/5
ولم يكتف بولص بتوجيه الشتيمة بل نجده ايضا يوجه التهديد للذين يثيرون البلبلة ويرددون تعاليم المبشرين المسيحيين الاخرين ويتوعدهم بالعقوبة.
ويبدو ان الغضب بلغ مداه عند بولص الى الحد الذي جعله يخرج عن حدود اللياقة والتهذيب بحيث وصل به الامر ان يكتب عبارة مشينة مثل تلك التي تمنى فيه ان يقوم المختتنون ببتر اعضائهم.
في هذا المحور، يلاحظ الدارس للرسالة تناقض بولص في كلامه، ففي الوقت الذي أكد فيه على ان السماء هي التي كلفته بأرساليته وأنه يتلقى الوحي من الاب ومن يسوع المسيح، نجده في الإصحاح الثاني من الرسالة يقول انه عندما ذهب الى أورشليم والتقى باعمدة الايمان المسيحي( يعقوب اخو المسيح وبطرس ويوحنا) عرض عليهم ما يبشر به لكي يتاكد انه يبشر بالحق وليس بالباطل !!
وهنا تبرز علامة استفهام كبرى حول الحاجة الى اخذ رأي التلاميذ والتأكد منهم حول كرازته اذا كان حقا ما يدعيه من تواصله المباشر مع الرب يسوع عن طريق الوحي؟
وفي اطار الكلام حول لقاء بولص مع يعقوب والتلاميذ في اورشليم نجده يشير الى معلومة مهمة من الناحية التاريخية حين يقول ان التلاميذ قبلوا رسوليته للأمم وطلبوا منه (ان يتذكروا الفقراء).
والظاهر ان بولص هنا يشير الى التبرعات التي يحصل عليها من اتباع الكنائس التي يؤسسها خارج فلسطين والتي يبدو انها كانت اكبر بكثير مما تستطيع كنيسة أورشليم جمعه، الامر الذي دفع التلاميذ (الاعمدة) الى ان يطلبوا مساعدة بولص المالية للفقراء من المسيحيين المتواجدين في فلسطين
وفي رسالته هذه يمارس بولص في العدد 15 والعدد 16 من الإصحاح الثالث اسلوبه الذكي المعتاد في المراوغة اللفظية من اجل تمرير معلومة خاطئة لكي يبني عليها عقيدة ايمانية تكون راسخة في ايمانه الجديد، فنجده يحاول أن يتلاعب بمعنى كلمة (نسل) ليقول لأتباعه بأن هذه الكلمة الواردة ضمن وعد الله لإبراهيم تعني يسوع المسيح فقط لانها جاءت بصيغة (نسل) وليس انسال.
هذه الجرأة العجيبة لدى بولص بالتلاعب بالألفاظ يرد عليها علماء اليهود بالسخرية ويؤكدون ان كلمة (زرعا) بالعبري والتي تعني (نسل) تأتي دائما للدلالة على الجمع وليس المفرد، وللتوضيح هي تشبه كلمة (إبل) باللغة العربية والتي تأتي دائما للإشارة الى الجمع وليس لها مفرد.
وفي ختام رسالته الى اهل غلاطية يسطر بولص عبارات تفوح منها رائحة العنصرية.
حيث يكتب عن ابن (هاجر الجارية) وابن (سارة الحرة) بأسلوب فيه استعلاء ايماني للذات وتكبر مع ازدراء وعنصرية نحو الآخر المختلف حيث يعتبر ابناء هاجر عبيد يستحقون الطرد مع امهم الجارية، اما بولص واتباعه فهم بمثابة ابناء الوعد وابناء الحرة.
وبهذا يختتم بولص رسالته الى اهل غلاطية بهكذا عبارات تنم عن عقلية عنصرية، قام بولص بتحويلها من عنصرية عرقية يهودية الى عنصرية ايمانية مسيحية.
و ختاما لابد من معاودة التذكير، بما هو معروف، وهو ان هذه الرسالة بكل ما تحتويه من تناقضات وتجاوزات تعتبر، الى جانب اكثر من عشر رسائل اخرى لبولص، من مكونات العهد الجديد وتضفى عليها قدسية الوحي الذي تكلم به اناس الله القديسين مسوقين بروح القدس، بحسب الايمان المسيحي.
***
د. جعفر الحكيم