دراسات وبحوث
عصمت نصار: مقاصد التجديد بين الخطاب والمشروع
يبدو أنّ ربط المُتحدثين بين الإجتهاد والتجديد في سيّاق حديثهم عن بِنيّة مشروعهم في إعادة بناء الأمة وإصلاح ما فسد فيها من قيّم أخلاقيّة ومعتقدات دينية، كان لضرورة خطابيّة ومنهجيّة فتقديمهم مصطلح الإجتهاد على التجديد يُطمئِن الجمهور ويؤكد لأصحاب الرأي وأولي الأمر أن دعوتهم أصوليّة سلفيّة تراثيّة لا إبتداع فيها ولا مخالفة لما جاء في الكتاب و صحيح السُنة، فتطمئن القلوب وتتبدد الشكّوك في نوايا المُعتليين منابر الإصلاح والوعيّ والتوجيه. أما العِلة المنهجيّة لهذا الربط فتكمن في حثّ المتخصصين من العلماء والفقهاء على الإجتهاد في تفعيل النهج التأويلي للآيات القرآنيّة والنهج النقدي لكُتب الحديث وتنقيّة الروايات التي تتحدث عن السيرة النبويّة، وذلك كله للوقوف على المقاصد اليقينيّة للشريعة التي تمثل ثوابت العقيدة التي دعى إلى الرجوع إليها الأستاذ الإمام “محمد عبده” في قوله (ضرورة الرجوع إلى الدين في بساطته الأولى قبل ظهور الخلاف حتى يتمكن المُجددون من إحياء الأصول الشرعيّة والثوابت العقديّة وإبراءها ممّا حاق بها من إنتحالات وتأويلات أدت إلى صرفها عن صورتها الحقيقية وجوهرها السليم).
وقد أوضح ذلك الفقيه التونسي المُعاصر الدكتور “نور الدين الخادمي ١٩٦٣م— ” في مَعرِض حديثه عن التجديد بوصفه الطريق الأمثل لإحياء التفكير الديني وتقويم الشائع في العقل الجمعي عن حقائقه التي دعى إليها الإمام “محمد عبده” ويقول الدكتور “الخادمي” في ذلك (لا ينبغي أن يُفهَم من تجديد الدين استبدال الإسلام بدين آخر، أو تغيير بعض الأحكام القطعيّة الثابتة أو إحداث أمور – في الفهم والتطبيق – مخالفة للدين وقواعده ومقاصده … والمراد بعمل المُجدد حيّال المقاصد الشرعيّة هو حفظ الدين وإقامة التوحيد وجلب المصالح والمنافع وتحقيق العدالة والحرية والأمن والسلم).
ويضيف الأستاذ ” بشير نافع ١٩٥٣م —” أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة لندن أن كتابات “ابن عاشور” تُعد أصدق التطبيقات العمليّة لمشروع “محمد عبده” ولا سيّما في مبحث التجديد، مستشهداً بموقف “ابن عاشور” من فتاوى الأستاذ الإمام حيّال مناهج التعليم في تونس وكذا دعوته لفتح باب الإجتهاد إستناداً على العلوم الحديثة والآراء الفلسفيّة المعتبّرة التي لا تتعارض مع صحيح الدين وتتوافق مع المقاصد الشرعيّة.
ولعلنا نجد ذلك بوضوح في معظم كتاباته عن التجديد والمُجددون، فقد أعلن “ابن عاشور” في صَدر حديثه عن مشروع التجديد الذي أنضوى تحت رايته، بأنه رافض لضربيّن هما الجمود والتقليد من جهة والتغريب والتبديد من جهة أخرى، وهو مُلتزم في ذلك بالقواعد التي استنها رواد هذا المشروع الحضاري الذين أدركوا أن هلاك الأمة في تقديس تراث الأقدمين والإنبهار بثقافة الوافد من الحداثييّن الغربييّن، والنجاة من هذا وذاك في الإحتكام إلى النقد الواعي بواقع الآنا الرافض للجمود والتخلف والمتطلع للإصلاح والرجوع بالأمة إلى ذروة المجد التي كانت تعتليها لقيادة الإنسانية في عصرها الذهبي الذي ألفت فيه العقول بين المقاصد الإلهية والمناهج العلميّة لمعالجة الأحوال المعيشيّة، موضحاً بأن هذه الرؤية سوف تجابه بالرفض سواء من المتعصبين للموروث أو من المتحمسين للسيّر في رِكاب المُحدثين، وقد صرح بأن أول صفات المُجدد هي الشجاعة والعزيمة التي لا يرهبها صخب الجمهور ولا توّعُد أرباب المصالح أو إرهاب حاشيّة السلطان، ويقول (ليس ببِدع أن يكون ما أراه في هذا الشأن راجحاً في كفة البيّان، فليس الحق بمُحتكر، ولا شرب الصواب بمُحتضر، والحُكم في الترجيح لمَحّك النظر).
ويبدو أن هذا النهج النقديّ جعله ينتصر إلى التجريب والوجهة العمليّة في تحديد صفات المُجدد فذهب إلى أن أحوال الواقع المعيش ومشكلاته هي التي تفرض على الأمة وجوده وتُحرض أصحاب الرأي لتأييده ومعاونته لبلوغ مقاصده؛ فإذا ما تفككّت الأمة وعمّ الفساد، فباتت الحاجة إلى القائد القوي الذي يضرب على أيادي المُفسدين ويُطيح برؤوس الفتن، وإذا ما عمّ الجهل وسادت الخرافة كان لزاماً على الأمة تقديم العلماء والمُجتهدين لإصلاح ما فسد، وإذا أنحدرت الأخلاق وماتت الضمائر وفسدت الذمم فبات لزاماً على علماء الدين وورثة الأنبياء إحياء الورّع والحيّاء وتجديد الحاسة الدينية في المشاعر والقلوب والأذهان أيضاً وتخليص الروح الجمعي من الأضرار التي أصابته، وإذا ساد المُجدفون والمُجترؤن والمُبتدعون والفُساق والكَذبّة في عصر ما، كانت الأمة في حاجة لذلك المُجدد العاقل المُحلل الحصيف المُتمكن من التمييز بين حرية البوّح والإجتراء والتجديف ونشر الفتن وإزدراء الدين، والمُجادل الفطِنّ الذي يحتكم إلى العلم والحكمة في التناظر والتصاوّل والحريص على حرية الفكر والإعتقاد حرصه على حماية الدين وصَوّن مقاصد الشريعة التي تُؤمن بها الأمة والحفاظ على وحدة كيّانها وسلامة وأمان أفرادها.
وقد حذر “ابن عاشور” في الوقت نفسه من سياسة القمع والحَجّر على الحريات والإستبداد في الرأي للحد من مظاهر الجموح، فإنّ مثل هذ السياسات لن تُعيد المُلحدين إلى حظيرة الإيمان ولن تهدي الشاطحين إلى الصراط المستقيم، مُشيراً إلى سلوك رسول الله في مجابهة الفُساق والمنافقين والكُفار الذين لم يؤمنوا بنبؤته ولم يَسلموا بشريعته، فلم يأمر بقتلهم ولم يَسُبهّم ما داموا لا يعملوا على فساد المجتمع ولم يناصبوا المؤمنين العداء ولم يعلنوا شَنّ الحرب عليهم وقد سار على نهجه جل الخلفاء والصحابة، ومن ثم لا يجوز للداعية المُجدد تحريض أتباعه على إرهاب الأغيار والمخالفين في الدين، فالمُجدد الحق هو الذي يوازن بين آليات الإصلاح ومآلاتها قبل الشروع في إنتخاب أحداها لتثقيف العقول وتخليصها من ظُلمة الضلالات والأوهام التي جنحت بها، ويكون أكثر تسامحاً مع المخالفين حتى لا تكون فتنة فيتفكك المجتمع وتتبدد الألفة التي كانت تجمع بين أفراده.
وإذا ما أشتد الخطبّ وضعفت الأمة واستباح المعتدون كل عزيز فيها قتلاً ونهباً وسلباً وإنتهاكاً وسطواً، فمن البديهي أن يكون المُجدد هو قائد الجُند الذي يقود الأمة لإسترداد ما نُهب ورد المُعتدين والقَصاصّ من المُغتصبين، مثل الملك “الكامل ناصر الدين محمد ١١٧٧م – ١٢٣٨م ” الذي تصدى للصلبيين، و”خربندا محمد التتري توفى نحو ١٣١٦م” الذي إنقلب على جيوش التتار وإنتصر للإسلام، والسلطان ” أبو الوليد إسماعيل بن فرج من بني الأحمر ١٢٧٩م – ١٣٢٥م ” سلطان غرناطة الذي تصدى للأوروبيين الأسبان الذين أرادوا الإطاحة بمُلك الأندلس، والقائد “محمد الفاتح ١٤٣٢م – ١٤٨١م” الذي أحيا حضارة الإسلام في مطلع العصر الحديث، والسلطان “سليم الأول ١٤٧٠م – ١٥٢٠م” الذي لَمّ شتات الولايات الإسلامية ونَصبّ نفسه خليفة عليهم، و” نور الدين سليم جهانكير ١٥٦٩م – ١٦٢٧م ” الذي أنقذ المسلمين في الهند من خطر الرِدّة والإضطهاد العقدّي.
وإذا ما غاب الحيّاء وهجرت التقوى القلوب وخَيّم الفُحش على سلوك الناس وإستُحلت الكبائر وبات الظلم هو الحاكم في رؤوس العباد، أصبح الواعظ الورّع والتقيّ العاقل والخطيب المؤثر في العقول والقلوب والهادي للنفوس هو المُجدد في زمنه والإمام في قومه، ويقول “ابن عاشور في ذلك مُحاكياً أبا حامد الغزالي (١٠٥٨م – ١١١١م) عن وظيفة المُجدد في تحقيق مقاصد الشَارَعّ (إن القيام بحق الربوبيّة هو واجب العبوديّة وهو المقصد الأول للتشريع، كما إن إفادة كيفيّة جبر ما تقتضيه البشرية غير المعصومة من بعض الخلل هو واجب أيضاً على المُجدد، وكذا عدم الموالاه والتوّدد بالموّدة لأصحاب الجاه والسلطان ومنع كل ما يَفضي إلى إظهار تكبّره وعلو مكانته على المسلمين وتعظيم رتبته عليهم، ينبغي أن تكون من خصاله)، وهو يتفق تمام الإتفاق مع “رفاعة الطهطاوي”، و”محمد عبده”، و”عبد المتعال الصعيدي” على أن المُجدد لا تؤول إليه هذه الصفة لشعبيته أو مكانته في قومه أو رئاسته لجماعة أو ظهوره في مجتمعات جاهلة ولا لكونه وّرِعاً زاهداً أو فقيهاً عالماً أو معلم مُحدثاً، لا يستفيد المجتمع من فضل معارفه أو من جوّد كرمه.
ويُمكننا أن نُلاحظ من حديث “ابن عاشور” عن مفهوم التجديد وصفات المُجددين مدى إنضوائه لمشروع الإستينارة الرئيس الذي أشرنا إليه في السطور السالفة، فقد جَمعّ بين مفهوم الإجتهاد والتجديد وربط بين خِصال المُجدد ووظيفته في إصلاح المجتمع وتوجيه الناس للمقصد الحقيقي للكتاب والسُنة، ويعني ذلك أن تجديد الدين عنده له غاية عمليّة ومقصد شرعي في حماية الدين ورِفعة وتَقدمّ المؤمنين وتخليصهم من كل مكامن الفساد ومواطن الإستبداد، وإتباع سُنة النبي (صلى الله عليه وسلم) والتحلي بأخلاقه شأن خيّر العباد، وبذلك نجح شيخنا في الحِفاظ على بنيّة نسقه العقلاني الذي صرح به في معظم كُتبه، ألا وهو تبصير الأمة بالمقاصد الشرعيّة التي لا يجب عليهم الإنصراف عنها مهما إختلفت الأقطار وتبايّنت المجتمعات وتَعددّت الثقافات وتبدلّت أحوالهم من الإنكسارات إلى الإنتصارات.
وحسبنّا في عجالة الإشارة إلى ترابط نسق مبحث التجديد الذي وضع أفكاره الرواد المؤسسون وذلك لإثبات أمريّن أولهما: أن “حسن العطار” ورفاقه وتلاميذه لم يكونوا مجرد أصحاب خطابات توفيقيّة أو دعوات تنويريّة أو وجهة إصلاحيّة فحسب، بل كانوا رواد مدرسة تتسم أفكار أعلامها المتتابعين بالأصالة في المنهج والأفكار والتواصل في مناقشة القضايا وإبتداع الحلول التي تطرأ على واقعهم المعيش بمنهج يجمع بين العلم والفلسفة والتجربة العمليّة.
أما الأمر الثاني الذي نريد إثباته هو أن أعلام هذه المدرسة قد طوّروا من أفكارهم بحسب اللحظة التاريخيّة التي ألقوا فيها خطابتهم على نحو يهدف إلى توعيّة الرأي العام التابع وتقويم معتقداته وتحرير أذهانه من التقليد، وذلك كله بمنئ عن آفة التلقين أو التبعيّة التي يَعدُونها عائق من معوّقات الوعيّ والتربيّة الحديثة.
أضف إلى ذلك حرصهم على عدم التصادم بالسلطات القائمة سياسيّة كانت أو فقهيّة جامدة، وقد عمدّوا إلى ذلك حتى لا تُجابَه أفكارهم بالمنع أو العنف في طوّر مهدها.
وقد تمكنوا بهذا النهج تجييّش أعداد كبيرة من شبيبّة المسلمين عن طريق التعليم والتثقيف وتشهد بذلك أقلام الجيل الثالث والرابع من هذه المدرسة الذين لم ينصرفوا عن أداء رسالتهم التنويريّة الإصلاحيّة إلا في مطلع الستينات من القرن الماضي.
وحسبّنا مراجعة مراحل تطوّر بنيّة مبحث التجديد منذ بدايته في العصر الحديث على يد أولئك الروّاد – لإثبات ما تقدّم -، فقد قَدّم “حسن العطار” مصطلح الإجتهاد قبل التجديد؛ وذلك ليخرج القضية من دائرة التجديف أو الإتهام بالإبتداع – التي كان يروّج لها “محمد بن عبد الوهاب” ورفاقه الذين ربطوا مصطلح التجديد الحديث بالبِدع -، ثم جاء “رفاعة الطهطاوي” فأخرج المصطلح من دائرة المُشتغلين بالعلوم الدينيّة إلى دائرة العاملين على إصلاح الأمة وحل مشكلاتها وإنهاضها من كبوّتها من أُدباء ولغوييّن ومُتكلمين وفلاسفة بغض النظر عن إنتمائتهم الفقهيّة أوالمذهبيّة وإعتبار الدين هو أصدق الهادييّن لصوالح الناس. أمّا “محمد عبده” فقد حدّد دلالة مصطلح التجديد وبنيّة الأفكار التي يشتمل عليها والمناهج التي يجب على المُجدد الإلتزام بها، وقد أكمل هذا الطريق “عبد المتعال الصعيدي” في تأكيده على أن المُجدد هو ذلك العاقل الواعي بمقاصد الشريعة وغايّة الدين وأصوله من جهة والحاجة العمليّة للواقع المعيش من سائر العلوم والفلسفات من جهة أخرى، وأخرج المُجدد من دائرة أمة الإستجابة (أي المسلمين) إلى دائرة أمة الدعوة (أي الناس كافة) علماء كانوا أو فلاسفة، فرنسييّن، أو روّس، أو هنود، وذلك إستناداً على عبارة (منّ يجدد لهم دينهم) التي وُرّدت في الحديث الشريف وتُفيد العموم.
ثم جاء “ابن عاشور” ليجعل مفهوم الدين في دلالته الواسعة (أي ما يَعتقّد في صحته الناس ويسيرّون حياتهم بمقتضاه) ومن ثم يكون التجديد هو العمل على تنوير الرأي العام وتثقيفه بالمقاصد الشرعيّة وفقه المآلات والأوليات، الأمر الذي جعله يوسع من دائرة طبيعة المُجدد أيضاً؛ لتصبح عالماً، أو لغوياً، أو قائداً عسكرياً، أو مُتكلماً، أو فيلسوفاً بغض النظر عن نسبه أو جنسيّته أو مِلته. ولم يشترط على ذلك المُجدد سوى إلتزامه بالثوابت الشرعيّة وتحديث ما يجب تطويره، شريطة عدم نقض الأصول الشرعيّة الثابتة أو الأوامر الإلهيّة.
وقد بدأ خطابه بالإجتهاد في تفسير آيات القرآن ثم نقد وغربلّة تصانيف جُماع الحديث ورواة السيرة النبويّة، وانتهى بمراجعة الكُتب التي تحدثت عن القضية الأساسيّة ألا وهي التجديد والمُجددين على نحو تأليفي يجمع بين التليد من القديم والطريف المُستحدث من الجديد، متأثراً في ذلك كله بـ “فخر الدين الرازي”، و”ابن كثير”، و”ابن قُتيّبة”، و” أبو المعالي الجويّني”، و”شهاب الدين القرافي”، و”ابن خلدون” وجميعهم من أعلام التراث الإسلامي، وذلك بجانب تصريحه بالإنضواء تحت عباءة الإتجاه المحافظ المُستنير في الفكر الإسلامي الحديث.
وللحديث بقيّة عن إبداعات “ابن عاشور” في قضايا الفكر الإسلامي المعاصرة.
***
بقلم : د. عصمت نصَّار