دراسات وبحوث
علي صغير: تهافت أطروحات أرباب العنف والإرهاب

لا مِرَاءَ في أنَّ ظاهرة العنف في مختلف أشكاله ليست جديدة، إنَّمَا هي قديمة قِدَم الاجتماع البشريّ ذاته. إذ قلَّما نجد حقبة تاريخيَّة أو بيئة ثقافيَّة برأت فيها علاقة البشر بعضهم ببعض من عنف قَلَّ أو كثر، صغر أو كبر. فهو يكاد أنْ يكون فاعلاً في كُلِّ عصر وماثلاً في كُلِّ أمر. وعلى الرَّغْمِ من كون العنف شأنًا بشريًّا عامًّا و"قابلًة قانونيًّة" يلجأ جميعهم إلى الاستعانة بخدماتها من أجل بلوغ مآربهم وحلِّ تناقضاتهم الطَّبقيَّة والقوميَّة والإيديولوجيَّة المستشرية، إلاَّ أنًّه بات يُشَكِّل اليوم تحدِّيًا أو سِمًة بارزة تُمَيِّز، على نحو خاصٍّ، المجتمعات العربيَّة-الإسلاميَّة الَّتِي استحالت مرتعًا وافرًا للفوضى والاضطراب، ومنبتًا خصبًا للقتل والإرهاب. فالمواجهة الشَّاملة والدَّامية بين مختلف مُكَوِّنات هذه المجتمعات تجتاح جميع أرجائها بدءًا من افغانستان وباكستان مرورًا بالصومال ومالي واليمن والعراق وفلسطين وانتهاءً بسوريا ولبنان والسودان. وهي، في المناسَبة، أقسى ضراوًة وأشَدُّ مضاضًة من المواجهة فيما بينهم وبين أعدائهم الخارجيين، ولا يوفر مرتكبوها أخًا في الدِّين أو نظيرًا في الخلق سواء أكان ذكرًا أم أنثى، صغيرًا أم كبيرًا، مذنبًا أم بريئًا. بَيْدَ أنَّ ذلك لا يعني البتَّة صدق مزاعم القائلين بأنَّ الدُّوَل الأوروبيَّة هي واحة وارفة الظِّلَال حضاريَّة خضراء وَسْط صحارى همجيَّة جدباء، وحدائق غنَّاء مسالمة تسودها الأُلفة والوئام وَسْط ادغال تَعُمُّها شريعة الغاب والخصام. صحيح أنَّ المجتمعات الأوروبيَّة توصَّلت، وبعد حربين عالميتين داميتين في النُّصف الأوَّلِ من القرن المنصرم، إلى صيغة ضمنت لها الرَّخاء وإقامة ضرب من السَّلام الدَّاخلي بينها، غير أنَّ ذلك ما كان له أنْ يتحقَّق إلاَّ عَبْر الغزوات الأوروبيَّة الاستعماريَّة المتلاحقة للأُمَمِ المستضعَفة ونهب ثرواتها وخيراتها. إذ إنَّ تَخَلُّفَ الأخيرة هو الوجه الخفي لتقدُّم دُوَل المركز الرَّأسماليّ الَّتِي وما أنْ تستشعر منافسًا مُحْتَمَلاً أو خطرًا داهمًا يهدِّد هيمنتها الأحاديَّة المُطْلَقَة وتفوُّقها السِّياسيّ والاقتصاديّ والعسكريّ والتكنولوجيّ حَتَّى تعاجله بسلسلة من الإجراءات الشَّرسة المتتالية بدءًا من فرض العقوبات والحصار مرورًا بإثارة الفوضى والنَّعرات وافتعال الثَّورات المُلَوَّنة والانقلابات وصولاً إلى شَنِّ الحروب الخارجيَّة بالأصالة أو بالوكالة. لكن وبالرغم من كل هذه الإجراءات والآليَّات الخسيسة، فإنَّ الدُّوَل الأخيرة فشلت فشلاً ذريعًا في إبعاد شبح الحرب عن قارتها على ما تجلَّى ذلك في الحرب على يوغوسلافيا في تسعينيات القرن العشرين، ويتجلَّى حاليًا في الحرب الطَّاحنة الَّتِي تدور رحاها في أوكرانيا بين روسيا ودُوَل النَّاتو مجتمعة. وإنْ دَلَّ ذلك على شيء، إنَّمَا يَدُلُّ على أنَّ "العنف احتمال كامن في صميم الحاضرات الغربيَّة ينفجر عندما تتاح له الفرص المناسِبة والقنوات الملائمة،،، وأنَّ حروب الدَّاخل لم تعد تنفصل عن الحروب المعلنة من الخارج، وما من نزاع إلاَّ ويتغذَّى أو يصبُّ في دائرة أكبر وأوسع، حسبما عبَّر الفيلسوف علي حرب"(1).
وعلى وقع المخاطر الوجوديَّة المترتبة على هذا الانفجار غير المسبوق لكل ضروب العدوانيَّة والإرهاب في عصرٍ تترابط فيه المصائر والمصالح والأزمات، وتتَّسع فيه الهُوَّة بين التَّقدُّم المذهل في وعيه العلميّ-التقنيّ والنَّقص الحادِّ في جهاز مناعة وعيه الأخلاقيّ، تبدو الحاجة ماسَّة إلى مساءلة الأطروحات النَّظريَّة والمعياريَّة الَّتِي تنهض عليها إيديولوجيا العنف ويتصرَّف بوحيٍ منها غربان الخراب والنَّافخون في أبواق الفتن والإرهاب من أهل الأصوليَّات المتناحرة اللاهوتيَّة منها والنَّاسوتيَّة على حدٍّ سواء. ولئن كان صحيحًا أنَّ هؤلاء ليسوا كُلَّاً متجانسًا وأنَّهم على نزاع وتضادٍّ، فإنَّهم يستوون ويتماثلون في مسائل عدَّة، بخاصَّة، في مقاربتهم لإشكاليَّة العلاقة بين العنف والأخلاق، وفي أطروحاتهم الَّتِي يبرِّرون بها ممارساتهم العنفيَّة. ويمكن إختصار أطروحاتهم هذه بثلاث أساسيَّة: الأولى هي أنَّ العنف وسيلة محايدة أخلاقيًّا، وأنَّ لا تعارض جوهريًّا بين بعض الحالات العنفيَّة والخير؛ الثَّانية هي إدراج العنف في خانة الفضائل الأخلاقيَّة باعتباره رمزًا للبطولة والشَّهامة والكرامة، ما يعني، في المقابل، مماهاة اللاعنف بالفضائح الأخلاقيَّة بوصفه عنوانًا للجبن والذِّلَّة والخنوع أو نَعْتَه، في أحسن الأحوال، بالأوهام وأضغاث الأحلام؛ الثَّالثة هي استحالة تجاوز العنف من غير عنف مساوٍ أو أكبر في القُوَّة ومضادٍّ في الاتِّجاه.
فلننظر الآن في أمر هذه الأطروحات الثَّلاث مبتدئين بالأُولى. يُقال عادةً إنًّ العنف هو وسيلة أو أداة لغاية ما يفتح الأبواب و يُعَبِّد الطرقات، لكنَّه لا يُحَدِّد المُثُلَ والاتِّجاهات، وإنَّ العنف شيء ووجهة استخدامه شيء آخر تمامًا. فهو بمنزلة سلاح ذي حدَّين يمكن استخدامه تارًة من أجْلِ الخير وإحقاق الحقِّ، وتارًة أُخرى من أجْلِ الشَّرِّ والطُّغيان، أيْ إنَّ العنف يمكن أنْ يكون حصانًا أبيضًا يمتطيه الرُّوح المطلق أو أنْ يكون آلًة جهنميَّة ومكيدة شيطانيَّة. بعبارة أُخرى، العنف ليس خيرًا أو شرًّا بذاته، إنَّمَا يصير كذلك بغيره وبحسب نِسَبه واعتباراته الآتية: ا- الدَّوافع الكامنة وراءه والغاية المُتَوَخَّاة منه؛ ب- نتائجه المعنويَّة والماديَّة وتداعياته القريبة والبعيدة؛ ج- الجهة الفاعلة والجهة المفعول بها؛ د- الظُّروف التَّاريخيَّة والخيارات المتاحة واقعيًّا. وإلى مثل هذه الاعتبارات لجأ في حينه، على سبيل المثال لا الحصر، ليون تروتسكي (1879-1940) في مقالته الشَّهيرة الموسومة ب"أخلاقهم وأخلاقنا" المنشورة عام 1938، لدحض وجهة نظرٍ شائعة آنذاك في الأوساط الثَّقافيَّة والإعلاميَّة الغربيَّة مفادها أنَّ لا فرق جوهريًا بين سياسة البطش والتَّنكيل السَّتالينيَّة وممارسات تروتسكي نَفْسه القمعيَّة إبَّان الحرب الأهليَّة الرُّوسيَّة (1923-1917)، وأنَّ أعمال الرَّجُلَين الدَّمويَّة لم تكن البتَّة تدبيرًا مؤقَّتًا وخيارًا اضطراريًّا أملته ضرورات تاريخيَّة خانقة، بقدر ما كانت موقفًا مبدئيًّا وخيارًا إراديًّا واعيًا، ما يعني، بالتَّالي، أنَّ التَّروتسكيَّة هي نزعة عدوانيَّة لاأخلاقيَّة تمامًا كمثيلتها السَّتالينية. وفي معرض مرافعته الدِّفاعيَّة ضد هذه الدَّعوى يزعم ليون تروتسكي أنَّه وبالرَّغْمِ من التَّشابه الخارجيّ والصُّوْريّ بين الممارستين، إلاَّ أنَّه لا يصح مماهاتهما أخلاقيًّا بحكم الإختلاف الأصليّ في حقيقة دوافع كُلٍّ منهما ومقاصده، لأن من شأن ذلك معاملة جميع الحالات العنفيَّة بالتَّساوي، ما يُفضي، لا محالة، إلى طمس الفرق القيميّ، مثلاً، بين عنف ملَّاك العبيد الهادف إلى استغلال العبد ومصادرة حقوقه وعنف العبد المكافح من أجل حُرِّيته. وبما أنَّ العنف كوسيلة، على ما يرى ليون تروتسكي، يمكن أنْ يُستخدم لأغراض مختلفة ومتعارضة، فإنَّه من غير المعقول أو المقبول أنْ يُقَيَّم أخلاقيًّا بذاته بمعزل عن الغاية الَّتِي يرومها. فالرَّصاصة يمكن أنْ تقتل كلبًا مسعورًا لإنقاذ طفل من براثن خطر مُحْدِق ويمكن أنْ تقتل إنسانًا على سبيل النَّهب والسَّلب. ولَمَّا كان الفعل في كلتا الحالتين واحدًا، لكن المراد منه مختلف اختلافًا لا لَبْسَ فيه كان لا بدَّ من التَّمييز بين ضربين من العنف: "عنفنا" و "عنفهم"؛ عنف ثوريّ عادل مُبَرَّر أخلاقيًّا؛ وعنف رجعيّ جائر منافٍ للأخلاق(2).
بالطَّبع، لا اعتراض على القول إنَّ فعل العنف تُسَيِّره مقولة الغاية والوسيلة، وإنَّ العنف هو وسيلة مطلوبة لغيرها لا لذاتها. لكن العنف هو تلك الوسيلة الَّتِي تمتاز عن غيرها من الوسائل في كونها تنطوي في ذاتها مسبقًا على غايتها وتُحَدِّدها قبْليًّا. فالرَّصاصة (الأسلحة على أنواعها عمومًا) لم تُخْتَرَع لغرض المُدَافَعة ودرء الأخطار المفاجئة والمحتملة فقط، وإنَّمَا للقتل والطُّغيان والمُزَاحَمة والعدوان أيضًا. وبهذا المعنى يتعذَّر اعتبارها شأنًا بريئًا من النَّاحية الأخلاقيَّة. وهنا ثَمَّة حقائق مُرَّة متشابكة ثلاث لا بدَّ من الإشارة إليها: الأُولى وتتعلَّق باستحالة الفصل بين العنف وأدواته. فكل واحد منهما مربوط بالآخر ويتضاعف به. فالعنف لا يُرْمَى مع أدواته، ولا تُمْحَى ندوب جراحه، على ما يتجلَّى ذلك على الصَّعيدين المعنويّ والماديّ. فعلى الصَّعيد المعنويّ لا يكف أهل العنف عن التَّباهي بأسلحتهم، ونظم القصائد الشِّعريَّة فيها، وتزيين جدران منازلهم بها، وإقامة النُّصُب التِّذكاريَّة لها باعتبارها رمزًا لبطولات مجيدة وذكرى خالدة، وبشارًة لانتصارات جديدة قادمة. وتتجلَّى هذه المضاعفة المتبادلة بين العنف وأدواته، على الصَّعيد الماديّ، في تبدُّل الأدوار والأمكنة بين السِّلاح والحرب. وإذا كان البشر يصنعون الأسلحة في ما مضى من أجل الحرب، فإنَّهم اليوم يفتعلون الحروب من أجْلِ الاتجَار بالأسلحة بقدر ما يَدِرَّهُ هذا الاتجَار من ارباح فلكيَّة على الدُّوَلِ المعتمِدة في جزء كبير من اقتصادها ومدخولها القوميّ على الصِّناعات العسكريَّة. وهذه هي إحدى آليات نمط الإنتاج الرَّأسماليّ الَّذِي لا يُنْتِج سلعًة إلاَّ ويخلق مستهلكها وأسواقها وفضاءات استخدامها. والحقيقة الثَّانية تتمثل في استحالة الفصل بين العنف وأهدافه. إذ مهما تباينت أهداف العنف وتباعدت عنه، فإنَّها غالبًا ما تنتهي إليه وتعود إلى الارتماء في أحضانه. وكما أنَّ الغاية المولودة بالعنف لا يمكنها أنْ توجد بشكلٍ مستقلٍّ عنه، فكذلك يفقد العنف معناه بمعزل عن الغاية الَّتِي يرتبط بها. ومن يُحَقِّق مآربه ويشق طريقه إلى المستقبل بالعنف، فإنّه، لا محالة، يجر أثقاله ويزرُ أوزاره على مرِّ الزَّمان حَتَّى وإنْ تيسَّر له نيل مراده وتصفية جميع أنداده. أمَّا الحقيقة الثَّالثة والأخطر فتتمثَّل في تجاوز أدوات العنف لغاياته، واختلال العلاقة المعهودة بينهما. من المعلوم، طبقًا للنظرة السَّائدة إلى العلاقة بين الغاية والوسيلة، أنَّ الأُولى أثمن من الثَّانية، وأنَّ كل واحدة منهما مختلفة ومستقلَّة عن الأُخرى، وليس للوسيلة أنْ تعلو الغاية المطلوبة وتتخطَّاها. أمَّا في حالة العنف، بصفته وسيلًة، فإنَّه لا يُسهم في بلوغ الغاية فحسب، وإنَّمَا يواكبها على الدَّوام ويحرسها باهتمام حَتَّى يمسي جزءًا عضويًّا لا يتجزَّأ منها أيضًا. والأنكى من ذلك، أنَّ الغايات نفسها باتت اليوم محفوفًة بخطر أنْ تتجاوزها الوسائل والأدوات إلى ما ليس في الحسبان وما لا تُحْمَد عقباه. والحال أنَّ أدوات العنف قد تطوَّرت اليوم تقنيًّا إلى مستوى لم يعد معقولاً معه القول بوجود غايات سياسيَّة أو اقتصاديَّة أو إيديولوجيَّة تتناسب مع قدراتها التَّدميريَّة وتُبَرِّر استخدامها حاليًا في حلِّ التَّناقضات وفضِّ النِّزاعات بين مختلف الجماعات البشريَّة(3). إذ شَتَّان ما بين مفاعيل أدوات عنف الأقدمين ومفاعيل أدوات عنف المعاصرين، ما بين متوحِّش الزَّمن الغابر المُسَلَّح بِعَصا خشبيَّة ورماح معدنيَّة ومجانيق حجريَّة ومتوحِّش الزَّمن المعاصر المُدَجَّج بهراوات مختلفة أنواعها (كيميائيَّة وجرثوميَّة) و"مجانيق" فرط صوتيَّة ونوويَّة لا تُبْقي ولا تَذَرُ كفيلة بتحويل العنف من "قابلة قانونيَّة مُولِّدة للتَّاريخ" إلى "حفَّار قبر التَّاريخ". فالمرء لا يحتاج إلى حدس خارق وذكاء فائق ليرى بِأمِّ عينه كيف ينعقد القران القاتل بين أخطر ما في الحداثة وأردأ ما في التَّوحُّش والبربريَّة، بين جبروت العصر الرَّقميّ-النَّوويّ وأخلاق العصر الحجريّ وأكلة لحوم البشر cannibalism. ولئن كان صحيحًا أنَّ الأسباب العامَّة للعنف وغاياته بقيت إجمالاً على ما هي عليه، أقَلَّه على امتداد التَّاريخ المكتوب، فإنَّ ثَمَّة تَغَيُّرًا جذريًّا قد طرأ بالفعل، في عالمنا المعاصر، على أدوات العنف ومفاعيلها الكارثيَّة. وإذا كانت نتائج الحروب والغزوات في الأزمنة القديمة والوسيطة والحديثة مفتوحة على احتمال من ثلاثة: إمَّا النَّصر أو الهزيمة أو التَّعادل على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، فإنَّها اليوم (الزَّمن المعاصر) لم تعد تملك هذا "التَّرَف" في تَنَوُّع الاحتمالات. ذلك أنَّ النَّتيجة الوحيدة المُحَتَّمة النَّاجمة عن أيِّ نزاع تُسْتَخَدَم فيه أسلحة الدَّمار الشَّامل هي الهزيمة السَّاحقة والمتبادلة لطرفيِّ الصِّراع معطوفًا عليها تقويض صرح الحياة الكوكبيَّة بِرُمَّتِهِ، وتدمير الموضوع والذَّات، الوسائل والغايات معًا. ولا غرابة في ذلك، فلكم تمرَّدت أدوات الإنسان وأشياؤه عليه وأبت الإذعان له، لا سِيَّمَا، وأنَّه غالبًا ما يخشع لأصنامه ويقع ضحية نتاجاته وأوهامه.
إضافة إلى ما تَقَدَّم، يبدو لي أنَّ مسألة إمكان تسويغ العنف وتبريره أخلاقيًّا وما إذا كان ممكنًا للعنف أنْ يكون خيرًا وسبيلاً مشروعًا إلى الخير ترتبط عضويًّا بمسألة أُخرى، كانت وما تزال، من أشَدِّ المسائل تعقيدًا وأكثرها التباسًا لفلسفة الأخلاق، ألا وهي مشكلة التَّحديد اليقينيّ لهُوِيَّة الشَّخص أو الجماعة الَّتِي تملك الحقَّ الحصريّ للتَّكلُّم بِاسْمِ الأخلاق، وإصدار الأحكام المُبْرَمة غير القابلة للنَّقض في تقرير ما هو خير وما هو شَرٌّ، ومن هُمْ الأخيار ومن هُمْ الأشرار.
لقد سبق لسقراط أنْ أشار إلى أنَّ تمثيل الحقيقة الأخلاقيَّة والنُّطق بِاسْمِها يمكن أنْ يُنَاط شأنهما، طبعًا، بمعلِّمي الفضيلة الَّذِينَ استوفوا جميع الخصال الحميدة والشُّروط المطلوبة لاكتمال شخصيتهم الأخلاقيَّة. لكن المشكلة، في رأي سقراط ذاته، تكمن في أنَّه لا وجود لمُعَلِّمي الفضيلة على النَّحو الَّذِي يوجد فيه أساتذة رياضيات وأساتذة موسيقى وفنون… وما شابه، وأنَّه ليس في مقدور هؤلاء المُعَلِّمين، على افتراض وجودهم، ضمان توريث محاسنهم الأخلاقيَّة ونقلها إلى الآخرين وتأصيلها فيهم بدليل ظهور أبناء فاسدين من صُلْبِ آباء صالحين. هذا فضلاً عن أنَّ من أخصِّ سِمَات الإنسان الفاضل هو الاستنكاف عن الادِّعاء بالنَّقاوة والقدسيَّة الأخلاقيَّة حَتَّى وإنْ لم يجنح إلى اعتبار نَفْسِهِ شخصًا آثمًا. إنَّ مجرد اِدِّعاء الإنسان بأنَّه مثالٌ للكمال والمعصوميَّة الأخلاقيَّة لَهُوَ خير دليل على أنَّه ليس ما يدَّعيه. ذلك أنَّ "أشَدَّ النَّاس حماقًة، حسب عبارة الفيلسوف أبو حامد الغزالي، أقواهم اعتقادًا في فضل نفسه، وأثبت النَّاس عقلاً أشدُّهم اتِّهامًا لنفسه"(4). وفي سياق مُتَّصل، أنِّي لأعجب من اِدِّعاءات الوصاية الحصريَّة على الأخلاق الحميدة والمعرفة الأخلاقيَّة الصَّحيحة الَّتِي ينتحلها لأنفسهم منظرو التَّيارات الأصوليَّة الإسلاميَّة وأمثالهم من أهل المِلَلِ والنِّحَلِ الأُخرى. فكل طائفة منهم تنتحل لنفسها صفة الممثل الشَّرعيّ الوحيد لله ووكيله الحصريّ المُعتَمَد على الأرض مستندًة في ذلك إلى ادِّعاءات ثلاثة رئيسة مُعَرَّضَةٌ كلها لانتقادات قوية. الادِّعاء الأوَّل هو ادِّعاء الشُّموليَّة الَّذِي بموجبه تنظر كل فرقة إلى عقيدتها الدِّينيَّة باعتبارها محيطة علمًا بِكُلِّ الشُّؤون الدُّنيويَّة والأخرويَّة، وبالكُلِّيَّات والجزئيَّات، وبالنَّظريات والعمليَّات، وبالمعاملات والعبادات. وما على المرء سوى أنْ يُحْسِنَ تأويل النَّصِّ المقدَّس وتدبُّره على الوجه الصَّحيح حَتَّى يتيسَّر له استجلاء الحقائق الكثيفة والمقاصد الخفيَّة والمعاني اللَّطيفة والخبر اليقين عن كل ما مضى وفات وكل ما هو حاضر وكل ما هو آت؛ الادِّعاء الثَّاني هو ادِّعاء مطلقيَّة الأوامر والنَّواهي الإلهيَّة والقواعد والأحكام والمعارف الدِّينيَّة على اعتبار أنَّها عابرة للتَّاريخ والظُّروف الاجتماعيَّة والفروق الثَّقافيَّة، وصالحة، بالتَّالي، لكل مكان وزمان، ولكل مجتمع وعصر وإنسان؛ الادِّعاء الثَّالث هو القول بأنَّ الدِّين هو أصل الأخلاق الحميدة وفصلها، وله الأسبقيَّة المنطقيَّة والإبستيمولوجيَّة عليها. وينطوي هذا الادِّعاء على معانٍ وأفكار عدة متَّصلة، من أهمها: ا- مماهاة الخير بما يأمر اللهُ به، والشَّرِّ بما ينهى اللهُ عنه. لذا ينبغي الأخذ بالوصايا الإلهيَّة لا لكونها حسنة وصحيحة بذاتها، بل لأنَّها إلهيَّة. فأصلها الإلهيّ بالذَّات هو الضَّمانة الأكيدة لخيريتها ومصداقيتها وصحَّتها؛ ب- المعرفة الأخلاقيَّة الصَّادقة والحقَّة مُمْتَنَعَة من دون معرفة دينيًّة، ما يعني أنَّ معرفتنا لما يأمرنا به الله ولما ينهانا عنه هي الأساس الثَّابت والموضوعيّ والموثوق الَّذِي تنهض عليه معرفتنا لما هو حسن أو قبيح، ولما هو واجب أو غير واجب، صحيح أو غير صحيح من الوجهة الأخلاقيَّة. وطبقًا لهذا التَّصَوُّر، يبدو الإنسان، ومهما بلغ من العلم والفهم، عاجزًا بذاته عجزًا مبدئيًّا عن تبيان البَلِيَّة من العَطِيَّة، والنَّقمة من النِّعمة، والمحنة من المنحة، والخيط الأبيض من الخيط الأسْوَد في المسائل الأخلاقيَّة، وعن معرفة النِّظام الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسِّياسيّ الأصلح له أيضًا. لذا، ترى كل فرقة منهم أنَّ تعويض هذا العجز المعرفيّ المزعوم ليس ممكنًا إلاَّ بالعودة إلى كتابها المُنْزَل، وإلى تأويلات وفتاوى أولئك الَّذِينَ اصطفاهم الله لتجديد دينه وتمثيل إرادته وتجسيد رسالته، وخصَّهم بكل الخوارزميَّات والبرمجيَّات اللازمة الَّتِي تفضُّ مكنون السِّرِّ المكتوم والكنز المختوم، وتحسب بِدِقَّةٍ لامتناهية مستوى الكفر والإيمان، الخير والشَّرِّ، الصَّحِّ والخطأ في اعتقادات البشر ونِيَّاتهم وأفعالهم؛ ج- الإيمان وحسن الخُلُق صنوان متحابان بالطَّبع والغريزة، والكفر وسوء الخُلُق متلازمان بالضَّرورة. وإنْ كنت لا أرُوم في هذا المقام تفصيل الكلام على ما بين الدِّين والأخلاق من إتِّصال وانفصال، إلاَّ أنَّني سأتوقَّف لِمَامًا على بعض ما يعتري هذه المزاعم والاِدِّعاءات من عيوب ويشوبها من مغالطات وتثيره من إشكالات. فلو أخذنا الاِدِّعاء الأوَّل لوجدناه مستحيلاً من النَّاحيتين الواقعيَّة والمنطقيَّة. فالنُّصوص المتناهية لا تستوعب الوقائع غير المتناهية، على ما يقول وبحقٍّ الفيلسوف أبو حامد الغزالي(5). فلا يُعقل وجود كتاب مقدَّس أو غير مقدَّس يحتوي على حَلٍّ جاهز لِكُلِّ إشكال، وجوابٍ صحيح عن كل سؤال يمكن أنْ يُطرح حول ما نريد معرفته، وحول ما نحن ملزمون بإتيانه من أفعال وخيارات، على نحو ملموس، في هذا الوضع والزَّمان أو ذاك. وذلك لأنَّه لا حَدَّ ولا حَصْرَ لعالم الظَّواهر الكونيَّة، ولتنوُّع الأوضاع واختلاف الشُّروط والظُّروف الحياتيَّة الَّتِي يمكن أنْ يجد البشر أنْفُسَهم فيها وتستدعي منهم اتِّخاذ قرارٍ أو موقفٍ أخلاقيٍّ مُحَدَّد. فالحياة بالمستجدات حُبْلَى وبالمفاجآت ملأى، ما يجعلها عصيَّة على الحدِّ والتَّقييد بنظام نهائيّ جامد وبمجموعة ثابتة من القواعد والأحكام. أمَّا الادِّعاء الثَّاني القائل بمطلقيَّة الأوامر والنَّواهي الإلهيَّة، والقواعد والأحكام الدِّينيَّة، فإنَّه يواجه، بدوره، صعوبات جمَّة. نَعَّم، المبادئ الأخلاقيَّة المطلقة موجودة، لكنها موجودة فقط كوهم في الأذهان لا كواقعة في الأعيان. كما أنَّه لا وجود لداء مطلق ولا لدواء مطلق، فكذلك لا وجود لقاعدة أو مبدأ أخلاقيّ مطلق. فالشَّرط الضَّروريّ لحسبان إلزام ما إلزامًا مطلقًا هو استحالة تعارضه عند التَّطبيق مع أيِّ اعتبار آخر من نوعه، واستحالة نشؤ وضع حياتيّ يبطله أو يعلِّق العمل به. فلا شيء يضمن عدم تضارب المبادئ والقواعد والأحكام الأخلاقيَّة في ما بينها ولا عدم تعارضها مع الواقع المُعَاش. ففي كثير من الحالات والأحيان قد يجد البشر أنْفُسَهُم أمام معضلة الاختيار بين قاعدتين أخلاقيَّتين في وضع حرج لا يسمح سوى بتطبيق واحدة منهما واستبعاد الأُخرى. فالعمل بموجب قاعدة أخلاقيَّة على حساب قاعدة أخلاقيَّة أُخرى يثبت أنَّ لا واحدة منهما مطلقة. وبالانتقال إلى الادِّعاء الثَّالث، فإنَّه يغامر في جعل الأوامر والنَّواهي الإلهيَّة شأنًا تعسُّفيًّا، وجعل الأخلاق، بالتَّالي، أمرًا عشوائيًّا. وإذا كان حُسْن أو قبح شيء من الأشياء وفعل من الأفعال، كما لاحظ الفيلسوف عادل ضاهر، منوط حصريًّا بمدى موافقته وامتثاله أو عدم موافقته لأمر إلهيّ، فإنَّ موقفًا كهذا يُحَتِّم على أصحابه التَّسليم بوجوب ارتكاب الكبائر والفحشاء إذا ما أمرنا اللهُ بها لا لشيء إلاَّ لأنَّ الله وفقط لأنَّ الله يأمر بها. والحقُّ أنَّه ليس في وسع هؤلاء تَجَنُّب هذه النَّتيجة الخارقة بدعوى أنَّ الله لا يأمر ولا يمكن أنْ يأمر بالفحشاء، لأنَّ مُؤدَّى اعتراضهم هو خلاف مقالتهم(6). أمَّا فساد مقولة تأسيس الأخلاق على الدِّين وجعله معيارًا وحيدًا لها وقوَّامًا عليها، فينكشف، في أوضح صوره، إذا ما عَلِمْنا أنَّ الكلام على معرفة وجود الله وصفاته، وعلى وجوب طاعتنا له إنَّمَا يفترض مسبقًا امتلاك الإنسان لمعرفة أخلاقيَّة. إذ إنَّه ولكي نعرف أنَّ كائنًا ما هو الله وأننا ملزمون بعدم معصيته، فإنَّه لا يكفي أنْ نعرف أنَّه كائن كُلَّيّ المعرفة وكُلِّيّ الجمال وكُلِّيّ القدرة فقط، بَلْ ينبغي أنْ نعرف بالإضافة إلى ذلك أنَّ الكائن المعنيّ هو أيضًا كُلِّيُّ الخير والعدل والرَّحمة لطيف بعباده لا يفعل ولا يأمر إلاَّ بما هو أصلح لهم في الدُّنيا والآخرة. غير أنَّ معرفتنا للأوامر والنَّواهي الإلهيَّة، على ما يرى الفيلسوف عادل ضاهر، لا تشكل وحدها شرطًا كافيًا لمعرفتنا أنَّنا ملزمون أخلاقيًّا بإتيان أو عدم إتيان أفعال من نوع معيَّن، بل إنَّ ما يشكل شرطًا كافيًا هنا للمعرفة الأخيرة هو أنْ نعرف أنَّ هذه الأوامر والنَّواهي صادرة، بالضَّرورة، عن إرادة طيِّبة وخيِّرة على نحو مطلق تفرض ماهيَّة صاحبها عدم فعل أو تشريع أيِّ شيء يخالف الاعتبارات الأخلاقيَّة الصَّحيحة(7). وهذا يعني أنَّ جزءًا جوهريًّا من جهاز المعرفة الدِّينيَّة المفهوميّ متجذِّر في المعرفة الأخلاقيَّة ومُسْتَمَدٌّ من قاموسها. إذ إنَّه ومن دون امتلاك الإنسان لمعرفة أخلاقيَّة ولمعيار يسمح له بالتَّمييز بين الخير والشَّرِّ، فلن يكون في وسعه معرفة أنَّ بعض الأوامر والنَّواهي هي أوامر الله ونواهيه وصادرة عنه بالذَّات. فالتَّمييز بين وحي حقيقيّ ووحي مُتَوَهَّم أو مزيَّف، بين كتاب مقدَّس أصيل وآخر مُحَرَّف، بين إلهام إلهيّ وغواية شيطانيَّة ليس بمستغنٍ البتَّة عن سند عقليّ ومعيار أخلاقيّ ومعطيات أُخرى من النَّوع الواقعيّ والتَّاريخيّ. علاوة على ذلك، فإن القول بحاجة العقل إلى النَّقل لتمييز الخير من الشَّرِّ، والمعروف من المُنْكَرِ يثير فورًا تساؤلات عدة: لماذا يمكن للعقول الَّتِي وَهَبَنا الله إياها أنْ تكون قادرة، وبصورة مستقلَّة عن الدِّين والكتب المقدَّسة، على اكتشاف قوانين الطَّبيعة ومعرفة الحقائق العلميَّة الرِّياضيَّة والهندسيَّة، ولا تكون مُؤَهَّلة لمعرفة الحقائق الاجتماعيَّة والمبادئ الأخلاقيَّة، علمًا أنَّ المعارف من النَّوع الأوَّل لا تَقِلُّ تعقيدًا ولا تَقِلُّ أهَمِّيًّة بالنِّسبة إلى حياة البشر عن المعرفة الأخيرة، هذا إنْ لم نَقُل إنَّها أصعب منالاً منها؟!!! وهل يُعقل أنْ يهب اللهُ الإنسان عقلاً وأنْ يدعوه إلى إعماله في تَدَبُّرِ آياته والتَّفَكُّر في خَلْقِ السَّماوات والأرض، وفي التَّمييز بين الحقِّ والباطل، ثُمَّ يقوم، في الوقت عينه، بتجريده من هذه الصَّلاحية وتعطيل الخاصِّيَّة الَّتِي خلقه لأجْلِها؟!!! وفي ما يخص القول بوجود اقتران ضروريّ بين الإيمان ومكارم الأخلاق، من جهة، وبين انعدام الإيمان وسوء الخُلُق، من جهة أُخرى، فيمكن تبيان بطلانه بأدلة تاريخيَّة ومنطقيَّة. فالوقائع التَّاريخيَّة تثبت بما لا يترك مجالاً للشَّكِّ وجود حضارات وشعوب وثنيَّة ولادينيَّة أسهمت في إغناء التَّجربة الأخلاقيَّة للإنسانيَّة، وتبلورت في فضاءاتها الثَّقافيَّة القاعدة الذَّهبيَّة للأخلاق والكثير من الفضائل الرَّئيسة كالحكمة والاعتدال والشَّهامة والصَّفح والعفَّة والصِّدق. كُلُّ هذا يُعَدُّ إرثًا إنسانيًّا عامًّا لا يُقَدَّر بثمن، وما زال يحتفظ بقيمته إلى اليوم. وإذا ما انتقلنا من الحضارات إلى الأفراد، فإنَّ الحياة زخرت ولم تزل تزخر بوجود قامات علميَّة وفلسفيَّة وأدبيَّة وسياسيَّة تُعَدُّ ملحدة وفقًا لفيصل التَّفرقة بين الإيمان والكفر والزَّندقة المعتمَد عند أتباع الدِّيانات التَّوحيديَّة، لكن إلحادها لم ينهاها البتَّة لا عن تبنِّي أسمى القيم الأخلاقيَّة الرَّفيعة ولا عن قضاء بعضها العمر في الكفاح ضِدَّ جميع أشكال الفساد والاستغلال والاضطهاد والتَّمييز العرقيّ والدِّينيّ. وفي المقابل، يضع التَّاريخ، الماضيّ منه والمعاصر، أمامنا حقائق مُرَّة عن ممارسات مخزية لجماعات ورجالات دين من أتباع مختلف الأديان التَّوحيديَّة- هُمْ من أهل الغربة عن الحقِّ حَتَّى وإنْ تتوَّجوا بتيجان الحقِّ من غير استحقاق، بَلْ هُمْ عدماء الدِّين والأخلاق، ولا هَمَّ لهم سوى المتاجرة بالدِّين وإلقاء الإحَن وإذكاء نار الفتن وإشاعة أفانين العداوات بين النَّاس طمعًا بكسب الفوائد وأخذ الإتاوات، لا حبًّا لله ولا شغفًا بالصَّلوات والتِّلاوات. ومن النَّاحية المنطقيَّة، لا علاقة تصوُّريَّة أو ضروريَّة بالمعنى المنطقيّ بين انعدام الإيمان الدِّينيّ وسوء الخُلُق، لأنَّه لا يمكن تعريف الملحد على أنَّه شخص ذميم الخُلُق أو على أنَّه شخص عظيم الخُلُق. فقد يحدث أحيانًا أنْ يفقد الإنسان إيمانه الدِّينيّ أو يرتدَّ عنه لسبب أو لآخر من دون أنْ يتخلَّى، بالضَّرورة، عن القواعد الأخلاقيَّة لهذا الدِّين، لاعتقاده أنَّها صحيحة ومعقولة بحدِّ ذاتها(8). وقد سبق للشَّيخ الأكبر محيي الدِّين ابن العربي أنْ عَبَّرَ عن الطَّابع الجائز للعلاقة بين الإيمان ومكارم الأخلاق خير تعبير بقوله: "لو كان الإيمان يعطي بذاته مكارم الأخلاق، لم يُقل للمؤمن: افعل كذا وافعل كذا. وقد توجد المكارم ولا إيمان. للمكارم آثار ترجع على صاحبها في أيِّ دار كان"(9). فالدِّين مرتبط بالأخلاق وما الأخلاق مرتبطة به. ولو استنفد الدِّين حقيقتها ما كانت هي، ولو فقدها ما كان هو. قصارى القول، إنَّ من يجعل الأخلاق الحميدة والمعرفة الأخلاقيَّة وقفًا على أُمَّةٍ أو مِلَّةٍ بعينها كَمَنْ يجعل العلم واكتشاف الحقيقة وقفًا على واحدٍ من النُّظَّارِ أو على واحدةٍ من الأُمَمِ أو المِلَلِ بعينها. وما هذا وذاك سوى أباطيل يدحضها تاريخ الفتوحات العلميَّة والفلسفات الأخلاقيَّة. وكما أنَّ عالَم الحقيقة والمعرفة العلميَّة هو مشاع مشترَك مفتوح لجميع البشر، فكذلك هي حال الخير والمعرفة الأخلاقيَّة. بالطَّبع، ليس في مستطاع أحد أنْ ينكر الحقيقة القائلة بأنَّ المصادر الأوَّليَّة لأهَمِّ المعايير الإنسانيَّة العامَّة في الفضاء الثَّقافيّ للأديان الإبراهيميَّة هي التَّوراة والإنجيل والقرآن الكريم، وأنَّها مصاغة هناك بِاسْمِ الله وصادرة عنه. وقد يبدو، للوهلة الأُولى، أنَّ الاعتراف بهذه الحقيقة يُكَذِّب الفكرة القائلة باستقلاليَّة الأخلاق عن الدِّين، ويدحض معها أوَّليَّة المعرفة الأخلاقيَّة على المعرفة الدِّينيَّة. لكن لو أمعن واحدنا النَّظر مَلِيًّا فيها لوجدها حُجًّة إضافيَّة تَصُبُّ في مصلحة استقلاليَّة الأخلاق. إذ إنَّ رَدَّ المعايير الأخلاقيَّة إلى الله يمكن أنْ يُفْهَم على أنَّه اعتراف بأنَّ النَّاس جميعًا سواسية أمام الله وأمام الأخلاق، وأنَّ لا حقَّ استثنائيّ ولا وكالة حصريَّة لأحد منهم تمنحه صفة النَّاطق الرَّسميّ الدَّائم بِاسْمهما. فكُلُّ نَفْسٍ رهينة بما كسبت، وبما تتَّخذه من معايير تحدِّد مستوى سُمُوِّها الأخلاقيّ.
لا شَكَّ في أنَّ المنافحة الأخلاقيَّة عن العنف كان بإمكانها أنْ تكون نظيفة لا غبار عليها، وكان لا مُشَاحَّة في اعتبار العنف نَفْسِهِ استراتيجيًّة سلوكيَّة بنَّاءة فيما لو كان في الإمكان عمومًا تقسيم النَّاس إلى أخيار وأشرار بالمطلق، وكان العنف في الوقت نَفْسِهِ، هو الخيار الوحيد المتاح تاريخيًّا والأجدى عمليًّا لكبح جماح الشَّرِّ واستئصاله. فلو سار كُلٌّ من الخير والشَّرِّ على قدميه وعُرِفَت بِدِقَّةٍ إحداثيات مسار كل واحد منهما وموقعه لوجب عندئذٍ على الأبرار المباشرة فورًا في تطهير البلاد والعباد من الشَّرِّ والأشرار مثلما تُنَظَّف الحقول من النَّباتات الضَّارة ومثلما تُكَنَّس الشَّوارع من القُمامة والنُّفايات. لكن هيهات أنْ يكون الأمر بهذه البساطة. فالخير والشَّرُّ ليسا منفصلين وموزَّعين فرديًّا بحيث يكون الواحد أو البعض إمَّا صالحًا بالمطلق أو طالحًا بالمطلق. فالإرادة الطَّيِّبة المُطْلَقَة، على ما أوضَحَ كانط، لا يمكن أنْ تكون بأيِّ حالٍ من الأحوال إرادةً فعليًّة لأيِّ فرد واقعيّ كائنًا من كان ومهما علا شأوه الأخلاقيّ. ولئن كان بالمستطاع أنْ نتصوَّر إنسانًا يسعى إلى الكمال، لكن لا يمكن أنْ نتصور إنسانًا كاملاً. أمَّا الإرادة الشّريرة المطلقة فمن المحال أيضًا تَصَوُّر وجودها، لأنَّها تنفي ذاتها بذاتها. ثُمَّ إنَّ القول بوجود إرادة طيِّبة وإرادة شريرة على نحو مطلق وغير مشروط لا يعني الاعتراف بمشروعيَّة أكذوبة الاصطفاء الأخلاقيّ لجماعة من البشر فحسب، إنَّمَا يُشَكِّل بحدِّ ذاته مدعاةً إضافيَّة للعنف. ولعلَّ ما نشهده اليوم من جرائم حرب موصوفة وفتاوى دينيَّة تُشَرِّع القتل وتَحُثُّ عليه، ومن تصنيفات صارمة تُقَسِّم البشر قسمًة ثنويَّة نهائيَّة إلى معسكرين لا ثالث لهما: محور الخير ومحور الشَّرِّ، دول معتدلة ودول مارقة، حضارات رُوحانيَّة وحضارات ماديَّة، دار السَّلام ودار الكفر، حاكميَّة إلهيَّة وجاهليَّة بشريَّة ليس إلاَّ ترجمة حرفيَّة لوهم الاصطفاء بالذَّات. فمن هو المعتوه مِنَّا الَّذِي يجرؤ بعد كل هذه الدِّماء والأشلاء على القول إنَّه بلا خطيئة وليس من ذوي الاحتياجات الأخلاقيَّة الخاصَّة؟!!!! فالإرادة الطَّيِّبة أو الشَّريرة ليست من الخواصِّ الحصريَّة لأمَّة أو دين أو ثقافة أو عرق أو جنس بعينه من دون غيره. فليست غريبًة عن كُلِّ واحد مِنَّا كل خصال البشر الحميدة منها والخبيثة على حدٍّ سواء.
وما يبعث على الحيرة والاستغراب هو أنَّه وعلى الرَّغْمِ من تَعَذُّر تزويد العنف بمنظومة دفاعيَّة أخلاقيَّة متماسكة منطقيًّا، إلاَّ أنَّ كرنفالات سلخ جلود البشر وحرقهم أحياء على الملأ تقام على الدَّوام تحت تغطية أخلاقيَّة كثيفة وتعبئة قيميَّة شاملة. والحقُّ، على ما يرى فيلسوف الأخلاق المعاصر غوسينوف ع.ع "أنَّ ثَمَّة تلازمًا بين الدِّيماغوجيا الأخلاقيَّة والعنف لا انفكاك فيه لأحدهما من الآخر. فالدِّيماغوجيا الأخلاقيَّة تؤدِّي، حتمًا، إلى العنف، والأخير يفترض، بدوره، الدِّيماغوجيا الأخلاقيَّة بصفتها شرطه الضَّروريّ"(10). وكلَّمَا كان مقدار العنف أكثر همجيَّة وفداحة كانت المرافعة الأخلاقيَّة عنه أشَدَّ عهرًا ووقاحة. وكما أنَّ دخول الأماكن الموبوءة والملوَّثة يتطلَّب ارتداء كمامات معقَّمة وأقنعة واقية من المواد المُشِعَّة والسَّامَّة، فكذلك يأبى البشر الغوص في وحول العنف النَّتنة ومستنقعاته الآسنة من دون جُبَّة إكليريكيَّة أو عباءة أخلاقيَّة ناصعة البياض أو حَتَّى الاثنين معًا. وهذه المعادلة تنطبق على عنف الأفراد وبدرجة أكبر على عنف الدُّول والجماعات. ولا يقال ذلك على سبيل الاستعارة والمجاز، بَلْ على سبيل الحقيقة، لا سِيَّمَا، وأنَّ معظم الصِّراعات المسلحة على المسرح الكونيّ تُدَار حَتَّى يومنا هذا بِاسْمِ الله والقيم الأخلاقيَّة مشفوعًة مذابحها بصيحات التَّهليل والتَّكبير. وتلك هي مأساة أهل العنف من أصحاب المشاريع الصَّهيونيَّة، والدَّاعشيَّة الإسلاميَّة، والإنجيليَّة البروتستانتيَّة والمطامح الإمبرياليَّة والَّتِي تَنِمُّ عن انفصاماتهم الشِّيزوفرونيَّة المُرَكَّبة على غير مستوى وصعيد: فَهُمْ يستمرئون الحديث عن الأمر بالمعروف والنَّهي عن الفحشاء والمُنْكَر في الوقت الَّذِي يلهجون فيه بضلالات الفساد وينتشون بالممارسات السَّاديَّة وشهوة الاستبداد، وهُمْ لا يألون جهدًا في الادِّعاء بأنَّهم لا يحاربون إلاَّ من فرط عشقهم للسلام، ولا يدمِّرون إلاَّ من شدَّةِ ولعهم بالبناء، ولا يصادرون الأرزاق ويدقُّون الأعناق إلاَّ من أجل العطاء وخير البشريَّة جمعاء... وغير ذلك من المفارقات الخارقة الَّتِي تقلب الذَّيل رأسًا، والسُّقوط في الهاوية اعتلاءً للقِمَّة، والتَّوحُّش تحضُّرًا، والتَّخلُّف تطوُّرًا. والأدهى أنَّهم جميعًا بحمد الله يُسَبِّحون، وعليه يتوكَّلون، ومن آياته الحُجَّةَ يتَّخذون على ما يقولون وما يفعلون. والله، بلا أدنى ريب، منهم براء. ألم يزعم الرَّئيس الأمريكيّ السَّابق بوش-الابن أنَّ الله أوحى إليه بغزو العراق وكلَّفه نشر قيم الحُرِّيَّة والدِّيمقراطيَّة!!! وألم يضع الحرب ضِدَّ الإرهاب في إطار المعركة الفاصلة بين الخير والشَّرِّ في صورتهما الخالصة الَّتِي، حسب زعمه، لا يقف فيها الله نَفْسُهُ على الحياد، والَّتِي لا إمكان لأيٍّ كان أنْ ينأى بِنَفْسِهِ بعيدًا منها على قاعدة أنَّ مَنْ ليس معنا فهو حتمًا ضِدُّنا. ولا مِرَاءَ في أنَّ ما تقوم به الأصوليَّات المتناحرة، منفردة أم مجتمعة، من محاكمات ميدانيَّة وتصنيفات يقينيَّة ليس إلاَّ دراما أو صورة استباقيَّة مخادعة عن يوم الدِّين زيَّنت للبعض أنَّهم آلهة قبل أنْ يستحقوا حَتَّى أنْ يكونوا أشباه بشر. والحقُّ أنَّهم ليسوا سوى وحوش مفترسة من ذوي القرون النَّاطحة والنَّواجذ القاطعة والمخالب الجارحة. ولئن كانت أسماء الأصوليَّات متباينة، فإنَّها متشابهة في ممارساتها وفي منطقها وبديهياتها. فلا فرق جوهريًّا بين فتاوى كبار حاخامات الكيان الصَّهيونيّ المتطرِّفين المحرِّضة على إبادة الفلسطينيين عن بكرة أبيهم وفتوى المتحدِّث بِاسْمِ تنظيم الدَّولة الإسلاميَّة المدعو أبو محمد العدنانيّ الَّذِي يحكم ويقطع بوجوب استباحة دماء الأعداء من دون استثناء واعدًا "المجاهدين" بعظيم الثَّواب والإكرام على مجازرهم، بخاصَّة، في الشَّهر الحرام قائلاً: "لقد وصَلَنَا أنَّ بعضكم لا يستطيع العمل لعجزه عن الوصول إلى أهداف عسكريَّة، ويتحرَّج من استهداف ما يُسَمَّى بالمدنيين، فيعرض عنه لِشَكِّه بالجواز والمشروعيَّة، فأعلم أنَّه في عقر دار المحاربين لا عصمة للدِّماء، ولا وجود لما يُسَمَّى بالأبرياء... استهدافكم لما يُسَمَّى بالمدنيين أحبُّ إلينا وأنجع، لكونه أنكى بهم وأوجع، فهُبُّوا في كُلِّ مكان، عسى أنْ تنالوا الأجر العظيم في هذا الشَّهر الكريم..."(11). صحيح أنَّ الأديان التَّوحيديَّة تدعو إلى وجوب فصل الصَّالح من الطَّالح، الطَّيِّب من الخبيث، الاخيار من الأشرار، والقمح من الزؤان، غير أنَّ ذلك كله إنَّمَا يحدث يوم تزلزل الأرض زلزالها وتُخرج أثقالها بأمر ربِّها ويصدر النَّاس أشتاتًا أشتاتًا لتنال كُلُّ نفس جزاءها على ما عملت وما كسبت. والأهَمُّ من ذلك، أنَّ إنجاز هذه المهمة يقع بالتَّمام والكمال على عاتق الله وحده ولا أحد آخر غيره.
لكن الأسئلة الَّتِي تتبادر إلى الذِّهن فورًا في هذا السِّياق هي: إذا لم يكن العنف شَرًّا بذاته وكان شأنًا محايدًا من النَّاحية الأخلاقيَّة، على ما تزعمه الأطروحة الأُولَى للمرافعين عن العنف والمزاولين له والمدمنين عليه، فما الحاجة عندئذٍ إلى تنظيف سِجِلَّه العدليّ والبحث عن أعذار ومبررات له؟ وما قيمة الدَّعوة إلى نبذه واجتنابه؟ وهل يحتاج الحسن والجميل أصلاً إلى مساحيق تجميليَّة وعمليات تقويميَّة؟ وما تأثير اللجوء إلى الأخلاق والدِّين في العنف ذاته؟ وهل يسهم ذلك في كبح جماح العنف وتحجيمه؟
إنَّ أوَّلَ ما ينبغي تأكيده هو عجز أطروحات الجمع والتَّوفيق بين العنف والأخلاق عن اجتياز امتحان الجدارة في مادتيّ الأخلاقيَّات والمنطقيَّات على حدٍّ سواء. ولا أظنني أبتعد من جادة الصَّواب إنْ قلت إنَّ التَّهافت المنطقيّ والتَّناقض في الفكر والإرادة، والازدواجيَّة في المعايير والرِّياء والافتراء هي الأثمان الَّتِي يدفعها، بالضَّرورة، منظرو التَّبرير الأخلاقيّ للعنف ومؤيدوه. إذ إنَّه من المستحيل منطقيًّا أنْ نستنبط من القضية الكُلِّيَّة الموجبة: "إنَّ جميع البشر إخوة أو نظراء في الخلق وحياة كل فرد منهم مقدَّسة" حكمًا يجيز أو يبيح قتل إنسان ما تمامًا مثلما يستحيل منطقيًّا أن نخلص من القضية الكُلِّيَّة الموجبة: "كلُّ إنسانٍ فانٍ" إلى إستنتاج مفاده أنَّ هناك إنسانًا غير فان. أما التَّناقض في إرادة مُنَظِّري العنف فيتجلَّى بأوضح صوره وأوقحها في ما يُسَمَّى بسياسة الكيل بمكيالين أو المعايير المزدوجة الَّتِي يَتِمُّ بموجبها، وعلى نحو اصطفائيّ وتعسُّفيّ، تبرئة أو إدانة عنف من دون آخر وفقًا لمعادلة: أنْ نقتلهم هو أمر جائز ويستحق الثَّناء والتَّقدير، أمَّا أنْ يقتلونا فذلك هو الشَّرُّ المستطير. وهذا ما يُفَسِّر لنا جانبًا من العلاقة الملتبسة والمضطربة بالإرهاب الدَّوليّ والتَّخَبُّط الفاضح في تعريفه وتحديد الجهات والحالات الَّتِي تندرج تحته. فالإرهاب يُحارَب ويُدَان في مكان ويُدْعَم ويُسْكَت عنه في غير بلد وزمان. فالعالم الغربيّ بزعامة الولايات المتحدة الأمريكيَّة الَّذِي اتَّخذ من شعارات الحُرِّيَّة والدِّيمقراطيَّة وحقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب برنامجًا سياسيًّا وإيديولوجيًّا متكاملاً لفرض وصايته الإمبرياليَّة يُعيب علينا استبدادنا وإرهابنا مع أنَّه لطالما تعاوَنَ وما يزال يتعاون مع الأنظمة الدِّيكتاتوريَّة ويمعن في دعم المنظمات الإرهابيَّة واستنساخها. وهو ذاته يرى، مثلاً، في مقاومة محتل أو أسر جندي إسرائيليّ إرهابًا وجريمًة لا تُغتفر، أمَّا إبادة شعب بأكمله فمسألة لا تستوجب حَتَّى مجرد الإدانة أو النَّظر. والتَّشكيك في الرِّواية الصَّهيونيَّة للهولوكوست هو معاداة للسَّاميَّة والإنسانيَّة بينما تدنيس مقدَّسات الآخرين والإساءة إلى رموزهم الدِّينيَّة والتَّعدِّي السَّافر على حقوقهم وكراماتهم هي مظهر من مظاهر حُرِّيَّة التَّعبير والاعتقاد الدِّيمقراطيَّة. ومن الأمثِلة القريبة على ذلك هو الرِّسالة الموسومة ب"مبادىء التَّضامن. بيان"- المنشورة على الموقع الإلكترونيّ لمركز أبحاث "الأوامر المعياريَّة" التَّابع لجامعة غوته في فرانكفورت بتاريخ 13 نوفمبر 2023- والموقَّعة من قِبَلِ ثُلَّةٍ من المفكرين والأكاديميَّين المعروفين من أمثال الفيلسوف الألمانيّ يورغن هابرماس، ونيكول ديتلهوف رئيسة قسم العلاقات الدَّوْليَّة ونظريات النِّظام العالميّ، وراينر فورست أستاذ النَّظريَّة السِّياسيَّة والفلسفة، وكلاوس غونتر أستاذ النَّظريَّة القانونيَّة والقانون الجنائيّ وقانون الإجراءات الجنائيَّة.
وخشية التَّخلُّف عن الرَّكْبِ والشُّعور بالذَّنْبِ، ولتحاشي "تأنيب الضَّمير" وغضب الرَّبِ سارع هؤلاء إلى تجديد البيعة والولاء وتقديم واجب المواساة والعزاء بالمصاب الأليم لإسرائيل عسى أنْ "يلهمها الله" الصَّبْرَ والسُّلْوَانَ، ويغفر لهم ولأبائهم النَّازيَّين والإمبرياليَّين ما تقدَّم وتأخَّر من خطايا وجرائم ارتكبوها ضِدَّ الإنسانيَّة جمعاء.
إنَّ أوَّلَ ما يلاحظه القارئ في هذه الرِّسالة الملتوية النَّسج والمتهافتة النَّهج هو انحيازها المسبق وتأييدها المطلق للكيان الإسرائيليّ-الصَّهيونيّ الغاصب ودفاعها المستميت عنه. وإلى جانب ما يعلنه مؤلفو هذه الرِّسالة عن إدانتهم "المجزرة الَّتِي ارتكبتها حماس ضِدّ إسرائيل المصحوبة بِالنِّيَّة الصَّريحة على إبادة الحياة اليهوديَّة بشكل عام"(12)، وما يبوحون به من حرص أحاديّ فائق على وجود إسرائيل، ومن محاباة رخيصة لها ولليهود عمومًا؛ فقد انطوى موقفهم على جملة كثيفة من الآراء المنكوسة والأحكام المعكوسة والايحاءات المُضْمَرَة الخبيثة، أهَمُّها:
أ- اجتزاء عملية طوفان الأقصى من سياقها التَّاريخيّ والتَّشديد على أعراض الدَّاء لا على الاحتلال الَّذِي هو أصل العلَّة والبلاء متناسين أنَّ هذه الحرب بدأها الصَّهاينة وبرعاية مباشرة من الدُّوَلِ الكولونياليَّة منذ ما يزيد على الخمسة وسبعين عامًا. إذ فاتهم أنَّ الحرب والعدوان إنَّمَا يبدؤهما الطَّرف الَّذِي يعمل، عن سابق إصرار وتصميم، على خلق أسبابهما وتهيئة مقدماتهما، ويسدُّ، في الوقت عينه، جميع الطُّرق المؤدية إلى السَّلام العادل، لا ذاك الطَّرف الَّذِي يناضل من أجل استعادة حقوقه المسلوبة وأراضيه المغتصَبة المنهوبة؛
ب- عمدت الرِّسالة إلى القفز بخفة بهلوانيَّة مدهشة فوق الوقائع التَّاريخيَّة وقلب الحقائق رأسًا على عقب بحيث استحال السَّببُ نتيجًة، والجلَّادُ ضحيًة، والوحش الإسرائيليّ-الصَّهيونيّ حملاً وديعًا، وعدوانه المتواصل والممنهج "ردًّا دفاعيًّا مُبَرَّرًا من حيث المبدأ..."(13)؛
ج- تعمَّد هابرماس وأتباعه المُقَلِّدين طمس روح المسألة وجذور المشكلة، وحرف الصِّراع عن موضعه وحقيقته بإضفاء طابع دينيّ عليه ليبدو كأنَّه عدوانٌ حماسويٌّ (إسلاميّ ضمنيًّا) ضد اليهود عامًّة؛
د- التَّلاعب بالمفاهيم والتَّعريفات على ما يتجلَّى ذلك في مماهاة السَّاميَّة باليهوديَّة والصَّهيونيَّة-الإسرائيليَّة وكأنَّ دلالة هذه المفاهيم والألفاظ واحدة، علمًا أنَّها ليست متطابقة أو متكافئة لا من حيث المضمون ولا من حيث الماصدق. وليس هذا التَّلاعب بالمفاهيم والتَّعريفات سوى تشويش أو تعمية إيديولوجيَّة يُراد منها تأبيد وجود إسرائيل وتحصينها تحصينًا شاملاً ضد المساءلة والمحاسبة. ولا يخفى، في المناسَبة، كم وافق هذا الخلط المخادع- وما يزال- يوافق هوى محاكم التَّفتيش الصَّهيونيَّة في سعيها الدؤوب إلى ملاحقة ومحاكمة كل من يجرؤ على نقد الممارسات الإسرائيليَّة وإيديولوجيَّتها العنصريَّة المتطرفة، وعلى الدِّفاع عن حقِّ الفلسطينيين في الوجود وإقامة دولتهم الحُرَّة المستقلة بِتُهَمٍ أربع جاهزة، وهي: الإرهاب، ومعاداة السَّاميَّة، والعداء لليهود، والتَّحريض على الكراهية؛
ه- ثَمَّة آفة قاتلة مُرَكَّبة تسري في أوصال الرِّسالة كلها. وتتمثل هذه الآفة في ازدواجيَّة المعايير (سياسة الكيل بمكيالين)، والافتقار إلى التَّماسك المنطقيّ، وإلى أبسط مقومات تسويغ الأحكام الَّتِي تطْلِقَها لكأنها تأمرنا أمرًا عسكريًّا بوجوب التَّسليم والالتزام بها من دون الإشارة إلى أسُسِها والإبانة عن أسبابها. ومن نافلة القول إنَّه ليس يُعَوَّل على كُلِّ ما لا يُعَلَّل. ففي هذه الرِّسالة لم يشرح لنا هابرماس وصحبه، مثلاً، لماذا أفعال إسرائيل مغفورة ومقبولة، وأفعال خصمائها مدانة ومرذولة؟ ولماذا لا ينبغي أنْ تكون مبادئ التَّضامن معها تحديدًا موضع جدال؟ علمًا أنَّ الأساس الَّذِي ينهض عليه وجودها ويسوِّغه يثير ألف سؤال وسؤال ومحطُّ خلاف وسجال حَتَّى في بعض الأوساط اليهوديَّة. ولم يفسِّروا لنا كذلك كيف ولماذا "تنحرف، حسب زعمهم، معايير الحُكْمِ تمامًا عن الصِّراط المستقيم وتَضِلُّ عن الطَّريق القويم عندما تُعْزَى نِيَّات الإبادة الجماعيَّة إلى التَّصرُّفات الإسرائيليَّة(14). إنَّ السُّؤال الَّذِي يقفز ههنا إلى الذِّهن فورًا هو: هل هناك معايير حكم ومبادئ عقليَّة وأخلاقيَّة خاصَّة بتقييم نِيَّات وأفعال اليهود والإسرائيليين تميِّزهم من العالَمين وتُفَضِّلهم عليهم؟ الإجابة عن هذا السُّؤال هي طبعًا بالنَّفي، لأنَّ الكلام على معايير ومبادئ أخلاقيَّة أساسيَّة هو كلام على ما يتجاوز الفروق العِرْقيَّة والجنسيَّة والدِّينيَّة والثَّقافيَّة بين البشر، ويدخلنا في صميم ما هو إنسانيّ عام وذو أهَمِّيَّة عامَّة بالنِّسبة إليهم. فالمبادئ الأخلاقيَّة مُلْزِمة للجميع وموجَّهة بالتَّساوي إلى كل شخصٍ فعليّ وممكن من غير استثناء. إضافة إلى ذلك، وإذ يُسْقِط هؤلاء قَبْليًّا عن إسرائيل تهمة الإبادة الجماعيَّة نِيًّة وفعلاً، جملًة وتفصيلا، فإنَّهم لا يمنحونها، زورًا وبهتانًا، صكَّ براءة وغفران عمَّا تَقَدَّم وما تأخَّر من مسلسل مجازرها الهيستيريَّة فحسب، بَلْ يرتكبون أيضًا أغلوطة تحويل علاقة ممكنة واقعيًّا وجائزة منطقيًّا إلى علاقة مُمْتَنَعة عمليًّا ونظريًّا بحيث يبدو ربط التَّصرُّفات الإسرائيليَّة بدافع الإبادة الجماعيَّة ليس محالاً من النَّاحية الواقعيَّة فحسب، بل مُمْتَنَعٌ منطقيًّا أيضًا. لكن وكما هو معلوم، فإنَّ إثبات ارتكاب أو عدم ارتكاب إبادة هو أمرٌ تقرِّره، في المقام الأوَّل، الوقائع والأحداث لا مزاعم هذا المفكر أو ذاك ولا حَتَّى قوانين المنطق. وإذا كان ممكنًا لبعض البشر ارتكاب المجازر فلا شيء يبرِّر استبعاد احتمال توافر النِّيَّة الجرميَّة الإباديَّة خلف التَّصرُّفات الإسرائيليَّة اللَّهم إلاَّ إنْ أدرَجَت الثُّلَّةُ الهابرماسيَّة الإسرائيليَّين في عداد أولياء الله الصَّالحين والمعصومين، الأمر الَّذِي يعني أنَّ حمل نِيَّة الإبادة الجماعيَّة على أفعالهم يُشَكِّل تناقضًا بالتَّعريف. وما هذا وذاك إلاَّ وَهْمٌ وهراء. لكن وبالعودة إلى الواقع، فإنَّ الأدِلَّة تشير إلى العكس تمامًا ممَّا تدَّعيه هذه الثُّلَّة. فلا تَمُرُّ دقيقة إلاَّ وتمطرنا وسائل الإعلام بوابل كثيف وشلَّال غزير ممَّا لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على بال وخيال بشر من مشاهد حية لمآسٍ قَلَّ نظيرها في تاريخ البشريَّة. إنَّ أفعالاً من مثل التَّهجير القسريّ والحصار المزمن لشعب يعيش واقعيًّا تحت الاحتلال وفي معسكرات اعتقال، ومن مثل الإعدامات الميدانيَّة والقتل والجرح لعشرات الألوف من نسائه وأطفاله ورجاله، والتَّدمير الكُلِّيّ لمستشفياته ومدارسه ودور عبادته ومنازله، والتَّجويع والحرمان التَّام من الماء والغذاء والكهرباء والدَّواء - هي أفعالٌ تُشَكِّلُ، منفردة ومجتمعة، أمثلة نموذجيَّة للإبادة الجماعيَّة المكتملة العناصر والمواصفات. وبالاتِّفاق مع هذا يمكن القول إنَّه ولما كانت طبيعة الأفعال الإسرائيليَّة ضِدَّ الفلسطينيين وغيرهم من الشُّعوب لا تختلف جوهريًّا عن الأفعال النَّازيَّة ضِدَّ اليهود كان من غير الجائز أنْ نطلق عليهما حكمين متضادين أخلاقيًّا. فمن الإجحاف والعبث بمكان أنْ ندين الثَّانية ونقبِّحها وألا ندين الأُولى ونجرِّمها، وبالعكس. فالمسألة الأساسيَّة هنا هي أنَّ أفعالاً كهذه، بحكم طبيعتها، لا يمكن أنْ تكون حسنة وواجبة أخلاقيًّا. فاختلاف هُوِيَّة فاعلها والآمر بها وآليات تنفيذها لا يُغَيِّر شيئًا من طبيعتها، أيْ كونها أفعالاً من نوع معيَّن لا من نوع آخر. فالسرقة سرقة أيًّا يكن السَّارق والمسروق، والقتل قتل أيًّا يكن القاتل والمقتول، وكذلك، على المقلب الآخر، العِشْقُ عِشْقٌ أيًّا يكن العاشق والمعشوق. وطبقًا لهذه الرُّؤية يمكن القول إنَّه إذا كان اليهود هُمْ أحد ضحايا المحرقة النَّازيَّة، فإنَّ الفلسطينيين هُمْ ضحايا هولوكوست مركَّب ومضاعَف ومزدوج: الفاشيّ-الألمانيّ؛ والصَّهيونيّ-الإسرائيليّ. وَمَثَلُ الَّذِي يبرئ إسرائيل من دمِّ الفلسطينيين ومن تُهْمَةِ التَّطهير العُرْقيّ والإبادة الجماعيَّة في حقهم كَمَثَلِ الَّذِي يبرئ النَّازيَّة من المذابح الَّتِي ارتكبتها ضد الإنسانيَّة، لأنَّ الصَّهيونيَّة والنَّازيَّة صنوان ووجهان لعملة لاأخلاقيَّة واحدة. وفي الحقيقة، ما هُمَا إلاَّ صورتان في مرآة واحدة، وصورة في مرآتين. وكل واحدة منهما تتمرأى في الأُخرى. إذ إنَّ لوثة جنون العظَمة والتَّفَوُّق لدى الطَّرفين هي نفسها، وأفعالهما واحدة، وجوهرهما واحد، والادِّعاء بنقاء الأصل واصطفاء العُرْقِ واحد وإنْ اختلف اسْمُ الفاعل واسْمُ الضَّحية ومسرح الجريمة وزمانها. وكما أنَّ التَّطهُّر من نجاسةٍ لا يكون بنجاسةٍ من نوعها، والاغتسال من جنابة لا يصح بجنابة أقذر منها، فكذلك لا شرعيَّة للتبرؤ من الإثم النَّازيّ بمباركة انتقام دمويّ مَرَضيّ صهيونيّ-إسرائيليّ آخر أفظع منه وأشنع، بخاصَّةٍ، أنَّه يثأر لنفسه من شعب لا يَمُتُّ بأيِّ صلة نسب إلى الرَّايخ الثَّالث لا من قريب ولا من بعيد. وبلغت ازدواجيَّة المعايير على يد هابرماس ذروة اللامعقوليَّة عندما أخذ يجاهر ويُلحُّ- متذرِّعًا ب"الرُّوح الدِّيمقراطيَّة لجمهوريَّة ألمانيا الاتِّحاديَّة الموجَّهة نحو الالتزام باحترام الكرامة الإنسانيَّة- على وجوب إيلاء وجود إسرائيل والحياة اليهوديَّة حمايًة خاصَّة في ضوء الجرائم الجماعيَّة إبَّان الحقبة النَّازيَّة"(15) في حين أنَّه لم ينبس ببنت شفة عن حقِّ الفلسطينيين في الوجود وإقامة دولتهم الحُرَّة المستقلة. ولنا هنا أنْ نسأل هابرماس ونتساءل بدورنا أيُّ رُوح ديمقراطيَّة لجمهوريَّة ألمانيا الاتِّحاديَّة هي هذه الَّتِي تمالئ وتناصر كيانًا عنصريًّا لاديمقراطيًّا غاصبًا يضع إرادته فوق إرادة الشَّرعيَّة الدَّوْليَّة ضاربًا بعرض الحائط قراراتها ومواثيقها، ويضطهد الفلسطينيين ويُذِلُّ كرامتهم الإنسانيَّة؟!!! وأيُّ رُوح ديمقراطيَّة لجمهوريَّةٍ هي أعجز وأوهن من أنْ تحيد قِيْد أنملة عن ما ترسمه لها الاستراتيجيات الأمريكيَّة ولوبيات الضَّغط الصَّهيونيَّة على المستويات السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة كافة؟!!! ثُمَّ ماذا يبقى من معاني الدِّيمقراطيَّة لجمهوريَّة ألمانيا الاتِّحاديَّة إذا كانت "ثقافتها السِّياسيَّة تَعِدُّ الحياة اليهوديَّة وحقَّ إسرائيل في الوجود عنصرين مركزيَّين يستحقان حمايًة خاصَّة"(16)، وتستنفد استغراقيًّا حقيقة الرُّوح الدِّيمقراطيَّة والكرامة الإنسانيَّة في هذين العنصرين؟!!! فالكلام على عناصر مركزيَّة تستحق حمايًة خاصَّة في هذا السِّياق يفترض، بالضَّرورة، وجود عناصر ثانويَّة وهامشيَّة هي أقَلَّ أهمِّيًّة واستحقاقًا وجدارة بمزيَّة الحماية من غيرها. ولا شكَّ في أنَّ ثقافًة سياسيَّة كهذه تخالف وتقوِّض، على نحوٍ صارخ، جملة من أُسُسِ النِّظام الدِّيمقراطيّ، أوَّلها مبدأ ضرورة حياد الدَّولة الدِّيمقراطيَّة إزاء مختلف الأعراق والدِّيانات؛ ثانيها مبدأ المساواة في الحقوق؛ ثالثها عدم جواز قوننة الدَّولة الدِّيمقراطيَّة لأيِّ مادةٍ تقود، عمليًّا، إلى ترجيح حقِّ جماعة معيَّنة، أكانت عِرْقيًّة أم دينيًّة أم سياسيًّة، في الوجود والحياة على الحقِّ نفسه لسائر الجماعات. بالطَّبع، إنَّ حقَّ اليهود في الحياة وليس فقط في الحياة، بل في الحياة الحُرَّة الآمنة والكريمة هو حقُّ لا يمارى فيه ما دام هذا الحقُّ لا يتعارض مع إعطاء حقٍّ مماثل لكل من عداهم. بَيْدَ أنَّ مغالاة هابرماس في التَّشديد على وجوب إيلاء وجود إسرائيل والحياة اليهوديَّة عنايًة خاصَّة لا تَنِمُّ عن مَيلٍ معادٍ للرُّوح الدِّيمقراطيَّة فحسب، وإنَّمَا تتناقض أيضًا مع قوله الصَّائب: "إنَّ الحقوق الأساسيَّة في الحُرِّيَّة والسَّلامة الجسديَّة وكذلك في الحماية من التَّشهير العنصريّ هي حقوق غير قابلة للتَّجزئة وتنطبق على الجميع بالتَّساوي"(17). ويعني القول الأخير أنَّ الحقوق الأساسيَّة المذكورة ليست امتيازًا وشأنًا خاصًّا باليهود أكثر منها شأنًا خاصًّا بالبوذيين أو المسلمين أو المسيحيَّين أو الوثنيين أو غيرهم. إنَّها بهذا تصبح شأنًا وحقًّا إنسانيًّا عامًّا، ومن ثُمَّ، لا يُعْقَل أنْ تكون من امتيازات أيِّ دين من الأديان أو أُمَّة من الأُمَمِ أو طبقة من الطبقات. بعبارة أُخرى، لا مهرب لهابرماس من مواجهة مأزق منطقيّ حاد يُلْزِمَهُ باختيار واحد من بديلين متعارضين كلاهما غير مرغوب فيه، حَتَّى من وجهة نظره. البديل الأوَّل هو التَّمسُّك بالحماية (المعاملة، الرِّعاية، العناية) الخاصَّة لإسرائيل واليهود وعندئذ لا يعود ثَمَّةَ معنىً أو قيمةٌ للكلام على حقوق أساسيَّة متساوية لجميع البشر لا امتياز حصريًّا فيها لأُمَّةٍ أو لِمِلَّةٍ على غيرها. والبديل الثَّاني هو التَّمسُّك بمنطق المبادئ الأخلاقيَّة والدِّيمقراطيَّة فيبطل عندئذ مبرِّر المطالبة بامتياز حقِّ الحماية الخاصَّة. إضافة إلى ذلك، ينطوي موقف هابرماس على أغلوطة لا تخفى على عاقل. وتكمن الأغلوطة في هذا الموقف في أنَّه يعطي عامِلَ الانتماء إلى عِرْقٍ ودِينٍ معيَّنين أهمِّيًّة في تحديد كيفيَّة تعاملنا مع البشر إنسانيًّا وأخلاقيًّا، أيْ يمنح أهمِّيًّة لما لا أهمِّيَّة له على الإطلاق بالنِّسبة إلى المسألة الأخيرة. فلا علاقة ضروريَّة بين اختلاف السِّمَاتِ الجسمانيَّة كلون البشرة ولون العيون وشكلها ونوع الشَّعر، والتَّمييز في المعاملة الأخلاقيَّة. زد على ذلك، لا دليل على الرَّبط بين السِّمَاتِ العِرْقيَّة أو الجسمانيَّة والخصال الأخلاقيَّة، ولا هذه الأخيرة مشتقة من الأولى. كما أنَّ اختلاف المعتقدات الدِّينيَّة أو الفلسفيَّة أو العلميَّة، بدوره، لا يُعقل أنْ يُشَكِّلَ أساسًا لأيِّ اختلاف في المعاملة الأخلاقيَّة. وعلى المستوى الشَّخصيّ لا أعرف استدلالاً علميًّا يمكن لِحَدِّهِ الأوسط ومحمولات مقدِّماته أنْ يدعما دعمًا كافيًا الاستنتاج أو الحكم القائل بوجوب منح اليهود وإسرائيل أو غيرهما حمايًة خاصًّة استثنائيَّة مُطْلَقَة. وعليه، أرى أنَّه ليس في جعبة هابرماس الإيديولوجيَّة الرَّثَّة ما "يُسَوِّقُ" به إعطاء وجود إسرائيل والحياة اليهوديَّة مزايا تفضيليَّة سوى اجترار وتكرار مقيت لأُسطورة شعب الله المختار التَّوراتيَّة. وإذا كانت المحرقة الَّتِي تَعَرَّضَ لها اليهود إبَّان الحقبة النَّازيَّة هي المسوِّغ الرَّئيس لوجوب إيلائهم حماية خاصَّة، فأليس من باب أوْلَى أنْ يَنْعَمَّ الفلسطينيون بمثل هذا الامتياز في ضوء المجازر الَّتِي ترتكبها إسرائيل وأعوانها المتصهينين في حقِّهم؟!!! وماذا عن الأقوام والشُّعوب الأُخرى الَّتِي تعرَّضت عبر التَّاريخ للإبادة والمجازر الجماعيَّة؟ ألا تستحق معاملة خاصَّة مماثِلة لتلك الَّتِي لإسرائيل واليهود، يا تُرَى؟!!! لا شَكَّ في أنَّ هذه الأسئلة وغيرها تضع هابرماس وكل من يدور في فلكه أمام خيارين أحلاهما مُرٌّ: إمَّا أنْ ينفوا حقائق تاريخيَّة معروفة للقاصي والدَّاني وهذا منتهى الجهل والتَّجاهل أو أنَّ شعارات الحُرِّيَّة والدِّيمقراطيَّة والكرامة الإنسانيَّة الَّتِي يتبجَّحون بها ليست إلاَّ قناعًا جاذبًا وتَغَنِّيًا كاذبًا تتوارى خلفهما إرادة القُوَّةِ ونوازع العنصريَّة والإرهاب. والحال أنَّ رائد الفكر التَّواصليّ والدِّيمقراطيَّة التَّداوليَّة وأخلاقيَّات الخطاب لم يُحْسِن برسالته التَّضامنيَّة مع إسرائيل سوى انتهاك ما يُنَظِّر له ويدعو إليه. ولا أظنني أُجانب الصَّواب إنْ قلت إنَّ ثَمَّةَ قاسمًا مشتركًا وجوهريًّا يجمع بين بيان هابرماس وتصريح وزير الدِّفاع الإسرائيليّ يوآف غالانت الَّذِي عَدَّ الفلسطينيين حيوانات متوحِّشة في هيئة بشريَّة. صحيح أنَّ هذه العبارة الأخيرة غابت عن بيان هابرماس إلاَّ أنًّ معناها حضر فيه بِقُوَّةٍ من خلال إصراره الوقح على نفي نِيَّة الإبادة الجماعيَّة عن إسرائيل بغْيَة تأكيد تمدُّنها وسويَّتها مقابل همجيَّة الفلسطينيين وتوحُّشهم، ومن خلال اللُّغة الَّتِي يتحدَّث بها عن عملية طوفان الأقصى والنُّعوت الَّتِي يطلقها على منفِّذيها. فهو ينحى باللائمة عليهم ويصفهم بأردأ النُّعوت من مثل "الوحشيَّة الفائقة" extreme atrocity و"مجزرة حماس" Hamas massacre، في حين أنَّه يعفي إسرائيل كُلِّيًّا من المسؤوليَّة مكتفيًا بوصف ممارساتها الإجراميَّة ب"أفعال إسرائيل" Israel's actions أو "ردة فعل إسرائيل" Israel's response من دون أدنى إشارة إلى طبيعة هذه الأفعال ونوعها ومشروعيَّتها. ولا يحتاج واحدنا إلى كبير عناء ليدرك مدى افتقار ازدواجيَّة المعايير إلى المصداقيَّة وتعارضها مع المبادئ والقواعد الأخلاقيَّة الأساسيَّة من مثل القاعدة الذَّهبيَّة للأخلاق في صيغتَيها السَّالبة والموجبة (ما لا تحبه في الآخر لا تفعله أنت نفسك) و(عامِل الآخرين بما تحب أنْ يعاملوك به)، ومبدأ قابلية الكوننة (ينبغي معاملة جميع الحالات المتماثلة في السِّمات الأساسيَّة بالتَّساوي، وأنَّ أيَّ اختلاف في المعاملة ينبغي أنْ يعكس اختلافًا نوعيًّا ملحوظًا بين الحالات الَّتِي تُعَامَل على نحوٍ مختلف). فازدواجيَّة المعايير تُشَكِّل تناقضًا في الإرادة وتهافتًا في الفكر. وهذا التَّناقض يَنِمُّ، كما نبَّهَنا كانط، عن انتهاك فاضح للواجب الأخلاقيّ ولكُلِّيَّة قانونه. بعبارة أُخرى، تقتضي المبدئيَّة والمصداقيَّة اتِّساق الإرادة وإلاَّ فإنَّ المسافة الفاصلة بين ازدواجيَّة المعايير والعدميَّة الأخلاقيَّة قصيرة جِدًّا. وينبغي لمن يدَّعي محاربة الإرهاب والاستبداد والعنصريَّة ألا يكون منطقه ومسلماته وممارساته هي عين ما يستبعده وينفيه. وفي ضوء كل ما سبق عبثًا يحاول المرء العثور على "مبادئ التَّضامن" في هذه الرِّسالة الملئ بركام هائل من التَّضامن اللامبدئيّ غير المُبَرَّر بأيِّ وجه حقٍّ.
وبالانتقال إلى مسألة الاستنجاد بالأوامر والنَّواهي الإلهيَّة لتبرير العنف وحسم الخلافات بين البشر حول ما هو خير وما هو شَرٌّ لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ هذا الاستنجاد إنْ لم يكن هو بالذَّات واحدًا من العوامل المؤججة لها، لن تكون له نتيجة سوى نقلها إلى مستويات أُخرى تجعلها أعسر على الحَلِّ عمليًّا ونظريًّا. ذلك أنَّ إصرار كل جماعة أصوليَّة دينيَّة على أنَّ دينها هو الدِّين الحقُّ وكتابها هو الكتاب الصَّحيح غير ذي عِوَجٍ أو تحريف، وأنَّها شعب الله المختار وطفله المُدَلَّل والفرقة الوحيدة النَّاجية، باعتبار أنَّ لله حزبًا واحدًا لا يتعدَّد وأحزاب كثيرة أُخرى كلها للشَّيطان والطَّاغوت، وأنَّ هناك حقًّا واحدًا لا يتعدَّد والطَّريق إليه واحد أيضًا، وما عداه فهو الضَّلال(18)، سيؤدِّي، لا محالة، إلى إثارة خلافات ومجادلات عقيمة بيندينيَّة وضمندينيَّة وميتادينيَّة يستغلق فيها الفهم وتستعصي إبستيمولوجيًّا على الحسم. فكل فئة منهم تطحن الهواء وتقاتل ظلالها وظلال خصومها، لأنَّها تجاوزت حدود الخبرة الممكنة والتَّاريخ والعقل إلى حيث لا وجود لشيء يمكن لِمزاعمها القطعيَّة أنْ تمسك به وأنْ تستمر معه. وقد أدرك أبو العلاء المعرِّي بحدسه الفلسفيّ النَّفَّاذ هذه الحقيقة وعَبَّرَ عن تداعياتها الفتنويَّة على العلاقة بين أهل الشَّرائع بأُسلوبه الأخَّاذ: في اللاذقيَّة ضجَّةٌ ما بين أحمد والمسيح، هذا بناقوسٍ يدقُّ وذا بمئذنةٍ يصيح، كُلٌّ يُعَظِّم دِينَهُ يا ليتَ شِعري ما الصَّحيح. وحين أشار إلى تشَوُّشِ الأفهام النَّاجم عن التَّضارب الحاصل بين فتاوى أهل الشَّريعة الواحدة بقوله: أجاز الشَّافعيُّ فعالَ شيءٍ وقال أبو حنيفة لا يجوزُ، فَضَلَّ الشِّيبُ والشُّبَّانُ مِنَّا وما اهتدت الفتاةُ ولا العجوزُ. والحال أنَّه من المحال أنْ ينتهوا إلى غير هذا المآل ما دام كل طرف يُمَجِّد دينه ولسان حاله يقول إنَّ إنكار ديني أو العدول عن مذهبي ولو في قِيْد شبر هو كفر، ومباينته ولو في شيء نزر هو ضلال وخُسْر. وما نشاهده على المستوى الضُّمندينيّ هو غلبة الخلاف والشِّقاق بين أخوة الدِّين لا الاتِّفاق. فهؤلاء أيضًا يحقُّ عليهم قوله تعالى في الآية 14 من سورة الحشر: "تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى". وليست قلوب المشاركين في المِلَّة الواحدة متآلفة ولا آراؤهم متطابقة. فأتباع الدِّين الواحد، سواء أكانوا يهودًا أم مسيحيين أم مسلمين، ليسوا على اتِّفاق في كيفية تأويل نصوص دينهم اللاهوتيَّة منها والعمليَّة، ولا هُمْ رُحَمَاء بينهم ولا هُمْ رُحَمَاء على غيرهم. والحقُّ أنَّهم أشِدَّاء على بعضهم كما على غيرهم، ولا أحد من الخلائق في مأمن من شرِّهم. فالنَّفي الضُّمنديني المتبادل لا بدَّ وأنْ يُتَرْجَم، عاجلاً أو آجلاً، إلى نفي بيندينيّ مماثل. وفي ضوء ذلك كله نترك لك أيها القارئ الكريم أنْ تتخَيَّل نوع العلاقة بين أتباع الدِّيانات فيما لو بادر كل منهم إلى اقحام تعاليمه الدِّينيَّة في الفضاء العام وإقامة دولته ونظامه السِّياسيّ-الحقوقيّ بذريعة مفادها أنَّ من لم يَحْكُمْ بِمَا أنزل اللهُ فأولئك هُمُ الكافرون والظَّالمون والفاسقون، وأنَّ ما لا يَتِمُّ التَّكليف الإلهيّ أو الواجب الدِّينيّ إلاَّ به فهو واجب، وشَرَعَ، في الوقت عينه، في إحياء الأحقاد والثَّأرات القديمة وتفعيل "المادة" المتعلَّقة بوجوب قتل الكُفَّار والمشركين والمرتدِّين أينما وجدوا. وهنا تتولَّى السُّيوف والسِّنان حسم ما عجز عنه البرهان واللِّسان، فيسارع كُلُّ طرف إلى تطبيق فتوى "يستتاب وإلاَّ يُقتل" واِتِّهام من يخالفه الرَّأي والمعتقَد بالضَّلال والكفر والفساد والانحلال وغيرها من النُّعوت الَّتِي من شأنها تسفيه الخصم وأبلسته وإقصاؤه من دائرة الَّذِينَ يستحقون العيش والاحترام، وإلى تحويل الخلافات العقيديَّة إلى خطوط تماس مستقيمة لتبادل القصف والرِّمايات إلى أنْ يقضي الله أمرًا كان مفعولاً. وغنيٌّ عن البيان ما لهذا الميل الأصوليّ الأحاديّ والاستعلائيّ المغلق، سواء اتَّخَذَ صورة لاهوتيَّة أم ناسوتيَّة، من نتائج وخيمة عانت منها البشريَّة طويلاً، ماضيًا وحاضرًا، وستعاني منها مستقبلاً ما بقي هذا الميل قائمًا.
أخلص من ذلك كُلِّهِ إلى القول إنَّ التَّبرير الأخلاقيّ للعنف، لا سِيَّمَا، إذا ما اقترن بعناوين ومسوغات دينيَّة، لا يُخَفِّف من وطأته ولا يُلَطِّف شراسته كما يُعتقد عادةً، بَلْ على العكس من ذلك تمامًا. فمن شأن تبرير كهذا أنْ يُضفي على العنف طابعًا وجوديًّا شاملاً لا رجعة عنه ولا مُهَادَنة فيه ابدًا لا البارحة ولا اليوم ولا غدًا، ويخلق مناخًا مشبعًا بالكراهية والعدوانيَّة يغدو فيه الاستنكاف عن العنف مهانًة وذُلاًّ وعارًا وجبنًا وتواطوءًا شيطانيًّا مع الشَّرِّ لا يُغتفر. وهذه المماهاة بين نبذ العنف والخطيئة والخنوع تحيلنا إلى مساءلة الأطروحة الثَّانية لدعاة الجمع والتَّوفيق بين العنف والأخلاق.
بادئ بدء تجدر الإشارة إلى أنَّ مثال اللاعنف قلَّما حَظِيَ بتأييد أو قبول واسع في أوساط السَّاسة والمفكرين والنَّاس العاديين باعتبار أنَّه ليس أكثر من حلم جميل أو وَهْم نبيل، لكنه مستحيل. وغالبًا ما تَمَّ ازدراء مؤيديه، وإدراج الدَّعوة إليه في دائرة الشُّبْهة والاتِّهام باعتبارها تنظيرًا ونظيرًا للعجز والاستسلام والتَّحلُّل من واجب مقارعة الشَّرِّ الاجتماعيّ. وبالفعل، لو صحَّ هذا القصد لَفَقَدَ الخيار اللاعنفيّ قيمته ومعناه. غير أنَّه، وفي حالة الظُّلم أو القهر الاجتماعيّ، ثَمَّة إمكان على وجه الإجمال، لاستجابات عِدَّة منها طبعًا الخضوع والذِّلَّة والانهزام أو العنف المضادُّ ومقاومة الشَّرِّ الاجتماعيّ بالوسائل العنفيَّة ذاتها على قاعدة العين بالعين والسِّن بالسِّن و"المعاملة بالمثل" و"لا يفلُّ الحديد إلاَّ الحديد". بَيْدَ أنَّه لو اقتصرت الخيارات المتاحة واقعيًّا على هذين البديلين فقط لكان العنف المضادُّ، من دون أدنى شَكٍّ، هو الموقف الأقل سوءًا والأهْوَن شرًّا. وإلى هذا المعنى ذهب شيخ الطَّريقة اللاعنفيَّة ونصيرها المبدئيّ المهاتما غاندي بقوله: "لو خُيِّرت بين اثنين لا ثالث لهما: العنف أو الجبن، لاخترت العنف غير متردد، فلا محل للجبن في موقفنا..."(19). لكن هذين الخيارين لا يستنفدان جميع ردود الفعل الممكنة على الظُّلم الاجتماعيّ. إذ ثَمَّة بديل ثالث ممكن إلى جانب البديلين الأولَين ألا وهو النِّضال اللاعنفيّ الَّذِي يتطلَّب، في اعتقادي، قدرًا عظيمًا من الشَّجاعة والقُوَّةِ الرُّوحيَّة والسُّمُوِّ قَلَّ أنْ نجد نظيرًا له في الثَّورات العنفيَّة. ومن الشَّواهد على ذلك يمكن أنْ نذكر تجارب لاعنفيَّة ملهمة لقادة تاريخيين افذاذ أمثال المهاتما غاندي ومارتن لوثركينغ ونيلسون مانديلا وغيرهم ممن أناروا للبشريَّة معالم دروب آمنة ولائقة لحل تناقضاتها واجتراح مخارج لمآزقها من غير عنف أو بأقَلِّ قدر منه. وفي معرض التَّأكيد أنَّ العفو واللاعنف أقرب إلى الشَّهامة وأليَق بالمروءة الإنسانيَّة من الثَّأر يحضرني قول للفيلسوف أبي حامد الغزالي يتساءل فيه كيف يُستقبح العفو والإنعام ويُستحسن طول الانتقام... علمًا أنَّ العادة قاضية والعقول مشيرة إلى أنَّ التَّجاوز والصَّفح أحسن من العقوبة والانتقام، وثناء النَّاس على العافي أكثر من ثنائهم على المنتقم، واستحسانهم العفو أشَدُّ…(20)؟!!! وفي ضوء ما سبق أتساءل بدوري: هل يُعقل، حقًّا، أنْ يكون العنف هو الخيار الأكثر استحسانًا وتفضيلاً على أيِّ خيار آخر؟ وهل يصلح العنف أنْ يكون السِّلاح الأمضى والأنسب لاجتثاث أو تفادي عنف آخر أعظم على ما تزعمه أطروحة أهل العنف الثَّالثة؟
يبدو لي أنَّ العنف بصفته شَرًّا لا يمكن أن يكون خيارًا أخلاقيَّا وموضوعًا للاختيار الأخلاقيّ، بقدر ما أنَّ الشَّرَّ، وظيفيًّا، هو ما يريد الإنسان تَجَنُّبَه، أي ما لا يرغب أو لا يريد اختياره. ومن يقول عكس ذلك فهو كمن يقول، مثلاً، إنَّ اختيار أمر ما هو عين اجتنابه وعدم اختياره أو إنّ فعل شيء هو بمكانة عدم فعله. ولا شكَّ في أنَّ قولاً كهذا يوقع أصحابه في فخِّ اللَّغو الفارغ والمغالطات المنطقيَّة بقدر ما يمعنون في إثبات الاختيار في معرض نفيه وإثبات اجتنابه. إضافة إلى ذلك، فإذا ما فهمنا بالاختيار القرار الطَّوعيّ والواعيّ المسؤول للإنسان، وإنَّ مفردة "الاختيار" مشتقة لُغَويًّا من كلمة "خير" وتَمُتُّ إليها بِصِلَةِ نسب وطيدة، فسرعان ما سيتضح لنا، عندئذٍ، أنَّ الكلام على"اختيار العنف"، بما هو أكثر أشكال الشَّرّ تطرفًا والَّذِي لا يمكنه أنْ يكون أكثر صلاحًا وتفضيلاً على ما عداه، ليس إلاَّ لغطًا لَغْويًّا خارقًا وفذلكًة سوفسطائيَّة غير جائزة. والشَّيء نَفْسه ينطبق، أيضًا، على مقولة "اختيار أهْوَن الشَّرَّين وأخفِّ الضَّررين" الَّتِي كثيرًا ما يُستعان بها كصيغة مُنْقِذَة لإضفاء مسحة أخلاقيَّة على بعض الأفعال العنفيَّة كالقتل دفاعًا عن النَّفْسِ أو الموت في ساحات الجهاد. ذلك أنَّ هذه القاعدة، بدورها، أعجز عن أنْ تمنح العنف تأشيرة دخول إلى مملكة القيم الإنسانيَّة العامَّة، فما بالك بحقِّ اللجوء الأخلاقيّ إليها والإقامة الدَّائمة فيها!!! والأصل في ذلك يعود إلى كون المقولة المذكورة مُبَرَّرة فقط بقدر ما أنَّها لا تتكلَّم على اختيار الشَّرِّ بالمطلق، إنَّمَا على إتيان الشَّرِّ الأقَلِّ سوءًا في ظِلِّ ظروف خانقة وبدائل محدودة جِدًّا أو معدومة. فليس في هذه القاعدة أساس كاف يُسَوِّغ تحويلها (كما يحلو للبعض أنْ يفعل) إلى تعويذة سحريَّة تقلب الشَّرَّين الأكبر والأصغر أو أحدهما إلى خير. وهذه أغلوطة شنيعة يرتكبها القائلون بأنَّ الخير هو أهْوَنُ الشَّرَّين أو إنَّ الأقَلَّ شَرًّا هو "خير" من الأكثر شَرًّا و"أحسن" و"أصلح" و"أفضل" منه. فإذا قلنا، مثلاً، إنَّ المرض أ أشَدُّ خطورة على حياة الإنسان من المرض ب، فإنَّ ذلك لا يعني البتَّة أنَّ ب صار صحَّة وعافيًة بالمقارنة مع أ. ولو أخذنا قوله تعالى في الآية 191 من سورة البقرة "والفِتْنَةُ أشَدُّ مِنَ القَتْلِ"، وكذلك الآية 217 من السُّورة ذاتها "والفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ"، فإنَّه لا يمكن أنْ يعني أنَّ القتل خير من الفتنة وأنَّه صار مرغوبًا ومطلوبًا ومأمورًا به. فالآيتان تدلان على أنَّ الأمرين سيئان، وأنَّ الفتنة فاقت القتل في تلك الصِّفة، أيْ إنَّ الاختلاف بين المشبَّه والمشبَّه به هو اختلاف في درجة القبح والسُّوء لا في القبح ذاته. وأيًا تكن قواعد الصَّرف اللُّغَويّ والتَّحويل المنطقيّ واستراتيجيات التَّفسير والتَّأويل، فالسيئ لا ينقلب بقدرة قادر وسحر ساحر إلى جَيِّد حَتَّى عند مقارنته مع الأكثر سوءًا. فالشَّرُّ شرٌّ، والضَّرر ضرر سواء قَلَّ أو كثر، ظهر أو استتر. وتجدر الإشارة إلى أنَّ مقولة "الخير هو أهْوَن الشَّرَّين" تُلْزِم أصحابها بارتكاب أغلوطة أُخرى من نوعها تقتضي بتعريف الشَّرِّ على أنَّه أهْوَن الخيرين. ومن الواضح، أيضًا، أنَّه لا مهرب ولا مَفَرَّ من ارتكاب أغلوطة الاشتراك equivocation fallacy وتربيع الحدود المنطقيَّة وتبديل المفهوم لكل من يستدل من "الأهْوَن والأخف ضررًا والأقل شَرًّا" على أنَّه خير. فهو بذلك يستعمل، على نحو تعسُّفي، "الأقَلَّ شَرًّا" بمعنى "خير"، وكأنَّ دلالة هذه المفاهيم المختلفة واحدة ومترادفة. وهذا الأمر يشكل مخالفة صارخة لأحد أبرز قوانين التَّفكير المنطقيّ وعنيت به قانون الهُوِيَّة law of identity الَّذِي ينصُّ على عدم جواز تبديل أحد المفاهيم (الأفكار، الموضوعات) في سياق الاستدلال الواحد بغيره. فلا يصح تقديم المفاهيم المتطابقة (المتماثلة، المتماهية) على أنَّها متباينة، ولا يجوز، في المقابل، تقديم المفاهيم المختلفة معانيها على أنَّها متماثلة ومترادفة. إضافة إلى كُلِّ ما سبق، ينبغي القول إنَّه وفي حالة العنف والعنف المضادِّ، فإنَّ الأهْوَنَ أو الأقَلَّ لا يحصل بأيِّ وجه من الوجوه. فلكي نطفئ عنفًا بعنف مضادٍّ، فإنَّ الثَّاني ينبغي أنْ يفوق الأوَّل ويزيده، أيًّا تكن وحدة القياس المعتَمَدة. وبذلك فإنَّ شرَّ العنف لا يتناقص، بَلْ يتضاعف على الأقَلِّ، بمقدار كمِّيَّة الشُّرور والنَّوائب الكامنة في العنف المضادِّ فيكون المجموع العام: "شرَّين بعد شرٍّ واحد"(21)، حسبما عبَّر المهاتما غاندي. وإذا جاز لي التَّعبير عن العلاقة الكمِّيَّة بين العنف والعنف المضادِّ بلغة علم الحساب لقلت جازمًا إنَّ العلاقة بين النِّصَابين ليست علاقة طرح أو قسمة، إنَّمَا هي علاقة جمع وضرب. وبالفعل، فإنَّ الميل إلى استئصال شأفة العنف بمثله أدَّى عبر التَّاريخ إلى مضاعفة أعباء الوجود وزيادة أثقاله مضيفًا إلى المصائب القديمة مصائب أُخرى جديدة. ومن يعتقد أنَّ تجاوز العنف متعذِّر من دون عنف مضادٍّ له في الاتِّجاه يساويه أو يكبره قوَّةً فهو كَمَثَلِ من يعتقد أنَّ بالإمكان إطفاء حريق بواسطة إشعال حريق آخر إلى جانبه أو التَّطهُّر من نجاسةٍ بنجاسة من نوعها أو أوسخ منها، فيزداد بذلك نجاسًة على نجاسة وقبحًا على قبح. ولا مِرَاءَ في أنَّ اعتقادًا فاسدًا كهذا ليس هذيانًا فحسب، إنَّمَا هو أيضًا أسوأ الفتاوى والأباطيل الإيديولوجيَّة الشَّائعة والكامنة وراء موجات سباق التَّسلُّح المتلاحقة الَّتِي تضمن، حتمًا، إقامة سلام دائم وأبديّ بين البشر، لكن على مقبرتهم الجماعيَّة الكبرى فقط.
وعلى وقع تحدِّيات التَّاريخ المعاصر ومنزلقاته الخطرة يمكن القول إنَّ الطَّريق الملكيّ للوصول إلى عالمٍ خالٍ من جنون العنف هو التَّخلِّي عن استراتيجية العنف ذاتها وإطراحها من التَّداول العمليّ ومن فضاءات التَّرويج الإيديولوجيّ والتَّبرير القيميّ. فالعنف المعاصر، بأدواته الفائقة ومفاعيله التَّدميريَّة الشَّاملة لم يعد يترك مجالاً للقول بوجود حالات يُعتبر فيها العنف خيرًا أو موقفًا لائقًا من المنظار الأخلاقيّ. فليس هناك عنف شنيع وعنف بديع، عنف مقدَّس وعنف غير مقدَّس، بَلْ إنَّ كل عنف، بدرجة أو بأُخرى، مدنَّس. فالعنف لا يكون في شيءٍ إلاَّ شانه، ولا يُنْزَع من شيءٍ إلاَّ زانه. بَيْدَ أنَّ مثل هذا الاستنتاج العام ينبغي ألاَّ يُفْهَم منه وكأنَّ الأخلاق انفصلت عن الواقع وانعزلت في بروج عاجية عن عالم العنف بكل تعقيداته وملابساته، وتحوَّلت إلى شاهد زور أو مراقب مصاب بعمى الألوان لا مبالٍ تجاه الفروقات في موجباته و أشكاله وتداعياته، بَلْ المقصود منه فقط هو ألا ينقلب تدخُّلها فيه دفاعًا عنه وإبراءً له. لا خلاف، بالطَّبع، على أنَّه، وفي التَّجربة الواقعيَّة للحياة الأخلاقيَّة، لا يجوز الاقتصار على وجهة النَّظر الَّتِي تضع تعارضًا مطلقًا بين الخير والشَّرِّ طبقًا لقانون الثَّالث المرفوع: "إما...أو..." أو طبقًا للمعادلة الإنجيليَّة: "... نَعَّم نَعَّم أو لا لا وما زاد على ذلك فهو من الشَّرير "(22)، لكن، وفي الوقت عينه، لا يجوز الاستغراق عميقًا في هذه التَّجربة بحيث يصير التَّضادُّ المبدئيّ بين "النَّعَّم" الأخلاقيَّة و "اللا" الأخلاقيَّة منسيًّا بالكامل ومُهْمَلاً بالكُلِّيَّة. فالقول باستحالة التَّأسيس الأخلاقيّ للعنف لا يستبعد التَّحليل المُفَصَّل لمختلف مظاهره وحيثيَّاته في سياقاتها الواقعيَّة الملموسة، إنَّمَا يرسم فقط الأُطر العامَّة لمثل هكذا تحليل ويحدِّد غرضه الأساسيّ. فالتَّجربة المعاشة تضعنا في أحيان كثيرة أمام حالات وأفعال عنفيَّة يمكن أنْ نأسف لها أو أنْ نرأف بصاحبها أو حَتَّى تَصْعُب إدانتها، من دون أنْ يعني ذلك أنَّها جديرة بالمديح والثَّناء. ذلك أنَّه وعند النَّظر في الحالات العنفيَّة من المهم جدًا أنْ لا نفقد البوصلة الأخلاقيَّة درءًا لانحراف التَّقييم وخروجه عن سكَّة الوجهة العامَّة للتَّنافر الأصليّ بين الأخلاق والعنف بحد ذاتهما.
لا شكَّ في أنَّ العنف يمكن تعليله وتفسيره في حالات معيَّنة ملموسة انطلاقًا من مصالح سياسيَّة ومنافع اقتصاديَّة وغايات سوسيولوجيَّة وميول طبيعيَّة أنثربولوجيَّة وغيرها من الدَّوافع الواقعيَّة المتعدِّدة المُوَلِّدة له، ولكن لا يمكن تأسيسه وتبريره بواسطة حجج أخلاقيَّة كما لو أنَّه فعلٌ عقلانيّ ولائقٌ ومسؤولٌ للشَّخصيَّة الإنسانيَّة. فالفرق كبير والهُوَّة شاسعة ما بين التَّفسير وكُلٍّ من التَّبرير والتَّبجيل والتَّقدير. إذ إنَّ التَّباين بين المقاربة الظَّرفيَّة-البراجماتيَّة والمقاربة الأخلاقيَّة للعنف يعكس، بوضوح، العلاقة العامَّة بين الضَّرورة والأخلاق. فمن الممكن للضَّرورة أنْ تتطابق مع الأخلاق أو أنْ تتعارض معها أو أنْ تكون محايدة تمامًا بالنِّسبة إليها. ولو كان الأمر بخلاف ذلك لما كان للأخلاق، عندئذٍ، حُكْمها الخاص واستقلاليتها النِّسبيَّة. صحيح أنَّه ليس بمقدور الأخلاق بعد أنْ تعدم العنف من العالم أو أنْ تفعل الكثير حيال ضرورة العنف الَّتِي تضرب جذورها، على ما يبدو، في بيولوجيا الأفراد وسيكولوجيتهم وسوسيولوجيا عيشهم المشترَك، لكنها قادرة، حتمًا، على إدانة العنف، وأنْ تقول لِكُلِّ من تُخَوّله نَفْسُهُ ممارسته والتَّنظير له بأنْ لا يطمئن لِوَهْمِ الاعتقاد وكأنَّ موقفه مستساغٌ أخلاقيًّا. فالأخلاق تصادر الحقَّ في مثل هذا التَّفكير وتُبَشِّر أصحابه ببئس المصير. ففي صراعنا مع الوحش ينبغي ألاَّ نصير وحوشًا. فلا يغرَّنك التَّحديق طويلاً في هاوية العنف فتنفذ فيك وتسقطك فيها(23).
***
د. علي صغير / كاتب وباحث لبنانيّ
..........................
المراجع والهوامش:
1. علي حرب: التَّأويل والحقيقة (قراءات تأويليَّة في الثَّقافة العربيَّة). بيروت، دار التَّنوير، الطَّبعة الأُولى، 1985. ص ص 182، 185.
2. تروتسكي ل.د: أخلاقهم وأخلاقنا. مقال منشور في كتاب من سلسلة الفكر الأخلاقيّ تصدرها دائرة الأخلاق في معهد الفلسفة التَّابع لأكاديميَّة العلوم الرُّوسيَّة (الكتاب السَّنويّ لعام 1991)، موسكو. دار الجمهوريَّة، 1992، ص 212-244. باللُّغة الرُّوسيَّة. أنظر أيضًا إلى المقالات الآتية الَّتِي نُشرت كمناقشة وردّ على مقالة تروتسكي المذكورة أعلاه: أ- سارتر جان بول: إشكالية الغاية والوسيلة في السِّياسة (دفاتر في الأخلاق). منشورة بالرُّوسيَّة في: الفكر الأخلاقيّ (الكتاب السَّنويّ لعام 1991) ص 251-263؛ ب- ديوي جون: الغايات والوسائل. المصدر السَّابق. ص 245-250؛ ج- لوثر مارتن كينغ: حجي إلى اللاعنف. المصدر السابق. ص 162-181؛ د- غوسينوف ع.ع: الفكر الأخلاقيّ عند تروتسكي. المصدر السَّابق. ص 264-285. أنظر أيضًا للمؤلِّف نَفْسه غوسينوف ع.ع: الأخلاق والعنف. مجلة قضايا الفلسفة، 1990، العدد الخامس. ص 127-136. كذلك مقالته الموسومة ب أخلاق اللاعنف. مجلة قضايا الفلسفة، 1992. العدد الثَّالث. ص 72-82.
3. حنة أرندت: في العنف. ترجمة إبراهيم العريس. دار السَّاقي. بيروت. طبعة أُولى. 1992. ص 5.
4. أبو حامد الغزالي: جواهر القرآن. تحقيق الدكتور الشَّيخ محمد رشيد رضا القباني. دار إحياء العُلوم. بيروت. الطَّبعة الثَّالثة. 1990. ص 11.
5. أبو حامد الغزالي: المنقذ من الضَّلال والموصل إلى ذي العزَّة والجلال. اللَّجنة اللُّبنانيَّة لترجمة الرَّوائع. بيروت. الطَّبعة الثَّانية. 1969. ص 30.
6. أنظر: د. عادل ضاهر: الأُسُس الفلسفيَّة للعلمانيَّة. دار السَّاقي. بيروت. الطَّبعة الثَّانية. 1998. ص 210. (بتصرَّف).
7. أنظر: المرجع السابق. ص 203.
8. أنظر: د. عادل ضاهر: الأخلاق والعقل (نقد الفلسفة الغربيَّة). دار الشُّروق. عمَّان. الطَّبعة الأُولى. 1990. ص 285. ( بتصرَّف).
9. محيي الدِّين ابن العربي: كتاب العبادلة. الجزء الأُوَّل. الموقع الإلكترونيّ للمكتبة الأكبريَّة بإشراف الدكتور محمد علي حاج يوسف.
10. غوسينوف ع.ع: الدِّيماغوجيا الأخلاقيَّة كشكل من أشكال تبرير العنف. مجلة قضايا الفلسفة. 1995. العدد 5. ص 5. (باللُّغة الرُّوسيَّة).
11. نقلاً عن مقال الصِّحافيّ الأستاذ رضوان مرتضى منشور في جريدة الأخبار بتاريخ 11-06-2016.
12. https://www.normativeorder-solidaritat/
13. المصدر نفسه.
14. المصدر نفسه.
15. المصدر نفسه.
16. المصدر نفسه.
17. المصدر نفسه.
18. سَيِّد قطب: معالم في الطَّريق. دار الشُّروق. بيروت/القاهرة. الطَّبعة السَّادسة، 1979. ص 136-137.
19. ستيبانيانتس م.ت: المهاتما غاندي رسول اللاعنف. مجلة عصر العولمة. 2009. العدد الأوَّل. ص 155-162. (باللُّغة الرُّوسيَّة). وأنظر أيضًا لويس فيشر: غاندي الثَّائر القدِّيس. دار المدى للثَّقافة والنَّشر. 2012. ص 111.
20. أبو حامد الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد. تحقيق د. إبراهيم آكاه جوبوقجي و د. حسين آتاي. أنقرة. 1962. ص 187.
21. لويس فيشر: غاندي الثَّائر القدِّيس. ص 73.
22. الكتاب المقدَّس. العهد الجديد. إنجيل متَّى. الفصل الخامس.
23. أنظر فريدريش نيتشه: ما وراء الخير والشَّرِّ (تباشير فلسفة للمستقبل). ترجمة جيزيلا فالور حجَّار. مراجعة موسى وهبه. دار الفارابي/بيروت - ANEP/الجزائر. الطَّبعة الأُولى. 2003. ص 118.(بتصرَّف).