دراسات وبحوث

عبد الباسط هيكل: جذور تديين الرأي السياسي.. الدين والدولة

تشكّلت العلاقة الوثيقة بين الدين ودولة المسلمين السّنة كردّ فعلٍ لدولة المسلمين الشيعة التي خرجت من حيّز التنظير لفكرة الإمامة إلى حيز التطبيق، بظهور دولة الأدارسة في بلاد المغرب سنة (١٧٢هـ-٧٨٨م) بالتّزامن مع حكم الخليفة العباسي هارون الرشيد لدولة الخلافة السنيّة، ثم كانت القفزة الكبرى سنة (٢٩٧هـ -٩٠٩م) بتحولها من دويلة إلى خلافة إسلامية شيعية ذات نفوذ أزال سلطة الخلافة السنية من شمال إفريقيا، ونازعها بلاد الشام والحجاز، فبدأ التنظير السني في مسألة دولة الخلافة الإسلامية من ميادين المعارك مستهدفا إيجاد دولة لا تقل في تأصيلها الديني عن دولة خصومها من الشيعة، فارتبط ازدهار تصنيف المسلمين السنة في باب الخلافة بفترات التحوّل، وسطوة الصراع السني الشيعي، فكتب الماوردي كتابه الأحكام السلطانية في أواخر الخلافة العباسية زمن خلافة القادر بالله والقائم بأمر الله العباسيين في فترة كان الشيعة أتباع الخليفة الفاطمي هم الأكثر غلبة حتَى أنَه قد خطب ودُعي للخليفة الفاطمي في عاصمة العباسيين ببغداد، وكان الماوردي مقربًا من رجال الدولة العباسية حريصا على تأسيس رؤية شرعية سنية تصمد حينها أمام الرؤية الدينية الشيعية.

ولا يختلف عن الماوردي موقف الإمام أبي حامد الغزالي (450 هـ - 505 هـ / 1058م - 1111م)، ففي لحظة تاريخيّة مماثلة من الصراع السني الشيعي لعب الإمام الغزالي دورا كبيرا في إحياء وتقوية المذهب السني متمثّلا في المقاربة بين العقيدة من المنظور الأشعري والمذهب الشافعي لمواجهة سطوة الدولة الشيعيّة، وأصبحت تلك المقاربات المادَة التعليمية السنيّة في المدارس النظاميّة التي أسَسها صديقه الوزير نظام الملك، وازدهرت تلك المدارس وأفكارها بجهود أبي حامد الغزالي في التدريس والإشراف عليها، وبعد اغتيال نظام الملك على يد جماعة الحشَاشين (إحدى جماعات الشيعة) واصل الغزالي مسيرته في عهد المقتدي بالله، والمستظهر بالله.

 وفي مواجهة الخلافة الشيعية المستندة إلى الدين، كان لزامًا أن يقدم الفقيه السني رؤية دينيّة تقوِي من مكانة الإمامة (الخلافة) السنية بما يحدث توازنا في المواجهة، ويعطى العامّة بديلا له نفس الشرعية الدينية التي تنطق بها الإمامة الشيعية، فلن يقوى على منافسة التصور الشيعي الديني إلا تصور سني ديني، يحمل الرعية بدافع من الشرع والدين على مساندة السلطان خليفة المسلمين بمنحه مكانة في المذهب السني لا تقل عن نائب الإمام الغائب في المذهب الشيعي، فيمكننا أن نقول أن الصراع السني الشيعي من أبرز مشكّلات الفكر السنِّي حول الدولة، وهو المحرّك الأبرز قديما وحديثا لتديين الدولة في تجربة المسلمين السنة، فمازالوا إلى يومنا يعيشون حالة رد الفعل للفكر والحراك الشيعي.

ورغم أن أهل الحديث وأهل التوحيد والعدل وجماعات المحكِّمة (السنة والمعتزلة والخوارج) تختلف عن الشيعة في "أنّ طريق ثبوت الإمامة هو الاختيار من الأمة" وليس بنصّ الوحي، ورغم محاولات السنة تقديم تصور سني مستقل للإمامة يختلف عن تصور الشيعة إلا أنهم تأثروا بالخطاب الشيعي، فمحاولة إزاحة أفكار التشيع عن فقه الدولة أوقع الفكر السني في تديين الدولة، فرغم اعترافهم بأن الله لم ينص على إمامة شخص أو أسرة بعينها إلا أنهم جعلوا الإمامة من الدين وحراسة له ونيابة عن صاحب الشريعة، ونزعوا منزعا مثاليا في الإمامة قريب من رؤية الشيعة للإمام الغائب.

ومن مظاهر هذا التأثر أن التصور السني للدولة الإسلامية ميّز بين الإمامة والخلافة، فعلى الرغم من استخدام الخلافة والإمارة العظمى وإمامة المسلمين الكلمات الثلاثة في معنى واحد على المستوى العملي في تاريخ المسلمين قديما، فالخليفة، والإمام، وأمير المؤمنين الألقاب الثلاثة يُدعى بها رئيس دولة الخلافة السنية، "فلم يكن هناك مانع من أن ينقش المأمون على الدراهم التي أصدرها اسم "الإمام" وكان يخاطب في الوقت ذاته "بأمير المؤمنين" ويدعى خليفة"

أمّا على مستوى التناول التنظيري فثمة اختلاف بينهم، فكلمة الإمامة في الفقه السني ليست مجرّد لفظ نقل عن الشيعة بوصفهم أسبق إلى التنظير حول الدولة الإسلامية، بل حمل لفظ الإمامة والخلافة في الفكر السني الازدواجية الموجودة في الفكر الشيعي، فميّز بعض فقهاء السنة بين منصب الخلافة ومنصب الإمام، فإذا كان الشيعة رأوا ولاة الأمور غير المعترف بهم خلفاء، واحتفظوا بلقب الأئمة لقادتهم، فإذا صارت السلطة لهم جمعوا له بين لقب الإمامة والخليفة كما حدث لعبدالله السفاح أول خليفة عباسي، ولعبيد الله المهدي أول خلفاء الدولة الفاطمية، فقد فعل الفقيه السنيُّ شيئا قريبا من هذا حين جعل الخليفة لقبًا لمن يشغل المنصب الرسمي تاريخيّا، والإمام لقبا يُطلق في التنظير الفقهي على الوظيفة الإسلاميّة المثاليّة؛ وليميّز بين واقع تاريخي للخلافة لم يرضوا عنه وصورة الإمامة الإسلامية النقيّة كما ينبغي أن تكون عليها، فالخلافة اسم للتجربة الواقعية، والإمامة اسم للتنظير الفقهي.

"فالخلافة صارت ملتصقة بالمنصب الرسمي. وانتهى بها الأمر إلى أنها أصبحت شبه علم على الخلافة التاريخية الواقعية. ولما كانت هذه الخلافة قد آل أمرها إلى أن انحرفت عن مبادئ الإسلام، بل لم يعد بينها وبين حقيقتها الأولي صلة إلا الاسم. وفي بعض العصور صارت مرادفة لمعاني الجور والطغيان. فإنه كان من الملائم أن يشار إلى الوظيفة الإسلامية الصحيحة على أنها "الإمامة." ويتحدث الفقهاء عن وجوبها، وعن شروط وواجبات الإمام." 

وبالغ فقهاء السنّة في مثاليّة الإمام على نحو قريب من دلالات العصمة الشيعية، فقال ابن خلدون "الإمامة تستدعي الكمال في الأوصاف والأحوال" وقال الأشعري يجب "أن يكون الإمام أفضل أهل زمانه في شروط الإمامة. ولا تنعقد الإمامة لأحد مع وجود من هو أفضل منه فيها. فإن عقدها قوم للمفضول كان المعقود له من الملوك دون الأئمة." فعاد الفقيه مرّة أخرى للّقب التاريخي (ملك، ومملكة) ولم يقل حتى خليفة وخلافة. والنظرة العقلية والواقع يقتضيان أنّه لا يمكن للناس أن تعرف أفضل أهل زمانها؛ لتختاره إماما لها، فيعود بنا افتراض المنظّر الإسلامي بعيد المنال إلى الوجه الثاني في قوله: "وهو أنّنا أمام ملوك لأنّهم ليسوا أفضل أهل زمانهم"، ويكون الإمام في صورته المثاليّة هو الغائب عن عالمنا. هكذا يبدو الخطاب السني شديد التأثر بالخطاب الشيعي في أفكاره حول الفرق بين الخليفة والإمام.

بداية التأسيس الديني لفكرة دولة الخلافة الإسلامية

تحوّل شكل الخلافة الإسلاميّة في العقل المسلم من شكل تاريخيّ إنسانيّ إلى فرض ديني منزّل عندما توجّه فقهاء سُنّة إلى التاريخ؛ ليستمدّوا اجتهادهم من الواقع، "فالبرهان الأوّل على الخلافة الإسلامية وهو عمدة الأدلّة عند أهل السنة، بل ربّما كان الدليل الأوحد، واعتبروا بقية المُثبِتات تابعةً له هو الإجماع، فالإمامة ثابتة بالإجماع: أي بإجماع الصحابة أولا، ثم إجماع الأمة، قبل ظهور الخلاف عند نشأة علم الكلام." فصورة الدولة الإسلامية محددة وأحكامها تفصيلية رسّخها "إجماع الأمة الثابت المستيقن طوال تاريخها"  ولمناقشة ذلك نحتاج أن نُميّز بين نوعين من الإجماع: الأوّل إجماع تام قطعي عام، ويطلق عليه معلوم من الدين بالضرورة، فلا ينكره مسلم مثل وجوب الصلاة وتحريم الزنا، ونظن أنه لا يختلف أحد حول كون الإمامة وأحكام الخلافة وتفاصيل الدولة الإسلامية لا تندرج تحت هذا النوع من الإجماع، فالخلافة موضع تنازع وخلاف منذ ظهورها كما قال الشهرستاني في الملل والنحل: "أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان".

النوع الثاني الإجماع الخاص الأصولي بأن يتّفق جميع المجتهدين على رأي واحد صريح أو ظني في مسألة فقهية، وهذا ما أنكره بعض أئمة الفقه القدامى من أمثال أحمد ابن حنبل وابن القيم وابن حزم والشوكاني، والجويني أحد أئمة المذهب الشافعي المؤسس لأصولية الإجماع، وأنكره كثير من المعاصرين لأمرين: الأوّل أنّ الإجماع لا يستقلّ بإفادة حكم شرعيّ، فلابدّ من اعتماده على دليل من القرآن الكريم أو الحديث النبوي الصحيح الصريح، الثاني استبعاد إمكانية وقوعه في مسألة فقهية، فلا يملك أحد أن يقول: "هذا إجماع الأمة عبر تاريخها".

تلك هي العبارة التي استخدمها القرضاوي في استدلاله على وجوب دولة الخلافة الإسلامية، إذ كيف يتحقق الإجماع في مسائل الخلافة، وقد شهدت خلافا وجدلا منذ بدأ الاجتهاد حولها. فأوَل تبويب مفصّل لأحكام الخلافة تحت اسم أحكام سلطانيّة لم يلق إجماعا من الأمة، بل على العكس من ذلك دار حوله كثير من التشكيك والاتهام كما ستوضح الدراسة.

سعى المنظّرون لدولة خلافة إسلامية إلى تحويلها من شكل تاريخيّ إنسانيّ إلى فرض ديني إلهي انطلاقا من سلطة الإجماع، وإننا إذ نسلّم باجتماع الصحابة على ضرورة اختيار من يخلف الرسول -صلى الله عليه وسلم- في سلطته الزمنية لكن هذا لا يعنى إجماع الصحابة على شكل ونظام للحكم، وليس دليلا على دينية تلك الصورة من الاختيار، ولا هذا الشكل من الدولة، فانحياز الصحابة إلى استمرارية وجود سلطة عليا يخضع لها المسلمون وأحلافهم من القبائل، وتتولى أمر المدينة وما حولها من البوادي والمدن كان بدافع تاريخي وعقلي واجتماعي وليس دينيا فحسب.

فكما لا يمكننا أن نُسقط الدور الديني لدولة الخلافة في الدفاع عن المسلمين وحمايتهم من القبائل المعادية في بلاد العرب ثم من الإمبراطوريات المتاخمة، فأسقطت الإمبراطورية الفارسية، وانتقصت من الإمبراطورية الرومانية؛ وبتراجع نفوذهما استعاد الناس قدرا من حريّاتهم، إلا أننا كذلك لا ينبغي أن نتجاهل السياق الاجتماعي والتاريخي الذي دفع بالمسلمين إلى اختيار استمرار السلطة الزمنية التي عرفت فيما بعد بدولة الخلافة.

فاتفاق الصحابة كان على استمرار صورة اجتماعية ونظام جديد وضع لبنته محمد -صلى الله عليه وسلم- ما زال يتشكل ولمَا يكتمل؛ فلم يكن هناك تفاصيل محدّدة للدولة اسمها نظام الخلافة وضعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- كجزء من الإسلام، وأجمع الصحابة عليه، وليس أدلَّ على ذلك من حجم المستحدثات التي شهدها عهد أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم جميعا. فأقام الصحابة دولة الراشدين بدافع من واقع اجتماعي جديد في نجد والحجاز يدعو للتأسي بممالك أطراف الجزيرة في الالتفاف حول قيادة مركزية، مع التمايز عن تلك الممالك بالقيم والمبادئ التي حملها الوحي، وبعض الوظائف الدينية مثل الإمامة في الصلاة، والتمكين لإقامة الشعائر.

فالصحابة لم يعرفوا مفردات مثل الخلافة الإسلامية، والإمامة والإجماع بمفهومه الأصولي، فهذه مفردات استحدثها المؤرخون والفقهاء، فكان أوَل ظهور لمفهوم الإجماع في القرن الثالث الهجري - التاسع الميلادي، وأول تطبيق للإجماع على مسائل الخلافة في القرن الخامس الهجري - الحادي عشر الميلادي، فالدولة الإسلامية السنية "الخلافة" رؤية لاحقة من بعض الفقهاء ومحض اجتهاد منهم لتوصيف حقبة زمنية منصرمة من الحكم، وليست رؤية منصوصا عليها بالوحي، ولا تصوّرا أجمع الصحابة على وضع أحكامه.

فكان من المسلّمات العقلية ضرورة وجود سلطة تُنظّم علاقات المجتمع الداخلية والخارجية؛ فلا يوجد مجتمع إنسانيّ يقوم على القيم والمثل العليا على نحوٍ فردي يكفل له الاستغناء عن سلطة دولة أو مملكة أو خلافة، فالواقع فيه الإنسان الذي يتحرك بدافع من تحقيق الخير العام، وإيثار المصلحة العامة على الخاصة، والإنسان الذي يتحرك بدافع من غرائزه ومصالحه الخاصة، فينتصر لنفسه وإن كان في ذلك ظلم وإضاعة لحقوق الآخرين؛ لذا الحاجة إلى نظام سياسي معروف بالدولة ضرورة عقلية للفصل بين الناس في التنازع والتخاصم، ولولا السلطة الحاكمة للشعوب لكان التظالم والفوضى، فالضرورة العقلية تقتضي وجود السلطة في مجتمع المسلمين أو غير المسلمين لحماية مصالح الناس، وتحقيق الأمن، ودفع العدوان الخارجي، وتنظيم علاقة الدولة بغيرها من الدول، وليس لها وظيفة دينية أصيلة بحيث يرتبط الدين بها وجودا وعدما! وإنّ صورتها وآليات حكمها تتفاوت وتختلف باختلاف المجتمعات والأزمنة فهي ليست مرتبطة بصيغة معينة، فالخليفة لقب تاريخي لا يختلف دوره عن رئيس كلِ دولة معاصرة على حد تعبير دار الإفتاء المصرية.

فردًّا على سؤال: هل توجد دولة بعد الخلافة العثمانية تُعدّ دولة إسلامية؟ أجابت دار الافتاء المصرية بأن "الغرض من الإمامة هو بعينه ما يقوم به رئيس الدولة حديثًا؛ من نحو سياسة الناس وتدبير شئونهم وتنفيذ الأحكام وتجهيز الجيوش وكسر شوكة المجرمين والأخذ على أيديهم، وإظهار الشعائر، وهو ما قام به أمراء الدويلات قديمًا، وبما قامت به الخلافات المتعددة الخارجة عن الخلافة الأم."

فدافع الصحابة إلى النظر في أمر من يخلف الرسول -صلى الله عليه وسلم- جاء انطلاقا من حرصهم على حماية التغيّر الاجتماعي الذي أحدثه النبي -صلى الله عليه وسلم- في بلاد العرب، فهم يدركون التحوّل الاجتماعي في مدنية الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث تكوّنت وحدة مجتمعيّة جديدة تستكمل تجاوز الوحدة القبليّة تدريجيا، فكانت الضرورة الاجتماعيّة والعقليّة تقتضي أن يقوم أحد المسلمين بمهام الرسول -صلى الله عليه وسلم- المندرجة تحت السلطة الزمنيّة والصفة البشريّة، فلا وحي بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقوم خليفته بدور ديني، لكنّها سلطة زمنية وُصفت بعد ذلك في لغة المؤرّخين بدولة الخلافة.

فالخلافة الراشدة ليست لها دلالة شرعية دينية، بل وصف تاريخي لفترة توّفر في أمرائها عدة خصائص ميّزتهم عن ملوك العرب من الغساسنة والمناذرة، وهي أنهم أقوياء وأمناء يميزون بين ملكيتهم الخاصة المحدودة والملكية العامة، والحرص على تحقيق العدل، وعدم جعل الحكم في عصبتهم بتوريث الحكم في ذويهم، فالخلافة ملك راشد على منهج النبي، حاول فيه الصحابة التزام مبادئ الإسلام في إمارتهم.

ولم يحمل إطلاق الخليفة على أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- دلالة جديدة تتجاوز الدلالة اللغوية إلى إنابة رجل في مهام خاصة حدّدتها عبارة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة "لابد لكم من رجل يلي أمركم ويصلِّى بكم ويقاتِل عدوَّكم" هذه واجبات تلك اللحظة التاريخية، فبالإضافة إلى الإمامة في الصلاة وقيادة الجيوش تأتي ولاية أمر المسلمين، فهم في بدايات التحوّل من القبيلة بزعامتها العِرقية إلى إنشاء كيان جديد أقرب إلى الممالك المعاصرة في مركزيته لكنه يخضع لتعاليم الوحي العامة.

واختيارهم لفظ الخليفة ثم أمير المؤمنين دون لقب "مَلِك"، لأنه مصطلح ارتبط في ثقافة عصرهم بالتسلط والسطوة، وليس أدل على ذلك من رواية سفينة، فملوك العرب من الغساسنة والمناذرة عُرفوا بظلمهم وشدة بأسهم، واستحواذهم على مقدّرات الرّعية؛ لذا لم تخضع العرب في نجد والحجاز لملك، وأول من جمعهم نبي.

وميّز سلمان الفارسي –رضي الله عنه- بين الخلافة والملك - إن صحّت الرواية - في كلمة واحدة هي التعفف عن المال العام أو بلغتنا المعاصرة "النزاهة المالية وعدم الفساد"، وقد عاصر سلمان نمط الملك قبل هجرته إلى المدينة وإسلامه ونمط الخلافة في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فيروى سلمان أن عمر بن الخطاب قال له: أمَلِكٌ أنا أم خليفة؟ فقال له سلمان: إن أنت جَبَيْتَ من أرض المسلمين درهما أو أقل أو أكثر، ثم وضعته في غير حقه، فأنت ملك غير خليفة، فاستعبر عمر (أي بكى)". وعن سفيان بن أبي العوجاء قال: قال عمر بن الخطاب: والله ما أدري أخليفة أنا أم ملِك؟ فإن كنتُ ملكا فهذا أمر عظيم (أي بالغ السوء والخطورة). قال قائل: يا أمير المؤمنين إنَّ بينهما فرقا. قال: ما هو؟ قال: الخليفة لا يأخذ إلا حقا، ولا يضعه إلا في حق، فأنت بحمد الله كذلك، والملك يعسف الناس فيأخذ من هذا ويعطي هذا. فسكت عمر.

وإن وصفت إحدى المرويات الخلافة بالملك، في حديث "زويت لي الأرض، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها" (إلا أن المفسّر اختار خلافة راشدة، وليس ملكا رشيدا، كمحاولة لاستثناء فترة حكم الصحابة من المسار التاريخي، متجاهلا أن المسلمين في ذلك الوقت مثل غيرهم من الأمم والشعوب حين توحدت قبائلهم بدافع قوي من أخوة دينهم بدأوا ينقلون سنن الممالك في تسيير أمور الناس جندا، ومالية، وخراجا، وغيرها.

فوصف الخلافة بالرشد مُوجّه إلى شخص الخليفة بوصفه السلطة في ثقافة ذلك العصر، وأبرز مظاهر الرشد التي ميزتهم عن ممالك عصرهم العمل على تحقيق مبدأ العدالة والتساوي في الحقوق، الابتعاد عن النمط القبلي العائلي في توسع النفوذ والسلطة باستثناء عثمان بن عفان رضي الله عنه، فمع طول حكمه وكبر سنّه استبد بعض ذويه بالنفوذ من أمثال مروان بن الحكم مما قلب الرعية عليه، وكان مقدمة لصراعات عُرفت تاريخيا بالفتنة.

والإشكالية أن الرشد تحوَّل إلى مرادف لكلمة مثالي، ثم أصبح صفة اجتماعية ملاصقة لكل من عاش الأربعين عاما الأولى من تاريخ المسلمين، وهذا يتنافى مع الطبيعة البشرية، فالتجربة الإنسانية تقول بأنه لا يوجد مجتمع مثالي، والواقع التاريخي يؤكد ذلك، فالمجتمع الأول ضمَّ جميع ألوان الطيف مثل غيره من المجتمعات، غير أن تلك الفترة من التاريخ اكتسبت رفعة مكانة في نفوس المسلمين لمنزلة أصحابها وقربهم من النبي صلى الله عليه وسلم، وهنا يتعين التمييز بين أمانة الصحابي في النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحرصه على التأسي به التي أثنت عليها المرويات الحديثية ولا نتحدث عنها، وبين ممارساتهم الحياتية، وأفعالهم الإنسانية القابلة للقصور والأخطاء والنقد والمراجعة بما في ذلك السلطة بوصفها تجربة إنسانية يجتهد فيها فيصيب ويخطئ كما عرفوا هم بأنفسهم.

فلم يكن مجتمع المسلمين الأول ملائكيا بل مجتمعا إنسانيا شهد من الجرائم ما نزل فيه الوحي مصوبا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وإخراج النبي –صلى الله عليه وسلم- العرب من العصبية القبلية إلى الأخوة في الدين تحقّق في زمنه لكنهم ظلوا حديثي عهد بعصبية قبلية جاهلية، كان لها اعتبار في قرارات النبي –صلى الله عليه وسلم- فيقول: "لولا أنَّ قومَك حديثُ عهدٍ بجاهليَّةٍ لهدَمْتُ الكعبةَ وجعَلْتُ لها بابينِ" وظهرت بعد النبي –صلى الله عليه وسلم- فكيف نتصور مثالية في حياة القبائل العربية في ظل حكم الخلفاء الراشدين؟!! وكأن الخلافة الراشدة لم تبدأ مسارها التاريخي بأكبر حركة ارتداد قبلي جماعي عن الإسلام، وامتناع قبلي جماعي عن أداء الزكاة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى أن أبا بكر -رضي الله عنه- عاش مرحلة تأسيس ثانية حتى تدين القبائل العربية بمنطق السلطة الموحدّة، وكأنه لم يُوجد أشرار استوجب شرهم أن يستحدث عمر بن الخطاب عقوبات جديدة كالحبس، وصولا لخلافة علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- في لحظة انقسام تاريخي بين مناصر له ومناصر لمعاوية وخارج على كليهما، فمجتمع الخلافة الراشدة لا يختلف عن غيره من المجتمعات الإنسانية في جمعه بين مختلف أنماط البشر، حتى مدينة النبي –صلى الله عليه وسلم- لم تكن المدينة الفاضلة كما يروق للبعض أن يصوّر.. فيقول القرآن الكريم "وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ" [سورة التوبة، الآية.١٠١]

تحوّلت الخلافة الراشدة من حلقة في مسيرة تاريخ إنساني يعتريه كل ما يعتري المجتمعات الإنسانية إلى حلمٍ يسعون للعودة إليه، ويتمنون أن يقترب تحقق وعد الله بإعادتها؛ ليتغير واقعهم، وهذا يُوضح علة الهروب المستمر لدي المسلم المعاصر من واقعه إلى تلك الفترة التاريخية حيث الصورة المتخيلة لدولة ملائكية بلا خلاف ولا ضعف ولا شائبة ظلم، إنه فردوس الخلافة المفقود..

وتوسعت الثقافة الإسلامية المعاصرة مع ازدياد تدهور مجتمعات المسلمين في بناء تصورات مثالية عن دول الخلافة الإسلامية، فلم تعد دولة الخلافة الراشدة فحسب وإنما امتدت للخلافة الإسلامية السّنية متمثلة في كل مملكة أو سلطنة امتدت عبر التاريخ من أمويين أو عباسيين أو أتراك حتى سقوط دولة العثمانيين١٩٢٤م، فظلت لدولة العثمانيين سلطة دينية في نفوس العامة رغم تدهور أحوالهم فقرا وجهلا وظلما وامتهانا في ظلها؛ وليس أدل على ذلك من واقع مصر المتخلف حضاريا -كولاية من ولايات الدولة العثمانية- وقت وصول الحملة الفرنسية إلى شواطئها. ليكتشف المصريون عمق وسعة الفجوة الحضارية بينهم وبين مستعمر غربي قادم للبحث عن الموارد الطبيعة تحت أقدامهم، وتحويلهم إلى سوق كبير..

***

أ. د. عبد الباسط سلامه هيكل

في المثقف اليوم